ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
. عبارة الآيات واضحة. وباستثناء صفتي الظاهر والباطن فقد ورد مثلها في سور عديدة مكيّة ومدنيّة. وهي هنا مجموعة رائعة قوية بسبيل تعداد صفات الله تعالى وعظمته وما أودعه في كونه من نواميس وبيان شمول ملكه وعلمه وقدرته.
وإحاطته بجميع ما في الكون من مخلوقات وما يقع من هذه المخلوقات من أعمال وحركات ظاهرة وخفية وباطنة. وتقرير كون مردّ كل شيء إليه أولا وآخرا.
وليس هناك روايات خاصة في مناسبتها. والمتبادر أن مما استهدفته لفت نظر الإنسان وإيقاظ ضميره وتوجيهه نحو الله. وأنها مقدمة تمهيدية لما احتوته الآيات التالية من دعوة وأمر وتقرير وحثّ وعتاب. وهذا من أساليب القرآن المألوفة المتكررة.
وصفتا الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ تأتيان في الآيات لأول مرة. ولقد شرحهما الطبري فقال: إن الظاهر بمعنى الظاهر على كل شيء دونه، أو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه. وإن الباطن بمعنى باطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه. وروى البغوي أن عمر رضي الله عنه سأل عنها كعبا فقال: معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن. وروى بطرقه أن النبي ﷺ كان يدعو بدعاء فيه تفسير للصفتين وهو: «اللهم ربّ السموات وربّ الأرض وربّ كل شيء فالق الحبّ والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شرّ كل ذي شرّ أنت آخذ بناصيته. أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر
ولقد علقنا على موضوع خلق السموات والأرض في ستة أيام في مناسبات سابقة بما يغني عن التكرار. وإن كان من شيء يحسن قوله هنا هو أن الآية التي ذكر فيها ذلك مع الآيات الأخرى هي بسبيل التنبيه على عظمة الله وقدرته وإحاطته بكل شيء في كونه وتسبيح كل ما في السموات والأرض له. وكون ذلك يوجب على الإنسان الخضوع له وتقديسه وتسبيحه من باب الأولى لما اختصه الله به من خصائص وكرم من تكرمات.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٧ الى ١٠]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)
. تعليق على الآية آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ... إلخ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة. والمستلهم من روحها وفحواها أنها موجهة إلى المؤمنين في الدرجة الأولى ثم إلى السامعين عامة. وقد تضمنت:
(١) دعوة لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق من المال الذي جعلهم الله
(٢) وسؤالا استنكاريّا على سبيل الحثّ والعتاب عمّا يمنعهم عن الإيمان بالله، ورسوله يدعوهم إلى ذلك. وهو قد أخذ قبل ذلك ميثاقا به إن كانوا حينما أعطوا هذا الميثاق مؤمنين حقّا.
(٣) وتنبيها على أن الله تعالى إنما ينزل على عبده النبي آياته ليخرجهم بها من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وأنه إنما يفعل ذلك لأنه بهم رؤوف رحيم.
(٤) وسؤالا استنكاريّا آخر على سبيل الحثّ والعتاب أيضا عما يمنعهم عن إنفاق أموالهم في سبيل الله في حين أن كل ما في السموات والأرض هو ملك لله تعالى.
(٥) وتقريرا على سبيل الحثّ والبيان بأن هناك فرقا عظيما بين الذين أنفقوا أموالهم وقاتلوا قبل الفتح وبين الذين فعلوا ذلك بعده. وبأن الأولين أعظم درجة وأجرا عند الله مع تقرير كون الآخرين أيضا موعودين من الله كالأولين بالأجر والحسنى على كل حال وهو الذي يعلم علم كل ما يفعله الناس ويقدمونه بين يديهم.
ويتبادر لنا أن جملة: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ هي في مقامها في معنى (وما لكم لا تثقون ولا تتيقنون بما يأمركم الله، وتطيعونه فيه) وليست تنديدا بعدم إيمانكم مبدئيا بالله ولا دعوة لهم إلى ذلك. لأن الخطاب في الجملة والآيات عامة لأناس مؤمنين بالله ورسوله مبدئيا. فيكون العتاب الذي انطوى في الجملة هو بسبب عدم تحقق ما يوجبه الإيمان فيهم من ثقة ويقين وطاعة. وجملة: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تدعم ذلك. كما تدعمه جملة: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ من حيث إنها تعني (أنكم بإيمانكم الأصلي بالله ورسوله قد أعطيتم ميثاقا بالتحقيق بما يوجبه هذا الإيمان). وبهذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا يزول ما قد يورد من إشكال على صيغة الكلام. والله تعالى أعلم.
فقال رسول الله يا أبا بكر إن الله عزّ وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت في فقرك أم ساخط. فقال أبو بكر أأسخط على ربّي. إني عن ربّي راض. إني عن ربي راض» وفحوى الروايات لا يتضمّن مناسبة خاصة لنزول الآية كما هو واضح.
والحديث بعد لم يرد في الصحاح.
ومع عظم احترامنا للصدّيق رضي الله عنه وتضحياته واعتقادنا بأنه أهل لكل ثناء ورضاء ربانيين فالذي نستلهمه من روح الآيات وفحواها أن ما احتوته الآية المذكورة يشمل أكثر من شخص واحد. وأنها تعني الطبقة السابقة إلى الإيمان والبذل من مهاجرين وأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين سجّل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة هذه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [١٠٠]. ونرجح أنها نزلت في مناسبة موقف مرجح من المواقف التي كان يقفها بعض المسلمين المستجدين وخاصة بين مرضى القلوب ويظهرون فيها ترددا في البذل في سبيل الله وتباطؤا في الجهاد وتقصيرا في الإخلاص والطاعة والتفاني الواجب عليهم نحو الله ورسوله مما حكته آيات كثيرة في سور عديدة سابقة مثل آيات سورة البقرة [٢٦٤- ٢٦٧] والنساء [٧١- ٨٧ و ٩٥- ١٠٠ و ١١٤- ١١٥ و ١٤٠- ١٤٧... ] وآيات من هذه السورة تأتي بعد فأوحى الله تعالى فيه إلى نبيّه بهذه الآيات لتحتوي ما احتوته من إنكار وتذكير وتنويه وعتاب وحثّ وتنديد وتنبيه بعد المقدمة السابقة
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس قال: «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر النبي ﷺ فقال: دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم» «١». حيث ينطوي في هذا الحديث صورة ما من الصور التي شاءت حكمة التنزيل المقايسة بها بين الإنفاق والقتال قبل الفتح وبعده وتأييد ما لما قلناه. مع التنبيه على أننا ننزّه خالد بن الوليد رضي الله عنه عن صفة النفاق ومرض القلب.
وكل ما هناك أنه قد أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة وأن الموقف المروي عنه إن صح فإنه نتيجة جدته في الإسلام وحسب «٢». ولقد جاء إلى النبي ﷺ في
«كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبّه خالد فقال رسول الله ﷺ لا تسبّوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» التاج ج ٣ ص ٢٧٢. ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد التمار «أن رسول الله ﷺ قال يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم فقلنا من هم يا رسول الله أقريش؟ قال لا هم أرق أفئدة وألين قلوبا وأشار بيده إلى اليمن فقال هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية فقلنا يا رسول الله هم خير منا قال والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل ذهب ينفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه ثم جمع أصابعه ومدّ خنصره وقال ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى» وروح الأحاديث يلهم أنها في صدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وهناك أحاديث أخرى في فضلهم أيضا أوردناها في سياق سورة الفتح السابقة لهذه السورة. انظر التاج ج ٣ ص ٢٧٠ وما بعدها.
(٢) مما رواه ابن هشام (ج ٣ ص ٣١٩) أن كلا من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد خرجا بعد قليل من صلح الحديبية يريد الوفود على النبي ﷺ والدخول في الإسلام. وقد التقيا في الطريق فسأل عمرو خالدا إلى أين فقال له إلى المدينة فأسلم فإن الرجل نبي وحتى متى.
فقال له وأنا كذلك قد خرجت لهذا. والمأثور أن النبي ﷺ سمّاه سيف الله. انظر (أشهر مشاهير الإسلام ج ١ ص ١٤٩ تأليف رفيق العظم).
ومهما يكن من أمر فإن الآيات احتوت صورا من صور السيرة النبوية في العهد المدني ولو لم تكن بارزة الخطوط. وإن أسلوبها ومضمونها وروحها معا تلهم أنها استهدفت تقرير تقصير المخاطبين وترددهم في الإخلاص التام في الإيمان والطاعة والاستجابة والإنفاق. وقصد التنديد بهم. والتنبيه على أنهم لا عذر لهم في ذلك ولا سيما أن رسول الله ﷺ بين ظهرانيهم يتلو عليهم آيات الله ويبلغهم وحيه. وقد احتوت أسلوبا من أساليب معالجة الموقف وتهذيب أخلاق المسلمين وتنقيتها وتطهيرها ودعوة قوية إلى الإنفاق والجهاد وتصديق رسول الله والفناء فيه. كما احتوت في الوقت نفسه تنويها بالرعيل الأول السابقين وما كان منهم من تفان وإخلاص وتضحيات وبذل في أصعب الظروف وأخطر المواقف هو بمثابة تسجيل لذلك وأسباب لما قرره الله تعالى من رضائه عنهم في الآية [١٠٠] من سورة التوبة التي سبقت الإشارة إليها. ولقد احتوت الآيات التي أوردنا أرقامها قبل قليل وغيرها مثل آيات سورة البقرة [٢٠٤- ٢٠٦] وآل عمران [١٣٨- ١٦٨] والنور [٤٧- ٥٤] والمجادلة [٨- ٩] والصف [٢- ٣] صورا أوضح يمكن أن تتضح بها تلك الصور. وجميعها قد مرّ تفسيرها وشرحها. وفي سورة التوبة آيات أخرى فيها مثل هذه الصور بل آيات فيها تصنيف رائع لواقع الجماعات الإسلامية في أواخر حياة النبي ﷺ على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين «٢» عن التابعين من أهل التأويل في جملة: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حيث قال بعضهم: إنها تعني العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم والذي ذكره في آية سورة الأعراف هذه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا... [١٧٢]. وحيث قال بعضهم إنها تعني ما أودع الله فيهم من عقول
(٢) انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي.
ويتبادر لنا أن الأوجه أن تكون كما ذكرنا قبل في صدد تذكيرهم بمبايعة النبي ﷺ على الإسلام حيث يكونون بذلك قد أعطوا الله عزّ وجل ميثاقا على الإيمان والإخلاص والتضحية والبذل والجهاد والطاعة في المعروف. والله أعلم.
ومع أن هناك من قال إن الفتح المذكور في الآية [١٠] هو فتح الحديبية- وقد سماه الله فتحا في سورة الفتح- فإن معظم أهل التأويل والمفسرين متفقون على أنه فتح مكة «٢». وحديث الإمام أحمد ثم حديث أبي سعيد اللذان نقلناهما عن ابن كثير مما يؤيد ذلك لأن خالد بن الوليد كان في يوم الحديبية مشركا محاربا للنبي والمسلمين. وهذا فضلا عن أن هناك وقائع عديدة بعد الحديبية قاتل فيها النبي ﷺ والمسلمون وبذلوا جهودا ونفقات عظيمة في سبيلها كما أن الزحف على مكة اقتضى حشدا كبيرا وجهدا بالغا ونفقات جسيمة «٣».
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى كما هو المتبادر يثير في قلوب المسلمين في كل وقت الإخلاص واليقين. ويحفزهم إلى التضحية. بالمال والنفس والتسابق في ذلك. وبخاصة في الأزمات والشدائد التي تكون مثل هذه التضحية فيها أشدّ لزاما. ولقد شاءت حكمة التنزيل مع ذلك أن تنوه بالذين يفعلون ذلك في غير الأزمات والشدائد أيضا حيث ينطوي في هذا تلقين بليغ بوجوب البذل والتضحية في كل وقت ومال واستحقاق من يفعل ذلك الحسنى من الله عزّ وجل.
وجملة: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ رائعة المدى في هتافها بأصحاب الأموال بأنهم ليسوا إلا وكلاء لله تعالى وخلفاءه فيها. وبأن عليهم أن
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٥٢ وما بعدها.
استطراد إلى خبر فتح مكة وما جرى في سياقه من أحداث وما كان له من أثر
والمناسبة سانحة للاستطراد إلى خبر فتح مكة فنقول إن هذا الفتح الذي تمّ بعد سنين من صلح الحديبية على جلالة شأنه وخطورته لم يرد فيه في القرآن إلا الإشارة الخاطفة التي تقرر أنه كان واقعا في الآية [١٠] من هذه السورة ومثلها وفي مداها في سورة النصر. ثم إشارة تدل على أن مكة قد دخلت في حوزة النبي ﷺ والمسلمين وسلطانهم في آية سورة التوبة هذه: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... [٣].
وهذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا... [٢٨]. وكل ما يرد للبال في هذا الصدد أن حكمة التنزيل لم تر في هذا الفتح من مواضع العبرة والعظة والتعليم والتسكين والتنديد والتنويه ما يستلزم قرآنا وهي المواضع التي استهدفتها الفصول التي أشير فيها إلى وقائع الجهاد والفتح على ما شرحناه في سياق وقائع بدر وأحد والأحزاب والحديبية وبني قريظة وبني النضير في سور الأنفال وآل عمران والأحزاب والفتح والحشر.
وملخص ما ذكرته الروايات عن هذا الفتح «١» أنه قد تمّ في الثلث الأخير من شهر رمضان من السنة الهجرية الثامنة. وأن السبب المباشر له نقض قبيلة بني بكر
ولما علم المكيّون بمسيره استنفروا حلفاءهم من هوازن وثقيف وبني بكر والأحابيش. ووصل زحف النبي ﷺ مكّة قبل أن يصل القسم الأقوى من الحلفاء أي هوازن وثقيف. فرأى أهل مكة أن لا قبل لهم بما جاءهم واستسلموا للنبي ﷺ وحكمه ولم يقع إلّا اشتباك جزئي في ناحية من أنحاء مكة مع فريق من القوة الزاحفة وأسفر عن بعض القتلى. ولما علم النبي ﷺ بذلك أرسل أمرا بالكفّ فكان. ولقد خرج أبو سفيان قبيل الإسلام ليتحسس الأخبار فلقي عمّ النبي ﷺ العباس وكان قد أسلم وظل في مكة يكتم إسلامه بموافقة النبي ﷺ فسأله: ما وراءك؟ فقال له: هذا رسول الله في عشرة آلاف فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك. ثم قال له: أنت في جواري وأردفه وراءه وذهب به إلى النبي ﷺ فأسلم على يديه.
وكرّمه النبي ﷺ فأمر مناديا ينادي «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن» كما أمر من ينادي «من دخل الحرم فهو آمن ومن أغلق بابه عليه فهو آمن». ولقد رأى أبو سفيان ما لا قبل له به وما لم يخطر بباله حتى لقد قال للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فأجابه: ويحك هي نبوة الله ونصره. وكان سعد بن عبادة أحد زعماء الخزرج من قواد بعض الأجنحة وحملة الرايات فلما دخل مكة أخذ يهتف (اليوم يوم الملحمة. اليوم تستحلّ الحرمة) فأخبر عمر بن الخطاب النبي بهتافه
[الحجرات:
١٣] يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم. فأجابوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وأخذ أهل مكة يقبلون بعد ذلك على مبايعة النبي ويعلنون إسلامهم. وأرسل النبي ﷺ خالد بن الوليد لهدم العزّى وعمرو بن العاص لهدم سواع وسعيد بن زيد لهدم مناة في أطراف مكة. وعدا خزاعي على مشرك من هذيل في أثناء ذلك فقتله فقام النبي ﷺ خطيبا فقال: «أيها الناس. إنّ الله حبس عن مكة الفيل. وسلّط عليها رسوله والمؤمنين. ألا وإنها لم تحلّ لأحد من قبلي ولا تحلّ لأحد من بعدي.
وإنما حلّت لي ساعة من نهار ثم رجعت كحرمتها بالأمس فليبلّغ الشاهد منكم الغائب. ولا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا. ثم قال: يا معشر خزاعة. ارفعوا أيديكم عن القتل. لقد قتلتم قتيلا.
ولسوف أؤدي ديته. فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين إن شاءوا فدم قاتله وإن شاءوا فعقله».
ولقد كان تصرّف النبي ﷺ ومواقفه في أثناء الفتح رائعة عظيمة استهدف بها تأنيس الناس بالإسلام وتوطيد كلمة الله وحرماته مع توطيد الأخوة والمساواة الإسلامية والإنسانية معا.
ولقد انهدم بفتح مكة السدّ الذي كان بين النبي ﷺ والإسلام وبين سائر العرب فتدفق سيل وفودهم بعده على النبي ﷺ من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب. ودخل معظم اليمن في دين الله وسلطانه بالإضافة إلى معظم شمال الجزيرة وشرقها وسار النبي ﷺ على رأس ثلاثين ألفا نحو مشارف الشام فيما سمي في تاريخ السيرة بغزوة تبوك، فوطّد هيبة السلطان الإسلامي في هذه المشارف وأخذ الإسلام ينتشر بين قبائلها وكانت هذه الغزوة من خطوات حركة الفتح الكبرى التي تمّت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد أخذ الأنصار يتساءولون عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم- وقد نصره الله على قريش ويسّر له فتح مكة أم القرى- يعود ثانية إلى المدينة أم يبقى في مكة ويتخذها مقرا له فبلغ ذلك النبي ﷺ فجمع زعماءهم وقال لهم «معاذ الله. المحيا محياكم.
والممات مماتكم» حيث سجّل بهذا الموقف تقديره العظيم لما كان من نصرهم له وإيوائهم لأصحابه المهاجرين ولما كان للهجرة إلى المدينة من بركات عظمى كان هذا الفتح من بعضها.
وقد عيّن النبي ﷺ فتى من فتيان مكة اسمه عتّاب بن أسيد واليا. وكان في اختياره دون المسنين من رجال مكة الحكمة والسداد. وكان من بني أمية فأراد مع ذلك أن يتألف قلوبهم. ومن طريف ما روي أن النبي ﷺ عيّن لهذا الوالي درهما كل يوم لنفقته فقام خطيبا وقال: «يا أيّها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم.
ومما روته الروايات أن النبي ﷺ أمر بقتل أشخاص ولو كانوا معلقين بستار الكعبة لما كان من شدة كفرهم وأذاهم. منهم عبد الله بن خطل الذي عدا على مولى له فقتله بدون حقّ ثم ارتدّ والتحق بالمشركين. والحويرث بن نقيذ الذي كان اعتدى على بنتي رسول الله حينما هاجرتا من مكة للالتحاق بأبيهما فتحسّس راحلتيهما وأسقطهما إلى الأرض ومقيس بن صبابة الذي قتل أنصاريا وارتدّ ولحق بالمشركين وعبد الله بن سعد أخا عثمان بن عفّان في الرضاعة الذي كان كاتبا لرسول الله فافترى على الله ورسوله وارتدّ ولحق بالمشركين وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل اللذان كانا شديدي الخصومة للنبي ﷺ في مكة. وقد نفذ أمر رسول الله بالثلاثة الأولين. وشفع عثمان بن عفان بأخيه لدى رسول الله وقال إنه ندم وعاد إلى الإسلام فقبل شفاعته «١». وفرّ صفوان وعكرمة من مكة فلم يظفر بهما واستشفع فيهما بعض المسلمين على أن يأتيا ويسلما فقبل النبي الشفاعة فجاءا وأسلما.
وروت الروايات فيما روت أن رجلين من بني مخزوم استجارا بأم هانىء عمة رسول الله ﷺ فأراد علي أن يقتلهما فأغلقت الباب ثم ذهبت إلى رسول الله فأخبرته. فقال قد أجرنا من أجرت وأمّنا من أمّنت. فجاء الرجلان وأسلما.
وفي الكتب الخمسة أحاديث ورد فيها شيء من ما روته الروايات من الأحداث والصور. في بعضها مغايرة لما جاء في الروايات وفي بعضها صور أخرى. من ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس قال: «إنّ النبي ﷺ خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف على رأس ثمان سنين ونصف من
فلما سار قال للعباس احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل تمرّ كتيبة بعد كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال يا عباس من هذه قال هذه غفار قال مالي ولغفار ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك ثم مرت سعد بن هزيم فقال مثل ذلك ومرّت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال من هذه يا عباس قال هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة. معه الراية. فقال سعد يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة التي تستحلّ الكعبة فقال أبو سفيان يا عباس هذا يوم الذمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله وأصحابه وراية النبي مع الزبير بن العوام فلما مرّ رسول الله بأبي سفيان قال ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة قال ما قال قال كذا وكذا فقال كذب سعد. ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة. وأمر رسول الله أن تركز رايته بالحجون. وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء. ودخل النبي من كدا فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان حبيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهري» «٣» وحديث رواه البخاري عن أسامة أنه قال يوم الفتح «يا رسول الله أين تنزل غدا قال النبي ﷺ وهل ترك لنا عقيل من منزل ثم قال لا يرث المؤمن الكافر ولا يرث
(٢) لا يذكر الحديث ما كان من أمر ومصير حكيم وبديل. ولا تذكر الروايات أنهما قتلا. فإما أن يكونا أسلما مع أبي سفيان أو أسرا ثم أسلما بعد.
(٣) التاج ج ٤ ص ٣٨٣- ٣٨٥.
وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: «كنا مع رسول الله يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي فقال يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فدعوتهم فجاؤوا يهرولون فقال يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش قالوا نعم. قال انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال موعدكم الصفا. فما أشرف لهم أحد يومئذ إلا أناموه. وصعد رسول الله الصفا فجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش. لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن ألقى السلاح فهو آمن. ومن أغلق بابه فهو آمن. فقالت الأنصار أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ونزل الوحي على رسول الله. قال قلتم أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ألا فما اسمي إذا. أنا محمد عبد الله ورسوله. هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم.
قالوا والله ما قلنا ذلك إلا ضنّا بالله ورسوله قال فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم» «٢». وحديث رواه الشيخان عن عبد الله قال: «دخل النبي ﷺ مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب. فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحقّ وزهق الباطل. جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد» «٣». وحديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: «إنّ النبي ﷺ لما قدم مكة أبي أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت وفيها صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله. لقد علموا ما استقسما بها قط. ثم دخل البيت فكبّر في نواحيه وخرج ولم يصلّ فيه» «٤». وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر: «أن
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١١]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
. عبارة الآية واضحة. وليس هناك رواية خاصة بنزولها. ونرجح أنها نزلت مع الآيات السابقة لأن صلتها بها وثيقة. فإن لم تكن نزلت منها فيكون والله أعلم نزلت عقبها والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة. وبسبيل توكيد ما احتوته هذه الآيات من حثّ على البذل والهتاف بأصحاب الأموال بأن أموالهم وإن كانت هي لله وهم عليها خلفاء فإن الله تعالى ليعدّ بذلها بمثابة قرض يقرضونه له يضاعف لهم عليه الأجر الكريم.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
. (١) انظرونا: بمعنى انتظرونا.
(٢) نقتبس: نأخذ قبسا من نوركم نشعل به مشاعلنا.
في الآيات: حكاية لما سوف يكون عليه أمر المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة حيث يسعى النور بين يدي الأوّلين وعن أيمانهم فتضاء بذلك طريقهم ضوءا قويا ويهتف لهم بالبشرى بالخلود بالجنّات وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم. وحيث ينادي المنافقون المؤمنين ملتمسين انتظارهم لاقتباس نور من نورهم ليسيروا فيه فيقال لهم ارجعوا وابحثوا عن نور من مكان آخر ثم يضرب بين الفريقين بسور في إحدى ناحيته الرحمة والنعيم للمؤمنين وفي إحداهما العذاب الشديد للمنافقين. وحيث ينادي المنافقون المؤمنين مرة أخرى قائلين لهم ألم نكن معكم ومنكم في الدنيا؟ فيقولون لهم نعم ولكن قلوبكم كانت فاسدة وكنتم مرتكسين في الريبة والشك تتربصون سير الأمور. وقد غرّتكم الأماني التي كنتم تتمنوها وغركم الشيطان والغرور بالله عزّ وجل فظننتم أنكم لن تحشروا ولن يحاسبكم الله. فكان مصيركم ما ترونه الآن من حكم الله وقضائه. وحيث يقال لهم
ولقد قال بعض أهل التأويل من الصدر الأول على ما ذكره الطبري وغيره إن كلمة وَبِأَيْمانِهِمْ في الآية الأولى عنت كتب الأعمال التي تعطى للمؤمنين بأيديهم اليمنى على ما ذكر في آيات أخرى كما قال بعضهم إنها مع كلمة بَيْنَ أَيْدِيهِمْ عنت أن النور يكون مضيئا ساطعا للمؤمنين من جميع جوانبهم. وقد يكون هذا القول هو الأوجه الأكثر اتساقا مع فحوى الآية. وهو ما أخذنا به في شرح الآيات السابقة.
ولقد ذكر الطبري والبغوي عزوا إلى ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار أن السور المذكور في الآية الثانية هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب والظاهر هو الموقع المعروف بوادي جهنم كما يسميه اليهود. وهذا قول غريب بعيد عن فحوى الآيات التي تحكي ما سوف يكون الأمر عليه يوم القيامة.
وقد توقف الطبري فيه وقال إن أولى الأقوال بالصواب أنه سور سوف يقوم حاجزا بين أهل الجنّة وأهل النار يوم القيامة. وهو الوجيه والصواب. والله أعلم.
تعليق على الآية يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد. وكلمة يَوْمَ التي بدأت بها متصلة بالجملة السابقة لها مباشرة كأنما تقول إن هذا اليوم هو الذي يضاعف الله فيه للذين يقرضونه قرضا حسنا الأجر الكريم.
وأسلوب الآيات أسلوب تنويه وتطمين وبشرى للمخلصين المؤمنين وتنديد
والردّ قوي لاذع متناسب مع ما تستحقه طبقة المنافقين على مواقفها الخبيثة التي فيها كيد وتشكيك وإزعاج ودس وتقصير وتثبيط وتربص وفيه تلقين مستمر المدى. فمثل هذه الطبقة لا ينعدم في المجتمعات. فيجب أن تقابل من المخلصين بالنفرة والإنكار والاشمئزاز والتنديد والتخلي والتكذيب والفضيحة. فضلا عن استحقاقها من الله تعالى الخزي والعذاب في الآخرة.
وذكر المنافقات مع المنافقين قد تكرر في آيات أخرى في سور مدنيّة سابقة.
ونبهنا على ما في اختصاصهن بالذكر من دلالة على نشاط المرأة العربية ومساهمتها في أعمال النفاق الخبيثة. وذكرهن في هذه السورة التي نزلت بعد الفتح المكي يدل على أن المرأة ظلت تقوم بنشاطها إلى جانب الرجل في تلك الأعمال إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذرّ عن النبي ﷺ قال: «أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم فقال له رجل يا نبيّ الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين أمة نوح إلى أمتك فقال أعرفهم محجلون من أثر الوضوء. ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم» والحديث لم يرد في الصحاح. وإذا صحّ فإنه ينطوي فيه بالإضافة إلى الخبر الغيبي عن مشاهد الآخرة بشرى نبوية تطمينية من مقاصدها التنويه بما كان من نعمة الله على المسلمين بالهدى والحث على صالح
ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة في سياق هذه الآيات حديثا عن النبي ﷺ جاء فيه: «إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك وإن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلّا موضع قدميه» وروي أن عبد الله بن مسعود قال: «يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد أخرى» وهذان الحديثان لم يردا في الصحاح. فإن صحا فإنه يبدو من خلالهما إشارة إلى ما هو طبيعي من تفاوت درجات المؤمنين ونورهم وقد انطويا على حثّ على صالح الأعمال وقوة الإخلاص ليكون النور ساطعا وهاجا.
ولقد جاء في الآية [٨] من سورة التحريم التي سبق تفسيرها جملة مشابهة لبعض ما جاء في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها مع فرق في الأسلوب ذي مغزى ففي آية التحريم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) وليس في الآية التي نحن في صددها هذا الدعاء، وإنما بشرى بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهار...
وقد يكون في هذا الاختلاف ما عنته الأحاديث من اختلاف الدرجات.
والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاء كل منهما بالأسلوب الذي جاءت به حسب المناسبة أو الظرف الذي نزلت فيه وسياق كل منهما قد يوحي أن الظرف أو المناسبة مختلفان. والله تعالى أعلم.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٦]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦)
تعليق على الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ... إلخ. وما فيها من تلقين وعظة
لم يرو الطبري روايات خاصة في سبب نزول هذه الآية. ولكن البغوي روى ثلاث روايات «١». واحدة عن الكلبي تذكر أن الآية الأولى نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي أن يحدثهم عمّا في التوراة من عجائب فأنزل الله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: ٣] فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: ٢٣] فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: ١٦]. وثانية معزوة إلى ابن مسعود تذكر أنه قال ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين «٢». وثالثة معزوة إلى ابن عباس تذكر أنه قال إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
والروايات الثلاث غريبة. فالأولى تذكر أن الآية في حق المنافقين في المدينة ثم تذكر نزول آيتين في مناسبة نزولها ونزولهما قبلها في المدينة أيضا. الآيتان من
(٢) هذا الحديث من مرويات مسلم في فصل التفسير انظر التاج ج ٤ ص ٢٢٧.
كما وصفتهم آيات مكيّة عديدة مثل آيات سورة الذاريات [١٧- ١٩] وسورة المعارج [٢٢- ٣٥] وسورة الزمر [٢٣] وسورة الفرقان [٦٣- ٦٤] وسورة المؤمنون [١- ١٠] وسورة الرعد [٢٠- ٢٤]. والرواية الثالثة تقتضي أن تكون نزلت في السنة الأولى بعد الهجرة. وباستثناء المنافقين فقد كان المؤمنون مخلصين كل الإخلاص ومستغرقين كل الاستغراق. ولم يكن مضى على المنافقين مدة تتحمل مخاطبتهم بالأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى.
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومعقبة عليها.
فالآيات السابقة مباشرة انطوت على مقايسة بين حالة المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة، وتنديد ضمني بالمنافقين المرتابين المتربصين المغترين بالأماني وإنذار لهم. والآيات التي قبل هذه الآيات انطوت على عتاب لبعض المسلمين على عدم قوة إخلاصهم ويقينهم وعدم إنفاقهم في سبيل الله. وتساؤل عمن يقرض الله فيضاعف له الأجر فجاءت هذه الآيات تهتف بالفريق المقصر المرتاب المتباخل عما إذا لم يحن وقت إخلاصه وخشوع قلبه لذكر الله وما أنزل من الحق حتى لا يكون كأهل الكتاب الذين قست قلوبهم بمرور الزمن مع توكيد التنويه بالفريق المخلص المتفاني.
وترتيب السورة وذكرها الفتح يعنيان أنها نزلت في السنة الهجرية الثامنة أو التاسعة وأن معظم القرآن كان قد نزل. وهذا وقت يتحمل ذلك الهتاف بالنسبة
وهو تحذير مستحكم لأن هذا الواقع كان تحت نظر المسلمين ومشاهداتهم ومسموعاتهم وكان موضع انتقادهم بل موضع انتقاد العرب قبل الإسلام على ما انطوى فى بعض الآيات منها آية فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [٤٢]. وآية الأنعام أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [١٥٧].
ومع ما لمحناه من خصوصية الظرف الذي نزلت فيه الآية وصلتها بأحوال بعض فئات المسلمين في العهد النبوي المدني فإن الهتاف الذي فيها يظل واردا داويا مستمر المدى موجها إلى جميع المسلمين في كل ظرف ومكان كلّما انحرفوا أو انحرفت منهم فئة عن كتاب الله وسنّة رسوله. مذكرا إياهم بما فيهما من المثال الذي يشاهدونه من أهل الكتاب الذين ظلوا منحرفين عن رسالات رسلهم وكتب الله المنزلة عليهم. مهيبا بهم ألا يكونوا مثلهم لئلا تفسد قلوبهم وأن يخشعوا لذكر الله وما أنزل الله على رسوله من الحق وما صدر عن رسول الله من الحكمة ليكون في ذلك هدى لهم إلى سبيل الخير والسعادة والنجاح في الدنيا والآخرة.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٧]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧). عبارة الآية واضحة. وقد وجّه الخطاب فيها إلى مخاطبين قريبين لتلفت نظرهم إلى قدرة الله تعالى على إحياء الأرض حتى بعد موتها. وتنبههم إلى أنه تعالى إنما يضرب لهم الأمثال في آيات لعلّهم يدركون مغزاها ومرماها وينتفعون من عبرها ومواعظها.
ولا يروي المفسرون في نزول الآية رواية خاصة. والراجح أن الخطاب فيها موجّه إلى المخاطبين في الآيات التي قبلها وهم المؤمنون وأنها متصلة بهذه الآيات.
ولقد قال الزمخشري في تأويلها: قيل هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وإنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض. وروى الخازن عن ابن عباس في تأويلها قوله إن الله يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها لينة محببة ويحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة كما هو شأن المطر بالنسبة للأرض. وشيء من هذا قاله مفسرون آخرون. والمتبادر على ضوء هذا التأويل الوجيه أن في الآية معنى تعقيبيا على الآية السابقة لها مباشرة يهدف إلى فتح الأمل في الذين أوشكوا أن تقسو قلوبهم كما قست قلوب أهل الكفار من قبلهم برحمة الله ليتلاقوا أمرهم بالارعواء عن غفلتهم والاتعاظ بما أنزل الله لهم من الآيات البينات المبينات.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٨ الى ١٩]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
. (١) المصدقين والمصدقات: المتصدقين والمتصدقات.
(٢) الصديقون: هناك من قال إن الكلمة تعني لغويا كثيري الصدق والتصديق. وأنها عنت السابقين الأولين لكثرة وشدة تصديقهم لرسول الله. وقد
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ تعني أن المخلصين من هؤلاء هم الصديقون.
(٣) الشهداء: هناك من قال إن الكلمة عنت الذين قتلوا في سبيل الله. وهناك من قال إنها عنت الأنبياء والملائكة الذين يشهدون على الناس يوم القيامة. وهناك من قرأ: الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ كجملة واحدة وقال إنها تفيد أن كل مؤمن مخلص صديق شهيد. وهناك من قال إن كلّا منهما تعني فئة غير الأخرى وقد رجح الطبري هذا، وترجيحه وجيه. ونرجح إلى هذا أنها عنت الذين قتلوا في سبيل الله.
تعليق على الآية إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ | إلخ والآية التي بعدها |
ولا يروي المفسرون رواية في نزولها فيما اطلعنا عليه. وقد رأينا البغوي يروي عن الضحاك أحد علماء التابعين أن الآية الأولى عنت ثمانية نفر من الأمة سبقوا أهل الأرض في الإسلام وهم أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وإن لهم تاسعا ألحقه الله بهم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا.
والآيتان على كل حال تنطويان على صور رائعة لفريق من الرجال والنساء السابقين إلى الإيمان بالله ورسوله الذين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا في سبيل الله بإخلاص وفناء واستغراق. ولعل حكمة التنزيل استهدفت بهما الاستدراك على ما تضمنته الآيات السابقة من صور غير مستحبة لفريق من المسلمين استحقوا ذلك الهتاف والعتاب على ما شرحناه آنفا لتقرر أن هناك فريقا من المسلمين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا وأخلصوا وفنوا في سبيل الله ودينه وطاعة رسوله.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
. (١) الكفار: هنا بمعنى الزراع. ومن معاني كفر الأصلية ستر وغطى.
والزارع يستر بذاره ويغطيه.
(٢) حطاما: مكسرا مهشما من اليبس بعد الاصفرار.
(١) وصفا تقريريا للحياة الدنيا بالنسبة للبشر بكونها لعبا ولهوا وزينة وموضوع تفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد.
(٢) تمثل ذلك في حقيقته ونهايته كالماء الذي ينزل إلى الأرض فينبت به نبات رائع يسرّ به الزراع ثم يتعاظم ولكنه لا يلبث أن يصفرّ ويغدو حطاما مهشّما.
(٣) وتقريرا تنبيهيّا آخر ينطوي على الأمر الجد وهو أمر الآخرة حيث يلقى الناس فيها مصائرهم إما عذابا شديدا وإما غفرانا من الله ورضوانا وحينئذ يدركون أن الحياة الدنيا لم تكن إلا متاعا قصيرا لأمد، خداع المظهر.
(٤) ودعوة تعقيبية على ذلك التقرير موجهة إلى المخاطبين بأن يسارعوا- والحالة هذه- إلى اصطناع الأسباب إلى غفران الله ورضوانه وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض قد هيئت للذين يؤمنون بالله ورسله. وهذا من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
تعليق على الآية اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ | إلخ والآية التالية لها وما فيهما من تلقين |
ومع ما يلحظ من صلة الآيتين بالموقف الراهن في العهد النبوي حين نزولهما فإن إطلاق العبارة والنداء فيهما يجعلهما خطابا مستمر المدى لكل الناس ولكل المسلمين بخاصة في كل ظرف ومكان ليكون لهم بما فيهما من عظة وحث
ولقد تكرر تمثيل الحياة الدنيا بهذا الأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى في مواضع سابقة. وجاء هنا في معرض التنديد بالمقصرين والمترددين في الإخلاص والبذل كما جاء في المواضع السابقة في معرض الدعوة إلى الله وعدم التصامم عنها ركونا إلى ما يتمتع به المدعوون من جاء ومال وقوة دنيوية. ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة إن الآيات ليست في صدد التزهيد في الدنيا وطيباتها والكسب والمال والولد. وكل ما في الأمر أن فيها تنبيها على عدم ميل المرء إلى الدنيا وجعل أعراضها أكبر همّه وقصارى آماله. وعلى عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله ونحو الناس. ويجعله يغفل عن الآخرة وحسابها وهي دار الخلود في حين أن أمد الحياة الدنيا قصير جدا بالنسبة لكل إنسان يعيش فيها. والأسلوب بهذا البيان علاج روحاني شاف يفيد الإنسان في جميع ظروفه وبخاصة حينما تطغى المادة على الروح وتغطي أغراض الدنيا الغرارة مثل الإنسانية العليا وتقسي القلوب وتنزع منها خشية الله تعالى.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
. (١) من قبل أن نبرأها: من قبل أن نخلقها. ومن المؤولين من جعل الضمير عائدا إلى النفس والأرض ومنهم من جعله عائدا إلى المصيبة. وضمير المفرد قد يجعل عودته إلى المصيبة أوجه.
في الآيات:
(١) تقرير وجه الخطاب فيه إلى مخاطبين قريبين بأن كل ما يقع على الأرض وما يصيب نفوس الناس من مصيبة هو في كتاب عند الله مكتوب قبل وقوعها.
وهذا من الأمور اليسيرة على الله عزّ وجلّ المتسقة مع شمول قدرته وعلمه.
(٢) وتقرير آخر بأن الله تعالى يبين لهم هذه الحقيقة حتى لا يداخلهم الحزن والأسى مما يفوتهم من خيرات ولا يبطرهم الفرح بما ينالونه من خيرات. مع التنبيه إلى أن الله تعالى لا يحب المتكبرين المتفاخرين المزهوين بما قد يحرزونه من خير ثم يبخلون عن البذل ويحرضون غيرهم على احتذاء حذوهم وبأنه غني عن الذين يعرضون عن استجابة أوامره. حميد شاكر لمن يستجيب إليها.
تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها.. والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وتعقيبا. وأن الخطاب فيها موجّه بدوره إلى المسلمين موضوع الخطاب السابق. وهي بنوع خاص على ما تلهمه روحها بسبيل تقرير كون ما يحرزه الناس من خير وسعة رزق هو من فضل الله تعالى وليس لهم فضل فيه يبرر لهم الاغترار والتبجح والزهو والبخل به عن المحتاجين وسبيل الله. وكونهم غير قادرين على منع ضياعه وتلفه فلا موجب للبخل فيه والتقصير في واجب شكر الله عليه. وقد تلمح من هنا صلة قوية بين أهداف هذه الآيات والآيات التي ندد فيها قبل ببعض الصور غير المستحبة وبخاصة الضنّ بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله. في حين أن المال الذي في أيدي الناس هو مال الله جعلهم مستخلفين فيه وحسب.
ويلمح في الآيات صفات أخرى من صفات المنافقين المرتابين المترددين المتربصين الذين كانوا موضوع الحملة والتنديد في الآيات السابقة أريد التنويه بها والتحذير منها وهي الاختيال على الناس والكبر والغرور بما حازوه، والبخل به وأمر الناس بالبخل. وهذا يفعله البخلاء في الغالب لتبرير بخلهم.
وواضح أن في الآيات تلقينات مستمرة المدى تمدّ المسلم في كل ظرف بالثقة بالله والتسليم له والصبر على ما يصيبه من بلاء وعدم الجزع والأسى والشكر على ما يناله من خير وعدم الزهو والبطر والغرور به وعدم الخوف من عواقب البذل في سبيل الله ومساعدة المحتاجين وعدم الارتكاس في رذيلة الحضّ على البخل ومنع الخير عن الغير في أي حال.
وقد تكررت الآيات القرآنية التي احتوت هذه التلقينات في القرآن المكي والقرآن المدني معا حيث يبدو من ذلك التساوق في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها وإسلام النفس إلى الله في كل حال وظرف. واستهداف تربية المسلم والتسامي به إلى أوج الكمال النفساني والأخلاقي.
وقد أورد المفسرون أحاديث نبوية في سياق هذه الآيات بالتنديد بالبخل والاختيال والكبر والتفاخر. ولقد أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق سور الليل ولقمان والإسراء والنساء «١» التي ورد فيها التنديد بهذه الأخلاق البغيضة ونبهنا على ما فيها من تساوق مع التلقين القرآني فنكتفي بهذه الإشارة.
هذا، ولما كانت الآيات قد جاءت بسبيل التسكين والتحذير في ظروف
وننبّه على أن المفسرين والمؤولين الذين يروي المفسرون أقوالهم قالوا إن كلمة كِتابٍ هنا عنت اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سوف يحدث في كون الله وخلقه. ولقد قالوا مثل هذا في سياق آيات أخرى وردت فيها كلمة كِتابٍ بالمعنى الذي وردت فيه هنا. مثل آيات سورة الأنعام [٥٩] وهود [٦] والرعد [٢٩] والحج [٧٠] وفاطر [١١]. ولقد علقنا على تعبير اللوح المحفوظ في سياق تفسير سورة البروج التي ورد فيها لأول مرة كما علقنا على ما قالوه في سياق الآيات المذكورة آنفا. فنكتفي بهذه الإشارة دون التكرار.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٥]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
. في الآية تقرير رباني: بأن الله قد أرسل رسله للناس بالحجج والبينات.
وأنزل عليهم الكتب التي احتوت ما يجب أن يقوم به الناس لتوطيد الحق والعدل فيما بينهم. كما أنه خلق الحديد وألهمهم كيفية استعماله وفيه وسائل القوة والتنكيل كما فيه منافع أخرى للناس وقد جعل الله كل هذا اختبارا للناس وقطعا لحجتهم وأعذارهم. وليمتاز منهم الذين ينصرون الله ورسله بتصديقهم وتأييدهم بما جاءوا به من الحقائق الإيمانية ولو كانت ماهيتها غائبة عنهم وأفهامهم غير مدركة لكنهها. وهو القوي العزيز المستغني عن الناس القادر على ما يريد.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. ومع أنها تبدو فصلا جديدا إلّا أن احتمال اتصالها بالآيات السابقة لها اتصال تعقيب واستطراد وارد. ولا سيما أن الآيات السابقة احتوت دعوة إلى الجهاد والبذل في سبيل الله. وهذه الآية احتوت بيان هدف من أهداف هذه الدعوة وهو توطيد الحق والعدل بين الناس.
والآية بحد ذاتها جملة تامة احتوت تلقينات إيمانية واجتماعية وقضائية وسلطانية. وبجملة واحدة احتوت تقرير استهداف قيام السلطان في الأرض لتوطيد الحق والعدل بين الناس: فالله تعالى لم يدع الناس بدون تعليم وتنبيه. فأرسل رسله إليهم بالبينات الواضحة. وأنزل عليهم كتبه لتوطيد الحق والعدل بينهم. وجعل القوة الممثلة في الأسلحة الحديدية من الوسائل النافعة لمن ينحرف ويكابر ويعاند ويحاول مظاهرة البغي والباطل على الحق والعدل ولا يرضخ لمقتضياتهما. وكل ذلك إنما هو لخير الناس وصلاحهم.
ولقد اختلفت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين عن أهل التأويل الأولين في صدد الميزان والحديد اللذين أنزلهما الله على رسله»
. حيث رووا أن الميزان هو الميزان المعروف الذي يتعامل الناس به في معايشهم وأن الله قد أنزله مع جبريل على نوح وأمره أن يأمر قومه بالتعامل به، وحيث رووا أيضا أن الله قد أنزل مع آدم من الحديد السندان والكلبتين والمطرقة والميقعة. وحيث رووا حديثا مرفوعا عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال: «أنزل الله أربع بركات من السماء إلى الأرض وهي الحديد والنار والماء والملح» وحيث رووا مع ذلك أن الميزان هنا بمعنى العدل وأن القصد من تعبير إنزال الحديد هو خلقه وتعليم الناس الانتفاع به في شتى الوجوه من حفر الأرض والجبال وبخاصة في صنع السلاح الذي فيه ردع للناس وهو ما عبر عنه
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
. تعليق على الآية وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ | والآية التالية لها. وما فيهما من صور وتلقين وأهداف وتنويه بأخلاق النصارى عامة وما ورد في رهبانية النصارى والإسلام من أحاديث |
وينطوي في البيان التعقيبي الذي استهدفته الآيات- كما تبادر لنا- تقرير واقع الأمر عند نزول الآيتين بالنسبة لأهل الكتاب وبخاصة النصارى منهم كما هو ظاهر.
ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه بطرقه عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: «اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم. وقد وازت فرقة من الثلاث الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك. وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشير. وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم فترهبوا فيها فهو قول الله عزّ وجلّ وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال: ما فعلوها إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وهم الذين آمنوا بي وصدقوني. قال: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: فهم الذين جحدوني وكذبوني».
والحديث ليس من الصحاح. فإن صحّ جاء توضيحا للمقصود من الجملة الأخيرة في الآية الثانية وهم الذين آمنوا به وكفروا به فالأولون لهم أجرهم والآخرون فاسقون وهم الأكثر. وهذا كذلك متبادر من العبارة ولو لم يصح الحديث أيضا لأنها تقرر واقع النصارى عند نزول القرآن. ولا يمكن أن تنصرف عبارة الَّذِينَ آمَنُوا إلّا إلى الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وإيمان فريق من النصارى بالنبي ﷺ وما أنزل عليه حقيقة يقينية مؤيدة بنصوص قرآنية عديدة جاءت في سور
وكانت النصرانية سائدة في بلاد الشام ومصر. فأرسل النبي ﷺ رسله وكتبه إلى ملوكهم فلم يستجيبوا إليها. وهذا وذاك مصداق ما جاء في الآية. والله تعالى أعلم.
وفي الحديث إن صح بالإضافة إلى ما فيه من أخبار متسقة مع المأثورات القديمة عن سير المسيحية ونزاعاتها وفرقها وما كان من اضطهاد ملوك الرومان للنصارى أولا ثم لمن خالف مذهبهم بعد أن اعتنقوا النصرانية ثانيا وما جرى من قتال بين الفرق النصرانية «١» تفسير لجملة وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ يفيد أن الله تعالى لم يفرض عليهم الرهبانية بدءا وإنما هم ابتدعوها وفرضوها على أنفسهم فأقرهم الله عليها ابتغاء رضوانه. وهذا ملموح من فحوى الآيات وروحها وبدلالة كلمة ابْتَدَعُوها إن لم يصح الحديث.
ولقد أراد فريق من أصحاب رسول الله ﷺ أن يبتدعوا رهبانية في الإسلام ابتغاء رضوان الله تقليدا للرهبان والقسيسين من النصارى الذين أثنت عليهم آيات سورة المائدة [٨٧- ٨٩] فاقتضت حكمة التنزيل أن لا تشجعهم على ذلك لئلا يقعوا فيما وقع فيه النصارى من قبلهم. ولينصرفوا إلى ما هو الأنفع والأجدى لنشر دين الله وتعاليمه والجهاد في سبيله مما انطوى خبره وتلقينه البليغ في الآيات المذكورة وفي الأحاديث النبوية الواردة في صددها والتي منها «لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات المذكورة.
وذكر النصارى على الوجه الذي ورد وإن كان يتبادر أنه من قبيل الاستطراد المألوف في النظم القرآني فإن فيه على كل حال معنى التنويه المستحب بما كان عليه النصارى إجمالا من دماثة خلق ورقة قلب وتسامح وتواضع بالقياس إلى اليهود الذين وصف القرآن أخلاقهم بما وصفها من قسوة وغلظة وخبث وأنانية
وجملة: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ بالنسبة لنوح وإبراهيم عليهما السلام قد تفيد أن الله عزّ وجلّ اختصّ ذريتهما بذلك. وإذا صح هذا يكون ذلك لأول مرة في القرآن لأنه لم يسبق مثله. ومما يرد على البال أن مما استهدفه توكيد دخول جميع الأنبياء والرسل في مشمول ذُرِّيَّتِهِمَا فيدخل في ذلك الأنبياء الذين لم يعرف أنهم من نسل إبراهيم مثل هود وصالح وشعيب ولوط وإدريس وغيرهم ممن لم يرد ذكرهم في القرآن وإنما أشير لهم إشارة عامة في جملة:
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ. في الآية [١٦٤] من سورة النساء وفي الآية [٧٨] من سورة غافر التي احتوت جملة قريبة.
ولعل مما استهدف بهذا التوكيد الردّ على بني إسرائيل الذين كانوا يدعون أن جميع الأنبياء من جنسهم ويزهون ويتبجحون بذلك على ما شرحناه في سياق آيات سورة الجمعة وغيرها وعلى ما حكته روايات عديدة أوردناها في سياق ذلك. والله أعلم.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
. (١) كفلين: بمعنى ضعفين على قول الجمهور.
(٣) أن لا يقدرون: الجمهور على أن (أن) هي مخففة من أنّ وتقدير الجملة (أنهم لا يقدرون) أي لا يقدرون على منع فضل الله عن أحد. وعدم حذف نون المضارع دليل على صحة ذلك.
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنت الأولى التفاتا إلى المؤمنين منطويا على التعقيب والحثّ والبشرى: فعليهم- وقد عرفوا سنّة الله تعالى وحكمته- أن يعتبروا ويتقوا الله ويلتزموا حدوده ويؤمنوا برسله إيمانا مخلصا ويتبعوا إرشاده. فإن فعلوا ضاعف الله لهم الأجر وجعل لهم نورا يمشون في ضوئه فلا يضلون عن سبيل الحق القويم وغفر لهم ذنوبهم وهو الغفور الرحيم وتضمنت الثانية شيئا من الالتفات إلى أهل الكتاب منطويا في الوقت نفسه على بشرى للمسلمين: ففي ما يوصي الله تعالى المؤمنين ويأمرهم به من تقوى الله والإيمان برسله ويعدهم به من مضاعفة الأجر لهم وتيسير النور الذي يسيرون على هداه وغفران ذنوبهم. ويكون في ذلك تنبيه لأهل الكتاب ليعلموا أنهم غير قادرين على منع فضل الله عن أحد ولا محتكريه. فالله تعالى هو صاحب الفضل وهو يتصرف فيه كما تقتضي حكمته وعدله فيؤتيه من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا يتضمن قرينة بل دلالة على أن جملة وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ لا تعني الإيمان البدني بالرسول لأنهم مؤمنون به حينما وصفوا ب الَّذِينَ آمَنُوا وإنما تعني الحثّ على قوة اليقين والوثوق والطاعة. وهي من هذه الناحية من باب الآيتين [٧] و [٨] من هذه السورة على ما شرحناه في سياقهما.
روى المفسرون في سياق هذه الآيات أن وفدا من نصارى الحبشة وفد على النبي ﷺ فأسلموا. ورأوا ما عليه المسلمون من خصاصة فاستأذنوا النبي بأن يحضروا شيئا من أموالهم ويعطوها للمحتاجين فأذن لهم فذهبوا وأحضروها ووزعوها فأنزل الله آيات سورة القصص [٥٢- ٥٥] هذه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥). فصاروا يفخرون على المسلمين من العرب ويقولون لهم أجرنا مضاعف، لأننا آمنا بكتابكم وكتابنا من قبله فأنزل الله الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما فحسد المسلمون الحبشة المسلمين العرب فأنزل الله الآية الثانية.
والرواية لم ترد في الصحاح. ولقد روي أن آيات القصص المذكورة مدنيّة.
ولعل ذلك متصل بهذه الرواية. ولقد توقفنا في سياق تفسير آيات القصص في رواية مدنيتها ونبهنا على ما تبادر لنا من دلائل على مكّيتها بما يغني عن التكرار.
ونزيد هنا فنقول إن فحوى الآيتين لا يمكن أن ينطبق على ما جاء في الرواية من حيث إن الرواية تقتضي أن تكون الآية الأولى ردا على فخر من بعض أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بسبب آيات مدنيّة وضعت في سورة مكيّة. ثم وضع الردّ في سورة مدنيّة. وأن يكون أهل الكتاب الذين آمنوا قد حسدوا المسلمين العرب فأنزل الله آية فيها ردّ عليهم مع أن فحوى الآية لا يمكن أن تفيد أنها عنت جماعة مؤمنين بالرسالة المحمدية...
والراجح أنه كان يقع حوار بين بعض المسلمين وأهل الكتاب حول من هو الأهدى والأفضل والمستحق لرحمة الله فكان في الآية الثانية ترديد لذلك ووضع للأمر في نصابه الحق. وهناك آيات في سور سبق تفسيرها تذكر ما كان من تبجح أهل الكتاب بأنهم أبناء الله وأحباؤه وبأنهم الأهدى الذين لهم الجنة وحدهم إلخ كما جاء مثلا في آيات البقرة [١١١ و ١٢٠ و ١٢٥] والمائدة [١٨].
ولقد روى الطبري عن ابن زيد في تأويل جملة: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ إنها بمعنى يؤتكم رحمته مرتين مرة في الدنيا ومرة في الآخرة. وعن الضحاك إنها بمعنى يؤتكم أجرا على إيمانكم بالكتاب الأول وأجرا على إيمانكم بالقرآن. ومع أن القول الأول أوجه من الثاني فإنه يتبادر لنا أيضا أن الجملة على سبيل البشرى والتطمين بمضاعفة الله الأجر للمؤمنين المتقين. وهو ما تكرر بأساليب متنوعة مرّت أمثلة كثيرة منها في السور التي سبق تفسيرها والله أعلم.
وعلى كل حال ففي الآيتين تلقين مستمر المدى يستمد منه المسلم حافزا على تقوى الله لنيل أجره المضاعف والاهتداء بنوره الهادي. وإيذانا بأنه لا حرج على فضل الله ولا يحقّ لأحد أن يحتكره فالله هو صاحب الفضل فيؤتيه من يشاء ممن استحقه بعمله الصالح وتقواه.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية فيها تمثيل مبشر للمسلمين وهي ليست من الصحاح ومع ذلك فلم نر بأسا من إيرادها لما فيها من تبشير وتطمين للمسلمين. منها حديث أخرجه الطبري عن عبد الله بن عمر قال:
«سمعت رسول الله ﷺ يقول إنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة
«سمعت ابن عمر يقول قال رسول الله ﷺ مثل هذه الأمة أو قال مثل أمتي ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل قال من يعمل لي غدوة إلى نصف النهار على قيراط قال اليهود نحن فعملوا. ثم قال من يعمل من نصف النهار إلى العصر على قيراط قالت النصارى نحن فعملوا. وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل على قيراطين».
هذا، وفي دعوة المسلمين إلى تقوى الله عزّ وجلّ والإيمان برسوله في ختام السورة تناظر مع الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله في أول السورة. وقد يكون في هذا مشهد من مشاهد النظم والتأليف القرآني التي تكررت في أوائل وأواخر سور عديدة على ما نبهنا عليه في مناسباته، والله أعلم.
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة إلّا أنها يجمعها طابع عام واحد هو الحثّ على الجهاد والحملة على المنافقين والكافرين والمشركين. والثناء على المؤمنين المخلصين.
وتنطوي فصولها على:
(١) التبرّؤ من المشركين الناقضين للعهد والحثّ على قتالهم إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مع احترام عهد المعاهدين الأوفياء لعهودهم.
(٢) والتنبيه على أن المشركين نجس لا يجوز أن يدخلوا منطقة البيت الحرام بعد أن صار في حوزة الإسلام ولا أن يتولوا مسجدا ويعمروه أو يعمروا المسجد الحرام. وليس لهم في ذلك حقّ وميزة.
(٣) وحظر تولي الآباء والأقارب الكفار ومناصرتهم والتحالف معهم وإيجاب إيثار الله ورسوله والجهاد في سبيله عليهم وعلى جميع أعراض الدنيا إذا تعارض هذا مع ذاك.
(٤) وحثّ على قتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية ويخضعوا لسلطان الإسلام فيكون لهم ذلك مانعا.
(٥) وإقرار حرمة الأشهر الحرم الأربعة بأعيانها وتحريم النسيء والتلاعب في أوقاتها بسبيل التقديم والتأخير فيها وإخراج بعضها من الحرمة وجعل غيرها بديلا عنها.
(٧) وصور من مواقف المنافقين وأقوالهم ومكائدهم وسخريتهم وتثبيطهم وإخلافهم لوعودهم وعهودهم وتنديد باعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة وإنذارات قارعة لهم وإيجاب الوقوف منهم موقف الشدة والحزم.
(٨) وبيان لطبيعة الأعراب وشدة كفر الكافرين ونفاق المنافقين منهم بسببها مع التنويه بطبقة أخلصت في إيمانها وإسلامها وأعمالها منهم.
(٩) وتصنيف المنتسبين إلى الإسلام إلى مخلصين سابقين وتابعيهم بإحسان.
ومنافقين متسترين، وخالطي عمل صالح بعمل سيىء. وأناس غير معروفة حقيقتهم على اليقين موكولين إلى الله. ومنافقين مجاهرين بالضرر والفساد.
(١٠) حظر الاستغفار للمشركين والصلاة عليهم.
(١١) ومشاهد عن إخلاص بعض فقراء المسلمين إزاء الدعوة إلى الجهاد وشدة ندم بعض المخلصين المتخلفين وتوبة الله عليهم.
(١٢) ومشاهد عن مواقف المنافقين عند نزول القرآن.
(١٣) وتشريع في صدد التناوب في الجهاد.
(١٤) وختام وصفي رائع لأخلاق النبي ﷺ وشدة حرصه على المسلمين ورأفته ورحمته بهم.
وأكثر فصول السورة معقودة على غزوة تبوك وظروفها وأحداثها. وهناك رواية غريبة تذكر أنها نزلت دفعة واحدة «١». في حين أن مضامين فصولها تلهم بكل قوة أن منها ما نزل قبل غزوة تبوك بمدة ما. ومنها ما نزل أثناء هذه الغزوة، ومنها ما نزل بعد العودة من هذه الغزوة. حيث يسوغ القول إن الرواية المذكورة غير معقولة وغير صحيحة. وإن فصول السورة قد رتبت في وقت متأخر من عهد رسول الله ﷺ بعد أن تم نزول الفصول التي اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويها.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن آيتيها الأخيرتين مكيّتان. وهذه الرواية مروية
هذا في حين أن هناك روايات تذكر أن الآيتين هما آخر القرآن نزولا. وقد رجحنا أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما استلهاما من فحواهما. وسنزيد الأمر بيانا في سياق تفسير الآيات.
والمتواتر اليقيني أن مصحف عثمان الذي هو أصل المصاحف لم يفصل بين سورتي الأنفال وهذه السورة بالبسملة أسوة بسائر السور. وقد روى الترمذي «٢» حديثا عن ابن عباس جاء فيه: «قلت لعثمان رضي الله عنه ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين «٣» فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال. فقال عثمان كان رسول الله ﷺ يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها «٤» فظننت أنها منها فقبض رسول الله ﷺ ولم يبين لنا أنها منها فلذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتها في السبعة الطوال». وهناك روايات أخرى في صدد ذلك. منها رواية عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه جوابا على سؤال سأله ابنه محمد مفادها أن هذه السورة نزلت بالسيف وأن البسملة أمان. ورواية عن أبيّ بن كعب أن النبي ﷺ كان
(٢) التاج ج ٤ ص ١١٢، ١١٣.
(٣) يسمى ما قلّت آياته عن المائة من السور ولم تكن من القصار بالمثاني، وما زادت آياته على المائة بالمئين.
(٤) أي فيها فصول مثلها من جهاد وعهد.
وهناك رواية تذكر أن السورتين كانتا تسميان القرينتين لهذا السبب «١».
وباستثناء حديث الترمذي عن ابن عباس ليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والمتبادر أن رواية عدم وضع البسملة بسبب كونها نزلت في القتال غير سائغة لأن هناك سورا أخرى احتوت الأمر بالقتال. وتبقى الروايات الأخرى وهي محتملة. وقد يكون فيها إزالة لإشكال ورود سورة الأنفال التي تقلّ آياتها عن المائة بين السور الطوال في حين أن ترتيب سور القرآن سار على وضع الأطول فالأطول إجمالا. ولم يؤثر عن النبي ﷺ أمر بوضع البسملة بينهما. وآياتهما معا تجعل سلكهما في سلك السور الطوال سائغا.
وهذه الروايات مع حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي تفيدنا مسألتين مهمتين في صدد تأليف وترتيب سور القرآن والمصحف والآيات، الأولى أن النبي ﷺ كان يأمر بأن تكون كل سورة في قراطيس لحدتها مفتوحة للزيادة عليها.
وكان وضع الآيات في السور بأمره. والثانية أن ترتيب السور واحدة وراء أخرى كما جاء في المصحف هو بأمره. ونرجح أن المسألة الأولى كانت بنوع خاص بالنسبة للسور المدنيّة. وأن السور المكيّة كان قد تم ترتيبها إما في مكة وإما بعد الهجرة بقليل. وكل ما هنالك أن بعض آيات مدنيّة أضيف إلى بعض هذه السور مثل الآية الأخيرة من كل من سورتي المزمل والشعراء والآيات [١٦٣- ١٧٠] من سورة الأعراف للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل كثيرا أن تكون هذه الآيات نزلت في أوائل الهجرة. والله أعلم.