وقد تناولت السورة مواضيع عديدة أوّلها وأهمها أن يكون الكون كله لله، وبدأت بالإخبار أن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل من في السموات والأرض، وأنه هو المتصرف بهذا الكون العجيب كما يشاء.
والثاني : أنها بعد أن أمرت بالإيمان بالله حضّت على الإنفاق في سبيل الله والتضحية بالأموال والأنفس لإعزاز دين الله، وأظهرت صورة المؤمنين يسعى نورهم أمامهم وحولهم، وصورة المنافقين يلتمسون الانتظار من المؤمنين، ليقتبسوا من نورهم. وقد ضُرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب.
والأمر الثالث : تصوير حقيقة الدنيا وما فيها من بَهْرَج خادع، ونعيم زائل، حتى لا يغتر بها الإنسان. وتضرب السورة الأمثال على هوان الدنيا وما حوته من متاع، وعظم الآخرة وما فيها من نعيم للمؤمنين وعذاب للكافرين والمنافقين. وقد ظهرت هذه الفئة بالمدينة وكان لها خطر كبير على المؤمنين، لكن الله نَصَر المؤمنين عليهم بإيمانهم وثباتهم وبذلهم وتضحيتهم.
وفي السورة الكريمة دعوة للمؤمنين إلى التنافس والتسابق نحو الدار الآخرة ونيل الرضوان من الله، وذلك في قوله تعالى :﴿ سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت للذين آمنوا بالله ورسله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ﴾. وتخلل السورة ذكر بعض الأنبياء، وإنزال الحديد.
ثم ختمت السورة بدعوة المؤمنين إلى تقوى الله، والإيمان برسوله، ووعد الله لهم بمضاعفة الرحمة، والحظوة بالفضل الذي لا يقدر أحد على شيء منه غيره ﴿ وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ﴾ صدق الله العظيم.
ﰡ
العزيز : الذي لا ينازعه في ملكه شيء.
الحكيم : الذي يفعل أفعاله وَفْقَ الحكمة والصواب.
بُدئت هذه السورة الكريمة بالتسبيح، وكذلك بدئت بعدها أربع سور مدنية، هي : الحشر والصف و الجمعة و التغابن. وأيُّ تسبيح ! إن كل ما في الوجود يسبّح لله. وما هو هذا التسبيح ؟. يقول علماء المادة اليوم :« إن التسبيح ها هنا
لا يقتصر على كون الذرّات والأجسام الفضائية تخضع للنواميس التي وضعَها اللهُ فيها، فهي بهذا تسبّحُ بحمد الله سبحانه، فهناك ما هو أبعدُ من هذا وأقرب إلى مفهوم التسبيح الحيّ والتقديس الواعي. إن هذه الموجودات المادية تملك أرواحاً، وهي تمارس تسبيحَها وتقديسها بالروح، وربما بالوعي الذي لا نستطيع استيعاب ماهيّته، كما يقول تعالى في سورة الإسراء ٤٤ :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ حقا إن إدراك الطرائق التي تعمل بها الذراتُ والأجسام لَمِمّا يصعُب تحقيقه، ومهما تقدّم العلم وخطا خطواتهِ العملاقة، فسيظلُّ جانبٌ من أكثر جوانب التركيب الماديّ أهميةً بعيداً عن الكشف النهائي، مستعصياً على البَوْح بالسِّر المكنون ».
إن عصر الإنكار الكلّي لحقائقَ علميةٍ معينة قد انتهى، وحلَّ محلّه اعتقادٌ سائد أخَذَ يتسع شيئاً فشيئا، في أن ميدانَ العِلم لا يشهَدُ تغيراتٍ فحسب، بل طَفَراتٍ وثورات.
إن نتائج فلسفيةً هامة ستتمخّض حقاً عن هذا التغير، والفرق بين ما هو طبيعي وما هو خارقٌ للطبيعة سوف يتناقص.. الفرقُ بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، والحضور والغيْب، والمادة والروح، والقدَر والحرّية، وستلتقي معطياتُ العلم مع حقائق الدين في عناق حار، لقاءً كثيراً ما حدّثنا عنه القرآنُ الكريم، كتابُ الله المعجزة.
هو الأول بلا ابتداء قبلَ كل شيء، والآخر بلا انتهاء بعد كل شيء :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]. وهو الظاهر بالآثار والأفعال، والباطنُ فلا تدركه الأبصار ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ فلا يخفى عليه شيءٌ في السموات والأرض.
استوى على العرش : استولى عليه. العرش : الملك والسلطان.
وهو الذي خلق هذا الكونَ في ستة أطوار، فدبَّره جميعه ثم استولى على العرش. وقد تقدَّم مثلُ هذه الآية في عدة سور : الأعراف ويونس وهود والفرقان والسجدة.
يعلم كل ما يغيب في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعَد إليها، ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ عليمٌ بكم، محيطٌ بشئونكم في أيّ مكان كنتم. ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
إنه يقلّب الليلَ والنهار ويقدّرها بحكمته كما يشاء، فتارةً يطولُ الليل ويقصُر النهار، وتارة يقصر الليلُ ويطول النهار، وتارة يجعلهما معتدلَين. ﴿ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ وخفيِّ مكنوناتها، وما تضمره القلوب.
هذه السورةُ من السوَر المدنية كما قدّمنا، وهي تعالج بناء دولة وأمة. وهنا تعالج حالةً واقعة في ذلك المجتمع الإسلامي الجديد، فيظهر من سياق الحثِّ على البذْل والإيمان أنه كان في المدينة، إلى جانبِ السابقين من المهاجِرين والأنصار، فئةٌ من المؤمنين حديثةُ عهدٍ بالإسلام، لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، ولهم صِلاتُ قرابةٍ ونَسَبٍ مع طائفة المنافقين التي نبتت بعد الهجرة وكانت تكيدُ للإسلام والمسلمين. وكانت هذه المكائد تؤثّر في بعض المسلمين الذين
لم يُدركوا حقيقةَ الإيمان فأنزل الله تعالى هذه الآية والآياتِ التي بعدها يثبّت بها قلوبَ المؤمنين ويحثّهم على البذل والعطاء. فهي تقول :
آمِنوا باللهِ حقَّ الإيمان الصادق، وأنفِقوا في سبيل الله من المال الذي جعلكم خلفاءَ في التصرّف فيه.
ثم تبين السورة ما أعدّ الله للذين آمنوا وأنفقوا من أجرٍ كبير :﴿ فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾.
ومالكم لا تؤمنون بالله والرسولُ يدعوكم إلى ذلك ويحثّكم عليه ! إنه يبين لكم الحججَ والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد أخذ الله عليكم الميثاقَ بالإيمان من قبلُ ﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾.
قراءات :
قرأ أبو عمرو : وقد أُخذ ميثاقكم بضم همزة اخذ ورفع ميثاقكم. والباقون : وقد أخذ ميثاقكم بفتح الهمزة ونصب ميثاقكم.
لا تعلمون، ويمهّد لكم سبيلَ الخير من حيث لا تحتسبون.
ثم زاد في التأكيد على الإنفاق أن الجميع صائر إليه، وأن الإنسانَ لا يأخذُ معه شيئا مما يجمعُه إلا العملَ الصالحَ والإنفاقَ في سبيل الله فقال :
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض ﴾.
مالكم أيها الناس، لا تنفقون مما رزقكم الله في سبيله ؟ أنفِقوا أموالكم في سبيل الله قبل أن تموتوا، ليكونَ ذلك ذُخراً لكم عند ربكم. فأنتم بعد الموت لا تقدِرون على ذلك، إذ تصير الأموال ميراثاً لمن له السمواتُ والأرضُ فهو الذي يرث كل ما فيهما.
ثم بيّن تفاوت درجات المنفقين فقال :
﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ﴾.
لا يستوي في الدرجة والأجرِ ذلك المؤمن الذي أنفق قبلَ فتح مكة وقاتَلَ ( لأن المسلمين كانوا في ضيق وجُهد وحاجة إلى من يسانِدهم، ويقويهم ) فهؤلاء المنفِقون والمقاتلون قبل فتحِ مكةَ أعظمُ درجةً عند الله من الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا. وقد وعدَ الله الجميعَ المثوبةَ الحسنى، ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ فيجازي كلاًّ بما يستحق.
قراءات :
قرأ ابن عامر : وكلٌّ وعدَ الله الحسنى برفع كل. والباقون : وكُلاً بالنصب.
ثم نَدَبَ إلى الإنفاق بأسلوبٍ رقيق جميلٍ حيثُ جعل المنفِقَ في سبيل الله كالذي يُقْرِض الله، والله غنيٌّ عن العالمين. فقال :
﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾
هل هناك أجملُ من هذا التعبير ! مَن هذا الذي ينفِق أمواله في سبيل الله محتسباً أجره عند ربه، فيضاعِف الله له ذلك القَرض، إذ يجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة، وفوق ذلك له جزاءٌ كريم عند ربّه، وضيافةٌ كريمة في جنة المأوى.
قراءات :
قرأ ابن كثير : فيضعّفُه بتشديد العين وضم الفاء. وقرأ ابن عامر مثله : فيضعّفَه بالتشديد ولكن ينصب الفاء. والباقون : فيضاعفَه بالألف ونصب الفاء.
بشراكم : أبشروا.
الكلام في هذه الآية الكريمة عن مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة، فاللهُ سبحانه وتعالى يبين هنا حالَ المؤمنين المنفقين في سبيل الله يومَ القيامة، فذَكَر أن نورَهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدَهم إلى الجنة، و تقول لهم الملائكة : أبشِروا اليومَ بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهارُ وأنتم فيها خالدون أبدا.
﴿ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم ﴾ وأيّ فوزٍ أعظم من دخول الجنة ! !
نقتبس من نوركم : نستضيء بنوركم.
بسور : بحاجز.
باطنه فيه الرحمة : الجنة. وظاهره من قِبله العذاب : من جهته جهنم.
ثم بيّن حالَ المنافقين في ذلك اليوم العظيم، وكيف يطلبون من المؤمنين أن يساعِدوهم بشيءٍ من ذلك النورِ الذي منحَهم الله إيّاه ليستضيئوا به ويلحقوا بهم. فيسخَرُ المؤمنون منهم ويتهكّمون عليهم ويقولون : ارجِعوا إلى الدنيا واعملوا حتى تحصُلوا على هذا النور. وهذا مستحيل. فيُضرَب بينهم بحاجزٍ عظيم يكونُ المؤمنون داخلَه في رحابِ الجنة، والمنافقون والكافرون خارجَه يذهبون إلى النار.
قراءات :
قرأ حمزة : أنظِرونا نقتبس من نوركم بفتح الهمزة وكسر الظاء من الفعل انظِر. والباقون : انظُرونا بضم الظاء.
تربصتم : انتظرتم بالمؤمنين الشرّ والمصائب.
ارتبتم : شككتم في أمر البعث.
الأماني : الأباطيل.
الغَرور ( بفتح الغين ) : الشيطان.
ثم ينادِي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم : ألَمْ نكُنْ مَعَكم في الدنيا ! ؟ فيقول لهم المؤمنون :
﴿ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَآءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بالله الغرور ﴾.
لقد كنتم معنا ولكنكم لم تؤمنوا، وأهلكتم أنفسكم بالنفاق، وتربصتم بالمؤمنين الشرَّ والحوادثَ المهلكة، وشككتم في أمور الدينِ. لقد خدعتكم الآمالُ الكاذبة حتى جاءكم الموتُ، وخدعكم الشيطان.
مأواكم : منزلكم.
مولاكم : أولى بكم، من ينصركم.
فلا أملَ لكم بالنجاة، ولا تُقبَل منكم فِدية، ولا مِن الذين كفروا، إن مَرجِعَكم جميعاً هو النار، هي منزلكم ﴿ وَبِئْسَ المصير ﴾.
قراءات :
قرأ ابن عامر ويعقوب : فاليوم لا تؤخذ بالتاء. والباقون : لا يؤخذ بالياء.
وما نزل من الحق : من القرآن.
فطالَ عليهم الأمد : طال عليهم الزمان وبعُد العهد بينهم وبين أنبيائهم.
قَسَت قلوبهم : اشتدّت فكفروا.
في هذه الآية عتابٌ لقومٍ من المؤمنين فترت همَّتُهم قليلاً عن القيام بما نُدِبوا إليه. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :« لما قَدِم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فأصابوا من لِين العَيش ما أصابوا بعْدَ أن كانوا في جَهدٍ، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوقبوا بهذا الآية.... »
ألم يَحِن الوقتُ للذين آمنوا أن ترقَّ قلوبُهم لذِكر الله والقرآن الكريم، ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أُوتوا الكتابَ من قبلهم، فعملوا به مدةً ثم طال عليهم الزمنُ فجمدت قلوبهم وغيّروا وبدّلوا ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ خارجون عن حدودِ دينهم.
قراءات :
قرأ نافع وحفص : وما نَزَل من الحق بفتح النون والزاي من غير تشديد. والباقون : وما نزّل بتشديد الزاي.
والله سبحانه يجازي كلَّ إنسان بعمله، فالمتصدّقون والمتصدقات الذي ينفقون في سبيل الله بنفوس سخيّة طيبة، يضاعفُ الله لهم ثوابَ ذلك، وفوق المضاعَفة لهم أجرٌ كريم عنده يوم القيامة.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو بكر : إن المصَدقين والمصدقات بفتح الصاد من غير تشديد. والباقون : بالتشديد.
الشهداء : من قُتلوا في سبيل الله.
والعاملون أقسامٌ عند الله، فمنهم النبيّون والصدّيقون والشهداءُ والصالحون. فالذين آمنوا بالله ورسُلِه ولم يفرقوا بين أحدٍ منهم، أولئك هم الصدّيقون والشهداءُ، لهم أجرُهم العظيم، ونورٌ يهديهم يومَ القيامة، لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون.
وبالمقابلِ يقفُ الذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله، أولئك هم أصحابُ النار خالدين فيها.
يهيج : ييبس ويصفرّ، وفعلُ هاجَ له معنى آخر، يقال : هاج القومُ هَيْجا وهيَجانا : ثاروا لمشقة أو ضرر. وللفعل هاجَ معانٍ أخرى.
حطاما : هشيما متكسرا.
متاع الغرور : الخديعة.
يبين الله تعالى هنا حقارة الدنيا وسرعة زوالها. اعلموا أيها الناس أنما الحياة الدنيا لعبٌ لا ثمرة له، ولهوٌ يشغَل الإنسانَ عما ينفعه، وزينةٌ لا بقاء لها، وتفاخرٌ بينكم بأنساب زائلة وعظامٍ باليةٍ، وتكاثرٌ بالعَدد في الأموال والأولاد. مِثْلُها في ذلك مثل مطرٍ نزل في أرضِ قومٍ وأنبت زرعاً طيباً أعجبَ الزّراع، ثم يكمُل ويهيج ويبلغ تمامه، فتراه بعدَ ذلك مصفرّا ثم يصير حطاماً منكسرا
لا يبقى منه ما ينفع. فمن آمن وعملَ في الدنيا عملاً صالحاً واتخذ الدنيا مزرعةً للآخرة نجا، ودخل الجنة. وفي الآخرة عذابٌ شديد لمن آثر الدنيا وأخذها بغير حقها، وفيها مغفرة لمن عمل صالحاً وآثر آخرته على دنياه. ﴿ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور ﴾ متاع زائل وخديعة باطلة لا تدوم.
تسابَقوا أيها المؤمنون، في عملِ الخير، حتى تنالوا مغفرة من ربكم، وتدخلوا جنةً سعتُها كسعة السماء والأرض، هُيئت للذين آمنوا واتقَوا ربهم، ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم ﴾ فهو واسعُ العطاء عظيم الفضل، يُعطي من يشاء بغير حساب.
نبرأها : نخلقها.
ما أصابكم أيها الناس من مصائبَ في الأرض من قحطٍ أو جَدْبٍ وفسادِ زرعٍ
أو كوارث عامة كالزلازل وغيرها، أو في أنفسِكم من مرضٍ أو موتٍ أو فقر أو غير ذلك، إنما هو مكتوبٌ عندنا في اللوحِ المحفوظ، مثْبَتٌ في علم الله من قبل أن يبرأ هذه الخليقة. وما إثبات هذه الأمور والعلم بها إلا أمر يسير على الله.
كل مختال : متكبر.
فخور : المتباهي بنفسه.
وحيث علمتم أن كل ما يجري هو بعلم اله وقضائه وقدَره، عليكم ألا تحزنوا على ما لم تحصَلوا عليه حزناً مفرطاً يجرّكم إلى السخط، ولا تفرحوا فرحاً مبطِرا بما أعطاكم، فاللهُ لا يحب كلّ متكبرٍ فخور على الناس بما عنده.
قال عكرمة : ليس أحدٌ إلا وهو يحزَن أو يفرح، ولكنِ اجعلوا الفرحَ شُكرا والحزنَ صبراً. وما من إنسان إلا يحزن ويفرح، ولكنّ الحزنَ المذمومَ هو ما يخرجُ بصاحبه إلى ما يُذهِبُ عنه الصبرَ والتسليم لأمرِ الله ورجاءِ الثواب، والفرحَ المنهيَّ عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويُلهيه عن الشكر.
قراءات :
قرأ أبو عمرو : بما أتاكم بغير مد. والباقون : بما آتاكم بمد الهمزة.
﴿ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد ﴾
ومن يُعرِض عن طاعة الله، فإن الله غنيٌّ عنه، وهو المحمودُ من خلقه لما أنعم عليهم من نعمه، لا تضرّه معصية من عصى، ولا تنفعه طاعة من أطاع.
قراءات :
قرأ الجمهور : بالبُخْل بضم الباء وإسكان الخاء. وقرأ مجاهد وابن مُحَيصن وحمزة والكسائي : بالبَخَل بفتحتين وهما لغتان. والبخل بفتحتين لغة الأنصار. وقرأ نافع وابن عامر : إن الله الغني الحميد، بحذف هو، والباقون : إن الله هو الغني الحميد.
الكتاب : جميع الكتب المنزلة.
الميزان : العدل.
القِسط : الحق.
أنزلنا الحديد : خلقناه.
فيه بأسٌ شديد : فيه قوة عظيمة.
لقد أرسلنا رسُلنا الذين اصطفيناهم بالمعجزات القاطعة، وأنزلنا معهم الكتب فيها الشرائع والأحكام، والميزان الذي يحقق الإنصاف في التعامل، ليتعامل الناس فيما بينهم بالعدل. كما خلقنا الحديد فيه قوة ومنافع للناس في شتى مجالات الحياة، في الحرب والسلم، والمواصلات برا وبحرا وجوا، ومنافعه لا تحصى، لينتفعوا به في مصالحهم ومعايشهم، وليعلم الله من ينصر دينه، وينصر رسله بالغيب، ﴿ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ لا يفتقر إلى عون أحد.
ثم إن هذه الذرية افترقت فرقتين : منهم من هو مهتدٍ إلى الحق مستبصر، وكثير منهم ضالون خارجون عن طاعة الله.
الرهبانية : الطريقة التي يتبعها قُسُس النصارى ورهبانهم.
ابتدعوها : استحدثوها من عند أنفسِهم.
فما رَعَوْها : فما حافظوا عليها.
بعثنا بعدَهم رسولاً بعد رسول على توالي العصور والأيام، حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام وأعطيناه الإنجيلَ الّذي أوحيناه إليه، وأودعنا في قلوب المتّبعين له رأفةً ورحمة. وبعد ذلك كله ابتدعوا رهبانيةً وغُلواً في العبادة
ما فرضناها عليهم، ولكن التزموهما ابتغاء رضوان الله تعالى، فما حافظوا عليهما حقَّ المحافظة. فآتينا الذين آمنوا منهم إيماناً صحيحاً أجورَهم التي استحقّوها. أما كثير منهم فقد خرجوا عن أمر الله، واجترموا الشرور والآثام، فلهم عذابٌ عظيم.
﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله ﴾ واثبُتوا على إيمانكم برسوله يعطِكم نصيبَين من رحمته ويجعل لكم نوراً تهتدون به، ويغفر لكم ذنوبكم ﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ ﴾ معناه أنّهم لا يقدِرون على شيء، فأنْ هنا مخففة من أنّ المشددة.
وهكذا ختمت السورة بختام يتناسق مع سياقها كله، وهي نموذج من النماذج القرآنية الواضحة في خطاب القلوب البشرية، وبها يتم الجزء السابع والعشرون.