بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة وتمهيد١- سورة " الحديد " هي السورة السابعة والخمسون في ترتيب المصحف، وسميت بذلك لقوله –تعالى- فيها :[ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ].
وعدد آياتها تسع وعشرون آية في المصحف الكوفي، وثمان وعشرون في غيره.
٢- وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية، فابن كثير والقرطبي يقولان بأنها مدنية، ولا يذكران خلافا في ذلك.
بينما نرى صاحب الكشاف يقول إنها مكية، ولا يذكر –أيضا- خلافا في ذلك.
ومن المفسرين من يرى بأن سورة الحديد منها ما هو مكي ومنها ما هو مدني.
قال الآلوسي : أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين، ولم يسلم له ذلك، فقد قال قوم إنها مكية.
وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا. لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا.. ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده، والطبراني وابن مردويه.. عن عمر –رضي الله عنه- أنه دخل على أخته قبل أن يسلم، فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد، فقرأه حتى بلغ قوله –تعالى- :[ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ] فأسلم( ١ ).
والذي يبدو لنا –بعد تدبرنا لهذه السورة الكريمة- أنها يغلب عليها طابع القرآن المدني، الذي يتحدث عن الجهاد في سبيل الله، وعن الإنفاق من أجل إعلاء كلمته، وعن سوء مصير المنافقين، وعن إرشاد المؤمنين إلى كيفية إقامة الدولة القوية العادلة.. وهذا لا يمنع من أن يكون من بين آياتها ما هو مكي، متى ثبت ذلك عن طريق النقل الصحيح.
٣- وقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن الله –تعالى- قد نزهه عن كل ما لا يليق به. جميع ما في السموات وما في الأرض، وأنه –عز وجل- هو مالكها، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن والمحيي والمميت والمميت والخالق لكل شيء، والعليم بكل شيء.
قال –تعالى- :[ سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم. له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ].
٤- ثم حضت السورة الكريمة المؤمنين على الثبات على إيمانهم، وعلى الإنفاق في سبيل الله، ووعدتهم على ذلك بأجزل الثواب.
قال –تعالى- :[ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له، وله أجر كريم ].
٥- ثم تتحدث السورة الكريمة بعد ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر، عن حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المنافقين، فتحكي جانبا مما يدور بين الفريقين من محاورات فتقول :[ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم، قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، ينادونهم ألم نكن معكم ؟ قالوا : بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم، وغرتكم الأماني، حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور ].
٦- وبعد أن تنتقل السورة الكريمة إلى حث المؤمنين على الخشوع لله، وعلى تذكر الموت، وعلى البذل في سبيل الله.. بعد كل ذلك تبين لهم مصير الحياة الدنيا، وتدعوهم إلى إيثار الآجلة على العاجلة، والباقية على الفانية فتقول :[ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو، وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، سابقوا إلى مغفرة من ربكم، وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ].
٧- ثم تقرر السورة بعد ذلك أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأنه –سبحانه- قد أرسل رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأمرهم بنشر العدل بين الناس، كما أمرهم بإعداد القوة لإرهاب أعداء الحق، لأن الناس في كل زمان ومكان فيهم المهتدون، وفيهم الضالون، كما قال –تعالى- :[ فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ].
٨- ثم ختم –سبحانه- السورة بهذا النداء الحكيم للمؤمنين فقال :[ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكم نورا تمشون به، ويغفر لكم والله غفور رحيم. لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله، وأن الفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ].
٩- وبعد، فهذا عرض مجمل لسورة " الحديد " ومنه نرى أنها زاخرة بالحديث عن مظاهر قدرة الله –تعالى-، وعن صفاته الجليلة.. وعن دعوة المؤمنين إلى التمسك بتعاليم دينهم، تمسكا يكون مقدما على كل شيء من زينة هذه الحياة الدنيا، لأن هذا التمسك يجعلهم يعيشون سعداء في دنياهم، وينالون بسببه الفوز والفلاح في أخراهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدوحة – قطر
مساء الأربعاء ١٦ من رجب سنة ١٤٠٦ ه ٢٦/٣/١٩٨٦ م.
د. محمد سيد طنطاوي.
ﰡ
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
افتتحت سورة «الحديد» بتنزيه الله- تعالى- عن كل ما لا يليق به، وبالثناء عليه- تعالى- بما هو أهله، وببيان جانب من صفاته الجليلة، الدالة على وحدانيته، وقدرته، وعزته، وحكمته، وعلمه المحيط بكل شيء.
افتتحت بقوله- عز وجل-: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وقوله: سَبَّحَ من التسبيح، وأصله الإبعاد عن السوء، من قولهم سبح فلان في الماء، إذا توغل فيه، وسبح الفرس، إذا جرى بعيدا وبسرعة.
والمراد بالتسبيح هنا: تنزيه الله- تعالى- عن كل مالا يليق بجلاله وكماله.
والمعنى: نزه الله- تعالى- وعظمه وخضع له، وانقاد لمشيئته.. جميع ما في السموات والأرض من كائنات ومخلوقات.. لا يعلمها إلا هو- سبحانه-.
وقد جاء التسبيح تارة بصيغة الفعل الماضي كما في هذه السورة، وكما في سورتي الحشر والصف، وتارة بصيغة المضارع، كما في سورتي الجمعة والتغابن، وتارة بصيغة الأمر كما في سورة الأعلى، وتارة بصيغة المصدر كما في سورة الإسراء.
جاء التسبيح بهذه الصيغ المتنوعة، للإشعار بأن تسبيح هذه المخلوقات لله- تعالى- شامل لجميع الأوقات والأحوال.
قال- تعالى- تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «١».
وختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، والعزيز: هو الغالب على كل شيء، إذ العزة معناها: الغلبة على الغير، ومنه قوله تعالى-: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أى: غلبني في الخصام.
وفي أمثال- العرب: من عزّ بزّ، أى: من غلب غيره تفوق عليه.
والحكيم مأخوذ من الحكمة، وهي وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها.
أى: وهو- سبحانه- الغالب الذي لا يغلبه شيء- الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها السليمة.
ثم ذكر- سبحانه- صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أى. له- سبحانه- وحده دون أن يشاركه مشارك، ملك السموات والأرض، إذ هو- تعالى- المتصرف فيهما، والخالق لهما، إن شاء أبقاهما وإن شاء أزالهما.
وملكه- سبحانه- للسموات والأرض، ملك حقيقى، لأنه لا ينازعه فيه منازع، ولا يشاركه مشارك.. بخلاف ملك غيره لبعض متاع الدنيا، فإنه ملك زائل مهما طال، ومفتقر إلى من يحميه ويدافع عنه.
وهذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف، وهي في الوقت نفسه بدل اشتمال مما قبلها إذ الإحياء والإماتة، مما يشتمل عليه ملك السموات والأرض.
وخص- سبحانه- هاتين الصفتين بالذكر، لأنه هو المتفرد بهما، ولا يستطيع أحد أن يدعى أن له عملا فيهما، ومن ادعى ذلك كانت دعواه من قبيل المغالطة والمجادلة بالباطل، إذ الموجد الحقيقي لهما هو الله- عز وجل- وما سواه فهو سبب لهما.
وقوله- تعالى-: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما قبله. أى: وهو- سبحانه- على كل شيء من الأشياء التي من جملتها ما ذكر- قدير على إيجادها أو إعدامها.
ثم ذكر- سبحانه- صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أى: هو- سبحانه- الأول والسابق على جميع الموجودات، إذ هو موجدها ومحدثها ابتداء. فهو موجود قبل كل شيء وجودا لا حد ولا وقت لبدايته.
وَالْآخِرُ أى: الباقي بعد هلاك وفناء جميع الموجودات، كما قال- تعالى-:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.
وآثر لفظ الْآخِرُ على لفظ الباقي ليتم الطباق بين الوصفين المتقابلين...
وهو الظَّاهِرُ أى: الظاهر وجوده عن طريق مخلوقاته التي أوجدها بقدرته إذ من المعروف عند كل عاقل أن كل مخلوق لا بد له من خالق، وكل موجود لا بد له من موجد.
فلفظ الظَّاهِرُ مشتق من الظهور الذي هو ضد الخفاء، والمراد به هنا ظهور الأدلة العقلية والنقلية على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه.
ويجوز أن يكون مشتقا من الظهور، بمعنى الغلبة والعلو على الغير، كما في قوله- تعالى-: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ...
وعليه يكون المعنى: وهو الغالب العالي على كل شيء.
وهو الْباطِنُ من البطون بمعنى الخفاء والاستتار، أى: وهو- سبحانه- المحتجب يكنه ذاته عن أن تدركه الأبصار، أو أن تحيط بحقيقة ذاته العقول، كما قال- تعالى-
ويصح أن يكون الْباطِنُ بمعنى العالم بما بطن وخفى من الأمور يقال: فلان أبطن بهذا الأمر من غيره، أى: أعلم بهذا الشيء من غيره.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أى: وهو- سبحانه- عليم بكل ما في هذا الكون، لا تخفى عليه خافية من شئونه، كما قال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ «٢».
قال ابن كثير: وهذه الآية هي المشار إليها في حديث عرباض بن معاوية أنها أفضل من ألف آية.
وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية على نحو بضعة عشر قولا وقال البخاري:
قال يحيى: الظاهر على كل شيء علما والباطن على كل شيء علما.
وروى الإمام مسلم- في صحيحه-، والإمام أحمد- في مسنده- عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ كان يدعو عند النوم فيقول: «اللهم رب السموات ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر..» «٣».
ثم ساق- سبحانه- ألوانا أخرى من الأدلة التي تدل على وحدانيته وقدرته فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ.
والأيام: جمع يوم، واليوم في اللغة مطلق الوقت، أى: في ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله- تعالى-. وقيل: هذه الأيام من أيام الدنيا.
والاستواء في اللغة: يطلق على الاستقرار، كما في قوله- تعالى- وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ أى استقرت سفينة نوح- عليه السلام- عند ذلك الجبل المسمى بذلك الاسم..
كما يطلق بمعنى القصد، ومنه قولهم: استوى إلىّ يخاصمني، أى: قصد لي. كما يطلق بمعنى الاستيلاء والقهر، ومنه قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق.
(٢) سورة آل عمران الآية ٣.
(٣) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٠٢.
وقد ذكر العرش في إحدى وعشرين آية من القرآن الكريم، كما ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات.
أى: هو- سبحانه- الذي خلق السموات والأرض في ستة أوقات، ثم استوى على العرش، استواء يليق به- تعالى-. بلا كيف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، لاستحالة اتصافه- تعالى: بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
قال الإمام مالك- رحمه الله- الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ثم بين- سبحانه- شمول علمه فقال: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها.
وقوله: يَلِجُ من الولوج بمعنى الدخول، يقال: ولج فلان بيته، إذا دخله.
وقوله: يَعْرُجُ من العروج وهو الذهاب في صعود، والسماء، جهة العلو مطلقا.
أى أنه- سبحانه- يعلم ما يلج في الأرض، وما يدخل فيها من ماء نازل من السماء، ومن جواهر وكنوز قد طويت في باطنها، ومن بذور ومعادن في طياتها.
ويعلم- أيضا- ما يَخْرُجُ مِنْها من نبات وحبوب وكنوز، وغير ذلك من أنواع الخيرات، ويعلم- كذلك- ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من أمطار، وثلوج، وبرد، وصواعق، وبركات، من عنده- تعالى- لأهل الأرض.
ويعلم- أيضا- ما يصعد فيها من الملائكة، ومن الأعمال الصالحة، كما قال- تعالى- إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
وعدى العروج بحرف في، لتضمنه معنى الاستقرار، وهو في الأصل يعدى بحرف إلى، كما في قوله- تعالى-: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وقوله- سبحانه-: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أى: وهو معكم بعلمه ولطفه ورحمته..
أينما كنتم وحيثما وجدتم.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: وهو معكم أينما كنتم تمثيل لإحاطة علمه- تعالى-
وقد أول السلف هذه الآية بذلك، أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها: عالم بكم أينما كنتم.
وأخرج- أيضا- عن سفيان الثوري انه سئل عنها فقال: علمه معكم.
وفي البحر: أنه أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى: والله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أقوالكم أو أفعالكم.. بل هو مطلع عليكم اطلاعا تاما.
ثم أكد- سبحانه- كمال قدرته فقال لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: له- سبحانه- التصرف الكلى في السموات والأرض. وفيما فيهما من موجودات، من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أى: وإلى الله- تعالى- وحده لا إلى غيره، مرد الأمور كلها، والحكم عليها، والتصرف فيها.. وليس إلى أحد غيره لا على سبيل الاستقلال، ولا على سبيل الاشتراك.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أى: يدخل- سبحانه- طائفة من الليل في النهار، فيقصر الليل ويزيد النهار ويدخل طائفة من النهار في الليل، فيقصر النهار، ويزيد الليل، ثم يسيران على هذا النظام البديع، دون أن يسبق أحدهما الآخر.
وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ و «ذات» هنا مؤنث ذو بمعنى صاحب.
أى: وهو- سبحانه- عليم علما تاما بمكنونات الصدور، وما تضمره من خير أو شر وما يتردد فيها من خواطر وأفكار.
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة من أول السورة إلى هنا، يراها قد اشتملت على بضع عشرة صفة، من صفات الله عز وجل- الدالة على وجوب إخلاص العبادة له، والانقياد لأمره ونهيه.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٧ الى ١١]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
والخطاب في قوله- تعالى-: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الناس جميعا ويدخل فيه المؤمنون دخولا أوليا، ويكون المقصود بدعوتهم إلى الإيمان المداومة عليه والتمسك بتعاليمه، وتنفيذ توجيهاته.. كما قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ، وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ «١».
وقوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ بيان لما يقتضيه هذا الإيمان.
وقوله: مُسْتَخْلَفِينَ اسم مفعول من الاستخلاف، بمعنى أن يخلف الإنسان غيره، أو أن يخلفه غيره من بعده.
قال القرطبي: قوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ دليل على أن أصل الملك لله- سبحانه- وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضى الله فيثيبه على ذلك بالجنة، فمن أنفق منها في حقوق الله، وهان عليه الإنفاق منها، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الأجر الجزيل.
وقال الحسن: مستخلفين فيه: ورثتكم إياه عمن كان قبلكم.
وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم إلا بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق، قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم «١».
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهؤلاء المنفقين فقال: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ إيمانا حقا..
وَأَنْفِقُوا أموالهم فيما يرضى الله- تعالى- لَهُمْ منه- عز وجل- أَجْرٌ كَبِيرٌ لا يعلم مقداره إلا الله- تعالى-.
ثم رغبهم- سبحانه- في الثبات على الإيمان بالله ورسوله فقال: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أى: وأى مانع يمنعكم من الثبات على الإيمان. ومن القيام بتكاليفه، ومن إخلاص العبادة له- تعالى- وحده، والحال أن الرسول ﷺ بينكم صباح مساء، يدعوكم إلى الإيمان بربكم، وقد أخذ- سبحانه- عليكم العهود والمواثيق على هذا الإيمان، عن طريق ما ركب فيكم من عقول تعقل، وعن طريق ما نصب لكم من أدلة متنوعة كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله الواحد القهار.
قال: الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: أى: وأى شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به. وقد روينا في الحديث من طرق، في أوائل شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري، أن رسول الله ﷺ قال يوما لأصحابه: «أى المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟» قالوا: الملائكة.
وقوله- تعالى-: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ كما قال- تعالى-: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ، إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا.. ويعنى بذلك بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وزعم ابن جرير: أن المراد بذلك: الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم «١».
وجواب الشرط في قوله- تعالى-: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ محذوف لدلالة ما قبله عليه.
أى: إن كنتم مؤمنين لسبب من الأسباب، فعلى رأس هذه الأسباب وجود الرسول ﷺ بينكم يدعوكم إلى هذا الإيمان ويقنعكم بوجوب الاعتصام به.
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على نبيه ﷺ وعليهم فقال: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
والرءوف: مبالغة في الاتصاف بالرأفة، ومعناها: كراهية إصابة الغير بما يضره أو يؤذيه.
والرحيم: مبالغة في الاتصاف بصفة الرحمة. ومعناه: محبة إيصال الخير والنفع إلى الغير.
أى: هو- سبحانه- وحده الذي ينزل على عبده ورسوله محمد ﷺ آياتٍ بَيِّناتٍ أى: حججا واضحات، ودلائل باهرات، لكي يخرجكم من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإيمان والعلم.
وإن الله- تعالى- بكم- أيها الناس- لكثير الرأفة والرحمة، حيث أنزل إليكم كتابه، وأرسل إليكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكما حضهم- سبحانه- على الثبات على الإيمان.. حضهم أيضا مرة أخرى على الإنفاق في سبيله بأبلغ أسلوب، فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
والاستفهام في قوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا.. للتعجيب من حال من يمسك عن الإنفاق في سبيل الله، مع أن كل المقتضيات تدعوه إلى هذا الإنفاق. والكلام في قوله
وإضافة ميراث إلى السموات والأرض، من إضافة المصدر إلى المفعول أى: وأى سبب يحملكم على البخل وعدم الإنفاق في سبيل إعلاء كلمة الله، والحال أن لله- تعالى- ميراث أهل السموات وأهل الأرض.
إنه لا عذر لكم في الشح والإمساك بعد أن بينت لكم ما بينت من وجوب الإنفاق في سبيل الله.
قال الآلوسى: قوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: يرث كل شيء فيهما، ولا يبقى لأحد مال، على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما، لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف. وجوز أن يراد: يرثهما وما فيهما، واختير الأول، لأنه يكفى لتوبيخهم، إذ لا علاقة لأخذ السموات والأرض هنا.. والجملة مؤكدة للتوبيخ، فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر، ومع تحقيق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح، وأدخل في الإنكار «١».
ثم قال- تعالى-: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا.
والمراد بمن أنفق من قبل الفتح وقاتل: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين أنفقوا الكثير من أموالهم، قيل فتح مكة... وقيل: المراد بالفتح: صلح الحديبية.
وإنما كان الذين أنفقوا وقاتلوا قبل هذا الوقت، أعظم درجة ممن فعل ذلك بعد هذا الوقت، لأن الأيام التي سبقت الفتح تعرض المسلمون خلالها لكثير من المصائب والخوف والجوع ونقص الثمرات.. فكان الإنفاق والجهاد فيها أشق على النفس، والثواب على قدر المشقة.
أى: لا يستوي منكم- أيها المؤمنون- في الفضيلة والدرجة من أنفق الكثير من ماله، من قبل أن تفتح مكة، وجاهد في سبيل الله- تعالى- جهادا كبيرا، أولئك الذين فعلوا ذلك، أعظم درجة ومنزلة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد أن فتحت مكة.
فالجملة الكريمة بيان لتفاوت الدرجات، على حسب تفاوت الأحوال والأعمال، وعطف- سبحانه- القتال في قوله وَقاتَلُوا على الإنفاق في قوله: أَنْفَقُوا للإشعار بشدة ارتباطهما، وأنه لا غنى لأحدهما عن الآخر.
فتح الحديبية... وفي الكلام حذف. أى: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقائل، فحذف لدلالة الكلام عليه.
وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق، والأجر على قدر النصب «١».
وقوله- تعالى-: مَنْ أَنْفَقَ.. عام يشمل جميع من بذل ماله قبل الفتح في سبيل الله.
وقيل: المراد به أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق.
وقوله- عز وجل-: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى مدح للفريقين، ودفع للتوهم من أن يظن ظان أن الفريق الثاني وهو الذي أنفق من بعد الفتح وقاتل، محروم من الأجر.
أى: وكلا الفريقين وعده الله- تعالى- المثوبة الحسنى وهي الجنة، إلا أن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد ذلك.
فهذه الآية أصل في تفاضل أهل الفضل فيما بينهم، وأن الفضل ثابت لهم جميعا إلا أنهم تفاوتوا على حسب أعمالهم وجهادهم وسبقهم.
ثم حتم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أى: أنه- تعالى- لا تخفى عليه خافية من أعمالكم الظاهرة أو الباطنة فأخلصوا أقوالكم وأفعالكم لله- تعالى- لتنالوا أجره وثوابه.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث التي تدل على فضل الصحابة- رضوان الله عليهم- ومنها ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: «لا تسبوا أصحابى، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» «٢».
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة، بتحريض أشد وأقوى على الإنفاق في وجوه الخير، فقال- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٠٦.
أعطاه ما يتجازاه واستقرضت من فلان أى: طلبت منه القرض فأقرضنى، واقترضت منه أى: أخذت منه القرض. وأصل الكلمة: القطع. ومنه المقراض، وأقرضته، أى: قطعت له من مالي قطعة يجازى عليها.
ثم قال: والتعبير بالقرض في هذه الآية، إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغنى الحميد، لكنه- تعالى- شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء» «١».
والقرض الحسن: هو الإنفاق من المال الحلال، مع صدق النية، دون رياء أو سمعة. أو منّ أو أذى مع تحرى أوسط الأموال.
والاستفهام: للحض على البذل والعطاء، والتحريض على التحلي بمكارم الأخلاق.
ومَنْ اسم استفهام مبتدأ، وذَا اسم إشارة خبره، والَّذِي وصلته صفة لاسم الإشارة، أو بدل منه.
والمعنى: من هذا المؤمن القوى الإيمان، الذي يقدم ماله في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، وفي غير ذلك من وجوه الخير كمعاونة المحتاجين، وسد حاجة البائسين... فَيُضاعِفَهُ لَهُ أى: فيعطيه- سبحانه- أجره على إنفاقه أضعافا مضاعفة.
وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ، أى: ولهذا المنفق- فضلا عن كل ذلك- أجر كريم عند خالقه، لا يعلم مقداره إلا هو- تعالى-.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، قد اشتملت على ألوان من الحض على الإنفاق في وجوه الخير.
ومن ذلك التعبير بالاستفهام في ذاته، لأنه للتنبيه وبعث النفوس إلى التدبر والاستجابة.
ومن ذلك- أيضا- التعبير بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي.. إذ لا يستفهم بتلك الطريقة إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر، وكأن المخاطب لعظم شأنه، من شأنه أن يشار إليه، وأن يجمع له بين اسم الإشارة وبين الاسم الموصول.
ومن ذلك تسميته ما يبذله الباذل قرضا، ولمن هذا القرض؟ إنه لله الذي له خزائن السموات والأرض.
ومن ذلك إخفاء مرات المضاعفة، وضم الأجر الكريم إليها.
ومن ذلك التعبير عن الإنفاق بالقرض، إذ القرض معناه: إخراج المال. وانتظار ما يقابله من بدل.
والخلاصة أن هذه الآية وما قبلها، فيها ما فيها من الدعوة إلى الإنفاق في وجوه الخير، وإلى الجهاد في سبيل الله.
ثم بين- سبحانه- ما أعده للمؤمنين الصادقين من ثواب، وساق جانبا مما يدور بينهم وبين المنافقين من محاورات.. فقال- تعالى-:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
وقوله- تعالى- يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ منصوب بفعل مقدر، والرؤية بصرية، والخطاب لكل من يصلح له.
أى: يتحرك نورهم معهم من أمامهم، ومن جهة يمينهم، على سبيل التشريف والتكريم لهم.
قال ابن كثير: يقول- تعالى- مخبرا عن المؤمنين المتصدقين، أنهم يوم القيامة، يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة بحسب أعمالهم، كما قال عبد الله بن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، ويمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم «١».
وعطف- سبحانه- الْمُؤْمِناتِ على الْمُؤْمِنِينَ للتنبيه على أن كلا من الذكر والأنثى. له أجره على عمله الصالح، بدون إجحاف أو محاباة لجنس على جنس، كما قال- تعالى-: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «٢».
والباء في قوله: وَبِأَيْمانِهِمْ بمعنى عن. واقتصر على ذكر الأيمان على سبيل التشريف لتلك الجهة، والمراد أن نورهم يحيط بهم من جميع جوانبهم.
وقوله: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ مقول لقول محذوف.
وقوله: بُشْراكُمُ اسم مصدر من بشر. أى: أخبر بما يسر.
والمعنى: تقول لهم الملائكة على سبيل التكريم والتحية: نبشركم اليوم بجنات عظيمة.
تجرى من تحت ثمارها وأشجارها الأنهار العذبة، حالة كونكم خالدين فيها خلودا أبديا، وذلك الذي أنتم فيه من نور يسعى بين أيديكم، ومن جنات أنتم خالدون فيها.. هو الفوز العظيم، الذي لا يعادله فوز أو فلاح.
وقوله- عز وجل-: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بدل من قوله- تعالى- يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ.
أى: واذكر- أيها العاقل- أيضا- يوم يقول المنافقون والمنافقات، الذين أظهروا الإسلام، وأبطنوا الكفر، يقولون للذين آمنوا، على سبيل التذلل والتحسر.
(٢) سورة النحل الآية ٩٧.
قال الآلوسى: انْظُرُونا أى: انتظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه، وذلك بأن يلحقوا بهم، فيستنيروا به.. وأصل الاقتباس طلب القبس، أى الجذوة من النار.
وقولهم للمؤمنين ذلك، لأنهم في ظلمة لا يدرون كيف يمشون فيها. وروى أن ذلك يكون على الصراط «١».
وقوله- سبحانه- قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً حكاية لما يرد به عليهم المؤمنون، أو الملائكة.
أى: قال المؤمنون في ردهم على هؤلاء المنافقين: ارجعوا وراءكم حيث الموقف الذي كنا واقفين فيه فالتمسوا منه النور، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا، عن طريق تحصيل سببه وهو الإيمان، أو ارجعوا خائبين فلا نور لكم عندنا.
وهذا القول من المؤمنين لهم، على سبيل التهكم بهم، إذ لا نور وراء المنافقين.
وقوله: وَراءَكُمْ تأكيد لمعنى ارْجِعُوا إذ الرجوع يستلزم الوراء.
ثم بين- سبحانه- ما حدث للمنافقين بعد ذلك فقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ.
أى: فضرب بين المؤمنين وبين المنافقين يحاجز عظيم، هذا الحاجز العظيم، والسور الكبير لَهُ بابٌ باطن هذا الباب مما يلي المؤمنين فِيهِ الرَّحْمَةُ أى: فيه الجنة، وظاهر هذا الباب مما يلي المنافقين مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ.
أى: يأتى من جهته العذاب. قالوا: وهذا السور، هو الحجاب المذكور في سورة الأعراف في قوله- تعالى-: وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ.
والمقصود بهذه الآية الكريمة، بيان أن المؤمنين في مكان آمن تحيط به الجنة، أما المنافقون ففي مكان مظلم يؤدى بهم إلى النار وبئس القرار.
ثم حكى- سبحانه- أن المنافقين لم يكتفوا بهذا الرجاء للمؤمنين، بل أخذوا ينادونهم في تحسر وتذلل فيقولون لهم- كما حكى القرآن عنهم-: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ.
قالُوا بَلى أى: قال المؤمنون للمنافقين: بل كنتم معنا في الدنيا تنطقون بالشهادتين.
وَلكِنَّكُمْ في الدنيا فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أى: أظللتم أنفسكم بالنفاق الذي هو كفر باطن، وإسلام ظاهر.
وَتَرَبَّصْتُمْ والتربص: الانتظار والترقب، أى: وانتظرتم وقوع المصائب بالمؤمنين.
وَارْتَبْتُمْ أى: وشككتم في الحق الذي جاءكم به الرسول ﷺ وأعرضتم عنه.
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ والأمانى: جمع أمنية، وهي ما يمنون به أنفسهم من الباطل.
كزعمهم أنهم مصلحون، وأنهم على الحق، وأن المسلمين على الباطل.
حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أى: بقيتم على الفتنة، والارتياب، والتربص، والاغترار بالباطل، حتى جاءكم أمر الله، وهو قضاؤه فيكم بالموت.
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أى: وخدعكم في سعة رحمة الله الشيطان. فأطمعكم بأنكم ستنجون من عقابه- تعالى- مهما فتنتم أنفسكم وتربصتم بالمؤمنين وارتبتم في كون الإسلام حق.
وها أنتم الآن ترون سوء عاقبة نفاقكم، وإصراركم على كفركم.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ أيها المنافقون فِدْيَةٌ وهي ما يبذل من أجل افتداء النفس من العذاب.
وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أى: ولا يؤخذ- أيضا- من الذين كفروا ظاهرا وباطنا فداء.
مَأْواكُمُ جميعا النَّارُ. أى: المكان الذي تستقرون فيه، هو النار.
هِيَ مَوْلاكُمْ أى: هذه النار هي أولى بكم من غيرها. والأصل هي مكانكم الذي يقال فيه أولى بكم.
ويجوز أن يكون المعنى: هذه النار: هي ناصركم، من باب التهكم بهم، على حد قول الشاعر: تحية بينهم ضرب وجيع... أى: لا ناصر لكم إلا النار.
والمراد نفى الناصر لهم على سبيل القطع، بعد نفى أخذ الفدية منهم. «١»
ويجوز أن يراد: هي ناصركم. أى: لا ناصر لكم غيرها. والمراد: نفى الناصر على البتات، ونحوه قولهم أصيب فلان بكذا فاستنصر بالجزع. ومنه قوله- تعالى- وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ.
وقيل: هي مولاكم، أى تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.
وعطف- سبحانه- الذين كفروا على المنافقين في عدم قبول الفدية، لاتحادهم في التكذيب بيوم الدين، وفي الاستهزاء بالحق الذي جاءهم من عند الله- تعالى-.
والمخصوص بالذم في قوله- تعالى-: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ محذوف والتقدير: وبئس المصير جهنم التي هي المكان الذي تصيرون إليه.
فأنت ترى أن المؤمنين قد بينوا للمنافقين، أنهم يوافقونهم على أنهم كانوا معهم في الدنيا.
ولكن الذي أدى بهؤلاء المنافقين إلى هذا المصير الأليم هو: فتنة أنفسهم، والتربص بالمؤمنين، والارتياب في صدق الرسول ﷺ والاغترار بخداع الشيطان.. فما نزل بهم من عذاب إنما هو بسبب أفعالهم القبيحة.
وبعد هذا الحديث المؤثر عن المؤمنين ونورهم، وعن المنافقين وظلماتهم وعن تلك المحاورات التي تدور بينهم.. بعد كل ذلك حرض- سبحانه- المؤمنين، على أن يروضوا أنفسهم على خشية الله- تعالى- وحذرهم من أن ينهجوا نهج أهل الكتاب في قسوة القلب، ووعد- سبحانه- المؤمنين الصادقين بالأجر الجزيل، وبالنور العظيم، فقال- تعالى-:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٦ الى ١٩]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
أنى الشيء- كرمى- أنيا وأناء- بالفتح- وإنى- بالكسر- إذا حان أناه، أى: وقته، فهو فعل معتل حذفت منه الياء لسبقه بلم الجازمة، ومنه قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أى غير ناظرين حلول وقته.
والخطاب في الآية يحتمل أن يكون من باب العتاب لطائفة من المؤمنين، أصابهم بعض الفتور أو التكاسل، فيما أمروا به من الاجتهاد في طاعة الله- تعالى- بعد أن فتح الله- تعالى- لهم أقطار الأرض ورزقهم بالكثير من لين العيش، وخيرات الدنيا.
ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المبارك، وعبد الرازق، وابن المنذر عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله ﷺ المدينة، فأصابوا من لين العيش ما أصابوا. بعد أن كان لهم من الجهد- وشظف العيش فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه، فعوتبوا على ذلك فنزلت هذه الآية.
ويحتمل أن يكون الخطاب في الآية لجميع المؤمنين، على سبيل الحض على المداومة على طاعة الله- تعالى-، والتحذير من التقصير.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله- تعالى-: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ.
استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا إليه، والمعاتب- على ما قاله الزجاج- طائفة منهم، وإلا فإن من المؤمنين من لم يزل خاشعا منذ أن أسلم إلى أن لقى ربه «١».
وقيل: المراد به: القرآن الكريم، فيكون قوله- تعالى- بعد ذلك وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ من باب عطف الشيء على نفسه، لاختلاف اللفظين، كما في قوله- تعالى-:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى.
والمعنى: لقد آن الأوان أن تخشع قلوب المؤمنين لذكر الله- تعالى- وأن تلين قلوبهم لما أنزله- سبحانه- على نبيه ﷺ من قرآن، تقشعر منه جلود الذين يخافون ربهم، وترق له مشاعرهم ونفوسهم.
وبعد هذا التحريض للمؤمنين على المسارعة في طاعة الله- تعالى- وخشيته والإكثار من ذكره: نهاهم- سبحانه- عن التشبه بأهل الكتاب، الذين طال عليهم الأمد في الانغماس في شهوات الدنيا فقست قلوبهم فقال- تعالى- وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، وبالكتاب: التوراة والإنجيل.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى-: تَخْشَعَ والأمد: الغاية من زمان أو مكان. والمراد به هنا: الزمان الطويل.
أى: لقد آن الأوان أن تخشع قلوب الذين آمنوا لذكر الله وما نزل من الحق، وآن الأوان- أيضا- أن لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم، حيث طال عليهم الوقت وهم منغمسون في الشهوات والملذات، فقست قلوبهم، وصارت لا تتأثر لا بالترغيب ولا بالترهيب، ولا تفرق بين الحرام والحلال. وأصبح كثير منهم خارجين عن الصراط المستقيم.
فأنت ترى الآية الكريمة قد حضت المؤمنين على الركون إلى ذكر الله- تعالى- بشدة ومداومة.. ونهتهم عن التشبه بأهل الكتاب في عدم الخشوع وفي قسوة القلوب، بسبب استيلاء المطامع والشهوات على قلوبهم.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: قوله- تعالى-: أَلَمْ يَأْنِ من أنى الأمر إذا جاء أناه أى: وقته.. والآية نهى للمؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب، وذلك ان بنى إسرائيل، كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا ورقت
فإن قلت: ما معنى لذكر الله وما نزل من الحق؟ قلت: يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق القرآن، لأنه جامع للأمرين: الذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء.
وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله. وإذا تلى القرآن، كقوله- تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً «١».
والآية الكريمة تشير إلى أن الإهمال لذكر الله، والاسترسال في الشهوات كل ذلك يؤدى إلى فسوة القلوب، وإلى الفسوق عن أمر الله- تعالى-.
ولذا وجدنا كثيرا من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، تحض على الإكثار من ذكر الله- تعالى- قال- سبحانه-: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
وفي الحديث الشريف: يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يقعد قوم يذكرون الله- تعالى- إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم فيمن عنده».
ولقد كان سماع الآية الكريمة، بتدبر وتفكر وخشوع، على رأس الأسباب التي أدت إلى توبة بعض العصاة توبة صادقة نصوحا.
فهذا هو الفضل بن عياض يذهب ليلا لارتكاب ما نهى الله عنه، فيسمع قارئا يقرأ هذه الآية، فيرتجف ويعود أدراجه وهو يقول: بلى والله قد آن أوان الخشوع لذكر الله.. اللهم إنى تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام «٢».
ثم وجه- سبحانه- خطابه إلى المؤمنين فقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
وافتتاح الآية بقوله- تعالى-: اعْلَمُوا. يؤذن بأن ما سيلقى على مسامعهم من توجيهات، جدير بالانتباه إلى مضمونه، وإلى الامتثال لما اشتمل عليه من أمر أو نهى.
وليس المقصود من الآية إخبار المؤمنين بأن الله- تعالى- قادر على إحياء الأرض بعد موتها، فذلك أمر يعتقدونه، ولا يتم إيمانهم إلا به.
وإنما المقصود من هذه الآية الكريمة، بيان أن المواظبة على ذكر الله- تعالى- وعلى تلاوة
(٢) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٢٥١.
قال الإمام الرازي: قوله- تعالى-: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. فيه وجهان:
الأول: أنه تمثيل. والمعنى: أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة، المواظبة على الذكر سبب لعودة حياة الخشوع إليها، كما يحيى الله- تعالى- الأرض بالغيث.
والثاني: أن المراد من قوله: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، بعث الأموات فذكر ذلك ترغيبا في الخشوع والخضوع، وزجرا عن القساوة «١».
والمراد بالآيات في قوله- تعالى-: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الدلائل الدالة على وحدانيته وقدرته، وعلمه- سبحانه-.
أى: قد بينا لكم الدلائل والبراهين الناطقة بقدرتنا وحكمتنا.. لعلكم بهذا البيان تعقلون ما أرشدناكم إليه، وتعملون بموجب ما عقلتموه، وبذلك تنالون الفلاح والسعادة، وتخشع قلوبكم لذكرنا ولآياتنا.
ثم بين- سبحانه- ما أعده للمؤمنين الذين يبذلون أموالهم في سبيله. والذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فقال: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، يُضاعَفُ لَهُمْ، وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
وقراءة: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بتشديد الصاد- من التصدق، فأدغمت التاء في الصاد بعد قلبها صادا لقرب مخرجيهما... وأصل الكلام: المتصدقين والمتصدقات.
وقرأ ابن كثير وغيره إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ- بتخفيف الصاد- على أنه من التصديق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: علام عطف قوله: وَأَقْرَضُوا؟
قلت: على معنى الفعل في المصدقين، لأن «أل» بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى:
اصّدقوا، فكأنه قيل: «إن الذين أصدقوا وأقرضوا» «٢».
والمعنى: إن المؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا بأموالهم في وجوه الخير والدين وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن أنفقوا أموالهم الحلال في سبيل الله بدون من أو أذى.
(٢) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٥.
وَلَهُمْ فضلا عن كل ذلك، أجر كريم، لا يعلم مقداره إلا هو- سبحانه-.
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ مبتدأ.
وقوله: أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ خبره، والذين آمنوا بالله ورسله إيمانا حقا- لهم منزلة الصديقين: منزلة المبالغين في الصدق واليقين.
فالصديق- بتشديد الدال- هو المبالغ في الصدق بما جاءه به الرسول ﷺ وفي تنفيذ ما كلف به تنفيذا تاما.
وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ وهم الذين استشهدوا في سبيل الله- تعالى-: لَهُمْ أَجْرُهُمْ العظيم عند الله- تعالى- وَنُورُهُمْ الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يوم القيامة لهم كذلك.
فعلى هذا التفسير يكون قوله: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ مبتدأ، وجملة لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ، خبره، ويكون الوقف على الصِّدِّيقُونَ وقفا تاما.. والضمائر في لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ للشهداء.
ويصح أن يكون قوله وَالشُّهَداءُ معطوف على الصِّدِّيقُونَ عطف المفرد على المفرد، فهو عطف على الخبر. أى: وهم الشهداء عند ربهم.. ويكون الوقف على الشهداء تاما، وأخبر- سبحانه- عن الذين آمنوا بالله ورسله، أنهم صديقون وشهداء.
والمعنى على هذا الوجه: والذين آمنوا بالله ورسله، أولئك هم الذين في حكمه- تعالى- بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة، ورفعة الدرجة.
وقوله- تعالى- عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أى: للذين آمنوا بالله ورسله عند ربهم، مثل أجر الصديقين والشهداء ولهم مثل نورهم يوم القيامة، وناهيك به من أجر عظيم، ونور عميم.
وحذف ما يفيد التشبيه في الجملتين، للتنبيه على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: يريد أن المؤمنين بالله ورسله، هم عند الله- تعالى- بمنزلة الصديقين والشهداء، وهم الذين سبقوا إلى التصديق، واستشهدوا في سبيل الله.
وقوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أى: لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم.
فإن قلت: كيف يسوى بينهم في الأجر ولا بد من التفاوت؟ قلت: المعنى أن الله
ويجوز أن يكون قوله: وَالشُّهَداءُ مبتدأ، وقوله، لَهُمْ أَجْرُهُمْ خبره... «١».
وقوله- تعالى-: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ بيان لسوء عاقبة الكافرين، بعد بيان حسن عاقبة المؤمنين الصادقين.
أى: والذين كفروا بالله ورسله، وكذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا أولئك أصحاب الجحيم، الملازمون لها ملازمة الشيء لصاحبه.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حضت المؤمنين على المواظبة على ذكر الله- تعالى- وطاعته ونهتهم عن التشبه بالذين قست قلوبهم، وبشرت المصدقين والمصدقات، والذين آمنوا بالله- تعالى- وبرسله إيمانا حقا.. بالأجر العظيم، وبالعطاء الجزيل.
ثم بين- سبحانه- حال الحياة، التي ركن إليها الكافرون، واطمأنوا بها.. ودعا المؤمنين إلى أن تكون هممهم متجهة نحو الآخرة، عن طريق التسلح بالأعمال الصالحة. فقال- تعالى-:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
وَلَهْوٌ واللهو: اسم لفعل أو قول يقصد من ورائه التلذذ والتمتع، وصرف الآلام والهموم عن النفس.
وَزِينَةٌ الزينة اسم لما يتزين به الإنسان من ملبس أو مسكن أو ما يشبههما مما يفعله من أجل أن يكون في أعين الناس مهيبا جميلا.
وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ أى: وتفاخر فيما بينكم بالأموال والمناصب والأحساب والأعمال..
وتكاثر في الأموال والأولاد، والتكاثر تفاعل من الكثرة- كما أن التفاخر تفاعل من الفخر- وصيغة التفاعل جيء بها هنا، للمبالغة في إظهار ما يتفاخرون به، وما يتكاثرون فيه، حتى لكأنه ينافس غيره في ذلك ويريد الظهور عليه.
والحرص على التفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد، من طبيعة كثير من الناس، كما قال- تعالى-: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ.
ثم بين- سبحانه- حال الحياة الدنيا، التي يلعب الناس فيها، ويلهون ويتفاخرون.
ويتكاثرون.
فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ.
أى: هذه الحياة الدنيا حالها وصفتها ومثلها كمثل مطر أعجب الكفار وراقهم وسرهم، ما ترتب على هذا المطر، من نبات جميل نبت من الأرض بعد هطول الغيث عليها.
فقوله- تعالى-: كَمَثَلِ خبر لمبتدأ محذوف، أى: مثلها كمثل مطر.
والمراد بالكفار هنا: الجاحدون لنعم الله- تعالى- الساترون لها، وخصوا بالذكر، لأنهم أشد إعجابا وسرورا وانغماسا في زينة الحياة الدنيا من غيرهم.
وروى عن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- أن المراد بالكفار هنا: الزراع الذين يزرعون الأرض بعد نزول المطر عليها، ويبذرون فيها البذور سموا كفارا من الكفر بمعنى
وقوله- سبحانه-: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً.
والهيجان: الاضطراب والثوران، ومنه سميت الحرب بالهيجاء، لأن فيها يضطرب المقاتلون، ويثور بعضهم على بعض.
ويرى بعضهم أن معنى يَهِيجُ هنا: ييبس ويجف.
وعطف- سبحانه- جملة يَهِيجُ بحرف ثُمَّ لإفادة التراخي الرتبى، إذ أن وصول النبات إلى درجة من الهيجان وبلوغ منتهاه، لا يتأتى إلا بعد زمن طويل من بدء زراعته.
ولم يرتض بعض المحققين هذا المعنى فقال: تفسير يَهِيجُ بييبس فيه تسامح، فإن حقيقته أن يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له. أى: من الطول والغلظ «١».
أى: ثم يتحرك هذا النبات الذي أعجب الكفار إلى أقصى ما يتأتى له من طول وقوة، ثم يبدأ في الضعف، فتراه- أيها الناظر إليه- نباتا مصفرا متغيرا عما كان عليه من النضرة، آخذا في الذبول وفي التهيؤ للحصاد، ثم يكون بعد ذلك حطاما، أى: نباتا محطما مكسرا.
والمقصود بقوله- تعالى- كَمَثَلِ غَيْثٍ.. إلخ التقرير والتأكيد لما وصفت به الدنيا من كونها لعبا ولهوا وزينة.
وتشبيهها في سرعة زوالها، وانقضاء نعيمها، وقلة فائدتها.. بحال نبات ظهر على الأرض بعد هطول المطر عليها، واستمر في ظهوره وجماله ونضرته وهيجانه، لفترة مّا من الحياة، أعجب خلالها الكفار به، ثم حل بهذا النبات اليانع الاصفرار والاضمحلال حتى صار حطاما مفتتا تذروه الرياح.
والمقصود بهذا التشبيه، زجر الناس عن الركون إلى الحياة الدنيا ركونا ينسون معه فرائض الله- تعالى- وتكاليفه التي كلفهم بها- سبحانه-.
وعطف- سبحانه-: فَتَراهُ مُصْفَرًّا بالفاء للإشعار بقصر المسافة، مهما طالت في عرف الناس- بين نضرة الزرع واستوائه، وبين اصفراره ونهايته.
قال صاحب الكشاف- رحمه الله-:
أراد- سبحانه- أن الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور، وهي اللعب واللهو | وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام. |
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان عظم الآخرة، وهوان الدنيا فقال: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أى: لمن كفر بالله- تعالى- وفسق عن أمره.
وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ أى: لمن آمن بالله- تعالى- واتبع ما جاء به الرسول ﷺ وحافظ على أداء ما كلف به بإخلاص وحسن اقتداء.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أى: وما أحوال الحياة الدنيا وما اشتملت عليه من شهوات، إلا متاع زائل، لا يقدم عليه، ولا يتشبع به إلا من خدع بزخرفه، واغتر بمظهره.
فالمراد بالغرور: الخديعة، مصدر غره. أى: خدعه وأطمعه بالباطل.
ثم أمرهم- سبحانه- بالمسارعة الى ما يسعدهم، بعد أن بين لهم حال الحياة الدنيا فقال: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.
وقوله- تعالى- سابِقُوا من المسابقة وهي محاولة أن يسبق الإنسان غيره.
ومِنْ في قوله مِنْ رَبِّكُمْ ابتدائية، والجار والمجرور صفة المغفرة.
أى: سارعوا- أيها المؤمنون- مسارعة السابقين لغيرهم، إلى مغفرة عظيمة كائنة من ربكم.
فالتعبير بقوله: سابِقُوا لإلهاب الحماس وحض النفوس إلى الاستجابة لما أمروا به، حتى لكأنهم في حالة مسابقة يحرص كل قرين فيها إلى أن يسبق قرينه.
وقوله: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ... معطوف على المغفرة. أى:
سابقوا غيركم- أيها المؤمنون- إلى مغفرة عظيمة من ربكم، وإلى جنة كريمة هذه الجنة عرضها وسعتها ورحابتها.. كسعة السماء والأرض.
وهذه الجنة قد أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إيمانا حقا، جعلهم لا يقصرون في أداء واجب من الواجبات التي كلفهم- سبحانه- بها.
قال الإمام الفخر الرازي ما ملخصه: في كون الجنة عرضها كعرض السماء والأرض وجوه:.
ومنها: أن المقصود المبالغة في الوصف بالسعة للجنة، وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما «١».
وخص- سبحانه- العرض بالذكر، ليكون أبلغ في الدلالة على عظمها، واتساع طولها، لأنه إذا كان عرضها كهذا، فإن العقل يذهب كل مذهب في تصور طولها، فقد جرت العادة أن يكون الطول أكبر من العرض.
قال الإمام ابن كثير: وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل- ملك الروم- كتب إلى النبي ﷺ فقال: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار» «٢».
واسم الإشارة في قوله- تعالى-: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يعود إلى الذي وعد الله- تعالى- به عباده المؤمنين من المغفرة والجنة.
أى: ذلك العطاء الجزيل فضل الله- تعالى- وحده وهو صاحب الفضل العظيم لا يعلم مقداره إلا هو- عز وجل-.
فأنت ترى أن الله- تعالى- بعد أن بين حال الحياة الدنيا. دعا المؤمنين إلى المسابقة إلى العمل الصالح، الذي يوصلهم الى ما هو أكرم وأبقى... وهو الجنة.
وشبيه بهاتين الآيتين قوله- تعالى-: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ... «٣».
ثم بين- سبحانه- أن كل شيء في هذه الحياة، خاضع لقضاء الله- تعالى- وقدره، وأن على المؤمن الصادق أن يكون شاكرا عند الرخاء، صابرا عند البلاء... فقال- تعالى-:
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٠٤.
(٣) سورة آل عمران الآيات ١٤- ١٧.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)وما في قوله- تعالى- ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ نافية، ومِنْ مزيدة لتأكيد هذا النفي وإفادة عمومه. ومفعول «أصاب» محذوف. وقوله فِي الْأَرْضِ، إشارة إلى المصائب التي تقع فيها من فقر وقحط، وزلازل.
وقوله: وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ للإشارة إلى ما يصيب الإنسان في ذاته، كالأمراض، والهموم.
والاستثناء في قوله- تعالى- إِلَّا فِي كِتابٍ من أعم الأحوال، والمراد بالكتاب:
اللوح المحفوظ، أو علمه- عز وجل- الشامل لكل شيء.
وقوله: نَبْرَأَها من البرء- بفتح الباء- بمعنى الخلق والإيجاد، والضمير فيه يعود إلى النفس، أو إلى الأرض، أو إلى جميع ما ذكره الله- تعالى- من خلق المصائب في الأرض والأنفس.
والمعنى: واعلموا- أيها المؤمنون علما يترتب عليه آثاره من العمل الصالح- أنه ما أصابكم أو ما أصاب أحدا مصيبة، هذه المصيبة كائنة في الأرض- كالقحط والزلازل- أو في أنفسكم- كالأسقام والأوجاع- إلا وهذه المصائب مسجلة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها... وهذا التسجيل كائن من قبل أن نخلق هذه الأنفس، وهذه المصائب.
وكرر- سبحانه- حرف النفي في قوله وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ للإيماء إلى أن المصائب التي تتعلق بذات الإنسان، يكون أشد تأثرا واهتماما بها، أكثر من غيرها.
واسم الإشارة في قوله: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعود إلى الكتابة في الكتاب.
أى: إن ذلك الذي أثبتناه في لوحنا المحفوظ وفي علمنا الشامل لكل شيء.. قبل أن نخلقكم، وقبل أن نخلق الأرض.. يسير وسهل علينا، لأن قدرتنا لا يعجزها شيء، وعلمنا لا يعزب عنه شيء.
وخص- سبحانه- المصائب بالذكر، لأن الإنسان يضطرب لوقوعها اضطرابا شديدا، وكثيرا ما يكون إحساسه بها، وإدراكه لأثرها، أشد من إحساسه وإدراكه للمسرات.
ومن الآيات التي تشبه هذه الآية في معناها قوله- تعالى-: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا، هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «١».
ثم بين- سبحانه- الحكم التي من أجلها فعل ذلك فقال: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ.
فاللام في قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا.. متعلقة بمحذوف. وقوله: تَأْسَوْا من الأسى، وهو الحزن والضيق الشديد. يقال: أسى فلان على كذا- كفرح- فهو يأسى أسى، إذا حزن واغتم لما حدث، ومنه قوله- تعالى- حكاية عن شعيب- عليه السلام-: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ «٢».
أى: فعلنا ما فعلنا من إثبات ما يصيبكم في كتاب من قبل خلقكم، وأخبرناكم بذلك، لكي لا تحزنوا على ما أصابكم من مصائب حزنا يؤدى بكم إلى الجزع، وإلى عدم الرضا بقضاء الله وقدره ولكي لا تفرحوا بما أعطاكم الله- تعالى- من نعم عظمى وكثيرة.. فرحا يؤدى بكم إلى الطغيان وإلى عدم استعمال نعم الله- تعالى- فيما خلقت له.. فإن من علم ذلك علما مصحوبا بالتدبر والاتعاظ... هانت عليه المصائب، واطمأنت نفسه لما قضاه الله- تعالى- وكان عند الشدائد صبورا، وعند المسرات شكورا.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: يعنى: أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله، قلّ أساكم على الفائت، وفرحكم على الآتي، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة، لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال، لم يعظم فرحه عند نيله.
فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها، أن لا يحزن ولا يفرح؟
(٢) سورة الأعراف الآية ٩٣.
فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله، والاعتداد بها مع الشكر، فلا بأس بهما «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ.
أى: والله- تعالى- لا يحب أحدا من شأنه الاختيال بما آتاه- سبحانه- من نعم دون أن يشكره- تعالى- عليها، ومن شأنه- أيضا- التفاخر والتباهي على الناس بما عنده من أموال وأولاد.. وإنما يحب الله- تعالى- من كان من عباده متواضعا حليما شاكرا لخالقه- عز وجل-.
فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد سكبتا في قلب المؤمن، كل معاني الثقة والرضا بقضاء الله في كل الأحوال.
وليس معنى ذلك عدم مباشرة الأسباب التي شرعها الله- تعالى- لأن ما سجله الله في كتابه علينا قبل أن يخلقنا، لا علم لنا به. وإنما علمه مرده إليه وحده- تعالى-.
وهو- سبحانه- لا يحاسبنا على ما نجهله، وإنما يحاسبنا على ما أمرنا به، أو نهانا عنه عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكما سجل- سبحانه- أحوالنا قبل أن يخلقنا، فقد شرع الأسباب وأمرنا بمباشرتها.
وبين لنا في كثير من آياته، أن جزاءنا من خير أو شر على حسب أعمالنا.
وعند ما قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: أفلا نتكل على ما قدره الله علينا؟
أجابهم بقوله: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له».
وقوله- سبحانه- بعد ذلك: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بدل من قوله- تعالى-: كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ والمراد بالذين يبخلون: كل من يبخل بماله أو بعلمه..
فكأنه- تعالى- يقول: والله لا يحب الذين يبخلون بما أعطاهم من فضله، بخلا يجعلهم لا ينفقون شيئا منه في وجوه الخير، لأن حبهم لأموالهم جعلهم يمسكونها ويشحون بها شحا شديدا.. ولا يكنفون بذلك، بل يأمرون غيرهم بالبخل والشح.
وعلى رأس هؤلاء الذين لا يحبهم الله- تعالى- المنافقون، فقد كانوا يبخلون بأموالهم عن إنفاق شيء منها في سبيل الله، وكانوا يتواصون بذلك فيما بينهم، فقد قال- سبحانه-
وقوله- سبحانه-: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تذييل المقصود به ذم هؤلاء البخلاء على بخلهم.
وجواب الشرط محذوف، أغنت عنه جملة فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ والغنى: هو الموصوف بالغنى- وهي صفة من صفات الله- عز وجل- إذ هو الغنى غنى مطلقا، والخلق جميعا في حاجة إلى عطائه- سبحانه- والحميد: وصف مبالغة من الحمد. والمراد به أنه- تعالى- كثير الحمد والعطاء للمنفقين في وجوه الخير.
أى: ومن يعرض عن هدايات الله- تعالى- وعن إرشاداته... فلن يضر الله شيئا، فإن الله- تعالى- هو صاحب الغنى المطلق الذي لا يستغنى عن عطائه أحد، وهو- سبحانه- كثير الحمد والعطاء لمن استجاب لأمره فأنفق مما رزقه الله بدون اختيال أو تفاخر أو أذى.
ثم بين- سبحانه- أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسله إلى الناس، ليهدوهم إلى طريق الحق، وأن الناس منهم من اتبع الرسل، ومنهم من أعرض عنهم، ومنهم من ابتدع أمورا من عند نفسه لم يرعها حق رعايتها.. فقال- تعالى-:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
والمراد بالكتاب: جنس الكتب. وتشمل التوراة والإنجيل وغيرهما.
والميزان: الآلة المعروفة بين الناس لاستعمالها في المكاييل وغيرها.. والمراد بها العدل بين الناس في أحكامهم ومعاملاتهم.
وشاع إطلاق الميزان على العدل، باستعارة لفظ الميزان على العدل، على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس، والمراد بإنزاله: تبليغه ونشره بين الناس.
أى: بالله لقد أرسلنا رسلنا، وأيدناهم بالحجج والبراهين الدالة على صدقهم، وأنزلنا معهم كتبنا السماوية، بأن بلغناهم إياها عن طريق وحينا، وأنزلنا معهم العدل بأن أرشدناهم إلى طرقه، وإلى إعطاء كل ذي حق حقه.
قال ابن كثير: يقول الله- تعالى-: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أى:
بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وهو النقل الصدق وَالْمِيزانَ وهو العدل أو وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة «١».
وأكد- سبحانه- هذا الإرسال، للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا نبوة النبي ﷺ ولبيان أنه واحد من هؤلاء الرسل الكرام، وأن رسالته إنما هي امتداد لرسالتهم..
وقوله- تعالى-: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ علة لما قبله. أى: أرسلنا الرسل. وأنزلنا الكتاب وشرعنا العدل، ليقوم الناس بنشر ما يؤدى إلى صلاح بالهم، واستقامة أحوالهم، عن طريق التزامهم بالحق والقسط في كل أمورهم.
وقوله- تعالى-: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ معطوف على ما قبله.
والمراد بإنزال الحديد: خلقه وإيجاده. وتهيئته للناس، والإنعام به عليهم، كما في قوله- سبحانه- وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ «٢».
والمراد بالبأس الشديد: القوة الشديدة التي تؤدى إلى القتل وإلحاق الضرر بمن توجه إليه، أى: لقد أرسلنا رسلنا بالأدلة الدالة على صدقهم، وأنزلنا معهم ما يرشد الناس إلى صلاحهم.
وأوجدنا الحديد، وأنعمنا به عليكم، ليكون قوة شديدة لكم في الدفاع عن أنفسكم، وفي تأديب أعدائكم، وليكون كذلك مصدر منفعة لكم في مصالحكم وفي شئون حياتكم.
فمن الحديد تكون السيوف وآلات الحرب.. ومنه- ومعه غيره- تتكون القصور الفارهة، والمبانى العالية الواسعة، والمصانع النافعة.. وآلات الزراعة والتجارة.
فالآية الكريمة تلفت أنظار الناس إلى سنة من سنن الله- تعالى- قد أرسل الرسل وزودهم بالهدايات السماوية التي تهدى الناس إلى ما يسعدهم.. وزودهم- أيضا- بالقوة المادية التي تحمى الحق الذي جاءوا به وترد كيد الكائدين له في نحورهم، وترهب كل من يحاول الاعتداء عليه، كما قال- تعالى-: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ «٣».
ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: ما ملخصه: أى: وجعلنا الحديد رادعا لمن أبى الحق، وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام الرسول ﷺ بمكة ثلاث عشرة سنة، تنزل عليه السور المكية، لبيان أن دين الله حق.
فلما قامت الحجة على من خالفه، شرع الله القتال بعد الهجرة، حماية للحق، وأمرهم بضرب رقاب من عاند الحق وكذبه.
(٢) سورة الزمر الآية ٦.
(٣) سورة الأنفال الآية ٦٠.
ولهذا قال- تعالى-: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعنى السلاح كالسيف والحراب.
وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أى: في معايشهم كالفأس والقدوم.. وغير ذلك «١».
هذا، ومن المفسرين الذين فصلوا القول في منافع الحديد، وفي بيان لماذا خصه الله- تعالى- بالذكر: الإمام الفخر الرازي فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه: ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة، جعله الله سهل الوجدان، كثير الوجود. والذهب لما كانت حاجة الناس إليه قليلة، جعله الله- تعالى- عزيز الوجود.
وبهذا تتجلى رحمة الله على عباده، فإن كل شيء كانت حاجتهم إليه أكثر جعل الحصول عليه أيسر.
فالهواء- وهو أعظم ما يحتاج الإنسان إليه- جعل الله تعالى- الحصول عليه سهلا ميسورا.. فعلمنا من ذلك أن كل شيء كانت الحاجة إليه أكثر، كان وجدانه أسهل.
ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله- تعالى- أشد من الحاجة إلى كل شيء، فنرجوه من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا، كما قال الشاعر:
سبحان من خص العزيز بعزة | والناس مستغنون عن أجناسه |
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي | نفس، فمحتاج إلى أنفاسه «٢» |
والمراد بقوله: وَلِيَعْلَمَ أى: وليظهر علمه- تعالى- للناس، حتى يشاهدوا آثاره.
أى: وأنزل- سبحانه- الحديد لكي يستعملوه في الوجوه التي شرعها الله وليظهر- سبحانه- أثر علمه حتى يشاهد الناس، من الذي سيتبع الحق منهم، فينصر دين الله- تعالى- وينصر رسله، ويستعمل نعمه فيما خلقت له حالة كونه لا يرى الله- تعالى-
(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٢٩ ص ٢٤٣. [.....]
فقوله: بِالْغَيْبِ حال من فاعل يَنْصُرُهُ.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أى: أن الله- تعالى- هو المتصف بالقوة التي ليس بعدها قوة وبالعزة التي لا تقاربها عزة.
وختمت الآية بهذا الختام، لأنه هو المناسب لإرسال الرسل، ولإنزال الكتب والحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس.
فكان هذا الختام تعليل لما قبله. أى: لأن الله- تعالى- قوى في أخذه عزيز في انتقامه فعل ما فعل من إرسال الرسل، ومن إنزال الحديد.
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ.. معطوف على جملة: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ عطف الخاص على العام.
أى: لقد أرسلنا رسلا كثيرين.. وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم، وجعلنا في ذريتهما عددا من الأنبياء، وأوحينا إليهم كتبنا، التي تهدى أقوامهم إلى طريق الحق، كالتوراة التي أنزلناها على موسى، وكالزبور الذي أنزلناه على داود.
وخص- سبحانه- نوحا وإبراهيم- عليهما السلام- بالذكر، لشهرتهما ولأن جميع الأنبياء من نسلمها.
والضمير في قوله- تعالى-: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أى: فمن ذريتهم من اهتدى إلى الدين الحق، وآمن به، وقام بأداء تكاليفه. وكثير من أفراد هذه الذرية فاسقون. أى: خارجون عن الاهتداء إلى الحق، منغمسون في الكفر والضلال.
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ والتقفيه إتباع الرسول برسول آخر يقال: قفا فلان أثر فلان.. إذا اتبعه، وقفى على أثره بفلان، إذا اتبعه إياه.. وأصله من القفا وهو مؤخر العنق.. فكأن الذي يتبع أثر غيره قد أتاه من جهة قفاه.
وضمير الجمع في قوله عَلى آثارِهِمْ يعود إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب.
أى: ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول. حتى انتهينا إلى عيسى- عليه السلام- وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أى: أوحيناه إليه ليكون هداية لقومه.
والديه، وقيل: الإنجيل مأخوذ من نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته. ويقال للماء الذي يخرج من البئر: نجل. وقيل هو من النجل الذي هو سعة العين، ومنه قولهم: طعنة نجلاء، أى: واسعة.
وسمى الإنجيل بهذا الاسم، لأنه سعة ونور وضياء، أنزله الله- تعالى- على نبيه عيسى، ليكون بشارة وهداية لقومه «١».
وأعاد- سبحانه- مع عيسى- عليه السلام- كلمة وَقَفَّيْنا للإشعار بأن المسافة التي كانت بين عيسى- عليه السلام- وبين آخر رسول من بنى إسرائيل كانت مسافة طويلة.
ثم بين- سبحانه- بعض السمات التي كانت واضحة في أتباع عيسى فقال: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ.
والرأفة: اللين وخفض الجناح، والرحمة. العطف والشفقة.
قالوا: وعطف الرحمة على الرأفة من باب عطف العام على الخاص، لأن الرأفة، رحمة خاصة، تتعلق بدفع الأذى والضر. أما الرحمة فهي أشمل وأعم، لأنها عطف وشفقة على كل من كان في حاجة إليها.
و «الرهبانية» معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان. وهم النصارى المبالغون في الرهبة والخوف من الله- تعالى- والزهد في متاع الحياة الدنيا.
قال بعض العلماء: والرهبانية: اسم للحالة التي يكون عليها الراهب متصفا بها في غالب شئون دينه، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس، لأن قياس النسب إلى الراهب: الراهبية، والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة، كما زيدت في قولهم: شعرانى، لكثير الشعر، ولحياني لعظيم اللحية «٢».
وقوله- تعالى-: ورهبانية ابتدعوها.. منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
أى: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، فهو من باب الاشتغال.
ويصح أن يكون معطوفا على قوله: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وقوله: ابْتَدَعُوها في موضع
(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٧ ص ٢٤١ للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور. - رحمه الله-.
وجملة: ما كتبناها عليهم، مستأنفة مبينة لجملة ابْتَدَعُوها.
والاستثناء في قوله: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ منقطع.
والضمير في قوله: فَما رَعَوْها يعود لهؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية.
والمعنى: ثم أتبعنا كل رسول من ذرية نوح وإبراهيم برسول آخر، حتى انتهينا إلى عيسى- عليه السلام- فأرسلناه إلى بنى إسرائيل وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه وآمنوا به رَأْفَةً أى لينا وخفض جناح وَرَحْمَةً أى: شفقة وعطفا، وحب رهبانية مبتدعة منهم، أى: هم الذين ابتدعوها واخترعوها واختاروها لأنفسهم، زهدا في متاع الحياة الدنيا.
ونحن ما كتبنا عليهم هذه الرهبانية، وإنما هم الذين ابتدعوها من أجل أن يرضى الله عنهم فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أى: ولكنهم بمرور الأيام، لم يحافظ كثير منهم على ما تقتضيه هذه الرهبانية من زهد وتقى وعفاف.. بل صارت طقوسا خالية من العبادة الصحيحة، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم.
ولذا ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
أى: أما الذين استمروا على اتباعهم لعيسى- عليه السلام- وعلى الإيمان بالحق إيمانا صحيحا خاليا مما يفسده.. فقد أعطيناهم أجورهم الطيبة كاملة غير منقوصة.
وأما الذين بدلوا ما جاء به عيسى- عليه السلام- حيث كفروا به وقالوا: الله ثالث ثلاثة، أو قالوا: المسيح ابن الله فسيلقون ما يستحقونه من عقاب.
وقوله: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يدل على أن الذين خرجوا عن الدين الحق الذي جاء به عيسى- عليه السلام- وفسقوا عن أمر ربهم.. أكثر من الذين آمنوا به إيمانا صحيحا.
قال الإمام ابن جرير: واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها.
فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، ولم يقوموا بها، ولكنهم بدلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى، فتنصروا وتهودوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حتى رعايتها، لأنهم كانوا كفارا.. فهم الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق
وكثير منهم- أى: من الذين ابتدعوا الرهبانية- أهل معاص، وخروج عن طاعة الله- تعالى- وعن الإيمان به «١».
وقال الإمام الآلوسى ما ملخصه: وقوله- تعالى- ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ جملة مستأنفة.
وقوله- سبحانه-: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أى: ما فرضناها نحن عليهم رأسا، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله.
وقوله- تعالى-: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أى: ما حافظوا عليها حق المحافظة، ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر، وهو عهد مع الله- تعالى- يجب رعايته، لا سيما إذا قصد به رضاه- عز وجل.
وجائز أن يكون الاستثناء متصلا من أعم العلل. أى: ما قضيناها عليهم لشيء من الأشياء، إلا ليبتغوا بها رضوان الله، ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها.. إلا أنهم لم يحافظوا عليها، ولم يرعوها حق رعايتها.
والفرق بين الوجهين: أن الأول يقتضى أنهم لم يؤمروا بها أصلا، وأن الثاني يقتضى أنهم أمروا بها، لابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها.
والظاهر أن الضمير في قوله فَما رَعَوْها يعود لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفى وقوع الرعاية من جميعهم، أى: فما رعاها كلهم بل بعضهم «٢».
فالآية الكريمة تثنى على الذين أحسنوا اتباع عيسى- عليه السلام- فطهروا أرواحهم من كل دنس، وزهدوا في متع الحياة الدنيا.. وتذم الذين بدلوا ما جاء به عيسى- عليه السلام- وقالوا الأقوال الباطلة في شأنه، وفعلوا الأفعال القبيحة التي تغضب الله- تعالى-:
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذا النداء للمؤمنين فقال- تعالى:
(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١٩١.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، اتقوا الله في كل ما تأتون وما تذرون، وداوموا على الإيمان برسوله ﷺ واثبتوا على ذلك.
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أى: يعطكم بسبب ذلك نصيبين وضعفين من رحمته- سبحانه- وفضله.
وأصل الكفل- كما يقول القرطبي- كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط.. أى يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي، كما يحفظ الكفل الراكب من السقوط «١».
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ أى: ويجعل لكم بفضله نورا تمشون به يوم القيامة. كما قال- تعالى-: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ أى: ما فرط منكم من ذنوب، بأن يزيلها عنكم.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى: واسع المغفرة والرحمة لمن اتقاه وأطاعه.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وعد المؤمنين على تقواهم وعلى إيمانهم برسوله، أن يؤتيهم نصيبين من رحمته.. وأن يجعل لهم نورا يمشون به، فيهديهم إلى ما يسعدهم في كل شئونهم، وأن يغفر لهم ما سبق من ذنوبهم.. فضلا منه وكرما.
قالوا: وأعطى الله- تعالى- للمؤمنين نصيبين من الأجر، لأن أولهما بسبب إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وثانيهما: بسبب إيمانهم بالرسل السابقين، كما أعطى مؤمنى أهل الكتاب نصيبين من
وقوله- سبحانه-: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ...
رد على مزاعم أهل الكتاب أنهم شعب الله المختار، وأنهم أفضل من الأمة الإسلامية.
قال الجمل ما ملخصه: لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله- تعالى- أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا... قالوا للمسلمين: أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابنا وكتباكم. ومن لم يؤمن منا بكتابكم فله أجر كأجركم، فبأى شيء فضلتم علينا؟ فأنزل الله هذه الآية.
ولا زائدة، واللام متعلقة بمحذوف، هو معنى الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط، إذ التقدير: إن تتقوا وتؤمنوا برسوله، يؤتكم الله من فضله كذا وكذا- وقد أعلمناكم بذلك- لكي يعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضل الله.
أى: أنهم لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله.. كالكفلين من رحمته وكمغفرة الذنوب- لأنهم لم يؤمنوا برسوله ﷺ ولم يخلصوا العبادة له- عز وجل-.. «١».
وقوله- سبحانه- وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مؤكد لما قبله، ومقرر له.
أى: ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على الظفر بشيء من فضل الله إلا إذا آمنوا بالله ورسله.. وليعلموا- أيضا- أن الفضل والعطاء بيد الله- تعالى- وحده، يمنحه لمن يشاء ويختار من عباده، وهو- سبحانه- صاحب الفضل الواسع العظيم.
وعلى هذا التفسير الذي سرنا عليه يكون المقصود من الآيتين تحريض المؤمنين من هذه الأمة على الثبات على تقوى الله- تعالى- واتباع رسوله ﷺ في كل ما جاء به، وتبشيرهم بالعطاء الجزيل إذا ما فعلوا ذلك.
والرد على المتفاخرين من أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم ليس أحد أفضل منهم، وأن الأجر ثابت لهم سواء آمنوا بالرسول ﷺ أم استمروا على كفرهم.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم
وهي كقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
ومما يؤيد هذا القول- أى: أن هذه الآية في حق هذه الأمة- ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود.
ثم قال: من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى.
ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عملتم فغضبت النصارى واليهود، وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء. قال:
هل ظلمتكم من أجركم شيئا، قالوا لا: قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء «١».
ويرى بعض المفسرين أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب، فيكون المعنى: يا من آمنتم بموسى وبعيسى وبمحمد- عليهم الصلاة والسلام- اتقوا الله وآمنوا برسوله ﷺ واثبتوا على ذلك، يؤتكم الله- تعالى- كفلين من رحمته.
وليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب، أنهم لن ينالوا شيئا مما ناله المؤمنون منهم.
ومن المفسرين الذين ساروا على هذا التفسير الإمام ابن جرير، فقد قال- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: يقول- تعالى ذكره-: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، خافوا الله، وآمنوا برسوله محمد ﷺ يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم..
أى: يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى وبمحمد- عليهما الصلاة والسلام- «٢».
ويبدو لنا أن الخطاب في هذه الآية للمؤمنين من هذه الأمة، على سبيل الحض والتبشير، وأن قوله- تعالى- بعد ذلك: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ... واضح في ذلك، وان جعل الخطاب لمؤمنى أهل الكتاب لا دليل عليه.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٢٧ ص ٢٤٢.
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الحديد» نسأل الله- تعالى- ان يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده- وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فندق الشيراتون بالدوحة- قطر صباح الخميس ٢٤ من رجب ١٤٠٦ هـ ٣ من أبريل ١٩٨٦ م كتبه الراجي عفو ربه محمد سيد طنطاوى
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد١- سورة «المجادلة» - بفتح الدال وكسرها والثاني أظهر، لأن افتتاح السورة في المرأة التي جادلت النبي ﷺ في شأن زوجها-.
وهذه السورة: هي السورة الثامنة والخمسون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة «المنافقون»، وقبل سورة «التحريم».
وعدد آياتها ثنتان وعشرون آية في المصحف الكوفي والبصري والشامي، وإحدى وعشرون آية في المصحف المكي والمدني.
٢- وهي من السور المدنية الخالصة. ومن قال بأن فيها آيات مكية، لم يأت بدليل يعتمد عليه في ذلك.
قال القرطبي: «هذه السورة مدنية في قول الجميع، إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي. وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة. غير قوله- تعالى-:
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ نزلت بمكة» «١».
٣- وقد افتتحت سورة «المجادلة» بالحديث عن المرأة التي جادلت النبي ﷺ في شأن زوجها، وقد أصدر- سبحانه- حكمه العادل في مسألتها، مبينا حكم الظهار فقال- تعالى-: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً، ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ.
٤- ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن الذين يحادون الله ورسوله فبينت سوء عاقبتهم، لأن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، فهو- سبحانه- ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ
٥- ثم وجه- سبحانه- ثلاثة نداءات إلى المؤمنين، أمرهم في أول نداء بأن يتناجوا بالبر والتقوى.. وأمرهم في النداء الثاني أن يفسح بعضهم لبعض في المجالس.. وأمرهم في النداء الثالث إذا ما ناجوا الرسول ﷺ أن يقدموا بين يدي نجواهم صدقة.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً، ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
٦- وبعد أن عجبت السورة الكريمة من أحوال المنافقين، وبينت سوء عاقبتهم، وكيف أن الشيطان قد استحوذ عليهم، فأنساهم ذكر الله.
بعد كل ذلك ختمت السورة الكريمة ببيان حسن عاقبة المؤمنين الصادقين وببيان صفاتهم الكريمة، فقال- عز وجل- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
٧- هذا، والمتأمل في سورة المجادلة، يراها قد بينت حكم الظهار، وأبطلت ما كان شائعا من أن الرجل إذا ظاهر من زوجته لا تحل له.. وساقت جانبا من فضل الله- تعالى- على عباده، حيث أجاب دعاء امرأة قد اشتكت إليه، وقضى في مساءلتها قبل أن تقوم من مكانها، وهي بجانب النبي ﷺ تجادله في شأن زوجها.
كما يراها قد كشفت القناع عن المنافقين، وفضحتهم على أقوالهم الباطلة، وأفعالهم الذميمة، وموالاتهم لأعداء الله ورسوله.
كما يراها قد ساقت ألوانا متعددة من الآداب التي يجب على المؤمنين أن يتحلوا بها، وبشرتهم برضا الله- تعالى- عنهم، متى أخلصوا له- سبحانه- العبادة والطاعة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدوحة- قطر صباح الأحد: ٢٧ من رجب سنة ١٤٠٦ هـ ٦/ ٤/ ١٩٨٦ م د. محمد سيد طنطاوى