﴿ بسم الله ﴾ الذي أحاطت هيبته بجميع الموجودات ﴿ الرحمن ﴾ الذي وسعهم جوده في جميع الحركات والسكنات ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ولايته بما يرضيه من العبادات.
ﰡ
فإن قيل : ما معنى هذه الواوات ؟ أجيب : بأنّ الواو الأولى : معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ؛ والثالثة : أنه الجامع بين الظهور والخفاء، وأمّا الوسطى : فعلى أنه الجامع بين الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والحاضرة والآتية وهي في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس ؛ قال الزمخشري : وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة وهذا على رأيه الفاسد وهو على رأي المعتزلة المنكرين رؤية الله تعالى في الآخرة ؛ وأما أهل السنة فإنهم يثبتون الرؤية للأحاديث الدالة على ذلك من غير تشبيه ولا تكييف تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ؛ وعن سهل قال : كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول : اللهمّ ربّ السماوات والأرض ربّ العرش العظيم ربنا ورب كل شيء، فالق الحبّ والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهمّ أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من فضلك. وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
تنبيه : في التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصارا بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدّد مستمرّاً إلى حين خرابهما ﴿ وما ينزل من السماء ﴾ من الوحي والأمطار والحرّ والبرد وغيرها من الأعيان والمنافع التي يوجدها سبحانه وتعالى من مقادير أعمار بني آدم وأرزاقهم وغيرها من جميع شؤونهم ﴿ وما يعرج ﴾ أي : يصعد ويرتقي ويغيب ﴿ فيها ﴾ كالأبخرة والأنوار والكواكب والأعمال وغيرها ولم يجمع السماء لأنّ المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس الشامل للكل ﴿ وهو معكم ﴾ بالعلم والقدرة أيها الخلق ﴿ أينما كنتم ﴾ لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالى الله عن اتصال بالعالم ومماسة أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة ﴿ والله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ بما تعملون ﴾ أي : على سبيل التجدّد والاستمرار ﴿ بصير ﴾ أي : عالم بجليله وحقيرة فيجازيكم به وقدم الجار لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقيق الإحاطة.
ولما أمر تعالى بالإنفاق ووصفه بما سهله سبب عنه ما يرغب فيه فقال تعالى :﴿ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا ﴾ من أموالهم في الوجوه التي ندب إليها على وجه الإصلاح على ما دلّ عليه التعبير بالإنفاق ﴿ لهم أجر كبير ﴾ أي : لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره فاغتنموا الإنفاق في أيام استخلافكم قبل عزلكم وإتلافكم، وخصهم بالذكر بقوله تعالى :﴿ منكم ﴾ لضيق في زمانهم، وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى عثمان فإنه جهز جيش العسرة.
ثم بين تعالى التفاوت بين المنفقين منهم فقال تعالى :﴿ لا يستوي منكم من أنفق ﴾ أي : أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه ﴿ من قبل الفتح ﴾ أي : الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سبباً لظهور الدين الحق ﴿ وقاتل ﴾ سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به قبل الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقله الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه، وفضل الأوّل لما ناله إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ، وفي هذا دليل على فضل أبي بكر فإنه أوّل من أنفق لم يسبقه في ذلك أحد، وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً شديداً أشرف منه على الهلاك، روى محمد بن فضيل عن الكلبي : أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعن ابن عمر قال :«كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها بخلال ؟ فقال : أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال : فإنّ الله عز وجل يقول : اقرأ عليه السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أسخط على ربي إني عن ربي راض » ﴿ أولئك ﴾ أي : المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلع مدّ أحدهم ولا نصيفه » لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال ﴿ أعظم درجة ﴾ وتعظيم الدرجة يكون لعظم صاحبها ﴿ من الذين أنفقوا من بعد ﴾ أي : من بعد الفتح ﴿ وقاتلوا ﴾ أي : من بعد الفتح ﴿ وكلا ﴾ أي : وكل واحد من الفريقين ﴿ وعد الله ﴾ أي : الذي له الجلال والإكرام ﴿ الحسنى ﴾ أي : المثوبة الحسنى وهي : الجنة مع تفاوت الدرجات، وقرأ ابن عامر : برفع اللام على الابتداء أي : وكل وعده ليطابق ما عطف عليه والباقون بنصبها أي : وعد كلا ﴿ والله ﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الكمال ﴿ بما تعملون ﴾ أي : تجدّدون عمله على الأوقات ﴿ خبير ﴾ أي : عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها.
تنبيه : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدين وقد يكون في أحكام الدنيا فأمّا التقدّم في أحكام الدين فقالت عائشة «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة » وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه :«مروا أبا بكر فليصل بالناس » وقال :«يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله » وقال :«فليؤمكما أكبركما » وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا، وفي الحديث «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا » وفي الحديث :«ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه ».
تنبيه :﴿ بشراكم اليوم ﴾ مبتدأ واليوم ظرف وقوله تعالى :﴿ جنات ﴾ خبره على حذف مضاف أي : دخول جنات وهو المبشر به ثم وصفها بما لا تكمل اللذة إلا به بقوله :﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ ثم آمنهم من خوف الانقطاع بقوله تعالى :﴿ خالدين فيها ﴾ أي : خلوداً لا آخر له لأنّ الله تعالى أورثهم ذلك فلا يورث عنه لأنّ الجنة لا موت فيها ﴿ ذلك ﴾ أي : هذا الأمر العظيم المتقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلدة ﴿ هو الفوز العظيم ﴾ أي : الذي ملأ بعظمته جميع جهاتهم.
تنبيه : يوم بدل من يوم ترى أو منصوب بأذكر ﴿ للذين آمنوا ﴾ أي : ظاهراً وباطناً ﴿ انظرونا ﴾ أي : انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف على ركائب تزف بهم وهؤلاء مشاة، أو انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به، وقرأ حمزة : بقطع الهمزة في الوصل وكسر الظاء والباقون بوصل الهمزة ورفع الظاء، وأما الوقف على آمنوا والابتداء بانظرونا فحمزة على حاله كما يقرأ في الوصل، والباقون بضم همزة الوصل في الابتداء والظاء على حالها من الضم ﴿ نقتبس ﴾ أي : نستضيء ﴿ من نوركم ﴾ أي : هذا الذي نراه لكم ولا يلحقنا منه شيء كما كنا في الدنيا نرى إيمانكم بما نرى من ظواهركم ولا نتعلق من ذلك بشيء، ﴿ جزاء وفاقاً ﴾ [ النبأ : ٢٦ ] وذلك لأنّ الله تعالى يضيء للمؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضاً نوراً خديعة لهم وهو قوله تعالى :﴿ وهو خادعهم ﴾ [ النساء : ١٤٢ ] فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك قوله تعالى :﴿ يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه ﴾ [ التحريم : ٨ ] الآية مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين والقبس الشعلة من النار أو السراج، قال ابن عباس وأبو إمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة ؛ قال الماوردي : أظنها بعد فصل القضاء ثم يعطون نوراً يمشون فيه ؛ وقال الكلبي : بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين :﴿ انظرونا نقتبس من نوركم ﴾ قيل لهم جواباً لسؤالهم ؛ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون : أي : قول ردّ وتوبيخ وتهكم وتنديم ﴿ ارجعوا وراءكم ﴾ أي : ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور ﴿ فالتمسوا نوراً ﴾ هناك فمن ثم يقتبس أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا والتمسوا نوراً آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب وإقناط لهم، وقال قتادة : تقول لهم الملائكة : ارجعوا وراءكم من حيث جئتم، وقرأ هشام والكسائي : بضم القاف والباقون بكسرها.
ولما كان التقدير فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة سبب عنه وعقب قوله تعالى :﴿ فضرب بينهم ﴾ أي : بين المؤمنين والمنافقين ﴿ بسور ﴾ أي : حائط حائل بين شق الجنة وشق النار ﴿ له ﴾ أي : لذلك السور ﴿ باب ﴾ موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن له الله تعالى من المؤمنين لما يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم بشفاعة أو نحوها ﴿ باطنه ﴾ أي : ذلك السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب ﴿ فيه الرحمة ﴾ وهي ما لهم من الكرامة لأنه يلي الجنة التي هي ساترة تبطن من فيها بأشجارها وبأستارها كما كانت بواطنهم ملآنة رحمة ﴿ وظاهره ﴾ أي : ما ظهر لأهل النار ﴿ من قبله ﴾ أي : من عنده ومن جهته ﴿ العذاب ﴾ وهو الظلمة والنار لأنه يليها لاقتصار أهلها على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن، وروي عن عبد الله بن عمر أنّ السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم.
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه | مولى المخافة خلفها وأمامها |
ولما كان التقدير بئس المولى هي عطف عليه قوله تعالى :﴿ وبئس المصير ﴾ أي : هذه النار.
ألم يأن لي يا قلب أن نترك الجهلا | وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا |
ولما انكشف الأمر بهذه غاية الانكشاف أنتج قوله تعالى :﴿ قد بينا ﴾ أي : على مالنا من العظمة ﴿ لكم الآيات ﴾ أي : العلامات النيرات ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ أي : لتكونوا عند من يعلم ذلك ويمنعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدائم بالاستمرار.
ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى :﴿ والذين كفروا ﴾ أي : ستروا ما دلت عليه الأدلة ﴿ وكذبوا بآياتنا ﴾ أي : على مالها من العظمة بنسبتها إلينا ﴿ أولئك ﴾ أي : هؤلاء البعداء من كل خير ﴿ أصحاب الجحيم ﴾ أي : النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة.
فخير لباسها نسجات دود | وخير شرابها قيء الذباب |
وأشهى ما ينال المرء فيها | مبال في مبال مستطاب |
ولما ذكر تعالى الظل الزائل ذكر أثره الثابت الدائم مقسماً له إلى قسمين فقال تعالى :﴿ وفي الآخرة عذاب شديد ﴾ أي : على من آثر الدنيا وأخذها بغير حقها معرضاً عن ذكر الله تعالى وعن الآخرة هذا أحد القسمين، وأما القسم الآخر فهو : ما ذكره بقوله تعالى :﴿ ومغفرة ﴾ أي : ولمن أقبل على الآخرة ورفض الدنيا ولم تشغله عن ذلك الله تعالى مغفرة ﴿ من الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ ورضوان ﴾ أي : في جنة عالية تفضلاً منه تعالى ورحمة، وقوله تعالى جل وعلا :﴿ وما الحياة الدنيا ﴾ أي : لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة ﴿ إلا متاع الغرور ﴾ أي : هو في نفسه غرور لا حقيقة له إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر تأكيد لما سبق، قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
﴿ سابقوا ﴾ أي : سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار ﴿ إلى مغفرة ﴾ أي : ستر لذنوبكم عيناً وأثراً ﴿ من ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم بأنواع الخيرات التي توجب المغفرة لكم من ربكم، وقال الكلبي : سارعوا بالتوبة لأنها تؤدي إلى المغفرة، وقال مكحول : هي التكبيرة الأولى مع الإمام، وقيل : الصف الأول ﴿ وجنة ﴾ أي : وبستان هو من عظم أشجاره واطراد أنهاره بحيث يستر داخله ﴿ عرضها كعرض السماء والأرض ﴾ أي : السماوات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعاً، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة، وقال مقاتل : إنّ السماوات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنان، وسأل عمر ناس من اليهود إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين النار ؟ فقال لهم : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟ فقالوا : إنه لمثلهما في التوراة. ومعناه : أنه حيث شاء الله وهذا عرضها ولا شك أن الطول أزيد من العرض فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك، وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في أنفسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في أنفسهم مقدار السماوات والأرض فشبه عرض الجنة بما تعرفه الناس ﴿ أعدت ﴾ أي : هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر ﴿ للذين آمنوا ﴾ أي : أوقعوا هذه الحقيقة ﴿ بالله ﴾ أي : الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له الإيمان ﴿ ورسله ﴾ فلم يفرقوا بين أحد منهم وفي هذا أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أنّ الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر، يدل عليه قوله تعالى في سياق الآية ﴿ ذلك ﴾ أي : الفضل العظيم جداً ﴿ فضل الله ﴾ أي : الملك الذي لا كفؤ له فلا اعتراض عليه ﴿ يؤتيه من يشاء ﴾ فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله، لما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن يدخل الجنة أحداً منكم عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمة ». ولا ينافي ذلك قوله تعالى :﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾ [ النحل : ٣٢ ] لأنّ الباء في الحديث عوضيه، وفي الآية سببية، فإن قيل : يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم ؟ أجيب : بأنا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد فكانت معدة لهم ﴿ والله ﴾ أي : والحال أنّ الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله ﴿ ذو الفضل العظيم ﴾ أي : الذي جل أن تحيط بوصفه العقول.
ولقد عزى الله تعالى المؤمنين رحمة بهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيده، وبأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بادخاره عند الله تعالى وذلك بأن يقول : المصيبة قدر الله تعالى وما شاء فعل ويصبر ؛ وفي النعمة هكذا قضى وما أدري مآله هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فلا يزال خائفاً عند النعمة قائلاً في الحالين ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه في كلتا الحالتين، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة فمن لم يتغير بالمضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته كما أشار إليه القشيري ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان تتعدى فيهما إلى ما لا يجوز ﴿ والله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ لا يحب ﴾ أي : لا يفعل فعل المحب بأن يكرم ﴿ كل مختال ﴾ أي : متكبر نظراً إلى ما في يده من الدنيا ﴿ فخور ﴾ أي : به على الناس قال القشيري : الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها، والفخر من رؤية خطر ما به يفتخر.
وقوله تعالى :﴿ وليعلم الله ﴾ أي : الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم، عطف على قوله تعالى :﴿ ليقوم الناس ﴾ أي : لقد أرسلنا رسلنا وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس وليعلم الله ﴿ من ينصره ﴾ أي : ينصر دينه بآلات الحرب من الحديد وغيره وقوله تعالى :﴿ ورسله ﴾ عطف على مفعول ينصره أي : وينصر رسله وقوله تعالى :﴿ بالغيب ﴾ حال من هاء ينصره، أي : غائباً عنهم في الدنيا، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ينصرونه ولا يبصرونه ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له العظمة كلها ﴿ قوي ﴾ أي : فهو قادر على إهلاك جميع أعدائه وتأييد من ينصره من أوليائه ﴿ عزيز ﴾ فهو غير مفتقر إلى نصرة أحد وإنما دعا عباده إلى نصرة دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي لبناء هذه الدار على حكمة ربط المسببات بالأسباب.
روي أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قال : في أيام الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم غير الملوك التوراة والإنجيل فساح نفر وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا ؛ قال الضحاك : إن ملوكاً بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقي بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة : الرهبانية التي ابتعدوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع هي لحوقهم بالبراري والجبال.
وقوله تعالى :﴿ ما كتبناها ﴾ صفة لرهبانية ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك، قال ابن زيد : معناه ما فرضناها ﴿ عليهم ﴾ ولا أمرنا هم بها في كتابهم ولا على لسان رسولهم وقوله تعالى :﴿ إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ أي : الملك الأعظم استثناء منقطع، أي : ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، وقيل : متصل بما هو مفعول من أجله والمعنى : ما كتبناها عليهم الشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله ويكون كتب بمعنى : قضى فصار المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء مرضاة الله ﴿ فما رعوها حق رعايتها ﴾ أي : ما قاموا بها حق القيام بل ضموا إليها التثليث وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم وآمنوا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فآتينا ﴾ أي : بما لنا من صفات الكمال ﴿ الذين آمنوا ﴾ أي : بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ منهم أجرهم ﴾ أي : اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف ﴿ وكثير منهم ﴾ أي : من هؤلاء الذين ابتدعوها فضيعوا ﴿ فاسقون ﴾ أي : عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدّها الله تعالى وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه السلام، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود أنه قال :«دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم فرقة غزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى وفرقة لم يكن لهم طاقة بمعاداة الملوك ولا أن يقيموا بين أظهرهم فدعوهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد فترهبوا وهم الذين قال الله عز وجل :﴿ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ﴾ » ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون ».
وعن ابن مسعود أيضاً قال :«كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فقال : يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ فقلت الله ورسوله أعلم، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزموا أهل الإيمان ثلاث مرار فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء قتلونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله تعالى النبيّ الذي وعدنا عيسى عليه السلام يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم فتفرّقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية ﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ يعني من ثبت عليها أجرهم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي قلت الله ورسوله أعلم قال : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة ».
وعن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله تعالى » وعن ابن عباس قال : كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله تعالى : فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل وإلا فما بدلوا منهما فقالوا نحن نكفيكم أنفسنا، فقالت طائفة : ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقر فلا نرد عليكم ولا نراكم ففعلوا بهم ذلك، فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه السلام، وخلف قوم من بعدهم ممن غير الكتاب فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قوله عز وجلّ :﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾ ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ يعني : الذين اتبعوها ابتغاء مرضاة الله ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ هم الذين جاؤوا من بعدهم قال : فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا وصدّقوا فقال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾.
وقيل : يمشون في الناس يدعونهم إلى الإسلام فيكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياستكم فيه وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى لا الرياسة الحقيقية في الدين ﴿ ويغفر لكم ﴾ أي : ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجدّ ﴿ والله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ غفور ﴾ أي : بليغ المحو للذنوب عيناً وأثر ﴿ رحيم ﴾ أي : بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه.
روى البخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر :«إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أهل التوراة : ربنا هؤلاء أقل عملاً وأكثر أجراً قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئاً ؟ قالوا : لا، قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء » وفي رواية «فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : ربنا » الحديث، وفي رواية «إنما أجلكم في أجل من كان قبلكم خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس » ؟ «وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعلمت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : نحن أكثر عملاً وأقل عطاء قال الله تعالى : هل ظلمتكم من حقكم شيئاً ؟ قالوا : لا، قال : فإنه فضلي أوتيه من شئت ». وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا : لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم : لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً فأبوا وتركوا واستأجر آخرين من بعدهم فقال : أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى
إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال : أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر آخرين على أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كلاهما فذلك مثلهم ومثل ما بقوا من هذا النور ».