ﰡ
ويقولون : اختلقه محمد ونسبه إلى الله. كلا، إنه هو الحق والصدق من عند ربك أنزله إليك أيها الرسول، لتنذرَ قومك، حيث لم يأتهم نذير من قبلك، ولعلّهم بهذا الإنذار يهتدون إلى الحق.
الله هو الخالق لهذا الكون الواسع في ستة أيام، لكنها لا تشابه أيامنا ولا تقاس بها، لأنه يجوز أن يكون اليوم بليون سنة أو أكثر، فأيامنا محدودة، وأيام الله غير محدودة. ثم إنه استوى على العرش استواء يليق به.
ليس لكم أيها الناس من يلي أموركم ويدبرها غيره، وليس لكم شفيع غيره. ثم أمَرنا بالتذكّر والتدبير فقال :﴿ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ﴾ ؟
إن الله يدبر شؤونَ الخلق وأمرَ الأرض من سماء جلاله من يومِ وجودها إلى ساعة تلاشيها، ثم يصعد إليه الأمرُ كله ليحكم فيه في يوم مقداره ألف سنة مما تعدّون، ذلك هو يوم القيامة. والمراد بالألف هو الزمن المتطاول، وليس المقصود حقيقةَ العدد، كما قدّمت. فيجوز أن يكون ذلك اليوم أطول بكثير مما ذكر.
وما نشاهده، القويُّ القادر على ما يريد، الرحيم في إرادته وتدبيره للخلق.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر :﴿ أحسن كل شيء خلْقه ﴾ بإسكان اللام، والباقون بفتحها كما هو في المصحف.
ثم جعل ذريته تخرج من نطفة ضعيفة فيها مخلوقاتٌ لا تُرى بالعين المجردة.
ثم التفت بالخطاب إلى الناس، فقال :﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ :
إنها نِعم عظيمة.. لقد أعطاكم السمع، وجهازُ السمع كما يقول الأطباء جهاز دقيق أهم من أي جهاز في الجسم.. ثم أعطاكم البصر لتبصروا.. ، والأفئدة لتميزوا وتفهموا وتعقِلوا، ولكنّكم مقابل هذا كله لا تشكرونه إلا قليلا على هذا الفيض من الفضل الجزيل. اللهم اجعلنا من الشاكرين لفضلك وكرمك يا رب العالمين.
تقدم في سورة المؤمنون آية ٧٨ :﴿ وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾، وهنا :﴿ وجعل لكم ﴾.
بعد أن بيّن الله فائدة رسالة النبي الكريم، والخلقَ، ووحدانيته تعالى، وتدبيره لهذا الكون ذكر هنا اعتراضَ المشركين وعدم إيمانهم بالبعث، وقولهم أئذا متنا وتحلّلت أجسادنا فصارت ترابا وغبنا في هذه الأرض أسنُخلق من جديد ! ؟ إن هؤلاء المشركين ينكرون كل شيء فهم بلقاء ربهم يجحدون.
قل لهم أيها الرسول : يتوفاكم ملكُ الموت الموكل بقبض أرواحكم ثم إلى الله وحده ترجعون.
ولو أُتيح لك يا محمد، أن ترى المجرمين في موقف الحساب يوم القيامة لرأيتَ عَجَبا، فإن هؤلاء المكذّبين يكونون بحال سيئة، رؤوسُهم منكّسة إلى الأرض خِزياً من ربهم، يقولون في ذلة : ربنا أبصَرْنا الآن ما كنا نتعامى عنه، وسمعنا ما كنا نُصم آذاننا عنه، فارجِعنا إلى الدنيا لنعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل. لقد آمنّا الآن.. لكنه يكون فات الأوان.
ونقول لهم : ذوقوا العذاب بسبب غفلتكم عن لقاء يومك هذا، وقد أهملناكم وتركناكم في العذاب كالمنسيّين، فذوقوا العذاب الخالدَ بما كنتم تعملون.
فيا أيها العاقلون، اعتبِروا بمصير أولئك المجرمين، واعملوا صالحاً قبل أن تندموا يومَ ذلك الموقف الرهيب.
خرّوا : سقطوا ساجدين.
بعد أن صوّر حالَ المجرمين يوم القيامة، وذكر ما يلاقونه من العذاب المهين، أتى بالصورة المقابلة، صورة المؤمنين الذين يسبّحون بحمد ربهم ويسجدون له عند ذكر آياته، فهؤلاء لهم عنده الجزاء العظيم.
وعند قوله تعالى :﴿ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ موضع سجدة : إن الذين يؤمنون بآيات الله يَقَعون ساجدين حين يُوعَظون بها، ويسبّحون الله ويحمدونه في سجودهم.
جنوبهم : جوانب أجسامهم.
المضاجع : فرش النوم.
وهم يقومون لله في الليل متهجّدين مبتعدين عن مكان نومهم يدعون الله خوفاً من عذابه، وطمعاً في ثوابه. كما ينفقون مما رزقهم الله من الأموال في وجوه البر، ويؤدون حقوقه التي أوجبها عليهم.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : نزلتْ فينا معاشرَ الأنصار، كنا نصلي المغرب، فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلّي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى عام يعم جميع المؤمنين في كل زمان ومكان.
من قرة أعين : من الأشياء النفيسة التي تفرح بها الأنفس والأعين.
ولذلك يقول الله تعالى :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
فلا تعلم نفس مقدار ما أعدّه الله وأخفاه لهؤلاء المؤمنين من النعيم المقيم الذي تقره أعينهم جزاء بما كانوا يعملون. وإنه لجزاء عظيم، وإكرام إلهي، وحفاوة ربانية بهذه النفوس المؤمنة.
قراءات :
قرأ حمزة ويعقوب :﴿ ما أخفي لهم ﴾ بإسكان الياء، والباقون :﴿ أخفيَ ﴾ بفتحها.
كيف يستوي الناس في مجازاتهم وقد اختلفوا في أعمالهم ! ! لا يستوي المؤمن المصدق بالله مع الكافر الجاحد العاصي، كما قال تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار ﴾ سورة ص ٢٨.
نزلا بما كانوا يعملون : ضيافة منا لهم على أعمالهم الصالحة.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى التي فيها مساكنهم، ضيافةً منا لهم جزاء أعمالهم الصالحة.
الأكبر : عذاب الآخرة.
إن الله تعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب، وهو يقسِم هنا بأنه سوف يعذّبهم في الدنيا لعلهم يتوبون وتستيقظ فطرتهم، أما إذا أصرّوا على الكفر والعناد فإن العذاب الأكبر ينتظرهم يوم القيامة.
ولقد أنزلنا التوراةَ على موسى كما أنزلنا عليك القرآن، فلا تكن في شكٍّ من لقائك الكتاب وجعلنا الكتاب الذي أنزلناه على موسى مرشِدا لبني إسرائيل.
وجعلنا من بني إسرائيل أئمةً في الدّين من أنبيائهم يقومون بهداية الناس كما أمرناهم لأنهم صبروا على طاعتنا، وكانوا من أهْل الإيمان واليقين. ولكن عهد هؤلاء الأنبياء قد ولىّ وعاد اليهود إلى عبادة العجل من الذهب.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي و رويس :﴿ لِمَا صبروا ﴾ بكسر اللام وتخفيف الميم، والباقون بفتح اللام وتشديد الميم :﴿ لَمَّا صبروا ﴾.
أوَلم تبيّن لهم طريقَ الحق كثرةُ ما أهلكنا من الأمم الماضية، وهم يمشون في أرضهم ويشاهدون آثارهم كعادٍ وثمود وقوم لوط، إن في ذلك لعظاتٍ تبصرّهم بالحق، أفلا يسمعون ؟
وبعد أن بين قدرته على الإهلاك، يبين الله تعالى قدرته على الإحياء، فيقول :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إلى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ﴾ :
ألم يشاهد هؤلاء الجاحدون أنّا ننزل الماء على الأرض اليابسة التي لا نبات فيها فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم، وتتغذّى به أجسامهم ؟ ! أفلا يبصرون دلائل قدرة الله على إحياء الأرض بعد موتها ! !
ثم يذكر الله تعالى استعجالَ أولئك الجاحدين بالعذاب الذي يوعَدون وأنهم في شك منه، ويردّ عليهم مخوِّفاً ومحذّرا من تحقيق ما يستعجلون به، فيقول :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ؟ قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ :
ويقول المشركون : متى ستنصَرون علينا في الدنيا، ويفصل بيننا وبينكم في الآخرة ؟