تفسير سورة التوبة

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة التوبة مدنية
١- وتسمى براءة، والفاضحة لأنها فضحت أمر المنافقين، ولها أربعة عشر اسما، وعدد آياتها مئة وتسع وعشرون آية. وهي مدنية بإجماع الصحابة، واتفق الصحابة رضوان الله عليهم على إسقاط البسملة من أولها، وهي السورة التاسعة في ترتيب المصحف، وقد نزلت في أواخر السنة التاسعة من الهجرة، فكانت من آخر ما نزل من القرآن الكريم، وفي هذه السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى تبوك ليغزو الروم، وخرج أبو بكر على رأس المسلمين لحج بيت الله الحرام.
وقد حمل عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه هذه السورة إلى المسلمين في الحج وقرأها عليهم، وأمير الحج كما تقدم أبو بكر رضي الله عنه.
وقد ابتدأت السورة ببراءة الله تعالى من المشركين، فسميت براءة، وعرفت بجملة أسماء، تدل بمجموعها على ما اشتملت من المبادئ والمعاني التي تجب مراعاتها في معاملة الطوائف كلها، مؤمنهم، ومنافقهم، وكتابيهم، ومشركهم.
ومن تلك الأسماء أشهرها " التوبة "، إشارة إلى ما تضمنته السورة من تسجيل توبة الله وتمام رضوانه على المؤمنين الصادقين، الذين أخلصوا في مناصرة الدعوة، وصدقوا في الجهاد مع النبي حتى بلغ بهم الغاية ﴿ لقد تاب على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة... الآيتان ١١٩ -١٢٠ ﴾.
ومن الأسماء " براءة "، إشارة إلى ما تضمنته السور في أولها من قطع عصمة مشركي جزيرة العرب على الإطلاق، حتى يخضعوا لسلطان الإسلام، ﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين... الآية ١ ﴾.
ومن أسمائها : الحافرة، والمثيرة، والفاضحة، والمنكلة، وغيرها مما احتفظت به كتب التفسير. وهي ألقاب أطلقت عليها باعتبار ما قامت به من حفر قلوب المنافقين، وإثارة أسرارهم، وفضيحتهم بها، وتنكيلها بهم الخ...
وهي سورة مستقلة، يثبت ذلك هذه الأسماء المتعددة التي أطلقت عليها من الصدر الأول، ولم يعرف إطلاق واحد منها على سورة الأنفال، وقد نزلت سورة الأنفال بعد غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وسورة التوبة بعد غزوة تبوك في أواخر السنة التاسعة من الهجرة.
وأما ترك التسمية في أولها فإنه ترتيب إلهي، وكل قول خلاف هذا لا قيمة له.
٢- ولسورة التوبة بحكم خروج النبي الكريم إلى تبوك يغزو الروم، وخروج أبي بكر على رأس المسلمين لحج بيت الله الحرام – هدفان هامان في تاريخ الدولة الإسلامية :
الأول : تحديد القانون الأساسي الذي تشاد عليه دولة الإسلام، وذلك بالتصفية النهائية بين المسلمين ومشركي العرب بإلغاء معاهداتهم، ومنعهم من الحج، وتأكيد قطع الولاية بينهم وبين المسلمين، وبوضع الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في جزيرة العرب وإباحة التعامل معهم.
الثاني : إظهار ما كانت عليه نفوس المسلمين حينما استنفرهم الرسول إلى غزو الروم، وفي هذه الدائرة تحدثت السورة عن المتثاقلين منهم والمتخلفين والمثبطين، كما كشفت الغطاء عن فتن المنافقين وما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد وما قاموا به من أساليب النفاق وألوانه.
وقد عرضت السورة من أولها للهدف الأول، واستغرق ذلك إلى آخر الآية الثامنة والعشرين، وهي قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾. وقد تضمنت الآيات التي تختص بالمشركين ما يأتي :
أولا : تقرير البراءة ورفع العصمة عن الأنفس والأموال.
ثانيا : منحهم هدنة مقدارها أربعة أشهر.
ثالثا : إعلان الناس جميعا يوم الحج الأكبر بهذه البراءة.
رابعا : إتمام مدة العهد لمن حافظ منهم على العهد.
خامسا : بيان ما يعاملون به بعد انتهاء أمد الهدنة أو مدة العهد.
سادسا : تأمين المستجير حتى يسمع كلام الله.
سابعا : بيان الأسباب التي أوجبت البراءة منهم وصدور الأمر بقتالهم.
ثامنا : إزالة وساوس قد يخطر في بعض النفوس أنها تبرر مسالمة المشركين أو البقاء معهم على العهود.
وتضمنت الآيات فيما يختص بالمنحرفين من أهل الكتاب ما يأتي :
أولا : الأمر باستمرار قتالهم الذي بدأوا به حتى تبدو عليهم آية الخضوع لسلطان الإسلام وذلك بدفع الجزية للمسلمين.
ثانيا : بيان صفاتهم التي قررت استمرار قتالهم بعد عدوانهم حتى يخضعوا.
ثالثا : أرشدت الآيات –في هذا السياق- إلى خطة رؤسائهم الدينيين في سلب أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله، كما أشارت إلى سوء ذلك وسوء عاقبة كنز الأموال، وعدم إنفاقها في سبيل الله، وإلى تحذير المؤمنين من الوقوع في ذلك.
وقد استغرقت هذه الموضوعات من الآية التاسعة والعشر ين ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون الله ولا باليوم الآخر –إلى قوله : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ إلى نهاية الآية الخامسة والثلاثين :﴿ هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ﴾.
ثم عرضت إلى بعض تصرفات في الحل والحرمة كان يفعلها المشركون في الأشهر الحرم إمعانا في تلبية الهوى والشهوة، وأهمها النسيء الذي قال الله تعالى فيه :﴿ إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا... الآية ﴾.
وبذلك كانت الآيات التي عرضت لهذه الموضوعات والتي بلغها علي بن أبي طالب للناس في موسم الحج من السنة التاسعة : سبعا وثلاثين آية.
٣- وقد بينت كثيرا من الأحكام للمسلمين، فجاء النص فيها على عدد الأشهر الحرم، وفيها بينت ضرورة النفر إلى القتال عند كل نداء من غير تلكؤ. وفيها من بعد ذلك إشارات إلى المخلفين والمعوقين عن الخروج للقتال، وبيان أحوال المنافقين الذين يبتغون الفتنة في كل قوت تكون الدعوة فيه إلى القتال.
وفيها بيان الأمر القاطع المعلن لعقوبة النفاق، وهو أن لا يصلي النبي على ميت منهم. ثم ترد في السورة الأعذار التي تسوغ التخلف، كما تجيء حال الذين أظهروا الدخول في الإسلام من الأعراب، أو خضعوا لأحكامه بعد أن صارت له قوة، وكان هؤلاء الأعراب يقيمون حول المدينة وقريبا منها.
وتصنف السورة بعد ذلك أحوال الناس بالنسبة للإيمان، وخبر مسجد الضرار، وهو المسجد الذي بناه المنافقون ليغضوا من قدر المسجد الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر سبحانه أوصاف المؤمنين الصادقين في إيمانهم، وتوبة الثلاثة الذين كانوا تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك، كما ذكر الله أحوال الناس في تلقي آيات القرآن عند نزولها، وختم السورة بأن الله اختار محمدا للرسالة، وهو لا يريد عنت من أرسل إليهم، وهو بهم رؤوف رحيم.
والواقع أن سورة التوبة –في الوقت الذي ترشدنا فيه إلى الأسس التي لا بد منها للمسلمين في حفظ كيانهم الداخلي والخارجي تعطينا في الوقت نفسه مع سورة الأنفال ما يشبه أن يكون سورة تاريخية مجملة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وجهاده إلى أن أقر الله عينه بثمرة ذلك الجهاد وتبليغ تلك الدعوة.
بسم الله الرحمان الرحيم
براءة : إعذار وإنذار بانقطاع العصمة.
لقد دلت تجربة الرسول الكريم وأصحابه مع المشركين في جميع أنحاء الجزيرة العربية أن هؤلاء لا أمان لهم ولا عهود، ولا يُؤمَن غدرُهم في حالي القوة والضعف، بل لا يستطيع المسلمون أن يعيشوا على أسس المعاهدات ما داموا على شِركهم. فجاءت هذه السورة تأمر المسلمين بنبذِ عهود المشركين المطلقة، وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام. وهكذا حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى محا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام.
وقد زاد إقبال العرب على الإسلام بعد الحجّة التي حجّها أبو بكر سنة تسع للهجرة، وفي هذه الحجة أرسل النبيّ عليّ بن أبي طالب ليلحق بأبي بكر، ويتلو على الناس قرآنا. فكان فصلا بين عهدين : عهدٍ كان الإسلام يقوى فيه شيئا فشيئا، لكن مع بقاء الشرك في بعض القبائل، وعهد آخر خلصت فيه الجزيرة كلها للإسلام. والقرآن - الذي تلاه عليٌّ على الناس، وفَرّق الله به بين هذين العهدين - هو هذه الآيات الكريمة من سورة التوبة.
﴿ بَرَاءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين ﴾.
هذه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم أيُها المسلمون من المشركين، فيها إنذار بقطع تلك المعاهدات.
فسِيحوا في الأرض : تجوّلوا فيها وتنقلوا.
مخزي الكافرين : مذلهم.
قولوا لهم أيها المسلمون : سِيروا في الأرض وأنتم آمنون لا يتعرّض لكم أحدٌ من المسلمين بقتال مدة أربعة أشهر، تبتدئ من عاشرِ ذي الحجّة من سنة تسع للهجرة ( وهو يوم النحر الّذي بُلِّغوا فيه هذه الدعوة )، وتنتهي في العاشر من شهر ربيعٍ الآخِر من سنة عشر. انتقِلوا طوال هذه المدة حيث شئتم، وأنتم تفكرون في عاقبة أمركم، ثم تخيَّروا بين الإسلام والاستعداد للقتال، واعلموا أنكم لن تُعجزوا الله إذا أصررتم على شِرككم، بل سيسلّط عليكم المؤمنين ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم به. والعاقبة للمتقين.
وأذان من الله : إعلام منه تعالى ومن رسوله ببراءتهما من المشركين.
هذا بلاغ من الله ورسوله إلى الناس كافة، في اجتماعهم يوم النّحر من الحجّ الأكبر، يصرح بالبراءة من عهود المشركين.
فيا أيها المشركون الناقضونَ للعهدِ، إن تُبتم ورجعتم عن شِرككم بالله، وعن خيانتكم وغدْرِكم، كان ذلك خيراً لكم في الدنيا والآخرة، أما إن بقيتم على ما أنتم عليه، فاعلموا أنكم لن تُفلِتوا من سلطان الله ولا من وعده لرسوله وللمؤمنين بالنصر عليكم.
وبشّر أيها الرسول الكريم جميع الكافرين بعذاب أليم في الآخرة.
لم ينقصوكم شيئا : لم يخلّوا في شروط المعاهدة.
ولم يظاهروا عليكم : لم يعاونوا أحداً عليكم.
أما من عاهدتم من المشركين، فحافَظوا على عهودكم ولم يُخِلّوا بشيء منها، ولم يُعِينوا عليكم أحداً، فأوفوا لهم عهدهم إلى نهايته واحترِموه ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين ﴾ الذين يحافظون على عهودهم.
وفي هذه الآية دليلٌ على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهدُ معقودا وتصريحٌ بأن العهد المؤقت لا يجوز نقضُه إلا بانتهاء وقته، هذا إذا حافظ العدو المعاهد على ذلك العهد، فإن نقض شيئا منه اعتُبر ناقضاً كما قال تعالى ﴿ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً ﴾.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحَجَّة في مؤذِّنِين بعثَهم يوم النحر يؤذنون بِمِنَى : أن لا يحُجّ بعد العام مُشرِك، ولا يطوفَ بالبيت عُريان، ثم أردف بعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن يؤذن ببراءة، يعني يتلوها على الناس.
فإذا انسلخ : إذا انقضت وانتهت.
الأشهر الحرم : هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.. حرم الله فيها القتال.
احصروهم : احبسوهم امنعوهم من الخروج.
المرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو.
بعد تقرير الحكم ببراءة الله ورسوله من المشركين، مع استثناء الذين لم ينقُصوا المسلمين شيئاً ولم يُظاهروا عليهم أحداً، قفى على ذلك بذكر ما يجب أن يفعله المسلمون بعد انقضاء الأجل المضروب والأمان الذي أُعطي لهم.
فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرَّم الله فيها قتال المشركين، فافعلوا كل ما ترونه موافقاً للمصلحة من تدابير الحرب وشئونها.. اقتلوا الناقضين للعهد في كل مكان، وخُذوهم بالشدّة، واضربوا عليهم الحِصار بسدّ الطرق، واقعدوا لهم في كل سبيل فإن تابوا عن الكفر، وأسلموا والتزموا بأحكام الإسلام، فلا سبيل لكم عليهم، لدخولهم في دين الله. إن الله تعالى يغفر لهم ما سبق من الشرك والضلال، فهو واسع الرحمة بعباده.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أُمرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسولُ الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا منّي دماءَهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحِسابُهم على الله ).
استجار : طلب الأمان والحماية.
أَجره : أمنه.
مأمنه : مسكنه الذي يأمن فيه.
وإن طلب منك الأمانَ أيها الرسول، أحدٌ من المشركين الذين أُمرتُم بقتالهم ليسمعَ دعوتك ويعلم ما أنزلَ اللهُ، فأمِّنْه حتى يسمعَ كلام الله، فان دخل في الإسلام فهو منكم، وإن لم يدخل فأبلِغْه مسكنه الذي يأمن فيه. وهذا الأمر بتأمين المستجدِّ من هؤلاء الناس حتى يسمع كلام الله إنما تبريره أنه جاهل للإسلام، وأمثاله قوم لا يدرون ما الكتاب ولا الإيمان.
انتهى في الآيات السابقة من تقرير الأحكام النهائية بين المسلمين والمشركين في الجزيرة، فأخذ في الآيات اللاحقة يقرر أنه لا ينبغي أن يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله : كيف يكون لهؤلاء الناقضين للعهود مرارا، عهدٌ محترم ؟ لا تأخذوا أيها المسلمون، بعهودهم إلا الذين عاهدتموهم منهم عند المسجد الحرام ( مثل بني كِنانة وبني ضمَرة ) لأنهم لم ينقضوا عهدهم الذي عاهدوا الرسول عليه يوم الحديبية، وهي قريبة من مكة، ولذلك قال تعالى : عند المسجد الحرام. فاستقيموا أيها المسلمون على عهد هؤلاء ما داموا مستقيمين. ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين ﴾ الذين يخشون نقض العهد، فلا يفعلونه.
إلاًّ : جوارا أو قرابة.
كيف تحافظون على عهودهم، وهم قوم إن تمكنوا لم يدّخروا جُهدا في القضاء عليكم، غير مراعين جواراً ولا قرابة ولا عهدا.
ثم بين الله ما تنطوي عليه نواياهم من الضغينة فقال :
﴿ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
إنهم يخدعونكم بكلامهم المعسول، وقلوبهم منطوية على كراهيتكم، وأكثرُهم خارجون عن الحق ناقضون للعهد، فليس عندهم وفاء لكم ولا ود.
يعود الله تعالى في هذه الآيات لاستنكار مبدأ التعاهد بأسبابه التاريخية والواقعية بعد أن استنكره بأسبابه العقيدية والإيمانية، ويجمع بين هذه وتلك في هذه الآيات. فيقول عنهم أنهم استبدلوا بآيات اللهِ عَرَضاً قليلا من حُطام الدنيا، وصدّوا بسبب هذا الشِراء الخسيس أنُفسَهم عن الإسلام ومنعوا الناس عن الدخول فيه ﴿ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾. ألا لقد قَبُح، عملهم هذا، من اشتراء الكفر بالإيمان، والضلالة بالهدى، ونكران ما جاء رسول الله به من البينات.
ثم إنهم لا يُضمرون هذا الحقد لأشخاصكم فقط، بل يضمرونه لكل مؤمن، ويتّبعون هذا المنكر مع كل مسلم، ولا يراعون فيكم عهداً.
من أجل هذا الكفر لا يحترمون لمؤمن قرابةً ولا عهدا. ذلك أن سمة العدوان أصيلة فيهم، فمن شأنهم عدم التقيد بالعهود، بحكم عنادهم وكفرهم وكراهيتهم للإيمان. لا علاج لهؤلاء أبداً إلا إجبارهم على الرجوع عن الكفر، والاعتصام بالإيمان.
ثم بين الله كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين :
﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾.
إذا رجع هؤلاء المشركون الذين أُمرتم بقتالهم عن شِركهم، والتزموا أحكام الإسلام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، والله يفصّل هذه الأحكام ويبيّنها لمَن يدركُها ويدركُ حِكمتها من الذين يعلمون، وهم المؤمنون.
وإن نكثَ هؤلاء ما أبرمتْه أيمانُهم بالوفاء بالعهد الذي عقدوه معكم، وعابوا دينكم وصدّوا الناس عنه، فقاتِلوهم، إنهم أئمة الكفر، لأنهم لا عهد لهم ولا ذمة، قاتِلوهم رجاءَ أن ينتهوا عن الكفر ونقضِ الأيمان والعهود.
ومع أن هذه النصوص كانت في المشركين، زمن الرسول الكريم، فهي مستمرة مع أئمة الكفر في كل زمان ومكان. خذ اليهود اليوم، إنهم هم المعتدون، تساندهم قوى الغرب المستبدّة الآثمة، وكلهم أعداء الإنسانية والإسلام، فعلينا أن نصحو من سباتنا، ونستعدّ، وأكبر سلاح لنا هو الإيمان بالله وبقضيتنا العادلة واتحادنا.
ثم أعاد الله الكرَّة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد المعتدين.
قاتِلوا هؤلاء المشركين لأسباب ثلاثة.
أولا : إنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيدِ عهدهم الذي عقدوه يوم صُلْح الحديبية.
ثانيا : إنهم همُّوا بإخراج الرسول الكريم من مكة، وأرادوا قتْلَه بأيدي عُصْبة من بطون قريش ليتفرق دمه في القبائل فتتعذر المطالبة به.
ثالثا : إنهم بدأوا بقتال المؤمنين في بدر حين قالوا بعد العلم بنجاة قافلتهم : لا ننصرف حتى نستأصل محمداً وأصحابه، وكذلك قاتَلوكم في أحُد والخندق وغيرهما.
﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ ﴾.
بعد هذا كله، أتتركون قتالهم خوفاً وجبناً منكم ! إن الله أحقّ أن تخشوا مخالفة أمره وأن تخافوه إن كنتم صادقين في إيمانكم.
ثم يحرض الله المؤمنين على القتال بقوله :
﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾.
قاتِلوهم أيها المؤمنون ولا تخافوا، إن الله سوف يعذّبهم على أيديكم، ويذلّهم بالأسر لكم، وسوف ينصركم عليهم حتى لا تقوم لهم قائمة بعد هذه، ويَشْفي صدور أناس منكم نالوا من أذاهم قدرا كبيرا لم تكونوا تستطيعون دفعه... إنه سوف يشفي تلك النفوس من غيظها المكظوم، بانتصار الحق كاملا، وهزيمة الباطل.
بانتصاركم عليهم سيملأ الله قلوب المؤمنين فرحا، ويذهب عنهم الغيظ الذي كان قد وَقَر فيها من غدر المشركين وظلُمهم.
ويقبل الله توبة من يشاء منهم، وهو العليم بشؤون عباده، الحكيم فيما يشرّع لهم من الأحكام.
الوليجة : بطانة الرجل، وخاصته.
أظننتم أن تُتركوا وشأنكم بغير فتنةٍ ولا امتحان، ولم يتبيّن الخلَّصُ المجاهدون منكم الذين لم يتخذوا لأنفُسِهم بطانةً من المشركين، من المنافقين الذين يُتقنون استخدام الأعذار، ويدورون من خلف الجماعة ليُطْلعوا الأعداءَ على الأسرار ! لا تظنّوا أيها المؤمنون، أن يترككم الله تعالى دون اختبار لكم بالجِهاد ونحوه، ليَظهَرَ المحسنُ منكم من المسيء، وتُعرَفَ المداخل، ويعرف الناسُ كلا الفريقين على حقيقته.
﴿ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ لا يخفى عليه شيء من أمركم، فهو محيط بكل شيء علما.
المسجد : مكان السجود، ثم صار اسماً للبيت الذي يخصص لعبادة الله. أن يعمروا : يتعبدون فيه، وتطلق على العمارة والبناء والخدمة.
بعد أن فتح المسلمون مكة، وطهر الرسول المسجدَ الحرام مما كان فيه من الأصنام، بقي أن يطهره من العبادات الباطلة التي كان المشركون يقيمونها فيه. فأرسل عليّ بن أبي طالب وأمره أن يتلو على مسامع الحجيج أوائل سورة التوبة يومَ الحجّ الأكبر إلى مكة. وكان مما تضمنه هذا البلاغ العام أن يعلم أهل مكة المشركون أن عبادتهم الباطلة ستمنع من المسجد الحرام، بعد ذلك العام. وقد نادى عليُّ ومن معه في يوم النحر بِمِنى : لا يحجّ بعد هذا العام مشرِك ولا يطوف بالبيت عُريان.
لا يحق للمشركين أن يعمروا مساجد الله بالعبادة، أو الخدمة والوَلاية، ولا أن يزوروها حجّاجا أو معتمرين، ما داموا مستمرّين على كفرهم. ولبس بعد الآن تردد في حرمانهم من زيارة البيت الحرام أو عمارته، إنما تكون عمارته بالعبادة الصحيحة حقاً خالصاً للمؤمنين بالله، القائمين بفرائضه.
﴿ أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم الخالدون ﴾.
أولئك المشركون لا اعتداد بأعمالهم، ولا ثوابَ لهم عليها، وهم مقيمون في دار العذاب إقامة خلودٍ وبقاء، لكفرهم، وصدهم عن سبيل الله.
إن المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان بالله وحده والإيمان باليوم الآخر، الذين أدّوا الصلاة على وجهها، وأخرجوا الزكاة، ولم يخشوا إلا الله وحده.
﴿ فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين ﴾.
أولئك الذين آمنوا إيمانا خالصا، وجمعوا بين الأركان الهامة من أركان الإسلام هم الذين يرجون أن يكونوا من المهتدين إلى ما يحب الله ويرضيه. فالعبادة تعبير عن العقيدة، فإذا لم تصحّ العقيدة لم تصح العبادة. أما أداء الشعائر وعمارة المساجد فليست بشيء ما لم تَعمُر القلوب بالاعتقاد الصحيح، والعمل الواقع الصريح.
سقاية الحاج : ما كانت قريش تسقيه للحجّاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يقوم بها العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في الجاهلية وبقيت معه في الإسلام.
هذا توبيخ من الله تعالى لقومٍ افتخروا بالسقاية والسِّدانة، وهي حجابة البيت، فأعلمهم الله أن الفخر الحقيقي إنما يكون في الإيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله. وذلك بمعنى أنه لا ينبغي أن تجعلوا أهل السقاية والعمارة في الفضيلة كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله، إن الفئتين ليْسَتَا بمنزلة واحدة عند الله.
﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾، المشركين الذين لا يخلِّصون عقيدتهم من الشرك، ولو كانوا يعمرون البيتَ ويسقون الحجيج.
ثم بيّن سبحانه مراتب فضْلِهم إثر بيان عدم استوائهم هم والمشركين الظالمين فقال :
﴿ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾.
إن الذين صدّقوا بوحدانية الله، وهاجروا من دار الكفر إلى دار الإسلام، وتحمّلوا مشاقّ الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، هم أعظمُ منزلةً وأعلى مقاما في مراتب الفضل والكمال عند الله من أهل سِقاية الحاجّ وعَمارة المسجد بدون إيمان بالله.
وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله وكرامته.
ثم فصّل الله تعالى ذلك الفوز العظيم وبينه فقال :
﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ﴾. هؤلاء الذين جمعوا الصفاتِ الحميدةَ يبشّرهم الله تعالى برحمته الواسعة التي تشملهم، ورضوان كامل من لدنْه، وهو أكبر جزاءٍ. وسيُدخلهم يوم القيامة جناتٍ لهم فيها نعيمٌ ثابت دائم.
وسيُدخلهم يوم القيامة جناتٍ لهم فيها نعيمٌ ثابت دائم. ﴿ إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾، لهؤلاء المؤمنين الذين تحملوا مشاق الهجرة والجهاد ثوابٌ لا يقدِّر قدْره إلا الله الذي تفضل به.
استحب : أحب.
الظلم : وضع الشيء في غير موضعه.
لمَّا أعلن الله براءته وبراءة رسوله من المشركين وآذنهم بنبذ عهودهم، عز ذلك على بعض المسلمين وتبرّم به ضعفاء الإيمان، وكان أكثرهم من الطلقاء الذين أعتقهم النبيُّ يوم فتحِ مكة. وكان موطن الضعف نصرةَ القرابة وعصبية النسب. فجاء «الكتاب » هنا يجرد المشاعرَ والصلاتِ في قلوب المؤمنين ويمحّصها، فيدعو إلى تخليصها من وشائج القربى والمصلحة. ثم إنه يجمع لذائذ البشر، ووشائج الحياة فيضمها في كفّةٍ، ويضع حبّ الله ورسوله وحب الجهاد في الكفّة الأخرى ويدعو المسلمين للخيار.
﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إَنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان ﴾.
يا أيها المؤمنون، لا تتخذوا من آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وعشيرتكم وأزواجِكم نصراءَ لكم ما داموا يحبّون الكفرَ ويفضّلونه على الإيمان.
﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾.
ومن يتولّهم ويستنصر بالكافرين فإنه من الظالمين الّذين تجاوزوا الطريق المستقيم
العشيرة : ذو القرابة الأدنون، وقبيلة الرجل. قال تعالى :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ].
اقترفتموها : اكتسبتموها.
فتربصوا : انتظروا.
أمره : عقوبته.
وبعد أن بيّن ما وصل إليه حالُهم من الإخلال بالإيمان انتقل إلى بيان سبب ذلك فقال :
﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ... الآية ﴾.
قل أيها الرسول للمؤمنين : إن كنتم تفضّلون حظوظَ الدنيا وشهواتِها من الآباء والأنباء والإخوان والأزواج والعشيرةِ والأموال، والتجارة التي تخافون كسادها، والمساكن التي ترضُونها، على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله الذي وُعِدتُم عليه أنواعَ السعادة الأبدية في الآخرة، فانتظِروا حتى يأتي الله بحكمه فيكم وعقوبته لكم.
والخلاصة : إن كانت رعايةُ هذه المصالح الدنيوية أَوْلى عندكم من طاعة الله والرسول والجهادِ في سبيل الله، فتربّصوا بما تحبون حتى يأتي الله بعقوبته من عنده.
﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ﴾ الخارجين على حدود الدين.
قراءات :
قرأ أبو بكر :«وعشيراتكم ».
مواطن : جمعَ موطن وهو مقر الإنسان ومحل إقامته. والمراد هنا الأماكن التي نصروا فيها.
حُنين : واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من الطائف.
لم تغن عنكم شيئا : لم تنفع ولم تدفع عنكم شيئا.
رحبت : اتسعت.
مدبرين : هاربين.
لقد نصركم اللهُ أيها المؤمنون، على أعدائكم في كثيرٍ من المواقع بقوة إيمانكم، وخالصِ نيّاتكم، لا بكثرةِ عَددكم ولا بقُوتّكم.
وحين غرّتكُم كثرتكم في معركة حُنين، ترككم اللهُ لأنفسِكم أولَ الأمر، فلم تنفعْكم كثرتكم، شيئا، ولشدّة الخوف والفزَع ضاقت عليكم الأرضُ على اتّساعها، فلم تجدوا وسيلةً للنجاة إلا الهربَ والفرار من العدوّ، فولَّيتم منهزمين، وتركتم رسول الله في قلة من المؤمنين.
وقد كانت وقعة حُنين بعد فتح مكة في شوّال سنة ثمانٍ من الهجرة. فبعد أن فرغ النبيّ من فتحِ مكة، بلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه، كما انضمّ إليهم بنو ثَقيف وبنو جُشم، وبنو سعد بن بكر، وبعضُ بني هلال، وأناس من بني عمرو بن عامر، وكان أميرهم مالك بن عوف النضري. وكان عدد جيشِ المسلمين عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، مع ألفين من الذين أسلموا من أهل مكة. وكان عدد هوازن ومن معها أربعةَ آلاف مقاتل، ومعهم نساؤهم وولدانهم وجميع ما يملكون من شاءٍ ونعم.
خرج الرسول الكريم بهذا الجيشِ في غَلَس الصبح، وانحدروا بوادي حُنين. وكان جيش العدو قد سبقهم إلى احتلال مَضايِقه، وكَمَن لهم فيها. وما إن وصل المسلمون قلب الوادي، حتى أمطرهم العدو بوابلٍ من سهامه، وأصلتوا السيوف، وحملوا حَمْلَة رجلٍ واحد. فكانت مفاجأة أذهلت المسلمين حتى فرّ معظمهم. وثبت رسول الله وهو راكب بغلته الشهباء وعمُّه العباس آخذٌ بركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث ابنُ عمّه آخذٌ بركابها الأيسر، ويحيط به أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والفضل بن العباس، وأيمن بن أم أيمن، ونوفل بن الحارث، والمغيرة بن الحارث، وربيعة بن الحارث.. وكلّهم أبناء عم الرسول، وأسامةُ بن زيد وغيرهم نحو مائة رجل، والنبيّ عليه الصلاة والسلام يدعو المسلمين إلى الرجوع ويقول :( إليّ يا عبادّ الله، إليّ أنا رسولُ الله ) ويقول :( أنا النبيّ لا كذِبْ، أنا ابنُ عبد المطّلب ) ثم أمر العباسَ بن عبد المطلب، وكان جهير الصوت، أن يناديَ بأعلى صوته : يا أصحابَ الشجَرة، يعني شجرةَ بَيْعة الرّضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها. فجعل العباسُ يناديهم، وتارة يقول يا أصحاب سورة البقرة. فصار الناس يقولون لبّيك لبيك، وانعطفوا وتراجعوا إلى رسول الله.
ولما تكامل جمْعُهم شدّوا على الكفار بقوة وصدق وحملوا عليهم فانهزم المشركون. واتّبعهم المسلمون يقتُلون فيهم ويأسرون، وغنموا جميع ما معهم من نَعَمٍ ونساءٍ وأطفال.
وهكذا التقى الفريقان : المؤمنون بكثرتِهم وقد أعجبتْهم، والمشركون بقلّتهم العنيفة، وكان الجولةُ في بدء المعركة للمشرِكين، لغُرور المسلمين وعدم احتياطهم. ولكن المعركة انتهت بنصر المؤمنين. والعبرة في هذه الغزوة أن الكثرة العددية ليست عاملَ النصر، وإنما هو القوةُ المعنوية، والإيمان بالله والصدق والإخلاصُ في العمل.
السكينة : الطمأنينة.
ثم أدركَتْكُم عنايةُ الله، فأنزلَ الطمأنينةَ على رسوله وعلى المؤمنون فملأ بها قلوبهم. كما أنزلَ مع السَّكينة جنوداً لم تروْها بأبصاركم، فثّبت أقدامَكم فانتصرتم، وعذّب الذين كفروا بالقتل والسبي والأسر. وقد أذاقهم اللهُ مرارةَ الهزيمة، وذلك جزاء الكافرين في الدنيا، وجزاؤهم في الآخرة أعظم.
ثم يقبلُ الله توبةَ من يشاء من عباده فيغفرُ ذنبه، إذا رجع عنه مخلصاً، واللهُ عظيم المغفرة واسعُ الرحمة، وبابُ الرحمة مفتوح دائما لمن يخطئ ثم يتوب.
روى البخاري عن المسور بن مخرمة :( أن ناساً من هَوازن جاءوا رسول الله وبايعوه على الإسلام وقالوا : يا رسولَ الله، أنتَ خير الناس وأبرُّ الناس، وقد سُبي أهلونا وأولادنا وأُخذت أموالُنا، فقال عليه الصلاة والسلام : اختاروا إما ذراريكم ونساءَكم، وإما أموالكم، قالوا : ما نعدل بالأحساب شيئا، فرد ذراريهم ونساءهم ).
النجس : القذر. ويكون حسّياً، ومعنويا. والنجاسة هنا معنوية، فإن جسم الإنسان لا ينجس مهما كانت عقيدته.
العيْلة : الفقر.
في هذه الآية القولُ الفصلُ بشأن المشركين، وأنهم ممنوعون من دخول الحرَم. يا أيها المؤمنون، إنما المشركون بسبب شِركهم بالله وعبادة الأوثان، قد نَجِست نفوسُهم، وهم ضالون في العقيدة، فلا تمكّنوهم من دخول المسجد الحرام بعد هذا العام.
وبلاد الإسلام في حق الكفار أقسام ثلاثة :
١- الحَرَم : ولا يجوز لكافر أن يدخله، بذلك قال معظم الأئمة، وقال أبو أبو حنيفة : يجوز للمعاهِد أن يدخل الحرم بإذن الخليفة أو نائبه.
٢- الحجاز : يجوز للكافر دخولُها بإذن، ولكنه لا يقيم فيها أكثر من ثلاثة أيام. ففي حديث مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لأخرجنَّ اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب، فلا أتركُ فيها إلا مسلما ). وقد أخرج مالك في الموطَّأ ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ). وقد أجلاهم عُمَرُ في خلافته.
٣- سائر بلاد الإسلام : ويجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان.
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ﴾.
وإن خفتم فَقْراً بسب انقطاع تجارتهم عنكم، فإن الله سوف يُعوّضكم عن هذا، ويغنيكم من فضله إن شاء، فهو المتكفّل بأمر الرزق. وقد فتح الله عليهم الرزق من أبواب واسعة، فأسلم أهلُ اليمن وصاروا يجلبون الطعام. وأسلم أولئك المشركون، ولم يبقَ أحدٌ منهم يُمنع من الحرم، ثم جاءتهم الثروة من كل جانب بما فتح الله عليهم من البلاد، فكثرت الغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فجّ.
﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ عليم بشؤونكم، حكيم يدبر الأمر كله عن تقدير وحساب.
يدينون دين الحق : يعتنقون الإسلام.
الجزية : الضريبة على الأشخاص لا على الأرض أو التجارة أو الماشية.
وهم صاغرون : أذلاء، خاضعون.
بعد أن ذكر الله تعالى أحكام المشركين في إظهار البراءة من عهودهم، وفي وجوب مقاتَلَتِهم وإبعادِهم عن المسجد، جاء هنا بحُكم أهل الكتاب وبيان الغاية منه. وفي ذلك توطئةٌ للكلام عن غزوة تبوك والخروج إليها في زمن العُسرةِ وقتَ الحر الشديد في الصيف، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين. ثم بعد ذلك بيّن انحراف اليهود والنصارى عن دِينهم الأصلي، وأنهم اتّخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أرباباً من دون الله، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام، وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسول الله وصحة دينه.
يا أيها الذين آمنوا، قاتِلوا الكافرين من أهل الكتاب الذين لا يؤمنون إيماناً صحيحاً بالله، ولا يقرّون بالبعث والجزاء إقرارً صحيحاً، بل يقولون إن حياة الآخرة حياةٌ روحانية يكون فيها الناس كالملائكة. وهم لا يحرّمون ما نهى الله ورسوله عنه، ولا يعتنقون الدين الحق وهو الإسلام... قاتِلوهم حتى يؤمنوا، أو يؤدُّوا الجِزيةَ خاضعين طائعين.
والجزيةُ ضريبة مالية من أموال غير المسلمين المستظِلّين براية الإسلام، وهي مقدار يتراوح بين اثني عشر درهما، وثمانيةٍ وأربعين. وذلك ليُسهموا في ميزانية الدولة التي تحميهم في أنفسِهم وأموالهم وأعراضهم. فهي في مقابل ما يؤخذ من المسلم، فالمسلم يُؤخَذ منه خُمس الغنائم، والزكاة، وصدقة الفطر، وغير ذلك مثل الكفّارات للذنوب المختلفة. وتنفق الجزية في المصالح العامة، وعلى فقراء أهل الذمة أيضا.
وتفرض الجزية على أهل الكتاب، ولا تُفرض على المشركين. هكذا عند جمهور العلماء. ويقرر أبو حنيفة أنها تفرض على غير المسلمين جميعا، أما المشركون الذين لا تقبل منهم فهم مشركو العرب فقط.
وفيما يلي عهد كتبه أحد أمراء عمر بن الخطاب إلى مَرزُبان وأهل دهستان.
«هذا كتاب سويد بن مقرن لمرزبان بن صول بن رزبان وأهل دهستان. وسائر أهل جرجان أن لكم الذمة وعليكم المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا عن جزائه، ولكم الأمان على أنفسكم وأموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يغير شيء من ذلك ».
شهد بذلك سواد بن قطبة، وهند بن عمر، وسماك بن مخزمة وعتيبة بن النهاس.
عزير : هو الذي يسميه أهل الكتاب عزرا.
يضاهئون : يشابهون ويحاكون.
يؤفكون : يصرفون عن الحق إلى الباطل.
ترك اليهودُ الوحدانية في عقيدتهم وقالوا : عُزيز ابنُ الله، وترك النصارى الوحدانية كذلك فقالوا : المسيحُ ابن الله. وقولهم هذا مبتدَع من عندهم، يردّدونه بأفواههم، لم يأتِهم به كتاب ولا رسول، وليس عليه حُجّة ولا برهان. وهم في هذا القول يشابهون قول المشركين قبلهم.
عجباً لهم كيف يَضِلّون عن الحق الظاهر ويَعْدِلون إلى الباطل !
وقد تُستعمل جملة «قاتله الله » هذه بالمدح.
روى ابن إسحاق، وابن جرير وابن مَرْدَوَيْه عن ابن عباس رضي الله عنه قال :«أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، وهم من رؤساء اليهود وأحبارهم، فقالوا : كيف نتّبعك وقد تركتَ قِبلتنا، وأنت لا تزعم أن عُزَيْراً ابن الله ».
وعُزير هذا كاهن يهودي وكاتب شهير سَكَنَ بابل حوالي سنة ٤٥٧ ق. م. أسَّس المجمع الكبير، وجمع أسفار الكتاب المقدس، وأدخل الأحرفَ الكِلدانية عوضاً عن العِبرية القديمة، وألّف أسفار الأَيام، وعِزرا، ونحِمْيا، وأحيا الشريعةَ اليهودية بعد أن نُسيت من أجْل هذا فاليهود يقدّسونه حتى إن بعض يهود المدينة أطلق عليه لقب ( ابن الله ).
وأما النصارى فقد كان القدماء منهم يَعْنُون بقولهم عن المسيح أنه «ابن الله » أنه المحبوبُ أو المكّرم، كما نقول نحن «الخلق عيال الله » وكان منهم موحِّدون. لكنهم في مَجْمَع نيقية سنة ٣٢٥م وتحت إشراف الملك قسطنطين، قرروا عقيدةَ التثليث، واعتمدوا الأناجيلَ الأربعة، وأحرقوا ما عداها وكانت تزيد على سبعين إنجيلا. وقد خالف في ذلك خلقٌ كثير منهم يُسَمَّون الموحِّدين أو العقليين، لكن الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية لا تعتدُّ بنصرانيتهم ولا بدِينهم، مع أن رسالة المسيح ثابتة في أناجيلهم. ففي إنجيل يوحنا :«وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك، أنتَ الإلهُ الحقيقي وحدك، ويسوع المسيحُ الذي أرسلتَه ».
قراءات :
قرأ :«عزير » بالتنوين عاصم والكسائي. والباقون :«عزير » بترك التنوين. وقرأ عاصم :«يضاهئون » بالهمزة والباقون :«يضاهون » بغير همزة.
الأحبار : واحدهم حبر بفتح الحاء وكسرها، العلماء.
الرهبان : واحدهم راهب وهو المنقطع للعبادة.
لقد اتخذوا رجالَ دِينهم أرباباً، يشرّعون لهم، ويكوِّن كلامهم دينا، ولو كان يخالف قولَ رسولهم، فاتّبعوهم في باطِلهم، وأضافوا إلى الشرائع ما سمِعوه من رؤسائهم وأقوال أحبارهم من قبلِ أن يدونّوه في المِشنَة والتلمود، ثم دونوه، فكان هو الشرعَ العام وعليه العملُ، وهو مقدَّم عندهم على التوراة.
وانظروا النصارى باتّخاذهم المسيحَ ربّاً وإلهاً، لقد غيرّ رؤساؤهم جميع الأحكام التي جاء بها المسيح، وزادوا حقَّ مغفرةِ الذنوب لمن شاؤا، والله تعالى يقول :
﴿ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله ﴾ [ آل عمران : ١٣٥ ] وزادوا القولَ بِعصمة البابا في تفسيرِ الكتب الإلهية، ووجوبِ طاعته في كل ما يأمر به من الطاعات، وينهى عنه من المحرمات.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عَدِيّ بن حاتم أنه فرّ إلى الشام ( وكان قد تنصَّر في الجاهلية ) فذهبت أخته بعد أن أسلمتْ ورغَبته في الإسلام والقدوم على رسول الله، فقدم المدينة، وكان رئيسا في قومه، فدخل على رسول الله وهو يقرأ «اتّخَذوا أحبارَهم ورهبانَهم أرباباً من دون الله »، قال عدي : فقلت : إنهم لم يعبُدوهم. فقال :«بلَى إنهم حَرّموا عليهم الحلالَ وأحَلّوا الحرام فاتّبعوهم، فذلك عبادتُهم إياهم ».
وقال رسول الله : يا عديّ ما تقول ؟ أيضرُّك أن يُقال اللهُ أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبرُ من الله ؟ وما يضرك أن يقال لا إله إلا الله، فهل تعلم إلهاً غيرالله ؟ ثم دعاه إلى الإسلام، فأسلم وشهد شهادة الحق، قال : فلقد رأيتُ وجهه استبشر ».
﴿ وما أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
وقد أمَرَهم الله في كُتبه على لسان رُسله أن لا يعبدوا إلا إلهاً واحدا، لأنه لم يستحق العبادة في حكم الشرع والعقل إلا الإله الواحد. تنزه الله عن الإشراك في العبادة والخَلْق والصفات.
نور الله : دين الإسلام.
يريد الكفار بمزاعمهم الباطلة أن يطفئوا نورَ الله وهو الإسلام، ولا يريدُ الله إلا أن يتم نورَه على الناس بإظهار دينه على يد خاتم النبييّن محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله إلى الخلق أجمعين. هذا هو الوعدُ الحق من الله تعالى، والدال على سنّته التي لا تتبدّل.
هو الله الذي كَفَل إتمامَ نوره بإرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالحجج البينّات، ودينِ الإسلام ليُعليَ هذا الدينَ ويرفع شأنه على جميع الأديان ولو كره ذلك المشركون. ولقد تحقَّقَ هذا الوعدُ على يد رسول الله وخلفائه ومن جاء بعدهم، ونشروا نور الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. لقد دام هذا النور فترةً طويلة من الزمن، ثم تخلّى أصحابُ هذا الدين عنه خطو خطوة. غير أن حالنا المؤلم ليس نهاية المطاف... إن وعد الله قائم ينتظر العصبة المسلمة التي تحمل راية الإسلام التي لا تُهزم، ولن يُخلِف الله وعدَه.
روى الإمام أحمد عن عدي بن حاتم : دخلتُ على رسول الله، فقال :«يا عدي أسلمْ : قلت : إني من أهل دين. قال : أنا أعلمُ بِدِينكم منك.. ألستَ من الركوسية :( دين بين الصائبة والنصرانية ) وأنت تأكل المرباع ( والمرباع ما كان يأخذه رئيسُ القوم من الغنائم، وهو من عادات الجاهلية ) ؟ قلت : بلى قال : فإن هذا لا يحلُّ لك في دينك. قال عدي : فتواضعتُ لَمّا قالها..... فقال : أتعرف الحِيرةَ يا عدي ؟ قلت : لم أرها، ولكن سمعتُ بها. قال : فوالذي نفسي بيده ليُتِمنَّ الله هذا الدين حتى تخرجَ الظعينةُ من الحِيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوارِ أحد، لتفتحن كنوز كسرى بن هرمز. قلت : كنوز كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يعيله أحد ».
قال عدي بعد ذلك : فهذه الظعينةُ تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنتُ في مَنْ فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة. يعني كثرة المال.
فوعدُ الله حق، والله يقول :﴿ إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [ محمد : ٨ ].
يأكلون أموال الناس : يأخذونها بغير حق وبطرقٍ غير مشروعة. يصدون عن سبيل الله : يمنعون الناس عن معرفة الحقيقة.
يكنزون الذهب والفضة : يخزنونها.
بعد أن بين الله تعالى في الآيات السالفة كيف بدّل اليهود والنصارى ديانتهم واتّخذوا أحبارَهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، يبيّن هنا سيرةَ كثيرٍ من هؤلاء الرؤساء الدينّيين في معاملاتهم مع الناس، ثم أوعدَ الباخِلين الذين يكنزون الذهب والفضة في خزائنهم ولا ينفقون منها في سبيل البر والخير، أوعَدَهم بالعذاب الأليم في نار جهنم.
﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله ﴾.
يا أيها المؤمنون : اعلموا أن كثيراً من علماء اليهودِ ورهبان النصارى يستحلُّون أكْلَ أموال الناس بغير حق، ويستغلّون ثقة الناس فيهم واتّباعَهم لهم في كلّ ما يقولون، ويصدّون الناسَ عن الدخول في الإسلام، ويَحْمِلونهم على الطعن فيه بما يبثّونه من تعاليم تخالف الواقع.
وقوله تعالى :( إن كثيراً من الأحبار والرهبان ) فيه دِقة واحتراز، فإن بينهم من لا يأكلُ أموال الناس ولا بدّ من أفرادٍ في أية جماعة من الناس فيهم بقيةُ خير.
وأخذُ أموال الناس بغير حقٍّ شرعيّ له طرق عديدة، منها الرشوة لأجل الحكم والمساعدة على إبطال حق أو إحقاق باطل. وهي حرام على كلّ من أخذَها سواء أكان من الرؤساء الدينيّين أو من الموظفين والحكّام...
وكذلك الرّبا، فإنه من أكبر الفواحش. ومنها أخذُ المال جُعلا على مغفرةِ الذنوب، ومنها أخذُ الأموال على الفتاوى لتحليلِ الحرام وتحريم الحلال. وهذا من أشدّ الذنوب وأكبر الكبائر، كما قال تعالى مخاطبا اليهود :
﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ].
﴿ والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
والذين يجمعون الأموالَ من جميع أصنافها ويكنزونها في خزائنهم، ولا ينفقون منها في سبيل الله بأن يُخرجوا زكاتها، ويتصدّقوا منها لبناء المدارس والمستشفيات، ودور الأيتام والدفاع عن الوطن والعقيدة، فهؤلاء أنذِرْهم أيها الرسول الكريم بعذابٍ موجع.
وقد وردت عدة روايات عن الصحابة والعلماء المجتهدين أن المال الذي تؤدى زكاتُه ليس بكنز، وهذا صحيح. ولكن هناك واجباتٍ أُخرى تستلزمها الضرورةُ فيجب على أصحاب الأموال أن يشاركوا فيها مثل : الجهاد، بناء المدارس، والمساجد، والمصحّات وغير ذلك، والذي يدخلُ تحت قوله تعالى :﴿ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقّ ٌمعلوم لَّلسَّائِلِ والمحروم ﴾ [ الذاريات : ١٩ ].
يؤتى بهؤلاء الناس يوم القيامة ويوقَدُ على هذه الأموال في نار جهنم ثم تُحرق بتلك الأموال المحْمَاة جباهُ أصحابها، وجنوبُهم وظهورهم، ويقال توبيخاً لهم : هذا ما ادّخرتموه لأنفسكم ولم تؤدوا منه حقَّ الله.
إن ما كنتم تظنّونه من منفعةٍ في كنزه لأنفسِكم قد كان لكم ضُرّاً، فقد صار في الدنيا لِغَيركم، وعذابُه في الآخرة لكم، فذوقوا اليوم العذاب الشديد.
ومن أكبر أسباب الضعف الظاهر الذي نراه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية البخلُ والشحّ المستولي على أرباب الأموال فهم لا يبخلون على شهواتهم بإنفاق الملايين، أما حين تُطلب منهم الحقوق الواجبة من أجل الدفاع عن الأوطان وصد المعتدين، فإنهم لا يؤدون ما يجب عليهم.
وقد وردت عدة روايات في نزول الآية، منها حديثُ أبي ذرّ الذي أخرجه البخاري وغيره، قال زيد بن وهب، أبو سليمان الجهني، وهو تابعي ثقة : مررت بأبي ذرٍ بالرَّبَذَة ( موضع بين مكة والمدينة ) فقلت :
يا أبا ذر، ما أنزلك هذه البلاد ؟ فقال : كنت بالشام فقرأت ( والذين يكنزون الذهب والفضة ) فقال معاوية : هذه نزلت في أهل الكتاب، فقلت : إنها فينا وفيهم. فصار ذلك سبباً للوحشة بيني وبينه، فكتب إليَّ عثمانُ أن أَقبلْ إليّ. فلما قدمت المدينة انحرف عني الناسُ كأنهم لم يروني من قبل. فشكوت إلى عثمان، فقال : تنحَّ قريبا. فقلت : إني واللهِ لم أدَع ما كنت أقول. وكان يندّد بأصحاب الأموال، ويخوّف الناسَ من جمع الأموال وخزنها، وكان يحدِّث الناس ويقول لهم : لا يبيتن عند أحدِكم دينارٌ ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعدّه لغريم الخ...
وأخرج أبو داود والحاكم وابن أبي شَيبة وغيرهم عن ابن عباس : قال :«لما نزلت هذه الآية ( والذين يكنزون الذهب والفضة ) كَبُرَ ذلك على المسلمين، وقالوا : ما يستطيع أحدٌ منا أن لا يُبقي لِولِده مالاً بعده، فقال عمر : أنا أفرَج عنكم، فانطلق وتبعه ثَوْبان، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال : يا نبيّ الله، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية. فقال : إن الله لم يفرض الزكاةَ إلا ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكم، وإنما فُرضت المواريثُ عن أموالٍ تبقى بعدكم، فكبَّر عمر رضي الله عنه » يعني من فرط سروره. وذلك يعني أن المال الذي أخرجت زكاته ليس بكنز.
الشهور : واحدها شهر هو جزء من السنة القمرية يقدر بدورة القمر حول الأرض، ويسمى الشهرَ القمري، ويكون ٢٩ يوما، وثلاثين يوما. منها أربعة حرم : جمع حرام، وهي من الحرمة بمعنى التعظيم.
القيم : الصحيح المستقيم.
إن عدد الشهور في السنة القمرية اثنا عشر شهرا في حكم الله وتقديره، وفيما بيّنه في كُتبه منذ بدء العالم، ومن هذه الاثني عشر شهراً أربعةُ أشهرٍ محرّمة معظّمة يحرم فيها القتال، وهي : رجب وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم.
﴿ ذلك الدين القيم ﴾.
والتحريم للأشهر الأربعة المذكورة هو دينُ الله المستقيم، الذي لا تبديل فيه ولا تغيير، فلا تظلِموا أنفسَكم في هذه الأشهر باستحلال القتال فيها، أو امتناعكم عنه إذا هاجمكم الأعداء. قاتِلوا أيها المؤمنون، كلَّ من يقاتلكم من المشركين جميعا، ولو كان ذلك في الأشهر الحرم. وذلك لأنهم إنما يقاتلونكم لإطفاء نور الإسلام، فأنتم أَولى بالاتحاد لدفع العدوان وجعل كلمة الله هي العليا.
﴿ واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين ﴾، ينصرهم ويعينهم ويوفقهم لما فيه خيرهم وصلاحهم. ومن كان الله معه فهو المنصور بلا جدال.
وقد وقَّت الله بالأشهر القمرية لأنها هي الأشهر الجارية على سنن الطبيعة لا زيادة ولا نقصان، ولتدورَ المناسكُ على جميع فصول السنة.
النسيء : التأخير، تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر كان العرب في الجاهلية يؤخرون شهراً إلى شهر آخر فكانوا مثلا يؤخرون المحرَّم إلى صفر، وهكذا وقد أبطله الإسلام.
ورثت العربُ من ملّة إبراهيم وإسماعيل تحريمَ القتال في الأشهر الحرم لتأمين الحجّ وطُرُقه. ولما طال عليهم الأمد غيّروا وبدّلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر، إذ كان يشِقُّ عليهم تركُ القتال وشنّ الغارات مدة ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا يحلُّون شهر المحرَّم ويؤخرون تحريمه إلى صَفَرَ لتبقى الأشهر الحُرُم أربعة.
وقال ابن كثير : إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سَرْد متوالية، وواحد فَرْدٌ وهو رَجَب، وذلك لأجل أداء المناسك، فحُرِّم قبلَ أشهرِ الحج شهرٌ وهو ذو القعدة لأنهم يقعُدون فيه عن القتال، وحُرّم ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداءِ المناسك. وحُرّم بعده شهر آخر هو المحرَّم ليرجِعوا فيه إلى أقصى بلادِهم آمنين. وحرم رجَبُ في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يَقْدَم إليه من أقصى الجزيرة فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا.
قال ابن إسحاق : كان أولَ من نَسأَ الشهور على العربِ، فأحلَّ منها ما حرّم اللهُ، وحرَم منها ما أحلّ الله عز وجل، «القَلَمَّس » وهو حُذَيفة بن فقيم الكِناني، ثم قام بعده أولاده وأحفاده بذلك. وكان آخرَهم جُنادةُ بن عوف، أبو ثمامة، وعليه قام الإسلام.
فكانت العرب إذا فرغت من حجّها اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيباً فحرَّم رجَباً وذا القعدة وذا الحجة ويُحِلَّ المحرّم عاماً ويجعل مكانه ( صَفَرا )، ويحرّمه عاما ليواطئ عدةَ ما حرّم الله، فيحلّ ما حرّم الله، ويحرّم ما أحلّ الله.
ومعنى :﴿ إِنَّمَا النسيء زِيَادَةٌ فِي الكفر... الآية ﴾.
إن تأخير هذه الأشهر الحُرُم أو بعضِها مما رتّبها الله عليه ( كما كان يفعل أهل الجاهلية ) هو إمعانٌ في الكفر، به يزداد الذين كفروا ضلالاً فوق ضلالهم، وذلك لجعلهم الشهر الحرام حلالا. لقد زيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم بهذه الشُّبهة الباطلة، واللهُ لا يهدي القوم الضالين المصرّين على كفرهم إلى طريق الخير.
قراءات :
قرأ نافع برواية ورش : إنما النسيُّ، والباقون :«النسيء » بالهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص :«يُضَلُّ » بضم الياء وفتح الضاد، وقرأ يعقوب :«يُضِل » بضم الياء وكسر الضاد. والباقون :«يَضِل » بفتح الياء وكسر الضاد.
انفروا في سبيل الله : أقدموا على الجهاد وأسرعوا في الخروج إليه. اثاقلتم : تباطأتم.
الكلام من هنا إلى أواخر السورة في غزوة تبوك، وما لابسَها من هتك ستر المنافقين وضعفاء الإيمان، وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق. وهناك بعض الأحكام تخلّلت الآيات جرياً على سُنة القرآن في أسلوبه الحكيم.
ومناسبة الآيات لِما بعدها أن الكلام السابق كان في حُكْم مشاكلِ اليهود، وبيانِ حقيقة أحوالِهم المنحرفة، وبيانِ بعض عقائد العرب في الجاهلية وإبطالها.
والكلام هنا في غزوة تبوك، ومواجهة الروم ومن يشايعهم من عرب الشام، وجميعهم نصارى. وكانت المعركة في رجبَ، سنةَ تسعٍ للهجرة، المصادف لشهر تشرين الثاني.
وتبوك موضع في منتصف الطريق بين المدينة، ودمشق، تبعد عن المدينة حوالي ٦٠٠ كيلو متر، وعن دمشق حوالي ٧٠٠ كيلوا متر.
كان مُلك الروم يشمل بلاد الشام، وسمعوا بقوة الإسلام، فخاف ملكهم هِرقْل على دولته. لذلك بادر إلى جمع الجيوش ليهاجم المسلمين في دراهم. وقد نقل هذه الأخبار عددٌ من التجار الآتين من بلاد الشام، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستنفرهم إلى قتال الروم. وتجهّز المسلمون حتى اجتمع جيشٌ كبير بلغ ثلاثين ألفا. وقد تبارى المسلمون في البذل والعطاء، فدفع عثمان بن عفان رضي الله عنه ألف دينار، وجاء أبو بكر بكل ما يملك، وجاء عمر بنِصف ما يملك، وتطوع الناس بقدر ما يستطيعون.
كان الوقت في أواخر الصيف والحر الشديد، والسفر طويل وشاق، ولذلك سُميت غزوة العُسْرة. كانت الثمار قد طابت بعد نضجها، والناس يحبّون المقام لجمع ثمارهم، ويكرهون الشخوص آنذاك، ومن هنا تخلّف المنافقون وتعّللوا بشتى المعاذير. وكان بينهم أربعة من كبار الصحابة هم : كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وأبو خيثمة، وجاء أبو خيثمة إلى داره فوجد زوجتَيه قد مهّدتا له الفراش، وهيّأتا له كل سبيل للراحة، فلما وجد كل هذه الرفاهية في منزله قال : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضِحّ ( الشمس ) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظلّ بارد، وطعام مهيّأ، وامرأة حسناء، وفي ماله مقيم ! ما هذا بالنَصَف. ثم هيّأ نفسه ولحق بالرسول وجيشه.
وسيأتي خبر إخوانه الثلاثة الذين خُلّفوا فيما بعد.
ومضى الجيش حتى وصل تبوك ولم يلقَ حربا، وقد عقد صلحاً مع حاكم تبوك وبعض حاميات الحدود، وعاد الرسول وجيشه إلى المدينة. واستغرقت هذه الرحلة نحو عشرين يوما.
﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثّاقلتم إِلَى الأرض ﴾.
يا أيها المؤمنون، ما لَكُم حِينما نَدَبكم الرسولُ إلى الجهاد في سبيل الله تباطَأَ بعضُكم عن الخروج، وأخلدوا للراحة واللذة !
وكان من أسباب تثاقُلهم ما روى ابن جرير عن مجاهِد قال : أمِروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حُنين وبعد الطائف، أُمروا بالنفير في الصيف حين اخْتُرِفَت النخل ( قُطفت ) وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم الخروج، فقالوا : منا الثقيلُ وذو الحاجة والشغل، والمنتشِر به أمْرُه في ذلك كله.
﴿ أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾.
هل آثرتم لذّات الدنيا الفانية على سعادة الآخرة الكاملة، ونعيمها الدائم ! ؟ ما هذا الذي تتمتعون به في الدنيا وما لذائذها المشوبة بالمنغّصات إلا تافهاً أمام متاع الآخرة العريض ! إنه لا يرضى به عاقل ولن يقبله.
روى أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله :«ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعلُ إصبعَه هذه في اليمّ، فلينظْر بِمَ ترجع، وأشار بالسبّابة ».
إن لم تستجيبوا للرسول، فتخرجُوا للجهاد يعذّبكم الله عذاباً أليما في الدنيا يهلككم به، ويستبدل بكم قوماً آخرين، يطيعونه ولا يتخلّفون عن الجهاد. إنكم لا تضرون الله بهذا التخلف شيئا.
﴿ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
قادر لا يُعجزه عقابكم ولا نُصرة دِينه بغيركم : كما قال تعالى ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم... ﴾ [ محمد : ٣٨ ].
في الغار : الغار هنا هو غار ثور الذي لجأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه يوم الهجرة.
سكينته : سكون النفس وطمأنينتها.
ثم بعد ذلك رغّبهم في الجهاد وبيَّن لهم أنه تعالى هو الذي ينصر نبيّه على أعداء دينه، سواء أعانوه أم لم يفعلوا، وهو سبحانه قد فعل ذلك والرسول في قلّة من العدد، والعُدوُّ في كثرة، فكيف وأصحابه الآن كثيرون، والعدوُّ قليل ! !.
إن لم تنصروا رسولَ الله فإن الله كفيلٌ بذلك. فلقد أيَده ونَصره حين أجمعَ كفّار قريش على قتله، واضطروه إلى الخروج من مكة مهاجراً، وليس معه إلا أبو بكر ثاني اثنين في الغار. والغارُ هو غار ثَوْر على ساعةٍ من مكة إلى جهة اليَمَن. وقد مكثا فيه ثلاث ليالٍ، وبينما هما في الغار اقتفى أثرهما نفر من المشركين، فخاف أبو بكر على حياة الرسول، فقال له رسول الله : لا تحزن إن الله معنا، ولن يصلوا إلينا.
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أنَس قال :«حدثني أبو بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فنظرتُ إلى أقوامِ المشركين، وهم على رؤوسنا فقلت : يا رسولَ الله، لو أن أحدَهم نَظَر إلى قدميه لأَبصرَنا تحت قدميه. فقال : يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثُهما ؟
عند ذلك أنزل الله الطمأنينة على رسوله، وأيّده بجنود عنده لا يعلمهم إلا هو سبحانه، انتهى الأمرُ بأن جعَلَ كلمةَ الشِرك وشوكتَهم هي السفلى، وكلمةُ الله وهي دينه، هي العليا بظهور نور الإسلام.
﴿ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
والله متّصفٌ بالعِزة لا يُقهر، حكيم إذ يضع الأمورَ في مواضعِها. وقد اقتضت حكمتُه أن ينصر نبيه بعزّته، ويُظهر دينه على جميع الأديان.
قراءات :
قرأ يعقوب «وكلمة الله » بالنصب، والباقون بالرفع.
خفافا : جمع خفيف والمراد : النشاط والسرعة في الحركة ومن يستطيع التأهب بيسر.
ثقالا : جمع ثقيل وهو : كل من وجد صعوبة في السفر والتأهب إليه بمشقة. أي انفروا على كل حال.
بعد أن توعدّ من لم ينفِروا مع الرسول وتثاقلوا حين استنفرهم، جاء بأمر حازم لا هوادةَ فيه، فأوجب النفير العام على كل فرد، فلا عذرَ لأحدٍ في التخلّف وتركِ الطاعة.
﴿ انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ﴾.
أيها المؤمنون، إذا دعى داعي الجهاد فلبُّوا النداء، وانفِروا على كل حال، من يُسرٍ أو عسرِ، أو صحة أو مرض. فعندما يعتدي عدوّ على بلد من بلاد الإسلام يجب الجهادُ على كل فرد قادر ولو بمشقّة، فإذا أُعِلن النفِيرُ العام وجَبَ الامتثال إلا في حال العجزِ التام، وهو ما بيّنه الله تعالى بقوله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [ التوبة : ٩٢ ].
وجاهِدوا أعداءكم الذين يقاتلونكم ويعتدون على بلادِكم... بأموالكم وأنفسكم، فمن استطاع الجهادَ بماله وبنفسه وجب ذلك عليه، ومن قَدَر على أحدهما وجبَ عليه ما كان في مقدرته. والآن، والعدو يحتل جزءا غاليا ن بلادنا المقدسة هو فلسطين، فإن الجهاد واجب بالمال والنفس على كل مُسلمٍ وعربيّ في جميع بلاد الإسلام، وكل من يتخلّف فهو آثم ومقصِّر، وخارج عن طاعة اللهِ ورسوله. وقد قال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه :«ما تركتْ أمةٌ الجهادَ إلا وقَرَنَها الله بالذلّ ».
﴿ ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
إنَّ الذي أُمرتم به من النفير العام والجهاد في سبيل الله، هو الوسيلةُ في حِفظِ كيان الأمة وعلو كلمتها. وهو خير لكم في دِينكم ودُنياكم...
أما في الدين فلا سعادة إلا لمن ينصر الحقَّ ويُقيم العدل. وأما في الدنيا فلا عزّ لأمةٍ إلا بالقوة، فهي وسيلة لدفع العدوّ وكبحِ جماحه. وقد علم فضلَ ذلك أسلافنا من المؤمنين الصادقين فامتثلوا واهتدوا ففتحوا البلادَ وسادوا العباد.
قال القرطبي عند تفسير هذا الآية :«قال ابن العربي : ولقد نَزلَ بنا العدوُّ - قصمه الله- سنة سبعٍ وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارَنا وأسَرَ خِيرتنا، وتوسّط بلادنا في عدد هالَ الناسَ عددُه، فقلت للوالي عليه : هذا عدوُّ الله قد حَصَل في الشَرَك والشبكة، فلتكنْ عندكم بَرَكة، ولتظهرْ منكم إلى نُصرة الدين المتعيِّنةِ عليكم حَرَكة، فليخرجْ إليه جميع الناسِ حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار، فيُحاط به، فإنه هالك لا محالةَ أن يسَّركم الله له. فغَلبت الذنوبُ ورجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل واحدٍ من الناس ثعلباً يأوي إلى وِجَارِه وإن رأى المكيدةَ بِجارِه، فإنا لله وإنّا إليه راجعون ». الوجار : حُجر الثعلب.
أليس هذا ينطبق علينا اليوم في موقفنا من اليهود ! ! نحن أكثرُ منهم عددا، وأغنى ثروةً، وأقوى، ولدينا كل الإمكانات لنحاربَهم ونسترد بلادنا منهم، ولكن غلبت الذنوبُ ورجفت القلوب بالمعاصي...
لو كان عرضا قريبا : كل ما يعرض للإنسان مما فيه منفعة يحصل عليها بسهولة.
وسفراً قاصدا : هينا لا مشقة.
الشقة : الطريق التي فيها تعب وعناء.
ولما أمَرَهم بالنَّفْر تخلَّف بعض المنافقين لأعذار ضعيفة، وتخلّف بعضُ المؤمنين فأنزل الله تعالى قوله :
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾.
بعد أن رغَّبهم في الجهاد، وبيّن أن فريقاً منهم تباطأوا وتثاقلوا، بيَّنَ هنا أن فريقاً منهُم تخلّفوا، رغم كل ما تقدم من الوعيد، وجعلوا ينتحِلون الأعذار، ليستأذنوا الرسول في التخلُّف، فندّد بهم في تخلُّفهم من متابعة الرسول في الجهاد، فقال : لو كان في ما دعوتَهم إليه منفعة من منافع الدنيا قريبةُ المنال ليس في الوصول إليها كبيرُ عَناء، أو لو كان سَفَراً هيّنا لا تعبَ فيه، لاتبعوك أيها الرسول، ولكنك استنفرتهم إلى بلدٍ بعيد وشقّ عليهم السفر، في ذلك الوقت من الحر والقيظ. وسيحلِفون لك أنهم لو استطاعوا لخَرجوا معك. إنهم بهذا النفاق يُهلكون أنفسَهم، واللهُ لا يخفى عليه حالُهم، ويعلم أنهم كاذبون.
ثم عاتب الله نبيّه صلى الله عليه وسلم في إذْنه لمن تخلّف عنه من المنافقين فقال :
﴿ عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين ﴾.
لقد عفا الله عنك أيها الرسول في إذْنِك لهؤلاء المنافقين بالتخلّف عن الجهاد قبل أن تتبين أمْرهم، وتعلم الصادقَ من أعذارهم إن كان، كما تعرِف الكاذبين منهم في ادّعائهم الإيمان.
كانت هذه الآيات أول ما نزلَ من القرآن في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال، وقد رويَ عن ابن عباس أنه قال : لم يكنْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة. والمراد أنه لم يكن يعرفهم كلَّهم ويعرف شئونَهم بهذا التفصيل حتى نزلت، ولذلك كان من أسمائها «الفاضحة »، لأنها فَضَحت أحوال المنافقين.
لا يستأذنك الّذين يؤمنون باللهِ واليوم الآخر أن يجاهِدوا بأموالهم وأنفسِهم في سبيل الله، فالمؤمنُ الصادقُ الإيمان يجيب داعيَ الله ورسولهِ حالا، ولا يستأذن في الجهاد، لأن صِدق إيمان هؤلاء يحّبب إليهم الجهاد في سبيل الله، كما قال تعالى :
﴿ إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون ﴾ [ الحجرات : ١٥ ].
﴿ والله عَلِيمٌ بالمتقين ﴾.
والله يعلم صدق نيات المؤمنين المتقين.
إنما يستأذنك في التخلّف عن الجهاد من غير عذرٍ أولئك الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله ولا بالحسابِ في اليوم الآخر، فهؤلاء قد ارتابت قلوبُهم فهم يعيشون في حَيرةٍ من أمرهم، ويعتذرون بالمعاذير الكاذبة هرباً من القيام بالواجب.
العدة : الأهبة والاستعداد.
انبعاثهم : خروجهم.
فثبطهم : أوهن عزمهم وعوّقهم.
لو صدقتْ نيّة المنافقين في الخروج مع الرسول للجهاد، لأخذوا أهبةَ الحرب واستعدوا لها، وقد كانوا مستطيعين ذلك، لكنّ الله كَرِهَ خروجَهم، لِعلْمه أنهم لو خَرجوا معكُم لكانوا عليكم لا لكم، فعوَّقهم الله عن الخروج بما امتلأت به قلوبهم من النفاق، وقيلَ لهم اقعُدوا مع القاعدين، من الأطفال والعجزة. هذا مكانكم اللائق بكم، لما لكم من الهمم الساقطة، والقلوب المرتابة.
الخبال : الاضطراب في الرأي.
لأوضعوا خلالكم : لأسرعوا بينكم.
يبغونكم الفتنة : يريدون لكم التشكيك في الدين والتخويف من الأعداء. بعد أن بين الله أن استئذانهم في التخلف عن القتال إنما كان سَتراً لنفاقهم، زاد في البيان هنا بيان المفاسد التي كانت تنجم من خروجهم، وهي إفساد النظام والاضطراب في الرأي، وتفريق الكلمة بالسعي بين المسلمين بالنميمة، وبخاصة أن هناك أناساً من ضعفاء الإيمان يسمعون لهم ما يقولون، ويقبلون قولهم.
ولو خرجوا معكم إلى الجهاد ما زادوكم قوة ومنعة بل اضطراباً في الرأي وضعفا في القتال، ولأسرعوا في الدخول فيما بينكم ليُشيعوا الفتنة فيكم، ويفرقوا كلمتكم وتثبيط هممكم، وفيكم ناس بسطاء من ضعفاء الإيمان ممن يجهلون خبث نياتهم، ويمكن أن يُخدعوا بكلامهم، والله عليم بهؤلاء المنافقين الذين يظلمون أنفسهم بما أضمروه من الفساد.
وقلبوا لك الأمور : دبروا لك المكايد من كل وجه.
ولقد سبق أن سعى هؤلاء المنافقون بالفتنة فيما بينكم، ودبروا لك - أيها الرسول- المكايد من كل الوجوه، فأحبط الله تدبيرهم، وحقق لك النصر المبين، وظهر أمر الله، فأظهر دينه على الرغم منهم.
هذه الآية والآيات التي بعدها سيقت لبيان أقوالٍ قالها المنافقون، بعضُها قِيلتْ جهراً، وبعضها أكنُّوه في أنفسهم.
من المنافقين أُناس يستأذنونك في التخلّف عن القتال حتى لا يفتَتِنوا بنساء الروم. روي عن مجاهد وابن عباس أنها نزلت في الجدّ بن قيس من بني سَلمة، وكان من أشراف بني سلمة، فقد قال للرسول الكريم : أئذنْ لي يا رسولَ الله في القعود، فإني أخشى على نفسي إنْ أنا رأيتُ نساء بني الأصفر ( يعني الروم )، أن أفتتنِ. فقال الرسول وهو معرِضٌ عنه : قد أدنتُ لك.
فليْعلموا أنهم بمقالتهم هذه قَد سَقطوا وأوقعوا أنفسَهم في معصية الله.
وإن نار جهنم لمحيطةٌ بهم في اليوم الآخر.
روى يعقوب بن سفيان في تاريخه وأبو الشيخ في الأمثال : أن رسول الله قال لبني سَلمة من الأنصار : من سيِّدُكم يا بني سلمة ؟ قالوا : الجدّ بن قيس، على بخلٍ فيه. فقال رسول الله : وأيُّ داءٍ أدْوَأُ من البُخل ؟ ولكن سيّدكم الفتى الجَعْدُ الأبيض، بِشرُ بن البُراء بن معرور. وفي الفائق في غريب الحديث للزمخشري : بلى سيدكم عمرو بن الجموح والجعد الكريم الجواد. وإذا قيل جعد اليدين وجهد البنان فمعناه : البخيل اللئيم.
ثم بين الله تعالى عداوةَ المنافقين، زيادةً في تشهيرِ مساوئهم بقوله :
﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾.
إن هؤلاء المنافقين لا يريدون لك أيها الرسول ولأصحابك إلا المكارِه، فيتألّمون إذا نالكم خيرٌ من نصرٍ أو غنيمة.
ويفرحون إذا أصابكم مكروه من جِراح أو قتل أو هزيمة، ويقولون شامتين : قد أخذْنا حِذْرَنا بالقعود، إذ تخلّفنا عن القتال ولم نُلقِ بأيدينا إلى الهلاك. ثم ينصرفون مسرورين.
روى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : جَعل المنافقون الذين تخلّفوا في المدينة عن غزوة تبوك يُشيعون أخبارَ السُّوء عن النبي وأصحابه، ويقولون إنهم جَهدوا في سفرهم وهلكوا، فتبيَّنَ بعد ذلك كِذْبُهم وسلامةُ النبيّ وأصحابه فساءهم ذلك، فأنزل الله تعالى :﴿ إِن تُصِبْك.... الآية ﴾.
ثم أرشد الله تعالى إلى جوابهم بُبطلان ما بَنَوْا عليه مسرَّتَهم بقوله :
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا ﴾.
قل أيها الرسول لأولئك المنافقين الذين فرِحوا بمُصابِك وساءتْهُم نعمة الله عليك : لن ينالَنا في دنيانا من الخير أو الشرّ إلى ما قدّره الله علينا، فنحن راضون بقضائه.
هو ناصُرنا ومتولِّي أُمورِنا، ونحن نلجأُ إليه ونتوكل عليه، وعليه وحده يعتمد المؤمنون الصادقون. فالمسلم الصادق يبذل جهده ويظلّ متوكلا على الله.
إن أمْرَ المؤمنِ كلّه خيرٌ، سواء نالَ النصرَ أو الشهادة، أما الكافر فأمْره كله شَرّ، سواء أصابه عذابُ الله المباشر أو على أيدي المؤمنين.
قل لهم أيها الرسول : لن ينالنا إلا أحدُ أمرين، وكلاهما خير، إما النصرُ والغنيمة في الدنيا، وإما الشهادة في سبيل الله والجنةُ في الآخرة.
ونحن نتربَّص بكم أن يُوقع الله بكم عذاباً من عندِه يُهلككم به، أو يعذبكم بالذلَّة على أيدِينا فانتظِروا أَمْرَ الله، ونحنُ منتظِرون.
طوعا : بإرادتهم.
كرها : من غير إرادتهم.
بعد أن بيّن الله تعالى أعذار المنافقين الكاذبة، وتعللاتِهم الباطلةَ في التخلُّفِ عن الجهاد، وما يجول في نفوسِهم من كراهتهم للرسول وأصحابه، وأنهم يتربَّصون بهم الدوائر، بيَّن هنا أنّ بعضَ هؤلاء المتربِّصين من المنافقين قد عَرَضَ ماله، وهو يعتذر عن الجهاد، فردَّ الله عليهم مناورتهم، وكلّف رسوله أن يعلن أن إنفاقَهم غيرُ مقبولٍ عند الله قل أيها الرسول للمنافقين : أنفِقوا ما شِئتُم طائعينَ أو مُكْرَهين فلن يتقبل الله عملكم الذي أحبطَهُ نفاقُكم، لأنكم قومٌ فاسقون خارِجون من دائرة الإيمان.
وما منع اللهَ من قبول نفقاتِهم إلا كُفرهم بالله، وكفرهم برسوله وما جاء به من الهدى.
ولا يصلُّون إلا رياءً وتِقِيَّة، لا إيماناً بوجُوبها. فهم يؤدّونها غير مُقْبلين عليها، سَتْراً لِنفاقهم، ويؤدونها متثاقلين كسالى لا تنشرح لها نفوسُهم ولا تنشَط لها أبدانهم، ولا يُنفقون أموالهم في مصالح الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لذلك.
هذه صورة المنافقين في كل آن، خوفٌ ومداراة، وقلبٌ منحرف، وضمير مدخول، ﴿ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ «سورة الفتح ».
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «وما منعهم أن يقبل منهم نفقاتهم » بالياء.
تزهق أنفسهم : تخرج بصعوبة.
فلا تعجبْك أيها الرسول، أموالُهم ولا أولادهم وما هم فيه من نِعم وخيرات، فإن الله تعالى جعلَ هذه الأموالَ حسراتٍ عليهم، لأنهم لم ينتفِعوا بها في الحياة الدنيا، ولن يؤْجَروا عليها في الآخرة.
أما الأولاد فإنهم اعتنقوا الإسلامَ وأخلَصوا له، فكان ذلك أشدَّ حسرةً على آبائهم، ولا شيء أشدُّ على الوالد من أن يكون ولده على غير دينه. وكان عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ من أكبر المسلمين المتحمسين للإسلام، وقد عرض على الرسول الكريم أن يَقتُلَ أباه، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا معنى : إنما يريدُ الله ليعذِّبَهم بها في الحياةِ الدنيا.
وتخرج أرواحُهم بصعوبة وشدة حين يموتون على الكفر، فيعذّبهم اللهُ بكفرِهم في الآخرة كما عذّبَهم بأموالِهم وأولادهم في الدنيا.
يَفرقون : يخافون بشدة.
بعد أن بين الله حالة المنافقين وفضحَهم بأنهم يُظهرون غير ما يضمرون، ذكر هنا غلوَّهم في النفاق، فقال :
﴿ وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾.
يُقسم هؤلاء المنافقون كَذِباً بأنهم مؤمنون مثلكم وأنهم منكم، والحقيقة أنهم ليسوا مؤمنين بالله، وليسوا منكم، لكنّهم قومٌ يخافونكم، مما يدفعهم إلى النفاق.
ملجأ : مكان يتحصنون به.
مغارات : جمع مغارة، معروفة.
مدخلا : سربا في الأرض يدخله الإنسان بشدة.
يجمحون : يسرعون إسراعا لا يردهم شيء. يقال جمع الرجل : ركب هواه فلا يرده شيء.
لقد ملأ الرعب قلوبهم، فلا يدرون ماذا يفعلون، وأين يتوجهون أو يختبئون ؟ وهذا ما تعبر عنهم الآية الكريمة الآتية :
وإنهم لشدة كرههم للقتال معكم، ولبغضهم معاشرتكم، ولشدة جبنهم وخوفهم من ظهور نفاقهم لكم، يتمنون الفرار منكم والعيش في أي مكان يعتصمون به، فهم متطلعون أبداً إلى مخبأ يجمعهم، ويأمنون فيه، وليكن حصناً أو مغامرة أو سردابا ضيقا. إنهم مذعورون يطاردهم الفزع الداخلي والجبن الروحي، ولذلك يحلفون بالله إنهم منكم، ليتقوا انكشاف طويتهم، ولكن الله لا يخفى عليه شيء.
يلمزك : يعيبك ويطعن بك في وجهك.
لا يزال الحديث في مساوئ المنافقين. فبعض هؤلاء المنافقين يعيبك أيها الرسول، ويطعن عليك في قِسمة الصدَقات والغنائم. إذ يزعمون أنك تُحابي فيها.. تؤتي من تشاء من الأقارب، وأهلِ المودّة، ولا تراعي العدْل، فإن أعطيتَهُم ما يرغبون رضوا عن عملِك وإلا فإنهم يَسْخَطون ويغضبون.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال :( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَقْسِم مالاً إذ جاءه حرقوص بن زهير ذو الخُويصِرةَ التميميّ، فقال : اعدِلْ يا رسول الله. فقال : ويلَك، ومن يعدِل إذا لم أعدِلْ ! ؟ فقال : عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرِب عنقه، فقال رسول الله : دعه... ) الحديث.
وهناك عدة روايات تدل على أن أشخاصاً من المنافقين قالوا ذلك لأنّهم لم يأخذوا من الصدقات، فنزلت فيهم هذه الآية.
قراءات :
قرأ يعقوب :«يلمزك » بضم الياء وقرأ ابن كثير :«يلامزك ».
حسبنا الله : يكفينا الله.
إلى الله راغبون : محبّون ضارعون.
ثم يبين الله تعالى ما هو الألْيَقُ بالإنسان، وهو الرضا بِقِسمة الله ورسوله، والقناعةُ والاكتفاء بالله، والرجاء في فضله، فقال :
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ ﴾.
ولو أن هؤلاء المنافقين الذين عابوك في قِسمة الصدَقات، رضوا بما قَسَمَ اللهُ لهم، وهو ما أعطاهم رسول الله، وطابت نفوسهم به - وإن قَلَّ - وقالوا : كفانا حُكم الله، وسيرزقُنا من فضله، لأن فضلَه لا ينقطع، ورسولُه لا يبخَس أحداً وإنّا إلى طاعة الله وإحسانه راغبون، لو فعلوا ذلك، لكان خيراً لهم من الطمع.
والخلاصة : أنهم لو رضوا من الله بنِعمته، ومن الرسول بقِسمته، لكان في ذلك الخير كل الخير لهم.
الصدقات : الزكاة المفروضة.
الفقراء : هم الذين لا يجدون كفايتهم.
المساكين : الذين لا يجدون كفايتهم ولا يستطيعون العمل.
العاملين عليها : كل من يعمل على تحصيل المال.
المؤلفة قلوبهم : هو الذين يراد استمالتهم إلى الإسلام.
وفي الرقاب : عتق العبيد.
والغارمين : الذين عليهم دين لا يستطيعون تأديته.
وفي سبيل الله : الجهاد، وكل عمل في الصالح العام.
وابن السبيل : هو المنقطع عن بلده في سفر ولم يبق معه مال يوصله إلى بلده.
بعد أن بيّن اللهُ الأدبَ اللائق في حقّ اللهِ والرسول، وأن الصدقاتِ فرضها الله ثم أمر الرسولَ الكريم بقسمتها، عدّد الذين يستحقّون الزكاة المفروضة. وهؤلاء هم المحتاجون لها حقيقة.
لا تصرف الزكاة المفروضة إلا للفقراء الذين لا يجِدون ما يكفيهم «والمساكين » وهم أسوأ حالاً من الفقراء، لقوله تعالى :﴿ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ [ البلد : ١٦ ] ﴿ والعاملين عَلَيْهَا ﴾ الذين يجمَعونها من جُباة أو موظفين وغيرهم.
روى أحمد والشيخان عن ابن السعدي المالكي قال : استعمَلَني عُمَرُ على الصدقة، فلما فرغتُ منها وأدّيتُها إليه أمر لي بِعُمالةٍ، فقلت : إنما عَمِلتُ لله، فقال : خذْ ما أُعطِيتَ فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني عمالة، فقلتُ مثلَ قولك، فقال رسول الله :«إذا أُعطيتَ شيئاً من غيرِ أن تسألَ فكُلْ وتصدَّق ».
﴿ والمؤلفة قُلُوبُهُمْ ﴾ وهم قومٌ يراد استمالتُهم إلى الإسلام وترغيبهم فيه.
﴿ وَفِي الرقاب ﴾ تُدفع الزكاة من أجل عِتْقِ العبيد، وهذا غير موجود اليوم.
﴿ والغارمين ﴾ وهم الّذين عَلْيهِم دُيون وعجَزوا عن وفائها، تُدفع لهم الزكاة ليوفوا ديونهم.
﴿ وَفِي سَبِيلِ الله ﴾ في تزويد المجاهدين في سبيل الله، وفي كل عمل ينفع المسلمين في مصالحهم العامة.
﴿ وابن السبيل ﴾ وهو المسافر الذي انقطعَ عن بلدِه، فيعطَى ما يستعين به على العَودة إلى بلده، ولو كان غنيا.
﴿ فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
شرع الله ذلك فريضةً منه لمصلحة عباده، وهو عليم بمصالح خلْقه، ومقدار حاجاتهم، حكيم فيما يشرعّه لهم.
والزكاة مفصّلة في كتب الفقه : تدفع بنسبة العُشْر من الزرع الذي يُسقى بماء السماء، ونصف العشر من الزرع الذي يسقيه صاحبُه ويكلّفه ذلك نفقة، وعن الأموال ربع العشر مقيّما اثنين ونصفاً بالمئة. وكل من عنده نحو عشرين دينارا فائضه عن نفقته ودَينه، يدفع الزكاة.
أذن : يسمع كل ما يقال ويصدقه. أذن خير : يسمع الصدق ولا يخدع بالباطل.
يؤمن للمؤمنين : يصدقهم لما يعلم فيهم من الإخلاص والإيمان الصادق.
لا يزال الحديث في المنافقين ومداوراتهم، وما كانوا يفعلون من توجيه الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد وردت عدة روايات في هذا الموضوع عن ابن إسحاق وابن المنذر وغيرهم. من ذلك أن رجلا من المنافقين اسمُه : نبتل بن الحارث، كان يأتي الرسول الكريم فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين. وهو الذي قال لهم : إنما محمد أذُنٌ، مَنْ حدّثَه شيئا صَدّقه.
وكذلك روي أن جماعة من المنافقين منهم : جلاس بن سويد بن الصامت، ومخشي بن حِمْير، ووديعة بن ثابت، اجتمعوا فأرادوا أن يقعوا في النبي الكريم. فنهى بعضهم بعضا، وقالوا : نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بكم. فقال بعضهم : إنما محمد أُذُنٌ نَحْلِفُ له فيصدّقنا... فنزلت الآية
ومن المنافقين جماعة يتعمّدون إيذاء النبيّ، فيتّهمونه بأنه يسمعُ من كّلِ أحدٍ ما يقوله ويصدِّقه، وأنه يُخْدع بما يَسْمَع، فقل لهم أيها الرسول : إن من تتناولونه بهذه التُّهمة ليس كما زعمتم، بل هو أُذُن خير لكم لا يَسْمع إلا الصِدق، ولا يُخدع بالباطل، ويصدِّق بالله وبما يوحي إليه، ويصدِّق المؤمنين، لأنه يعمل أن إيمانهم يمنعُهم من الكذب. وهو رحمةٌ للذين آمنوا منكم إيمانا صحيحا، أما الذين يؤذون الرسول بالقولِ أو بالفعل فجزاؤهم العذاب الشديد.
وقد صار هذا القول عن بعض المنافقين لأن النبي الكريم كان لا يواجهُهم بسوء، ويعاملهم بكل سماحة، ويهَشّ لهم ويستقبلهم، فظنّوا أنه ينخدِع بهم، وتنطلي عليه حيلُهم ونفاقهم.
قراءات :
قرأ نافع :«أذن » بإسكان الذال، والباقون «أُذن » بضم الذال، وقرأ حمزة :«ورحمة » بالجر عطفا على «خير » والباقون :«رحمة » بالضم.
الخِطابُ للنبي والمؤمنينن، يحلِفون لكم أنهم ما قالوا ما نُقل عنهم لترضوا عنهم وتقبلوا معاذيرهم، واللهُ والرسول أحقُّ بالحِرص على رضائهما، إن كانوا مؤمنين كما يدّعون.
روى ابن المنذر عن قتادة قال : ذُكر لنا أن رجلاَ من المنافقين قال في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك : والله إن هؤلاء لَخيارُنا وأشرافُنا، وإن كان ما يقول محمدٌ حقاً لهُم شَرُّ من الحُمُر. فسمعها رجل من المسلمين فقال : واللهِ إن ما يقول محمدٌ لحقّ، ولأنت شرُّ من الحمار. وجاء وأخبر النبيَّ بذلك، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال له : ما حَمَلَكَ على الذي قلت ؟ فجعل يلعن نفسه ويحلِف بالله ما قال ذلك. وجعل الرجلُ المسلمُ يقول : اللهمَّ صدِّق الصادقَ، وكذِّب الكاذبَ. فأنزل الله ﴿ يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ﴾.
ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن من يكفر باللهِ ويعادي اللهَ ورسولَه جزاؤه العذابُ الأليم في جهنم يوم القيامة، وأن ذلك هو الذلّ والهوان العظيم الذي يصغر دونه كل خِزي في الحياة الدنيا.
مخرج ما تحذرون : مظهرٌ ما تخافون.
يخشى المنافقون أن تنزل سورةٌ فيهم على النبيّ تُخبربما يُخفون في قلوبهم، ويُسِرُّونه بينهم. إنهم يحذرون أن تنزلَ سورةٌ في شأنهم وبيان حالهم فتكون في ذلك فَضيحتُهم وكشفُ عوراتِهم وإنذارُ ما يترتب عليه من عقابهم. قل لهم أيّها الرسول : استهزِئوا ما شئتم، فإن الله سيُظهرُ ما تخشَون ظهورَه بما يفضحكم به
كنا نخوض ونلعب : الخوض في الشيء الدخول فيه، وكَثُرَ استعماله في الباطل.
إنك أيها الرسول، إن سألتَ هؤلاء المنافقين عن أقوالهم هذه، وسببِ طَعْنِهم في الدين واستهزائِهم بالله وآياته، اعتذَروا بقولهم كنّا نخوض في الحديث ونلهو.
أخرج ابنُ المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال :«بينما رسول الله في غزوة تبوك، إذ نظر إلى أناس يقولون :«أيرجو هذا الرجلُ أن تُفْتَحَ له قصورُ الشام وحصونها ؟ هيهات هيهات، فأطلَع اللهُ نبيّه على ذلك، فقال :«احبِسوا على هؤلاء الرَّكب » بمعنى أوقفوهم فأتاهم، فقال : قلتم كذا وقلتم كذا. قالوا : يا نبي الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فأنزل الله تعالى فيهم.
﴿ قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾.
ألم تجدوا ما تستهزئون به في خَوْضِكم ولعبكم إلا الله وآياتِه ورسولَه ! !، هل ضاقت سبُل القول، فلم تجدوا ما تخوضون فيه وتلعبون غير هذا.
لا تعتذروا بهذه الأعذار الباطلة، قد ظَهَرَ كُفرهم بعد ادّعائكم الإيمان، فإن نعفُ عن طائفةٍ منكم لأنهم تابوا وآمنوا وصدَقَت توبتُهم، فسنعذّب طائفةً أخرى منكم بسبب إصرارِهم على الكفر والنفاق، وإجرامهم في حقّ الرسول والمؤمنين.
المنكر : كل ما تستنكره الفطرة السليمة ويستقبحه الشرع، وضده المعروف.
نسوا الله فنسيهم : تركوا طاعة الله فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم من الثواب.
إن أهل النفاق، رجالاً ونساءً، يتشابهون في صفِاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، فهم يفعلون القبيح ويأمرون به، كالكذِب والخيانة وإخلاف الوعد ونقض العهد. وفيه الحديث الصحيح عن أبي هريرة :( آيةُ المنافق ثلاث : إذا حدَّث كَذَب، وإذا وعد أخلَف، وإذا ائتِمُنَ خان ) رواه البخاري ومسلم.
وينهَون عن المعروف كالجِهاد في سبيل الله وبذْلِ المال، وهو الذي عبَّر عنه بقوله :﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾ أي يبخلون في بذْل المال في سبيل الله.
﴿ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
تركوا طاعةَ الله وخالفوا أوامره فجازاهم الله تعالى بحِرمانهم من رحمته ونسِيَهم، فلا وزنَ لهم ولا اعتبار. إنّهم خارجون عن الإيمان، منحرفون عن الصراط المستقيم، ولذلك وعدهم الله مصيراً كمصير الكفار،
وبيَّن ما أعدّ لهم ولأمثالهم من العقاب جزاءً لهم فقال :
﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾.
وعد الله هؤلاء جميعاً نارَ جهنّم يدخلونها ويَصْلَونها خالدين فيها
لا يخرجون منها أبدا، وهي حسبُهم عِقابا، وعليهِم مع هذا العقاب غضبُ الله وعذابه الدائم.
بخلاقهم : بنصيبهم.
خضتم : دخلتم في الباطل.
حبطت أعمالهم : فسدت وذهبت.
ثم بعد ذلك يذكِّر الله تعالى هؤلاء القومَ بما كان من أسلافهم، ويبصِّرُهم بأنهم يسلكون طريقَهم، ويحذّرهم أن يُلاقوا مصيرَهم، لعلّهم يهتدون فيقول :
﴿ كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا ﴾.
إنكم أيها المنافقون، كأولئك المنافقين الذين خَلَوْا من قبلِكم، فإنهم كانوا أقوى منكم وأكثر أموالاً وأولاداً، وقد استَمتَعوا بما قُدِّرَ لهم من حظوظ الدنيا، وأعرضوا عن ذِكر الله وتقواه، وقابلوا أنبياءَهم بالاستخفافِ وسخِروا منهم فيما بينهم وبين أنفسِهم. وقد استمتعتُم أنتم بما قُدر لكم من ملاذ الدنيا، وحَذَوْتم حذوهم ودخلتم في الباطل كما دخلوا، وخضتم فيما خاضوا فيه، وسلكتم سبيلَهم في طريق الضلال.
﴿ أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون ﴾.
إن أولئك المستمتعين بملذّاتهم في الدنيا، والخائضين في الباطل، بَطَلَت أعمالهم بطلانا أساسا، فلم تنفعْهم في الدنيا ولا في الآخرة، وخسروا كل شيء وأنتم مثلهم في سوء الحال والمآل.
أصحاب مدْين : قوم شُعيب.
المؤتفكات : قوم لوط.
ثم شاء أن ينبّههم ويحذرهم من سوء عاقبة أعمالهم، فاتجه من خطابهم إلى خطاب عام، كأنما يَعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين، لعلّهم يعتبرون بالذين خلّوا من قبلهم، ويتّعِظون بهم، فيقول :
﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ والمؤتفكات أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.
أفلا يعتبر المنافقون والكافرون بحال الذين سبقوهم ممن ساروا في نفس الطريق الخاطئة، عَصَوا رسُلَهم وخالفوا أمر ربهم فأخذهم العذاب ! ! ومن هؤلاء «قوم نوح » وقد غمرهم الطوفان وأغرقهم، وقوم «عاد » وقد أُهلِكوا بريحٍ صَرْصر عاتية، و «ثمود » وقد أخذتْهم الصحيةُ،
و«قوم إبراهيم » وقد أهلَك الله طاغيتَهم المتجبّر الذي حاول إحراق إبراهيم، «وأصحاب مدين » وقد أصابتهم الرجفةُ وخنقتْهم الظُلّة، «والمؤتفكات » قرى قوم لوط، وقد جعل الله عاليَها سافلَها وقطَع دابرَهم. ألم يأتِهم نبأ هؤلاء الذين «أتتهم رسُلُهم بالبينات » فكذّبوا بها، فأخذهم الله بذنوبهم ! !، لقد ظلموا أنفسَهم بكفرهم وتمرّدهم على الله، وإن كثيراً ممن يبتليهم الله بالقوة والنِعمة لتغشَى أبصارَهم وبصائرهم غشاوة، فلا يُبصرون مصارع الأقوياء قبلهم.
بعد أن ذكرا لله تعالى أفعال المنافقين وصفاتِهم المنكرة، وذكر ما أعدَّه لهم من العذاب في الدنيا والآخرة، بيّنَ لنا صفة المؤمنين والمؤمنات، الصادقين في إيمانهم، الذين هُدُوا إلى الطّيب من القول، وساروا على الصراط المستقيم.
﴿ والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر ﴾.
إنهم نصراء بعضٍ يتّجهون بهذه الوَلاية إلى الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر، لتحقيق الخير ودفع الشر، مع التضامن والتعاون لإعلاء كملة الله. وهم «يقيمون الصلاة » في أوقاتها، وهي الصلة التي تربطهم بالله، «ويؤتون الزكاة » تلك الفريضة العظيمة التي تربط بين جماعة المسلمين، وتحقّق الصورة الماديّة والروحية للولاية والتضامن، «ويطيعون اللهَ ورسولَه » بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
ماذا أعد الله لِلذين يتّصفون بهذه الصفات السامية ؟
﴿ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله ﴾.
إن الله يتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة.
فهذه الصفات الأربع في المؤمنين : الأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، تقابلُ من صفاتِ المنافقين : الأمرَ بالمنكر، والنهيَ عن المعروف، ونسيانَ الله، وقبضَ الأيدي، وصفات المؤمنين هي التي وعدهم اللهُ عليها بالنصر والتمكين في الأرض، ﴿ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
جنات عدن : جنات الخلود.
رضوان من الله : رضى من الله.
وبعد أن بيّن رحمتَه للمؤمنين ونصره لهم إجمالاً بيّن ثانيةً ما وعدَهم به من الجزاء المفسِّر لرحمته تفصيلاً فقال :
﴿ وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾.
لقد وعدهم اللهُ الجنةَ خالدين في نعيمها، وأعدَّ لهم مساكنَ تَطيبُ بها نفوسُهم في دار الإقامة والخلود. ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم.
﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾.
وإن الجنةَ بكل ما فيها من نعيم لَتتضاءل أمام ذلك الرضوان الكريم.
﴿ ذلك هُوَ الفوز العظيم ﴾.
وذلك الوعدُ بالنعيم الجسمانّي والروحاني هو الفوزُ العظيم الذي يُجزى به المؤمنون المخلصون.
الغلظة : الخشونة والشدة في المعاملة.
بعد أن بيّن صفاتِ المؤمنين الصادقين، وصفةَ المنافقين الذين يدّعون الإيمان، أعاد الكرّة إلى تهديد المنافقين وإنذارِهم بالجهاد كالكفار المجاهرين بكفرهم، فإن هؤلاء المنافقين قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم، وهموا بأمر خيَّبهم الله فيه.
﴿ يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير ﴾.
يا أيها النبيّ ثابرْ على جهادِك في رَدْع الكفار عن كفرهم، والمنافقين عن نفاقهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُلاينُ المنافقين، ويصفح عنهم كثيرا. لكن هذا كله لم يجد معهم، فأمره الله تعالى أن يعاملَهم بالشدّة والغِلظة لعلها تربيّهم وتردعهم، أما مآلُهم الذي أعدّه الله لهم في الآخرة فهو جنهم وبئس المصير.
وهموا بما لم ينالوا : أرادوا أن يعملوا شيئا لم يستطيعوا.
وما نقموا : ما أنكروا وعابوا.
ثم ذكر الله سبحانه الجرائم الموجبةَ لجهادهم كالكفّار، وهي أنهم أظهروا الكفرَ بالقول وهموا بشرِّ ما يُغري به من الفعل، وهو الفتكُ برسول الله وهو عائد من تبوك. فقد تآمر بعض منهم على أن يفتكوا به عند عَقَبةٍ في الطريق، لكنه تنبّه وأخذَ الحَيْطة ونجّاه الله منهم.
يحلف المنافقون أمامك يا محمد، بالله أنهم ما قالوا منكَراً مما بلغَك عنهم، لكنهم كاذبون في الإنكار، فقد قالوا كلمةَ الكفر التي رويتْ عنهم، وظهر كفرهم بعد أن كانوا يتظاهرون بالإسلام. بل إنهم همّوا بما لم ينالوا.
وهذا ما رواه كثير من أئمة الحديث، أنهم أرادوا أن يغتالوا رسول الله في منصرَفَه من تبوك عند العقبة على الطريق، وقد احتاط الرسولُ لذلك وأمر عمّار بن ياسر وحُذَيفة بن اليمان أن يكونا معه حتى اجتاز المكان. ولما غِشِيَه المتآمرون كانا منتبهَين فنجا رسول الله. وقد عرفهم حذيفة، وكانوا اثني عشر رجلاً كما في صحيح مسلم. وحاول بعض الصحابة أن يقتلهم فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم وقال :«لا أريد أن يتحدّث الناس بأن محمداً قتل أصحابه ».
﴿ وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ﴾.
ما كان سبب نقمتهم على الرسول إلا بَطَراً بالنعمة، بعد أن أغناهم الله ورسوله بما حَصلوا عليه من الغنائم التي شاركوا فيها المسلمين.
فإن يرجعوا إلى الله بِتَرْكِ النفاق والندمٍ على ما كان منهم يَقْبَلِ اللهُ توبتهم، ويكون ذلك خيراً لهم، وأن يُعرضوا عن الإيمان يعذّبهم الله في الدنيا بمختلف ألوان البلاء، وفي الآخرة بنار جهنم.
﴿ وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾.
وليس في الأرض من يدافع عنهم أو يشفع لهم وينصرهم.
تُعتبر هذه الآياتُ بياناً لحال طائفة أخرى من المنافقين : أغناهم اللهُ بعد فقرٍ، فلما كثر مالُهم وأصبحوا من الأغنياء كفروا النعمة وهضَموا الحقوق.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين ﴾.
ومن المنافقين نَفَرٌ أعطى اللهَ عهدَه وميثاقه لئن آتاه مالاً وثروة ليشكرنّ الله على نعمته بالصَدَقة، وليعلمنَّ عمل أهل الصلاح من صِلة الرَّحْم والإنفاق في سبيل الله
فلما استجاب الله لهم، وأعطاهم من فضله ما طلبوا، بخلوا بما أُوتوا وأمسكوه، فلم يتصدّقوا منه بشيء وانصرفوا عن الخير، وهم معرضون عنه وعن الله.
أعقبهم : أورثهم.
كانت عاقبةُ بُخلِهم أن تمكَّنَ النفاقُ في قلوبهم إلى أن يموتوا ويلقوا الله يوم الحساب.
ثم ذكر سببين هما من أخصّ أوصاف المنافقين : إخلافُ الوعد والكذِب فقال :
﴿ بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾.
ذلك بسبب نقضِهم لعهدهم وكِذْبِهم في يمينهم.
ونجواهم : كلامهم الخفي.
ألم يعلموا - وهم يدَّعون الإيمان - أن الله مطَّلِعٌ على السرائر، لا يخفى عليه ما يُضمِرونه في السر من نقض العهد، وما يتناجَوْن به في الخفاء من الطعن في الدين وتدبير المكايد للمسلمين ! وأن الله يعلم الغيوب كلَّها لا يخفى عليه شيء في هذا الكون.
وقد وردت عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات. روى ابن جرير أن ثَعلبةَ بن حاطِبٍ الأنصاري قال لرسول الله : ادعُ الله أن يرزقَني مالا، فقال له رسول الله :«ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدّي شُكرَه خيرٌ من كثيرٍ لا تُطيقه ». فراجعه مرة أخرى وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطينَّ كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة. فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة. فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : كثُرَ ماله حتى لا يَسَعُه واد، فقال : يا ويح ثعلبة، فبعث رسول الله مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه وأقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي، فلما رجعا أخبرا رسول الله بما قال ثعلبة، فقال : ويح ثعلبة، فأنزل الله تعالى :«ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن... » فسمع بذلك ثعلبة فجاء بالصدقة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك. فجعل يحثو على رأسه التراب. وقبض رسول الله، فجاء أبا بكر الصديق فلم يقبلها، ثم جاء عمر فلم يقبلها، وجاء عثمان فلم يقبلها رضي الله عنهم، وهلك في خلافة عثمان.
وهذه الصورة من البشر موجودة في كل زمان ومكان، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول الأصوليون.
يلمزون : يعيبون.
المطوعين : المتطوعين وهم الذين يؤدون ما يزيد على الفريضة. جهدهم : طاقتهم.
بعد أن ذَكر الله بُخلَ المنافقين وشُحَّهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا الله على أن يتصدّقوا إذا رَزقَهم من فضله، عَرَضَ هنا لوناً آخر من رأي المنافقين في الزكاة، وكشَفَ عن الغمز واللّمزِ النابعَين عن طبعهم المنحرف.
﴿ الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾.
من نقائص هؤلاء المنافقين علاوة على بُخلم أنهم يَعيبون على الموسِرين من المؤمنين تصدُّقَهم على المحتاجين.
روى ابن جرير عن عكرمة قال :( حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فجاء عبدُ الرحمن ابن عوف بأربعة آلافٍ، وقال :
يا رسول الله : مالي ثمانيةُ آلاف، جئتكم بنصفِها وأمسكت نصفها. فقال :«باركَ الله لك فيما أمسكتَ فيما أعطيت ». وتصدق عاصِمُ بن عديّ بمائة وسَقْ وثلاثمائةٍ وعشرين رِطلاً من تمر، وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر، قال : فلمزه المنافقون وقالوا : ما الذي أعطى ابنُ عوف إلا رياء. وقالوا : ألم يكنْ الله ورسوله غنيَّين عن صاع هذا ! ! ؟ ).
﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
ولذلك يلمزون الذين لا يجِدون إلا طاقتَهم من فقراء المسلمين، ويسخَرون منهم لأنهم تصدّقوا بالقليل الذي وجدوه وقَدَروا عليه، جازاهم الله على سخريتهم بما كشف من فضائحهم، وجعلَهم سخريةً للناس أجمعين، ولهم في الآخرة عذابٌ شديد.
ثم بيّن الله تعالى عقابهم وسوّاهم بالكافرين فقال :
﴿ استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ﴾.
لقد تقرر مصير هؤلاء المنافقين حتى إن الاستغفارَ لهم وطلبَ العفو عنهم لن يجدي، فسواءٌ إن تستغفر لهم أيها النبي أم لا، ومهما أكثرتَ من طلب المغفرة لهم، فلن يعفو الله عنهم، وهذا معنى «إن تستغفرْ لهم سبعين مرة فلن يغفرَ الله لهم » فالمراد كثرة الاستغفار لا العدَد المحدد.
﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ﴾.
ولقد كفر هؤلاء بالله ورسوله، فلا أملَ في العفو والمغفرة مع الكفر والإصرار عليه، واللهُ لا يهدي الخارجين عليه وعلى رسوله، أولئك الذين انحرفوا عن الطريق فلم تعدْ تُرجى لهم توبة، وفسَدت قلوبُهم فلم يعدْ يُرجى لها صلاح.
المخلَّفون : الذين تخلّفوا عن الغزو. خلاف رسول الله : بعده.
بعد أن ذكر اللهُ بعض سيئات المنافقين من لمزِهم المسلمينَ في الصدقات وغيرِ ذلك، عادَ إلى الحديث عن الذين تخلَّفوا عن القتال في غزوة تبوك، وإلى بيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها.
﴿ فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله ﴾.
لقد فرح المخلّفون من هؤلاء المنافقين بقعودهم في المدينة بعد خروج النبي، وبمخالفتِهم أمرَه بالجهاد، وكرِهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأرواحهم في سبيل الله إعلاء كلمة الله ونصر دينه.
﴿ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾.
وكذلك أخذوا يثّبطون غيرَهم ويُغرونهم بالقعود معهم، وقالوا لإخوانهم في النفاق : لا تنفِروا في الحر. قل لهم أيها الرسول : لو كنتم تعقِلون لعلمتم أن نار جهنم أكثرُ حرارةً وأشدُّ قسوةً من هذا الحر الذي تخافون.
ثم أخبر تعالى عن عاجل أمرِهم وآجله من الضحك القليل والبكاء الطويل التي تؤدي إليه أعمالُهم السيئة بقوله :
﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾.
فليضحكوا فَرَحاً بالقعود، وسخريةً من المؤمنين. إن ضَحِكَهم زمنُه قليل، لانتهائه بانتهاء حياتِهم في الدنيا، وسيعقُبُه بكاءٌ كثير لا نهاية له في الآخرة، جزاءً لهم بما ارتكبوا من الأعمال السيئة.
ثم بين ما يجب أن يُعامَلوا به في الدنيا، وأنهم لا يصلُحون لكفاح، ولا يُرجَون لجهاد، ولا يجوز أن يُتسامح معهم.
مع الخالفين : المتخلفين.
إن ردك الله يا محمد، من سفرِك هذا وجاءت إليك طائفة من المنافقين المتخلّفين عن الغزو، فاستأذنوك ليخرجوا معك للجهاد في غزوةٍ أخرى، فلا تأذنْ لهم، وقل لهم : لن تخرجوا معي أيّةٍ غزوةٍ للجهاد في سبيل الله، ولن تقاتِلوا معي عدوا.
ثم بيّن سبب النهي عن صحبتهم للرسول الكريم فقال :
﴿ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ فاقعدوا مَعَ الخَالِفِين ﴾.
إنكم تخلّفتم عن الخروج للجهاد في أولِ مرةٍ بدون سبب، ورضيتم لأنفسِكم، بخزي القعود، فاقعدوا كما ارتضَيتم، وابقوا مع المتخلفين من العجزة والنساء والأطفال.
بعد أن أمر الله رسوله بفضح المنافقين وإذلالهم بمنعهم من الجهاد، أمره أن لا يصلّي على من مات منهم، ولا يوليهم أيَّ تكريم، فهم لا يستحقونه أبدا.
﴿ وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
لا تُصَلِّ أيها الرسولُ بعد الآن في جنازة أحدٍ من هؤلاء المنافقين، ولا تتولّ دفنه، ولا تقُمْ عليه كما تفعل على قبور المؤمنين. وكان الرسول إذا فرغ من دفن الميت وقف على قبره وقال :( استغفِروا لأخيكم وسلوا له التثبُّت فإنّه الآن يُسأل ). رواه أبو داود والحكم عن عثمان رضي الله عنه.
﴿ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
لأنهم كفروا وماتوا وهم خارجون من حظيرة الإسلام.
روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال :( سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفي عبد الله بن أُبّي، دُعي رسول الله للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف قلت : أَتصلي على عدوّ الله، عبدِ الله بن أبّي القائل كذا وكذا ؟ ورسولُ الله يبتسم. حتى إذا أكثرتُ قال : يا عمر، أخِّر عني. إنّي قد خُيرت : قد قيل لي : استغفر لهم... الآية، فلو أعلم أني زدتُ على السبعين غُفر له لزدتُ عليها ). ثم صلى عليه ومشى معه حتى قام على قبره إلى أن فرغ منه. فعجبتُ لي ولجرأتي على رسول الله، فوا اللهِ ما كان إلا يسيراً حتى نزلتْ هاتان الآيتان :( ولا تصلِّ على أحدٍ منهم ماتَ أبدا.. ) فما صلى رسول الله على منافق بعده ).
وقد أنكر بعضُ العلماء هذا الحديث، وقالوا إنه مخالف للآية، وقد روي عن طريق ابن عمر وجابر بن عبد الله، ولا أرى في هذا الحديث ما يخالف الآية إذا كان الحديث من أسباب النزول. والحديث صحيح لا مجال للطعن فيه، والنبي إنما صلى عليه من أجل ولدِه المؤمن الصحابيّ الجليل، وكان هذا طلبَ من الرسول الكريم أن يصلّي على والده وقال له : يا رسول الله، إنك إن لم تأتِه نُعَيَّر به.
تقدمت هذه الآية في نفس السورة رقم ٥٥ وفيها زيادة ( لا ) وهي :( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم الخ... ) وقد أعاد الله تعالى هذه الآية تأكيداً للتحذير.
الطول : الغنى والقوة.
ذرنا : اتركنا.
إذا أُنزلتْ سورة تدعو المنافقين إلى الإخلاص في الإيمان بالله، وتأمرُ بالجهادِ في سبيل الله، جاء الأغنياءُ منهم والذين عندهم المقدرةُ يطلبون من الرسول الكريم أن يأذَنَ لهم في التخلّف، وقالوا : اتركْنا مع القاعدين في بيوتِهم.
وذلك لجُبنِهم وبُخلهم في أن يجودوا بأموالهم وأنفسُهم في سبيل الله.
الخوالف : كل من تخلف عن الجهاد.
طبع على قلوبهم : ختم عليها.
إنهم قد ارتضوا لأنفسِهم أن يكونوا في عِداد المتخلّفين من النساء والعجزة والأطفال ممّن لم يُكتب عليهم القتال، وخَتَم الله على قلوبهم بالخوف والنفاق، فهم لا يفقهون ما في الجهاد من عّزٍ في الدنيا ورضوانٍ من الله في الآخرة.
إن الرسول والذين آمنوا معه قد جاهدوا وبذلوا أرواحهم وأموالهم في سبيل الله، إعلاء لكلمته، فلهؤلاء كل خيرٍ في الدنيا من العزّ والنصر والعمل الصالح، وهم الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة.
لقد هيأ الله لهم في الآخرة النعيمَ الدائم، في جناتٍ تتخلّلها الأنهار، وذلك هو النجاح الكبير. وهذا من أسلوب القرآن الحكيم يقابل الصور دائما ويبين السّيء من الحسن ليتعظ الناس بذلك.
المعذرون : المعتِذرون سواء كان العذر صحيحا أم غير صحيح. الأعراب : سكان البادية.
نصحوا : أخلصوا.
كما تخلّف بعض المنافقين في المدينة عن الخروج للجهاد، جاء فريق من أهل البادية، ينتحلون الأعذارَ ليُؤذن لهم في التخلف، وقال بعضهم : يا نبي الله، إنا إن غَزَوْنا معك أغارت طيء على نسائنا وأولادنا وأنعامنا، فقال لهم رسول الله : قد أنبأَني اللهُ من أخباركم وسُيغني الله عنكم.
﴿ وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾.
وهؤلاء هم المنافقون، قعدوا عن كل من القتال والمجيء للاعتذار وتخلّفوا بلا عذرٍ كاذبين على الله ورسوله.
﴿ سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
سيكون جزاء الذين كفروا بكِذْبهم على اللهِ ورسولِه من المنافقين والكاذبين من المتعذرين، عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة.
قراءات :
قرأ يعقوب :«المعذرون » بسكون العين والذال المكسورة بدون تشديد.
وبعد أن بيّن الله تعالى أحوالَ المنافقين والكاذبين، وما ينتظرهم من عذاب، ذكر هنا ثلاثة أصناف أعذارُهم مقبولة، فالإسلام دين يُسْرٍ، ولا يكلّف الله نفساً إلا وُسْعَها.
إن التكليف بالغزو ساقِط عن أصناف ثلاثة :
١- الضعفاء : وهم من لا قوّة لهم تمكّنهم من الجهاد كالشيوخ المتقدمين في السنّ، والعجَزة، والصبيان وذوي العاهات التي لا تزول.
٢- المرضى : وهم من أُصيبوا بأمراض أقعدتهم فلا يتمكّنون معها من الجهاد، وينتهي عذرهم إذا شفاهم الله.
٣- الفقراء الذين لا يجِدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا خرجوا للجهاد ولا ما يكفي عيالهم.
ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلّةٍ في تكوينهم، أو شيخوخة تقعدهم، ولا المرضى الذين لا يستطيعون الحركةَ والجُهد، ولا المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون منه، أيُّ حَرجٍ إذا تخلفوا عن المعركة، وقلوبهم مخلصة لله ورسوله.
﴿ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ، والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
ليس على المحسن في عمله وإيمانه أية مؤاخَذة ولا مسؤولية، فالله كثيرُ المغفرة، واسع الرحمة يستر على المقصر في أداء واجبه ما دام مخلصا لله والرسول.
نزلت هذه الآية في ابن أُم مَكتوم، واختُلف في اسمه أهو : عبد الله أم عمرو بن قيس بن زائدة. وكان هذا ضريراً جاء إلى رسول الله فقال :
يا نبيّ الله، إني شيخ ضرير ضعيف الحال وليس لي قائد، فهل لي رُخصة في التخلّف عن الجهاد ؟ فسكت النبي الكريم فأنزل الله ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى... الآية ).
كذلك لا حرج ولا مسؤولية على القادرين على الحرب، لكنّهم لا يجدون الرواحِلَ التي تحمِلُهم إلى أرض المعركة، وإذا جاؤوك يطلبون منك العون لتؤمَِّن لهم ما يركبون لم تجد أنت أيضاً ما تحمِلُهم عليه، فانصرفوا من عندك وهم يبكون، لأنهم حُرموا من الجهاد ولم يجدوا ما يُعينهم عليه.
هؤلاء هم البكّاؤن نزلت فيهم الآية وهم سبعة أشخاص : عبد الرحمن بن كعب، وعلية بن زيد، وعمرو بن ثعلبة، وسالم بن عُبيد، ومَعْقل بن يَسار، وعبد الله بن عمرو بن عوف، وعبد الله بن مغفل... جاؤوا إلى الرسول الكريم فقالوا : يا رسول الله، احمِلنا فإنه ليس لنا ما نَخرج عليه، فقال : لا أجدُ ما أحملكم عليه.
وهناك روايات أخرى.
إنما اللوم والمسؤولية على هؤلاء الذين يطلبون الإذنَ في القعود عن الجهاد، وهم أغنياء قادرون على الخروج معك، لكنهم مع قدرتهم رضوا بأن يقعدوا مع المتخلفين من العجزة والمرضى. هؤلاء ختم اللهُ عل قلوبهم فأغِلقت عن الحق، فهم لا يعلمون حقيقة أمرِهم، ولا سوءَ عاقبتهم في الدنيا والآخرة.
عالم الغيب : كل ما غاب عنا علمه.
والشهادة : ما نشهده ونعرفه.
سيعتذرُ إليكم أيها المؤمنون المجاهدون، هؤلاء المتخلِّفون المقصّرون، عند رجوعكم من ميدان الجهاد.
﴿ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ ﴾.
قل لهم أيها الرسول : لا تعتذِروا، فإنّا لن نصدّقكم. ثم بيّن الله السببَ في عدمٍ تصديقهم فقال :
﴿ قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾، فالله قد كشف حقيقةَ نفوسِكم وأوحى إلى نبيّه بعض أخباركم التي تُسِرّونها في ضمائركم.
﴿ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
وسيرى اللهُ عملَكم ورسوله فيما بعد، ثم يكون مصيرُكم بعد الحياةِ الدنيا إلى الله الذي يَعلم ما تكتُمون وما تُظهرون، فيُخبركم بما كنتم تعملون، ويجازيكم عليه.
إذا انقلبتم إليهم : إذا رجعتم إليهم.
رجس : قذر يجب تجنبه.
ثم أكد ما سبق من نفاقهم بقوله :
﴿ سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾.
سيؤكدون لكم اعتذارَهم بما يحلِفون بالله لكم من الأيمان الكاذبة بأنهم صادقون في معاذيرِهم، إذا رجعتم من سفرِكم في غزوة تبوك، لكي يُرضوكم فَتغْفلوا عن علمهم... لا تحقِّقوا لهم هذا الغرض.
﴿ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾، فاجتنِبوهم وامقُتوهم.
روى مقاتل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال حين قدِم المدينة ( لا تُجالسوهم ولا تكلّموهم، إنهم رجس ) فهم في أشد درجات الخبث النفسي والكفر.
﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾.
ومصيرهم إلى جهنم، عقاباً على ما اقترفوه من نفاق وكذب.
ثم زاد في تأكيد نفاقهم فقال :( يحلِفون لكم لتَرضوا عنهم ) أي إنهم سوف يحلفون لكم طمعاً في رضاكم عنهم، لتُعاملوهم معاملة المسلمين.
﴿ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين ﴾.
فإن خُدعتم بأيمانهم ورضيتُم عنهم، فإن هذا لا ينفعُهم، لأن الله ساخطٌ عليهم لِفسْقِهم ونفاقهم، وخروجهم على الدين.
روي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في الجدّ بن قيس بن قشير وأصحابه من المنافقين، وكانوا ثمانين رجلاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين لَمّا رجعوا إلى المدينة أن لا يجالسوهم ولا يكلّموهم.
وهكذا قرر الله العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين، كما قررها من قبل بين المسلمين والمشركين، وبين أهل الكتاب والمسلمين، وكانت هذه السورة العظيمة هي الحكم النهائي الأخير.
الأعراب : سكان البادية من العرب.
كان يجاور المؤمنين السابقين المخلصين من المهاجرين والأنصار، جماعاتٌ أخرى : الأعراب : وفيهم المخلِصون والمنافقون ؛ والمنافقون من أهل المدينة، وقد كشفهم الله تعالى بهذه السورة المباركة ؛ وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولم ينصهِروا في بوتقة الإسلام تماما ؛ وطائفة مجهولة الحال لا تُعرف حقيقة مصيرها، أمرُها متروك لله ؛ ومتآمرون يتستّرون باسم الإسلام، ويدبّرون المكايدّ ويتَّصِلون بأعداء الإسلام في الخارج. والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الجماعات كلِّها باختصار مفيد، ويقرر كيف يجب أن تُعامل هذه الجماعات.
وهو يقسم الناسَ على أساس التقوى والإيمان الخالص بالله والعملِ الصالح، فقد تحدّث عن أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم، وبيّن في هذه الآية والآيتين اللاحقتين أحوالَ الأعراب مؤمنيهم ومنافقهم فقال :
﴿ الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
الأعراب من أهل البادية أشدُّ كفرا ونفاقا من أمثالهم أهلِ الحضر، لأنهم يقضون جُلَّ أعمارهم في البادية يخدمون مواشيَهم وأنعامهم، بعيدين عن أهل العلم والحكمة. وهم حقيقون أن يجهَلوا حدودَ الله، وما أنزلَ على رسوله من شرائع وأحكام، واللهُ عليم حكيم، واسعُ العلم بشؤون عباده وأحوالهم، حكيم فيما يقدِّره من جزاء ومن نعيم.
وقد وردت أحاديث كثيرة تشير إلى جَفاء الأعراب، وغِلْظَتِهم، وبُعدهم عن الآداب والمعرفة. قال ابن كثير في تفسيره :( جلس أعرابي إلى زيد ابن صوحان، أحدِ التابعين العلماء الشجعان، وقد شهِد الفتوحَ وقُطعت يده في نَهاوَنْد، فقال له الأعرابي : واللهِ إن حديثك لَيُعجبني، وإن يَدك لتُريبني. فقال زيد : وما يريبك من يدي، إنها الشّمال ! فقال الأعرابي : واللهِ ما أدري اليمينَ يقطعون أو الشمال ؟ فقال زيد بن صوحان : صدق الله ورسوله :﴿ الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ ﴾.
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من سكنَ الأبديةَ جفا ). وهناك روايات كثيرة تكشف عن طابَع الجفوة والفظاظة في نفوس الأعراب حتى بعد الإسلام.
مَغرما : غرامة.
الدوائر : مفردها دائرة، المصيبة.
وبعد هذا الوصف العام للأعراب يقسِمهم القرآن قسمين، فيقول تعالى :
﴿ وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.
هنا بدأ بذِكر المنافقين من الأعراب، لأن الحديث أصلاً كان عن المنافقين عامة. ومعناه : أن بعض المنافقين من أهل البادية يعتبرون الإنفاق في سبيل الله غرامةً وخسرانا، فالرجل منهم مضطر لأن ينفقِ من ماله في الزكاة وغيرها تظاهراً بالإسلام وهو كاره لذلك.
وهو لا يفعل حُبّاً في انتصار الإسلام والمسلمين، وإنما ليستمتعَ بمزايا الحياة في المجتمع المسلم.
ومثلُ هذا المنافق البدوي ينتظِر متى تدور الدوائر على المسلمين، فعليه وعلى أمثاله وحدهم ستحلّ دائرة السَّوء والمصيبة. إن الشر ينتظرونه لكم، أيها المسلمون سيكون محيطاً بهم، فاللهُ سميع لما يقولون عنكم، عليمٌ بأفعالهم ونيّاتهم تجاهكم.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :«السوء » بضم السين. والباقون :«السوء » بفتح السين.
قربات : واحدها قربة، طلب الثواب، والكرامة من الله.
صلوات من الرسول : دعوات منه.
وبعد أولئك الأعراب المنافقين، يذكر الكتابُ حال المؤمنين الصادقين ممن خالطت قلوبهم بشاشةُ الإيمان :
﴿ وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله وَصَلَوَاتِ الرسول ألاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
أما المؤمنون بالله واليوم الآخر، والّذين يتخذون الإنفاق في سبيل الله وسيلةً يتقربون بها إلى الله، وسبباً لدعاء الرسول لهم ( إذ كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم ) فإن ما ينفقونه في الخير وصلوات الرسول عليهم، قُربةٌ عظيمة قد تقبّلها الله وأثاب عليها، وسيُدخلُهم في رحمته الواسعة، فهو واسع المغفرة لمن يخلصون في أعمالهم.
القراءات :
قرأ ورش وإسماعيل عن نافع :«إنها قربة » بضم القاف والراء والباقون :«قربة » بإسكان الراء.
رضي الله عنهم : قبلِ طاعتهم. ورضوا عنه : بما أفاض عليهم من نعمة. بعد تصنيف الأعراب إلى مؤمنين ومنافقين، صنف الله تعالى المجتمع كله حاضِرَه وبادِيَة إلى أربع طبقات :
الأولى : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
الثانية : المنافقون الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة والأعراب.
الثالثة : الذين خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا.
والرابعة : الذين أرجئ الحكم في أمرهم حتى يقضي الله فيهم بقضائه. ستأتي في الآية ( ١٠٦ ).
﴿ والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ... ﴾.
هؤلاء هم الطبقة الأولى : السابقون من المهاجرين الذين لاقوا من الشدائد والعذاب والاضطهاد ما اضطرهم إلى الهجرة، والسابقون من الأنصار، الذي آووا الرسول ونصروه، والذين اتبعوهم بإحسان. هذه الطبقة بمجموعاتها الثلاث هم القاعدة الأساسية للمجتمع المسلم. هؤلاء جميعا رضي الله عنهم في إيمانهم وإسلامهم، فقبِلَ طاعتهم وسيجزيهم أحسنَ الجزاء، ورضوا عنه بالاطمئنان إليه، والثقة بقدَره.
ولذلك ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم ﴾.
وهذا الوعدُ الكريم من رب العالمين هو الذي يستبشر به أولئك المسلمون.. إنه جنات تجري الأنهار تحت أشجارها، فينعمون فيها نعيماً أبديا، وأيّ فوز بعد هذا ! !
مَردوا على النفاق : ثبتوا عليه، وأتقنوا أساليبه.
ثم إنه يذكر حال الطبقة الثانية، وهم منافقو أهلِ المدينة ومن حولَها :
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾.
لقد سبق الحديثُ عن المنافقين عامة، لكن الحديث هنا عن صنف خاص منهم، حَذَقَ النفاقَ ومَرَنَ عليه، حتى لَيخفى أمره على رسول الله مع كل فراسته وتجربته. والله تعالى يقرر أن هذه الفئة من الناس موجودةٌ في أهل المدينة وفي الأعراب المحيطين بالمدينة، ويُطمئن الرسولَ الكريم والمؤمنين معه، من كيدِ هذه الفئة الماكرة، وأنه سيتولى أمرهم ولن يدعَهُم، بل سيعذّبهم عذاباً مضاعفا : مرتين في الدنيا، مرةً بنصر المسلمين على أعدائهم مما يغيظ أولئك المنافقين، ومرة بفضيحتهم وكشف نفاقهم. أما في الآخرة فسيَصْلَون عذاب جهنم وهولها الشديد.
وجملة القول أن المنافقين فريقان : فريق عُرفوا بأقوال قالوها، وأعمال عملوها... وهؤلاء مكشوفون معروفون، وفريق حذَقوا النفاق حتى لا يشعر أحد بشيء يستنكره منهم.
وهذان الفريقان يوجَدان في كل عصر، والأمة مبتلاةٌ بهم في كل قطر، وهم يزعمون أنهم يخدمون الأمة باسم الوطنية أو اسم الدين، ويستغلّون مناصِبهم، ويجمعون الأموال لأنفسِهم. نسأل الله السلامة منهم.
هذه هي الطبقة الثالثة : هؤلاء من المؤمنين ليسوا منافقين، ولا من السابقين الأولين ولكنهم من الذين خَلطوا الصالحَ من العمل بالسيء منه، كالّذين تخلّفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح، ولم يستأذنوا كاستئذان المرتابين، ولم يعتذِروا بالكذب كالمنافقين.
ومنهم ثلاثةٌ معرُوفون، هم أبو لُبابة بن عبد المنذر، وثعلبة بن وديعة، وأَوس بن حذام، من الأنصار، تخلّفوا عن رسول الله في غزوة تبوك. فلما رجع من غزوته، ندموا على ما فعلوا وأوثقوا أنفسَهم في سواري المسجد. فلما مر بهم سأل عنهم فقالوا له تخلّفوا عنك يا نبي الله، فصنعوا بأنفسهم ما ترى، وعاهدوا الله أن لا يُطلقوا أنفسهم حتى تطلقهم أنت فقال : وأنا لا أُطلقهم حتى أومَرَ بإطلاقهم. فأنزل الله تعالى :﴿ وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ... الآية ﴾.
وهذا الصنف من الناس كثير، فالإنسانُ ضعيف والمغريات كثيرة، والنفس أمّارة بالسوء. ونحمد الله تعالى على أن باب التوبة مفتوح دائماً، ولذلك قال تعالى :
﴿ عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
فالاعتراف بالذنب والشعورُ بوطأته دليلٌ على حياة القلب، ومن ثَمّ فإن التوبة مرجُوَّة القبول، والمغفرة مرتقبة من الغفور الرحيم.
وقد قبل الله توبتهم ورحِمَهم.. وهذا ينطبق على كل مسلم يخطئ ثم يرجع إلى الله. بل إن هذه الفئة من الناس هي الغالبية العظمى من البشر.. يخطئون ويتوبون، لكن الله رؤوف رحيم تواب يقبل التوبة.
الصدقة : ما ينفقه المؤمن قربة لله.
تطهرهم : تمحو ذنوبهم.
وتزكّيهم : تصلحهم وترفعهم إلى منازل الأبرار.
إن صلاتك سكن لهم : إن دعائك لهم يدخل الاطمئنان والراحة إلى نفوسهم.
خذْ أيها الرسول، من أموال هؤلاء التائبين صدقات تطهّرهم بها من الذنوب والشحُّ، وترفع درجاتهم عند الله، وادعُ لهم بالخير والهداية... فإن دعاءك تطمئنّ به قلوبُهم، والله سميع للدعاء عليمٌ بالمخلصين في توبتهم.
روى ابنُ جرير عن ابن عباس قال : لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لُبابة وصاحبَيْه انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم إلى الرسول الكريم، وقالوا : خذ من أموالنا فتصدَّقْ بها عنا وصلِّ علينا ( يعني استغفر لنا وطهرنا ) فقال رسول الله : لا آخذُ منها شيئاً حتى يأتيَنا أمرُ الله ) فأنزل الله تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً... الآية ﴾ فأخذ.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص :«إن صلاتك » وقرأ الباقون :«إن صلواتك » بالجمع.
أَلا فلْيعلم هؤلاء التائبون أن الله هو الذي يقبل التوبةَ الخالصة من عباده، وهو الذي يأخذُ الصدقة، وأنه سبحانه هو الواسعُ الفضلِ في قبول التوبة، ذو الرحمة الشاملة لعباده.
وبابُ التوبة مفتوح دائما، روى الترمذي : ما أصَرَّ من استغفرَ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة.
وفي موضوع الصدقات، روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما تصدّق أحدُكم بصدقةٍ من كسبٍ حلال طيب، ولا يقبل الله إلا الطّيب، إلا أخَذَها الرحمن بيَمينه وإن كانت تَمْرة، فَتَربُو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يُربي أحدُكم فِلْوَه أو فَصِيله ) فالصدقة مقبولة مهما كان حجمها. وفي الحديث أيضا ( تصدَّقوا ولو بِشِقّ تمرة ) والفِلْو : المُهر يُفصَل عن الفَرَس.
ثم يتوجّه الكلام بالخطاب إلى جميع المكلَّفين أن يعملوا، لأن الإسلامَ منحَهُم حياةً واقعية، لا تكفي فيها المشاعر والنوايا، ما لم تتحوّل إلى حركةٍ وعمل دائم.
قل لهم أيها الرسول : اعملوا لِدُنياكم وآخرِتكم ولا تقصّروا في عمل الخير وأداء الواجب. إن ربّكم يعلم كل أعمالكم، وسيراها هو والرسول والمؤمنون، فيزِنونها بميزان الإيمان ويشهدون بمقتضاها. ثم ترجعون بعد الموتٍ إلى الله الذي يعلم سِركم وجهركم، فيجازيكم بأعمالكم. والمنهج الإسلامي في حقيقته منهج عقيدةٍ وعمل.
وآخرون مرجون : مؤخرون لأمر الله.
ثم جاء ذكر الطبقة الرابعة التي لم يبتَّ في أمرها، بل وكَلَ أمرها إلى الله.
﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
هؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك، غير المنافقين والمعتذرين والمخطئين التائبين. وقد تأخر البتُّ في أمرهم، وكان أمرُهم موكولاً إلى الله، لم يعلموه، ولم يعلمْه الناس. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : هم الثلاثة الذين خُلّفوا وهم : مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك وهلال بن أميّة، قعدوا عن غزوة تبوك كسلاً وميلاً إلى الدّعة والتمتع بطيب الثمار، لا شكاَّ ولا نفاقا. وسيأتي ذكرهم في الآية ( ١١٨ ).
فهؤلاء مرجَأون لأمرِ الله : إما أن يعذّبَهم، وإما أن يتوبَ عليهم ويغفرَ لهم.
قراءات :
قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص «مُرْجَون » كما في المصحف، وقرأ الباقون «مرجأون » وهذا في اللغة جائز يقال أرجأت الأمر وأرجيته.
ضرارا : لمحاولة الضرر.
أرصادا : ارتقابا.
سبب نزول هذه الآيات أنه كان في المدينة رجل اسمه أبو عامر الراهب، قد تنصّر في الجاهلية وقرأ التوراة. وكان فيه عبادةٌ في الجاهلية وله شرفٌ كبير بين قومه من الأوس والخزرج، فلما قدِم الرسول إلى المدينة دعاه إلى الله وقرأ عليه القرآن، فأبى أبو عامرٍ أن يُسلم وتمرَّد، فدعا عليه الرسول أن يموت طريداً... فنالته الدعوة وماتَ في بلاد الروم.
وقد تجمَّع حوله جماعةٌ من المنافقين، ورأوا أن أفضلَ وسيلةٍ يكيدون فيها للإسلام ونبيّه الكريم أن يبنوا مسجداً تحت شعار الدين، ثم يعملون للكفرِ بالله ورسوله، ولهدْمِ الإسلام، والإضرار بالمسلمين وتفريقِ كلمتهم.
وقد بنوا المسجد وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاؤوا فسألوه أن يصلّيَ في مسجدهم ليكون ذلك ذريعةً إلى غَرِضهم، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلّة في الليلة الشاتية. فقال لهم الرسول الكريم : إنا على سَفرٍ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله.
وقبل أن يصل المدينةَ في رجوعه من تبوك نزلت عليه هذه الآيات، فبعثَ بعضَ أصحابه وأمرهم أن يهِدموا ذلك المسجدَ، ففعلوا.
أما أبو عامر الفاسق كما سمّاه الرسول فإنه لما رأى الإسلام في ظهورٍ وارتفاع، هربَ إلى هِرَقْلَ ملكِ الروم يستنصره. فوعده هذا وأقام أبو عامر عنده، وكتب إلى جماعة من أهل النفاق في قومه يعدُهم بأنه سيقدم بجيشٍ يقاتل به رسول الله، وأمرهم أن يتخذوا معقِلا يَقْدَم عليهم فيه، ويكون له مرصدا بعد ذلك فشرعوا في بناء مسجدٍ مجاورٍ لمسجِد قُباء كما تقدّمت قصته، وهلك أبو عامر ولم يعد.
وأبو عامر هذا من الأوس، لكنه ورد في تفسير ابن كثير أنه من الخزرج.. وقديماً كانوا يسمُّون الأوسَ والخزرج باسمِ «الخزرج ».
هذا هو مسجد الضرار الذي اتخذ على عهد رسول الله مكيدةً للإسلام والمسلمين.
﴿ والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾.
من المنافقين جماعة بنوا مسجدا لا يبتغون به وجه الله، وأنما لإلحاق الضرر والتفريق بين جماعة المؤمنين. وسيحلفون على أنهم ما أرادوا ببناء هذا المسجد إلا الخير والعمل الأحسن، لكن الله يشهدُ عليهم أنهم كاذبون في أيمانهم.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر :«الذين اتخذوا مسجدا ضرارا... » بدون واو والباقون :«والذين.... ».
لا تصلِّ أيها الرسول، في هذا المسجد أبدا. إن المسجد الذي أقيم على التقوى ابتغاءً لوجه الله، وطلباً لمرضاته من أول يوم، هو أحقُّ من غيره أن تصلّي فيه وتؤدي شعائر الله وهو مسجد قباء.
إن في مسجد قباء رجالاً يعمُرونه بإقامة الصلاة، يحبّون أن يطهِّروا أجسادَهم وقلوبَهم بأداء العبادة الصحيحة فيه، «والله يحب المطهّرين » الذين يبالغون في طهارة الروح والجسد، لأن فيهما الكمالَ الإنساني.
على شفا : على حرف.
جرف : جانب الوادي.
هار : متداع آيل للسقوط.
لا يستوي في عقيدته ولا في عمله مَنْ أقام بنيانه على الإخلاص في تقوى الله وابتغاءِ مَرْضاتِه مع ذاك الذي أقامَ بنيانَه على النفاق والكفر ! ! فإن عمل المؤمن الصالح مستقيمٌ ثابت على أصل متين، فيما عمل المنافق كالبناء على حافَةِ هاويةٍ بدون أساس، فهو واهٍ ساقط، يقع بصاحبه في نار جنهم، واللهُ لا يهدي الظالمين إلى طريق الرشاد. القراءات :
قرأ نافع وابن عامر :«أُسّسِ بنيانه » بضم الألف ورفع بنيانه في الموضعين. وقرأ الباقون :«أَسسَّ بنيانَه ».
وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر :«جرف » بإسكان الراء. وقرأ الباقون :«جرف » بضم الجيم والراء.
سيظل الذي بناه المنافقون ريبةً مَصْدَرَ اضطرابٍ وخوف في قلوبهم، لا ينتهي حتى تتقطع قلوبُهم بالندم والتوبة أو بالموت، والله عليم بكل شيء، حكيم في أفعاله.
القراءات :
قرأ يعقوب :«إلى أن تقطع قلوبهم »، وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص :«تقطع » بفتح التاء والطاء المشددة. وقرا الباقون :«تقطع » بضم التاء وتشديد الطاء المفتوحة.
يؤكد الله وعْده للمؤمنين الذين يبذلون أنفسَهم وأموالَهم في سبيله بأنه اشترى منهم تلك الأنفسَ والأموال بالجنة ثمناً لما بذلوه. إنهم يجاهدون في سبيل الله فَيَقْتُلون أعداء الله أو يُسْتَشْهدون في سبيل الله. وقد أثبتَ الله هذا الوعدَ الحقَّ في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن، وليس أحدٌ أبَرَّ وأوفى بعده من الله، فافرحوا أيها المجاهدون، وأبشروا بهذه المبايعة. ففيها الظفر الكبير لكم.
وهذا ترغيب في الجهاد على أبلغ وجه، فالله سبحانه هو المشتري، والمؤمنون هم البائعون، والأنفس والأموال هي المبيع، والثمن هو الجنة ذاك عقد ذكرته الكتب السماوية كلها، وفي ذلك منتهى الربح والفوز العظيم.
روى ابن أبي حاتم عن جابر قال : نزلت هذه الآية على رسول الله في المسجد، فكّبر في المسجد. فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرف ردائه على عاتقه فقال : يا رسول الله، أنزلتْ فينا هذه الآية ؟ قال : نعم. فقال الأنصاري : بيعٌ ربيح لا نقيل ولا نستقيل.
قراءات :
قرأ عاصم :( فيَقتُلون ويُقتَلون ) وهي قراءة المصحف وقرأ حمزة والكسائي :«فيُقتَلون ويَقتُلون » بتقديم الفعل المبني للمفعول.
ثم وصف الله هؤلاء الكَمَلَةَ من المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، بأنهم صفوة مختارة، ذات صفات مميزة، منها ما يختص بذوات أنفسهم، ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة فقال :
﴿ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ المؤمنين ﴾.
إن أوصاف هؤلاء الذين باعوا أنفسَهم لله بالجنة، إنهم : يكثِرون التوبة إلى الله من هفواتهم، ويحمدونه على كل حال، ويسعون في سبيل الخير لأنفسهم ولغيرهم، ويحافظون على صلواتهم و يؤدونها كاملة في خشوع، ويأمرون بكل خير يوافق ما جاء به الشرع، وينهون عن كل شرٍ يأباه، ويلتزمون بشريعة الله. وبشرِّ أيها الرسول، المؤمنين المتصفين بهذه الصفات بخَيْرَي الدنيا والآخرة.
كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال، وهنا بيّن الله تعالى أنه يجب البراءة من الكفار ولو كانوا أُولي قرابة، وأن إبراهيم عندما استغفر لوالده كان قد وَعَدَه بذلك، فلما أصرَّ والده على كفره تبرأ إبراهيم منه.
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم ﴾.
ليس للنبي وللمؤمنين أن يطلبوا المغفرة للمشركين، ولو كانوا أقرب الناس إليهم، من بعد ما تبين لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار.
وقد وردت روايات أن هذه الآية نزلت في أبى طالب، وهذا غير صحيح، فإن أبا طالب مات قبل الهجرة، وهذه الآية نزلت بعد غزوة تبوك والمدة بينهما نحو١٢ سنة.
لأواه : كثير التأوه، الخاشع الكثير الدعاء.
حليم : لا يغضب، هادئ الأعصاب.
ثم أجاب على سؤال قد يخطر بالبال، فيقال كيف يمنع النبي والمؤمنين من الاستغفار لأقربائهم وقد استغفر إبراهيم لأبيه فقال :
﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ﴾.
ولم يكن ما فعله إبراهيم عليه السلام من الاستغفار لأبيه، إلا تحقيقا لوعد من إبراهيم له، وذلك بقوله تعالى :﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٧ ] وبقوله :﴿ واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين ﴾ [ الشعراء : ٨٧ ]. وقد وفى إبراهيم بما وعد.
﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾.
فلما مات أبوه ولم يؤمن تبين له أنه مات كافرا وأنه عدو الله، فتبرأ منه وترك الاستغفار له.
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ إن إبراهيم كثير الخشية والدعاء لله، صبور على الأذى والصفح عن غيره.
قيل مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، فقال بعض الصحابة : يا رسول الله، إخوانُنا الذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم عند الله ؟ فنزل قوله تعالى :
﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ﴾.
ما كان من سُنن الله ولطفه بعباده أن يصف قوماً بالضلال، ويُجزي عليهم أحكامه بالذّم والعقاب، بعد أن هداهم للإسلام.
﴿ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾ من الأقوال والأفعال بياناً واضحاً.
﴿ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
إنه تعالى عليم بجميع الأشياء، محيط علمه بكل شيء.
إن الله وحده مالكُ السماوات والأرض وما فيها، وهو المتصرِّف فيهما بالإحياء والإماتة، وليس لكم سوى الله من وليّ يتولى أمركم، ولا نصير ينصركم.
العسرة : الشدة والضيق وسُميت غزوة تبوك غزوة العسرة لما كان فيها من شدة وضيق وحاجة.
يزيغ : يميل.
بعد أن استقصى الله أحوال المتخلفين عامة من غزوة تبوك، عاد مرة أخرى إلى الكلام في توبتهم.
لقد تفضل الله سبحانه عل نبيّه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار الذين خرجوا معه إلى الجهاد في وقت الشدة. وقد سُميت غزوة تبوك غزوةَ العسرة لعسرة المسلمين مادياً إبان ذلك.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه : عسرة الظَّهر، يعني عدم وجود ما يركبون عليه، وعسرة الزاد، وعسرة الماء.
﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ... ﴾.
لقد تاب عليهم فثَّبتهم وصانهم عن التخلّف من بعد ما اشتد الضِيق بفريق منهم، حتى كادت قلوبُهم تميل إلى التخلف. وكان الله بهم رؤوفا رحيماً.
وتوبة الله على عباده هي توفيقُهم للتوبة وقبولُها منهم. وقد كرر التوبة ههنا للتأكيد على قبولها عند الله.
بما رحبت : بما وسعت على اتساعها.
ظنوا : معناها هنا اعتقدوا.
لقد تفضلّ الله تعالى بالعفو عن الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج للجهاد في غزوة تبوك ولم يكن تخلّفهم عن نفاق. وهو يعلم أنهم مؤمنون صادقون. لذا كانت توبتهم خالصة، وندمهم شديدا حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على سَعَتها، وضاقت عليهم نفوسُهم همّاً وحزنا. لقد علموا أنه لا ملجأ من غضب الله إلا بالرجوع إليه، وحينئذ هداهم إلى التوبة، وعفا عنهم، فهو التواب الرحيم.
والثلاثة الذين خلفوا هم : كعب بن مالك وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وجميعهم من الأنصار. وكان كعب بن مالك من أكابر الشعراء ومن الصحابة الصادقين وأحد المنافحين عن النبي الكريم بشِعره. وقد روى البخاري ومسلم قصته بالتفصيل. قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله في غزوةٍ غزاها إلا في بدرٍ وتبوك، والرسول لم يعاتب أحدا تخلف عن غزوة بدر.
وكنت وقتَ غزوة تبوك في حالة جيدة من المال والصحة، عندي راحلتان. وقد بقيت أغدو وأروح لأتجهّز فلم أوفَّق، وظللت أتعلل بأني قادر وسوف أتبعُهم. ولما رجع رسول الله عن الغزوة وجلس للناس جاءه المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم عذرهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. فجئته أنا، فلما سلَمت عليه تبسَّم تبسُّم المغضَب، ثم قال لي : ما خلّفك ؟ ألم تكن قد ابْتَعتَ ظهرك ؟ فقلت : بلى، إني والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيتُ أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيتُ جدلا، ولكني والله قد علمت لئن حدّثتُك اليوم حديثَ كذب ترضى به عني، ليوشكنّ اللهُ أن يُسخِطَك علي، ولئن حدثتك حديثَ صدق تجد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذر.. فقال رسول الله : أما هذا فقد صَدق، فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت.
وكذلك فعل صاحباه فصدَقا رسول الله. وكان الثلاثة من الصحابة المرموقين فآثروا الصدق وفاء لدِينهم، وخوفا من أن يفضح الله كذبهم. وسمع النبي منهم وأعلن أنهم قد صدقوه، ولم يعفُ عنهم مع ذلك، بل ترك أمرهم إلى الله. وأمرَ المؤمنين أن لا يكلّموهم.
وينظر هؤلاء الثلاثة فإذا هم في عزلة بغيضة إلى نفوسهم، السجنُ أهون منها.
يقول كعب : فبينما أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نبطيُّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدلّ على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني، رفع إليَّ كتاباً من ملك غسَان، فإذا فيه : أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدارٍ هوان ولا مَضْيَعة، فالحقْ بنا نُواسِك، فقلت لما قرأتها : وهذا أيضاً من البلاء، فأحرقت الكتاب.
وبعد أن مضت أربعون ليلة أرسل إليهم النبي أن يعتزلوا نساءهم. وبعد أن مضت عليهم خمسون ليلة في هذه العزلة، كان الندم قد أخذ من قلوبهم أقوى مأخذ، فأنزل الله توبته عليهم في هاتين الآيتين الكريمتين، وقد ابتهج المؤمنون كلهم لذلك، فكانوا يهنئونهم بذلك.
يقول كعب : لما بلَغني النبأ انطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد حوله المسلمون. فقام إليَّ طلحةُ بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقال : لِتَهْنِكَ توبة الله، فلن أنساها لطلحة. وقال رسول الله وهو يستنير استنارة القمر : أبشِر يا كعب بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتْك أُمك. ثم تلا علينا الآية...
وفي هذه القصة عبرة للمؤمنين تخشع لها قلوبهم، وتفيض عبراتهم.
قراءات :
قرأ حمزة وحفص :«يزيغ » بالياء، والباقون تزيغ بالتاء.
يا أيها الذين آمنوا اثبُتوا على التقوى والإيمان، وكونوا في الدنيا من أهل ولايته وطاعته تكونوا في الآخرة مع الصادقين في الجنة.
الضمأ : شدة العطش.
النَّصَب : التعب.
المخمصة : الجوع الشديد.
موطئا : مكانا.
بعد أن بين الله تعالى توبته عن المتخلفين أكّد هنا وجوب اتباع الرسول والغزو معه.
لا ينبغي لأهل المدينة ولا من حولَهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، ولا أن يَضِنّوا بأنفسِهم فيرغبوا في الراحة والسلامة، ولا يبذلوها فيما بذَلَ نفسه الشريفة.. إذ أنهم لا يصيبهم في سبيل الله ظمأ أو تعب أو جوع، ولا ينزلون مكاناً يَغيظ الكفارَ، ولا ينالون من عدو غرضا كالهزيمة أو الغنيمة إلا كتب لهم بذلك عملاً صالحاً يجزون عليه أحسن الجزاء.
بل إنهم ﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً... الآية ﴾.
وكذلك لا يبذلون أي مال في سبيل الله، ولا يسافرون أي سفر إلا كتبه الله لهم في صحائف أعمالهم الصالحة.
نفر : خرج للجهاد.
الفرقة : الجماعة الكثيرة.
الطائفة : الجماعة القليلة.
تفقّه : تعلم أمور دينه.
هنا يبين الله تعالى بقية أحكام الجهاد مع بيان حكم التعلم والتفقه في الدين، لأن دين الإسلام قامَ على العلم والحجة والبرهان.
قال ابن عباس : لما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين لتخلفهم عن الجهاد، قال المؤمنون : واللهِ لا نتخلّف عن غزوة يغزوها رسول الله، ولا سرية أبدا. فلما أمر الرسولُ الكريم بالجهادَ نَفَرَ المسلمون جميعا وتركوا رسول الله وحده بالمدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
﴿ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾.
ليس من شأن المؤمنين أن يخرجوا جميعاً في كل سريةٍ تخرجُ للجهاد، إلا إذا اقتضى الأمر وخرجَ الرسولُ بنفسه أو استنفر الناس جميعاً.
﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾.
إن هناك واجباتٍ أخرى مهمة غير الجهاد يجب على المؤمنين أن يقوموا بها، وذلك أن ينفِرَ من كل بلد أو قبيلة جماعة يأتون إلى رسول الله ليتفقّهوا في الدين ثم يعودوا إلى قومهم فيرشدوهم ويعلّموهم ليثبتَ هؤلاء على الحق، ويعلموا الباطل فيجتنبوه.
الذين يلونكم : من كانت بلادهم قريبة لبلدكم.
غلظة : شدة.
لما أمر الله تعالى بقتال المشركين كافة، أرشدهم في هذه الآية إلى طريق السداد، وهو أن يبدأوا بقتال من يَلِيهم من الأعداء ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد. وهكذا فعل الرسول وصحابته... فقد حاربَ قومه ثم انتقل إلى غزو سائر العرب ثم إلى غزو الشام. ولما فرغ الصحابة الكرام من الشام انتقلوا إلى غيرها، وهكذا.
يا أيها الذين آمنوا، قاتِلوا الكفار الذين يجاورونكم، حتى لا يكونوا مصدرَ خطرٍ عليكم، وكونوا أشداء عليهم في القتال، ولْيجدوا فيكم شدة وجرأة، ولا تأخذْكم بهم رأفة.. واعلموا أن الله معكم بعونه ونصره إذا اتقيتموه، وأعددتم العدة الكاملة للحرب، وكنتم صفاً واحدا وعلى هدف واحد.
الرجس : النجس ومعناه هنا الكفر يعني ازدادوا كفراً إلى كفرهم.
بعد ذِكر ألوان من مخازي المنافقين وكشفِ أخلاقهم بيّن هنا أنواعاً أخرى من تلك المثالب مثل سُخريتهم من القرآن الكريم، وتسلَّلهم حين سماعه.
وإذا ما أنزل الله سورةً من القرآن على رسوله، وسمعها المنافقون، سخروا واستهزأوا، وقال بعضهم لبعض : هل منكم من زادته هذه السورة إيمانا ؟ وجواب ذلك يا محمد : نعم، المؤمنون الذين أبصروا النور وعرفوا الحق زادتهم إيمانا إلى إيمانهم. يفرحون بذلك ويستبشرون، لأنهم يرجون الخير من هذه الزيادة، وذلك بتزكية أنفسهم في الدنيا والآخرة.
وأما المنافقون الذين في قلوبهم شك وارتياب، فقد زادتهم كفرا إلى كفرهم، وحين ماتوا على الكفر والنفاق كان مأواهم جهنم وبئس المصير.
أوَلا يعتبر هؤلاء المنافقون بما يبتليهم اللهُ به كل عام من ألوان البلاء بكشفِ أستارهم، وإنباء الله بما في قلوبهم وفضيحتهم، ونصر المؤمنين ! ! ثم هم مع كل هذا لا يتوبونَ من نفاقهم، ولا يتعظون بما يحل بهم من العذاب.
قراءات :
قرأ حمزة ويعقوب :«أو لا ترون » بالتاء.
بعد أن بين حال تأثير إنزال آيات القرآن في المنافقين وهم غائبون عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، بين حالهم هنا وهم في مجلسه حين نزولنا واستماع تلاوته لها. وإذا ما أنزلت سورة وهم في مجلس الرسول الكريم تسارقوا النظر وتفاخروا وقال بعضهم لبعضه : هل يراكم أحد ؟ ثم انصرفوا متسللين لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من سخرية وإنكار ﴿ صَرَفَ الله قُلُوبَهُم ﴾ وهذا دعاء عليهم، فقد صرف قلوبهم عن الهدى فإنهم يستحقون أن يظلوا في ضلالهم يعمهون، لأنهم قوم لا يفقهون، حيث عطلوا قلوبهم عن وظيفتها واستمروا على عنادهم ونفاقهم.
ثم يختم الله تعالى هذه السورة الكريمة بآيتين تتحدث إحداهما عن الصلة بين الرسول وقومه، وعن حرصه عليهم ورحمته بهم. والثانية توجيه للرسول أن يعتمد على ربه وحده... سيأتي ذكرها لاحقا.
من أنفسكم : من جنسكم.
عزيز عليه ما عنتم : يشق عليه ما يصيبكم من مكروه.
الحرص على الشيء : شدة الرغبة فيه.
لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم، يشق عليه ما يصيبكم من الضرر. وهو حريص على هدايتكم، ولا يلقي بكم في المهالك، وهو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين فهو حريص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة، وحظ رضوان الله، والجنة التي وعد بها المتقون.
ثم يختم الله تعالى هذه السورة الكريمة بهذه الآية وهي توجيهٌ للرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى، فهو وليه وناصره وكافيه.
فان أعرضوا عن الإيمان بك، فَلا تحزن لإعراضهم، وقل يكفيني الله الذي لا آله غيره. فتوكَّلْ عليه، فإليه تنتهي القوة والملك والعظمة والجاه، وهو حسب من لاذ به، وحسبُ من والاه، هو مالك الملك ورب الكون وصاحب السلطان العظيم.
Icon