تفسير سورة يوسف

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة يوسف
سورة يوسف مكية، آياتها مائة وإحدى عشرة، ذكر الله تعالى فيها قصة يوسف في ثمان وتسعين آية، وقدّم لها بثلاث آيات ذكر فيها هذا الوحي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فسمّاه في الآية الأولى كتابا مبينا، وفي الثانية قرآنا عربيا، إشارة إلى أن من حقه أن يحفظ في السطور والصدور معا، ثم ذكر في الآية الثالثة ما اشتمل عليه من أحسن القصص، وذكّر النبي بأنه لم يكن يعلمه قبل أن ينزل الوحي به عليه، وذلك دليل على أنه من عند الله.
وقد ختمت القصة والسورة بتأكيد ما بدئت به، فوجّه الله نظر نبيه في عشر آيات إلى أن هذه القصة من أنباء الغيب، لم يكن الرسول يعلم حقائقها ودقائقها قبل أن ينزل عليه الوحي بها، ولم يكن عند إخوة يوسف حين أجمعوا أمرهم ودبروا لأخيهم. ثم أخبره بأن العناد والحسد بحمل أكثر الناس على الكفر، وأن حرصه عليه الصلاة والسلام على إيمان أكثرهم لا يجديه، وعزّاه عن ذلك بأنه لا يطلب أجرا، وإنما يحمل إليهم القرآن هدى وذكرى للناس أجمعين. وقد أشار في ختام السورة إلى الرسل الذين ذكر له قصصهم ومواقف أقوامهم منهم، وأكد أن في قصص هؤلاء الأنبياء عبرا لأصحاب العقول، وإن هذا القرآن الذي تحدث بهذه القصص وغيرها ما كان حديثا يختلق وينسب إلى الله كذبا، بل هو الكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الصحيحة، والهدى والرحمة لقوم يفكرون ويعتبرون.
وأظهر خصائص هذه السورة أنها ذكرت قصة يوسف بتمامها، وأظهرت بروز الحسد في الأسرة إذا ظهرت المحبة من الوالد، فقد حمل حسد أولاد يعقوب لأخيهم يوسف على إلقائه في قعر البئر، لكن الله حفظه من مكرهم، كما حفظه فيما بعد من إغراء امرأة العزيز، ومكّن له في أرض مصر وجعله ملاذا لإخوته الذين ائتمروا به. وكذلك شأنه سبحانه مع أنبيائه وأوليائه، ينصرهم على أعدائهم، ويمكن لهم في الأرض.
وقد نزلت هذه السورة بعد سورة هود في تلك الفترة الحرجة بين عام الحزن، وبين بيعة العقبة الأولى ثم الثانية اللتين جعل الله تعالى فيهما للرسول الكريم وللمؤمنين فرجا ومخرجا بالهجرة إلى المدينة.
والمناسبة بينها وبين سورة هود أن الأولى متممة لما في الأخيرة من قصص الرسل، والاستدلال بذلك على كون القرآن وحيا من عند الله نزل على خاتم النبيين. والفرق بين القصص في " يوسف " وفيما قبلها، أن السابق كان قصص الرسل مع أقوامهم في تبليغ الدعوة والمحاجة فيها وعاقبة من آمن منهم ومن كذبوهم لإنذار مشركي مكة ومن تبعهم من العرب.
أما هذه السورة فهي قصة نبيّ تربّى في قوم غير قومه حتى بلغ أشده واكتهل، فجاءته النبوة وأرسل ودعا إلى دينه. ثم تولى إدارة الملك بقطر عظيم فأحسن الإدارة والسياسة فيه، وكان خير قدوة للناس في رسالته وفي جميع أعماله وتصرفاته. ومن أعظم ذلك شأنه مع أبيه وإخوته، وكان من حكمة الله أن يجمعها في سورة واحدة، ومن ثم كانت " يوسف " أطول قصة في القرآن الكريم. ويوسف هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وكان واحدا من اثني عشر ابنا ليعقوب، جميل الصورة، يضرب المثل به في الحسن.
وكان والده يحبه حبا عظيما ويؤثره على جميع أولاده. فحقد إخوته عليه. وقد ورد اسم يوسف في ٢٦ آية من الكتاب الكريم، منها ٢٤ في سورة يوسف، وآية في الأنعام وأخرى في سورة غافر.
وسبب نزول هذه السورة أن لقي بعض كفار مكة جماعة من اليهود، فتباحثوا في ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم اليهود : سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ؟ وعن قصة يوسف. فنزلت السورة.
ويوسف هو الابن الحادي عشر ليعقوب، وأمه راحيل، وعندما ألقاه إخوته في البئر التقطه بعض أصحاب القوافل، وباعوه رقيقا لكبير الشرطة في مصر، ثم آل إلى الحاكم.
وكانت العاصمة مدينة " صان " المعروفة بصان الحجر، وسماها اليونان " تأنيس " وهي " تنيس " في الشرقية قرب بحيرة المنزلة. وكان غلاما صغيرا، فلما كبر حاولت امرأة الحاكم إغراءه، فأبى، وسجن حتى فسّر الرؤيا، فقربه الحاكم واحتل مكانة عظيمة عنده، وكان ذلك في عهد الهكسوس، وهم قوم ساميّون، حكموا نحو قرن ونصف من القرن الثامن عشر إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد. وكان حكمهم ما بين الأسرة الرابعةعشرة إلى الثامنة عشرة من الفراعنة التي منها الملك " أحمِس "، وهو الذي طردهم من مصر.
بسم الله الرحمان الرحيم

ألف. لام. را. سبقت الإشارة إلى تلك الحروف وأمثالها في القرآن الكريم.
المبين : الواضح المرشد إلى مصالح الدنيا وسبيل الوصول إلى سعادة الآخرة.
لقد أنزلنا هذا الكتاب على النبي العربي ليبّين لكم بلُغتكم نفسِها ما لم تكونوا تعلمونه، فعلنا ذلك تسهيلاً عليكم في أن تعقلوا معانيه وتفهموا ما ترشد إليه آياته من مطالب الروح، ومدارك العقل.
نحن نروي لك يا محمد أحسنَ الأخبار التي تتضمن العِبر والحِكَم، بإيحائنا إليك هذا القرآن، وكنتَ قبل نزوله عليك لا تعلم شيئا عنها، وبخاصة أنك في مجتمع أميّ جاهل لا يعرف شيئاً من أمور الماضين ولا أخبار الأنبياء وأقوامهم.
أحد عشر كوكبا : هم إخوة يوسف.
والشمس والقمر : أبوه وأمه.
الرؤيا : ما يراه النائم في المنام.
قال يوسف لأبيه يعقوب : لقد رأيتُ في منامي أحد عشر كوكبا ساجدة لي، ومعهما الشمس والقمر ساجدين أيضاً. ( وهذا السجود سجودُ تعظيم لا سجودَ عبادة ).
قراءات :
قرأ ابن عامر :«يا أبت » بفتح التاء والباقون :«يا أبت » بكسر التاء.
وقد عِلَمَ أبوه أن هذه الرؤيا سيكونُ لها شأنٌ عظيم، وأن يوسفَ سيكون له مستقبل وسلطان يسود به أهلَه والناس، فقال لولده : يا بنيّ، لا تقصَّ على إخوتك هذه الرؤيا، فإنها تثير في نفوسهم الحسدَ ويكيدون لك كيداً عظيما، فالشيطان بالمرصاد للإنسان وهو عدوه الظاهر على الدوام.
يجتبيك ربك : يختارك ويصطفيك.
تأويل الأحاديث : تعبير الرؤيا.
لقد اصطفاك ربك يا يوسف فأراك هذه الرؤيا التي تبشّر بخير عظيم، وسيختارك أيضاً للنبوة والملك، ويعلّمك الرؤيا، فيعظُم قدرُك وذكرك. وتتم نعمة الله عليك بالنبوّة، كما أتمّها من قبلُ على أبويك : إبراهيم وإسحاق إنه عليم بمن يصطفيه حكيم في تدبيره.
إن بعض الرؤى حقّ، ويتحقق كثير منها في المستقبل، وما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف وصاحبيه في السجن، ورؤيا ملك مصر، يجعلنا نؤمن بها. وقد حصل معنا الكثير من الرؤى ومع أشخاص عرفناهم، وتحقق بعضها في حالات متكررة.
آيات : عبر.
لقد كان في قصة يوسفَ وإخوته عِبَرٌ للسائلين عنها والراغبين في معرفتها.
ونحن عصبة : جماعة أقوياء.
إذ قال إخوة يوسف لبعضهم : إن يوسفَ وأخاه أحبُّ على أبينا منا، فهو يفضّلهما علينا على صغرهما. ونحن أكبرُ منهما وأنفعُ. لكن أبانا بإيثاره يوسف وأخاه بنيامين يقع في الخطأ ويتعمد البعد عن الحق والصواب.
وتشاوروا فيما بينهم، فقال بعضهم : اقتلوا يوسف حتى لا يكون لأبيه أمل في لقائه، أو أبعدوه إلى أرضٍِ بعيدة عن العمران حتى لا يهتدي إلى العودة منها. بذلك يخلُص لكم حبُّ أبيكم، وتصيرون قوماً يرضى عنكم، إذ يقبل الله توبتكم، ويقبل أبوكم اعتذاركم.
الجب : البئر. غيابة الجب : قعرها.
بعض السيارة : بعض المسافرين من القوافل.
فقال واحد منهم : لا تقتلوا يوسف، إن ذلك ذنبٌ عظيم، ويكفي أن تُلقوه في قعر بئر يلتقطه منها بعض المسافرين من القوافل... وبذا يتم لكم ما تريدون.
قراءات :
قرأ نافع :«في غيابات » بالجمع والباقون «غيابة » بالمفرد.
فأعجبهم هذا الرأي وأقرّوه، وذهبوا إلى أبيهم يخادعونه، ويمكرون به وبيوسف.
فقالوا له : يا أبانا، لماذا تخاف على يوسف منّا فلا تأمنّا عليه ؟ نحن نحبه ونُشفق عليه.
يرتع : يلهو و ينعم.
فأرسلْه معا غداً إلى المراعي. هناك يتمتع بالأكل الطّيب، ويلعب ويمرح شأن بقية الصبيان، ونحن نحرص عليه من كل مكروه.
قراءات :
قرأ ابن كثير :«نرتع ونلعب » بالنون فيهما، وقرأ أبو عمرو وابن عامر :«نرتع ونلعب » بالنون وجزم العين. وقرأ نافع :«يرتع ويلعب ».
قال أبوهم : إنني لأشعر بالحزْن إذا ذهبتم به بعيدا عني، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه لاهون.
قراءات :
قرأ الكسائي وخلف :«الذيب » بدون همز. والباقون :«الذئب » بالهمز.
قالوا : كيف يأكله الذئب ونحن جماعة قوية ! لا خير فينا لأنفسنا في تلك الحال.
الجب : البئر. غيابة الجب : قعرها.
وأوحينا إليه : ألهمناه.
لتنَبَّئهم : سوف تخبرهم فيما بعد.
وذهبوا به لينفذوا المؤامرة، واتفقوا على إلقائه في غور البئر وفي تلك اللحظات ألهمناه الاطمئنان والثقة بالله، وأنه سيعيش ويذكر إخوتَه بموقفهم هذا منه فيما بعد.
وظلوا في المرعى حتى وقت العشاء ثم عادوا إلى أبيهم باكين يظهرون حزنا شديدا.
نستبق : نتسابق بالعدو والرمي بالسهام.
عند متاعنا : عند ثيابنا وطعامنا.
وقالوا : يا أبانا، لقد ذهبنا نتسابق في الرمي والجري، وتركنا يوسف عند ثيابنا، فانتهز الذئب فرصة غيابنا عنه وأكله. وما أنت بمصدق لنا ما نقول، مع أنه هو الحق والصدق.
سولت لكم أنفسكم : زينت وسهّلت.
وجاؤوا بقميصه ملوثا بدم مكذوب ليثبتوا دعواهم. فلما رآه يعقوب قال : بل سوّلت لكم أنفسكم ارتكاب أمر عظيم فأقدمتم عليه، فصبر جميل، وربيَ المعين على احتمال ما تقولون.
أدلى دلوه : أرسلها في البئر.
يا بشرى : بالخبر السار.
وأسروه بضاعة : أخفوه بينهم.
وجاءت قافلة متجهة إلى مصر، فأرسلوا رجلا منهم يجلب الماء من البئر، وهناك أرخى دلوه في البئر فتعلق به يوسف. ولما خرج الفتى ورآه الرجل قال مبشرا جماعته : أبشروا هذا غلام كان في البئر. فأخذوه وأخفوه عن الناس لئلا يدعيه أحد من أهل ذلك المكان.
وشروه بثمن بخس : باعوه بسعر رخيص.
وسارت القافلة حتى بلغت مصر، حيث باعت الصبي بثمن بخس، مجرد دارهم قليلة، فقد كان أصحاب القافلة زاهدين في بقائه معهم، لأنهم يريدون التخلص من تهمة استرقاقه وبيعه.
قراءات :
قرأ عاصم : " يا بشرى " بألف مقصورة كما هو في المصحف، وقرأ حمزة والكسائي وخلف " يا بشرى " بإمالة الراء. والباقون : " يا بشراي " بالألف وفتح الياء.
أكرمي مثواه : أحسني معاملته. المثوى : مكان الإقامة.
مكنا ليوسف : جعلنا له مكانة رفيعة.
والله غالبٌ على أمره : قادر عليه من غير مانع حتى يقع ما أراد، أو غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه.
انتهت محنة يوسف الأولى، وبدأ عهداً جديداً في بلدٍ جديد عليه، ومجتمع غريب مختلف عن بيئته وأهله. هناك بيع يوسف لرئيس الشرطة في المدينة وقال رئيس الشرطة لزوجته : خذي هذا الغلام، اشتريتُه من أصحابه. أكرمي مقامه عندنا لعلّه ينفعُنا أو نتخذه ولدا لنا.
وأحبه سيَدُه كثيراً، فجعله رئيس خَدَمه، حتى لم يكن لأحد في الدار كلمة أعلى من كلمة يوسف سوى سيده وسيدته، كما قال تعالى :﴿ وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض... ﴾ الآية.
﴿ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾.
ألهمناه قدراً من تعبير الرؤيا، ومعرفة حقائق الأمور، والله غالبٌ على كل أمرٍ يريده، ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون خفايا حِكمته ولطف تدبيره. ذلك أن ما حدث ليوسف من إخوته، وما فعله الذين أخذوه حراً وباعوه عبدا، ثم ما وقع له من امرأة العزيز ودخوله السجن، كل ذلك كان من الأسباب التي أراد الله تعالى بها التمكين ليوسف في الأرض.
وفي هذا تذكير من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتسلية له عما يلقى في مكة من الأذى، فكأنه يقول له : اصبر يا محمد، على ما نالك، فإني قادر على تغيير ذلك، كما غيّرت ما لقي يوسف من إخوته، وسيصير أمرك في العلو عليهم، كما صار أمر يوسف.
بلغ أشده : استكمل قوته وبلغ رشده.
آتيناه حكماً وعلما : وهبناه حكما صحيحا صائبا، وعلما بحقائق الأشياء.
ولما بلغ يوسف أشُدّه واستكمل قوته، أعطيناه حُكماً صائبا وعلماً نافعا، ومثلُ ذلك الجزاء العظيم نجازي بها المحسنين على إحسانهم.
وراودته : طلبت منه برفق ولين ومخادعة.
هيت لك : هلم أقبل وأسرع.
قال معاذ الله : قال أعوذ بالله.
إنه ربي : إنه سيدي.
أحسن مثواي : أحسن معاملتي فلا أخونه.
وراودته امرأة سيِّده عن نفسه، ( وإنه لتعبير لطيف محتشَم ) وغلّقت أبواب قصرها وقالت : هلمّ، عليّ يا يوسف، فقد هيأت لك نفسي فقال يوسف : معاذ الله أن أخون ربّي وسيّدي ومالك نفسي... لقد أحسنَ إليّ غاية الإحسان، فكيف أخونه بعد كل هذا الإكرام ! !
﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ﴾.
الذين يخونون من أحسن إليهم بالتعدي على أعراض الناس.
قراءات :
قرأ ابو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي :«هَيْتَ لك » كما هي في المصحف. وقرأ ابن كثير :«هيت » بفتح الهاء وضم التاء مثل حَيْثُ. وقرأ نافع وابن عامر :«هيت » بكسر الهاء وفتح التاء. وروى هشام ابن عامر :«هِيئْتُ » يعني تهيأت لك.
وهذه محنة يوسف الثانية : لقد افتتنت امرأة العزيز بجماله، فأَشعل ذلك في نفسها جذوة الحب، فراودته عن نفسه، فأبى، وحاولت إغراءه بشتّى الطرق، حتى همت بمخالطته، ومال إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، ولكنه رأى في سريرة نفسه ما جعلته يمتنع عن المعصية والخيانة، وثبت على طُهره وعفافه. بذلك صرف الله عنه سوء الخيانة والمعصية وظل هو من عباد الله الذين أخلصوا دينهم له.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب :«المخلصين » بكسر اللام والباقون :«المخلَصين » بفتح اللام كما هو في المصحف.
وهرب منها.. فلحقت به عند الباب، وتعلقت بقميصه فشقته من خَلف. وفي تلك الأثناء جاء سيّدها. وصادف الحادث وهو يهمُّ بالدخول ومعه ابن عمها. فلما رأت زوجها أرادت أن تشفيَ غُلَّ صدرها وحنقها على يوسف لما فاتها من التمتع به، فقالت لزوجها :
﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سوءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
لقد أرادت أن توهم زوجَها أن يوسف قد اعتدى عليها، وطلبت منه أن يسجنه أو يعذّبه عذابا أليما.
وهنا وقف يوسف وجهر بالحقيقة في وجه الاتهام الباطل، فقال :﴿ هِيَ راودتْني عن نفسِي ﴾ لا أنا الذي فعلت. لقد حاولتْ أن تخدعني وتوقعني في المعصية. فقال ابن عمها : إن كان قميصه شُقّ من أمام، فقد صدقت وهو من الكاذبين.
وإن كان قميصه شُقّ من الخلف، فقد كذبت في قولها، وهو من الصادقين.
فلما رأى الزوج قميص يوسف تمزّقَ من خلْفٍ، قال لزوجته : إن اتهامك له باطل، وما الأمر إلا من كيدكن معشر النساء، إن كيدَكن عظيم.
ثم التفت إلى يوسف، وقال له : يا يوسف، أعرِض عن هذا الأمر، اكتمه ولا تذكره أبداً. وقال لزوجته : أما أنتِ فاستغفري لذنبك من هذا العمل الخطأ.
وانتهى الأمر إلى هنا، ولم يوقع العزيزُ أية عقوبة على يوسف، لتأكده من براءته.
فتاها : عبدها.
قد شغفها حبا : شق شغاف قلبها، والشغاف : حجاب القلب الذي يغشّيه. شاع نبأ حادثة امرأة العزيز وفتاها في أرجاء المدينة، ولاكته أفواه النساء، وشرعن يَلُمْنها على فعلتها.
وأعتدت لهن متكأ : وهيأت لهن مجلسا مريحا فاخرا.
وأكبرنه : أعظمنه ودُهِشْنَ من جماله.
وقطّعن أيديهنّ : جرحن أيديهن من فرط الدهش.
حاش لله : تنزيها له.
وبلغ ذلك امرأة العزيز فأخذت تكيد لهن حتى يَعْذُرنها. وهكذا أرسلت الدعوة إلى طائفة من نساء علية القوم، وأعدّت لهن مجلساً من الوسائد والنمارق وقدّمت إليهن طعاماً، وأعطت كلاً منهن سكّينا تقشر بها الفاكهة. وحين اتخذْن مجالسهن قالت ليوسف : اخرج عليهن. فلما رأينه بهرهنّ جماله، وألهاهن عن تقطيع الطعام والفاكهة، وجرحن أيديهن من فرط الدهشة والذهول، وأعلنَّ لذلك الجمال، حتى قلن :﴿ حاش لله، ما هذا بشراً إن هذا إلا مَلَك كريم ﴾.
قراءات :
قرأ أبو عمرو ونافع :«حاشا » بالألف. والباقون :«حاش » بدون ألف.
استعصم : عفّ وامتنع عن المعصية.
حينئذ باحت لهن امرأة العزيز بحبها ليوسف، وقالت : إن هذا الفتى الذي بهركنّ حُسنه، هو الذي لمتنَّني في شأنه، ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ﴾ وحاولت إغراءه، لكنه امتنع وعف، ﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونا مِّن الصاغرين ﴾ وإن لم يقبل فإنه سيُسجن ويكون من الأذلة المقهورين.
أصبُ إليهن : أمِلْ إليهن.
ولما سمع يوسف هذا التهديد والوعيد قال : يا رب، السجنُ أحبُّ إلى نفسي مما يطلبنه مني، وإن لم تُبعِدْ عنّي شرَّهن، أمِلْ إلى موافقتِهن، وأقعْ في شباك مكرهنّ، ﴿ وأكنْ من الجاهلين ﴾ الذين تستخفُّهم الأهواء والشهوات.
فاستجاب له ربه، فصرف عنه شرّ مكرهن، إنه هو السميع لدعاء من تضرّع إليه، العليم بصدق إيمانه.
ولما فشت الفضيحة في الناس، رأى العزيز أن يصدع لأمر زوجته ويسجنه، وبذلك يكفّ ألسنة الناس عنه وعن زوجته ويخلصُ من العار. كانت الدلائل كلها تشير إلى براءة يوسف وعفته وطهارته، ولكن امرأة العزيز المتغطرسة أمرت بالسجن، وزوجها نفّذ ذلك.
وهكذا، أدخل يوسف السجنَ ظلماً، وهذه هي المحنة الثالثة والأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف، فكل ما بعدها رخاء.
ودخل معه السجنَ فَتَيان، كان أحدهما رئيس الخبازين عند الملك، والثاني رئيسَ السقاة. وقد سُجنا لخيانة نُسبت إليهما كانت ستؤدي بحياة الملك.
وبعد أن استقر يوسف في السجن ظهر أمره للناس، وأنه يختلف عن السجناء الآخرين. وفي ذات يوم جاءه صاحب شراب الملك وأخبره أنه رأى في منامه أنه يعصر خمراً للملك، وجاءه الخباز وقال له : إني رأيتُ فوق رأسي طبقاً من الخبز تأكل منه الطيور، وطلبا إليه أن يفسر لكل واحد منهما ما رأى في منامه.
فانتهز يوسف هذه الفرصةَ ليُعلنَ لهم دِينَه ويدعوهم إليه، وقال لأهل السجن ينبئهم بمقدرته على تأويل الرؤيا : لن يأتيكما طعام إلا نبأتكما بشأنه.
كل ذلك مما علّمني ربّي. ثم أضاف :
إني برئت من ملّة مَن لا يصدّق بالله ولا يقر بوحدانيته، ويعبد عدداً من الآلهة لا تضرّ ولا تنفع، لأن هؤلاء الناس يكفرون بالآخرة والحساب والجزاء.
وبدلاً من ذلك، أجدُني اتبعتُ ملّة آبائي الذين دعوا إلى التوحيد الخالص وهم : إبراهيم وإسحق ويعقوب.
ثم بيّن أساس الملّة التي ورثها عن آبائه الكرام بقوله :
﴿ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ ﴾ ؟
وذلك كلّه من فضل الله علينا أهل بيت النبوة، ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ ﴾.
واسترسل يوسف يبيّن دينَه القويم... وبعد أن بين بُطلانَ الشِرك اتّجه إلى السائلَين وقال لهما : يا رفيقيَّ في السجن، هل عبادة أربابٍ كثيرين متفرّقين لا ينفعون ولا يضرون خيرٌ لكما ولغيركما، أم عبادةُ الله الواحدِ القهّار الذي له ملك السماوات والأرض وبيده كل شيء ؟.
ثم بيّن لهما أن ما يعبدونه ويسمّونه آلهةً إنما هي من اختراعهم، وتسميةٌ من تلقاء أنفسِهم توارثَها خَلَفٌ من سلف، ليس لها مستنَدٌ من عقلٍ ولا وحي سماوي. فقال :
﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾.
وإن هذه الأربابَ، سواءً كانت من البشرَ أم من غيرهم، ليستْ من الربوبية في شيء... انظروا، ليس لها قوّة ولا إرادة. أما الربوبية الحقّة فلا تكون إلا لله الواحِد القهار، لقد أمر أن لا تعبدوا سواه.
﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، لا يدركون ما هم عليه من جهل وضلالة.
بعد ذلك شرع يوسف يفسّر لهما الرؤيا فقال : يا صاحبي السجن، أما أحدُكما فسيعود إلى ما كان عليه، ساقيَ الملك وصاحبَ شرابه، وأما الثاني فيُصْلَب ويُترك مصلوباً، فتقع عليه الطير وتأكل من رأسه، إن الأمر الذي يهُّمكما ويُشكل عليكما وتستفتيانني فيه قد اتّضح وانتهى حكمه.
ثم التفت يوسف إلى الذي اعتقدَ أنه ناجٍ منهما، وهو ساقي الملك، فقال له : اذكر حالي عند سيدك يا هذا، عساه يُنصفني وينقذني مما أنا فيه.
فشغل الشيطان ذلك الرجلَ بعد أن خرج من السجن وأنساه أن يذكر للملك قصة يوسف. وهكذا مكث يوسف في السجن بضع سنين.
والبِضعُ من ثلاثٍ إلى تسع، ولا ندري كم المدة التي أمضاها على التحديد.
سمان : جمع سمينة.
عجاف : هزيلة مفردها أعجف وعجفاء.
تعبرون : تفسرون.
بعد أن أمضى يوسف عدداً من السنين في السجن أراد الله أن يبعثَ بالفَرَج فهيَّأ الأسباب لذلك. إذ رأى الملك رؤيا أفزعته. لقد رأى سبع بقرات سمان ترعى في روضة، ثم جاءت سبع بقرات أخرى هزيلات قبيحات المنظر خرجت من النهر وأكلت البقرات الأولى السمان. كذلك رأى سبع سنابل خُضْر حَسَنة طالعةً في ساق واحدة، وإذا سبع سنابل يابسات خلفها قد فلحتْهن الريح تهجم على السنابل الخضر فتأكلها.
استيقظ الملك منزعجا لهذين المنامين، وفي الصباح دعا إليه بالسحرة وكبراء دولته، وقص عليهم الرؤيا وسألهم عن تأويلها فلم يجد عند أحد جوابا.
أضغاث أحلام : أحلام مضطربة يصعب تأويلها، والضغثُ جمعه أضغاث : الحزمة من النبات أو من كل شيء.
قالوا :
هذه أحلام مضطربة أيها الملك.
وادّكر : تذكّر.
بعد أمة : بعد حين.
تزرعون سبع سنين دأبا : دواما.
سبع شداد : سبع سنين صعاب، تشتد على الناس.
تحصنون : تدخرون.
يغاث الناس : من الغيث، وهو المطر والرحمة.
يعصرون : يستخرجون العصير مما يعصر كالزيت والعنب والتمر والقصب.
وفي ذلك الوقت انتبه رئيس سقاة الملك، رفيق يوسف في السجن الذي فسر الرؤيا، وتذكّره، فقال للملك : إن في السجن شاباً ذكياً له علم في تعبير الرؤيا، فأرسِلوني إليه لأسأله عن تفسير هذين المنامين.
وأرسله الملك إليه، فلما التقى بيوسف قال له :
﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾
قال يوسف : سيأتي على مصر سبعُ سنين مخصبات تجود الأرض فيها بالغلاّت الوافرة،
ثم يأتي بعد ذلك سبع مُجْدِبة تأتي على المخزون من السِّنين السبع التي تقدمتها.
ونصحهم أن يقتصدوا في السنين ويخزِنوا ما فضلَ عن القوت في سنبله.
حتى إذا حلّ الجدبُ وجدوا ما يسدّ الرمق إلى أن يأتي الخصب من جديد.
ما بال النسوة : ما شأنهن.
ولما عاد رئيس السقاة إلى الملك وأخبره بتأويل رؤياه سُرَّ الملك بذلك، وعَلِمَ أنه تأويلٌ مناسب مع الرؤيا فقال : ائتوني بيوسف، فلما جاؤوا ليوسف وطلبوا منه أن يخرج من السجن أبى حتى يعرف أمره على حقيقته.
ما خطبكن : ما شأنكن.
حَصْحَص الحق : ثبت واستقر.
كذلك طلب إلى الرسول أن يعود ويسأل عن النسوة اللاتي قطّعن أيديَهن، فلما سألوهن قلن : حاشَ الله ما علمنا عليه من سوء، وأنكرن أن يكنّ سمعن شيئا عن شأنه من امرأة العزيز.
ولما سمعت امرأةُ العزيز بشهادة النسوة، وأن الأمر قد استبان على حقيقته ببراءة يوسف، ورأت أنه أصبح من هَمِّ الملك أن يأتي بيوسف من السجن ليستخلصه لنفسه، أقّرت بجريمتها وباحت بما كتمته عن زوجها عدة سنين. فقالت :
الحق أنني لم أنلْ من أمانته أو أطعن في شرفه وعفته، بل صرّحتُ للنسوة بأني قد راودته عن نفسه لكنه تعفّف.
وها أنذا أقرّ بهذا أمامَ الملِك ورجال دولته. ﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين ﴾.
وبهذا الإقرار من امرأة العزيز انتهت تلك المحنة التي وقع فيها يوسف، وجاءت خاتمتُها خيرا.
أستخلصه لنفسي : أجعله خالصا لي.
مكين أمين : ذو مكانة عالية وأمانة.
ولما ظهرت براءة يوسف للملك طلب إحضاره من السجن بعد أن وفّى له بما اشترط لمجيئه. فجاء يوسف، وكلّمه الملك فأُعجب بكلامه لما رأى من حسن تعبير يوسف ووفرة عقله وحكمته وقال له :«إنّك اليومَ لدينا مَكِين أمين » وسأله أي عمل يرضاه لنفسه ويكون فيه سروره ؟
يتبوأ منها حيث يشاء : ينزل في أي مكان يشاء.
فقال يوسف :«اجعلني على خزائنِ الأرض » وما يخرُجُ منها من الغلاّت والخيرات «إني حَفيظٌ عليم ».
وقبل الملك عرضَه، فاستوزره.
وبذلك أنعم الله على يوسف نعمة جليلة، فجعل له سلطانا وقدرة في أرض مصر، يتبوأ منها حيث يشاء.
وهذا شأن الله في عباده، يهب نعمته لمن يختاره منهم، ولا يُضيع أجر المحسنين.
قراءات :
قرأ ابن كثير :«يتبوأ منها حيث نشاء » بالنون والباقون «حيث يشاء ».
وأن ثوابه في الآخرة لأفضل وأوفى لمن صدقوا به وبرسله، وكانوا يتقون الشرك، ويخافون يوم الحساب.
منكرون : لم يعرفوه.
مرت السنينُ السبع المخصِبة وأعدّ يوسف عُدَّته فيها، واتخذّ المخازنَ وملأها وخزن الغلاّتِ في غُلُفِها. ثم جاءت السنين السبع المجدبة، واشتدَّ المحلُ والجفاف في جميع أنحاء الأرض. وجاء المصريون إلى فرعون يطلبون القوتَ، فأحالهم عل أمين خزانته. ففتح يوسف المخازن وباع لهم من الطعام ما يكفيهم. وقد عمّ الجدبُ بلاد الشام وأحسَّ أهلُ فلسطين الجوع وعلِموا أن الطعام بمصر موفور. فأرسل يعقوب أولاده ومعهم الجمال والبهائم إلى مصر لشراء القوت لأهلهم من هناك، ولما دخلوا على يوسف عرفهم ولم يعرفوه.. وذلك طبيعي، فقد فارقهم وهو غلام أَمرد، وها هو الآن قاربَ الأربعين، وقد كسته أبهة الملك مهابة، أما هم فإنهم على حالتهم في مَلْبَسهم ولغُتِهم ومنظرهم لم يتغير منهم شي.
وأمرَ يوسف أن يكرَّموا في ضيافته، وأعطاهم من المؤونة ما طلبوا، وأخذ يحدّثهم ويسأل عن أحوالهم سؤالَ الجاهلِ بها وهو بها عليم. فأخبروه أن لهم أباً شيخاً كبيرا ولهم أخر صغير يحبه أبوهم حبا جما ولا يريد أن يفارقه. وهو بنيامين شقيق يوسف.
جهزهم بجهازهم : أمر أن يعطوا من الطعام ما يريدون.
خير المنزلين : خير من يضيف.
فقال لهم بعد أن جهزهم الجهاز الكامل : احضِروا أخاكم الصغير في المرة القادمة ولا تخافوا شيئا،
وإلاّ فلا كيل لكم عندي ولا تأتوا إلي.
سنراود عنه أباه : نخادع ونستميل برفق.
فقال له إخوته : سنراود عنه أباه.
لفتيانه : لغلمانه من الخدم.
اجعلوا بضاعتهم في رحالهم : اجعلوا ما جاؤوا من البضاعة أو أوعيتهم.
وقد أكرمهم يوسف غاية الإكرام، وقال لفتيانه : ردوا إليهم بضاعتَهم التي دفعوها ثمناً للطعام، واجعلوها في أوعيتهم، فإنهم يعودون إلينا.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص :«لفتيانه » كما هو في المصحف والباقون :«لفتيته ».
عاد إخوةٌ يوسف إلى أبيهم وأخبروه أن الوزير المسئول أكرمهم غاية الإكرام وأخبرهم أنه سيمنعهم من شراء الطعام في المرة الآتية حتى يأتوه بأخيهم بنيامين.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«يكتل » بالياء، والباقون :«نكتل » بالنون.
فتذكّر يعقوب أمر يوسفَ، وكيف فرطوا به فقال لهم :«هل آمنكم عليه ( بنيامين ) إلا كما أمِنْتُكم على أخيه من قبلُ » ؟ !
متاعهم : أوعيتهم.
بضاعتهم ردت إليهم : هي ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام.
ما نبغي : ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا ؟
ونمِير أهلنا : نجلب لهم الطعام والمؤونة.
وفتح إخوة يوسف متاعهم لاستخراج الطعام الذي أتوا به من مصر، فوجدوا نقودهم بحالِها، وعرفوا أن ما جاؤوا به من الطعام كان مجّاناً. فكان ذلك مما شدّد عزائمهم في الكلام مع أبيهم، حين قالوا له : يا أبانا، ماذا نطلب أكثر من ذلك ! هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا، فإذا سمحتَ بأخينا يذهبُ معنا فإننا نشتري الميرةَ ( الطعام ) لأهلنا، ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير، وهو شيء يسير عند الملك الكريم.
موثقا : عهدا.
إلا أن يحاط بكم : إلا أن تغلبوا على أمركم.
والظاهر أن القحط كان شديدا جعل يعقوب يسمح بسفر ابنه تحت شروط اشترطها على أولاده، فقال لهم : لن أرسله حتى تؤتوني عهداً بالله لتعودُنَّ به إليّ إلا إن عجزتم عن ذلك. فأعطوه عهدهم، وحينئذ قال : اللهُ على ما نقول وكيل.
اطمأنّ يعقوبُ إلى عهد أبنائه، ثم دفعته الشفقة والحرص عليهم إلى أن يوصيهم بدخول مصر من أبواب متفرقة، لكي يلفتوا الأنظار عنهم عند دخولهم، ولا تترقّبهم أعين الطامعين. ثم قال :﴿ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ وليس في قدرتي أن أدفع عنكم أذى، فالحكم في تدبير العالم ونَظْم الأسباب لله وحده، ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون ﴾.
ولقد استجابوا لوصية أبيهم، فدخلوا من أبوابٍ متفرقة، وما كان ذلك ليدفع عنهم أذًى كتبه الله لهم، ولكنها حاجةٌ في نفس يعقوب، وكان من باب شفقة الأب على أبنائه.
آوى إليه أخاه : ضمه إليه.
لا تبتئس : لا تحزن.
ولما دخل إخوة يوسف عليه أنزلهم منزلا كريما، واختص أخاه بنيامين بأن ضمّه إليه وأسرّ له قائلا : إني أخوك يوسف، فلا تحزنْ بما كانوا يصنعون معك، وما صنعوه معي.
السقاية : وعاء يسقى به ويُكال به الطعام، وهو المراد الملك.
العير : القافلة من الإبل والبغال والحمير.
ثم إنه أكرم وفادتهم، وكال لهم الطعام، وزادهم حِمْلَ بعير لأخيه وجهّزهم للسفر، لكنّه أمر أعوانه أن يدسّوا كأس شراب الملك في أمتعة أخيه بنيامين. وغادر القومُ، فنادى مناد : أيها الركْب القافلون بأحمالهم، قِفوا إنكم لسارقون.
ارتاع إخوة يوسف للنداء، واتجهوا إلى المنادين يسألونهم : ما الذي ضاع منكم، أي شيء تفقدون ؟
زعيم : كفيل.
فأجابهم هؤلاء : لقد سرقتم سقاية الملك يوسف، ونحن نعطي لمن جاء به حِمل بعير من المؤونة.
فقال إخوة يوسف وقد فوجئوا بهذا الاتهام : إن اتهامكم إيّانا بالسرقة أمر عجيب. ﴿ ومَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾.
فقال فتيان يوسف وأعوانه لإخوته : فما جزاء من سرق صواع الملك إن ظهر أنه عند أحدكم ؟
قالوا : من وجدتم ذلك في رحله فجزاؤه أن يؤخذ عبدا للملك، ﴿ كذلك نَجْزِي الظالمين ﴾.
فتش كبير الأعوان أحمالهم، مبتدئاً بالكبير منتهيا بالصغير، فوجد السقايةَ في عِدْل بنيامين. ﴿ كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ وبذلك نجحت حيلته، وحق له أن يحتجز أخاه. ورجع بقية الإخوة إلى مصر ودخلوا على يوسف مستعطِفين مسترحِمين. عند ذاك لامهم يوسف على ما صنعوا بعد أن أكرمهم وأحسن إليهم.
ثم علّل الله ما صنعه من التدبير ليوسف بقوله :﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله ﴾ ولولا هذا التدبير لتعذر على يوسف أن يضم أخاه إليه. فنحن ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ﴾ بالعلم والنبوة، ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾.
قال إخوة يوسف وقد ملئوا غيظا على بنيامين لما أوقعهم فيه من الورطة : إن يسرقْ فقد سرقَ١ أخ له من قبل. يقصدون بذلك يوسف.
وفطن يوسف إلى طعنِهم الخفيّ بقولهم :﴿ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ فساءه ذلك، لكنّه أسرّها، وقال في نفسه :﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ لأنه العليم بحقائق الأشياء.
١ ويروي المفسرون عدة حكايات عن سرقة يوسف وهو صغير، منها أن عمته كانت تحتضنه بعد موت والدته وأراد أبوه يعقوب أن يأخذه منها، وكانت تحبه حبا جما، وكان عندها منطقة من ذهب ورثتها عن جدهم إبراهيم، فألبستها يوسف من تحت ثيابه وادعت أنه سرقها لتبقيه عندها..
ثم أرادوا أن يستعطفوه ليُطلقَ لهم بنيامين فيرِجعوا به إلى أبيهم، لأنه قد أخذ عليهم ميثاقاً بأن يردوه إليه، ﴿ قَالُواْ يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً ﴾ طاعنا في السن لا يكاد يستطيع فِراقه، ﴿ فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين ﴾ إلينا في ضيافتنا وتجهيزنا.
قال : حاش لله أن نأخذ إلاّ من وجدْنا عندَه السقايةَ المسروقة. ولقد حكمتم بذلك حين قلتم :﴿ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾.
استيأسوا : يئسوا.
خلصوا نجيا : انفردوا يتناجون ويتشاورون.
موثقا : عهدا.
فرطتم : قصرتم.
فلن أبرح الأرض : فلن أفارق مصر.
فلما انقطع منهم الأمل، ويئسوا من قبول الرجاء، اختَلَوا بأنفُسهم يتشاورون في موقفهم من أبيهم. فقال كبيرهم : لقد أخذ أبوكم عليكم عهداً من الله بِردِّ أخيكم. وقد سبق أن فرّطتم في يوسف، وعلى ذلك فإنني لن أبرح أرض مصر حتى يأذن لي أبي في القدوم عليه، أو يحكم اللهُ في شأني وهو خير الحاكمين.
بعد أن تشاور إخوةُ يوسف في أمرهم أشار عليهم أكبرُهم أن يعودوا إلى أبيهم ويخبروه بالأمر على حقيقته، فيقولوا له : إن ابنك سرق صواع الملك، وعوقب على ذلك باسترقاقه، ﴿ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ﴾ وحدَث تحت سمعنا وبصرنا.
فإذا كنت يا أبانا في شك مما بلّغناك، فأرسل من يأتيك بشهادِة أهل مصر، أو اسأل رفاقنا في القافلة لتظهر لك براءتنا.
سولت لكم : زينت.
فلما سمع يعقوب مقالتهم لم يصدّقهم، وقال في نفسه : هذا أمر دبّروه لبنيامين كما دبروا أسوأ منه لأخيه يوسف من قبل.
تولى : أعرض.
ابيضّت عيناه : صار عليهما غشاوة بيضاء من كثرة البكاء، أو ما يسمى المياه الزرقاء.
كظيم : مملوء غيظا.
وزاد به الحزن حتى ابيضّت عيناه، وعاوده من الوجد على يوسف ما عاوده، فقال : يا أسفا على يوسف فلامه أولاده على ذكر يوسف وقد انقضى أمره،
تفتأ تذكر : لا تفتأ تذكر : لا تزال.
حرضا : مشرفا على الهلاك.
وقالوا : ألا تزال تذكر يوسف حتى تشرِف على الهلاك ؟ !
بثّي : همّي.
فقال لهم : إنما أشكوا ما بي من الحزن والحسرة إلى الله، وأعلم منه ما لا تعلمون.
تحسّسوا : ابحثوا بكل حواسكم.
يا بَنيّ، ارجعوا إلى مصر فانضموا إلى أخيكم الكبير، وابحثوا جميعا عن يوسف وأخيه، ولا تقنطوا من رحمة الله أن يردَّهما، فلا يقنط من رحمة الله إلا الكافرون.
الضر : المجاعة.
ببضاعة مزجاة : قليلة.
واستجاب أبناء يعقوب لطلب أبيهم فذهبوا إلى مصر، ودخلوا على يوسف مسترحمين، وقالوا : يا أيها العزيز، مسّنا وأهلَنا الضرُّ والجوع، وجئنا ببضاعة قليلة فأوف لنا الكيلَ وتصدَّق علينا، إن الله تعالى يكافئ المتصدّقين بأحسن الثواب.
فأخذت يوسف الشفقة الأخوية، وابتدأ يكشف أمره لهم قائلا في عتب : هل أدركتُم قبح ما فعلتموه بيوسف من إلقائه في الجُبّ، وبأخيه من أذى ؟ !
نبهتهم تلك المفاجأة السارّة إلى إدراك أن هذا يوسف، فقالوا مؤكدين : إنك لأنتَ يوسف حقا ! فقال يوسف مصدّقا لهم : أنا يوسف، وهذا أخي، قد منّ الله علينا بالسلامة من المهالِك، وبالكرامة والسلطان ﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ﴾.
قراءات :
قرأ ابن كثير :«إنك » بهمزة واحدة. والباقون «أإنك » بهمزتين.
آثرك : فضلك واختارك.
فقالوا : صدقت فيما قلت... إن الله فضَّلك علينا بالتقوى والصبر وحُسن السيرة، وأثابَك بالمُلك وعلوّ المكانة، وكنّا نحن آثمين.
لا تثريب عليكم : لا لوم ولا تأنيب.
فرد عليهم النبيّ الكريم قائلا : لا لومَ عليكم اليوم، ولكم عندي الصفح الجميل، وليغفر الله لكم ﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين ﴾.
ثم سألهم يوسف عن أبيه، فلما أخبروه عن حاله وسوءِ بصره، أعطاهم قميصَه وقال لهم : عودوا به إلى أبي فاطرحوه على وجهِه، فسيفَرَح بسلامتي ويعودُ إليه بصرُه، وحينئذ تعالوا به وبأهلِكم أجمعين.
ولما توجهت القافلة نحو ديار الشام، وكان يعقوب مستغرِقا في ترقُّب ما تأتي به رحلةُ بنيه، قال : إني لأَشُمُّ رائحة يوسف، ولولا خشيةُ أن تتهموني في قولي لأنبأتُكم عن يوسف بأكثر من الشعورِ والوجدان.
فقال من حضر وسمع مقاله :﴿ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم ﴾ يا يعقوب، من حبِّ يوسف لا تسلوه.
ولم يطل الانتظار حتى جاء البشير إلى يعقوب بسلامة يوسف وأخيه، وألقى قميص يوسف على وجه يعقوب بصيراً وقرّت عينه وبشرّ نفسه باللقاء، فقال لمن لاموه وفنّدوا رأيه :﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.
فأقبلوا عليه معتذرِين عما كان منهم، وطلبوا منه أن يستغفر لهم ذنوبهم، واعترفوا بخطئهم.
فقال لهم : سأظلّ أطلب لكم العفو من الله عن سيئاتكم، ﴿ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم ﴾
وتهيأ يعقوب وبنوه وأهله للسفر وشدّوا رحالَهم إلى مصر، فلما بلغوها دخلوا على يوسف، فآوى إليه أبويه : يعقوب وزوجته، خالة يوسف، لأن أمه ماتت وهو صغير.
ورفعهما على العرش. وسجد له أبوه وزوجته وإخوته الأحد عشر، وقال لأبيه : يا أبت، هذا تأويل رؤياي من قبلُ، قد جعلها ربّي تتحقق، وقد أكرمني وأحسنَ إليّ، فأظهر براءتي وخلّصني من السجْن، وأتى بكم من البادية لنلتقي بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي، وهذا كله من لطف الله بي وبكم، إن ربي لطيفٌ لمن يشاء إنه هو العليم الحكيم.
واتجه يوسف إلى الله بشكره قائلا : ربِّ ما أكثر نعمك عليَّ، وما أعظَمها ! لقد منحتني المُلك ووهبتَني من العمل الكثير. يا خالق السماوات والأرض، أنت مالكُ أمري ومتولي نعمتي في محيايَ وبعد مماتي ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين ﴾ من آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم، واحشُرني في زمرتهم.
ذلك الذي قَصصنا عليك أيها النبيّ الرسول الكريم، من أخبار الماضي البعيد، لم يأتك إلا عن طريق الوحي منها، وما كنتَ حاضراً إخوةَ يوسف وهم يدبّرون له المكائد، وما علمتَ بكيدِهم إلا عن طريقنا.
انتهت قصة يوسف أكبر قصة في القرآن الكريم كما تقدم.
انتهت قصة يوسف وبدأت بعد ذلك التعقيبات عليها، ومعها لفتات متنوعة، وجولات موحية في صفحة الكون وفي أغوار النفس، وفي الغيب المجهول، وكل هذا لولا وحيُ الله تعالى لما وصل إلى علم النبيّ الكريم عليه الصلاة والسلام.
لقد كان رسولُ الله حريصاً على إيمان قومه، رغبة في إيصال الخير الذي جاء به إليهم، ورحمة لهم مما ينتظرُ المشركين من نكد الدنيا وعذاب الآخرة.
وما أكثرُ مشركي قومك يا محمد، - ولو حَرَصت على أن يؤمنوا بك ويتبعوا ما جئتهم به من عند ربك - بمؤمنين.
أنت غنيّ عن إيمانهم يا محمد، فلستَ تطلب منهم أجرا على الهداية
ولا مالا ولا منفعة. إنك إنما تدعوهم أن يتبعوا أمر ربك، وفي ما تدعوهم إليه تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة لا لهم خاصة.
ما أكثر الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون على وجود الخالق ووحدانيته وكماله. إنها معروضة للإبصار والبصائر، في السموات والأرض، وهم يمرون عليها صباح مساء، ولكنهم لا يروْنها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون إيقاعها العميق.
قال ابن عباس : هم أهل مكّة آمنوا وأشركوا وكانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. وهذا هو الشِرك الأعظم.
فإيمان أكثرهم لا يقوم على أساس سليم من التوحيد، لأنهم لا يعترفون بوحدانية الله اعترافا خالصا، ولكنه مقترن في نفوسهم بشوائب تسلكهم في مسلك المشركين.
والشرك أنواع، روى الإمام أحمد أن رسول الله قال :«إنّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشركُ الأصغر، قالوا : وما الشِرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الّذين كنتم تراءون في الدّنيا فانظُروا هل تجدون عندَهم من جزاء ».
وبعد، فما الذي ينتظره أولئك المعرِضون عن آياتِ الله الناطقة في صفحات الوجود بعد إعراضهم عن آيات القرآن التي لا يُطلب منهم عليها أجر.
غاشية : عقوبة شاملة.
الساعة : القيامة.
بغتة : فجأة.
أفأمِنَ هؤلاء الذين يؤمنون بالله لكنهم يشركون به غيره في العبادة، أن تأتيهم عقوبة شاملة تغشاهم، أو تأتيهم الساعة فجأة حيث لا يتوقعون ! !
هذه سبيلي : السبيل يذكر ويؤنث، هذا طريقي.
على بصيرة : على حجة واضحة.
بعد أن بين الله تعالى أن أكثر الناس لا يفكرون فيما في السموات والأرض من آيات، تدل على أن الله هو الخالق المدبر، أمر رسوله أن يخبر الناس أن طريقه هي الدعوة إلى إخلاص العبادة لله وحده
لا شريك له، يدعو بها هو ومن اتبعه على بصيرة واضحة وبرهان.
قل أيها الرسول : إن هذه الدعوة التي أدعو إليها هي سنتي ومنهاجي، وهي الطريق إلى الله، وأنا على يقين مما أدعو إليه ولديّ الحجّةُ والبرهان، وكذلك يفعل كل من تبعني وآمن بشريعتي، ونزه الله وعظمه عما لا يليق به، ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ المشركين ﴾ وأبرأ من أهل الشِرك لست منهم.
وكان المشركون في مكةَ يقولون : لو أراد الله إرسال رسول لبعث مَلَكا، كما حكى عنهم سبحانه بقوله :﴿ لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً ﴾ [ فصلت : ١٤ ]
فرد عليهم بقوله :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ ﴾ الآية.
نحن لم نرسل إلى الأمم السابقة إلا رجالاً نُنزل عليهم الوحي ونرسلهم مبشّرين ومنذِرين، فلم يكونوا ملائكة ولا خلقا آخر، بل بشرا مثلك.
ثم أتبعَ ذلك بتأنيبهم على تكذيب الرسول بتوجيه نظرهم إلى آثار الغابرين كيف تركوا ديارهم خاوية على عروشها، فقال :
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض..... الخ ﴾.
أفلم يسِر هؤلاء المشرِكون المكذّبون في الأرض فينظروا كيف أهلكْنا الّذين كفروا قبلَهم كقومِ لوطٍ وصالحٍ وسائرِ من عذبهم الله من الأمم ! !
إن ثواب الآخرة أفضلُ، لأن نعيمها دائم، أفلا تفكرون في هذا الفرق أيّها لمكذبون بالآخرة ! !
بأسنا : عقابنا.
ثم ذكر سبحانه، تثبيتاً لفؤاد رسوله عليه الصلاة والسلام، أن العاقبةَ دائما لرسُله، وأن نصرهُ تعالى ينزل عليهم حين يضيق الحال فقال :
﴿ حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين ﴾.
لا تبتئس أيها الرسول، فإن نصري قريبٌ أكيد، لكنه لا بدّ من الشدائد، حتى إذا يئس الرسلُ من إيمان من يدعونهم، وتيقنوا أنهم جاءَهم نصرُنا، أنعمنا بالنجاةِ والسلامة على المؤمنين، ونَزَلَ عقابُنا بالمجرِمين المكذِّبين.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة : كُذِبوا «بضم الكاف وكسر الذال بدون تشديد. وقرأ الباقون «كذّبوا » بتشديد الذال. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب :«فَنُنْجِي » بضم النون وكسر الجيم وتشديدها.
وقرأ الباقون :«فنُجْى » بنونين على صيغة الاستقبال.
عبرة : موعظة.
إن في أخبار الأنبياء وأقوامهم عبرة وموعظة يستنير بها أصحاب العقول، وليس هذا القرآن حديثا مختلقا ولا أساطير مفتراة، وإنما هو وحي يؤكد صدق ما سبق من كتب السماء ومن جاء بها من الرسل، ويبين كل ما يُحتاج إلى تفصيله من أمور الدين، أنه هدى لمن تدبّره وأمعنَ النظرَ فيه ورحمةٌ عامة للمؤمنين الصادقين.
Icon