تفسير سورة النجم

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة النجم من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٦٢، وهي أول سورة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه و سلم وجهر بقراءتها في الحرم والمشركون يستمعون وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فانه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال يكفيني هذا ( ت ) والذي خرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود فسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته اخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف انتهى وسبب نزولها أن المشركين قالوا إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله فنزلت السورة في ذلك.

تفسير سورة «النّجم»
وهي مكّيّة بإجماع وهي أوّل سورة أعلن بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجهر بقراءتها في الحرم، والمشركون يستمعون، وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجنّ والإنس غير أبي لهب، فإنّه رفع حفنة من تراب إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا.
ت: والذي خرّجه البخاريّ في صحيحه عن ابن مسعود: «فسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسجد من خلفه إلّا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أميّة بن خلف» «١» انتهى، وسبب نزولها أنّ المشركين قالوا: إنّ محمّدا يتقوّل القرآن، ويختلق أقواله، فنزلت السورة في ذلك.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣)
قوله عز وجل: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى الآية، قال الحسن وغيره: النجم المُقْسَمُ به هنا: اسمُ جنس، أراد به النجوم «٢»، ثم اختلفوا في معنى هَوى فقال جمهور المفسرين: هَوَى للغروب، / وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبيِّ «٣» : هوى في الانقضاض في إثر العفريت عند استراق السمع، وقال مجاهد وسفيان «٤» : النجم في قسم الآية: الثُّرَيَّا، وسُقُوطُهَا مع الفجر هو هوِيُّها، والعرب لا تقول: النجم مطلقاً إِلاَّ للثُّرَيَّا، والقسم واقع على قوله: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى.
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٤٨٠)، كتاب «التفسير» باب: فاسجدوا لله واعبدوا (٤٨٦٣). [.....]
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ١٩٥).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ١٩٥).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٥٠٣) برقم: (٣٢٤١٤)، (٣٢٤١٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩٦)، وابن كثير (٤/ ٢٤٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٤)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
- ص-: إِذا هَوى أبو البقاء: العامل في الظرف فِعْلُ الَقَسَمِ المحذوفِ، أي:
أقسم بالنجم وَقْتَ هَوِيِّهِ، وجوابُ القَسَمِ: مَا ضَلَّ، انتهى، قال الفخر «١» : أكثر المفسرين لم يُفَرِّقُوا بين الغَيِّ والضلال، وبينهما فرق فالغيُّ: في مقابلة الرُّشْدِ، والضلال أَعَمُّ منه، انتهى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى: يريد محمّدا صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه لا يتكلم عن هواه، أي:
بهواه وشهوته، وقال بعض العلماء: وما ينطقُ القرآنَ المُنَزَّلَ عن هوى.
ت: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية كما ترى.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤ الى ١٠]
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨)
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠)
وقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى يراد به القرآن بإجماع.
ت: وليس هذا الإِجماع بصحيح، ولفظُ الثعلبيِّ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أي: ما نُطْقُهُ في الدِّينِ إلاَّ بوحي، انتهى، وهو أحسن إِنْ شاء اللَّه، قال الفخر «٢» : الوحي اسم، ومعناه: الكتاب، أو مصدر وله معانٍ: منها الإرسال، والإِلهام، والكتابة، والكلام، والإِشارة، فإنْ قلنا: هو ضمير القرآن فالوحي اسم معناه الكتاب، ويحتمل أنْ يُقَالَ:
مصدر، أي: ما القرآن إلاَّ إرْسَالٌ، أي: مُرْسَلٌ، وَإِنْ قلنا: المراد من قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ قولُ محمد وكلامُه فالوحي حينئذ هو الإلهام، أي: كلامه مُلْهَمٌ من اللَّه أو مرسل، انتهى، والضمير في عَلَّمَهُ لنبِيِّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والمعلّم هو جبريل ع قاله ابن عباس وغيره «٣»، أي: عَلَّم محمداً القرآن، وذُو مِرَّةٍ معناه: ذو قُوَّة قاله قتادة وغيره «٤» ومنه قوله ع: «لاَ تَحِلَّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِىّ» «٥».
وَأصْلُ المِرَّةِ مِنْ مَرَائِرِ الْحَبْلِ، وهي فتله وإحكام عمله.
(١) ينظر: «تفسير الرازي» (١٤/ ٢٤١).
(٢) ينظر: «تفسير الرازي» (١٤/ ٢٤١).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ١٩٦).
(٤) ينظر: المصدر السابق.
(٥) أخرجه أبو داود (١/ ٥١٤)، كتاب «الزكاة» باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى (١٦٣٤)، والترمذي (٣/ ٣٣) كتاب «الزكاة» باب: ما جاء من لا تحل له الصدقة (٦٥٢)، وابن ماجه (١/ ٥٨٩)، كتاب «الزكاة» باب: من سأل عن ظهر غنّى (١٨٣٩)، والحاكم (١/ ٤٠٧) نحوه، والنسائي (٥/ ٩٩)، كتاب «الزكاة» باب: إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها (٢٥٩٧)، وابن حبان (٣/ ١٠٢) - الموارد (٨٠٦)، وعبد الرزاق في «المصنف» (٤/ ١١٠) (٧١٥٥).
قال الترمذي: حديث عبد الله بن عمر حديث حسن.
وقوله: فَاسْتَوى قال الربيع والزَّجَّاج، المعنى: فاستوى جبريل في الجو، وهو إذ ذاك بالأفق الأعلى إذ رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِحِراءَ، قد سَدَّ الأفق، له ستمائة جناحٍ، وحينئذ دنا من محمّد ع حتى كان قابَ قوسين، وكذلك رآه نزلةً أخرى في صفته العظيمة، له ستمائة جناح عند السِّدْرَةِ.
وقوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى قال الجمهور: المعنى: دنا جبريل إلى محمد في الأرض عند حِرَاءَ، وهذا هو الصحيح أَنَّ جميع ما في هذه الآيات من الأوصاف هو مع جبريل، ودَنا أعمّ من فَتَدَلَّى فَبَيَّنَ تعالى بقوله: فَتَدَلَّى هيئَةَ الدُّنُوِّ كيف كانت، وقابَ:
معناه: قَدْر، قال قتادة وغيره «١» : معناه: من طرف العود إلى طرفه الآخر، وقال الحسن ومجاهد «٢» : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المِقْبَضِ.
وقوله: أَوْ أَدْنى معناه: على مقتضى نظر البشر، أي: لو رَآه أَحَدُكُمْ لقال في ذلك: قوسان أو أدنى من ذلك، وقيل: المراد بقوسين، أي: قَدْرَ الذراعين، وعن ابن عباس «٣» : أنَّ القوس في الآية ذراعٌ يُقَاسُ به، وذكر الثعلبيُّ أَنَّهَا لُغَةُ بعض الحجازيين.
وقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
قال ابن عباس «٤» : المعنى: فأوحى اللَّهُ إلى عبده محمد ما أوحى، وفي قوله: مَا أَوْحى
إبهام على جهة التفخيم والتعظيم قال عياض: ولما كان ما كاشفه ع من ذلك الجبروتِ، وشَاهَدَهُ من عجائب/ الملكوت، لا تُحِيطُ به العباراتُ، ولا تستقِلُّ بحمل سماع أدناه العقولُ- رَمَزَ عنه تعالى بالإيماء والكناية الدَّالَّةِ على التعظيم، فقال تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
وهذا النوع من الكلام يسميه أَهْلُ النقد والبلاغة بالوحي والإشارة، وهو عندهم أبلغ أبواب الإيجاز، انتهى.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١١ الى ١٥]
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥)
(١) ذكره البغوي (٤/ ٢٤٦)، وابن عطية (٥/ ١٩٧).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٥٠٧- ٥٠٨) برقم: (٣٢٤٤٠، ٣٢٤٤٢)، وذكره البغوي (٤/ ٢٤٦)، وابن عطية (٥/ ١٩٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٨)، وعزاه لآدم بن أبي إياس، والفريابي، والبيهقي.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ١٩٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٧)، وعزاه للطبراني، وابن مردويه، والضياء.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٥٠٩) برقم: (٣٢٤٥٤)، وذكره البغوي (٤/ ٢٤٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٨)، وعزاه للنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
323
وقوله سبحانه: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى المعنى: لم يُكَذِّبْ قلبُ محمد الشيء الذي رأى، بل صَدَّقَهُ وتحقَّقَهُ نظراً قال أهل التأويل منهم ابن عباس وغيره «١» : رأى محمد الله بفؤاده، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «جَعَلَ اللَّهُ نُورَ بَصَرِي في فُؤَادِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِفُؤَادِيَ»، وقال آخرون من المتأولين: المعنى: ما رأى بعينه لم يُكَذِّبْ ذلك قلبُه، بل صدقه وتحققه، وقال ابن عباس فيما روِي عنه «٢» : إنَّ محمداً رأى رَبَّه بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وأنكرت ذلك عَائِشَةُ، وقالت: أنا سَأَلْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ هذه الآياتِ فَقَالَ لِي: «هُوَ جِبْرِيلُ فِيهَا كُلِّها» قال ع «٣» : وهذا قول الجمهور، وحديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاطعٌ بكُلِّ تأويل في اللفظ لأَنَّ قول غيرها إنَّما هو مُنْتَزَعٌ من ألفاظ القرآن.
وقوله سبحانه: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى قرأ حمزة والكسائيُّ «أَفَتَمْرُونَهُ» - بفتح التاء دون ألف «٤» -، أي: أفتجحدونه.
ت: قال الثعلبيُّ: واختار هذه القراءة أبو عبيد: قال إنَّهم لا يمارونه، وإنَّما جحدوه، واخْتُلِفَ في الضمير في قوله: وَلَقَدْ رَآهُ حسبما تقدم، فقالت عائشة والجمهور «٥» : هو عائد على جبريل، ونَزْلَةً معناه: مَرَّة أخرى، فجمهور العلماء أَنَّ المَرْئِيَّ هو جبريل ع في/ المرتين، مَرَّةً في الأرض بحراءَ، ومرَّةً عند سدرة المنتهى ليلة الإسراء، رآه على صورته التي خُلِقَ عليها، وسِدْرَةُ المُنْتَهَى هي: شجرة نَبْقٍ في السماء السابعة، وقيل لها: سدرة المنتهى لأَنَّها إليها ينتهي عِلْمُ كُلِّ عالم، ولا يعلم ما وراءها صَعَداً إلّا الله عز وجل، وقيل: سُمِّيَتْ بذلك لأَنَّها إليها ينتهي مَنْ مات على سنّة النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ع «٦» : وهم المؤمنون حقًّا من كل جيل.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٥١١) برقم: (٣٢٤٦٦)، وذكره البغوي (٤/ ٢٤٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٦٠)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، عن أبي العالية.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٥١١) برقم: (٣٢٤٦٧)، وذكره البغوي (٤/ ٢٤٧)، وابن عطية (٥/ ١٩٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٥٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٩)، وعزاه لابن مردويه. [.....]
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٩٨).
(٤) ينظر: «السبعة» (٦١٤)، و «الحجة» (٦/ ٢٣٠)، و «معاني القراءات» (٣/ ٣٧)، و «شرح الطيبة» (٦/ ٢٤)، و «العنوان» (١٨٢)، و «حجة القراءات» (٦٨٥)، و «شرح شعلة» (٥٩١)، و «إتحاف» (٥٠٠- ٥٠١).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٥١٢) برقم: (٣٢٤٧٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩٩)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٥١)
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٩٨).
324
وقوله سبحانه: عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى قال الجمهور: أراد سبحانه أَنْ يُعَظِّمَ مَكانَ السدرة، ويُشَرِّفَهُ بِأَنَّ جنة المأوى عندها، قال الحسن «١» : هي الجنة التي وعد بها المؤمنون.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥)
وقوله سبحانه: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى أي: غَشِيَها من أمر اللَّه ما غشيها، فما يستطيع أحد أَنْ يصفَها، وقد ذكر المُفَسِّرُون في وصفها أقوالاً هي تَكَلُّفٌ في الآية لأَنَّ اللَّه تعالى أبهم ذلك، وهم يريدون شرحه، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ» «٢».
وقوله تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ قال ابن عباس «٣» : معناه: ما جال هكذا ولا هكذا.
وقوله: وَما طَغى معناه: ولا تجاوز المَرْئِيَّ، وهذا تحقيق للأمر، ونفيٌ لوجوه الريب عنه.
وقوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال جماعة: معناه: لقد رأى الكبرى من آياتِ رَبِّهِ، أي: مِمَّا يمكنُ أنْ يراها البشر، وقال آخرون: المعنى: لقد رأى بَعْضاً من آيات رَبِّهِ الكبرى، وقال ابن عباس وابن مسعود «٤» : رأى رفرفاً أخضرَ من الجنة، قد سدّ الأفق.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٥١٧) عن ابن عبّاس برقم: (٣٢٥١١)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩٩).
(٢) أخرجه البخاري (١/ ٥٤٧- ٥٤٨)، كتاب «الصلاة» باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟ (٣٤٩)، (٦/ ٤٣١- ٤٣٢)، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: ذكر إدريس عليه السلام (٣٣٤٢).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٥١٨) برقم: (٣٢٥٢٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٠٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٥٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٦٢)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٥١٩) برقم: (٣٢٥٣١) عن ابن مسعود، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٠٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٦٢)، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي معا في «الدلائل».
325
ت: وزاد الثعلبيُّ: وقيل: المعراج، وما رأى في تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه دليله قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا... [الإسراء: ١] الآية، قال عِيَاضٌ:
وقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى انحصرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى، وتاهت الأحلامُ في تعيين تلك الآيات الكبرى، وقد اشتملت هذه الآيات على إعلام الله بتزكية جملته ع وعِصْمَتِهَا من الآفات في هذا المسرى، فزكى فؤادَه ولسانَه وجوارِحَه فقلبه بقوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النجم: ١١]، ولسانَهُ- عليه السلام- بقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣]، وبصرَهُ بقوله تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى اهـ.
ولما فرغ من ذكر عظمة اللَّه وقدرته قال على جهة التوقيف: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى... الآية، أي: أرأيتم هذه الأوثان وحقارَتَها وبُعْدَهَا عن هذه القدرة والصفات العَلِيَّةِ، واللات: صنم كانتِ العربُ تعظمه، والعُزَّى: صخرة بيضاءُ كانت العرب أيضاً تعبُدُها، وأمَّا مناة: فكانت بالمشلل من قديد، وكانت أعظم هذه الأوثان عندهم، وكانت الأوس والخزرج تهل لها، ووقف تعالى الكُفَّارَ على هذه الأوثان، وعلى قولهم فيها: إنها بنات اللَّه، فكأَنَّه قال: أرأيتم هذه الأوثانَ وقولَكُمْ: هي بناتُ اللَّه أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ثم قال تعالى على جهة الإنكار: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي: عوجاء قاله مجاهد «١»، وقيل: جائرة قاله ابن عباس «٢»، وقال سفيان «٣» : معناه: منقوصة، وقال ابن زيد «٤» :
معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضِزْتُهُ حَقَّهُ أَضِيزُهُ بمعنى: منعته، وضِيزَى من هذا التصريف قال أبو حيان «٥» : والثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لمناة للتأكيد، قيل: وأُكِّدَتْ بهذين الوصفين لِعَظَمِهَا عندهم، وقال الزمخشري: والأخرى ذَمٌّ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدارِ، وتُعُقِّبَ/ بأنَّ أخرى مُؤنث آخر، ولم يُوضَعَا لِلذَّمِ ولا للمدح.
ت: وفي هذا التعقب تعسف، والظاهر أَنَّ الوصفين معاً سِيقَا مَسَاقَ الذَّمِّ لأَنَّ هؤلاءِ الكُفَّارِ لم يكتفوا بضلالهم في اعتقادهم ما لا يجوز في اللات والعزى، إِلى أَنْ
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٥٢٢) برقم: (٣٢٥٤٦)، وذكره البغوي (٤/ ٢٥٠)، وابن عطية (٥/ ٢٠١).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٥٢٢) برقم: (٣٢٥٤٩)، وذكره البغوي (٤/ ٢٥٠)، وابن عطية (٥/ ٢٠١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٦٤)، وعزاه لابن جرير.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٥٢٢) برقم: (٣٢٥٥٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٠١).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٥٢٢) برقم: (٣٢٥٥١)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٠١).
(٥) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ١٦٠).
326
أضافوا إلى ذلك مَنَاةَ الثالثة الأخرى الحقيرة، وكُلُّ أصنامهم حقير، انتهى.
ثم قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ يعني: إنْ هذه الأوصافُ من أَنَّها إناث، وَأَنَّها آلهة تعْبَدُ، ونحو هذا- إلاَّ أَسماءٌ، أي: تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل اللَّه بها برهاناً ولا حُجَّةً، وما هو إلاَّ اتِّباعُ الظن، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وهَوَى الأنفس هو إرادتها الملذة لها، وإِنَّما تجد هوى النفس أبداً في ترك الأفضل لأَنَّها مجبولةٌ بطبعها على حُبِّ الملذ، وإِنَّما يَرْدَعُها وَيَسُوقُها إلى حُسْنِ العاقبة العقلُ والشرع.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى فيه توبيخ لهم، إِذْ يفعلون هذه القبائِحَ والهدى حاضر، وهو محمد وشرعه، والإنسان في قوله: أَمْ لِلْإِنْسانِ اسم جنس، كأَنَّه يقول: ليست الأشياءُ بالتمني والشهوات، وإِنَّما الأمر كُلُّه للَّه، والأعْمَالُ جاريةٌ على قانون أمره ونهيه، فليس لكم- أَيُّهَا الكَفَرَةُ- مُرَادُكُمْ في قولكم: هذه آلهتنا، وهي تشفعُ لنا، وتُقَرِّبُنَا إِلى اللَّه زُلْفَى، ونحو هذا فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي: له كل أمرهما:
مُلْكاً، ومقدوراً، وتَحْتَ سلطانه، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «عيوب النفس» : ومن عيوب النفس كثرةُ التَّمَنِّي، والتَّمَنِّي هو الاعتراضُ على اللَّه عَزَّ وجلَّ في قضائه وقَدَرِهِ، ومداواتُها/ أَنْ يعلم أَنَّه لا يدري ما يعقبه التمني، أيجرُّهُ إلى خير أو إلى شَرٍّ؟ فإذا تَيَقَّنَ إبهام عاقبة تمنيه، أَسْقَطَ عن نفسه ذلك، ورَجَعَ إلى الرِّضَا والتسليم، فيستريح، انتهى.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٢]
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)
وقوله سبحانه: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ... الآية: رَدٌّ على قريش في قولهم: الأوثان شفعاؤنا، وَكَمْ للتكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر لاَ تُغْنِي والغِنَى جَلْبُ النفع ودَفْعُ الضُّرِّ بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء.
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني: كفّار العرب.
327
وقوله: وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي: في المُعْتَقَدَاتِ، والمواضع التي يريد الإنسان أن يحرّر ما يَعْقِلُ ويعتقد فَإنَّهَا مواضع حقائق، لا تنفعُ الظنونُ فيها، وَأَمَّا في الأحكام وظواهرها فيجتزئ فيها بالمظنونات.
ثم سَلَّى سبحانه نَبِيَّه وأمره بالإعراض عن هؤلاء الكَفَرَةِ.
وقوله: عَنْ ذِكْرِنا قال الثعلبيُّ: يعني القرآن.
وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الآية متصلة في معنى التسلية، ومتضمنة وعيداً للكافرين، ووعداً للمؤمنين، والحُسْنَى: الجنة ولا حسنى دونها، وقد تقدم نقلُ الأقوال في الكبائر في سورة النساء وغيرها، وتحريرُ القول في الكبائر أَنَّها كُلُّ معصيةٍ يوجد فيها حَدٌّ في الدنيا أو تَوَعُّدٌ عليها بِالنَّارِ في الآخرة، أو لعنة، ونحو هذا.
وقوله: إِلَّا اللَّمَمَ هو استثناء يَصِحُّ أنْ يكونَ مُتَّصِلاً، وإنْ قدرته مُنْقَطِعاً ساغ ذلك، وبِكُلٍّ قد قيل، واخْتُلِفَ في معنى اللَّمَمَ فقال أبو هريرة، وابن عباس، والشَّعْبِيُّ، وغيرهم «١» : اللمم: صِغَارُ الذنوب التي لا حَدَّ فيها ولا وَعِيدَ عليها لأَنَّ الناسَ لا يتخلَّصُونَ من مُوَاقَعَةِ هذه الصغائر، ولهم مع ذلك الحُسْنَى/ إذا اجتنبوا الكبائر، وتظاهر العلماءُ في هذا القول، وكَثُرَ المائِلُ إليه، وحُكِيَ عن ابن المُسَيِّبِ أَنَّ اللمم: ما خطر على القلب، يعني بذلك لمَّةَ الشيطان «٢»، وقال ابن عباس «٣» : معناه: إلاَّ ما أَلَمُّوا به من المعاصي الفَلْتَةُ والسَّقْطَةُ دون دوام ثم يتوبون منه، وعنِ الحسن بن أبي الحسن «٤» أَنَّهُ قال:
في اللَّمَّةِ من الزنا، والسَّرِقَةِ، وشرب الخمر ثم لا يعود، قال ع «٥» : وهذا التأويلُ يقتضي الرِّفْقَ بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى إذ الغالب في المؤمنين مواقعة
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٥٢٨) عن ابن عبّاس برقم (٣٢٥٨٤)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٠٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٥٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٦٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. [.....]
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٢٥٣)، وابن عطية (٥/ ٢٠٤).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٢٢٨) برقم: (٣٢٥٧٧)، وذكره البغوي (٤/ ٢٥٢)، وابن عطية (٥/ ٢٠٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٥٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٦٦)، وعزاه لعبد بن حميد عن أبي صالح.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٥٢٧) برقم: (٣٢٥٧٠)، وذكره البغوي (٤/ ٢٥٢)، وابن عطية (٥/ ٢٠٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٥٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٦٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٠٤).
328
المعاصي، وعلى هذا أنشدوا، وقد تَمَثَّلَ به النبي صلّى الله عليه وسلّم: [الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا «١»
وقوله سبحانه: إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يريد: خلق أبيهم آدم، ويحتمل أَنْ يرادَ به إنشاء الغذاء، وأجِنَّةٌ: جمع جنين.
وقوله سبحانه: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ظاهره النهيُ عن تزكية الإنسانِ نَفْسَهُ، ويحتمل أَنْ يكونَ نهياً عن أنْ يُزَكِّيَ بعضُ الناسِ بعضاً، وإذا كان هذا، فَإنَّما يُنْهَى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا أو القطع بالتزكية، وأَمَّا تزكيةُ الإمامِ والقُدْوَةِ أحداً لِيُؤْتَمَّ به أو ليتهمم الناسَ بالخير، فجائز، وفي الباب أحاديثُ صحيحة، وباقي الآية بَيِّنٌ.
ت: قال صاحِبُ «الكَلِمِ الفارِقِيَّةِ» : أَعْرَفُ الناسِ بنفسه أَشَدُّهُمْ إيقاعاً للتهمة بِها في كل ما يبدو ويظهرُ له منها، وأجهلهم بمعرفتها وخفايا آفاتها وكوامن مكرها مَنْ زَكَّاها، وأَحْسَنَ ظَنَّهُ بها لأَنَّها مُقْبِلَةٌ على عاجل حظوظها، مُعْرِضَةٌ عنِ الاستعداد لآخرتها، انتهى، وقال ابن عطاء اللَّه: أَصْلُ كل معصيةٍ وغفلة- وشهوة/- الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة، ويقظة، وعِفَّةٍ- عَدَمُ الرضا منك عنها قال شارحه ابن عُبَّاد: الرضا عن النفس:
أصل جميع الصفات المذمومة، وعَدَمُ الرضا عنها أصلُ الصفات المحمودة، وقدِ اتَّفق على هذا جميعُ العارفين وأرباب القلوب وذلك لأَنَّ الرضا عن النفس يوجب تغطيةَ عيوبِهَا ومساويها، وعَدَمَ الرضا عنها على عكس هذا كما قيل: [الطويل]
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تبدي المساويا
انتهى.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٨]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨)
وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى... الآية، قال مجاهد، وابن زيد، وغيرهما «٢» :
(١) أخرجه الحاكم (٢/ ٤٦٩)، والترمذي (٥/ ٣٩٦- ٣٩٧) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة النجم (٣٢٨٤).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٥٣٠) عن مجاهد برقم: (٣٢٥٩٥) وعن زيد ابن زيد برقم: (٣٢٥٩٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٠٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٦٨)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
نزلت في الوليد بن المغيرة المخزوميِّ وذلك أنّه سمع قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووعظه فقرب من الإسلام، وطمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في إسلامه، ثم إنَّه عاتبه رجلٌ من المشركين، وقال له: أتترك ملّة آبائك؟! ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأَنا أتَحَمَّلُ لك بكلِّ شيء تخافه في الآخرة، لكن على أَنْ تعطيني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عَمَّا هَمَّ به من الإسلام، وأعطى بعضَ ذلك المالَ لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشَحَّ، فنزلت الآية فيه، وقال السُّدِّيُّ «١» : نزلت في العاصي بن وائل قال ع «٢» : فقوله: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى على هذا- هو في المال، وقال مقاتل «٣» في كتاب الثعلبيِّ: المعنى: أعطى الوليدُ قليلا من الخير بلسانه، ثم أَكْدى، أي: انقطع ما أعطى، وهذا بَيِّنٌ من اللفظ، والآخر يحتاج إلى رواية، وتَوَلَّى معناه: أدبر وأعرض عن أمر اللَّه، وأَكْدى معناه: انقطع عطاؤه، وهو مشبه بالذي/ يحفر في الأرض فإنَّه إذا انتهى في حفر بئر ونحوه إلى كُدْيَةٍ، وهي ما صَلُبَ من الأرض- يَئِسَ من الماء، وانقطع حفرُهُ، وكذلك أجبل إذا انتهى في الحفر إلى جبل، ثم قيل لمن انقطع: عمله أكدى وأجبل.
ت: قال الثعلبيُّ: وأصله من الكُدْيَةِ، وهو حجر في البئر يؤيس من الماء قال الكسائِيُّ: تقول العرب: أَكْدَى الحَافَرُ وأَجْبَلَ: إذا بَلَغَ في الحَفْرِ إلى الكُدْيَةِ والجَبَلِ، انتهى.
وقوله عز وجل: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى معناه: أَعَلِمَ من الغيب أَنَّ مَنْ تحمَّل ذنوبَ آخر انتفع بذلك المُتَحَمَّلُ عنه فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيرة؟! أم هو جاهل، لم يُنَبَّأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وَفَّى بما أُرْسِلَ بِه، من أَنَّهُ لا تَزِرُ وازرة، أي: لا تحملُ حَامِلَةٌ حَمْلَ أخرى وفي البخاري وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى: وفى ما فُرِضَ عليه «٤»، انتهى.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١)
وقوله سبحانه: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى وما بعده، كل ذلك معطوف على قوله: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى والجمهور أَنَّ قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى
(١) ذكره البغوي (٤/ ٢٥٣)، وابن عطية (٥/ ٢٠٥).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٠٥).
(٣) ذكره البغوي (٤/ ٢٥٣)، وابن عطية (٥/ ٢٠٥).
(٤) ينظر: «صحيح البخاري» (٨/ ٤٦٩)، كتاب «التفسير» باب: سورة النجم.
مُحْكَمٌ لا نسخَ فيه، وهو لفظ عام مخصص.
وقوله: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي: يراه اللَّه، ومَنْ شاهد تلك الأُمُورَ، وَفِي عَرْضِ الأعمال على الجميع تشريفٌ للمحسنين وتوبيخٌ للمسيئين، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَمَّعَ بِأَخِيهِ فِيمَا يَكْرَهُ، سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «١».
وفي قوله تعالى: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وعيد للكافرين، ووعد للمؤمنين.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤٢ الى ٥٤]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤)
وقوله سبحانه: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي: مُنْتَهَى الخلق ومصيرُهم، اللَّهمَّ أطلعنا على خيرك بفضلك، ولا تفضحْنا بين خلقك، / وجُدْ علينا بسترك في الدارين! وَحُقَّ لعبد يعلم أَنَّه إلى ربه منتهاه أَنْ يرفض هواه ويزهدَ في دنياه، ويُقْبِلَ بقلبه على مولاه ويقتدي بنبيٍّ فَضَّلَهُ اللَّهُ على خلقه وارتضاه ويتأمل كيف كان زهده صلّى الله عليه وسلّم في دنياه وإِقباله على مولاه قال عياض في «شفاه» : وأما زهده صلّى الله عليه وسلّم، فقد قدمنا من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي، وحَسْبُكَ من تقلُّله منها وإِعراضِهِ عَنْهَا وعن زَهْرَتِها، وقد سِيقَتْ إليه بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحاتها- أنّه توفّي صلّى الله عليه وسلّم ودِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ «٢»، وهو يدعو، ويقول:
(١) أخرجه البخاري (١٣/ ١٣٨)، كتاب «الأحكام» باب: من شاق شاق الله عليه (٧١٥٢)، ومسلم (٤/ ٢٢٨٩)، كتاب «الزهد والرقائق» باب: من أشرك في عمله غير الله (٤٩/ ٢٩٨٦)، والترمذي (٣/ ٣٩٥)، كتاب «النكاح» باب: ما جاء في الوليمة (١٠٩٧) نحوه، ورواه البخاري من طريق صفوان، وجندب، ومسلم من طريق ابن عبّاس، والترمذي من طريق ابن مسعود، وأحمد (٣/ ٤٠) من طريق أبي سعيد الخدري (٤/ ٣١٣)، (٥/ ٤٥) من طريق أبي بكرة.
(٢) أخرجه البخاري (٤/ ٣٠٢) كتاب «البيوع» باب: شراء النبي بالنسيئة، حديث (٢٠٦٩)، وأحمد (٣/ ١٣٣)، والنسائي (٧/ ٢٨٨) كتاب «البيوع» باب: الرهن في الحضر، وابن ماجه (٢/ ٨١٥)، كتاب «الرهون» باب: (١)، حديث (٢٤٣٧)، والترمذي (٣/ ٥١٩- ٥٢٠)، كتاب «البيوع» باب: ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل، حديث (١٢١٥)، وأبو يعلى (٥/ ٣٩٤) (٣٠٦١)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي (ص: ٢٦٣)، والبيهقي (٦/ ٣٦)، كتاب «الرهن» باب: جواز الرهن، كلهم من حديث قتادة عن أنس، أنه مشى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبز شعير، وإهالة سنخة، ولقد رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعا له بالمدينة، عند يهودي وأخذ منه شعيرا لأهله، ولقد سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم صاع بر ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
331
«اللَّهُمَّ اجعل رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً».
وفي «صحيح مسلم» عن عائشة- رضي اللَّه عنها- قالت: ما شبع آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعاً حتى مضى لِسَبِيلِهِ «١».
وعنها- رضي اللَّه عنها- قالت: «لَمْ يَمْتَلِىءْ جَوْفُ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شِبَعاً قَطُّ، وَلَمْ يَبُثَّ شكوى إلى أَحَدٍ، وَكَانَتِ الْفَاقَةُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الغنى، وَإِنْ كَانَ لَيَظَلُّ جَائِعاً يَلْتَوِي طُولَ لَيْلَتِهِ مِنَ الْجُوعِ، فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ صِيَامَ يَوْمِهِ، وَلَوْ شَاءَ سَأَلَ رَبَّهُ جَمِيعَ كُنُوزِ الأَرْضِ وَثِمَارِهَا وَرَغْدِ عَيْشِهَا، وَلَقَدْ كُنْتُ أَبْكِي لَهُ رَحْمَةً مِمَّا أرى بِهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِي على بَطْنِهِ ممّا به من الجوع، وأقول: نفسي لَكَ الْفِدَاءُ لَوْ تَبَلَّغْتَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَقُوتُكَ! فَيَقُولُ: يَا عَائِشَةُ، مَا لِي وَلِلدُّنْيَا! إخْوَانِي مِنْ أُولي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ صَبَرُوا على مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هذا، فَمَضَوْا على حَالِهِمْ، فَقَدِمُوا على رَبِّهِمْ فَأَكْرَمَ مَآبَهُمْ، وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُمْ، فَأَجِدُنِي أَسْتَحِيي إنْ تَرَفَّهْتُ فِي مَعِيشَتِي/ أنْ يُقَصِّرَ بِي غَداً دُونَهُمْ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنَ اللُّحُوقِ بإخْوَانِي وأَخِلاَّئِي، قَالَتْ: فَمَا أَقَامَ بَعْدُ إلاَّ أَشْهُراً حتى تُوُفِّيَ- صلواتُ اللَّهُ وسَلاَمُهُ عليه-» انتهى، وباقي الآية دَلالة على التوحيد واضحة، والنَّشْأَةَ الْأُخْرى: هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البِلَى، وأَقْنى معناه: أَكْسَبَ ما يُقْتَنَى تقول: قنيت المالَ، أي: كسبْته، وقال ابن عباس: أَقْنى: قنَّع «٢»، قال ع «٣» : والقناعة خير قُنْيَةٍ، والغِنَى عرض زائل، فلله درّ ابن عبّاس! والشِّعْرى: نجم في السماء، قال مجاهد وابن زيد «٤» : هو مرزم الجَوْزاء، وهما شِعْرَيَانِ: إحداهما الغُمَيْصَاءُ، والأُخرى العَبُور لأَنَّها عَبَرَتِ المجرَّةَ، وكانت خُزَاعَةُ مِمَّنْ يَعْبُدُ هذه الشعْرَى العَبُورَ، ومعنى الآية: وَأَنَّ اللَّه سبحانه رَبُّ هذا المعبودِ الذي لكم وعاداً الْأُولى: اختلف في معنى وصفها بالأُولى، فقال الجمهور:
سُمِّيتْ «أولى» بالإضافة إلى الأمم المتأخِرة عنها، وقال الطبريُّ «٥» وغيره: سُمِّيتْ أولى لأَنَّ ثَمَّ عاداً آخرةً، وهي قبيلة كانت بمكَّةَ مع العماليق، وهم بنو لقيم بن هزال، والله
(١) أخرجه مسلم في «صحيحه» (٤/ ٢٨٨٢)، كتاب «الزهد والرقائق» باب: (٢٥/ ٢٩٧١)، بهذا اللفظ.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٢٠٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٧١)، وعزاه للفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٠٨).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٥٣٧) عن مجاهد برقم: (٣٢٦٣٧) وعن ابن زيد برقم: (٣٢٦٤٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٠٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٥٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٧٢)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ.
(٥) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ٥٣٧).
332
أعلم، وقرأ الجمهور «١» :«وَثَمُودَا» بالنصب عطفاً على «عاداً» «وقومَ نوحٍ» عطفاً على «ثمود».
وقوله: مِنْ قَبْلُ لأَنَّهم كانوا أَوَّلَ أُمَّة كَذَّبت من أهل الأرض، والْمُؤْتَفِكَةَ:
قرية قومِ لوطٍ أَهْوى أي: طرحها من هواء عالٍ إلى سفل.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٨]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨)
وقوله سبحانه: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى مخاطبة للإنسان الكافر كأَنَّه قيل له: هذا هو اللَّه الذي له هذه الأفعال، وهو خالِقُكَ المُنْعِمُ عليكَ بكُلِّ النِّعَمِ، ففي أَيّها تشك وتتمارى؟! معناه: تتشكك، وقال مالك الغفاريُّ: إنَّ قوله: أَلَّا تَزِرُ إلى قوله:
تَتَمارى هو في صحف إِبراهيم وموسى.
وقوله سبحانه: هذا نَذِيرٌ يحتمل أَنْ يشير إلى نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول قتادة وغيره «٢»، وهذا هو الأشبه، ويحتمل أنْ يشير إلى القرآن، وهو تأويل قوم، ونَذِيرٌ يحتمل أَنْ يكونَ بناء اسم فاعل، ويحتمل أَنْ يكون مصدراً، ونُذُر جمع نذير.
وقوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ معناه: قربت القريبة، والآزفة: عبارة عن القيامة بإجماعٍ من المفسرين، وأَزِفَ معناه قَرُبَ جدًّا قال كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: [البسيط]
بَانَ الشَّبَابُ وَآهَا الشَّيْب قَدْ أَزِفَا ولا أرى لشباب ذاهب خلفا «٣»،
وكاشِفَةٌ يحتمل أَنْ تكون صفة لمؤنث التقدير: حال كاشفة ونحو هذا التقدير، ويحتمل أَنْ تكونَ بمعنى: كاشف قال الطبريُّ «٤» والزَّجَّاج: هو من كشف السّرّ، أي:
(١) وقرأها غير مصروفة حمزة، وعاصم، والحسن وعصمة.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٠٨)، و «البحر المحيط» (٨/ ١٦٦)، و «معاني القراءات» (٣/ ٤٠)، و «العنوان» (١٨٢)، و «حجة القراءات» (٦٨٨)، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢/ ٥٠٣).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٥٤٠) برقم: (٣٢٦٥٦)، وذكره البغوي (٤/ ٢٥٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٠٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٧٢)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٣) وبعده:
عاد السواد بياضا في مفارقه لا مرحبا ها بذا اللون الذي ردفا
ينظر: «ديوانه» (٧٠)، «المحرر الوجيز» (٥/ ٢١٠).
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ٥٤١).
ليس من دون الله من يكشف وَقْتَهَا ويعلمه، وقال منذر بن سعيد «١» : هو من كشف الضُّرّ ودفعه، أي: ليس مَنْ يكشف خطبها وهولها إلّا الله.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
وقوله سبحانه: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ... الآية، روى سعد بن أَبي وَقَّاص أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنَّ هذا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِخَوْفٍ، فَإذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوا» ذكره الثعلبيّ، وأخرج الترمذي والنسائيّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قَالَ: «لاَ يَلِجُ النَّارَ مَنْ بكى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، حتى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ في مَنْخِرٍ أبَدًا» قال النسائيُّ: ويروى: «في جَوْفٍ أبَدًا» :«وَلاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإيمَانُ في قَلْبٍ أَبَدًا» «٢» قال الترمذي: وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبِيلِ اللَّهِ» «٣» انتهى من «مصابيح/ البَغَوِيِّ». قال أبو عمر بن عبد البر: رُوِيَ عنِ النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ» «٤» انتهى من «بهجة المجالس»، وروى الترمذيُّ عن أبي هريرة قال:
قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هؤلاء الكَلِمَاتِ فَيَعْمَلَ بِهِنَّ، أو يعلّم من يعمل بهنّ؟
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٢٠٩).
(٢) أخرجه النسائي (٦/ ١٢)، كتاب «الجهاد»
باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدمه (٣١٠٨)، و «الكبرى» (٣/ ٩) كتاب «الجهاد» باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدميه (٤٣١٦/ ٣)، والترمذي (٤/ ١٧١)، كتاب فضائل «الجهاد» باب: ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله (١٦٣٣)، وأحمد (٢/ ٥٠٥)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (١/ ٤٩٠) (٨٠٠)، والحاكم (٤/ ٦٥).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
(٣) أخرجه الترمذي (٤/ ١٧٥)، كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله (١٦٣٩).
قال الترمذي: حديث حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إِلا من حديث شعيب بن رزيق.
(٤) أخرجه الترمذي (٥/ ٥٥١)، كتاب «الزهد» باب: من اتقى المحارم فهو أعبد الناس (٢٣٠٥) عن أبي هريرة نحوه.
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن، ولم يسمع من أبي هريرة شيئا اهـ.
وأخرجه ابن ماجه (٢/ ١٤٠٣)، كتاب «الزهد» باب: الحزن والبكاء (٤١٩٣)، و (٢/ ١٤١٠)، كتاب «الزهد» باب: الورع والتقوى (٤٢١٧)، نحوه من طريق آخر عن أبي هريرة.
334
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَعَدَّ خَمْسَاً، وَقَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وارض بِمَا قَسَّمَ اللَّهُ لَكَ، تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إلى جَارِكَ، تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ يُمِيتُ الْقَلْبَ» «١» انتهى، والسامد: اللاعب اللاهي، وبهذا فسَّرَ ابن عباس وغيره من المفسرين «٢»، وسمد بلغة حمير: غَنِيَ، وهو كُلُّه معنى قريب بعضُه من بعض، ثم أمر تعالى بالسجود له والعبادة تخويفا وتحذيرا، وهاهنا سجدةٌ في قول كثير من العلماء، ووردت بها أحاديثُ صحاح، ولم يَرَ مالك بالسجود هنا، وقال زيد بن ثابت: إنَّهُ قَرَأ بها عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَلَمْ يَسْجُدْ «٣». قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «٤» : وكان مالكٌ يَسْجُدُهَا في خاصَّة نَفْسِهِ، انتهى.
(١) انظر السابق.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٥٤٢) برقم: (٣٢٦٦٤)، وذكره البغوي (٤/ ٢٥٧)، وابن عطية (٥/ ٢١٠).
(٣) أخرجه النسائي (٢/ ١٦٠)، كتاب «الافتتاح» باب: ترك السجود في «النجم» (٩٦٠)، وأبو داود (١/ ٤٤٦)، كتاب «الصلاة» باب: من لم ير السجود في «المفصل» (١٤٠٣). [.....]
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٧٣٥).
335
Icon