ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (١٠) نَارٌ حَامِيَةٌ (١١)﴾.التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الْقَارِعَةُ (١)﴾ اتفقوا (١) على أن القارعة اسم من أسماء القيامة، كـ ﴿الْحَاقَّةُ (١)﴾، ﴿الطَّامَّةُ﴾، ﴿الْغَاشِيَةِ﴾، ﴿الصَّاخَّةُ﴾.
وسبب تسميتها بالقارعة: أن القارعة هي الصيحة التي يموت منها الخلائق، وهي الصيحة الأولى التي تموت منها الخلائق سوى إسرافيل، ثم يميته الله تعالى ثم يحييه فينفخ في الصور النفخة الثانية فيقومون. وقيل: القارعة هي التي تفزع الخلائق بالأهوال والأفزاع؛ أي: تؤثر فيهم على وجوه شتى، وذلك في السموات بالانشقاق والانفطار، وفي الشمس والقمر بالتكوير، في الكواكب بالانتثار، وفي الجبال بالدك والنسف، وفي الأرض. بالطي والتبديل، وهو قول الكلبي. وقيل: إنها تخوف أعداء الله بالعذاب والخزي، وهو قول مقاتل. قال بعض المحققين: وهذا أولى من قول الكلبي؛ لقوله تعالى: ﴿وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ اهـ. وهي مبتدأ،
٢ - خبره جملة قوله: ﴿مَا الْقَارِعَةُ (٢)﴾ على أن ﴿مَا﴾ الاستفهامية مبتدأ والقارعة خبر عنها، أي القارعة؛ أي: شيء هي؟ هي شيء عجيب في الفخامة والفظاعة، فوضع الظاهر موضع المضمر تأكيدًا للتهويل من شأنها. والاستفهام هنا للتعجيب، وفيما سيأتي للإنكار، والمراد بالقارعة هنا: النفخة الثانية التي تقرع القلوب؛ أي: تفزعها بفنون الأفزاع والأهوال، وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال كما مر آنفًا. والعرب تقول: قرعتهم القارعة، إذا وقع بهم أمر فظيع، قال الشاعر:
وَقَارِعَةٌ مِنَ الأَيَّامِ لَوْلَا | سَبِيْلُهُمُ لَرَاحَتْ عَنْكَ حِيْنَا |
مَتَى نَقْرعْ بِمَرْأَتِكُمْ نَسُؤْكُمْ | وَلَمْ يُوْ قَدْ لَنَا فِي الْقِدْرِ نَارُ |
لَجَدِيْرُوْنَ بِالْوَفَاءِ إِذَا قَا | لَ أَخَوُ النَّجْدَةِ السِّلَاحُ السِّلَاحُ |
والحاصل (٢): أن القارعة من أسماء القيامة، كالحاقة مثلًا، سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بهولها كما تسمى الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعةً، قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ﴾؛ أي: حادثة عظيمة تقرعهم وتصك أجسادهم فيألمون لها. ﴿مَا الْقَارِعَةُ (٢)﴾؛ أي: أي شيء هي القارعة، وهذا أسلوب يراد به تهويل أمرها، كأنها لشدة ما يكون فيها من الأهوال التي تفزع منه النفوس وتدهش لها العقول يصعب تصورها ويتعذر إدراك حقيقتها،
٣ - ثم زاد أمرها تعظيمًا فقال: ﴿مَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣)﴾ و ﴿ما﴾ للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿أَدْرَاكَ﴾ خبرها، ﴿مَا الْقَارِعَةُ (٣)﴾ مبتدأ وخبر،
(٢) المراغي.
٤ - ولما كان هذا منبئًا عن وعد الكريم بإعلامها أنجز ذلك بقوله: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ﴾؛ أي: هي يوم يكون الناس، على أن يوم مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف، وفتحتُه فتحةُ بناء لإضافته إلى الفعل، إن كان مضارعًا على ما هو رأي الكوفيين. أو: اذكر يوم يكون الناس إلخ، فإنه يدريك ما هي.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَوْمَ﴾ بالنصب، وتخريجه كما ذكرنا، وقرأ زيد بن علي ﴿يَوْمَ﴾ برفع الميم على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وقتها يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾: جمع فراشة، وهي التي تطير وتتهافت على السراج فتحترق، والمبثوث: المفرق، وبه شبه فراشة القفل، وهو ما ينشب فيه، ولم يقل: المبثوثة، بل قال: المبثوث؛ لأن الكل جائز، كما في قوله: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ وقوله: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ كما مر بيان وجه ذلك.
والمعنى: هي - أي: القارعة - يوم يكون الناس كالفراش المفرق في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار، وبه يضرب المثل في الطيش والهوج، ويقال: أطيش من فراشة.
قال الشاعر:
فَرَاشَةُ الْحِلْمِ فِرْعَوْنُ الْعَذَابِ وَإِنْ | يُطْلَبْ نَدَاهُ فَكَلْبٌ دُوْنَهُ كَلَبُ |
وَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ رَدَدْتُ حُلُوْمَهُمْ | عَلَيْهِمْ وَكَانُوْا كَالْفَرَاشِ مِنَ الْجَهْلِ |
إِنَّ الْفَرَزْدَقَ مَا عَلِمْتَ وَقَوْمَهُ | مِثْلُ الْفَرَاشِ غَشَيْنَ نَارَ الْمُصْطَلِيْ |
(٢) روح البيان.
٥ - وقوله: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)﴾: في محل الخفض معطوف على جملة ﴿يَكُونُ النَّاسُ﴾، و ﴿العهن﴾: الصوف المصبوغ بألوان مختلفة، والنفش: نشر الشعر والصوف والقطن، بالأصبع، وخلخلة الأجزاء وتفريقها عن تراصها، قال السجاوندي: شبه خفتها بعد رزانتها بالصوف، وتلونها بالمصبوغ، ومرها بالمندوف، واختصاص العهن لألوان الجبال، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ والمعنى: ويوم تكون الجبال كالصوف الملون بالألوان المختلفة المندوف في تفرق أجزائها وتطايرها في الحق، وكلا الأمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلائق، يبدل الله الأرض غير الأرض ويغير هيئاتها، ويسيِّر الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئات الهائلة، يشاهدها أهل المحشر، وهي وإن اندكت عند النفخة الأولى ولكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية. والمعنى: إن الناس من هول ذلك اليوم يكونون منتشرين حيارى هائمين على وجوههم، لا يدرون ماذا يفعلون، ولا ماذا يراد بهم، كالفراش الذي يتجه إلى غير جهة واحدة، بل تذهب كل فراشة إلى جهة غير ما تذهب إليها الأخرى. وإن الجبال لتفتتها وتفرق أجزائها لم يبق لها إلا صورة الصوف المنفوش الذي نفش ففرقت شعراته بعضها عن بعض حتى صار على حال يطير مع أضعف ريح، فلا تلبث الجبال أن تذهب وتتطاير، فكيف يكون الإنسان حين حدوث القارعة، وهو ذلك الجسم الضعيف السريع الانحلال؟.
وقد كثر في القرآن ذكر حال الجبال يوم القيامة فقال: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ وقال: ﴿وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ وقال: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (٢٠)﴾ كل ذلك ليبين أن هذه الأجسام العظيمة التي من طبعها الاستقرار
٦ - وبعد أن ذكر أوصاف هذا اليوم بما يكون من أحوال بعض الخلائق.. أعقب ذلك بذكر الجزاء على الأعمال، فقال: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦)﴾: جمع الموزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى، من جمع ميزان. وثقلها رجحانها؛ لأن الحق ثقيل والباطل خفيف، والجمع للتعظيم، من لأن لكل مكلف ميزانًا، من لاختلاف الموزونات وكثرتها.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن ميزانه له لسان وكفتان، لا يوزن فيه إلا الأعمال ليبين الله أمر العباد بما عهدوه فيما بينهم، قالوا: توضع فيه صحف الأعمال إظهارًا للمعدلة وقطعًا للمعذرة، من تبرز الأعمال العرضية بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح؛ يعني: يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة، وبالأعمال السيئة على صور سيئة، فتوضع في الميزان؛ أي: فمن ترجحت حسناته..
٧ - ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧)﴾؛ أي: عشية طيبة، فهو من قبيل الإسناد إلى السبب؛ لأن العيش سبب الرضى من منَعَّم العيش، وقال بعضهم: معنى راضية؛ أي: راضٍ عنها صاحبها، يقال: ثَقُل ميزان (١) فلان، إذا كان له قدر ومنزلة رفيعة، كأنه إذا وضع في ميزان كان له به رجحان، وإنما يكون المقدار والقيمة لأهل الأعمال الصالحة والفضائل الراجحة، فهؤلاء يجزون النعيم المقيم الدائم، ويكونون في عيشة راضية تقر بها أعينهم وتسر بها نفوسهم، ويرى بعض المفسرين: أن الذي يوزن هو الصحف التي تكتب فيها الحسنات والسيئات ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧)﴾؛ أي: عيشة طيبة مرضية له وحياة هنيئة يتقلب فيها قال البقاعي: ولعله ألحقها بالهاء الدالة على الوحدة، والمراد: العيش، ليُفهم أنها على حالة واحدة في الصفاء واللذة وليست ذات ألوان كحياة الدنيا؛ لأن أُمه من مسكنه جنة
٨ - ولما ذكر نعيم أهل الخير أردفه عقاب أهل الشر، فقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (٨)﴾ بأن لم يكن له حسنة يعشو بها، من ترجحت على حسناته، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة.. دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة.. دخل النار
٩ - ﴿فَأُمُّهُ﴾؛ أي: مأواه ﴿هَاوِيَةٌ﴾: هي من أسماء النار، سميت (١) بها لغاية عمقها وبعد مهواها. روي: أن أهل النار يهوون فيها سبعين خريفًا. وعبر عن المأوى بالأم لأن أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه، وفيه تهكم به، من لأنها تحيط به إحاطة رحم الأم بالولد، من لأن الأم هي الأصل والكافر خلق من النار، وكل شيء يرجع إلى أصله، وهو اللائح. وفي "الكشاف" من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة. هوت أمه؛ لأنه إذا هوى؛ أي: سقط وهلك.. فقد هوت أمه ثكلًا وحزنًا، فكأنه قيل: فقد هلك، وعن قتادة: ﴿فَأُمُّهُ﴾؛ أي: فأم رأسه ﴿هَاوِيَةٌ﴾؛ أي: ساقطة في جهنم؛ لأنه يطرح فيها منكوسًا. وأم الرأس: الدماغ أو الجلدة الرقيقة التي عليها، يقال خف ميزانه؛ أي: سقطت قيمته، فكأنه ليس بشيء حتى لو وضع في كفة ميزان لم يرجح بها على أختها، ومن كان في الدنيا كثير الشر قليل فعل الخّير فدس نفسه بالشر واجتراح المعاصي وعاث في الأرض فسادًا. لم يكن شيئًا، فلا ترجح له كفة ميزان لو وضع فيها، وقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (٨)﴾؛ أي: حسناته بسبب ثقل سيئاته.
وبقي قسم ثالث غير مذكور في الآية وهو (٢): من استوت حسناته وسيئاته، وفي "المناوي" فمن رجحت حسناته بسبب زيادتها على السيئات فهو في الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فيحاسب حسابًا يسيرًا، ومن رجحت سيئاته على حسناته؛ أي: بسبب زيادتها.. فيشفع فيه أو يعذب اهـ. وعلى الجملة (٣): فعلينا أن نؤمن بما ذكره الله تعالى من الميزان في هذه الآية وفي قوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ ومن وزن الأعمال وتمييز مقدار لكل عمل، وليس علينا
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
وَالأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أَمُّنَا | فِيْهَا مَقَابرُنَا وَفِيْهَا نُوْلَدُ |
يَا عَمْرُوْ لَوْ نَالَتْكَ أَرْمَاحُنَا | كَنْتَ كَمَنْ تَهْوِيْ بِهِ الْهَاوَيهْ |
١٠ - ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ يا محمد ﴿مَا﴾؛ أي: جواب ما الهاوية وما حقيقتها، فضمير ﴿هي﴾ (٢) يعود إلى ﴿الهاوية﴾ و ﴿الهاء﴾ للسكت والاستراحة والوقف، وإذا وصل القارىء.. حذفها وقيل: حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج؛ لأنها ثابتة في المصحف، وقد أجيز إثباتها مع الوصل، قال أبو الليث: قرأ حمزة والكسائي بغير هاء في الوصل، وبالهاء عند الوقف، والباقون بإثباتها في الوصل والوقف، وقد سبق مفصلًا في الحاقة. والاستفهام هنا للتهويل والتفظيع ببيان أنها خارجة عن حدود المعهود، فلا يدريها أحد،
١١ - ثم أعلمها بقوله: ﴿نَارٌ حَامِيَةٌ (١١)﴾؛ أي: هي نار متناهية نهاية الحرارة، يقال: حمي الشمس والنارُ حَمْيًا وحُميًّا وحموَّا، إذا اشتد
(٢) روح البيان.
الإعراب
﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧)﴾.
﴿الْقَارِعَةُ (١)﴾: مبتدأ أول، ﴿مَا﴾ اسم استفهام للاستفهام التعجيبي في محل الرفع مبتدأ ثان، ﴿الْقَارِعَةُ (١)﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني مع خبره للأول، والرابط: تكرار لفظ المبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة استئنافًا نحويًا. ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ما﴾: اسم استفهام للاستفهام التعظيمي في محل الرفع مبتدأ، ﴿أدرى﴾: فعل ماض، و ﴿الكاف﴾: في محل النصب مفعول أول لـ ﴿أدرى﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾ وهو الرابط، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن ﴿ما﴾ الاستفهامية والجملة الاستفهامية معطوفة على ما قبلها، ﴿مَا﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿الْقَارِعَةُ (١)﴾ خبرها، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد مفعولَي ﴿أَدْرَاكَ﴾ الثاني والثالث، معلقة عنهما باسم الاستفهام؛ لأن أدرى ينصب ثلاثة مفاعيل؛ لأنه بمعنى أعلم ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلّق بمحذوف دلّ عليه لفظ ﴿الْقَارِعَةُ (١)﴾، تقديره تقرع القلوب يوم يكون الناس... إلخ، ولا يجوز أن يكون متعلقًا بالقارعة الأول؛ اللفصل بينهما بالخبر، ولا بالثاني والثالث؛ لعدم التئام الظرف معهما من حيث المعنى ﴿يَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص ﴿النَّاسُ﴾: اسمها ﴿كَالْفَرَاشِ﴾: خبرها ﴿الْمَبْثُوثِ﴾ صفة للفراش، وجملة ﴿يَكُونُ﴾ في محل الجر بإضافة الظرف إليها، ويجوز أن تكون ﴿يَكُونُ﴾ تامة و ﴿النَّاسُ﴾: فاعلًا و ﴿كَالْفَرَاشِ﴾: حالًا من فاعل
﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (١٠) نَارٌ حَامِيَةٌ (١١)﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿أما﴾: حرف شرط ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أول ﴿خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿فَأُمُّهُ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾ ﴿أمه﴾: مبتدأ ثان ﴿هَاوِيَةٌ﴾: خبره والجملة الثانية في محل الرفع خبر للأول وجملة الأول جواب ﴿أما﴾ الشرطية، وجملة ﴿أما﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أما﴾ الأولى، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿أَدْرَاكَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿ما﴾ ومفعول أول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن ﴿ما﴾ الاستفهامية، والجملة الاستفهامية معطوفة على جملة ﴿أما﴾ الثانية، ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿هيه﴾ ﴿هي﴾ ضمير للمفرد المؤنثة الغائبة في محل الرفع خبر لـ ﴿ما﴾ الاستفهامية، و ﴿الهاء﴾ حرف سكت لا محل لها من الإعراب، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعولين الثاني والثالث لـ ﴿أدرى﴾ معلقة عنها باسم الاستفهام، ﴿نَارٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي نارٌ ﴿حَامِيَةٌ﴾: صفة لـ ﴿نَارٌ﴾ والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره مستأنفة استئنافًا
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْقَارِعَةُ (١)﴾: القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها، من القرع وهو الضرب بشدة واعتماد، بحيث يحصل منه صوت شديد، ثم سميت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة والمراد بها هاهنا: القيامة كما مر. وفي "المختار": قرع من باب قطع، والقارعة الشديدة من شدائد الدهر، وهي الداهية، وفي "المصباح": وقرعت الباب قرعًا، بمعنى طرقته ونقرت عليه. ﴿كَالْفَرَاشِ﴾: وفي "القاموس": والفراشة - بفتح الفاء - الطير التي تتهافت في السراج، والجمع فراش، ومن القفل ما ينشب فيه، وكل عظم رقيق، والماء القليل، والرجل الخفيف، وقرية بين بغداد والحلة، وموضع بالبادية، وعلم، ودرب فراشة محلة ببغداد، والفراش كسحاب ما يبس بعد الماء من الطين على الأرض، ومن النبيذ: الحبب الذي يبقى عليه، وعرقان أخضران تحت اللسان، والحديدتان يربط بهما العلوان في اللجام، وبالكسر: ما يفرش، ويجمع على فُرُش، وزوجة الرجل، قيل ومنه: ﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤)﴾ وعش الطائر وموقع اللسان في قعر الفم، وقد خلط صاحب المنجد فمزج الفراشة والفراش في مادة واحدة، وجعل معاني الفراش الرجل الخفيف وإنما هو فراشة. ﴿الْمَبْثُوثِ﴾ المتفرق المنتشر، ويقال: بسط فلان خبره وبثه وبقه، إذا وسعه، قال.
وَبَسَطَ الْخَيْرَ لَنَا وَبَقَّهُ | فَالنَّاسُ طُرًّا يَأْكُلُوْنَ رِزْقَهَ |
﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦)﴾: وقد اختلف في الموازين هنا، فقيل: جمع موزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، وبه قال الفراء وغيره. وقيل: هي جمع ميزان وهو الآلة التي توضع فيها صحائف الأعمال، وعبر عنه بلفظ الجمع كما يقال لكل حادثة ميزان، وقيل: المراد بالموازين الحجج و"الدلائل" كما في قول الشاعر:
قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا مِرَّةٍ | عِنْدِيْ لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيْزَانُهُ |
وعبارة الخطيب: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩)﴾ أي: نار نازلة سافلة جدًّا فهو بحيث لا يزال يهوى فيها نازلًا فهو في عيشة ساخطة، فالآية من الاحتباك، ذكر العيشة أولًا دليلًا على حذفها ثانيًا وذكر الأم ثانيًا دليلًا على حذفها أولًا، والهاوية اسم من أسماء جهنم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
ومنها: الاستفهام التعجيبي في قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣)﴾ وقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (١٠)﴾ لغرض التفخيم.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿مَا الْقَارِعَةُ (٢)﴾ تأكيدًا للتهويل، والأصل أن يقال: القارعة ما هي؟.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤)﴾ وقوله: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)﴾ ففيهما تشبيهان رائعان، وهو تشبيه مرسل مجمل؛ لأن وجه الشبه حذف فيهما، ففي الأول وجوه الشبه كثيرة منها:
١ - الطيش الذي لحقهم.
٢ - وانتشارهم في الأرض.
٣ - وركوب بعضهم بعضًا.
٤ - الكثرة لا غناء فيها.
٥ - والضعف والتذلل وإجابة الداعي من كل جهة.
٦ - والتطاير إلى النار للاحتراق من حيث لا تريد الاحتراق.
وفي تشبيه الجبال بالعهن المنفوش أوجه كثيرة أيضًا، منها:
١ - تفتتها وانهيارها.
٢ - صيرورتها كالعهن.
٣ - ثم صيرورتها كالهباء.
وقد تشبث الشعراء بهذه المعاني، فقال جرير يهجو الفرزدق:
أَبْلِغْ بَنِيْ وَقْبَانَ أَنَّ حُلُوْمَهُمْ | خَفَّتْ فَمَا يَزِنُوْنَ حَبَّةَ خَرْدَلِ |
أَزْرَى بِحِلْمِكُمُ الْفِيَاشُ فَأَنْتُمُ | مِثْلُ الْفَرَاشِ غَشِيْنَ نَارَ الْمُصْطَلِيْ |
فَيَا لَيْتَ شِعْرِيْ هَلْ يَحِقُّ وَقَارُهُ | إِذَا صَارَ أَحْدٌ فِيْ الْقِيَامَةِ كَالْعِهْنِ |
وَهَلْ يَرِدُ الْحَوْضَ الرَّوِىَّ مُبَادِرًا | مَعَ النَّاسِ أَمْ يَأْبَى الزَّحَامَ فَيَسْتَأْنِيْ |
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧)﴾ ثم قابلها بقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (٨)﴾ وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ ففيه إسناد ما للشيء إلى محله؛ لأن الذي يرضى بها الذي يعيش فيها، ففيها إسناد مجازي علاقته المحلية نحو: نهاره صائم وليله قائم.
ومنها: الاحتباك في قوله: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧)﴾ وقوله: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩)﴾؛ وهو: أن يحذف من كل من المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر، فحذف هنا من الأول: فأمه الجنة، وذكر فيه ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧)﴾ وحذف من الثاني فهو في عيشة ساخطة، وذكر فيه فأمه هاوية فحذف من كل منهما نظير ما أثبته في الآخر، وهو من المحسنات البديعة.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩)﴾، أو لأنها تحيط به إحاطة رحم الأم بالولد، كما مر.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
* * *
سورة التكاثر مكية عند الجميع، نزلت بعد سورة الكوثر، وروى البخاري: أنها مدنية، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزل بمكة: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾.
المناسبة: مناسبتها لما قبلها (١): أنه في السابقة وصف القيامة وبعض أحوالها، وجزاء الأخيار والأشرار، وأن في هذه ذكر الجحيم وهي: الهاوية التي ذكرت في السورة السابقة، وذكر السؤال عما قدم المرء من الأعمال في الحياة الدنيا، وهذا بعض أحوال الآخرة.
وهي ثمان آيات، وثمان وعشرون كلمة، ومئة وعشرون حرفًا. وسميت بسورة التكاثر لذكر لفظ التكاثر فيها، وقال محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة التكاثر كلها محكمة، لا ناسخ فيها ولا منسوخ.
فضلها: ومما ورد في فضلها (٢): ما أخرجه الحاكم والبيهقي في "الشُّعَب" عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم" قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال: "أما يستطيع أحدكم أن يقرأ: ألهاكم التكاثر؟ " وأخرج الخطيب في "المتفق والمفترق" والديلمي عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ في ليلة ألف آية.. لقي الله وهو ضاحك في وجهه" قيل: يا رسول الله، ومن يقوى على ألف آية؟ فقرأ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ألهاكم التكاثر... إلى آخرها، ثم قال: والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ألف آية". ومنه ما أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم، عن عبد الله بن الشخير قال: وانتهيت إلى رسول الله حب وهو يقرأ ألهاكم التكاثر. وفي لفظ: وقد أنزلت عليه ألهاكم التكاثر، فقال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت؟ " وأخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - ولم يذكر فيه قراءة هذه السورة ولا نزولها -: "يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاثة:
(٢) الشوكاني.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *