ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾؛ أي: انشقت (١) لنزول الملائكة، كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥)﴾، أو لهيبة الرب جل جلاله، والانفطار كالفطر: الشق، يقال: فطرته فانفطر، ومنه: فطر ناب البعير إذا طلع، وفي "فتح الرحمن": تشققها على غير نظام مقصود إنما هو انشقاق لتزول بنيتها، وإعرابه كإعراب ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾.
٢ - ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ﴾، والنجوم ﴿انْتَثَرَتْ﴾؛ أي: تساقطت عن مواضعها سوداء متفرقة، كما تساقط اللآلىء إذا انقطع المسلك، وهذان من أشراط الساعة متعلقان بالعلويات، فإن السماء في هذا العالم كالسقف، والأرض كالبناء، ومن أراد تخريب دار فإنه يبدأ أولًا بتخريب السقف، وذلك هو قوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾، ثم يلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب.
٣ - ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣)﴾؛ أي: فجر وفتح بعضها إلى بعض بزوال المانع، وحصول تزلزل الأرض وتصدعها واستوائها، وصارت البحار - وهي سبعة: بحر الروم، وبحر الصقالبة، وبحر جرجان، وبحر القلزم، وبحر فارس، وبحر الصين، وبحر الهند - بحرًا واحدًا، فيصب ذلك البحر الواحد في جوف الحوت الذي عليه الأرضون السبع، كما في "كشف الأسرار". وروي: أن الأرض تنشف من الماء بعد امتلاء البحار، فتصير مستوية، وهو معنى التسجير عند الحسن البصري، ودخل في البحار: البحر المحيط؛ لأنه أصل الكل؛ إذ منه يتفرع الباقي، وكذا الأنهار العذبة، فإنها بحار أيضًا لتوسعها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فُجِّرَتْ﴾ بتشديد الجيم ومجاهد وربيع بن خيثم والزعفراني والثوري بتخفيفها، وتفجيرها من أعلاها، وتفيض على ما يليها، أو من أسفلها، فيذهب الله ماءها حيث أراد، وعن مجاهد: ﴿فجرت﴾ مبنيًا للفاعل مخففًا بمعنى: بغت لزوال البرزخ نظرًا إلى قوله تعالى: ﴿لَا يَبْغِيَانِ﴾؛ لأن البغي والفجر متقابلان.
(٢) البحر المحيط.
٤ - ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤)﴾؛ أي: قلب ترابها، وأخرج ما فيها من الموتى، ولا يخالف (١) ما هنا ما سيأتي في العاديات، فإن البعثرة تجيء بمعنى الاستخراج أيضًا؛ أي: كالقلب، يقال: بعثر يبعثر بعثرةً - من باب دحرج - إذا قلب التراب، ونظيره لفظًا ومعنى بحثر.. يقال: بعثرت المتاع وبحثرته؛ أي: جعلت أسفله أعلاه، وجعل أسفل القبور أعلاها إنما هو بإخراج موتاها، وبعثرت الحوض وبحثرته إذا هدمته، وجعلت أعلاه أسفله، قال الفراء: ﴿بُعْثِرَتْ﴾؛ أي: أخرج ما في بطنها من الذهب والفضة، وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها. اهـ.
وهذان من أشراط الساعة متعلقان بالسفليات، فإنه قال: بعد تخريب السماء والكواكب يخرب كل ما على وجه الأرض بنفوذ بعض البحار في بعض، ثم يخرب نفس الأرض التي هي كالبناء بأن يقلبها ظهرًا لبطن، وبطنًا لظهر.
٥ - ثم ذكر سبحانه جواب ما تقدم، فقال: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾؛ أي: كل نفس برة كانت أو فاجرة كما مر في السورة السابقة، وفي "فتح الرحمن": ﴿نَفْسٌ﴾ هنا: اسم جنس، وإفرادها ليبين لذهن السامع حقارتها وضعفه عن منفعة ذاتها إلا من رحم الله تعالى، ﴿مَا قَدَّمَتْ﴾ في حياتها من عمل خير أو شر، فإن ﴿ما﴾ من ألفاظ العموم ﴿و﴾ ما ﴿أَخَّرَتْ﴾ من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده، وفي الحديث: "أيما داعٍ دعا إلى الهدى فاتبع.. فله مثل أجر من تبعه إلا أنه لا ينقص من أجورهم شيء، وأيما داعٍ دعا إلى الضلالة، فاتبع.. فله مثل أوزار من اتبعه إلا أنه لا ينقص من أوزارهم شيء" وقال قتادة: ما قدمت من معصية، وأخرت من طاعة، وقيل: ما قدم من فرض، وما أخر من فرض، وقيل: أول عمله وآخره.
فقوله: ﴿عَلِمَتْ...﴾ إلخ جواب ﴿إذا﴾ كما مر؛ أي: إذا وقعت هذه الأشياء وخربت الدنيا علمت كل نفس إلخ، لكن لا على أنها تعلمه عند البعث، بل عند نشر الصحف لما عرفت في السورة السابقة من أن المراد بها زمان واحد مبدأه
والمعنى (٢): أي إذا انشقت السماء وتغير نظامها، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى عند خراب هذا العالم بأسره، وسقطت الكواكب والنجوم وتفرقت، وهذا يجيء تاليًا لما قبله، إذ متى انشقت السماء، وانتقض تركيبها، واختل نظامها.. انتشرت كواكبها، وفجرت البحار، وأزيل ما بينها من حواجز، فاختلط عذبها بملحها، وفاضت على سطح الأرض حينًا من الدهر؛ لاضطراب الأرض وزلزالها الشديد، ووقوع الخلل في جميع أجزائها، وبعثرت القبور، وقلب أسفلها أعلاها، وباطنها ظاهرها، ليخرج من فيها من الموتى أحياءً.. علم كل أحد ما قدم لنفسه من عمل، ولم يقصر فيه، وعلم ما أخره وتكاسل عن أدائه.
والخلاصة: أن هذا العالم تزول صفاته وتتبدل أحواله، فتكون الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾،
٦ - وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ يعم جميع (٣) العصاة، ولا خصوص له بالكفار؛ لوقوعه بين المجمل ومفصله؛ أي: بين ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ...﴾ إلخ، وبين ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ إلخ، وأما قوله: ﴿بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ فمن قبيل قولهم: بنو فلان قتلوا زيدًا، إذا كان القاتل واحدًا منهم. قال الإِمام السهيلي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ يريد أمية بن خلف، ولكن اللفظ عام يصلح له ولغيره. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، أو الأسد بن كلدة الجمحي، قصد النبي - ﷺ - في بطحاء مكة، فلم يتمكن منه، فلم يعاقبه الله على ذلك.
وفي "زهرة الرياض": ضرب على يافوخ النبي - ﷺ -، فأخذه رسول الله - ﷺ -،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أيّ شيء خدعك وجرأك على عصيانه، وأمنك من عقابه، وقد علمت ما بين يديك من الدواهي، وما سيكون حينئذٍ من مشاهدة أعمالك كلها؟ يقال: غره بفلان إذا جرأه عليه، وأمنه المحذور من جهته، مع أنه غير مأمون.
والتعرض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدار الاغترار حسبما يغويه الشيطان، ويقول له: افعل ما شئت، فإن ربك كريم، قد تفضل عليك في الدنيا، وسيفعل مثله في الآخرة، فإنه قياس عقيم، وتمنية باطلة، بل كرمه مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة، والاجتناب عن الكفر والعصيان، كأنه قيل: ما حملك على عصيان ربك الموصوف بالصفات الزاجرة عن الداعية، فظهر أن كرم الكريم لا يقتضي الاغترار به، بل هو يقتضي الخوف والحذر عن مخالفته وعصيانه، وإذا كان محض الكرم لا يقتضي الاغترار به، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر؟ ولله سبحانه الأسماء المتقابلة، ولذا قال: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾، وقيل للفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا بعثك الله يوم القيامة، وقال لك: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ...﴾ ماذا تقول؟ قال: أقول: غرني ستورك المرخاة، ونظمه ابن السماك فقال:
يَا كَاسِبَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحِيْ | وَاللَّهُ فِيْ الْخَلْوَةِ ثَانِيْكَا |
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ | وَسَتْرُهُ طُوْلَ مَسَاوِيْكَا |
(٢) روح البيان.
يَقُوْلُ مَوْلَايَ أَمَا تَسْتَحِيْ | مِمَّا أَرَى مِنْ سُوْءِ أَفْعَالِكَ |
فَقُلْتُ يَا مَوْلَايَ رِفْقًا فَقَدْ | أَفْسَدَنِيْ كَثْرَةُ إِفْضَالِكَ |
٧ - ﴿الَّذِي خَلَقَكَ﴾، أي: أوجدك وأنشأك من نطفة ولم تك شيئًا، فهو صفة (٢) ثانية مقررة للربوبية، مبينة للكرم؛ لأن الخلق إعطاء الوجود، وهو خير من العدم، منبهة على أن من قدر على الخلق وما يليه بدءًا.. قدر عليه إعادة؛ أي: خلقك بعد أن لم تكن شيئًا ﴿فَسَوَّاكَ﴾؛ أي: جعلك إنسانًا سويًا تامًا، تسمع وتبصر وتعقل، أو جعل أعضاءك سوية سليمة معدة لمنافعها؛ أي بحيث يترتب على كل عضو منها منفعته التي خلق ذلك العضو لأجلها، كالبطش لليد، والمشي للرجل، والتكلم للسان، والإبصار للبصر، والسمع للأذن إلى غير ذلك ﴿فَعَدَلَكَ﴾؛ أي: جعلك معتدلًا قائمًا حسن الصورة، أو عدل بعض تلك الأعضاء ببعض؛ أي: جعل بعضها معادلة مساوية للبعض الآخر، بحيث اعتدلت وتماثلت ولم تتفاوت، مثل أن تكون إحدى اليدين أو الرجلين والأذنين أطول من الأخرى، أو تكون إحدى العينين أوسع من الأخرى، أو بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، أو بعض الشعر فاحمًا وبعضه أشقر.
قال علماء التشريح: إنه تعالى ركب جانبي هذه الجثة على التساوي حتى إنه لا تفاوت بين نصفيه، لا في العظام، ولا في أشكالها، ولا في الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيها والحاجة منها، فكل ما في أحد الجانبين مساوٍ لما في الجانب الآخر. اهـ. ويقال: عدله عن الطريق؛ أي: صرفه، فيكون المعنى: فصرفك عن الخلقة المكروهة التي هى لسائر الحيوانات، وخلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق، كما قال تعالى: ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾.
(٢) روح البيان.
والمعنى (٢): أي يا أيها الإنسان العاقل الذي أوتي من قوة الفكر وبسطة القدرة ما أوتي حتى صار بذلك أفضل المخلوقات، أي شيء خدعك وجرأك على عصيان ربك الكريم الذي أنعم عليك بنعمة الوجود والعقل والتدبر، ولا تزال أياديه تتوالى عليك، ونعمه تترى لديك، ألا تشكر من برأك وصورك فأحسن صورتك، وجعلك معتدل القامة، تام الخلق؟
٨ - ثم أجمل ما فصله أولًا بقوله: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨)﴾، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿رَكَّبَكَ﴾ لا بـ ﴿عدلك﴾؛ لأن ﴿أَيِّ﴾ لها صدر الكلام، فلا يعمل فيها ما قبلها، و ﴿مَا﴾ زائدة لتعميم النكرة، و ﴿شَاءَ﴾ صفة لـ ﴿صُورَةٍ﴾، والرابط محذوف، وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها؛ لأنها بيان لـ ﴿عدلك﴾.
والمعنى: فعدلك، ركبك وألفك وجمعك في أيِّ صورة شاءها واقتضتها مشيئته وحكمته من الصور العجيبة الحسنة، أو من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه، كما في الحديث: "أن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم، وصورها في أي شبه شاء".
ويجوز أن يكون الجار متعلق بمحذوف من مفعول ﴿ركب﴾؛ أي: ركبك حاصلًا في أي صورة شاءها، وقال مقاتل والكلبي ومجاهد: في أيِّ شبه من أب أو أم أو خال أو عم. وقال مكحول: إن شاء ذكر، وان شاء أنثى. وقال (٣) بعض المتأولين: إنه يتعلق بقوله: ﴿فَعَدَلَكَ﴾، ولكنه معترض، كما مر آنفًا؛ أي: فعدلك
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
والمعنى (١): أي ركبك في صورة هي من أبهى الصورة وأجملها، وأدلها على بقائك الأبدي في نشأة أخرى بعد هذه النشأة، فإن الكريم يوفي كل مرتبة من الوجود حقها، فمن خص بهذا المنزلة الرفيعة.. لا ينبغي أن يعيش كما يعيش سائر الحيوان، ويموت كما يموت الوحش وصغار الذر، وإنما الذي يليق بعقله وقوة نفسه أن تكون له حياة أبدية لا حد لها. ولا فَتَأَ بعدها، يوفى فيها كل ذي حق خقه، وكل عامل جزاء عمله.
٩ - ﴿كَلَّا﴾: حرف ردع (٢) وزجر، فالوقف عليها؛ أي: ارتدعوا وانزجروا عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجبًا للشكر والطاعة، وقيل: توكيد لتحقيق ما بعده بمضى حقًا، فالوقف على ﴿رَكَّبَكَ﴾ كما رجحه السجاوندي، حيث وضع علامة الوقف المطلق على ﴿رَكَّبَكَ﴾، قال ابن الأنباري: الوقف الجيد ﴿بِالدِّينِ﴾، وعلى ﴿رَكَّبَكَ﴾ وعلى ﴿كَلَّا﴾ قبيح.
﴿بَلْ تُكَذِّبُونَ﴾ إضراب وعطف على جملة ينساق إليها الكلام، كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض: وأنتم لا ترتدعون عن ذلك، بل تجاوزونه وتجترئون على ما هو أعظم؛ حيث تكذبون بالدين؛ أي: بالبعث والجزاء رأسًا، فإنه يراد بالدين الجزاء والمكافأة، ومنه: الديان في صفة الله، أو تكذبون بدين الإِسلام الذي هما من جملة أحكامه، فلا تصدقون سؤالًا ولا جوابًا، ولا ثوابًا ولا عقابًا، و ﴿بَلْ﴾ لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره، وإنكار البعث قد كان معلومًا عندهم، وإن لم يجر له ذكر، قال الفراء: كلا ليس الأمر كما غررت به.
وقرأ الجمهور: ﴿بَلْ تُكَذِّبُونَ﴾ بالتاء خطابًا للكفار. وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو جعفر وأبو بشر بياء الغيبة.
(٢) روح البيان.
١٠ - وجملة قوله: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠)﴾ حال من فاعل ﴿تُكَذِّبُونَ﴾؛ أي: تكذبون بالجزاء، والحال أن عليكم أيها المكلفون من قبلنا ملائكة حافظين لأعمالكم، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان ما يبطل تكذيبهم، والحافظون: الرقباء من الملائكة الذين يحفظون على العباد أعمالهم، ويكتبونها في الصحف، وجمعهم باعتبار كثرة المخاطبين، أو باعتبار أن لكل واحد منهم جمعًا من الملائكة، كما قيل اثنان بالليل، واثنان بالنهار،
١١ - ثم وصفهم سبحانه بأنهم كانوا ﴿كِرَامًا﴾ جمع: كريم؛ أي: مكرمين لدينا بجبرهما في طاعتنا، أو بأداء الأمانة؛ إذ الكريم لا يكون خوانًا، وفي "فتح الرحمن": وصفهم بالكرم الذي هو نفي المذام. وقيل: معنى (١) ﴿كِرَامًا﴾: يسارعون إلى كتب الحسنات، ويتوقفون في كتب السيئات رجاء أن يستغفر ويتوب، فيكتبون الذنب والتوبة منه معًا ﴿كَاتِبِينَ﴾ لأقوالكم وأفعالكم صغيرها وكبيرها لتجازوا عليها
١٢ - ﴿يَعْلَمُونَ﴾ لحضورهم وعدم افتراقهم عنكم ﴿مَا تَفْعَلُونَ﴾ من الأفعال، وما تقولون من الأقوال قليلًا أو كثيرًا، ويضبطون نقيرًا وقطميرًا لتجازوا بذلك، وخص الفعل بالذكر؛ لأنه أكثر من القول، ولأن القول قد يراد به الفعل فاندرج فيه، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ في محل نصب على الحال من ضمير ﴿كَاتِبِينَ﴾ أو على النعت أو مستأنفة. وفي الحديث: "أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند الحالتين الجنابة والغائط".
قال في "عين المعاني" (٢): قوله: ﴿يَعْلَمُونَ﴾ يدل على أن السهو والخطأ وما لا تبعة فيه لا يكتب، وكذا ما استغفر منه حيث لم يقل يكتبون. انتهى.
وقوله ﴿مَا تَفْعَلُونَ﴾ وإن كان عامًا لأفعال القلوب والجوارح، لكنه عام مخصوص بأفعال الجوارح؛ لأن ما كان من المغيبات لا يعلمه إلا الله، وفي "كشف الأسرار": علمهم على وجهين: فما كان من ظاهر قول أو حركة جوارح، علموه بظاهره، وكتبوه على جهته، وما كان من باطن ضمير يقال: إنهم يجدون لصالحه رائحة طيبة، ولطالحه رائحة خبيثة، فيكتبونه مجملًا عملًا صالحًا، وآخر سيئًا. انتهى. وقد مر بيان هذا المقام في سورتي الزخرف، وق.
(٢) روح البيان.
ثم حذرهم من تماديهم في غيهم ببيان أن أعمالم محصاة عليهم، فقال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ...﴾ إلخ؛ أي: إن أعمالكم محصاة عليكم، فقد وكل بكم ملائكة حفظة كرام كاتبون يحصون كل ما تعملون من خير أو شر، وقد ذكر ذلك في غير موضع من الكتاب الكريم، كقوله: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)﴾ وقوله: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾، وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة، ولا أن نعرف من أي شيء خلقوا، وما عملهم، وكيف يحفظون الأعمال، وهل عندهم أوراق وأقلام، أو هناك ألواح ترسم فيها الأعمال، أو هم أرواح تتجلى فيها تلك الأعمال، فتبقى فيها بقاء المداد في القرطاس، كل ذلك لم نكلف العلم به، وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر، وتفويض الأمر في حقيقته إلى الله تعالى.
١٣ - ثم ذكر نتيجة الحفظ والكتابة من الثواب والعقاب، وبين أن العالمين في ذلك اليوم فريقان، وبين مآل كل منهما فقال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ الذين (٢) بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء الفرائض واجتناب المعاصي، جمع: بر بالفتح، وهو بمعنى الصادق والمطيع والمحسن، وأحسن الحسنات: لا إله إلا الله وما يتبعها، ثم بر الوالدين. وفي "فتح الرحمن": البر: هو الذي قد اطرد بره عمومًا، فبر ربه في طاعته إياه، وبر الناس في جلب ما استطاع من الخير لهم، وكير ذلك. ﴿لَفِي نَعِيمٍ﴾ عظيم، وهو نعيم الجنة وثوابها، والتنوين للتفخيم
١٤ - ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ﴾ الذين شقوا ستر الديانة، بالكفر والمعاصي، جمع: فاجر، من الفجور، وهو شق عصا الديانة ﴿لَفِي جَحِيمٍ﴾ أي لفي نار متأججة مسعرة وعذاب هائل، والتنوين للتويل، والجملتان مستأنفتان مسوقتان لبيان ما يكتبون لأجله، وهو أن الغاية؛ إما النعيم، وإما الجحيم، وهي قوله: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾،
١٥ - وجملة قوله: ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾؛ أي: يصلون الجحيم
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يصلونها﴾ مخففًا مبتيًا للفاعل، مضارع صلى الثلاثي، وقرأ ابن مقسم مشددًا مبنيًا للمفعول.
ومعنى الآيات: أي إن أهل الثواب - وهم الأبرار - يكونون في دار النعيم، وأن أهل العذاب - وهم الفجار - يكونون في دار الجحيم، دار العذاب الأليم، يقاسون أهوالها.
١٦ - ثم بين أن هذا العذاب حتم لا منجاة لهم منه ولا مرب، فقال: ﴿وَمَا هُمْ﴾؛ أي: وما الفجار ﴿عَنْهَا﴾؛ أي: عن الجحيم ﴿بِغَائِبِينَ﴾ طرفة عين؛ أي: إنهم لا يغيبون عنها، ولا ينفكون عن عذابها، بل هم ملازمون لها، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾ فالمراد: دوام نفي الغيبة، لا نفي دوام الغيبة، وقيل: وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية، بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما قال النبي - ﷺ -: "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار".
١٧ - ثم عاد إلى تفخيم ذلك اليوم وتهويل أمره، فقال: ﴿مَا أَدْرَاكَ﴾ وأعلمك، الخطاب لكل من يتأتى منه الدراية، وقال الكلبي: الخطاب للإنسان الكافر، وقيل: للنبي - ﷺ -، والمعنى: أي شيء أعلمك به لو لم نعرفك أحواله، و ﴿مَا﴾: مبتدأ، و ﴿أَدْرَاكَ﴾ خبره ﴿مَا﴾ خبر قوله: ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ و ﴿ما﴾ لطلب الوصف، وإن كان وضعه لطلب الحقيقة، والمعنى (٣): أيُّ شيء جعلك داريًا وعالمًا ما يوم الدين؟
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
والمعنى (١): أي إن أمرك أيها الإنسان لعجيب، فأنت لاهٍ عن هذا اليوم غير مبال به، وقد كنت خليقًا أن تتعرف حقيقة حاله لتأخذ لنفسك الحيطة، وتتدبر أمرك، ولا تركن إلى عفو ربك وكرمه وصفحه، فإنك لا تدري ما قدر لك،
١٨ - ثم زاده توكيدًا وتعظيمًا، فقال: ﴿ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨)﴾ كرر بـ ﴿ثُمَّ﴾ (٢) المفيدة للترقي في التوبة للتأكيد وزيادة التخويف والتهويل لأمره، كما في قوله تعالى: ﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣)﴾ وقوله: ﴿الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣)﴾، والمجموع تعجيب للمخاطبين، وتفخيم لشأن اليوم.
وإظهار ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ في في مقام الإضمار تأكيد لهوله وفخامته.
والمعنى (٣): أي ثم عجيب منك أن تتهاون بنبأ هذا اليوم، كأنك قد أدركت كنهه، وعرفت وجه الخلاص مما يلقاك فيه من الأهوال، ولو عرفته حق معرفته.. للانت قناتك، ورجعت إلى ربك تائبًا، وعدت إليه مستغفرًا طالبًا الصفح عما قدمت يداك.
١٩ - ثم بين حقيقة أمره فقال: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾ بيان إجمال (٤) لشأن يوم الدين إثر إبهامه، وبيان خروج عن دائرة علوم الخلق بطريق إنجاز الوعد، فإن نفي إدرائهم مشعر بالوعد الكريم بالأدراء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما في القران من قوله تعالى: ﴿مَا أَدْرَاكَ﴾ فقد أدراه، وكل ما فيه من قوله: ﴿وَمَا يدرِيَكَ﴾ فقد طوى عنه. و ﴿يَوْمُ﴾: مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وحركته الفتح لإضافته إلى غير متمكن، كأنه قيل: هو يوم لا تملك فيه نفس من النفوس لنفس من النفوس شيئًا من الأشياء أو منصوب بإضمار: اذكر، كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه - ﷺ - إلى معرفته: اذكر يوم لا تملك إلخ، فإنه يدريك ما هو،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
﴿وَالْأَمْرُ﴾ كله ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ لا تملك نفس لنفس شيئًا ﴿لِلَّهِ﴾ وحده، لا يملك (١) شيئًا من الأمر غيره تعالى كائنًا ما كان. قال مقاتل: يعني لنفس كافرة شيئًا من المنفعة. وقال قتادة: ليس ثم أحد يقضي أو يصنع شيئًا إلا الله رب العالمين.
والمعنى: أن الله تعالى لا يملك أحدًا في ذلك اليوم شيئًا من الأمور، كما ملكهم في الدنيا، ومثل هذا قوله: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار﴾ والأمر (٢) واحد الأوامر، فإن الأمر والحكم والقضاء من شأن الملك المطاع، والخلق كلهم مقهورون تحت سطوات الربوبية وحكمها، ويجوز أن يكون واحد الأمور، فإن أمور أهل المحشر كلها بيده تعالى لا يتصرف غيره.
أخبر تعالى بضعف الناس يومئذٍ، وأنه لا ينفعهم الأموال والأولاد والأعوان والشفعاء، كما في الدنيا، بل ينفعهم الإيمان والبر والطاعة، وأنه لا يقدر أحد أن يتكلم إلا بإذن الله وأمره؛ إذ الأمر له في الدنيا والآخرة في الحقيقة وإن كان يظهر سلطانه في الاخرة بالنسبة إلى المحجوب لأن المحجوب يرى أن الله ملكه في الدنيا وجعل له شيئًا من الأمور والأوامر، فإذا كان يوم القيامة يظهر له أن الأمر والملك لله تعالى لا يزاحمه فيه أحد ولا يشاركه ولو صورة، وفيه تهديد لأرباب الدعاوي وأصحاب المخالفة، وتنبيه على عظيم بطشه تعالى وسطوته.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو (٣): ﴿يومُ لا تملك﴾ - برفع الميم - على أنه بدل من ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ كما قاله الزمخشري، أو خبر مبتدأ محذوف، وقرأ محبوب عن أبي عمرو: ﴿يوم﴾ بالقطع عن الإضافة والتنوين والتنكير، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو يوم، و ﴿لَا تَمْلِكُ﴾: جملة في موضع الصفة، والعائد محذوف؛ أي: لا تملك فيه، وقرأ زيد بن علي والحسن وأبو جعفر وشيبه والأعرج وباقي السبعة: ﴿يَوْمَ﴾ بالفتح على الظرف، فعند البصريين
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
وحكي أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة المنوّرة وهو يريد مكة، فقال لأبي حازم: كيف القدوم عليه غدًا؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم من سفره على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه.
الإعراب
﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥)﴾.
﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه. ﴿السَّمَاءُ﴾: فاعل لفعل محذوف يدل عليه المذكور تقديره: إذا انفطرت السماء انفطرت، والجملة المحذوفة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط له، والظرف متعلق بالجواب الآتي، وهو ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾، وجملة ﴿إذا﴾ الشرطية مستأنفة استئنافًا نحويًا، وجملة ﴿انْفَطَرَتْ﴾ جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، ومثلها قوله: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢)﴾ تقديره: وإذا انتثرت، والجملة معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ الأولى، ومثلها أيضًا قوله: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤)﴾، ولكن ﴿البحار﴾ و ﴿الْقُبُورُ﴾ نائب فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور تقديره: وإذا فجرت البحار فجرت، وإذا بعثرت القبور بعثرت. ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جواب شرط غير جازم ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿عَلِمَتْ﴾؛ لأن العلم هنا عرفانية، وجملة ﴿قَدَّمَتْ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما قدمته، وجملة ﴿وَأَخَّرَتْ﴾ معطوفة على جملة ﴿قَدَّمَتْ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨)﴾.
﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢)﴾.
﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر، ﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب على جملة محذوفة يدل عليها السياق تقديرها: وأنتم لا ترتدعون عن ذلك، بل تكذبون بالدين ﴿تُكَذِّبُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿بِالدِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿تُكَذِّبُونَ﴾، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾ حالية أو استئنافية، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾ ﴿لَحَافِظِينَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿حافظين﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر، أو صفة لاسمها؛ أي: إن ملائكة حافظين، والجملة في محل النصب حال من الواو في ﴿تُكَذِّبُونَ﴾، أو مستأنفة مسوقة لإخبارهم بذلك ليرتدعوا عما هم عليه ﴿كِرَامًا﴾: صفة أولى لـ ﴿حافظين﴾ و ﴿كَاتِبِينَ﴾: صفة ثانية له،
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (١٦)﴾.
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَفِي﴾: ﴿اللام﴾. حرف ابتداء ﴿في نعيم﴾. جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدر تقديره: لم يكتبون ذلك، فكأنه قيل: ليجازى الأبرار بالنعيم، والفجار بالجحيم، ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ﴾: ناصب واسمه ﴿لَفِي جَحِيمٍ﴾: خبرها، والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور في قوله: ﴿لَفِي جَحِيمٍ﴾، ويجوز أن تكون جملة ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾ مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدر تقديره: وماذا يؤول إليه أمرهم في الجحيم. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿مَا﴾: حجازية ﴿هُمْ﴾: اسمها ﴿عَنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿غائبين﴾ ﴿بِغَائِبِينَ﴾: خبرها، و ﴿الباء﴾: زائدة، والجملة في محل النصب حال من فاعل، ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾، أو مستأنفة.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿وَمَا﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿أَدْرَاكَ﴾: خبره، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿أدرى﴾ فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿مَا﴾، و ﴿الكاف﴾: مفعول أول، ﴿مَا﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ معناه التهويل والتعظيم ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾: خبره، والجملة المعلقة بالاستفهام سدت مسد المفعول الثاني لـ ﴿أَدْرَاكَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿مَا﴾: مبتدأ، و ﴿أَدْرَاكَ﴾: خبره والجملة معطوفة على ما قبلها، ﴿مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ جملة سدت مسد المفعول الثاني ﴿يَوْمَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو إلخ، أو بدل من ﴿يَوْمَ﴾، أو منصوب على الظرفية بفعل محذوف تقديره: يجازون يوم لا تملك، أو باذكر محذوفًا. وجملة {لَا
التصريف ومفردات اللغة
﴿انْفَطَرَتْ﴾؛ أي: انشقت لنزول الملائكة، انفعل من فطر، وكذلك ﴿انْتَثَرَتْ﴾؛ أي: تساقطت متفرقة، افتعل من نثر، وهو التفريق.
﴿فُجِّرَتْ﴾؛ أي: فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من الحواجز، واختلط عذبها بملحها من التفجير، والتضعيف للمبالغة.
﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤)﴾؛ أي: قلب ترابها الذي حثي على موتاها وأزيل، وأخرج من دفن فيها، ونظيره: بحثر لفظًا ومعنى، يقال: بعثرت المتاع وبحثرته؛ أي: جعلت أسفله أعلاه، وجعل أسفل القبور أعلاها إنما هو بإخراج موتاها، وقيل لسورة براءة: المبعثرة؛ لأنها بعثرت أسرار المنافقين، وهما - أي: بعثر وبحثر - مركبان من البعث والبحث مع راء ضمت إليهما، وقال الراغب: من رأى تركيب الرباعي والخماسي، نحو هلل وبسمل إذا قال: لا إله إلا الله، وبسم الله، يقول: إن بعثر مركب من بعث وأثير؛ أي: قلب ترابها وأثير ما فيه، وهذا لا يبعد في هذا الحرف، فإن البعثرة تتضمن معنى بعث وأثير، وقال أبو الجراح: بحثر الشيء وبعثره؛ أي: استخرجه وكشفه، وقال الفراء: بحثر متاعه وبعثره: فرقه وقلب بعضه على بعض.
﴿مَا قَدَّمَتْ﴾؛ أي: من أعمال الخير ﴿وَأَخَّرَتْ﴾؛ أي: منها بالكسل والتسويف ﴿مَا غَرَّكَ﴾؛ أي: أيُّ شيء خدعك وجرأك على العصيان ﴿الْكَرِيمِ﴾؛ أي: العلي العظيم، وقيل: الكريم من يبادر بالنوال قبل السؤال.
﴿فَسَوَّاكَ﴾؛ أي: جعل أعضاءك سوية تامة الخلق سليمة معدة لمنافعها، وأصله: سويك بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿فَعَدَلَكَ﴾؛ أي: جعلك معتدلًا متناسب الخلق ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨)﴾؛
﴿كَلَّا﴾ كلمة تفيد نفي شيء قد تقدم وتحقيق غيره.
﴿بَلْ تُكَذِّبُونَ﴾ قال الراغب: ﴿بَلْ﴾ هنا لتصحيح الثاني، وإبطال الأول، كأنه قيل: ليس هنا ما يقتضي أن يغوهم به تعالى شيء، ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه. ﴿بِالدِّينِ﴾؛ أي: الجزاء.
﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠)﴾؛ أي: على أعمالكم بحيث لا يخفى عليهم منها جليل ولا حقير.
﴿كِرَامًا﴾ على الله ﴿كَاتِبِينَ﴾ لهذه الأعمال في الصحف كما تكتب الشهود منكم العهود؛ ليقع الجزاء على غاية التحرير.
تنبيه: هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلا أن الأمة أجمعت على عموم هذا الخطاب في حق المكلفين.
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ جمع: بر بفتح الباء، وهو من يفعل البر بكسرها، ويتقي الله في كل أفعاله.
﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ﴾ جمع: فاجر، وهو التارك لما شرعه الله تعالى وحدَّه لعباده.
﴿يصلونها﴾؛ أي: يقاسون حرها، أصله: يصليونها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين.
﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾؛ أي: يوم الجزاء، وهو يوم القيامة.
﴿وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (١٦)﴾ أصله: غايبين، جمع: غائب من غاب يغيب، أبدلت الياء في الوصف همزة حملًا له على الفعل في الإعلال لما قلبت ياؤه - غ ي ب - ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾؛ أي: ما أعلمك وعرفك، أصله: أدريك بوزن أفعل، قلبت ألياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢)﴾؛ حبث شبه الكواكب بجواهر انقطع سلكها، فتناثرت متفرقة، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له شيء من لوازمه، وهو الانتثار على طريقة الاستعارة المكنية.
ومنها: إفراد ﴿نَفْسٌ﴾ وتنكيرها في قوله: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ للدلالة على حقارتها وضعفها عن منفعة ذاتها إلا من رحم الله تعالى.
ومنها: الطباق بين ﴿قَدَّمَتْ﴾ و ﴿أَخَّرَتْ﴾، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: الاستفهام للاستهجان والتوبيخ في قوله: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾.
ومنها: التعرض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدار الاغترار حسبما يغوبه الشيطان، ويقول له: افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا، وسيفعل مثله في الآخرة، فإنه قياس عقيم، بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة، والاجتناب عن الكفر والعصيان.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين الأبرار والفجار في قوله: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤)﴾ فقد قابل الأبرار بالفجار، والنعيم بالجحيم.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿لَفِي نَعِيمٍ﴾ للتفخيم والتعظيم، وقوله: ﴿لَفِي جَحِيمٍ﴾ للتهويل والتخويف.
ومنها: الإطناب بإعادة الجملة في قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨)﴾ لتعظيم هول ذلك اليوم وبيان شدته؛ كأنه فوق الوصف والخيال.
ومنها: إظهار ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ في موضع الإضمار إظهارًا لفخامته، وتأكيدًا لهوله.
ومنها: الوصل في قوله: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤)﴾ لما فيه من مقتضيات الوصل، وهو اتفاق الجملتين في الخبرية والإنشائية مع الاتصال؛ أي: الجامع بينهما، وهو هنا التضادُّ.
وَأَفْعَالُنَا لِلْرَّاغِبِيْنَ كَرِيْمَةٌ | وَأَمْوَالُنَا لِلْطَّالِبِيْنَ نِهَابُ |
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
* * *
اشتملت هذه السورة على ما يلي:
١ - وصف بعض أهوال يوم القيامة.
٢ - تقصير الإنسان في مقابلة الإحسان بالشكر.
٣ - بيان أن أعمال الإنسان بها موكلون كرام كاتبون.
٤ - بيان أن الناس في هذا اليوم العظيم إما بررة منعمون، وإما فجرة معذبون (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة المطففين، وتسمى سورة التطفيف، نزلت بعد سورة العنكبوت بين مكة والمدينة في مهاجرته - ﷺ -، فاستتمت بالمدينة، قال القرطبي: وهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة، وقال مقاتل أيضًا: هي أول سورة نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس وقتادة: هي مدنية إلا ثمان آيات، من قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ إلى آخرها، وقال (١) الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة، وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة المطففين بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: آخر ما نزل بمكة سورة المطففين، وقيل: فيها آية مكية وهي قوله تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا...﴾ إلخ، وأخرج ابن مردويه والبيهقي في "الشعب" قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما قدم النبي - ﷺ - المدينة.. كانوا من أخبث الناس كيلًا، فأنزل الله تعالى؛ ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١)﴾، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وهي (٢) ست وثلاثون آية ومئة وتسع وتسعون كلمةً وسبع مئة وثمانون حرفًا، وقال ابن حزم: وكلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وسميت سورة التطفيف أخذًا من المطففين.
ومناسبتها لما قبلها (٣): أنه سبحانه قال فيما قبلها: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠)﴾، وذكر هنا ما يكتبه الحافظون بقوله: ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩)﴾ يجعل في عليين أو في سجين، فقد فصل سبحانه في هذه السورة ما أجمله في سابقتها، فذكر فيها نوعًا من أنواع الفجور، وهو التطفيف في المكيال والميزان، ثم ذكر نوعًا آخر، وهو التكذيب بيوم
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
قال الألوسي في "تفسيره": والمناسبة بينها وبين ما قبلها: أنه سبحانه لما ذكر فيما قبل السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأنه.. ذكر عزّ وجلّ هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة، وذكره سبحانه بأخس ما يقع من المعصية، وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئًا في تثمير المال وتنميته، مع اشتمال هذه السورة على شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة التفصيل، كما لا يخفى.
وكأن هذه السورة جاءت شرحًا وتفصيلًا للسورة السابقة، وهي سورة الانفطار، وبيانًا له، فسبحان الذي جعل هذا القرآن هدى للناس، وشفاء لما في الصدور، ورحمة للعالمين، وضياء للأبصار، ونورًا للقلوب، ونظامًا للحكم، ومنهاجًا للأخلاق، ودستورًا للعالمين عصمةً لمن تمسك به، ونجاةً لمن اهتدى به.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (٣٢) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾.المناسبة
قد مر لك قريبًا في بيان المناسبة بين السورتين أن الله سبحانه فصل (١) في هذه السورة ما أجمله في سابقتها، فذكر فيها نوعًا من أنواع الفجور، وهو التطفيف في المكيال والميزان، ثم ذكر نوعًا آخر، وهو التكذيب بيوم الدين، ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب وتوبيخهم عليه.
قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنه لا يقيم على التطفيف إلا من ينكر ما أوعده الله به من العرض والحساب، وعذاب الكفار والعصاة.. أمرهم بالكف عما هم
قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) أنهم قالوا: إن القرآن أساطيرُ الأولين، وليس وحيًّا من عند الله تعالى.. أردف ذلك ببيان أن الذي جرأهم على ذلك هي أفعالهم القبيحة التي مرنوا عليها، فعميت عليهم وجوه الآراء حتى صاروا لا يميزون بين الأسطورة والحجة الدامغة، ثم رد عليهم فرية كانوا يقولونها ويكثرون من تردادها، وهي: إن كان ما يحدث به محمد صحيحًا.. فنحن سنكون في منزلة الكرامة عند ربنا، فأبان لهم أنهم كاذبون، فإنهم سيطردون من رحمته ولا ينالون رضاه، ثم يؤمر بهم إلى النار فيدخلونها ويصلون سعيرها، ويقال لهم: هذا العذاب جزاء ما كنتم به تكذبون مما أوعدكم به الرسول.
قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال الفجار وحال المطففين، وبيَّن منزلتهم عند الله يوم القيامة.. أتبعه بذكر حال الأبرار الذين آمنوا بربهم، وصدقوا رسولهم فيما جاء به عن خالقهم، وعملوا الخير في الحياة الدنيا، فذكر أن الله قد أحصى أعمالهم في كتاب مرقوم اسمه: عليون، يشهده المقربون من الملائكة، وبعدئذٍ عدد ما ينالون من الجزاء على البر والإحسان، وفي ذلك ترغيب في الطاعة، وحفز لعزائم المحسنين ليزدادوا إحسانًا، ويدعوا الطرق المشتبهة الملتبسة، ويقيموا على الطريق المستقيم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر النعيم الذي هيأه للذين آمنوا به وبرسوله، وعملوا بما كلفهم به من أعمال البر، وأرشد إلى ما أعده للفجار جزاء ما اجترحوا من السيئات.. أخذ يبين ما كان الكفار يقابلون به