تفسير سورة الفاتحة

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
سورة الفاتحة
قال ابن عباس، وموسى بن جعفر عن أبيه، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبو العالية، ومحمد بن يحيى بن حبان( ١ ) : إنها مكية، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر ﴿ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ﴾ [ الحجر : ٨٧ ] والحجر مكية بإجماع. ( ٢ )
وفي حديث أُبَيّ بن كعب أنها السبع المثاني، والسبع الطُّول( ٣ ) نزلت بعد الحجر بمدد، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير " الحمد لله رب العالمين ".
وروي عن عطاء بن يسار، وسوادة بن زياد، والزهري محمد بن مسلم، وعبد الله بن عبيد بن عمير( ٤ ) أن سورة الحمد مدنية.
وأما أسماؤها فلا خلاف أنها يقال لها فاتحة الكتاب، لأن موضعها يعطي ذلك.
واختلف هل يقال لها أم الكتاب، فكره الحسن بن أبي الحسن ذلك وقال :«أم الكتاب الحلال والحرام ». قال الله تعالى :﴿ آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ﴾( ٥ ) [ آل عمران : ٧ ].
وقال ابن عباس وغيره :«يقال لها أم الكتاب ».
وقال البخاري : سميت أم الكتاب لأنها يبدأ بكتابتها في المصحف وبقراءتها في الصلاة.
وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة( ٦ ) رضي الله عنه.
واختلف هل يقال لها أم القرآن ؟ فكره ذلك ابن سيرين وجوزه جمهور العلماء. قال يحيى بن يعمر :«أم القرى مكة، وأم خراسان مرو، وأم القرآن سورة الحمد ». وقال الحسن بن أبي الحسن : اسمها أم القرآن.
وأما المثاني فقيل سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة. وقيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخراً لها.
وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب «إنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها »( ٧ ) ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن( ٨ )، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون تفضيلاً من الله تعالى لا يعلل، وكذلك يجيء عدل ﴿ قل هو الله أحد ﴾ [ الإخلاص : ١ ] وعدل ﴿ زلزلت ﴾ [ الزلزلة : ١ ]. وغيرها. ( ٩ )
وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ل " لحمد لله رب العالمين " فضل ثلاثين حسنة على سائر الكلام ». وورد حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من قال لا إله إلا الله كتبت له عشرون حسنة، ومن قال " الحمد لله رب العالمين " كتبت له ثلاثون حسنة »( ١٠ )
وهذا الحديث هو في الذي يقولها من المؤمنين مؤتجراً طالب ثواب، لأن قوله :﴿ الحمد لله ﴾ في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قول :﴿ لا إله إلا الله ﴾ توحيد فقط. فأما إذا أُخِذَ بموضعهما من شرع الملة ومَحَلِّهِما مِنْ دَفْعِ( ١١ ) الكفر والإشراك فلا إله إلا الله أفضل، والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :«أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله »( ١٢ )
١ - بالباء هو ابن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني، أبو عبد الله المدني توفي سنة١٢١هـ..
٢ - ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (٨٧) من سورة الحجر..
٣ - أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني..
٤ - هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر..
٥ - من الآية رقم (٧) من سورة آل عمران..
٦ - رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا..
٧ - رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى..
٨ - رواه عبد الله بن حميد في مسنده، والفريابي في تفسيره عن ابن عباس بسند ضعيف..
٩ - من الناس من يذهب إلى أن هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. وحديث :(قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري، والترمذي، وروى الترمذي عن أنس وابن عباس قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن). ومن الناس من يؤول ذلك باعتبار المعاني التي تشتمل عليها، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذين القولين، ويشير بذلك إلى أنه لا تفاضل بين كلام الله لأنه صفة ذاتية، وإنما التفاضل في المعاني باعتبار الأجر والثواب. والله أعلم..
١٠ - رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة) ومن تمام الحديث كما في الجامع الصغير: (وحط عنه ثلاثون خطيئة)..
١١ - في بعض النسخ (رفْع) بالراء..
١٢ - رواه أصحاب الكتب الستة، وفيه زيادة: (وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، والحاكم أيضا حديث الترمذي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) فجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء..
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة (١) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
(القول في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم)
روي عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه أنه قال: «البسملة تيجان السور».
وروي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: تعس الشيطان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذلك، فإنه يتعاظم عنده، ولكن قل: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإنه يصغر حتى يصير أقل من ذباب».
وقال علي بن الحسين رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الإسراء: ٤٦] قال: «معناه إذا قلت: «بسم الله الرحمن الرحيم».
وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال له: «كيف تفتتح الصلاة يا جابر؟
قلت: بالحمد لله رب العالمين. قال: قل: بسم الله الرحمن الرحيم»
.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: «أتاني جبريل فعلمني الصلاة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يجهر بها».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذان الحديثان يقتضيان أنها آية من الحمد، ويرد ذلك حديث أبي بن كعب الصحيح إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك ألا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها»، قال: فجعلت أبطىء في المشي رجاء ذلك، فقال لي: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: فقرأت الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها.
ويرده الحديث الصحيح بقوله عز وجل: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، يقول العبد الحمد لله رب العالمين».
ويرده أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أبي بكر، ولا عن عمر، ولا عثمان، رضي الله عنهم أنهم قرؤوا في صلاتهم: «بسم الله الرحمن الرحيم».
ويرده عدد آيات السورة لأن الإجماع أنها سبع آيات، إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست آيات، وهذا شاذ لا يعول عليه وكذلك روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: ٥] آية، فهي على عده ثماني آيات، وهذا أيضا شاذ. وقول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: ٨٧] هو الفصل في
60
ذلك. والشافعي- رحمه الله- يعد «بسم الله الرحمن الرحيم» آية من الحمد، وكثير من قراء مكة والكوفة لا يعدون أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: ٧]. ومالك- رحمه الله-، وأبو حنيفة، وجمهور الفقهاء، والقراء، لا يعدون البسملة آية. والذي يحتمله عندي حديث جابر، وأبي هريرة- إذا صحّا- أن النبي ﷺ رأى قراءة جابر وحكايته أمر الصلاة قراءة في غير صلاة على جهة التعلم فأمره بالبسملة لهذا لا لأنها آية. وكذلك في حديث أبي هريرة رآها قراءة تعليم، ولم يفعل ذلك مع أبيّ لأنها قصد تخصيص السورة ووسمها من الفضل بما لها، فلم يدخل معها ما ليس منها، وليس هذا القصد في حديث جابر وأبي هريرة، والله أعلم.
وقال ابن المبارك: «إن البسملة آية في كل سورة»، وهذا قول شاذ رد الناس عليه. وروى الشعبي والأعمش أن رسول الله ﷺ كان يكتب «باسمك اللهم»، حتى أمر أن يكتب «بسم الله» فكتبها. فلما نزلت قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: ١١٠] كتب: «بسم الله الرحمن». فلما نزلت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: ٣٠] كتبها.
وروى عمرو بن شرحبيل: أن جبريل أول ما جاء النبي عليه السلام قال له: قل: «بسم الله الرحمن الرحيم».
وروي عن ابن عباس: أن أول ما نزل به جبريل: «بسم الله الرحمن الرحيم». وفي بعض طرق حديث خديجة وحملها رسول الله ﷺ إلى ورقة، أن جبريل قال للنبي عليهما السلام:
قل: «بسم الله الرحمن الرحيم» فقالها: فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ... الحديث.
والبسملة تسعة عشر حرفا. فقال بعض الناس: إن رواية بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: ٣٠] إنما ترتب عددهم على حروف بسم الله الرحمن الرحيم، لكل حرف ملك، وهم يقولون في كل أفعالهم: «بسم الله الرحمن الرحيم» فمن هنالك هي قوتهم، وباسم الله استضلعوا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذه من ملح التفسير، وليست من متين العلم، وهي نظير قولهم في ليلة القدر: «إنها ليلة سبع وعشرين»، مراعاة للفظة هي في كلمات سورة إِنَّا أَنْزَلْناهُ [القدر: ١] ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: «ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه»، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، قالوا: فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول». والباء في: بسم الله متعلقة عند نحاة البصرة باسم تقديره ابتداء مستقر أو ثابت بسم الله وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره ابتدأت بسم الله، فبسم الله في موضع رفع على مذهب البصريين، وفي موضع نصب على مذهب الكوفيين، كذا أطلق القول قوم، والظاهر من مذهب سيبويه أن الباء متعلقة باسم كما تقدم، وبسم الله في موضع نصب تعلقا بثابت أو مستقر بمنزلة: في الدار من قولك زيد في الدار، وكسرت باء الجر ليناسب لفظها عملها، أو لكونها لا تدخل إلا على الأسماء فخصت بالخفض الذي
61
لا يكون إلا في الأسماء، أو ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما نحو الكاف في قول الأعشى:
[البسيط].
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط كالطّعن يذهب فيه الزيت والفتل
وحذفت الألف من بسم الله في الخط اختصارا وتخفيفا لكثرة الاستعمال. واختلف النحاة إذا كتب «باسم الرحمن وباسم القاهر» فقال الكسائي وسعيد الأخفش: «يحذف الألف». وقال يحيى بن زياد: «لا تحذف إلا مع بسم الله فقط، لأن الاستعمال إنما كثر فيه».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فأما في غير اسم الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف.
واسم أصله سمو بكسر السين أو سمو بضمها، وهو عند البصريين مشتق من السمو. يقال: سما يسمو، فعلى هذا تضم السين في قولك سمو ويقال: سمي يسمى فعلى هذا تكسر، وحذفت الواو من سمو، وكسرت السين من سم، كما قال الشاعر: [الرجز].
باسم الذي في كلّ سورة سمه وسكنت السين من بسم اعتلالا على غير قياس، وإنما استدل على هذا الأصل الذي ذكرناه بقولهم في التصغير سمّي، وفي الجمع أسماء، وفي جمع الجمع أسامي.
وقال الكوفيون: أصل اسم وسم من السمة، وهي العلامة. لأن الاسم علامة لمن وضع له، وحذفت فاؤه اعتلالا على غير قياس، والتصغير والجمع المذكوران يردان هذا المذهب الكوفي. وأما المعنى فيه فجيد لولا ما يلزمهم من أن يقال في التصغير وسيم، وفي الجمع أوسام، لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. وقد ذكر بعض المفسرين في هذا الموضع الاسم والمسمى هل هما واحد؟
وقال الطبري رحمه الله: إنه ليس بموضع للمسألة، وأنحى في خطبته على المتكلمين في هذه المسألة ونحوها، ولكن بحسب ما قد تدوول القول فيها، فلنقل إن الاسم كزيد وأسد وفرس قد يرد في الكلام ويراد به الذات، كقولك زيد قائم والأسد شجاع، وقد يراد به التسمية ذاتها، كقولك أسد ثلاثة أحرف، ففي الأول يقال الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى وفي الثاني لا يراد به المسمى. ومن الورود الأول قولك يا رحمن اغفر لي، وقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: ١] ومن الورود الثاني قولك: الرحمن وصف لله تعالى. وأما اسم الذي هو ألف وسين وميم، فقد يجري في لغة العرب مجرى الذات. يقال: ذات، ونفس، واسم، وعين، بمعنى. وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: ١] وقوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: ٧٨]. وقوله تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ [يوسف: ٤٠].
وعضدوا ذلك بقول لبيد: [الطويل].
62
وقالوا: إن لبيدا أراد التحية، وقد يجري «اسم» في اللغة مجرى ذات العبارة، وهو الأكثر من استعمالها، فمنه قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: ٣١] على أشهر التأويلات فيه. ومنه قول النبي عليه السلام: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة»، وعلى هذا النحو استعمل النحويون الاسم في تصريف أقوالهم فالذي يتنخل من هذا: أن الأسماء قد تجيء يراد بها ذوات المسميات، وفي هذا يقال الاسم هو المسمى، وقد تجيء يراد بها ذواتها نفسها لا مسمياتها. ومر بي أن مالكا رحمه الله سئل عن الاسم أهو المسمى؟ فقال: «ليس به ولا هو غيره»، يريد دائما في كل موضع، وهذا موافق لما قلناه، والمكتوبة التي لفظها الله أبهر أسماء الله تعالى وأكثرها استعمالا، وهو المتقدم لسائرها في الأغلب، وإنما تجيء الأخر أوصافا، واختلف الناس في اشتقاقه، فقالت فرقة من أهل العلم:
«هو اسم مرتجل، لا اشتقاق له من فعل، وإنما هو اسم موضوع له تبارك وتعالى، والألف واللام لازمة له لا لتعريف ولا لغيره، بل هكذا وضع الاسم». وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه مشتق من أله الرجل إذا عبد، وتأله إذا تنسك. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج: [الرجز]
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
لله در الغانيات المدّه سبّحن واسترجعن من تألّهي
ومن ذلك قول الله تعالى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: ١٢٧] على هذه القراءة فإن ابن عباس وغيره قال: وعبادتك، قالوا: فاسم الله مشتق من هذا الفعل، لأنه الذي يألهه كل خلق ويعبده، حكاه النقاش في صدر سورة آل عمران فإلاه فعال من هذا.
واختلف كيف تعلل إله حتى جاء الله، فقيل: حذفت الهمزة حذفا على غير قياس ودخلت الألف واللام للتعظيم على لاه، وقيل بل دخلتا على اله ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام فجاء اللاه ثم أدغمت اللام في اللام. وقيل إن أصل الكلمة لاه، وعليه دخلت الألف واللام، والأول أقوى.
وروي عن الخليل أن أصل إله ولاه وأن الهمزة مبدلة من واو كما هي في إشاح ووشاح وإسادة ووسادة، وقيل إن أصل الكلمة ولاه كما قال الخليل إلا أنها مأخوذة من وله الرجل إذا تحير، لأنه- تعالى- تتحير الألباب في حقائق صفاته، والفكر في المعرفة به، وحذفت الألف الأخيرة من «الله» لئلا يشكل بخط اللات، وقيل طرحت تخفيفا، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط ومنها قول الشاعر ابن الأعرابي: [الرجز]
أقبل سيل جاء من أمر الله يحرد حرد الجنّة المغلّة
والرحمن صفة مبالغة من الرحمة، ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان، وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر، وهي أبلغ من فعيل، وفعيل أبلغ من فاعل، لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك، والرحمن النهاية في الرحمة. وقال بعض الناس: «الرحمن الرحيم» بمعنى واحد، كالندمان والنديم، وزعم أنهما من فعل واحد، ولكن أحدهما أبلغ من الآخر. وأما المفسرون فعبروا عن «الرحمن الرحيم» بعبارات، فمنها أن العرزمي قال:
«معناه: الرحمن بجميع خلقه في الأمطار، ونعم الحواس، والنعم العامة، الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم» ومنها أن أبا سعيد الخدري وابن مسعود رويا: أن رسول الله ﷺ قال:
63
«الرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة».
وقال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين كما قال تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: ٤٣] وهذه كلها أقوال تتعاضد. وقال عطاء الخراساني: «كان الرحمن فلما اختزل وسمي به مسيلمة الكذاب قال الله- سبحانه- لنفسه: «الرحمن الرحيم» فهذا الاقتران بين الصفتين ليس لأحد إلا لله تعالى» وهذا قول ضعيف، لأن بسم الله الرحمن الرحيم كان قبل أن ينجم أمر مسيلمة. وأيضا فتسمي مسيلمة بهذا لم يكن مما تأصل وثبت. وقال قوم: إن العرب كانت لا تعرف لفظة الرحمن، ولا كانت في لغتها، واستدلوا على ذلك بقول العرب: «وما الرحمن؟
أنسجد لما تأمرنا»
وهذا القول ضعيف، وإنما وقفت العرب على تعيين الإله الذي أمروا بالسجود له، لا على نفس اللفظة.
واختلف في وصل الرحيم بالحمد، فروي عن أم سلمة عن النبي ﷺ الرحيم الحمد تسكن الميم ويوقف عليها ويبتدأ بألف مقطوعة، وقرأ به قوم من الكوفيين، وقرأ جمهور الناس الرحيم الحمد يعرب الرحيم بالخفض، وتوصل الألف من الحمد، ومن شاء أن يقدر أنه أسكن الميم ثم لما وصل حركها للالتقاء ولم يعتد بألف الوصل فذلك سائغ، والأول أخصر.
وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف كأنها سكنت الميم وقطعت الألف، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت، ولم ترو هذه قراءة عن أحد فيما علمت، وهذا هو نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى: الم اللَّهُ.
64
بسم الله الرّحمن الرّحيم قال ابن عباس، وموسى بن جعفر عن أبيه، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبو العالية، ومحمد بن يحيى بن حبان: إنها مكية، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: ٨٧] والحجر مكية بإجماع. وفي حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني، والسبع الطّول نزلت بعد الحجر بمدد، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير الحمد لله رب العالمين.
وروي عن عطاء بن يسار، وسوادة بن زياد، والزهري محمد بن مسلم، وعبد الله بن عبيد بن عمير أن سورة الحمد مدنية.
وأما أسماؤها فلا خلاف أنها يقال لها فاتحة الكتاب، لأن موضعها يعطي ذلك، واختلف هل يقال لها أم الكتاب، فكره الحسن بن أبي الحسن ذلك وقال: «أم الكتاب والحلال والحرام». قال الله تعالى: آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: ٧].
وقال ابن عباس وغيره: «يقال لها أم الكتاب».
وقال البخاري: سميت أم الكتاب لأنها يبدأ بكتابتها في المصحف وبقراءتها في الصلاة، وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، واختلف هل يقال لها أم القرآن؟ فكره ذلك ابن سيرين وجوزه جمهور العلماء.
قال يحيى بن يعمر: «أم القرى مكة، وأم خراسان مرو، وأم القرآن سورة الحمد».
وقال الحسن بن أبي الحسن: اسمها أم القرآن. وأما المثاني فقيل سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة وقيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها.
65
وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله ﷺ في حديث أبي بن كعب «إنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها». ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل، وكذلك يجيء عدل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: ١] وعدل زُلْزِلَتِ [الزلزلة: ١].
وروى أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: «الحمد لله رب العالمين فضل ثلاثين حسنة على سائر الكلام». وورد حديث آخر أن النبي ﷺ قال: «من قال لا إله إلا الله كتبت له عشرون حسنة، ومن قال الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة».
وهذا الحديث هو في الذي يقولها من المؤمنين مؤتجرا طالب ثواب، لأن قوله الحمد لله في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قول لا إله إلا الله توحيد فقط. فأما إذا أخذا بموضعهما من شرع الملة ومحلهما من رفع الكفر والإشراك فلا إله إلا الله أفضل، والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله».
الْحَمْدُ معناه الثناء الكامل، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر، وشكره حمد ما، والحمد المجرد هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئا، فالحامد من الناس قسمان: الشاكر والمثني بالصفات.
وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد، وذلك غير مرضي.
وحكي عن بعض الناس أنه قال: «الشكر ثناء على الله بأفعاله وأنعامه، والحمد ثناء بأوصافه».
قال القاضي أبو محمد: وهذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك الحمد لله شكرا. وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه. لأن قولك شكرا إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم. وأجمع السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمد لله».
وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج «الحمد لله» بفتح الدال وهذا على إضمار فعل.
وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي: «الحمد لله»، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني.
وروي عن ابن أبي عبلة: «الحمد لله»، بضم الدال واللام، على اتباع الثاني والأول.
قال الطبري: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه، فكأنه قال:
«قولوا الحمد لله» وعلى هذا يجيء «قولوا إياك» قال: وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر:
66
المعنى المحفور له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، وهذا كثير.
وقرأت طائفة «ربّ» بالنصب.
فقال بعضهم: «هو نصب على المدح».
وقال بعضهم: «هو على النداء، وعليه يجيء إِيَّاكَ.
والرب في اللغة: المعبود، والسيد المالك، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها، والملك، - تأتي اللفظة لهذه المعاني-.
فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر [غاوي بن عبد العزى] :
وأعلم أنني سأكون رمسا إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم فقال القائلون لهم وزير
أربّ يبول الثعلبان برأسه لقد هان من بالت عليه الثّعالب
ومما جاء بمعنى السيد المالك قولهم: رب العبيد والمماليك.
ومما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد:
وأهلكن يوما ربّ كندة وابنه وربّ معدّ بين خبت وعرعر
ومما جاء بمعنى الملك قوله النابغة:
تخبّ إلى النعمان حتّى تناله فدى لك من ربّ طريفي وتالدي
ومن معنى الإصلاح قولهم: أديم مربوب، أي مصلح، قال الشاعر الفرزدق: [البسيط].
كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت سلاءها في أديم غير مربوب
ومن معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين: «لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن»
.
ومنه قول ابن عباس في شأن عبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان: «وإن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم». ذكره البخاري في تفسير سورة براءة. ومن ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة: [الطويل].
وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي ومن قبل ربتني فضعت ربوب
وهذه الاستعمالات قد تتداخل، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى.
والْعالَمِينَ جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، يقال لجملته عالم، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم، وبحسب ذلك يجمع على العالمين، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجاج. وقد تقدم القول في «الرحمن الرحيم».
67
واختلف القراء في قوله تعالى: ملك يوم الدين.
فقرأ عاصم والكسائي «مالك يوم الدين».
قال الفارسي: «وكذلك قرأها قتادة والأعمش».
قال مكي: «وروى الزهري أن رسول الله ﷺ قرأها كذلك بالألف، وكذلك قرأها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وطلحة، والزبير، رضي الله عنهم».
وقرأ بقية السبعة «ملك يوم الدين»، وأبو عمرو منهم يسكن اللام فيقرأ «ملك يوم الدين». هذه رواية عبد الوارث عنه.
وروي عن نافع إشباع الكسرة من الكاف في ملك فيقرأ «ملكي» وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي.
وقرأ أبو حيوة «ملك» بفتح الكاف وكسر اللام.
وقرأ ابن السميفع، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وأبو صالح السمان، وأبو عبد الملك الشامي «مالك» بفتح الكاف. وهذان على النداء ليكون ذلك توطئة لقوله إِيَّاكَ.
ورد الطبري على هذا وقال: «إن معنى السورة: قولوا الحمد لله، وعلى ذلك يجيء إِيَّاكَ واهْدِنَا.
وذكر أيضا أن من فصيح كلام العرب الخروج من الغيبة إلى الخطاب، وبالعكس، كقول أبي كبير الهذلي: [الكامل].
يا ويح نفسي كان جلدة خالد وبياض وجهك للتراب الأعفر
وكما قال لبيد: [البسيط].
قامت تشكّى إليّ النفس مجهشة وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
وكقول الله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: ٢٢].
وقرأ يحيى بن يعمر والحسن بن أبي الحسن، وعلي بن أبي طالب «ملك يوم الدين» على أنه فعل ماض.
وقرأ أبو هريرة «مليك» بالياء وكسر الكاف.
قال أبو علي: ولم يمل أحد من القراء ألف «مالك»، وذلك جائز، إلا أنه لا يقرأ بما يجوز، إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض، و «الملك» و «الملك» بضم الميم وكسرها وما تصرف منهما راجع كله إلى ملك بمعنى شد وضبط، ثم يختص كل تصريف من اللفظة بنوع من المعنى، يدلك على الأصل في ملك قول الشاعر قيس بن الخطيم: [الطويل] :
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها
68
وهذا يصف طعنة فأراد شددت، ومن ذلك قول أوس بن حجر: [الطويل].
فملّك بالليط تحت قشرها كغرقىء بيض كنّه القيض من عل
أراد شدد، وهذا يصف صانع قوس ترك من قشرها ما يحفظ قلب القوس، والذي مفعول وليس بصفة لليط، ومن ذلك قولهم: إملاك المرأة وإملاك فلان إنما هو ربط النكاح، كما قالوا: عقدة النكاح، إذ النكاح موضع شد وربط، فالمالك للشيء شادّ عليه ضابط له، وكذلك الملك، واحتج من قرأ «ملك» بأن لفظة «ملك» أعم من لفظة «مالك»، إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا. والملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك. وتتابع المفسرون على سرد هذه الحجة وهي عندي غير لازمة، لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك وفيه الملك. فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة ثم نقدر لها رجلا يملكها أجمع أو رجلا هو ملكها فقط إنما يملك التدبير والاحكام، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفا وأعظم، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها، كما لكل أحد في ملكه، ثم عنده زيادة التملك، وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد، فهو مالكه وملكه، والقراءتان حسنتان.
وحكى أبو علي في حجة من قرأ «مالك يوم الدين» أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم وأنه قد يدخل في المالك ما لا يدخل في الملك فيقال مالك الدنانير، والدراهم، والطير، والبهائم، ولا يقال ملكها، ومالك في صفة الله تعالى يعم ملك أعيان الأشياء وملك الحكم فيها، وقد قال الله تعالى:
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: ٢٦].
قال أبو بكر: «الأخبار الواردة تبطل أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم بل القراءة بذلك أوسع ولعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ في ذلك العصر أو البلد ونحوه».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي الترمذي أن النبي ﷺ وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قرؤوا «ملك يوم الدين» بغير ألف، وفيه أيضا أنهم قرؤوا «مالك يوم الدين» بألف.
قال أبو بكر: والاختيار عندي «ملك يوم الدين» لأن «الملك» و «الملك» يجمعهما معنى واحد وهو الشد والرّبط كما قالوا ملكت العجين أي شددته إلى غير ذلك من الأمثلة، والملك أفخم وأدخل في المدح، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم، لا ملك لغيره.
قال: والوجه لمن قرأ «مالك» أن يقول: إن المعنى أن الله تعالى يملك ذلك اليوم أن يأتي به كما يملك سائر الأيام لكن خصّصه بالذكر لعظمه في جمعه وحوادثه.
قال أبو الحسن الأخفش: «يقال «ملك» بين الملك، بضم الميم، ومالك بين «الملك» و «الملك» بفتح الميم وكسرها، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى، وروى بعض البغداديين لي في هذا الوادي «ملك» و «ملك» و «ملك» بمعنى واحد».
69
قال أبو علي: «حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة ب «ملك» أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله (رب العالمين) فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير».
قال أبو علي ولا حجة في هذا، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدم العام ثم ذكر الخاص، كقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: ٢٤] ف الْخالِقُ يعم وذكر الْمُصَوِّرُ لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة، وكما قال تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: ٤] بعد قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: ٣] والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الجاحدين لها، وكما قال تعالى: «الرحمن الرحيم» فذكر الرحمن الذي هو عام، وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: ٤٣].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وأيضا: فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله:
[الطويل] (ومن قبل ربتني فضعت ربوب) وغير ذلك من الشواهد، فتنعكس الحجة على من قرأ «مالك يوم الدين» والجر في «ملك» أو «مالك» على كلتا القراءتين هو على الصفة للاسم المجرور قبله، والصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح، والإضافة إلى يَوْمِ الدِّينِ في كلتا القراءتين من باب يا سارق الليلة أهل الدار، اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحد، وليس هذا كإضافة قوله تعالى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف: ٨٥]، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة، أي إنه يعلم الساعة وحقيقتها، فليس أمرها على ما الكفار عليه من إنكارها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأما على المعنى الذي قاله ابن السراج من أن معنى «مالك يوم الدين» أنه يملك مجيئه ووقوعه، فإن الإضافة إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة، لأن اليوم على قوله مفعول به على الحقيقة، وليس ظرفا اتسع فيه.
قال أبو علي: ومن قرأ «مالك يوم الدين» فأضاف اسم الفاعل إلى الظرف المتسع فيه فإنه حذف المفعول من الكلام للدلالة عليه تقديره مالك يوم الدين الاحكام، ومثل هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥] فنصب الشَّهْرَ على أنه ظرف والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر، ولو كان الشهر مفعولا للزم الصوم للمسافر، لأن شهادته للشهر كشهادة المقيم، وشهد يتعدى إلى مفعول يدل على ذلك قول الشاعر: [الطويل].
ويوما شهدناه سليما وعامرا والدين لفظ يجيء في كلام العرب على أنحاء، منها الملة. قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: ١٩] إلى كثير من الشواهد في هذا المعنى، وسمي حظ الرجل منها في أقواله وأعماله واعتقاداته دينا، فيقال فلان حسن الدين، ومنه قول النبي ﷺ في رؤياه في قميص
70
عمر الذي رآه يجره: «قيل: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين» وقال علي بن أبي طالب: «محبة العلماء دين يدان به». ومن أنحاء اللفظة الدين بمعنى العادة. فمنه قول العرب في الريح: «عادت هيف لأديانها».
ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] كدينك من أمّ الحويرث قبلها ومنه قول الشاعر: [المثقب العبدي] [الوافر] :
أهذا دينه أبدا وديني إلى غير ذلك من الشواهد، يقال دين ودينة أي عادة، ومن أنحاء اللفظة: الدين سيرة الملك وملكته، ومنه قول زهير: [البسيط].
لئن حللت بجوّ في بني أسد... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
أراد في موضع طاعة عمرو وسيرته، وهذه الأنحاء الثلاثة لا يفسر بها قوله ملك يوم الدين. ومن أنحاء اللفظة الدين الجزاء، فمن ذلك قول الفند الزماني: [شهل بن شيبان] [الهزج].
ولم يبق سوى العدوا... ن دنّاهم كما دانوا
أي جازيناهم. ومنه قول كعب بن جعيل: [المتقارب].
إذا ما رمونا رميناهم... ودناهم مثل ما يقرضونا
ومنه قول الآخر:
واعلم يقينا أنّ ملكك زائل... واعلم بأنّ كما تدين تدان
وهذا النحو من المعنى هو الذي يصلح لتفسير قوله تعالى: ملك يوم الدين أي يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وقتادة وغيرهم.
قال أبو علي: يدل على ذلك قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غافر: ١٧]، والْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: ٢٨]. وحكى أهل اللغة: دنته بفعله دينا بفتح الدال ودينا بكسرها جزيته، وقيل الدين المصدر والدين بكسر الاسم.
وقال مجاهد: ملك يوم الدين أي يوم الحساب، مدينين محاسبين وهذا عندي يرجع إلى معنى الجزاء. ومن أنحاء اللفظة الدين الذل، والمدين العبد، والمدينة الأمة، ومنه قول الأخطل:
ربت وربا في حجرها ابن مدينة... تراه على مسحاته يتركّل
أي ابن أمة، وقيل بل أراد ابن مدينة من المدن، الميم أصيلة، ونسبه إليها كما يقال ابن ماء وغيره.
وهذا البيت في صفة كرمة فأراد أن أهل المدن أعلم بفلاحة الكرم من أهل بادية العرب. ومن أنحاء اللفظة الدين السياسة، والديان السائس، ومنه قول ذي الأصبع الحدثان بن الحارث: [البسيط].
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب... يوما ولا أنت دياني فتخزوني
71
ومن أنحاء اللفظة الدين الحال.
قال النضر بن شميل: «سألت أعرابيا عن شيء فقال لي لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك». ومن أنحاء اللفظة الدين الداء، عن اللحياني وأنشد: [البسيط] ما دين قلبك من سلمى وقد دينا قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أما هذا الشاهد فقد يتأول على غير هذا النحو، فلم يبق إلا قول اللحياني.
وقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ.
نطق المؤمن به إقرار بالربوبية وتذلل وتحقيق لعبادة الله، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك، وقدم المفعول على الفعل اهتماما، وشأن العرب تقديم الأهم.
ويذكر أن أعرابيا سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له السابّ: «إياك أعني» فقال الآخر:
«وعنك أعرض» فقدّما الأهم.
وقرأ الفضل الرقاشي: «أياك» بفتح الهمزة، وهي لغة مشهورة وقرأ عمرو بن فائد: «إياك» بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذاك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها، وهذا كتخفيف «رب» و «إن» وقرأ أبو السوار الغنوي: «هيّاك نعبد وهيّاك نستعين» بالهاء، وهي لغة. واختلف النحويون في إِيَّاكَ فقال الخليل: إيّا اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف، وحكي عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وايا الشواب. وقال المبرد: إيّا اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، وحكى ابن كيسان عن بعض الكوفيين أنّ إِيَّاكَ بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكاف والهاء والياء هي الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها ولا تكون إلا متصلات، فإذا تقدمت الأفعال جعل «إيّا» عمادا لها. فيقال «إياك» و «إياه» و «إيّاي»، وإذا تأخرت اتصلت بالأفعال واستغني عن «ايا». وحكي عن بعضهم أن أيا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب، وزيدت الكاف والياء والهاء تفرقة بين المخاطب والغائب والمتكلم، ولا موضع لها من الإعراب فهي كالكاف في ذلك وفي أرايتك زيدا ما فعل.
ونَعْبُدُ معناه نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة، والطريق المذلل يقال له معبد، وكذلك البعير. وقال طرفة: [الطويل].
تباري عتاق الناجيات وأتبعت وظيفا وظيفا فوق مور معبد
وتكررت إِيَّاكَ بحسب اختلاف الفعلين، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام.
ونَسْتَعِينُ معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبرؤ من الأصنام. وقرأ الأعمش وابن وثاب والنخعي: «ونستعين» بكسر النون، وهي لغة لبعض قريش في النون والتاء والهمزة ولا يقولونها في ياء الغائب وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو فيما يأتي من الثلاثي على فعل يفعل
72
بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل نحو علم وشرب، وكذلك فيما جاء معتل العين نحو خال يخال، فإنهم يقولون تخال وأخال.
ونَسْتَعِينُ أصله نستعون نقلت حركة الواو إلى العين وقلبت ياء لانكسار ما قبلها، والمصدر استعانة أصله استعوانا نقلت حركة الواو إلى العين فلما انفتح ما قبلها وهي في نية الحركة انقلبت ألفا، فوجب حذف أحد الألفين الساكنين، فقيل حذفت الأولى لأن الثانية مجلوبة لمعنى، فهي أولى بالبقاء، وقيل حذفت الثانية لأن الأولى أصلية فهي أولى بالبقاء، ثم لزمت الهاء عوضا من المحذوف، وقوله تعالى:
اهْدِنَا رغبة لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغة الأمر كلها، فإذا كانت من الأعلى فهي أمر، والهداية في اللغة الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد، وكلها إذا تؤملت رجعت إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: ٥] وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: ٢٥] وقوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص:
٥٦] وقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: ١٢٥].
قال أبو المعالي: فهذه آية لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء، من ذلك قوله تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: ٧] أي داع وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢] وهذا أيضا يبين فيه الإرشاد، لأنه ابتداء إرشاد، أجاب المدعو أو لم يجب، وقد جاء الهدى بمعنى الإلهام، من ذلك قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥].
قال المفسرون: معناه «ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها». وهذا أيضا بين فيه معنى الإرشاد، وقد جاء الهدى بمعنى البيان، من ذلك قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: ١٧].
قال المفسرون: «معناه بينا لهم». قال أبو المعالي: معناه دعوناهم ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [الليل: ١٢] أي علينا أن نبين، وفي هذا كله معنى الإرشاد.
قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد:
٥] ومنه قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٢٣] معناه فاسلكوهم إليها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضد الضلال وهي الواقعة في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ على صحيح التأويل، وذلك بين من لفظ الصِّراطَ، والهدى لفظ مؤنث، وقال اللحياني: «هو مذكر» قال ابن سيده: «والهدى اسم من أسماء النهار» قال ابن مقبل: [البسيط].
73
والصِّراطَ في اللغة الطريق الواضح فمن ذلك قول جرير: [الوافر].
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
ومنه قول الآخر: فصد عن نهج الصراط الواضح.
وحكى النقاش: «الصراط الطريق بلغة الروم».
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف جدا. واختلف القراء في الصِّراطَ فقرأ ابن كثير وجماعة من العلماء: «السراط» بالسين، وهذا هو أصل اللفظة.
قال الفارسي: «ورويت عن ابن كثير بالصاد». وقرأ باقي السبعة غير حمزة بصاد خالصة وهذا بدل السين بالصاد لتناسبها مع الطاء في الاطباق فيحسنان في السمع، وحكاها سيبويه لغة.
قال أبو علي: روي عن أبي عمرو السين والصاد، والمضارعة بين الصاد والزاي، رواه عنه العريان بن أبي سفيان. وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة.
قال بعض اللغويين: «ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زايا، ولم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا».
قال القاضي أبو محمد: وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد. وقرأ حمزة بين الصاد والزاي. وروي أيضا عنه أنه إنما يلتزم ذلك في المعرفة دون النكرة.
قال ابن مجاهد: «وهذه القراءة تكلف حرف بين حرفين، وذلك أصعب على اللسان، وليس بحرف يبنى عليه الكلام ولا هو من حروف المعجم، ولست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب، إلا أن الصاد أفصح وأوسع».
وقرأ الحسن والضحاك: «اهدنا صراطا مستقيما» دون تعريف وقرأ جعفر بن محمد الصادق: «اهدنا صراط المستقيم» بالإضافة وقرأ ثابت البناني: «بصرنا الصراط». واختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له الصِّراطَ في هذا الموضع وما المراد به، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ هنا القرآن» وقال جابر: «هو الإسلام» يعني الحنيفية. وقال: سعته ما بين السماء والأرض. وقال محمد بن الحنفية: «هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره» وقال أبو العالية: «هو رسول الله ﷺ وصاحباه أبو بكر وعمر». وذكر ذلك للحسن بن أبي الحسن، فقال: صدق أبو العالية ونصح.
قال القاضي أبو محمد: ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة إنما هي في أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام، وهو حال رسول الله ﷺ وصاحبيه، وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون وعندهم المعتقدات وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قولهم اهْدِنَا فيما هو حاصل عندهم طلب التثبيت والدوام، وفيما ليس بحاصل إما من جهة الجهل به أو التقصير في المحافظة عليه طلب الإرشاد إليه. وأقول إن كل داع به فإنما يريد الصِّراطَ بكماله في أقواله وأفعاله ومعتقداته، فيحسن على هذا أن يدعو في الصراط على الكمال من عنده بعضه ولا يتجه أن يراد ب اهْدِنَا في
74
هذه الآية اخلق الإيمان في قلوبنا، لأنها هداية مقيدة إلى صراط ولا أن يراد بها ادعنا، وسائر وجوه الهداية يتجه، والصِّراطَ نصب على المفعول الثاني، والْمُسْتَقِيمَ الذي لا عوج فيه ولا انحراف، والمراد أنه استقام على الحق وإلى غاية الفلاح، ودخول الجنة، وإعلال مستقيم أن أصله مستقوم نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وصراط الذين بدل من الأول.
وقرأ عمر بن الخطاب، وابن الزبير: «صراط من أنعمت عليهم».
والَّذِينَ جمع الذي، وأصله «لذ»، حذفت منه الياء للتنوين كما تحذف من عم، وقاض، فلما دخلته الألف واللام ثبتت الياء. و «الذي» اسم مبهم ناقص محتاج إلى صلة وعائد، وهو مبني في إفراده وجمعه معرب في تثنيته. ومن العرب من يعرب جمعه، فيقول في الرفع اللذون، وكتب الذي بلام واحدة في الإفراد والجمع تخفيفا لكثرة الاستعمال، واختلف الناس في المشار إليهم بأنه أنعم عليهم.
فقال ابن عباس وجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً، وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: ٦٦- ٦٩] فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد.
وقال ابن عباس أيضا: «المنعم عليهم هم المؤمنون».
وقال الحسن بن أبي الحسن: «المنعم عليهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم».
وحكى مكي وغيره عن فرقة من المفسرين أن المنعم عليهم مؤمنو بني إسرائيل، بدليل قوله تعالى:
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: ٤٠، ٤٧، ١٢٢].
وقال ابن عباس: «المنعم عليهم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا».
قال القاضي أبو محمد: وهذا والذي قبله سواء.
وقال قتادة بن دعامة: «المنعم عليهم الأنبياء خاصة».
وحكى مكي عن أبي العالية أنه قال: «المنعم عليهم محمد ﷺ وأبو بكر وعمر».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد تقدم ما حكاه عنه الطبري من أنه فسر الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بذلك، وعلى ما حكى مكي ينتقض الأول ويكون الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ طريق محمد ﷺ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وهذا أقوى في المعنى، لأن تسمية أشخاصهم طريقا تجوز، واختلف القراء في الهاء من عَلَيْهِمْ، فقرأ حمزة «عليهم» بضم الهاء وإسكان الميم، وكذلك لديهم وإليهم. قرأ الباقون في جميعها بكسر الهاء واختلفوا في الميم.
فروي عن نافع التخيير بين ضمها وسكونها. وروي عنه أنه كان لا يعيب ضم الميم، فدل ذلك على أن قراءته كانت بالإسكان.
75
وكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقرأ «عليهم وو قلوبهمو وسمعهمو وأبصارهمو».
وقرأ ورش الهاء مكسورة والميم موقوفة، إلا أن تلقى الميم ألفا أصلية فيلحق في اللفظ واوا مثل قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة: ٦].
وكان أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، والكسائي، يكسرون، ويسكنون الميم، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا فكان عاصم، وابن كثير، ونافع يمضون على كسر الهاء وضم الميم، مثل قوله تعالى:
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: ٦١، آل عمران: ١١٢] ومِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ [القصص: ٢٣] وما أشبه ذلك، وكان أبو عمرو يكسر الهاء والميم فيقول: عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وإِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: ١٤] وما أشبه ذلك.
وكان الكسائي يضم الهاء والميم معا، فيقرأ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ومِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ.
قال أبو بكر أحمد بن موسى: وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضم، فإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلا الضم والتسكين في مثل قوله تعالى: منكم وأنتم.
قال القاضي أبو محمد: وحكى صاحب الدلائل قال: «قرأ بعضهم عليهم وبواو وضمتين، وبعضهم بضمتين وألغى الواو، وبعضهم بكسرتين وألحق الياء، وبعضهم بكسرتين وألغى الياء، وبعضهم بكسر الهاء وضم الميم».
قال: «وذلك مروي عن الأئمة ورؤساء اللغة».
قال ابن جني: «حكى أحمد بن موسى عليهم وو عليهم بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، وعليهم بسكون الميم».
وقرأ الحسن وعمرو بن فائد «عليهمي».
وقرىء «عليهم» بكسر الميم دون إشباع إلى الياء.
وقرأ الأعرج: «عليهم» بكسر الياء وضم الميم من غير إشباع.
وهذه القراءات كلها بضم الهاء إلا الأخيرة وبإزاء كل واحدة منها قراءة بكسر الهاء فيجيء في الجميع عشر قراءات.
وقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
اختلف القراء في الراء من غير، فقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بخفض الراء، وقرأ ابن كثير بالنصب، وروي عنه الخفض.
قال أبو علي: «الخفض على ضربين: على البدل، من الَّذِينَ، أو على الصفة للنكرة، كما تقول مررت برجل غيرك، وإنما وقع هنا صفة ل الَّذِينَ لأن الَّذِينَ هنا ليس بمقصود قصدهم، فالكلام بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه».
76
قال: «والنصب في الراء على ضربين: على الحال كأنك قلت أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم، أو على الاستثناء كأنك قلت إلا المغضوب عليهم، ويجوز النصب على أعني». وحكي نحو هذا عن الخليل.
ومما يحتج به لمن ينصب أن غَيْرِ نكرة فكره أن يوصف بها المعرفة، والاختيار الذي لا خفاء به الكسر. وقد روي عن ابن كثير، فأولى القولين ما لم يخرج عن إجماع قراء الأمصار.
قال أبو بكر بن السراج: «والذي عندي أن غَيْرِ في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة، وهذا شيء فيه نظر ولبس، فليفهم عني ما أقول: اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت غير ومثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء سوى المخاطب فهو غيره، وكذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة، فإنما صارا نكرتين من أجل المعنى فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته، ونفي ضده، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة، وذلك كقولك عليك بالحركة غير السكون، وكذلك قولك غير المغضوب لأن من أنعم عليه لا يعاقبه إلا من غضب عليه، ومن لم يغضب عليه فهو الذي أنعم عليه، فمتى كانت غير على هذه الصفة وقصد بها هذا المقصد فهي معرفة».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أبقى أبو بكر الَّذِينَ على حد التعريف، وجوز نعتها ب غَيْرِ لما بينه من تعرف غير في هذا الموضع، وغير أبي بكر وقف مع تنكر غير، وذهب إلى تقريب الَّذِينَ من النكرة إذ هو اسم شائع لا يختص به معين، وعلى هذا جوز نعتها بالنكرة، والْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ اليهود، والضالون النصارى. وهكذا قال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد، وروي ذلك عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بين من كتاب الله تعالى، لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه كقوله: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة: ٦١، آل عمران: ١١٢]، وكقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة: ٦٠] فهؤلاء اليهود، بدلالة قوله تعالى بعده: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة: ٦٥] والغضب عليهم هو من الله تعالى، وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره عليهم محنا وعقوبات وذلة ونحو ذلك، مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعدا مؤكدا مبالغا فيه، والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فلما ورد ضلوا، وأما غير محققيهم فضلالهم متقرر منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام. وقد قال الله تعالى فيهم:
وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: ٧٧].
قال مكي رحمه الله حكاية: دخلت لَا في قوله وَلَا الضَّالِّينَ لئلا يتوهم أن الضَّالِّينَ عطف على الَّذِينَ.
قال: «وقيل هي مؤكدة بمعنى غير».
وحكى الطبري أن لَا زائدة، وقال: هي هنا على نحو ما هي عليه في قول الراجز:
فما ألوم البيض ألا تسخرا- أراد أن تسخر- وفي قول الأحوص: [الطويل]
77
ويلحينني في اللهو أن لا أحبّه وللهو داع دائب غير غافل
وقال الطبري: يريد: ويلحينني في اللهو أن أحبه».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وبيت الأحوص إنما معناه إرادة أن لا أحبه ف «لا» فيه متمكنة.
قال الطبري: ومنه قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢] وإنما جاز أن تكون لا بمعنى الحذف، ولأنها تقدمها الجحد في صدر الكلام، فسيق الكلام الآخر مناسبا للأول، كما قال الشاعر:
ما كان يرضي رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر
وقرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب: «غير المغضوب عليهم وغير الضالين».
وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين.
قال الطبري: «فإن قال قائل أليس الضلال من صفة اليهود، كما أن النصارى عليهم غضب فلم خص كل فريق بذكر شيء مفرد؟ قيل: هم كذلك ولكن وسم الله لعباده كل فريق بما قد تكررت العبارة عنه به وفهم به أمره».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وهذا غير شاف، والقول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم، وتعنتهم، وكفرهم مع رؤيتهم الآيات، وقتلهم الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا، فسمى تعالى ما أحل بهم غضبا، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضبا خاصا بأفاعيلهم، بل هو الذي يعم كل كافر وإن اجتهد، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر، وليس في العبارة ب الضَّالِّينَ تعلق للقدرية في أنهم أضلوا أنفسهم لأن هذا إنما هو كقولهم تهدم الجدار وتحركت الشجرة والهادم والمحرك غيرهما، وكذلك النصارى خلق الله الضلال فيهم وضلوا هم بتكسبهم.
وقرأ أيوب السختياني: «الضألين» بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، وهي لغة.
حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ: «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن» فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة.
قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كثير [الطويل].
إذا ما العوالي بالعبيط احمأرّت وقول الآخر: [الطويل].
وللأرض أما سودها فتجللت بياضا وأمّا بيضها فادهأمّت
وأجمع الناس على أنّ عدد آي سورة الحمد سبع آيات: الْعالَمِينَ آية، الرَّحِيمِ آية، الدِّينِ آية، نَسْتَعِينُ آية، الْمُسْتَقِيمَ آية، أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية، وَلَا الضَّالِّينَ آية. وقد ذكرنا في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم ما ورد من خلاف ضعيف في ذلك.
78
القول في آمين
روى أبو هريرة وغيره عن رسول الله ﷺ أنه قال: إذا قال الإمام: وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: ٧] فقولوا آمين. فإن الملائكة في السماء تقول آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه.
وروي أن جبريل عليه السلام لما علم النبي عليه السلام فاتحة الكتاب وقت نزولها فقرأها قال له:
«قل آمين».
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «آمين خاتم رب العالمين، يختم بها دعاء عبده المؤمن».
وروي أن النبي ﷺ سمع رجلا يدعو فقال: «أوجب إن ختم. فقال له رجل بأي شيء يختم يا رسول الله؟ قال: «بآمين».
ومعنى «آمين» عند أكثر أهل العلم: اللهم استجب، أو أجب يا رب، ونحو هذا. قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره، ونص عليه أحمد بن يحيى ثعلب وغيره.
وقال قوم: «هو اسم من أسماء الله تعالى»، روي ذلك عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف، وقد روي أن «آمين» اسم خاتم يطبع به كتب أهل الجنة التي تؤخذ بالإيمان.
قال القاضي أبو محمد: فمقتضى هذه الآثار أن كلّ داع ينبغي له في آخر دعائه أن يقول: «آمين» وكذلك كل قارئ للحمد في غير صلاة، لكن ليس بجهر الترتيل. وأما في الصلاة فقال بعض العلماء:
«يقولها كل مصلّ من إمام وفذ ومأموم قرأها أو سمعها».
وقال مالك في المدونة: «لا يقول الإمام «آمين» ولكن يقولها من خلفه ويخفون، ويقولها الفذ».
وقد روي عن مالك رضي الله عنه: أن الإمام يقولها أسرّ أم جهر.
وروي عنه: «الإمام لا يؤمن في الجهر».
وقال ابن حبيب: «يؤمن».
وقال ابن بكير: «هو مخير».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فهذا الخلاف إنما هو في الإمام، ولم يختلف في الفذ ولا في المأموم إلا ابن نافع. قال في كتاب ابن حارث: «لا يقولها المأموم إلا إن سمع الإمام يقول وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: ٧]، وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل».
79
وقال ابن عبدوس: «يتحرى قدر القراءة ويقول آمين». وهي لفظة مبنية على الفتح لالتقاء الساكنين، وكأن الفتح مع الياء أخف من سائر الحركات، ومن العرب من يقول «آمين» فيمده، ومنه قول الشاعر:
[البسيط]
آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها ألفين آمينا
ومن العرب من يقول «أمين» بالقصر، ومنه قول الشاعر: [جبير بن الأضبط].
تباعد مني فطحل إذ رأيته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
واختلف الناس في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة» فقيل في الإجابة، وقيل في خلوص النية، وقيل في الوقت، والذي يترجح أن المعنى فمن وافق في الوقت مع خلوص النية، والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم، والإجابة تتبع حينئذ، لأنّ من هذه حاله فهو على الصراط المستقيم.
80
Icon