[سورة الفاتحة (١) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة معاني القرآن العظيم، واشتملت على أصول الدين وفروعه، وتناولت العقيدة، والعبادة، والتشريع، والإيمان بالبعث وبصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء، والإرشاد إلى طلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم، وتجنب طريق المنحرفين عن هداية الله تعالى.
أسماؤها:
للفاتحة اثنا عشر اسما ذكرها القرطبي، وهي الصلاة،
للحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين»
«١»، وسورة الحمد، لأن فيها ذكر
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله: أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسبع المثاني» «١»
، والمثاني، لأنها تثنى في كل ركعة، والقرآن العظيم، لتضمنها جميع علوم القرآن ومقاصده الأساسية، والشفاء
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» «٢»،
والرّقية،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لمن رقى بها سيد الحي: «ما أدراك أنها رقية» «٣»
، والأساس، لقول ابن عباس: «... وأساس الكتب: القرآن، وأساس القرآن:
الفاتحة، وأساس الفاتحة: بسم الله الرّحمن الرّحيم»، والوافية: لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال، فلو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز عند الجمهور، والكافية، لأنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها. هذه هي أسماء سورة الفاتحة، وأشهرها ثلاث: الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني. والسورة:
طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات، فأكثر، لها اسم يعرف بطريق الرواية الثابتة.
فضلها:
ثبت في الأحاديث الصحيحة فضل الفاتحة، منها
قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي- كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي- مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل» «٤».
(٢) رواه الدارمي عن عبد الملك بن عمير، بلفظ: «في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» [.....]
(٣) أخرجه الأئمة عن أبي سعيد الخدري.
(٤)
رواه الترمذي عن أبي بن كعب، ورواه أيضا عنه الإمام أحمد في المسند بلفظ: «والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي سعيد بن المعلّى: «لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته» «١».
وهذان الحديثان يشيران إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر ١٥/ ٨٧] لأنها سبع آيات تثنى في الصلاة، أي تعاد.
الإعراب:
الباء من بِسْمِ اللَّهِ زائدة بمعنى الإلصاق، والراجح أنها بمعنى الاستعانة، والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف عند البصريين، وتقديره: ابتدائي بسم الله، أي كائن باسم الله، أو في موضع نصب بفعل مقدر عند الكوفيين، وتقديره: ابتدأت بسم الله.
والْحَمْدُ لِلَّهِ مبتدأ وخبر، ورَبِّ الْعالَمِينَ صفة الله.
ومالِكِ مجرور على البدل، لا على الصفة: لأنه نكرة، بسبب أنه اسم فاعل لا يكتسب التعريف من المضاف إليه، إذا كان للحال أو الاستقبال. ويَوْمِ الدِّينِ ظرف زمان.
وإِيَّاكَ ضمير منصوب منفصل، والعامل فيه نَعْبُدُ والكاف للخطاب.
واهْدِنَا سؤال وطلب، فعل أمر يتعدى إلى مفعولين.
وصِراطَ الَّذِينَ بدل من الصراط الأول. والَّذِينَ اسم موصول. وغَيْرِ مجرور على البدل من ضمير عَلَيْهِمْ: وهذا ضعيف، أو من الَّذِينَ أو مجرور على الوصف للذين. ولَا في وَلَا الضَّالِّينَ زائدة للتوكيد عند البصريين، وبمعنى «غير» عند الكوفيين. وأما «آمين» فدعاء، وليس من القرآن، وهو اسم فعل ومعناه: اللهم استجب.
البلاغة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ جملة خبرية لفظا، إنشائية معنى، أي قولوا: الحمد لله، وهي مفيدة قصر الحمد عليه تعالى.
وإِيَّاكَ نَعْبُدُ... فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وتقديم المفعول يفيد القصر، أي لا نعبد سواك.
وغَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فيه حذف، تقديره: غير صراط المغضوب عليهم.
المفردات اللغوية:
الْحَمْدُ الثناء بالجميل على الفعل الاختياري، وهو أعم من الشكر، لأن الشكر يكون مقابل النعمة. اللَّهِ: علم على الذات العلية المقدسة، ومعناه: المعبود بحق، وقيل: إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسمّ به غيره. أما «الإله» فهو المعبود بحق أو باطل، يطلق على الله تعالى وعلى غيره. رَبِّ الرب: المالك والسيد المعبود والمصلح والمدبر والجابر والقائم، فيه معنى الربوبية والتربية والعناية بالمخلوقات. الْعالَمِينَ جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، وهو أنواع كعالم الإنسان والحيوان والنبات والذر والجن. ولفظ العالم: اسم جنس لا واحد له من لفظه، مثل رهط وقوم.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفتان لله مشتقتان من الرحمة، لوحظ في كل منهما معنى معين، فالرحمن: صيغة مبالغة بمعنى: عظيم الرحمة، وهو اسم عام في جميع أنواع الرحمة، وأكثر العلماء على أن الرَّحْمنِ اسم مختص بالله عزّ وجلّ، ولا يجوز أن يسمى به غيره. والرَّحِيمِ بمعنى دائم الرحمة. ولما كان في اتصافه تعالى ب رَبِّ الْعالَمِينَ ترهيب، قرنه بالرحمن الرحيم.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي مالك يوم الحساب والمكافأة والجزاء على الأعمال، والأمر كله في قبضته يوم القيامة، ومن عرف أن الله ملك يوم الدين، فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ نخصك بالعبادة ولا نعبد غيرك، ومعناه نطيع، والعبادة: الطاعة والتذلل وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي نطلب العون والتأييد والتوفيق، ونخصك بطلب المعونة، فأنت مصدر العون والفضل والإحسان، ولا يملك القدرة على عوننا أحد. وقد جاء الفعلان «نعبد ونستعين» بصيغة الجمع، لا بصيغة المفرد «إياك أعبد وإياك أستعين» للاعتراف بقصور العبد وحده عن الوقوف أمام الله، فكأنه يقول: لا يليق بي الوقوف وحدي وبمفردي في مناجاتك، وأخجل من تقصيري وذنوبي، بل أنضم إلى سائر المؤمنين، وأتوارى بينهم، فتقبل دعائي معهم، فنحن جميعا نعبدك ونستعين بك.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ عرفنا ووفقنا ودلنا على الطريق الموصل إلى الحق، وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. والصراط المستقيم: الطريق المعتدل: طريق الإسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وختمت برسالاتهم رسالة خاتم النبيين، وهو جملة ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، من عقائد وأحكام وآداب وتشريع ديني، كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الاجتماع.
التأمين:
«آمين» دعاء، أي تقبل منا واستجب دعاءنا، وهي ليست من القرآن، ولم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السّلام، ويسن ختم الفاتحة بها، بعد سكتة على نون وَلَا الضَّالِّينَ ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن. ودليل سنيتها
ما رواه مالك والجماعة (أحمد والأئمة الستة) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه».
آراء العلماء في الجهر والإسرار بالتأمين:
للعلماء رأيان: قال الحنفية، والمالكية في الراجح: الإخفاء أو الإسرار بآمين أولى من الجهر بها، لأنه دعاء، وقد قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف ٧/ ٥٥] وقال ابن مسعود: «أربع يخفيهن الإمام: التعوذ، والتسمية، والتأمين، والتحميد» أي قول: ربنا لك الحمد.
ورأى الشافعية والحنابلة: أن التأمين سرا في الصلاة السرية، وجهرا فيما يجهر فيه بالقراءة، ويؤمن المأموم مع تأمين إمامه،
لحديث أبي هريرة المتقدم:
«إذا أمّن الإمام فأمنوا... »
ودليلهم على هذا التفصيل:
حديث أبي هريرة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: آمين، حتى يسمع من يليه من الصف الأول» «١»
وحديث وائل بن حجر: «سمعت
التفسير والبيان:
أرشدنا الله تعالى إلى أن نبدأ كل أعمالنا وأقوالنا بالبسملة، فهي مطلوبة لذاتها، محققة للاستعانة باسمه العظيم. وعلمنا سبحانه كيف نحمده على إحسانه ونعمه، فهو صاحب الثناء بحق، فالحمد كله لله دون سواه، لأنه مالك الملك ورب العوالم والموجودات كلها، أوجدها ورباها وعني بها، وهو صاحب الرحمة الشاملة الدائمة، ومالك يوم الجزاء والحساب ليقيم العدل المطلق بين العباد، ويحقق للمحسن ثوابه، وللمسيء عقابه. فهذه الصفات تقتضينا أن نخص الله بالعبادة وطلب المعونة، والخضوع التام له، فلا نستعين إلا به، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، لأنه المستحق لكل تعظيم، والمستقل بإيجاد النفع ودفع الضر.
وقد تعصف الأهواء بالنفوس، وتزيغ بالعقول، فلا غاصم من التردي في الشهوات ومتاهات الانحراف إلا الله، لذا أرشدنا الحق سبحانه إلى طلب الهداية والتوفيق منه، حتى نسير على منهج الحق والعدل، ونلتزم طريق الاستقامة والنجاة، وهو طريق الإسلام القديم المستمر الذي أنعم الله به على النبيين والصديقين والصالحين. وهذا شأن العبد العابد الناسك العاقل العارف حقيقة نفسه ومصيره في المستقبل، لا شأن الكافر الجاحد الضال المنحرف، الذي أعرض عن طريق الاستقامة عنادا، أو ميلا مع الأهواء، أو جهلا وضلالا، وما أكثر الضالين عن طريق الهداية، المتنكبين منهج الاستقامة، الذين استحقوا الغضب والسخط الإلهي!
وبه تبين أن الناس فريقان: فريق الهدى، وفريق الضلال «١». وقد منح الله تعالى للإنسان خمس هدايات يتوصل بها إلى سعادته «٢».
١- هداية الإلهام الفطري: وتكون للطفل منذ ولادته، فهو يحس بالحاجة إلى الطعام والشراب، فيصرخ طالبا له إن غفل عنه والداه.
٢- هداية الحواس: وهي متممة للهداية الأولى، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان، بل هما في البداية أكمل في الحيوان من الإنسان، إذ إلهام الحيوان يكمل بعد ولادته بقليل، ويكتمل في الإنسان تدريجيا.
٣- هداية العقل: وهي أسمى من الهدايتين السابقتين، فالإنسان خلق مدنيا بالطبع ليعيش مع غيره، ولا يكفي الحس الظاهر للحياة الاجتماعية، فلا بد له من العقل الذي يوجهه إلى مسالك الحياة، ويعصمه من الخطأ والانحراف، ويصحح له أغلاط الحواس، والانزلاق في تيارات الهوى.
٤- هداية الدين: وهي الهداية التي لا تخطئ، والمصدر الذي لا يضل، فقد يخطئ العقل، وتنجرف النفس مع اللذات والشهوات، حتى توردها موارد الهلاك، فيحتاج الإنسان إلى مقوّم مرشد هاد لا يتأثر بالأهواء، فتسعفه هداية الدين لإرشاده إلى الطريق الأقوم، إما بعد الوقوع في الخطأ أو قبله، وتظل هذه الهداية هي الحارس الأمين الذي يفيء إليها الإنسان للتزود بمفاتيح الخير، والتسلح بمغلاق الشر، فيأمن العثور، ويضمن النجاة، وتعرّفه بحدود ما يجب
(٢) تفسير المنار: ١/ ٦٢، تفسير المراغي: ١/ ٣٥.
وقد أشار القرآن إلى تلك الهدايات في آيات كثيرة، منها وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠] أي بينا له طريقي الخير والشر، والسعادة والشقاء.
ومنها قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت ٤١/ ١٧] أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر، فاختاروا الثاني.
٥- هداية المعونة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة: وهي أخص من هداية الدين، وهي التي أمرنا الله بدوام طلبها في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي دلنا دلالة، تصحبها من لدنك معونة غيبية، تحفظنا بها من الضلال والخطأ.
وهذه الهداية خاصة به سبحانه، لم يمنحها أحدا من خلقه، بل نفاها عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص ٢٨/ ٥٦]، وقوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة ٢/ ٢٧٢]، وأثبتها لنفسه في قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام ٦/ ٩٠].
أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق، فأثبتها الله للنّبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله:
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى ٤٢/ ٥٢].
والخلاصة: الهداية في القرآن نوعان: هداية عامة: وهي الدلالة إلى مصالح العبد في معاده، وهذه تشمل الأنواع الأربعة السابقة، وهداية خاصة: وهي الإعانة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة، مع الدلالة، وهي النوع الخامس.
أحدهما- أن يكون سببه الضلال: إما بأن يضل عنك الشيء كقولك:
أضللت البعير، أي ضلّ عني، وإما أن تحكم بضلاله. والضلال في هذين سبب الإضلال.
والثاني- أن يكون الإضلال سببا للضلال: وهو أن يزين للإنسان الباطل ليضلّ.
وإضلال الله تعالى للإنسان على أحد وجهين: إما الحكم عليه بالضلال، أو التّمكين من البقاء في الضلال.
والأول- سببه الضلال: وهو أن يضل الإنسان، فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة، وذلك إضلال هو حق وعدل، لأن الحكم على الضال بضلاله والعدول به عن طريق الجنة إلى النار عدل وحق.
والثاني- سببه اختيار الإنسان: وهو أن يختار الإنسان طريق الانحراف، فيمده الله في ضلاله، ويمكّنه من البقاء في طغيانه، ويخلق له القدرة على الاستمرار في كفره وفساده، لذا نسب الله الإضلال للكافر والفاسق، دون المؤمن، بل نفى عن نفسه إضلال المؤمن، فقال: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التوبة ٩/ ١١٥]، فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ [محمد ٤٧/ ٤- ٥]، وقال في الكافر والفاسق: فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد ٤٧/ ٨]، وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة ٢/ ٢٦]، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ [غافر ٤٠/ ٧٤]، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم ١٤/ ٢٧]، وعلى هذا النحو
فقه الحياة أو الأحكام:
لا يوجد في القرآن آية بدون معنى أو فائدة أو حكمة أو تشريع، فهو كلام الله المعجز دستور الحياة البشرية، وبناء عليه، يقصد بالآيات القرآنية تحقيق فائدة الإنسان في حياته الدينية والدنيوية والأخروية، وتربطه بالحياة.
وتكون بالتالي الأحكام المستفادة من معاني الآيات مرتبطة ارتباطا وثيقا إما بالعقيدة أو بالعبادة أو بالأخلاق والسلوك أو بالتشريع الصالح للفرد والجماعة، وهذا المعنى الأعمّ هو الذي عنيته بفقه الحياة في القرآن الكريم.
والمعاني أو الأحكام المستفادة من الفاتحة تشمل صلة الإنسان بالله، وتحدد طريق مناجاته، وترسم له نوع مسيرته في الحياة، وتلزمه باتّباع المنهج الأقوم والطريق الأعدل، الذي لا انحراف فيه قيد أنملة عن جادّة الاستقامة، ولا قبول بأي لون من ألوان الضلال والغيّ والانحراف. ومعنى البسملة في الفاتحة: أنّ جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام وغيرها هو لله ومنه، ليس لأحد غير الله فيه شيء.
١- كيفية حمد الله: الفاتحة ذلك النشيد العاقد للصلة مع الله، والذي علّمنا الله إياه، يقرؤه المؤمن في كل المناسبات، في الصلاة وغيرها، لأن بدايته على تأويل: قولوا: الحمد لله ربّ العالمين، وذلك يقضي أن الله أمرنا بفعل الحمد، وعلمنا كيف نحمده ونثني عليه، وكيف ندعوه، ويفهم منه أنّ من آداب الدعاء: أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه، ليكون ذلك أدعى إلى الإجابة.
الرأي الأول- للحنفية: وهو عدم وجوب قراءة الفاتحة، وإنما الواجب للإمام والمنفرد مطلق قراءة، وهو قراءة آية من القرآن، وأقلها عند أبي حنيفة آية بمقدار ستة أحرف، مثل: ثُمَّ نَظَرَ [المدثر ٧٤/ ٢١] ولو تقديرا، مثل:
لَمْ يَلِدْ إذ أصله: «لم يولد» [الإخلاص ١١٢/ ٣]. وقال الصاحبان: فرض القراءة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة.
واستدلوا بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل ٧٣/ ٢٠]، وهو أمر بمطلق قراءة، فتتحقق بأدنى ما يطلق عليه اسم القرآن.
وأما السنة:
فحديث المسيء صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» «١».
وأما
حديث: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
«٢»، فمحمول على نفي الفضيلة، لا نفي الصحة، أي لا صلاة كاملة.
وأما المعقول: فهو أنه لا تجوز الزيادة بخبر الواحد الظني على ما ثبتت فرضيته بالدليل القطعي في القرآن، ولكن خبر الواحد يقتضي وجوب العمل به، لا الفرضية، فقالوا بوجوب قراءة الفاتحة فقط، أي أن الصلاة تصح بتركها، مع الكراهة التحريمية.
ولا قراءة مطلقا على المقتدي عند الحنفية، سواء أكانت الصلاة سرية أم
(٢) رواه الأئمة الستة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
أما الكتاب: فقوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف ٧/ ٢٠٤]، وهي تأمر بالاستماع والإنصات، والاستماع خاص بالجهرية، والإنصات يعمّ السريّة والجهريّة.
وأما السّنة:
فقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى خلف إمام، فإن قراءة الإمام له قراءة» «١»
، وهو يشمل السرية والجهرية.
وأما القياس: فهو أنه لو وجبت القراءة على المأموم، لما سقطت عن المسبوق، كسائر الأركان، فقاسوا قراءة المؤتم على قراءة المسبوق في حكم الصلاة، فتكون غير مشروعة.
الرأي الثاني- للمالكية والشافعية والحنبلية: وهو وجوب قراءة الفاتحة بعينها في الصلاة للإمام والمنفرد،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
، وحملوا النفي على نفي الحقيقة، لأن الأصل والأقوى أن النفي على العموم، أي لا صلاة صحيحة، ونفي الصحة أقرب إلى نفي الحقيقة.
وقوله عليه الصلاة والسلام أيضا: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» «٢»
، ولفعله صلّى الله عليه وسلّم
كما روى مسلم، مع خبر البخاري: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
قال القرطبي: الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة، لكل أحد على العموم.
وتتعين عند الشافعية قراءة الفاتحة، في كل ركعة، للإمام والمأموم والمنفرد، سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية، فرضا أم نفلا،
لحديث:
١/ ١٢٢).
(٢) رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحهما.
وحديث: «صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف، قال: إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم؟» قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال: «لا تفعلوا إلّا بأمّ القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ فيها» «١»
، فهو نص صريح خاص بقراءة المأموم، دال على فرضيتها، وظاهر النفي متجه إلى الإجزاء، أي لا تجزئ، وهو كالنفي للذات في المآل، وقراءة الفاتحة مستثناة من النص القرآني الآمر بالاستماع إلى القرآن والإنصات له.
ورأى المالكية والحنابلة: أنه لا يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية، وإنما يستحب أن يقرأها في السرية، لأن الأمر القرآني بالاستماع والإنصات للقرآن خاص بالصلاة الجهرية، بدليل
«أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ أحد منكم آنفا؟ فقال رجل: نعم، يا رسول الله، قال: فإني أقول: ما لي أنازع القرآن، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما يجهر فيه من الصلوات بالقراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «٢».
وهذا صريح في كراهة القراءة للمؤتم حالة الجهر.
وأما دليلهم على استحباب القراءة في حالة السرّ: فهو
قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أسررت بقراءتي فاقرءوا» «٣».
٣- استحضار معاني الفاتحة: على المصلي أن يستحضر في صلاته كل معاني الفاتحة من كون الله أعظم من كل عظيم، وأكبر من كل شيء، وأن كل ثناء جميل هو لله تعالى استحقاقا وفعلا، من حيث إنه الرّب خالق العالمين ومدبّر جميع
(٢) رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن. [.....]
(٣) رواه الدارقطني والترمذي.
وأما الذين جاءوا على فترة من الرّسل كأهل الفترة في عصر الجاهلية، فلا يكلفون في رأي الجمهور بشريعة، ولا يعذبون في الآخرة، لقوله تعالى:
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء ٧/ ١٥]. وقال جماعة من العلماء: إنهم يكلّفون ويعذّبون، لأن العقل وحده كاف في التكليف، فمتى أوتيه الإنسان، وجب عليه النظر في ملكوت السموات والأرض، والتدبّر والتفكّر في خالق الكون، وما يجب له من عبادة وإجلال، بقدر ما يهديه عقله، ويصل إليه اجتهاده، وبذلك ينجو من العذاب.
٤- قراءة غير العربي: أجمع الفقهاء على أنه لا تجزئ قراءة القرآن بغير العربية، ولا الإبدال بلفظها لفظا عربيا، سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن، لقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف ١٢/ ٢]، وقوله سبحانه:
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء ٢٦/ ١٩٥]، ولأن القرآن معجزة بلفظه ومعناه، فإذا غيّر خرج عن نظمه، فلم يكن قرآنا ولا مثله، وإنما يكون تفسيرا له، والتفسير غير المفسر، وليس هو مثل القرآن المعجز المتحدي بالإتيان بسورة مثله.
٥- تأمين المصلي: يؤمن المنفرد اتّفاقا. وأما الإمام: فيؤمن سرّا عند أبي حنيفة وفي الراجح عند المالكية، لأنه دعاء. وروي عن مالك أنه قال:
لا يؤمن وإنما يقول ذلك من خلفه، وقال الشافعية والحنابلة: يجهر الإمام بالتأمين في الصلاة الجهرية، كما بيّنا سابقا. وقال ابن العربي والقرطبي «٢» :
والصحيح تأمين الإمام جهرا،
فإن ابن شهاب الزهري قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: آمين، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما
، وفي البخاري:
حتى إن للمسجد للجّة «٣» من قول الناس: آمين. وأما المأموم: فيؤمّن سرّا عند الحنفية والمالكية، وجهرا فيما يجهر فيه بالقراءة، ويخفيه فيما يخفي فيه القراءة عند الشافعية والحنابلة.
(٢) أحكام القرآن: ١/ ٧، تفسير القرطبي: ١/ ١٢٩
(٣) اللجة: الجلبة، يعني أصوات المصلين.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البقرةمدنيّة إلا آية ٢٨١ فنزلت بمنى في حجّة الوداع وآياتها مائتان وست وثمانون وهي أول سورة نزلت بالمدينة
ما اشتملت عليه السورة:
سورة البقرة أطول سورة في القرآن، وهي مدنية، قال عكرمة: «أول سورة أنزلت بالمدينة: سورة البقرة» «١». وتعنى كغيرها من السور المدنية بالتشريع المنظم لحياة المسلمين في المجتمع الجديد بالمدينة، مجتمع الدين والدولة معا، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر، وإنما هما متلازمان تلازم الجسد والروح، لذا كان التشريع المدني قائما على تأصيل العقيدة الإسلامية، ومبدؤها الإيمان بالله، وبالغيب، وبأن مصدر القرآن هو الله عز وجل، والاعتقاد الجازم بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء السابقين، وبأن العمل الصالح ترجمان ذلك الإيمان، ويتمثل العمل بعقد صلة الإنسان مع ربه بواسطة الصلاة، وبتحقيق أصول التكافل الاجتماعي بواسطة الإنفاق في سبيل الله.
ويقتضي تقرير العقيدة التحدث عن صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، لعقد مقارنة بين أهل النجاة وبين أهل الدمار والهلاك. كما يقتضي التحدث عن قدرة الله عز وجل، ببدء الخليقة وتكريم آدم أبي البشر بسجود الملائكة له، وترتيب المولى ما حدث معه وزوجه في الجنة، ثم الهبوط إلى الأرض.
ثم انتقلت السورة من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب أهل القرآن، بالتذكير بما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد عليهما السلام من نسب إبراهيم والاتفاق على فضله، واستئصال كل مزاعم الخلاف على القبلة، وبيان الأساس الأعظم للدين وهو توحيد الألوهية، بتخصيص الخالق بالعبودية، وشكر الإله على ما أنعم به من إباحة الاستمتاع بطيبات الرزق وإباحة المحرّمات حال الضرورة، وبيان أصول البرّ في آية: لَيْسَ الْبِرَّ [في البقرة ٢/ ١٧٧].
ثم أوضحت السورة أصول التشريع الإسلامي للمؤمنين به، في نطاق العبادات والمعاملات، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والجهاد في سبيل الله وتنظيم أحكام القتال، واعتماد الأشهر القمرية في التوقيت الديني، والإنفاق في سبيل الله، لأنه وسيلة للوقاية من الهلاك، والوصية للوالدين والأقربين، وبيان مستحقي النفقات، ومعاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة، وتنظيم شؤون الأسرة في الزواج والطلاق والرضاع والعدة، والإيلاء من النساء، وعدم المؤاخذة بيمين اللغو، وتحريم السحر، والقتل بغير حق وإيجاب القصاص في القتلى، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل، وتحريم الخمر والميسر والربا، وإتيان النساء في المحيض وفي غير مكان الحرث وإنجاب النسل، أي في الدبر.
وتضمنت هذه السورة أطول آية في القرآن هي آية الدّين، التي أبانت أحكام الدّين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال فيها، والرهان، ووجوب أداء الأمانة، وتحريم كتمان الشهادة.
وختمت السورة بالتذكير بالتوبة والإنابة إلى الله، وبالدعاء العظيم المشتمل على طلب اليسر والسماحة، ورفع الحرج والأغلال والآصار، وطلب النصرة على الكفار.
فالسورة كلها منهاج قويم للمؤمنين، ببيان أوصافهم، وأوصاف معارضيهم ومعاديهم من الكفار والمنافقين، وتوضيح مناهج التشريع في الحياة الخاصة والعامة، واللجوء في الخاتمة إلى الله والدعاء المستمر له في التثبيت على الإيمان، والإمداد بالإحسان والفضل الإلهي، وتحقيق النصر على أعداء الله والإنسانية.
ومن توجيهات السورة أن مناط السعادة في الدنيا والآخرة هو اتباع الدين، وأصول الدين ثلاثة: هي الإيمان بالله ورسوله، والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح. والولاية العامة يجب أن تكون لأهل الإيمان والاستقامة، لكن الإكراه على الدين ممنوع.
سبب التسمية:
سميت هذه السورة «سورة البقرة» لاشتمالها على قصة البقرة، التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها، لاكتشاف قاتل إنسان، بأن يضربوا الميت بجزء منها،