ﰡ
٣- الحض على فعل الخير والعمل الصالح الذي ينفع الإنسان حين رجوع الخلائق إلى اللَّه للحساب والجزاء، والتهديد بالعقاب الشديد يوم القيامة:
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ.. [٩- ١١].
جحود النعم والبخل لحب الخير وإهمال الاستعداد للآخرة
[سورة العاديات (١٠٠) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤)فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)
الإعراب:
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً: ضَبْحاً: منصوب على المصدر في موضع الحال، وهو صوت أنفاس الخيل حين عدوها، وقَدْحاً: مصدر مؤكد لأن الموريات بمعنى القادحات.
فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً: صُبْحاً: منصوب على الظرف، وأثرن: عطف على قوله: فَالْمُغِيراتِ لأن المعنى: اللاتي أغرن صبحا، فأثرن به نقعا، أي جاز عطف الفعل على الاسم لأنه في تأويل الفعل. وهاء بِهِ تعود إلى المكان، وقد دل الحال عليه.
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ جواب القسم، ولام لِرَبِّهِ يتعلق ب (كنود) أي إن الإنسان لكنود لربه. وقد حسّن دخول لام الجر تقديمه على اسم الفاعل، كما مع الفعل الذي يشبه في قوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف ٧/ ١٥٤] وقوله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف ١٢/ ٤٣].
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ العامل في إِذا بُعْثِرَ: ما دل عليه: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ. ولا يجوز أن يعمل فيه (خبير) لأنه لا يجوز أن يعمل ما بعد إِنَّ فيما قبلها، ولا يجوز أن يعمل فيه يَعْلَمُ لأن الإنسان لا يطلب منه العلم في الآخرة، وإنما في الدنيا.
ويَوْمَئِذٍ: ظرف عمل فيه لَخَبِيرٌ وجاز أن يعمل فيما قبله لأن اللام في تقدير التقديم، بخلاف إِنَّ.
البلاغة:
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ التأكيد بإن واللام لزيادة التقرير والبيان.
لَشَهِيدٌ لَشَدِيدٌ بينهما جناس ناقص، وكذلك بين ضَبْحاً وصُبْحاً.
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ استفهام إنكاري للتهديد والوعيد.
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ تضمين، ضمن لفظ لَخَبِيرٌ معنى المجازاة، أي يجازيهم على أعمالهم.
لَشَهِيدٌ، لَشَدِيدٌ، الصُّدُورِ، الْقُبُورِ سجع مرصع.
المفردات اللغوية:
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً أقسم بخيل المجاهدين تعدو، فتضبح ضبحا، قال أبو حيان: والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات، وَالْعادِياتِ الخيل التي تعدو وتسرع في العدو أي الجري جمع عادية. والضّبح: صوت أنفاس الخيل حين العدو أو الجري. فَالْمُورِياتِ الخيل القادحات التي توري النار، أي تخرجها، جمع مورية، والإيراء: إخراج النار بزند ونحوه. قَدْحاً القدح:
إخراج النار، ويلاحظ أن الخيل إذا ركضت أو سارت في أرض ذات حجارة بالليل تقدح شرارة من النار بحوافرها. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً الخيل التي تغير أو تهجم على العدو بإغارة أصحابها، وقت الصبح، جمع مغيرة.
فَأَثَرْنَ بِهِ هيجن بمكان عدوهن، أو بذلك الوقت وهو الصبح. نَقْعاً غبارا، بشدة حركتهن. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً توسطن بذلك الوقت أو بالعدو أو بالنقع جمعا من جموع الأعداء، أي صرن وسط الجمع.
بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أثير وأخرج ما في القبور من الموتى، أي بعثوا. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ جمع محصلا وأظهر وبيّن ما في القلوب من الكفر والإيمان، والشر والخير والعزائم والنوايا، وتخصيص ذلك لأن القلوب هي الأصل. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ لعالم، فيجازيهم على كفرهم. ويلاحظ أنه أعيد الضمير: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ جمعا، نظرا لمعنى الإنسان. وهذه الجملة:
دلت على مفعول يعلم، أي إنا نجازيه حينئذ. وتعلق (خبير) ب يَوْمَئِذٍ مع أنه تعالى خبير دائما بكل شيء لأنه يوم المجازاة.
سبب النزول: نزول الآية (١) :
أخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيلا، ولبثت شهرا، لا يأتيه منها خبر، فنزلت:
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً.
التفسير والبيان:
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيراتِ أي قسما بالخيل التي تجري وتعدو بفرسانها المجاهدين في سبيل اللَّه إلى العدو، ويسمع لها حينئذ صوت زفيرها الشديد وأنفاسها المتصاعدة، بسبب شدة الجري. وتخرج شرر النار بحوافرها أثناء الجري بسبب اصطكاك نعالها بالصخر أو الحجر وتغير أو تهجم على العدو وقت الصباح.
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً فهيجن في الصبح أو مكان معترك الخيول غبارا يملأ الجو، ثم توسطن بعدوهن جمعا من الأعداء، اجتمعوا في مكان، ففرّقنه أشتاتا.
والمراد إعلاء شأنها في نفوس المؤمنين، ليعنوا بتربيتها، وليتدربوا عليها من أجل الجهاد في سبيل اللَّه، وليعتادوا على معالي الأمور، وظواهر الجد والعمل.
وفي هذا القسم ترغيب باقتناء الخيل لهذه الأغراض النبيلة، لا للسمعة والمفاخرة والرياء.
وعلى هذا فاللام في العاديات للعهد، ويحتمل وهو الظاهر كما تقدم عن أبي حيان أن تكون للجنس وليست أل فيه للعهد، ويدخل فيها خيل الجهاد والسرية دخولا أولياء.
وجواب القسم المحلوف عليه هو:
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي إن الإنسان كفور بطبعه للنعمة، كثير الجحد لها، وعدم الإقرار بمقتضاها الموجب لشكر الخالق المنعم، والخضوع لشرعه وأحكامه، إلا من جاهد نفسه، وعقل أمر الدنيا والآخرة، فأقبل على الطاعة والفضيلة، وأحجم عن المعصية والرذيلة.
والظاهر أن المراد بالإنسان هو الجنس، والأكثرون على أن الإنسان هو الكافر لقوله بعد ذلك: أَفَلا يَعْلَمُ. لكنهم قالوا أيضا: ويحتمل أن يراد أن جنس الإنس مفطور على ذلك إلا من عصمه اللَّه بلطفه وتوفيقه، وقوله:
أَفَلا يَعْلَمُ يجوز أن يكون توبيخا على أنه لا يعمل بعلمه.
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أي وإن الإنسان على كونه كنودا جحودا لشهيد
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة.
وقال قتادة وسفيان الثوري: وإن اللَّه على ذلك لشهيد.
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي وإن الإنسان بسبب حبه للمال لبخيل به، أو أن حبه للمال قوي، فتراه مجدّا في طلبه وتحصيله، متهالكا عليه. فصار هناك رأيان في المعنى: أحدهما- وإنه لشديد المحبة للمال، والثاني- وإنه لحريص بخيل بسبب محبة المال، قال ابن كثير: وكلاهما صحيح.
ثم هدد الإنسان وتوعده إذا ظل بهذه الصفات، فقال:
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أي أفلا يدري الجاحد إذا أخرج أو نثر ما في القبور من الأموات، وأبرز وأظهر ما يسرّ الناس في نفوسهم من النوايا والعزائم، والخير والشر، إن رب هؤلاء المبعوثين لخبير بهم، مطلع على جميع أحوالهم، لا تخفى عليه منهم خافية في ذلك اليوم وفي غيره، ومجازيهم في ذلك اليوم على جميع أعمالهم أوفر الجزاء، ولا يظلمون مثقال ذرة. فإذا علموا ذلك ووعوه، فعليهم ألا يشغلهم حب المال عن شكر ربهم وعبادته والعمل للآخرة.
وخص أعمال القلوب بالذكر لأن أعمال الأعضاء الأخرى تابعة لأعمال القلب فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب، لما حصلت أفعال الجوارح.
وأعاد الضمير في قوله: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ بصيغة الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر ١٠٣/ ٢] ثم قال:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [٣].
وعبّر عن المجازاة بالخبرة والعلم المحيط بهم ولأعمالهم لأن القصد هو التهديد، كما قال تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا [آل عمران ٣/ ١٨١] مع أن كتابة أقوالهم وأفعالهم حاصلة فعلا، وإنما أراد أننا سنجازيهم بما قالوا الجزاء المناسب.
فيكون قوله تعالى: لَخَبِيرٌ وهو تعالى خبير دائما فيه تضمين (خبير) معنى مجاز لهم في ذلك اليوم «١».
وهذه الآية تدل على كونه تعالى عالما بالجزئيات الزمانيات لأنه تعالى نص على كونه عالما بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم، فيكون منكر ذلك كافرا.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- أقسم سبحانه بالخيل التي تشغل بها أذهان العرب عادة على رداءة جبلة الإنسان من قلة الشكر والصبر، والحرص على المال، بحيث يكاد يشغله عن تحصيل الكمال الحقيقي، وعن العمل للمعاد الذي إليه مآل العباد.
فقد طبع الإنسان على كفران النعمة، وحب المال وبخله به، وعليه أن يروض نفسه على ما يكون له به النجاة والسعادة.
٢- ثم وبخ اللَّه تعالى بالعلم التام الأزلي الأبدي الشامل لأحوال مبدأ الإنسان ومعاده، والتوبيخ أو التهديد مدعاة للعقلاء إلى التأمل في المصير المحتوم، والاستعداد للآخرة بزاد التقوى والفضيلة، والبعد عن العصيان والمخالفة والرذيلة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القارعةمكيّة، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة القارعة لبدء السورة بها تهويلا وتخويفا، كابتداء سورة الحاقة، والقارعة من أسماء يوم القيامة كالحاقة والطامّة والصاخّة والغاشية ونحو ذلك. وسميت بهذا لأنها تقرع القلوب بهولها.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت السورة السابقة بوصف يوم القيامة: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ وأعقبتها هذه السورة برمّتها بالحديث عن القيامة ووصفها الرهيب وأهوالها المخيفة.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة المكية التخويف بأهوال القيامة، وهي كلها تدور حول الموضوع نفسه.
فقد بدأت بالحديث عن أهوال القيامة وشدائدها، وانتشار الناس فيها من قبورهم كالفراش المتطاير: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ.. [١- ٤].
ثم أشارت إلى بعض أمارات الساعة وهو نسف الجبال وجعلها كالصوف