تفسير سورة الفاتحة

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة فاتحة الكتاب سبع آيات
معنى فاتحة الكتاب وأسمائها
الفاتحة في الأصل : أولُ ما من شأنه أن يُفتح، كالكتاب والثوب، أُطلقت عليه لكونه واسطةً في فتحِ الكل، ثم أُطلقت على أول كلِّ شيء فيه تدريجٌ بوجه من الوجوه كالكلام التدريجي حصولاً، والسطور والأوراق التدريجية قراءةً وعداً والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، أو هي مصدر بمعنى الفتح، أطلقت عليه تسميةً للمفعول باسم المصدر، إشعاراً بأصالته كأنه نفس الفتح، فإن تعلقه به بالذات، وبالباقي بواسطته، لكن لا على معنى أنه واسطة في تعلقه بالباقي ثانياً. حتى [ لا ]١ يرد أنه لا يتسنى في الخاتمة، لما أن خَتْم الشيء عبارة عن بلوغ آخره، وذلك إنما يتحقق بعد انقطاع الملابسة عن أجزائه الأُوَل، بل على معنى أن الفتح المتعلق بالأول فتح له أولاً وبالذات، وهو بعينه فتح للمجموع بواسطته، لكونه جزءاً منه، وكذا الكلامُ في الخاتمة فإن بلوغَ آخِرِ الشيء يعرِضُ للآخر أولاً وبالذات، وللكل بواسطته، على الوجه الذي تحقَّقْتَه.
والمراد بالأول ما يعُم الإضافيَّ فلا حاجة إلى الاعتذار بأن إطلاقَ الفاتحة على السورة الكريمة بتمامها باعتبار جزئها الأول، والمرادُ بالكتاب هو المجموع الشخصي، لا القدر المشترك بينه وبين أجزائه، على ما ( هو )٢ اصطلاحُ أهل الأصول، ولا ضيرَ في اشتهار السورة الكريمة بهذا الاسم في أوائل عهد النبوة، قبل تحصيل المجموع بنزول الكل، لما أن التسمية من جهة الله عزَّ اسمه أو من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإذن ؛ فيكفي فيها تحصُّلُهُ باعتبار تحققه في علمه عزَّ وجل أو في اللوح أو باعتبار أنه أُنزل جُملةً إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثم كان يُنزِله على النبي صلى الله عليه وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنةٍ كما هو المشهور. والإضافة بمعنى اللام كما في جزء الشيء لا بمعنى مِنْ كما في خاتم فضة، لما عرفت أن المضاف جزء من المضاف إليه، لا جزئي له، ومدار التسمية كونه مبدأً للكتاب على الترتيب المعهود، لا في القراءة في الصلاة، ولا في التعليم ولا في النزول كما قيل.
أما الأول فبيِّنٌ، إذ ليس المرادُ بالكتاب القدرَ المشترك الصادقَ على ما يقرأ في الصلاة حتى تُعتبرَ في التسمية مبدئيتَها له. وأما الأخيران فلأن اعتبار المبدئية من حيث التعليمُ، أو من حيث النزولُ يستدعي مراعاةَ الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين، ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والنزولي ليسا على نسق الترتيب المعهود.
- وتسمى أمَّ القرآن لكونها أصلاً ومنشأً له، إما لمبدئيتها له، وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله عز وجل، والتعبُّدِ بأمره ونهيه، وبيانِ وعدِه ووعيده، أو على جملةِ معانيه من الحِكَم النظرية، والأحكام العملية، التي هي سلوكُ الصراط المستقيم، والاطلاعُ على معارج السعداء، ومنازلِ الأشقياء، والمرادُ بالقرآن هو المراد بالكتاب.
- وتسمى أمَّ الكتاب أيضاً كما يسمَّى بها اللوحُ المحفوظ، لكونِهِ أصلاً لكل الكائنات، والآياتُ الواضحةُ الدالة على معانيها - لكونها بينةً - تُحْمل عليها المتشابهاتُ، ومناطُ التسمية ما ذُكر في أم القرآن، لا ما أورده الإمامُ البخاري في صحيحه من أنه يُبدأ بقراءتها في الصلاة، فإنه مما لا تعلق له بالتسمية كما أشير إليه، وتسمى سورةَ الكنز، لقوله عليه السلام :« إنَّها أُنْزِلَتْ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ » أو لِمَا ذُكِرَ في أُمِّ القُرآن، كما أنه الوجهُ في تسميتها الأساسَ، والكافية، والوافية، وتسمى سورةَ الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة، لاشتمالها عليها، وسورةَ الصلاة لوجوب قراءتها فيها، وسورةَ الشفاء والشافية لقوله عليه السلام :« هي شفاءٌ من كُلِّ داءٍ »، والسبع المثاني لأنها سبعُ آيات تُثَنَّى في الصلاة، أو لتكرّر نزولِها على ما رُوي أنها نزلت مرة بمكَّة حين فرضت الصلاة وبالمدينة أخرى حين حُوِّلت القبلة، وقد صح أنها مكيةٌ لقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني ﴾ [ الحجر، الآية ٨٧ ] وهو مكي بالنص.
١ ورد في الأصل "حتى يرد"..
٢ ورد في الأصل "على ما عليه"..
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ اختلف الأئمة في شأن التسمية في أوائل السور الكريمة فقيل إنها ليست من القرآن أصلاً وهو قولِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه ومذهبُ مالك والمشهورُ من مذهب قدماء الحنفية وعليه قرّاءُ المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها وقيل إنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وهو الصحيحُ من مذهب الحنفية وقيل هي آية تامة من كل سورة صُدِّرت بها وهو قولُ ابن عبَّاسٍ وقد نُسب إلى ابن عمر أيضا رضي الله عنهم وعليه يُحمل إطلاقُ عبارة ابن الجوزي في زاد المسير حيث قال روي عن ابنِ عمرَ رضيَ الله عنهُما أنها أنزلت مع كل سورة وهو أيضاً مذهبُ سعيد بنِ جبيرٍ والزُّهري وعطاءٍ وعبدِ الله بن المبارك وعليه قُرَّاءُ مكَّة والكوفةِ وفقهاؤهما وهو القولُ الجديد للشافعي رحمة الله ولذلك يُجْهر بها عنده فلا عبرة بما نُقِلَ عن الجصاص من أن هذا القول من الشافعي لم يسبقه إليه أحد وقيل إنها آية من الفاتحة مع كونها قرآناً في سائر السور أيضاً من غير تعرض لكونها جزأ منها أَوْ لا ولا لكونها آية تامَّةً أولا وهو أحدُ قولَي الشافعي على ما ذكره القرطبي ونقل عن الخطابي أنه قول ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وقيل إنها آية تامة في الفاتحة وبعضٌ في البواقي وقيل بعضُ آية في الفاتحة وآية تامة في البواقي وقيل إنها بعض آية في الكل وقيل إنها آياتٌ من القرآن متعددة بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزء منها وهذا القول غير معزى في الكتب إلى أحد وهناك قول آخرُ ذكره بعض المتأخرين ولم ينسُبْه إلى أحد وهو إنها آية تامة في الفاتحة وليست بقرآن في سائر السور ولولا اعتبارُ كونها آيةً تامةً لكان ذلك أحدَ محملَيْ ترددِ الشافعي فإنه قد نقل عنه أنها بعض آية في الفاتحة وأما في غيرها فقوله فيها
8
متردد فقيل بين أن يكون قرآنا أولا وقيل بين أن يكون آيه تامة اولا قال الإمام الغزالي والصحيح من الشافعي هو التردد الثاني وعن أحمدَ بنِ حنبلٍ في كونها آيةً كاملة وفي كونها من الفاتحة روايتان ذكرهما ابن الجوزي ونقل أنه مع مالك وغيره مما يقول أنها ليست من القرآن هذا والمشهور من هذه الأقاويل هي الثلاث الأُول والاتفاقُ على إثباتها في المصاحف مع الإجماع على أنَّ مَا بُينَ الدفتين كلام الله عز وجل يقضي وبنفي القول الأول وثبوت القدر المشترك بين الأخيرين من غير دلالة على خصوصية أحدهما فإن كونها جزأ من القرآن لا يستدعي كونها حزا من كل سورة منه كما لا يستدعي كونها آية منفردة منه وأمَّا ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما من أن مَنْ تركها فقد ترك مائة وأربعَ عشرةً آيةً من كتاب الله تعالى وما روي عن أبي هريرة من أنه ﷺ قال فاتحةُ الكتاب سبعُ آيات اولا هن بسم الله الرحمن الرحيم وما روي عن أم سلمة من انه ﷺ قرأ سورة الفاتحة وعدَّ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للَّهِ رَبّ العالمين آية وإن دل كلُ واحد منها على نفي القول الثاني فليس شيء منها نصاً في إثبات القولِ الثالث أما الأول فلأنه لا يدل إلا على كونها آياتٍ من كتاب الله تعالى متعددةً بعدد السور المصدرة بها لا على ما هو المطلوبُ من كونها آية تامة من كل واحدة منها إلا أن يُلْتجأ إلى أن يقال أن كونها آيةً متعددةً بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزأ منها قولٌ لم يقل به أحد وأما الثاني فساكت عن التعرض لحالها في بقية السور وأما الثالثُ فناطقٌ بخلافه مع مشاركته للثاني في السكوت المذكور والباء فيها متعلقةٌ بمضمر ينبئ عنه الفعلُ المصدَّرُ بها كما أنها كذلك في تسمية المسافر عند الحلول والارتحال وتسمية كل فاعل عند مباشرة الأفعال ومعناها الإستعانةُ أو الملابسةُ تبركاً أي باسم الله أقرأ أو أتلو وتقديم المعمول للإعتناء به والقصد إلى التخصيص كما في إياك نعبد وتقديرُ أبدأ لاقتضائه اقتصارَ التبرك على البداية مُخلّ بما هو المقصودُ أعني شمولَ البركة للكل وادعاءُ أن فيه امتثالاً بالحديث الشريف من جهة اللفظ والمعنى معاً وفي تقدير أقرأُ من جهة المعنى فقط ليس بشيء فإن مدارَ الامتثالِ هو البدءُ بالتسمية لا تقديرُ فعله إذ لم يقل في الحديث الكريم كلُّ أمرٍ ذي بال لم يُقَل فيه أو لم يُضْمَر فيه أَبدأُ وهذا إلى آخرِ السُّورةِ الكريمةِ مقولٌ على ألسنة العباد تلقيناً لهم وإرشاداً إلى كيفية التبرك باسمه تعالى وهدايةً إلى منهاج الحمد وسؤالِ الفضل ولذلك سُميت السورةُ الكريمة بما ذكر من تعليم المسألة وإنما كُسرت ومن حق الحروف المفردة أن تُفتَحَ لاختصاصها بلزوم الحرفية والجركما كسرت لامُ الأمر ولامُ الإضافة داخلةً على المُظْهَر للفصل بينهما وبين لام الابتداء والاسم عند البصريين من الأسماء المحذوفة الأعْجَاز المبنية الأوائل على السكون قد أُدخلت عليها عند الابتداء همزة لأن مِنْ دأبهم البدءَ بالمتحرِّك والوقفَ على الساكن ويشهد له تصريفُهم على أسماء وسُمَيٌّ وسمَّيتُ وسُميً كهُدىً لغة فيه قال واللَّه أسماكَ سُمى مباركا آثرك اللَّهُ به إيثاركا والقلبُ بعيدٌ غير مطرد واشتقاقه من السُمو لأنه رفعٌ للمُسمَّى وتنويهٌ له وعند الكوفيين من السِّمة وأصله وَسَمَ حذفت الواو وعوضت منها همزةُ الوصل ليقِلَّ إعلالُها ورد عليه لأن الهمزة لم تُعهَدْ داخلةً على ما حُذف صدرُه في كلامهم ومن لغاتهم سِمٌ وسُمٌ قال باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ وإنما لم يقل باللَّهِ للفرق بين اليمين والتيمُّن أو لتحقيق ما هو المقصود بالإستعانة ههنا فإنها تكون تارة بذاته تعالى وحقيقتها طلبُ المعونة على إيقاع
9
الفعل وإحداثه أي إفاضةُ القدرةِ المفسرةِ عند الأصوليين من أصحابنا بما يتمكن به العبدُ من أداء مالزِمه المنقسمةِ إلى ممكِنة وميسِّرة وهي المطلوبة بإياك نستعين وتارة أخرى باسمه عز وعلا وحقيقتها طلبُ المعونة في كون الفعل معتداً به شرعاً فإنه ما لم يُصَدَّر باسمهِ تعالى يكون بمنزلةِ المعدوم ولما كانت كل واحدة من الإستعانتين واقعةً وجب تعيينُ المراد بذكر الاسم وإلا فالمتبادَرُ من قولنا بالله عند الإطلاق لا سيما عند الوصف بالرحمن الرحيم هي الإستعانة الأولى إن قيل فليُحمل الباء على التبرك وليستَغْنَ عن ذكر الاسم لما أن التبرك لا يكون إلا به قلنا ذاك فرعُ كون المراد بالله هو الاسم وهل التشاجرُ إلا فيه فلا بد من ذكر الاسم لينقطعَ احتمالُ إرادة المسمَّى ويتَعَينُ حمل الباء على الإستعانة الثانية أو التبرك وإنما لم يكتب الألف لكثرة الإستعمال قالوا وطُوِّلتِ الباءُ عوضاً عنها
و ﴿الله﴾ أصله الإله فحذفت همزته على غير قياس كما يُنْبِىءُ عنه وجوب الإدغام وتعويض الألف واللام عنها حيث لزماه وجردا عن معنى التعريف ولذلك قيل يالله بالقطع فإن المحذوف القياسيَّ في حكم الثابت فلا يحتاج إلى التدارك بما ذُكِرَ من الإدغام والتعويض وقيل على قياس تخفيف الهمزة فيكون الإدغام والتعويض من خواص الاسم الجليل ليمتاز بذلك عما عداه امتياز مسمّاه عما سواه بمالا يوجد فيه من نعوت الكمال والإله في الأصل اسمُ جنسٍ يقع على كل معبود بحقٍ أو باطل أي مع قطع النظرِ عن وصف الحقية والبطلان لا مع اعتبارِ احدهما لا بعينه ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصَّعِقْ وأما الله بحذف الهمزة فعلمٌ مختصٌّ بالمعبود بالحقِّ لم يطلق على غيره أصلاً واشتقاقه من الإلاهة والأُلوهَة والأُلوهِية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري على أنه اسمٌ منها بمعنى المألوه كالكتاب لا على أنه صفة منها بدليل أنه يوصف ولا يوصف به حيث يُقال إله واحد ولا يُقال شيء إلهٌ كما يُقال كتاب مرقوم ولا يقال شيء كتاب والفرق بينهما أن الموضوع له في الصفة هو الذاتُ المبهمةُ باعتبار اتصافِها بمعنىً معيّنٍ وقيامِهِ بها فمدلولها مركبٌ من ذاتٍ مُبهمةٍ لم يُلاحظ معها خصوصية أصلاً ومِن معنىً معينٍ قائمٍ بها على أن مَلاك الأمرِ تلك الخصوصية فبأيِّ ذاتٍ يقومُ ذلك المعنى يصحّ إطلاقُ الصفة عليها كما في الأفعال ولذلك تَعْمَلُ عملها كاسمي الفاعلِ والمفعول والموضوع له في الاسم المذكور هو الذاتُ المعينة والمعنى الخاص فمدلوله مركب من ذَيْنِكَ المعنيين من غيرِ رجحانٍ للمنى على الذات كما في الصفة ولذلك لم يعمل عملها وقيل اشتقاقه من إلِهَ بمعنى تحير لأنه سبحانه يحارُ في شأنه العقول والأفهام وأما أَلَهَ كعَبَدَ وزناً ومعنىً فمشتق من الإلَه المشتق من إلِهَ بالكسر وكذا تألَّه واستَأْلَه اشتقاق استنوق واستحجر من الناقة والحَجَر وقيل من أَلِهَ إلى فلان أي سكن إليه لاطمئنان القلوب بذكره تعالى وسكون الأرواح إلى معرفته وقيل من أَلِهَ إذا فزِع من أمرٍ نزل به وآلَهَهُ غيرُه إذا أجاره إذ العائذُ به تعالى يفزَع إليه وهو يُجيره حقيقة أو في زعمه وقيل أصله لاهٌ على أنه مصدرٌ من لاهَ يَلِيهُ بمعنى احتجب وارتفع أطلق على الفاعل مبالغة وقيل هو اسمُ علمٍ للذات الجليل ابتداء وعليه مدار أمر التوحيد في قولنا لا إله إلاَّ الله ولا يخفى أن اختصاصَ الاسم الجليل بذاته سبحانه بحيث لا يمكن إطلاقُه على غيره أصلاً كافٍ في ذلك ولا يقدَح فيه كونُ ذلك الاختصاصِ بطريق الغَلَبة بعد أن كان اسمَ جنسٍ في الأصل وقيل هو وصف الأصل لكنه لما
10
غلب عليه بحيث لا يطلق على غيره أصلا صار كالعلم ويردّه امتناعُ الوصف به وأعلم أن المراد بالمنَكَّر في كلمة التوحيد هو المعبودُ بالحق فمعناها لافرادَ من أفراد المعبود بالحق إلا ذلك المعبودُ بالحق وقيل أصلُه لاَهَا بالسريانية فعُرِّب بحذف الألف الثانية وإدخال الألف واللام عليه وتفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبله سنة وقيل مطلقاً وحذفُ ألفِه لحنٌ تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريحُ اليمين وقد جاء لضرورة الشعر في قوله ألا لا بارك اللَّهُ في سُهيل إذا ما اللَّهُ باركَ في الرجال
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ صفتان مبنيتان من رَحِمَ بعد جعله لازماً بمنزلة الغرائز بنقله إلى رَحُمَ بالضمِّ كما هُوَ المشهورُ وقد قيل إن الرحيم ليس بصفة مشبَّهة بل هي صيغة مبالغة نص عليه سِيبَويه في قولهم هو رحيمٌ فلاناً والرحمة في اللغة رقة القلب والانعطاف ومنه الرَّحِمُ لانعطافها على ما فيها والمراد ههنا التفضل والإحسان وإرادتهما بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسَبّبِهِ البعيد أو القريب فإنَّ أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادىء التي هي انفعالات والأولُ من الصفات الغالبة حيث لم يطلق على غيره تعالى وإنما امتنع صرفُه إلحاقاً له بالأغلب في بابه من غير نظر الى الاختصاص العارض فإنه كما حظِر وجود فعلى حُظِر وجود فعلانة فاعتبارُه يوجب اجتماعَ الصرف وعدمَه فلزم الرجوع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص بأن تقاس إلى نظائرها من باب فعل يفعل فإذا كان كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فَعْلى فيها علم أن هذه الكلمة أيضاً في أصلها مما تحقق فيها وجود فعلى فتُمنع من الصرف وفيه من المبالغة ما ليس في الرحيم ولذلك قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا وتقديمه مع كون القياسِ تأخيرَه رعايةً لأسلوب الترقي إلى الأعلى كما في قولهم فلانٌ عالمٌ نِحْرير وشجاعٌ باسل وجَوَادٌ فيَّاض لأنه باختصاصه به عز وجل صار حقيقاً بأن يكون قريناً للاسم الجليل الخاص به تعالى ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحقُّ بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها وإفراد الوصفين الشريفين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة
11
﴿الحمد للَّهِ﴾ الحمد هو النعتُ بالجميل على الجميل اختيارياً كان أو مبدأً له على وجه يُشْعِرُ ذلك بتوجيهه إلى المنعوت وبهذه الحيثية يمتازُ عن المدحِ فإنَّهُ خالٍ عنها يرشدك إلى ذلك ما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول في قولك حمدته ومدحته فإن تعلق الثاني بمفعوله على منهاج تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها وأما الأولُ فتعلقه بمفعوله مُنْبىء عن معنى الإنهاء كما في قولك كَلَّمْتُه فإنه مُعْرَبٌ عما يقيده لام التبليغ في قولك قلت له ونظيرُه وشَكَرْتُه وعبدتُه وخدمتُه فإن تعلّق كلَ منها منبىء عن المعنى المذكور وتحقيقُه أن مفعول كلِّ فعلٍ في الحقيقة هو الحدث الصادرُ عن فاعله ولا يُتصور في كيفية تعلق الفعل به أيَّ فعل كان اختلافٌ أصلاً وأما المفعولُ به الذي هو محلُّه وموقِعُه فلما كان تعلقه به ووقوعُه عليه على أنحاءَ مختلفةٍ حسبما يقتضيه خصوصياتُ الأفعال بحسب معانيها المختلفة فإن بعضها يقتضي أن يلابسه ملابسةً تامَّةً مؤثرة فيه كعامة الأفعال وبعضها يستدعي أن يلابسَه أدنى ملابسة إما بالانتهاء إليه كالإعانة مثلاً أو بالإبتداءِ منه كالإستعانة مثلاً اعتبر في كل نحو من أنحاءِ تعلّقِه به كيفية لائقةٌ بذلك النحو مغايرةٌ لما اعتبر في النحْوَيْنِ الأخيرين فنظمُ القسمِ الأول من التعلق في سلك التعلقِ بالمفعولِ الحقيقي مراعاةً لقوة الملابسة وجُعِل كلُّ واحدٍ من القسمين الأخيرين
11
من قبيل التعلق بواسطة الجارّ المناسب له فإن قولَكَ أعنتُه مشعرٌ بانتهاء الإعانةِ إليه وقولك استعنتُه بابتدائها منه وقد يكون لفعلٍ واحدٍ مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى وبالآخَرِ على الثانية أو الثالثة كما في قولك حدثني الحديث وسألني المالَ فإن التحديثَ مع كونه فعلاً واحداً قد تعلّقَ بك على الكيفية الثانية وبالحديث على الأولى وكذا السؤال فإنه فعل واحد وقد تعلّق بك على الكيفية الثالثة وبالمال على الأولى ولا ريب في أن اختلافَ هذه الكيفيات الثلاثِ وتبايُنَها واختصاصَ كلَ من المفاعيلِ المذكورةِ بما نُسِبَ إليه منها مما لا يُتصور فيه تردُّدٌ ولا نَكيرٌ وإن كان لا يتضحُ حقَّ الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير وإن مدارَ ذلك الاختلاف ليس إلا اختلافَ الفعل أو اختلاف المفعول وإذ لاختلاف في مفعول الحمد والمدح تَعَيَّنَ أن اختلافهما في كيفيةِ التعلق لاختلافهما في المعنى قطعاً هذا وقد قيلَ المدحُ مطلقٌ عن قيدِ الإختيار يُقال مدحتُ زيداً على حُسْنِهِ ورشاقةِ قَدِّهِ وأيًّاما كان فليس بينهما ترادفٌ بل أُخوّةٌ من جهةِ الاشتقاق الكبير وتناسبٌ تام في المعنى كالنصر والتأييد فإنهما متناسبان معنىً من غير ترادفٍ لما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول وإنما مرادفُ النصر الإعانة ومرادف التأييد التقوية فتدبر ثم أن ما ذُكِرَ من التفسير هو المشهورُ من معنى الحمد واللائق بالإدارة في مقام التعظيم وأما ما ذُكِرَ في كُتُبِ اللغةِ من معنى الرضى مطلقاً كما في قوله تعالى عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وفي قولهم لهذا الأمر عاقبةٌ حميدةٌ وفي قول الأطباء بُحْرَانٌ محمود مما لا يختص بالفاعل فضلاً عن الإختيار فبمعزل عن استحقاق الإرادة ههنا استقلالاً أو استتباعاً بحملِ الحمدِ على ما يعم المعنيين إذ ليس في إثباته له عز وجل فائدةٌ يُعْتَدُ بها وأما الشكْرُ فهو مقابلة النعمة بالثناء وآداب الجوارح وعقدُ القلبِ على وصفِ المنعم بنعت الكمال كما قال من قال أفادتكم النَّعْمَاءُ مني ثلاثة يدي ولساني والضميرَ المُحجبا فإذن هو أعمُّ منهما من جهة وأخص من أخرى ونقيضُهُ الكفران ولما كان الحمد من بين شُعَبِ الشكر أَدْخَلَ في إشاعةِ النعمةِ والاعتدادِ بشأنِها وأدلَّ على مكانها لِما في عمل القلب من الخفاء وفي أعمال الجوارحِ من الاحتمال جُعِلَ الحمدُ رأسَ الشكر ومِلاكاً لأمره في قوله ﷺ الحمدُ رأسُ الشُّكرِ ما شكر الله عبده لم يحمدْهُ وارتفاعُهُ بالابتداء وخبرُه الظرف وأصلُه النَصْبُ كما هو شأن المصادر المنصوبة بأفعالها المُضمرة التي لا تكاد تُستعمل معها نحو شُكراً وعجباً كأنه قيل نحمد الله حمداً بنون الحكاية ليوافق ما في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لاتحاد الفاعل في الكل وأما ما قيل من أنه بيانٌ لحمدِهم له تعالى كأنَّهُ قيل كيف تحمَدون فقيل إياكَ نعبد فمع أنه لا حاجة إليه مما لا صحةَ له في نفسِهِ فإنَّ السؤالَ المقدرَ لا بدَّ أنْ يكون بحيثُ يقتضيهِ انتظامُ الكلامِ وينساقُ إليه الأذهانُ والأفهام ولاريب في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفيةِ اللائقةِ لا يخطر ببال أحد أن يسألَ عن كيفيتهِ على أنَّ ما قُدِرَ من السؤال غيرُ مطابقٍ للجواب فإنه مسوقٌ لتعيين المعبود لا لبيان العبادة حتى يُتَوَهم كونُه بياناً لكيفية حمدهم والاعتذارُ بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفيةُ الحمد تعكيسٌ للأمرِ وتَمَحّلٌ لتوفيق المُنَّزَل المقرَّرِ بالموهومِ المُقدّر وبعدَ اللينا والتي أنْ فُرِضَ السؤال من جهته عزَّ وجلَّ فأتَتْ نُكْتَت الإلتفاتِ التي أجمع عليها السلف والخلف وإن فُرِضَ من جهةِ الغيرِ يختلُ النظام لابتناءِ الجوابِ على خطابِهِ تعالى
12
وبهذا يتضحُ فسادَ ما قيل أنه استئنافٌ جواباً لسؤال يقتضيه إجراءُ تلك الصفات العظامِ على الموصوف بها فكأنه قيل ما شأنُكم معه وكيف توجُّهكم إليه فأجيب بحصْر العبادة والاستعانة فيه فإن تناسِيَ جانبِ السائل بالكلية وبناءَ الجواب على خِطابه عز وعلا مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أنَّهُ استئنافٌ صدرَ عن الحامد بمحضِ ملاحظةِ اتصافِهِ تعالى بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلةِ الموجبة للإقبال الكليّ عليه من غير أن يتوسط هناك شيء آخرُ كما ستحيطُ به خبرا أو إيثار الرفعِ على النصب الذي هو الأصلُ للإيذان بأن ثبوتَ الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مُثبت وأن ذلك أمرٌ دائمٌ مستمرٌ لا حادثٌ متجددٌ كما تفيده قراءةُ النصب وهو السر في كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحيةُ والسَّلامُ أحسنَ منْ تحيتهم له في قولِه تعالَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ وتعريفُه للجنس ومعناه الإشارةُ إلى الحقيقة من حيث هي حاضرةٌ في ذهن السامع والمراد تخصيصُ حقيقةِ الحمدِ به تعالى المستدعي لتخصيص جميعِ أفرادِها به سبحانه على الطريق البرهاني لكنْ لا بناءً عَلى أن أفعال العبادِ مخلوقةٌ له تعالى فتكونَ الأفرادُ الواقعة بمقابلة ما صدرَ عنهُم من الأفعال الجميلة راجعةً إليه تعالى بل بناءً على تنزيل تلك الأفراد ودواعيها في المقام الخطابيّ منزلةَ العدم كيفاً وكماً وقد قيل للإستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققُها في ضمن جميع أفرادها حسبما يقتضيه المقام وقرئ الحمدُ لُلَّهِ بكسر الدال إتباعاً لها باللام وبضم اللام إتباعاً لها بالدال بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمةٍ واحدة مثل المِغِيرة ومُنْحَدُرُ الجبل
﴿رَبّ العالمين﴾ بالجر على أنه صفةٌ لله فإن إضافته حقيقيةً مفيدةٌ للتعريف على كل حال ضرورةَ تعيُّن إرادة الاستمرار وقرئ منصوباً على المدح أو بما دلَّ عليهِ الجملةُ السابقة كأنه قيل نحمد الله ربَّ العالمين ولا مساغَ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المُحلى باللام وللزوم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر والرب في الأصل مصدرٌ بمعنى التربية وهي تبليغُ الشئ إلى كمالِه شيئاً فشيئاً وُصف به الفاعل مبالغة كالعدل وقيل صفة مشبهة من ربَّه يرُبُّه مثل نمَّه يُنمُّه بعد جعله لازماً بنقله إلى فعُل بالضمِّ كما هو المشهور سُمّي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملِكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيد كربُّ الدار وربُّ الدابة ومنه قوله تعالى فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وقوله تعالى ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ وما في الصحيحين من أنه ﷺ قال لا يَقُل أحدُكم أطعم ربك وضئ ربَّك ولا يَقُلْ أحدُكم ربِّي ولْيَقُل سَيّدي ومولاي فقد قيل إن النهيَ فيه للتنزيه وأما الأ رباب فحيث لم يكن إطلاقُه على الله سبحانه جاز في إطلاقه الإطلاق والتقييد كما في قوله تعالى أأرباب متفرقون خير الآية والعالم اسمٌ لما يُعْلَم به كالخاتَم والقالَب غلب فيما يُعْلَم به الصانعُ تعالى من المصنوعات أي في القَدْرِ المشترك بين أجناسها وبين مجموعِها فإنه كما يُطلق على كل جنسٍ جنسٌ منها في قولهم عالم الأفلاك وعالمُ العناصر وعالمُ النبات وعالم الحيوان إلى غير ذلك يطلق على المجموع أيضاً كما في قولنا العالم بجميع أجزائه مُحْدَث وقيل هو اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين وتناولُه لما سواهم بطريق الاستتباع وقيل أريد به الناسُ فقط فإنَّ كلَّ واحدٍ منهم من حيث اشتمالُه على نظائِر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يُعلم بها الصانع كما يعلم بما فيه عالَم على حِيالِه ولذلك أمُر بالنظر في الأنفس كالنظر في الآفاق فقيل وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ والأول هو الأحق الأظهر وإيثارُ صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع
13
الأجناس والتعريفُ لاستغراق أفراد كلَ منها بأسرها إذ لو أفرد لربما تُوهِّم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هي أو استغراقُ أفرادِ جنسٍ واحد على الوجه الذي أشير إليه في تعريف الحمد وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نُزِّلَ العالم وإن لم ينطلق على آحاد مدلوله منزلة الجمع حتى قيل إنه جمع لا واحد له من لفظه فكما أن الجمعَ المعَرَّفَ يستغرق آحادَ مُفرَدِه وإن لم يصدُقْ عليها كما في مثلِ قولِه تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي كلَّ محسن كذلك العالمُ يشملُ أفرادَ الجنسِ المسمَّى به وإن لم ينطلق عليها كأنها آحادُ مفردِه التقديريّ ومن قضية هذا التنزيلِ تنزيلُ جمعِه منزلةَ جمعِ الجمع فكما أن الأقاويل يتناول كلَّ واحد من آحادِ الأقوال يتناول لفظُ العالمين كلَّ واحد من آحادِ الجناس التي لا تكاد تُحصى روي عن وهْب ابن منبه أنه قال لله تعالى ثمانيةَ عشرَ ألفَ عالَم والدنيا عالم منها وإنما جُمِع بالواو والنون مع اختصاصِ ذلك بصفاتِ العُقلاء وما في حكمها من الأعلام لدلالته على معنى العَلَم مع اعتبار تغليبِ العقلاء على غيرهم واعلم ان عدم انطلاق اسم العالَم على كل واحدٍ من تلك الآحادِ ليس الاباعتبار الغلبة والاصطلاح واما باعتبارالاصل فلا ريب في صحة الاطلاق قطعا لتحقيق المصداقِ حتماً فإنه كما يُستدل على الله سبحانه بمجموع ما سواه وبكل جنسٍ من أجناسِه يُستدل عليه تعالى بكل جزءٍ من أجزاءِ ذلكَ المجموع وبكل فردٍ من أفراد تلك الأجناس لتحقّق الحاجةِ إلى المؤثِّر الواجب لذاته في الكُلِّ فإنَّ كل ما ظهرَ في المظاهر مما عزو هان وحضَرَ في هذه المحاضر كائناً ما كان دليلٌ لائحٌ على الصانع المجيد وسبيلٌ واضحٌ إلى عالم التوحيد وأما شمولُ ربوبيته عز وجل للكل فما لا حاجةَ إلى بيانه إذ لا شيءَ مما أحدق به نطاقُ الإمكان والوجود من العُلويات والسُفليات والمجرّدات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حدّ ذاته بحيث لو فُرض انقطاعُ آثارِ التربية عنه آناً واحداً لما استقر له القَرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار لكن يُفيضُ عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنُه وتقدّس في كل زمانٍ يمضي وكل آنٍ يمرّ وينقضي من فنون الفيوضِ المتعلقةِ بذاته ووجودِه وصفاتِه وكمالاته ما لا يحيطُ به فَلَكُ التعبير ولا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ ضرورةَ أنه كما لا يستحق شيءٌ من الممكنات بذاتِه الوجودَ ابتداءً لا يستحقه بقاءً وإنما ذلك من جناب المُبدأ الأول عز وعلا فكما لا يُتصور وجودُه ابتداءً ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الأصلي لا يتصور بقاؤُه على الوجود بعد تحققِه بعِلَّته ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الطارىء لما أن الدوام من خصائص الوجودِ الواجبي وظاهرٌ أن ما يتوقف عليه وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عِلَلُهُ وشرائِطُه وإن كانت متناهيةً لوجوب تناهي ما دخلَ تحتَ الوجود لكنِ الأمورُ العدميةُ التي لها دخلٌ في وجوده وهي المعبَّر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك إذْ لا استحالةَ في أن يكون لشيءٍ واحدٍ موانعُ غيرُ متناهية يتوقف وجودُه أو بقاؤه على ارتفاعها أي بقائها على العدم مع إمكان وجودها في نفسها فإبقاءُ تلك الموانِع التي لا تتناهى على العدم تربيةٌ لذلك الشيءِ من وجوهٍ غيرِ متناهية وبالجملة فآثار تربيته عز وجل الفائضةُ على كلَّ فردٍ من أفراد الموجودات في كلِّ آنٍ من آنات الوجود غيرُ متناهية فسبحانه سبحانه ما اعظم سلطانه لا تلاحظه العيونُ بأنظارها ولا تطالعُه العقولُ بأفكارها شأنُه لا يُضاهى وإحسانُه لا يتناهى ونحن في معرفته حائِرون وفي إقامة مراسمِ شكرِه قاصرون نسألك اللهم الهدايةَ
14
إلى مناهج معرفتِك والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك لا نُحصي ثناءً عليك لا إله إلا أنت نستغفرُك ونتوب إليك
15
﴿الرحمن الرحيم﴾ صفتان لله فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يَفيضُ على الكل بعد الخروج إلى طوْر الوجودِ من النعم فوجهُ تأخيرِهما عن وصف الربوبية ظاهرٌ وإنْ أُريدَ ما يعمّ الكلَّ في الأطوار كلِّها حسبما في قوله تعالى وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فوجهُ الترتيب أن التربية لا تقتضي المقارنة للرحمة فإيرادُهما في عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضلٌ فيها فاعلٌ بقضية رحمتِه السابقةِ من غير وجوبٍ عليه وبأنها واقعةٌ على أحسنِ ما يكون والاقتصارُ على نعته تعالى بهما في التسمية لما أنه الأنسبُ بحال المتبرِّك المستعين باسمه الجليل والأوفقُ لمقاصده
﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ صفةٌ رابعة له تعالى وتأخيرُها عن الصفات الأُوَل مما لا حاجة إلى بيان وجهِه وقرأ أهلُ الحرمَيْن المحترمَيْن ملِك من المُلْك الذي هو عبارة عن السلطان القاهر والاستيلاء الباهر والغلبةِ التامة والقُدرةِ على التصرف الكليّ في أمور العامة بالأمر والنهي وهو الأنسبُ بمقام الإضافة إلى يوم الدين كما في قوله تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وقرئ ملك بالتخفيف وملك بلفظ الماضي ومَالِكَ بالنَّصبِ على المدحِ أو الحال وبالرفع منوناً ومضافاً على أنه خبر مبتدأ محذوف وملك مضافا بالرفع والنصب واليومُ في العرف عبارةٌ عما بين طلوعِ الشمس وغروبها من الزمان وفي الشرع عما بين طلوعِ الفجرِ الثاني وغروبِ الشمس والمراد ههنا مطلقُ الوقت والدينُ الجزاءُ خيرا كان أو شرا ومنه الثاني في المثل السائر كما تَدين تُدان والأول في بيت الحماسة ولم يبق سوى العدوان دِنّاهم كما دانوا وأما الأول في الأولِ والثَّاني في الثاني فليس بجزاءٍ حقيقة وإنما سُمّي به مشاكلة أو تسميةٌ للشيء باسم مسبَّبِهِ كما سُميت إرادةُ القيام والقراءة باسمهما في قوله عز اسمُه إِذَا قُمتُم إِلَى الصلاة وقوله تعالى فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بِاللَّهِ ولعلَّه هو السرُّ في بناء المفاعلة من الأفعال التي تقوم أسبابُها بمفعولاتها نحو عاقبتُ اللصَّ ونظائرِه فإن قيام السرقة التي هي سببٌ للعقوبة باللص نُزّل منزلةَ قيام المسبَّبِ به وهي العقوبة فصار كأنها قامت بالجانبين وصدَرَت عنهما فَبُنيت صيغةُ المفاعلةِ الدالَّةِ على المشاركة بين الإثنين وإضافةُ اليوم إليه لأدنى ملابسةٍ كإضافة سائرِ الظروفِ الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث كيوم الأحزابِ وعامِ الفتح وتخصيصُه منْ بينِ سائرِ ما يقع فيه من القيامة والجمعِ والحسابِ لكونه أدخلَ في الترغيب والترهيب فإنَّ ما ذُكر من القيامة وغيرها من مبادئ الجزاءِ ومقدِّماته وإضافةُ مالك إلى اليوم منْ إضافِه اسمِ الفاعلِ إلى الظرف على نهج الاتساعِ المبنيّ على إجرائه مجرى المفعول به مع بقاء المعنى على حاله كقولهم يا سارق الليلة أهل الدار أي مالِكَ أمورِ العالمين كلِّها في يومِ الدين وخُلوُّ إضافتِه عن إفادة التعريفِ المسوّغ لوقوعه صفةً للمعرفة إنما هو إذا أُريد به الحالُ أو الاستقبالُ وأما عند إرادة الاستمرارِ الثبوتيّ كما هو اللائقُ بالمقام فلا ريب في كونها إضافةً حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها في قراءة ملك يوم الدين ويومُ الدين وإن لم يكن مستمراً في جميع الأزمنةِ إلا أنه لتحقق وقوعِه وبقائه أبداً أُجْرِيٍ مجرى المتحقّقِ المستمر ويجوزُ أن يُراد بهِ الماضي بهذا الأعتبار كما يشهد به القراءةُ على صيغة الماضي وما ذكر من إجراء الظرفِ مُجرى المفعولِ به إنما هو من حيث المعنى لا من حيث الإعراب حتى يلزمَ كونُ الإضافة لفظية ألا ترى أنك تقول في مالكُ عبدِه
15
أمسِ إنه مضاف إلى المفعول به على معنى أنه كذلك معنىً لا أنه منصوب محلاً وتخصيصُه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله أو لبيان تفرّدهِ تعالى بإجراء الأمر فيه وانقطاعِ العلائق المجازية بين المُلاَّك والأمْلاَك حينئذٍ بالكلية وإجراءُ هاتيك الصفاتِ الجليلةِ عليه سبحانه تعليلٌ لما سبق من اختصاص الحمدِ به تعالى المستلزمِ لاختصاص استحقاقِه به تعالى وتمهيدٌ لما لَحِقَ من اقتصار العبادةِ والاستعانةِ عليه فإنَّ كلَّ واحدةٍ منها مفصِحةٌ عن وجوب ثبوتِ كلِّ واحدٍ منها له تعالى إمتناع ثبوتِها لما سواه أما الأولى والرابعةُ فظاهرٌ لأنهما متعرِّضتان صراحةً لكونه تعالى رباً مالكاً وما سواه مربوباً مملوكاً له تعالى وأما الثانية والثالثة فلأن اتصافَه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين وذلك يستدعي أن يكون الكلُّ منعماً عليهم فظهر أن كل واحدةٍ من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوتِ الأمورِ المذكورةِ له تعالى دلت على امتناع ثبوتِها لما عداه على الإطلاق وهو المعنى بالاختصاص
16
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ التفات من الغيبة إلى الخطاب وتلوينٌ للنظم من بابِ إلى بابٍ جارٍ على نهج البلاغة في افتنان الكلام ومسلَكِ البراعة حسبما يقتضي المقام لما أن التنقلَ من أسلوب إلى أسلوب أدخلُ في استجلاب النفوسِ واستمالةِ القلوب يقع من كل واحدٍ من التكلم والخطاب والغَيبة إلى كلِّ واحدٍ من الآخَرَيْن كما في قوله عز وجل ﴿والله الذى أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً﴾ الآية وقولُه تعالى ﴿حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردةِ في التنزيل لأسرارٍ تقتضيها ومزايا تستدعيها ومما استَأثر به هذا المقام الجليلِ من النُكت الرائقةِ الدالةِ على أن تخصيصَ العبادةِ والاستعانةِ به تعالى لما أُجريَ عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكملَ تميّز وأتمَّ ظهورٍ بحيث تبدّل خفاءُ الغَيبة بجلاءِ الحضور فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب والإيذانَ بأن حقّ التالي بعدما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس المستوجبِ للعبودية وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضراً في محاضر الأنس كأنه واقفٌ لدى مولاه ماثلٌ بين يديه وهو يدعو بالخضوع والإخبات ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلاً يا من هذه شئون ذاتهِ وصفاتهِ نخصُّك بالعبادة والإستعانة فإن كل ما سواك كائناً ما كانَ بمعزلٍ من استحقاق الوجود فضلاً عن استحقاق أن يعبد أو يستعان ولعل هذا هو السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومئنة للتبتل إليه بالكلية
وإيا ضميرٌ منفصلٌ منصوبٌ وما يلحَقه من الكاف والياءِ والهاءِ حروفٌ زيدت لتعيين الخطاب والتكلمُ والغَيبةُ لا محلَّ لها من الإعراب كالتاء في أنت والكاف في أرأيتَكَ وما ادعاه الخليلُ من الإضافة محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشواب فما لا يعول عليه وقيل هي الضمائر وإيا دِعامةٌ لها لتُصيرَها منفصلة وقيل الضمير هو المجموع وقرئ إَيَّاك بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد وهياك بقلب الهمزة هاء والعبادةُ أقصى غايةِ التذلل والخضوع ومنه طريقٌ معبّدٌ أي مذَلَّل والعبوديةُ أدنى منها وقيل العبادةُ فعلُ ما يرضَى بهِ الله والعبوديةُ
16
الرضى بما فعلَ الله تعالَى والاستعانةُ طلبُ المعونةِ على الوجه الذي مر بيانه وتقديم المفعول فيهما لما ذُكر من القصر والتخصيص كما في قوله تعالى ﴿وَإِيَّاىَ فارهبون﴾ مع ما فيه من التعظيم والاهتمامِ بِهِ قال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا معناهُ نعبدك ولا نعبد غيرَك وتكريرُ الضمير المنصوبِ للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة ولإبراز الاستلذاذِ بالمناجاة والخطاب وتقديمُ العبادة لِما أنها من مقتَضَيات مدلولِ الأسم الجليل وان ساعده الصفاتُ المُجْراةُ عليه أيضاً وأما الاستعانةُ فمن الأحكامِ المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادةَ من حقوق الله تعالى والاستعانة من حقوق المُستعين ولأن العبادة واجبة حتماً والاستعانةُ تابعةٌ للمستعان فيه في الوجوب وعدمِه وقيل لأن تقديمَ الوسيلة على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول هذا على تقديرِ كونِ إطلاقِ الاستعانةِ على المفعول فيه ليتناول كلَّ مستعانٍ فيه كما قالوا وقد قيل انه لما ان المسئول هو المعونةَ في العبادة والتوفيق لأقامة مراسمها على ما ينبغي وهو اللائقُ بشأن التنزيل والمناسبُ لحال الحامد فإن استعانتَه مسبوقةٌ بملاحظة فعلٍ من أفعاله ليستعينَه تعالى في إيقاعه ومن البيِّن أنه عند استغراقه في ملاحظة شئونه تعالى واشتغالِهِ بأداء ما يوجبه تلك الملاحظةُ من الحمد والثناء لا يكادُ يخطُر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبالُ الكليُّ عليه والتوجهُ التامّ إليه ولقد فَعل ذلك بتخصيص العبادةِ به تعالى أولاً وباستدعاء الهدايةِ إلى ما يوصِلُ إليه آخِراً فكيف يُتصور أن يَشتغل فيما بينهما بما لا يَعنيه من أمور دنياه أو بما يعمُّها وغيرَها كأنه قيل وإياك نستعين في ذلك فإنّا غيرُ قادرين على اداء حقوقه من غير إعانةٍ منك فوجهُ الترتيب حينئذٍ واضح وفيه من الإشعار بعلوّ رُتبةِ عبادته تعالى وعزّةِ منالِها وبكونها عند العابدِ أشرفَ المباغي والمقاصدِ وبكونها من مواهبهِ تعالى لا من أعمال نفسِه ومن الملائمة لما يعقبُه من الدعاء ما لا يخفى وقيل الواوُ للحال أي إياك نعبدُ مستعينين بك وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير في الفعلين للإيذان بقصورِ نفسه وعدم لياقته بالوقوف في مواقف الكبرياءِ منفرداً وعَرْضِ العبادة واستدعاءِ المعونة والهداية مستقلاً وأن ذلك إنما يُتصور من عصابةٍ هو من جُملتهم وجماعةٍ هو من زُمرتهم كما هو ديدَنُ الملوكِ أو للإشعار باشتراك سائر الموحِّدين له في الحال العارضة له بناءً على تعاضُد الأدلةِ المُلْجئة إلى ذلك وقرئ نِسْتعين بكسر النون على لغة بني تميم
17
﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ إفراد لمعظم أفراد المعونة المسئولة بالذكر وتعيينٌ لما هو الأهمُ أو بيان لها كأنه قيل كيف أُعينكم فقيل أهدينا والهدايةُ دلالةٌ بلطفٍ على ما يوصلُ إلى البغية ولذلك اختصّتْ بالخير وقولِهِ تَعَالَى ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الجحيم﴾ وارد على نهج التهكم والأصل تعديته بإلى واللام كما في قوله تعالى ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ﴾ فعومل معاملةَ اختارٍ في قوله تعالى ﴿واختار مُوسَى قَوْمَهُ﴾ وعليه قولُه تعالى ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ وهدايةُ الله تعالى مع تنوعها إلى أنواع لا تكاد تُحصر منحصرةٌ في أجناس مترتبة منها أنفسيةٌ كإفاضة القُوى الطبيعيةِ والحيوانية التي بها يصدُر عن المرء أفاعيله الطبيعية والحيوانية والقوى المدرِكة والمشاعرُ الظاهرةُ والباطنة التي بها يتمكن من إقامة مصالِحه المعاشيةِ والمعاديّة ومنها آفاقيةٌ فإما تكوينيةٌ مُعْرِبة عن الحق بلسان الحال وهي نصبُ الأدلةِ المُودَعةِ في كل فردٍ من أفراد العالم حسبما لُوِّحَ به فيما سلف وإما تنزيليةٌ مُفْصِحةٌ عن تفاصيل الأحكامِ النظريةِ والعمليةِ بلسان المقالِ بإرسال الرسلِ
17
وإنزال الكتبِ المنطويةِ على فنون الهدايات التي من جملتها الإرشادُ إلى مسلك الاستدلالِ بتلك الأدلة التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفسية والتنبيهُ على مكانها كما أشير إليه مُجملاً في قولِه تعالَى وَفِى الأرضِ آيات لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وفي قوله عز وعلا ﴿إِنَّ فِى اختلاف الليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِى السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ ومنها الهدايةُ الخاصة وهي كشفُ الأسرارِ على قلب المُهْدَى بالوحي أو الإلهام ولكل مرتبةٍ من هذه المراتبِ صاحبٌ ينتحيها وطالبٌ يستدعيها والمطلوب إما زيادتُها كما في قوله تعالى ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى﴾ وإما الثباتُ عليها كما روي عن علي وأبي رضي الله عنهما إهدنا ثبّتنا ولفظ الهداية على الوجه الأخير مَجازٌ قطعاً وأما على الأول فإن اعتُبر مفهومُ الزيادة داخلاً في المعنى المستعمل فيه كان مجازاً أيضاً وإن اعتُبر خارجاً عنه مدلولاً عليه بالقرائنِ كان حقيقة لأن الهداية الزائدةَ هداية كما أن العبادة الزائدةَ عبادة فلا يلزم الجمعُ بين الحقيقة والمجاز وقرئ أرشدنا والصراط الجادة أصله السين قُلبت صاداً لمكان الطاء كمصيطر في مسيطر من سرط الشئ إذا ابتلعه سُمّيت به لأنها تسترِطُ السابلةَ إذا سلكوها كما سميت لَقْماً لأنها تلتقمهم وقد تُشَمُّ الصاد صوت الزائ تحرياً للقرب من المبدَل منه وقد قرئ بهن جميعاً وفُصحاهن إخلاصُ الصاد وهي لغة قريش وهي الثابتةُ في الإمام وجمعه صُرُط ككتاب وكُتب وهو كالطريق والسبيل في التذكير والتأنيث والمستقيم المستوي والمراد به طريقُ الحق وهي الملة الحنفية السمْحة المتوسطةُ بين الإفراط والتفريط
18
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بدلٌ من الأول بدلَ الكل وهو في حكم تكريرِ العامل من حيث إنه المقصودُ بالنسبة وفائدتُه التأكيدُ والتنصيصُ على أن طريق الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم وهم المسلمون هو العَلَمُ في الاستقامة والمشهودُ له بالاستواء بحيث لا يذهب الوهمُ عند ذكر الطريقِ المستقيم إلا إليه وإطلاقُ الإنعامِ لقصد الشمول فإن نِعمةَ الإسلام عنوانُ النعم كلِّها فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها وقيل المراد بهم الأنبياء عليهم السلام ولعل الأظهرَ أنهم المذكورون في قوله عز قائلاً ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين﴾ بشهادة ما قبله من قوله تعالى ﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً﴾ وقيل هم أصحابُ مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ قبل النسخ والتحريف وقرئ صراطَ مَنْ أنعمتَ عليهم والإنعامُ إيصالُ النعمة وهي في الأصل الحالةُ التي يستلِذُّها الإنسان من النعمة وهي اللينُ ثم أطلقت على ما تستلذّه النَّفسُ من طيّبات الدنيا ونِعَمُ الله تعالى مع استحالة احصائها ينحصر أصولُها في دنيويٍ وأُخروي والأول قسمان وهبيّ وكسبيّ والوهبي أيضاً قسمان روحاني كنفخ الروح فيه وإمدادِه بالعقل وما يتبعه من القُوى المدرِكة فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعمٌ جليلة في أنفسها وجُسماني كتخليق البدن والقُوى الحالَّةِ فيه والهيئاتِ العارضةِ له من الصّحة وسلامةِ الأعضاء والكسبيُّ تخليةُ النفسِ عن الرذائل وتحليتُها بالأخلاقِ السَّنية والملَكات البهيَّة وتزيينُ البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المرضية وحصول الحاه والمال والثاني مغفرةُ ما فَرط منه والرضى عنه وتَبْوئتُه في أعلى عليين مع المقربين والمطلوبُ هو القسم الأخير وما هو ذريعةٌ إلى نيلِه من القسم الأول اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك العظيم ورحمتِك الواسعة
﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ﴾ صفةٌ للموصول على أنه عبارةٌ عن إحدى الطوائفِ المذكورةِ المشهورةِ بالإنعام عليهم وباستقامة المسْلك ومن ضرورة
18
هذه الشهرة شهر تهم بالمغايَرَة لما أضيف إليه كلمةُ غير من المتصفين بضدَّي الوصفين المذكورين أعني مطلقَ المغضوب عليهم والضالين فاكتسبت بذلك تَعرُّفاً مصححاً لوقوعها صفةً للمعرفة كما في قولك عليك بالحركة غيرِ السكون وُصفوا بذلك تكملةً لما قبله وإيذاناً بأن السلامة مما ابتُلي به أولئك نعمةٌ جليلةٌ في نفسها أي الذين جمعوا بين النعمة المُطلقة التي هي نعمةُ الإيمان ونعمةُ السلامة من الغضب والضلال وقيل المرادُ بالموصول طائفةٌ من المؤمنين لا بأعيانهم فيكون بمعنى النكرة كذي اللام إذا أريد به الجنسُ في ضمن بعضِ الأفراد لا بعينه وهو المسمى بالمعهود الذهني وبالمغضوب عليهم والضالين اليهودُ والنصارى كما ورد في مسند أحمدَ والترمذي فيبقى لفظُ غير على إبهامه نكرة كمثل موصوفِه وأنت خبير بأن جعْلَ الموصول عبارةَ عما ذُكر من طائفةٍ غيرِ معيَّنة مُخلٌّ ببدليةِ ما أضيف إليه مما قبله فإن مدارَها كونُ صراطِ المؤمنين علَماً في الاستقامة مشهوداً له بالاستواء على الوجه الذي تحقَّقْتَه فيما سلف ومن البيِّن أن ذلك من حيثُ إضافتُه وانتسابُه إلى كلهم لا إلى بعضٍ مُبْهَمٍ منهم وبهذا تبين أن لا سبيل إلى جعل غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدلاً من الموصول لما عرفتَ من أنَّ شأنَ البدلِ أن يُفيدَ متبوعَهُ مزيدَ تأكيدٍ وتقرير وفضلَ إيضاحٍ وتفسيرٍ ولا ريب في أن قصارى أمرِ مَا نحنُ فيهِ إِنَّ يكتسبَ مما أضيف إليه نوعَ تعرُّفٍ مصحِّحٍ لوقوعه صفةً للموصول وأما استحقاقُ أن يكون مقصوداً بالنسبة مفيداً لما ذُكر من الفوائدِ فكل وقرئ بالنصبِ على الحالِ والعاملُ أنعمتَ أو على المدحِ أو على الاستثناء إنْ فُسّر النعمةُ بما يعمُّ القبيلين والغصب هيجانُ النفس لإرادة الانتقام وعند إسنادِه إلى الله سبحانه يُراد به غايتُه بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسببه القريبِ إنْ أريد به إرادةُ الانتقام وعلى مسبّبِهِ البعيدِ إن أريد به نفسُ الانتقام ويجوز حملُ الكلام على التمثيل بأنْ يُشبه الهيئةُ المنتزعةُ من سَخَطه تعالى للعصاة وإرادةُ الانتقام منهم لمعاصيهم بما يُنتَزَعُ من حال الملِك إذا غضِب على الذين عصَوْه وأراد أن ينتقم منهم ويعاقِبَهم وعليهم مرتفِعٌ بالمغضوب قائم مَقامَ فاعلِه والعدولُ عن إسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرَى على منهاج الآداب التنزيلية في نسبة النعم والخيرات إليه عز وجل دون أضدادها كما في قوله تعالى ﴿الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ وقوله تعالى ﴿وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رشدا﴾ ولا مزيدةٌ لتأكيد ما أفاده غير من مَعْنَى النَّفي كأنَّه قيلَ لا المغضوبِ عليهم ولا الضالين ولذلك جازانا زيداً غيرُ ضاربٍ جوازَ أنا زيداً لا ضَارِبٌ وإن امتنع أنا زيداً مثلُ ضاربٍ والضلالُ هو العدول عن الصراط السوي وقرئ وغير الضالين وقرئ ولا الضأْلين بالهمزة على لغةِ مَنْ جدَّ في الهربِ من التقاءِ الساكنين
﴿أَمِينٌ﴾ اسم فعلٍ هو استجبْ وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسول الله ﷺ عن معنى آمِين فقال افعل بُني على الفتح كأينَ لالتقاء الساكنين وفيه لغتان مدُّ ألفه وقصرُها قال ويرحم الله عبداً قال آمينا وقال أمينَ فزاد الله ما بيننا بعداً عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم لقّنني جبريلُ آمينَ عند فراغي من قراءة فاتحةِ الكتاب وقال إنه كالختم على الكتاب وليست من القرآن وِفاقاً ولكن يسن ختمُ السورة الكريمة بها والمشهورُ عن أبي حنيفةَ رحمَهُ الله أن المصلّيَ يأتي بها مخافتةً وعنه أنه لا يأتي بها الإمامُ لأنه الداعي وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله مثلُه وروَى الإخفاءَ عبدُ اللَّه بنُ مغفّل وأنسُ بنُ مالك عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم
19
سورة البقرة (١)
وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله يُجهر بها لما روى وائلُ بنُ حجر أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كان اذا قرأولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته عن رسول الله ﷺ أنه قال لأبيّ بنِ كعب ألا أخبرك بسورة لم ينزِلْ في التوراة والإنجيل والقرآن مثلُها قلت بلى يا رسولَ الله قالَ فاتِحةُ الكتاب إنها السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيتُه وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه إن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال إن القومَ ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضياً فيقرأ صبيٌّ من صبيانهم في الكتاب الحمدُ للَّهِ رَبّ العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفعُ عنهم بذلك العذابَ أربعين سنة
سورة البقرة مدنية وهى مائتان وسبع وثمانون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
20
Icon