بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، ومن والاه.أما بعد : فهذا تفسير لسورة " الحج " نسأل الله –تعالى- أن يجعله خالصاً لوجهه، ونافعاً لعباده، إنه –سبحانه- أكرم مسئول، وأعظم مأمول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المؤلف
د/ محمد سيد طنطاوي
تعريف بسور الحج
١- سورة الحج هي السورة الثانية والعشرون في ترتيب المصحف، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية في المصحف الكوفي، وسبع وتسعون في المكي وخمس وتسعون في البصري، وأربع وتسعون في الشامي.
وسميت بسورة الحج، لحديثها بشيء من التفصيل عن أحكام الحج.
٢- ومن العلماء من يرى أنها من السور المكية، ومنهم من يرى أنها من السور المدنية.
والحق أن سورة الحج من السور التي فيها آيات مكية، وفيها آيات مدنية فمثلاً : الآيات التي تتحدث عن الإذن بالقتال، من الواضح أنها آيات مدنية، لأن القتال شرعه الله –تعالى- بالمدينة، وكذلك الآيات التي تتحدث عن أحكام الحج، لأن الحج فرض بعد الهجرة.
قال الآلوسي بعد أن ذكر العلماء في ذلك : " والأصح أن سورة الحج مختلطة " فيها آيات مدنية، وفيها آيات مكية، وإن اختلف في التعيين، وهو قول الجمهور " ( ١ ).
وقال بعض العلماء : " والذي يغلب على السورة هو موضوعات السور المكية وجو السور المكية. فموضوعات التوحيد، والتخويف من الساعة، وإثبات البعث، وإنكار الشرك، ومشاهد القيامة. وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون.. بارزة في السورة. وإلى جوارها الموضوعات المدنية من الإذن بالقتال، وحماية الشعائر، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان، والأمر بالجهاد في سبيل الله " ( ٢ ).
٣- وقد افتتحت السورة الكريمة افتتاحاً ترتجف له النفوس، حيث تحدثت عن أهوال يوم القيامة، وعن أحوال الناس فيه...
قال –تعالى- [ يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ]...
٤- وبعد أن ساقت السورة الكريمة نماذج متنوعة لأحوال الناس في هذه الحياة، وأقامت الأدلة على أن البعث حق... أتبعت ذلك ببشارة المؤمنين بما يشرح صدورهم.
قال –تعالى- [ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، إن الله يفعل ما يريد ].
ثم بينت السورة الكريمة أن كل شيء في هذا الكون يسجد لله –تعالى- وأن كثيرا من الناس ينال الثواب بسبب إيمانه وعمله الصالح، وكثيراً منهم يصيبه العقاب بسبب كفره وفسوقه.
قال –تعالى- [ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب، ومن يهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء ].
٥- وبعد أن عقدت السورة الكريمة مقارنة بين خصمين اختصموا في ربهم، وبينت عاقبة كل منهما... أتبعت ذلك بحديث مفصل عن فريضة الحج. فذكرت سوء عاقبة الكفارين الذين يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، كما بينت أن الله –تعالى- قد أمر نبيه إبراهيم بأن يؤذن للناس بالحج، لكي يشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، كما بشرت الذين يعظمون حرمات الله بالخير وحسن الثواب، ووصفت من يشرك بالله [ فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ].
ثم ختمت حديثها عن فريضة الحج ببيان أن الهدي الذي يقدمه الحجاج هو من شعائر الله، فعليهم أن يقدموه بإخلاص وسخاء، وأن يشكروا الله –تعالى- على نعممه.
قال –تعالى- :[ والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير، فاذكروا اسم الله عليها صواف، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر، كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون* لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ].
٦- ثم بينت السورة أن الله –تعالى- قد شرع لعباده المؤمنين الجهاد في سبيله، وبشرهم بأنه معهم يدافع عنهم، ويجعل العاقبة لهم. فقال –تعالى- [ إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور* أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ].
ثم أخذت السورة الكريمة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه...
قال –تعالى- :[ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود* وقوم إبراهيم وقوم لوط* وأصحاب مدين وكذب موسى، فأمليت للكافرين، ثم أخذتهم فكيف كان نكير ].
ثم أمر الله –تعالى- رسوله بأن يمضي في طريقه دون أن يهتم بأذى المشركين. وأن يجابههم بكلمة الحق بدون خوف أو وجل، فقال –تعالى- [ قل يأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين* فاللذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم* والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ].
٧- وبعد أن بين –سبحانه- مظاهر حكمته في هداية من اهتدى، وفي ضلال من ضل، أتبع ذلك بحديث مستفيض عن ألوان نعمه على خلقه، فقال –تعالى- :
[ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة، إن الله لطيف خبير ] [ ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض، والفلك تجري في البحر بأمره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إن الله بالناس لرءوف رحيم* وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، إن الإنسان لكفور ].
٨- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة، بنداءين : أحدهما : وجهه إلى الناس جميعاً، وبين لهم فيه، أن الذين يعبدونهم من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له.
والثاني : وجهه –سبحانه- إلى المؤمنين، وأمرهم فيه بمداومة الركوع والسجود والعبادة له –عز وجل- وبالمواظبة على فعل الخير وعلى الجهاد في سبيله.
قال –تعالى- :[ يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون* وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج. ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى، ونعم النصير ].
٩- هذا : والمتأمل في هذه السورة الكريمة، يرى أن من أبرز ما اهتمت بالحديث عنه ما يأتي :
( أ ) بيان أنواع الناس في هذه الحياة، وعاقبة كل نوع، ترى ذلك واضحاً في قوله –تعالى- :
[ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم، ويتبع كل شيطان مريد ].
[ ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة... ].
ترى ذلك في قوله –تعالى- :[ يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مختلفة وغير مختلفة، لنبين لكم، ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلاً، ثم لتبلغوا أشدكم، ومنكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج* ذلك بأن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير* وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ].
( ج ) الحديث المفصل عن فريضة الحج، ومما اشتملت عليه هذه الفريضة من منافع وآداب وأحكام.
( د ) المقارنة بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين، نرى ذلك في آيات كثيرة، منها قوله –تعالى- :[ هذان خصمان اختصموا في ربهم. فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ].
[ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ].
( ه ) بيان سنن الله في خلقه، والتي من أعظمها : دفاعه عن المؤمنين، ونصره لهم، ترى ذلك في مثل قوله –تعالى- :[ إن الله يدافع عن الذين آمنوا ] [ ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز ].
والتي من أعظمها –أيضاً- عدم إخلاف وعده، قال –تعالى- :[ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده، وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون* وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ].
( و ) يمتاز أسلوب السورة –في مجموعه- بالقوة والعنف، والشدة والرهبة، والإنذار والتحذير، وغرس التقوى في القلوب بأسلوب تخشع له النفوس..
نرى ذلك في كثير من آياتها، ومن ذلك، قوله –تعالى- :
[ يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ].
وقوله –تعالى- :[ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ].
وقوله –تعالى- :[... فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم* يصهر به ما في بطونهم والجلود* ولهم مقامع من حديد ]..
وقوله –سبحانه- :[ فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة. فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد* أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ]..
وبجانب هذه الشدة في الأسلوب، نرى في السورة –أيضاً- أسلوباً آخر فيه من اللين والرقة والبشارة للمؤمنين ما فيه، ويكفيك قوله –تعالى- :
[ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير* وهدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد ].
نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا من عباده المؤمنين الصادقين، وأن يحشرنا معهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه
د/ محمد سيد طنطاوي
٢ - في ظلال القرآن جـ ١٧ ص ٥٧٥..
ﰡ
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)افتتحت سورة الحج بهذا النداء الموجه من الخالق- عز وجل- إلى الناس جميعا، يأمرهم فيه بامتثال أمره، وباجتناب نهيه، حتى يفوزوا برضاه يوم القيامة.
وقوله- سبحانه-: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تعليل للأمر بالتقوى.
قال القرطبي: الزلزلة شدة الحركة، ومنه قوله- تعالى-:... وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ... «١» وأصل الكلمة من زل فلان عن الموضع، أى: زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه، أى: حركها وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء» «٢».
وقال الآلوسى: «والزلزلة: التحريك الشديد، والإزعاج العنيف، بطريق التكرير، بحيث يزيل الأشياء من مقارها، ويخرجها عن مراكزها.
وإضافتها إلى الساعة، من إضافة المصدر إلى فاعله، لكن على سبيل المجاز في النسبة كما في قوله- تعالى-: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «٣» لأن المحرك حقيقة هو الله- تعالى-، والمفعول الأرض أو الناس، أو من إضافته إلى المفعول، لكن على إجرائه مجرى المفعول به اتساعا كما في قوله: «يا سارق الليلة أهل الدار... » «٤».
(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٣.
(٣) سورة سبأ الآية ٣٣.
(٤) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١١٠.
وقال- سبحانه-: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ بصيغة الإجمال والإبهام لهذا الشيء العظيم، لزيادة التهويل والتخويف.
ثم فصل- سبحانه- هذا الشيء العظيم تفصيلا يزيد في وجل القلوب فقال: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ....
والضمير في «ترونها»، يعود إلى الزلزلة لأنها هي المتحدث عنها والظرف «يوم» منصوب بالفعل تذهل، والرؤية بصرية لأنهم يرون ذلك بأعينهم.
والذهول: الذهاب عن الأمر والانشغال عنه مع دهشة وحيرة وخوف، ومنه قول عبد الله ابن رواحة- رضى الله عنه-:
ضربا يزيل الهام عن مقيله... ويذهل الخليل عن خليله
أى: أن هذه الزلزلة من مظاهر شدتها ورهبتها، أنكم ترون الأم بسببها تنسى وتترك وليدها الذي ألقمته ثديها. وكأنها لا تراه ولا تحس به من شدة الفزع.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: لم قيل مُرْضِعَةٍ
دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبى، والمرضع: التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل: مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة عَمَّا أَرْضَعَتْ
عن إرضاعها: أو عن الذي أرضعته وهو الطفل... » «١».
وقوله- سبحانه-: وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
بيان لحالة ثانية تدل على شدة الزلزلة وعلى عنف آثارها.
أى: وترونها- أيضا- تجعل كل حامل تضع حملها قبل تمامه من شدة الفزع.
ثم بين- سبحانه- حالة ثالثة للآثار التي تدل على شدة هذه الزلزلة فقال: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
أى: وترى- أيها المخاطب- الناس في هذا الوقت العصيب، هيئتهم كهيئة السكارى
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال: «وتراهم سكارى على التشبيه، وما هم بسكارى على التحقيق، ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله، هو الذي أذهب عقولهم، وطير تمييزهم، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه... ».
وقد علق صاحب الانتصاف على عبارة صاحب الكشاف هذه فقال: قال أحمد: والعلماء يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه، كقولك: زيد حمار، إذا وصفته بالبلادة، ثم يصدق أن تقول: وما هو بحمار، فتنفى عنه الحقيقة، فكذلك الآية، بعد أن أثبت السكر المجازى نفى الحقيقة أبلغ نفى مؤكد بالباء، والسر في تأكيده: التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لم يعهدوا مثله من قبل. والاستدراك بقوله وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
راجع إلى قوله: وَما هُمْ بِسُكارى
وكأنه تعليل لإثبات السكر المجازى، فكأنه قيل: إذا لم يكونوا سكارى من الخمر فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال: شدة عذاب الله- تعالى-» «١».
هذا، وقد اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، فمنهم من يرى أنها تكون في آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة ومنهم من يرى أنها تكون يوم القيامة، بعد خروج الناس من قبورهم للحساب.
وقد وفي هذه المسألة حقها الإمام ابن كثير فقال ما ملخصه: «قال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا. وأول أحوال الساعة.
وقال آخرون: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال، كائن يوم القيامة في العرصات، بعد القيام من القبور.
ثم ساق- رحمه الله- سبعة أحاديث استدل بها أصحاب الرأى الثاني.
ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول الله- تعالى- يوم القيامة: يا آدم. فيقول: لبيك ربنا وسعديك. فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار، قال: يا رب، وما بعث النار؟
قال: من كل ألف- أراه قال- تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب
وعلى الرأى الأول تكون الزلزلة بمعناها الحقيقي، بأن تتزلزل الأرض وتضطرب، ويعقبها طلوع الشمس من مغربها، ثم تقوم الساعة.
وعلى الرأى الثاني تكون الزلزلة المقصود بها شدة الخوف والفزع، كما في قوله- تعالى- في شأن المؤمنين بعد أن أحاطت بهم جيوش الأحزاب: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً «٢» فالمقصود: أصيبوا بالفزع والخوف، وليس المقصود أن الأرض تحركت واضطربت من تحتهم.
وبعد هذا الافتتاح الذي يغرس الخوف في النفوس، ويحملها على تقوى الله وخشيته، ساقت السورة حال نوع من الناس يجادل بالباطل، ويتبع خطوات الشيطان، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣ الى ٤]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)
ومِنَ في قوله وَمِنَ النَّاسِ للتبعيض. وقوله يُجادِلُ من الجدال بمعنى المفاوضة على سبيل المنازعة والمخاصمة والمغالبة، مأخوذ من جدلت الحبل. أى: أحكمت فتله، كأن المتجادلين يحاول كل واحد منهما أن يقوى رأيه، ويضعف رأى صاحبه.
والمراد بالمجادلة في الله: المجادلة في ذاته وصفاته وتشريعاته.
وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من الفاعل في يجادل. وهي حال موضحة لما تشعر به المجادلة هنا من الجهل والعناد.
(٢) سورة الأحزاب الآية ١١.
وقوله- سبحانه- وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ معطوف على ما قبله. والمريد والمتمرد:
البالغ أقصى الغاية في الشر والفساد، يقال: مرد فلان على كذا- من باب نصر وظرف- إذا عتا وتجبر واستمر على ذلك.
وأصل المادة للملاسة والتجرد، ومنه قولهم: شجرة مرداء، أى ملساء لا ورق لها. وغلام أمرد. أى: لم ينبت في ذقنه شعر..
أى: يجادل في ذات الله وصفاته بغير علم يعلمه، ويتبع في جداله وتطاوله وعناده، كل شيطان عاد عن الخير، متجرد للفساد، لا يعرف الحق أو الصلاح، ولا هما يعرفانه، وإنما هو خالص للشر والغي والمنكر من القول والفعل.
وتقييد الجدال بكونه بغير علم، يفهم منه أن الجدال بعلم لإحقاق الحق وإبطال الباطل، سائغ محمود، ولذا قال الإمام الفخر الرازي: «هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة»، فالمجادلة الباطلة: هي المرادة من قوله- تعالى-: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا.. «١» والمجادلة الحقة هي المرادة من قوله: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. «٢».
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة هذا المجادل بالباطل، والمتبع لكل شيطان مريد، فقال:
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ.
أى: كتب على هذا الشيطان، وقضى عليه «أنه من تولاه» أى اتخذه وليا وقدوة له «فأنه يضله» أى: فشأن هذا الشيطان أن يضل تابعه عن كل خير «ويهديه إلى عذاب السعير» أى: وأن شأن هذا الشيطان- أيضا- أن يهدى متبعه إلى طريق النار المستعرة، وفي التعبير بقوله: وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ تهكم بمن يتبع هذا الشيطان، إذ سمى- سبحانه- قيادة الشيطان لأتباعه هداية..
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هاتين الآيتين نزلنا في شأن النضر بن الحارث أو العاص بن وائل، أو أبى جهل.. وكانوا يجادلون النبي صلّى الله عليه وسلّم بالباطل.
ومن المعروف أن نزول هاتين الآيتين في شأن هؤلاء الأشخاص، لا يمنع من عمومهما في
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ١٤٣. [.....]
ولذا قال صاحب الكشاف: «وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز، من الصفات والأفعال. ولا يرجع إلى علم. ولا يعض فيه بضرس قاطع، وليس فيه اتباع للبرهان، ولا نزول على النصفة، فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل» «١».
ثم ساق- سبحانه- أهم القضايا التي جادل فيها المشركون بغير علم، واتبعوا في جدالهم خطوات الشيطان، وهي قضية البعث، وأقام الأدلة على صحتها، وعلى أن البعث حق وواقع فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥ الى ٧]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
والدليل الثاني: في الأرض التي يشاهد تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلا، فإذا ورد الشرع بوقوعه، وجب التصديق به، وأنه واقع لا محالة «١».
والمراد بالناس هنا: المشركون وكل من كان على شاكلتهم في إنكار أمر البعث واستبعاده، لأن المؤمنين يعترفون بأن البعث حق، وأنه واقع بلا أدنى شك أو ريب.
والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من أمر إعادتكم الى الحياة مرة أخرى للحساب يوم القيامة، فانظروا وتفكروا في مبدأ خلقكم، فإن هذا التفكر من شأنه أن يزيل هذا الشك، لأن الذي أوجدكم الإيجاد الأول. وخلقكم من التراب، قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى، إذ الإعادة- كما يعرف كل عاقل- أيسر من ابتداء الفعل.
وقد قرب- سبحانه- هذا المعنى في أذهانكم في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-:
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «٢».
وأتى- سبحانه- بأن المفيدة للشك فقال: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ مع أن كونهم في ريب أمر محقق تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه، وتنزيها لموضوع البعث عن أن يتحقق الشك فيه من أى عاقل، وتوبيخا لهم لوضعهم الأمور في غير مواضعها.
ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية، للإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
قال الآلوسى: «وقوله فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ دليل جواب الشرط، أو هو الجواب بتأويل، أى: إن كنتم في ريب من البعث، فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم، فإنا خلقناكم من تراب، وخلقهم من تراب في ضمن خلق أبيهم آدم منه... » «٣».
وقال بعض العلماء ما ملخصه: والتحقيق في معنى قوله- تعالى- فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ
(٢) سورة الروم الآية ٢٧.
(٣) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١١٦.
فلما كان أصلهم الأول من تراب، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب لأن الفروع تتبع الأصل. وعلى ذلك يكون خلقهم من تراب هو الطور الأول..» «١».
ثم بين- سبحانه- الطور الثاني من أطوار خلق الإنسان فقال: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وهذا اللفظ مأخوذ من النطف- بفتح النون مع التشديد وإسكان الطاء- بمعنى السيلان والتقاطر.
يقال: نطفت القربة، إذا تقاطر الماء منها بقلة.
والنطفة تطلق في اللغة: على الماء القليل، والمراد بها هنا: الماء المختلط من الرجل والمرأة عند الجماع، والمعبر عنه بالمنى.
وقوله ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ هو الطور الثالث. والعلقة جمعها علق، وهي قطعة من الدم جامدة، تتحول إليها النطفة.
وقوله ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ هو الطور الرابع، والمضغة قطعة صغيرة من اللحم تتحول إليها العلقة.
وقوله- سبحانه- مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ صفة للمضغة.
والمراد بالمخلقة: التامة الخلقة، السالمة من العيوب، والمراد بغير المخلقة: ما ليست كذلك كأن تكون ناقصة الخلقة.
وقد اكتفى بهذا المعنى صاحب الكشاف فقال: «والمخلقة» المستواة الملساء من النقصان والعيب: يقال: خلق السواك والعود، إذا سواه وملسه، من قولهم: صخرة خلقاء، إذا كانت ملساء. كأن الله- تعالى- يخلق المضغ متفاوتة. منها. ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت، تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم... » «٢».
وقيل: «مخلقة» أى: مستبينة الخلق، ظاهرة التصوير. «وغير مخلقة» أى: لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها كالسقط الذي هو مضغة ولم تظهر صورته الإنسانية بعد.
وقيل: «مخلقة» أى: نفخ فيها الروح. «وغير مخلقة» أى: لم ينفخ فيها الروح.
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه صاحب الكشاف واكتفى به أولى بالقبول، لأنه هو المشهور من
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٤٤.
وقوله- تعالى-: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ متعلق بقوله: خَلَقْناكُمْ أى: خلقناكم على هذا النحو العجيب، وفي تلك الأطوار البديعة. لنبين لكم كمال قدرتنا، وبليغ حكمتنا. وأننا لا يعجزنا إعادة كل حي إلى الحياة بعد موته.
وحذف مفعول «نبين» للإشعار بأن أفعاله- تعالى- الدالة على كمال قدرته، لا يحيط بها وصف، ولا تمدها عبارة..
أى: لنبين لكم عن طريق المشاهدة، ما يدل على كمال قدرتنا دلالة يعجز الوصف عن الإحاطة بها.
وقوله- تعالى-: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الناس بعد تمام خلقهم، وتوارد تلك الأطوار عليهم.
أى: ونقر ونثبت في أرحام الأمهات ما نشاء إقراره وثبوته فيها من الأجنة والأحمال، إلى أجل معلوم عندنا. وهو الوقت المحدد للولادة والوضع، وما لم نشأ إقراره من الحمل لفظته الأرحام وأسقطته، إذ كل شيء بمشيئتنا وإرادتنا.
وقوله- تعالى-: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا بيان للطور الخامس من أطوار خلق الإنسان.
أى: ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم بعد استقراركم فيها إلى الوقت الذي حددناه، طفلا صغيرا. أى: أطفالا صغارا، وإنما جاء مفردا باعتبار إرادة الجنس الشامل للواحد والمتعدد، أو باعتبار كل واحد منهم، وهو حال من ضمير المخاطبين.
ومن الأساليب العربية المعهودة، أن الاسم المفرد إذا كان اسم جنس. يكثر إطلاقه على الجمع، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أى: أئمة. وقوله- سبحانه- فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً.. أى: أنفسا، ومن هذا القبيل قول الشاعر:
وكان بنو فزارة شرّ عمّ | فكنت لهم كشر بنى الأخينا |
وقوله- تعالى- ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ بيان للطور السادس، والأشد: قوة الإنسان وشدته واشتعال حرارته، من الشدة بمعنى الارتفاع والقوة، يقال: شد النهار إذا ارتفع، وهو
قال الآلوسى: «والجملة علة لنخرجكم، وهي معطوفة على علة أخرى مناسبة لها.
كأنه قيل: ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا أشدكم، أى كمالكم في القوة والعقل والتمييز.. وقيل: علة لمحذوف. والتقدير: ثم نمهلكم لتبلغوا أشدكم...
وتقديم التبيين «لنبين لكم» على ما بعده، مع أن حصوله بالفعل بعد الكل، للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات.
وإعادة اللام في «لتبلغوا» مع تجريد «نقر، ونخرج» عنها، للإشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإقرار والإخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدى إلى السعادة والشقاوة» «١».
وقوله- سبحانه-: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً بيان للطور السابع والأخير.
أى: منكم- أيها الناس- من يبلغ أشده في هذه الحياة، ومنكم من يموت قبل ذلك، ومنكم من يعيش إلى أرذل العمر أى: أخسه وأدونه، فيصير من بعد علمه بالأشياء وفهمه لها، لا علم له ولا فهم، شأنه في ذلك شأن الأطفال.
قال- تعالى-: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ فالآية الكريمة تصور أطوار خلق الإنسان ومراحل حياته أكمل تصوير، للتنبيه على مظاهر قدرة الله- تعالى- وعلى أن البعث حق وصدق.
وبعد إقامة هذا الدليل من نفس الإنسان وتطور خلقه على صحة البعث، ساق- سبحانه- الدليل الثاني عن طريق مشاهدة الأرض وتنقلها من حال إلى حال، فقال- تعالى- وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
وقوله: هامِدَةً أى: يابسة، يقال: همدت الأرض تهمد- بضم الميم- همودا، إذا يبست.
ومعنى: «اهتزت» : تحركت، يقال: هز فلان الشيء فاهتز، إذا حركه فتحرك.
ومعنى: «ربت» زادت بسبب تداخل الماء والنبات فيها، يقال: ربا الشيء يربو ربوا، إذا زاد ونما، ومنه الربا والربوة.
وشبيه بهذه الآية في أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم، بقدرة الله- تعالى- وإرادته، قوله- عز وجل-: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «١».
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما يدل على وحدانيته وقدرته فقال: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
واسم الإشارة يعود إلى المذكور من خلق الإنسان وإحياء الأرض بعد موتها..
أى: ذلك الذي ذكرناه لكم دليل واضح، وبرهان قاطع، على أن الله- تعالى- هو الإله الحق، الذي يجب أن تخلصوا له العبادة والطاعة، لأنه هو وحده الخالق لكل شيء، ولأنه هو وحده الذي يعيد الموتى إلى الحياة، ولأنه هو وحده الذي لا يعجزه شيء.
وخص- سبحانه- إحياء الموتى بالذكر، مع أنه من جملة الأشياء المقدور عليها.
للتصريح بما هو محل النزاع وهو البعث، ولدحض شبه المنكرين له.
ثم أكد- سبحانه- ذلك تأكيدا دامغا فقال: وَأَنَّ السَّاعَةَ وما تشتمل عليه من حساب وثواب وعقاب آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أى: لا ريب ولا شك في إتيانها في الوقت الذي يريده الله- تعالى-.
وَأَنَّ اللَّهَ- تعالى- وحده يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ليحاسبهم على أعمالهم.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت أعظم الأدلة وأوضحها على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، وعلى أن البعث حق وصدق وأنه آت لا ريب فيه.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك نموذجين لصنفين من الناس، أحدهما: متكبر مغرور، والآخر مذبذب لا ثبات له في عقيدة فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٨ الى ١٣]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢)يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
قال ابن كثير- رحمه الله-: «لما ذكر- تعالى- حال الضلال الجهال المقلدين لغيرهم في الآية الثالثة من هذه السورة وهي قوله- سبحانه-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ، ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفر والبدع، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أى:
بلا عقل صحيح. ولا نقل صحيح صريح بل بمجرد الرأى والهوى» «١».
ولعل مما يؤيد ما ذهب إليه ابن كثير من أن الآية الثالثة من هذه السورة في شأن المقلدين لغيرهم، أنه- سبحانه- قال فيها في شأنهم: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ.
أما في هذه الآية فقد قال في شأن هذا النوع من الناس: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... أى: ليضل غيره ويصرفه عن طاعة الله- تعالى- واتباع طريقه الحق.
وقد نفت الآية الكريمة عن هذا المجادل، استناده إلى أى دليل أو ما يشبه الدليل، فهو يجادل في ذات الله- تعالى- وفي صفاته «بغير علم» يستند إليه وبغير «هدى» يهديه
فأنت ترى أن الآية قد جردت هذا المجادل من أى مستند إليه في جداله سواء كان عقليا أم نقليا، بل أثبتت له الجهالة من جميع الجهات.
ثم صورته السورة الكريمة بعد ذلك بتلك الصورة المزرية، صورة الجاهل المغرور المتعجرف، فقال- تعالى-: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
وقوله ثانِيَ من الثّنى بمعنى اللّىّ والميل عن الاستقامة. يقال: فلان ثنى الشيء إذا رد بعضه على بعض فانثنى أى: مال والتوى.
والعطف- بكسر العين- الجانب، وهذا التعبير كناية عن غروره وصلفه مع جهله. أى:
أنه مع جداله بدون علم، متكبر معجب بنفسه، معرض عن الحق، مجتهد في إضلال غيره عن سبيل الله- تعالى- وعن الطريق الذي يوصل إلى الرشاد.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة هذا الجاهل المغرور المضل لغيره فقال: ولَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أى: هوان وذلة وصغار.
وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أى: ونجعله يوم القيامة يدرك طعم العذاب المحرق. ويصطلى به جزاء غروره وشموخه في الدنيا بغير حق.
وتقول له ملائكتنا وهي تصب عليه ألوان العذاب ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أى: ذلك الذي تتذوقه من عذاب محرق سببه: جهلك وغرورك وإصرارك على الكفر، وحرصك على إضلالك لغيرك.
وأسند- سبحانه- سبب ما نزل بهذا الكافر من خزي وعذاب إلى يديه، لأنهما الجارحتان اللتان يزاول بهما أكثر الأعمال.
وقوله- سبحانه- وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ بيان لعدله- تعالى- مع عباده، أى: وأن الله- تعالى- ليس بذي ظلم لعباده أصلا، حتى يعذبهم بدون ذنب، بل هو عادل رحيم بهم، ومن مظاهر عدله ورحمته أنه يضاعف الحسنات، ويعاقب على السيئات، ويعفو عن كثير من ذنوب عباده.
ثم بين- سبحانه- نوعا آخر من الناس، لا يقل جرما عن سابقه فقال- تعالى-:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ...
وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم: لا على سكون وطمأنينة، كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن، وإلا فر وطار على وجهه... » «١».
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها: ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإذا ولدت امرأته غلاما، ونتجت خيله. قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته، ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء... » «٢».
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد صورت المذبذبين في عقيدتهم أكمل تصوير، فهم يقيسون العقيدة بميزان الصفقات التجارية، إن ربحوا من ورائها فرحوا، وإن خسروا فيها أصابهم الغم والحزن.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في شأن المنافقين: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ «٣».
والتعبير بقوله- سبحانه- عَلى حَرْفٍ يصور هذا النوع من الناس، وكأنه يترجح في عبادته كما يترجح من يكون على طرف الشيء. فهو معرض للسقوط في أية لحظة.
والمراد من الخير في قوله- تعالى- فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ الخير الدنيوي من صحة وغنى ومنافع دنيوية.
أى: فإن نزل بهذا المذبذب في عبادته خير دنيوى اطْمَأَنَّ بِهِ أى: ثبت على ما هو عليه من عبادة ثباتا ظاهريا، وليس ثباتا قلبيا حقيقيا كما هو شأن المؤمنين الصادقين الذين لا يزحزحهم عن إيمانهم وعد أو وعيد.
وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ أى: مصيبة أو شر انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أى: ارتد ورجع عن عبادته ودينه إلى الكفر والمعاصي.
وقوله- تعالى-: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ بيان لسوء عاقبة صنيعه.
أى: هذا الذي يعبد الله على حرف، جمع على نفسه خسارتين، خسارة الدنيا بسبب عدم حصوله على ما يريده منها، وخسارة الآخرة بسبب ارتداده إلى الكفر وغشيان السيئات،
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٢٤.
(٣) سورة التوبة الآية ٥٨.
ثم بين- سبحانه- مظاهر خسران هذا المذبذب، وأحواله القبيحة فقال: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ...
أى: يعبد سوى الله- تعالى- أوثانا وأصناما، إن ترك عبادتها لا تستطيع أن تضره، وإن عبدها فلن تستطيع أن تنفعه.
وذلِكَ الذي يفعله هذا الشقي من عبادته لما لا يضر ولا ينفع هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ بعدا شاسعا عن كل صواب ورشاد.
ثم أضاف- سبحانه- إلى تبكيت هذا المذبذب وتقريعه تقريعا آخر فقال: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ.
والمولى: هو كل من انعقد بينك وبينه سبب، يجعلك تواليه ويواليك، وتناصره ويناصرك.
والعشير: هو من يعاشرك ويخالطك في حياتك.
أى: يعبد هذا الإنسان الجاهل المضطرب، معبودا ضرره أقرب من منفعته، لبئس الناصر ولبئس الصاحب هذا المعبود.
فإن قيل: كيف نجمع بين هذه الآية التي جعلت المعبود الباطل ضرره أقرب من نفعه، وبين الآية السابقة عليها والتي نفت الضر والنفع نفيا تاما.
وقد أجاب العلماء عن هذا التساؤل بإجابات منها: أن لفظ «يدعو» في الآية الثانية بمعنى يقول.
وقد صدر الآلوسى تفسيره للآية بهذا الرأى فقال ما ملخصه: «قوله- تعالى- يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله- تعالى- ويقرر كون ذلك ضلالا بعيدا. فالدعاء هنا بمعنى القول.
أى: يقول الكافر يوم القيامة برفع صوت، وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه، ولا يرى منه أثرا مما كان يتوقعه منه من نفع أو دفع ضر: والله لبئس الذي يتخذ ناصرا- من دون الله- ولبئس الذي يعاشر ويخالط، فكيف بما هو ضرر محض، عار عن النفع بالكلية، وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه ما لا يخفى... » «١».
ومنها ما ذكره الإمام القرطبي فقال: قوله- تعالى- يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ
ومنها: ما ذكره بعض العلماء من أن الآية الأولى في شأن الذين يعبدون الأصنام، إذ الأصنام لا تنفع من عبدها، ولا تضر من كفر بها، ولذا قال فيها: ما لا يضره وما لا ينفعه، والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام: التعبير بلفظة «ما» في قوله:
ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ لأن لفظ «ما» يأتى- غالبا- لما لا يعقل. والأصنام لا تعقل.
أما الآية الثانية فهي في شأن من عبد بعض الطغاة من دون الله، كفرعون القائل لقومه:
«ما علمت لكم من إله غيرى» فإن فرعون وأمثاله من الطغاة المعبودين، قد يغدقون نعم الدنيا على عابديهم. وهذا النفع الدنيوي بالنسبة لما سيلاقونه من عذاب لا شيء. فضر هذا المعبود بخلود عابده في النار. أقرب من نفعه بعرض قليل زائل من حطام الدنيا.
والقرينة على أن المراد بالمعبود الباطل في الآية الثانية بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء: هي التعبير «بمن» التي تأتى- غالبا- لمن يعقل، كما قال- تعالى-: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.. «٢».
ويبدو لنا أن هذا القول الأخير له وجه من القبول.
وبذلك نرى السورة الكريمة قد ساقت لنا نماذج من أحوال الناس في هذه الحياة. لكي يحذرهم المؤمنون ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله- تعالى- للمؤمنين الصادقين من حسن الثواب، بعد أن صرحت بما توعد به- سبحانه- المجادلين فيه بغير علم بسوء العقاب، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٤]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
(٢) أضواء البيان ج ٥ ص ٤٨ للمرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.
ثم بين- سبحانه- أن نصره لنبيه صلّى الله عليه وسلّم آت لا شك فيه مهما كره ذلك الكارهون، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)
وللعلماء في تفسير الآية الأولى أقوال:
أولها أن الضمير في قوله يَظُنُّ يعود إلى أعداء النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي قوله يَنْصُرَهُ يعود إليه صلّى الله عليه وسلّم والمعنى: «من كان يظن» من الكافرين الكارهين للحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم «أن لن ينصره الله». أى: أن لن ينصر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم «في الدنيا والآخرة فليمدد» هذا الكافر «بسبب» أى: بحبل إلى السماء، أى: سقف بيته، لأن العرب تسمى كل ما علاك فهو سماء.
«ثم ليقطع» ثم ليختنق هذا الكافر بهذا الحبل، بأن يشده حول عنقه ويتدلى من الحبل المعلق بالسقف حتى يموت.
«فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ» أى: فليتفكر هذا الكافر في أمره، هل يزيل فعله هذا ما امتلأت به نفسه من غيظ لنصر الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم؟
كلا، فإن ما يفعله بنفسه من الاختناق والغيظ، لن يغير شيئا من نصر الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، فليمت هذا الكافر بغيظه وكيده.
فالمقصود بالآية الكريمة: بيان أن ما قدره الله- تعالى- من نصر لنبيه صلّى الله عليه وسلّم لن
وصح عود الضمير في قوله أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أنه لم يسبق له ذكر، لأن الكلام دال عليه في الآيات السابقة، إذ المراد بالإيمان في قوله- تعالى- في الآية السابقة إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ... الإيمان بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به عند ربه- تعالى-.
وعبر- سبحانه- عن اختناق هذا الحاقد بالحبل بقوله: ثُمَّ لْيَقْطَعْ لأن قطع الشيء يؤدى إلى انتهائه وهلاكه، والمفعول محذوف. والتقدير: ثم ليقطع نفسه أو حياته.
وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره للآية بهذا القول فقال: هذا كلام قد دخله اختصار.
والمعنى: إن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك.. فليستقص وسعه، وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه. بأن يفعل ما يفعله من بلغ به الغيظ كل مبلغ، حتى مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر- هذا الحاسد- وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟
وسمى- سبحانه- فعل هذا الكافر كيدا، لأنه وضعه موضع الكيد، حيث لم يقدر على غيره، أو سماه كذلك على سبيل الاستهزاء، لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد نفسه.
والمراد: إنه ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه... » «١».
وثانيها: إن الضمير في قوله: لَنْ يَنْصُرَهُ يعود إلى «من» في قوله مَنْ كانَ يَظُنُّ وأن النصر هنا بمعنى الرزق..
فيكون المعنى: من كان من الناس يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليختنق، وليقتل نفسه، إذ لا خير في حياة ليس فيها رزق الله وعونه، أو فليختنق، فإن اختناقه لن يغير شيئا مما قضاه الله- تعالى-.
قال الآلوسى: واستظهر أبو حيان كون الضمير في «ينصره» عائدا على «من» لأنه المذكور، وحق الضمير أن يعود على مذكور... وفسر النصر بالرزق.
قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بنى بكر فقال: من ينصرني نصره الله- أى: من يرزقني رزقه الله.
والغرض: الحث على الرضا بما قسمه الله- تعالى- لا كمن يعبده على حرف... «١».
وثالثها: أن الآية في قوم من المسلمين استبطئوا نصر الله- تعالى- لاستعجالهم وشدة غيظهم وحنقهم على المشركين، فنزلت الآية لبيان أن كل شيء عند الله بمقدار.
ويكون المعنى: من كان من الناس يظن أن لن ينصره الله، واستبطأ حدوث ذلك، فليمت غيظا. لأن للنصر على المشركين وقتا لا يقع إلا فيه بإذن الله ومشيئته.
ويبدو أن أقرب الأقوال إلى الصواب، القول الأول، وعليه جمهور المفسرين، ويؤيده قوله- تعالى-: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «٢».
وقوله- سبحانه-:... وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «٣».
ثم مدح- سبحانه- القرآن الكريم فقال: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ... أى:
ومثل ذلك الإنزال البليغ الواضح، أنزلنا القرآن آيات بينات الدلالة على معانيها الحكيمة، وتوجيهاتها السديدة.
وأن الله- تعالى- يهدى من يريد هدايته إلى صراطه المستقيم، فهو الهادي الذي ليس هناك من هاد سواه.
ثم بين- سبحانه- أن مرد الفصل بين الفرق المختلفة إليه وحده. إذ هو العليم بكل ما عليه كل فرقة من حق أو باطل، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٧]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
(٢) سورة غافر الآية ٥١.
(٣) سورة آل عمران الآية ١١٩.
وابتدأ القرآن بهم، للإشعار بأن دين الإسلام هو الدين الحق، القائم على أساس أن الفوز برضا الله- تعالى- لا ينال إلا بالإيمان والعمل الصالح، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك، كما قال- تعالى-: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
وأما الفرقة الثانية فهي فرقة الذين هادوا أى: صاروا يهودا. يقال: هاد فلان وتهود أى:
دخل في اليهودية.
وسموا يهودا نسبة إلى «يهوذا» أحد أولاد يعقوب- عليه السلام-، وقلبت الذال دال عند التعريب. أو سموا يهودا حين تابوا من عبادة العجل مأخوذ من هاد يهود هودا بمعنى تاب. ومنه قوله- تعالى-: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أى: تبنا إليك.
والفرقة الثالثة هي فرقة «الصابئين» جمع صابئ، وهو الخارج من دين إلى آخر.
يقال: صبأ الظّلف والناب والنجم- كمنع وكرم- إذا طلع.
والمراد بهم: الخارجون من الدين الحق إلى الدين الباطل. وهم قوم يعبدون الكواكب والملائكة ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم.
والفرقة الرابعة هي فرقة «النصارى» جمع نصران بمعنى نصراني كندامى وندمان. والياء في نصراني للمبالغة، وهم قوم عيسى- عليه السلام-، قيل: سموا بذلك لأنهم كانوا أنصارا له: وقيل: إن هذا الاسم مأخوذ من الناصرة، وهي القرية التي كان عيسى قد نزل بها.
وأما الفرقة الخامسة فهي فرقة «المجوس» وهم قوم يعبدون الشمس والقمر والنار.
وقيل: هم قوم أخذوا من دين النصارى شيئا، ومن دين اليهود شيئا، ويقولون: بأن للعالم أصلين: نورا وظلمة..
وأما الفرقة السادسة والأخيرة فهي فرقة الذين أشركوا. والمشهور أنهم عبدة الأصنام والأوثان، وقيل ما يشملهم ويشمل معهم كل من اتخذ مع الله- تعالى- إلها آخر.
وقوله- سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بيان لما سيكون عليه حالهم جميعا يوم القيامة، من حكم عادل سيحكم الله- تعالى- به عليهم.
أى: إن الله تعالى يحكم بين هؤلاء جميعا بحكمه العادل يوم القيامة، إنه- سبحانه- على
قال الجمل ما ملخصه: ولهذه الآية قيل: الأديان ستة. واحد للرحمن وهو الإسلام.
وخمسة للشيطان وهي ما عداه. وإنّ الثانية واسمها وخبرها في محل رفع خبر لإن الأولى.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تعليل لقوله: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ..
وكأن قائلا قال: أهذا الفصل عن علم أو لا؟ فقيل: إن الله على كل شيء شهيد. أى:
علم به علم مشاهدة» «١».
ثم بين- سبحانه- أن الكون كله يخضع لسلطانه- تعالى- ويسجد لوجهه فقال:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨)
والاستفهام في قوله أَلَمْ تَرَ... للتقرير. والرؤية هنا بمعنى العلم وذلك لأن سجود هذه الكائنات لله- تعالى- آمنا به عن طريق الإخبار دون أن نرى كيفيته.
والسجود في اللغة: التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وما يشبهه. وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة.
والمراد به هنا: دخول الأشياء جميعها تحت قبضة الله- تعالى- وتسخيره وانقيادها لكل ما يريده منا انقيادا تاما، وخضوعها له- عز وجل- بكيفية هو الذي يعلمها. فنحن نؤمن بأن هذه الكائنات تسجد لله- تعالى- ونفوض كيفية هذا السجود له- تعالى-.
والمعنى: لقد علمت- أيها العاقل- أن الله- تعالى- يسجد له، ويخضع لسلطانه جميع من في السموات وجميع من في الأرض.
ونص- سبحانه- عليها مفردا إياها بالذكر، لشهرتها، ولاستبعاد بعضهم حدوث السجود منها، ولأن آخرين كانوا يعبدون هذه الكواكب، فبين- سبحانه- أنها عابدة وساجدة لله، وليست معبودة.
وقوله- تعالى-: وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ عطف خاص على مَنْ فِي الْأَرْضِ ونص- سبحانه- عليها- أيضا- لأن بعضهم كان يعبدها، أو يعبد ما يؤخذ منها كالأصنام.
وقوله- تعالى- وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بيان الذين اهتدوا إلى طريق الحق.
أى: ويسجد له- كذلك- كثير من الناس، وهم الذين خلصت عقولهم من شوائب الشرك والكفر، وطهرت نفوسهم من الأدناس والأوهام.
وقوله: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ بيان لحال الذين استحبوا العمى على الهدى.
أى: وكثير من الناس حق وثبت عليهم العذاب، بسبب إصرارهم على الكفر، وإيثارهم الغي على الرشد.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على نفاذ قدرته، وعموم مشيئته فقال: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.
و «من» شرطية، وجوابها: «فما له من مكرم» ومكرم اسم فاعل من أكرم.
أى: ومن يهنه الله ويخزه، فما له من مكرم يكرمه، أو منقذ ينقذه مما هو فيه من شقاء، إن الله- تعالى- يفعل ما يشاء فعله بدون حسيب يحاسبه، أو معقب يعقب على حكمه «١».
قال- تعالى-: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك صورة فيها ما فيها من وجوه المقارنات بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين. لكي ينحاز كل ذي عقل سليم إلى فريق الإيمان لا الكفر، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣)وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ...
روايات أشار الإمام ابن كثير إلى معظمها فقال: «ثبت في الصحيحين عن أبى ذر: أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية هذانِ خَصْمانِ نزلت في حمزة وصاحبيه. وعتبة وصاحبيه، يوم برزوا في بدر.
وعن قتادة قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: كتابنا يقضى على الكتب كلها، ونبينا خاتم الأنبياء، فنحن أولى بالله منكم، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه- أى فنصر الله الإسلام-، وأنزل الآية.
وعن مجاهد في الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث.
وهذا القول يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان «١».
أى: هذان خصمان اختصموا في ذات ربهم وفي صفاته، بأن اعتقد كل فريق منهم أنه على الحق، وأن خصمه على الباطل.
قال الجمل: والخصم في الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالبا، وعليه قوله
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فالجمع مراعاة للمعنى «٢».
وقوله- سبحانه-:
فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ | تفصيل وبيان لحال كل خصم وفريق. |
قال الآلوسى: أى أعد الله لهم ذلك، وكأنه شبه إعداد النار المحيطة بهم بتقطيع ثياب وتفصيلها لهم على قدر جثثهم. ففي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية، وليس هناك تقطيع ثياب ولا ثياب حقيقة. وكأن جمع الثياب للإيذان بتراكم النار المحيطة بهم، وكون بعضها فوق بعض.. وعبر بالماضي، لأن الإعداد قد وقع، فليس من التعبير بالماضي لتحققه.. «٣».
وقوله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ زيادة في عذابهم، أى: لم تقطع لهم ثياب من نار فحسب، وإنما زيادة على ذلك يصب من فوق رءوسهم «الحميم» أى: الماء البالغ أقصى درجات الشدة في الحرارة.
وقوله: يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ بيان للآثار التي تترتب على هذا العذاب.
والفعل «يصهر» مأخوذ من الصهر بمعنى الإذابة. يقال: صهر فلان الشحم يصهره إذا أذابه.
أى: فذلك الحميم الذي يصب من فوق رءوسهم من آثاره أنه يذاب به ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء. كما تذاب به جلودهم- أيضا- فقوله: وَالْجُلُودُ عطف على ما الموصولة في قوله ما فِي بُطُونِهِمْ أى: يذاب به الذي في بطونهم وتذاب به أيضا جلودهم.
وقيل: إن لفظ الجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على «يصهر».
والتقدير: يصهر به ما في بطونهم من أحشاء وشحوم، وتحرق به الجلود. قالوا: وذلك لأن الجلود لا تذاب وإنما تنقبض وتنكمش إذا أصليت بالنار.
والضمير في قوله- سبحانه-: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ يعود إلى الكفرة المعذبين بهذا الحميم الذي تصهر به البطون.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٥٩.
(٣) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٣٤.
أى: وخصصت لهؤلاء الكافرين مضارب من حديد تضربهم بها الملائكة على رءوسهم زيادة في إذلالهم وقهرهم.
وقيل: إن الضمير في «لهم» يعود على خزنة النار. أى: ولخزنة النار مضارب من حديد يضربون بها هؤلاء الكافرين.
وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تصور هوان هؤلاء الكافرين أكمل تصوير.
وقوله- سبحانه-: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها بيان لما يقابلون به عند ما يريدون التزحزح عن النار.
أى: كلما أراد هؤلاء الكافرون أن يخرجوا من النار ومن غمها وكربها وسعيرها: أعيدوا فيها مرة أخرى، كما قال- تعالى-: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ «١».
وقوله- تعالى-: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ مقول لقول محذوف أى: أعيدوا فيها وقيل لهم على لسان خزنة النار: ذوقوا العذاب المحرق لأبدانكم.
هذا هو حال فريق الكافرين. وهو حال يزلزل القلوب ويرهب المشاعر، ويفزع النفوس.
ولكن القرآن كعادته في قرن الترهيب بالترغيب. لا يترك النفوس في هذا الفزع، بل يتبع ذلك بما يمسح عنها خوفها ورعبها عن طريق بيان حسن حال المؤمنين فيقول: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ....
وغير- سبحانه- الأسلوب فلم يقل: والذين آمنوا على سبيل العطف على الذين كفروا.. تعظيم لشأن المؤمنين، وإشعار بمباينة حالهم لحال خصمائهم الكافرين.
أى: إن الله- تعالى- بفضله وإحسانه يدخل عباده الذين آمنوا وعملوا في دنياهم الأعمال الصالحات، جنات عاليات تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار.
وقوله يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ بيان لما ينالون في تلك الجنات من خير وفير، وعطاء جزيل.
قال الآلوسى: وقوله- تعالى-: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا، للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غنى عن البيان.. ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام في كل أهل الجنة، وقيل هو باعتبار الأغلب، لما أخرجه النسائي وابن حيان وغيرهما عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة. وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه» «١».
قالوا: ومحله فيمن مات مصرا على ذلك.
وقوله- تعالى-: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ بيان لحسن خاتمتهم، ولعظم النعم التي أنعم الله بها عليهم.
أى: وهدى الله- تعالى- هؤلاء المؤمنين إلى القول الطيب الذي يرضى الله- تعالى- عنهم، كأن يقولوا عند دخولهم الجنة:... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ «٢».
وهداهم- أيضا- خالقهم إلى الصراط المحمود، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم بنعمة الإيمان والإسلام، فصاروا بسبب هذه النعمة يقولون الأقوال الطيبة، ويفعلون الأفعال الحميدة.
قال الشوكانى: قوله: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ... أى: أرشدوا إليه. قيل:
هو لا إله إلا الله. وقيل: القرآن. وقيل: هو ما يأتيهم من الله من بشارات. وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله- سبحانه-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ.. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ...
ومعنى: وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة، أو صراط الله الذي هو دينه القويم وهو الإسلام «٣».
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الخصمين وعن عاقبة كل منهما.. جاء الحديث عن المسجد
(٢) سورة فاطر الآيتان ٣٤، ٣٥. [.....]
(٣) تفسير فتح القدير ج ٣ ص ٤٤٥.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت، وعظم كفر هؤلاء الكافرين فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
قال ابن عباس: الآية نزلت في أبى سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية عن المسجد الحرام، عن أن يحجوا ويعتمروا، وينحروا الهدى. فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتالهم، وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود في العام القادم.. «١».
ويجوز أن يكون قوله وَيَصُدُّونَ... خبرا لمبتدأ محذوف، أى: وهم يصدون عن المسجد الحرام. وخبر إن في قوله- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا... محذوف لدلالة آخر الآية عليه.
والمعنى: إن الذين أصروا على كفرهم بما أنزله الله- تعالى- على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، واستمروا على منع أهل الحق من أداء شعائر دين الله- تعالى-، ومن زيارة المسجد الحرام..
هؤلاء الكافرون سوف نذيقهم عذابا أليما.
ويصح أن يكون الخبر محذوفا للتهويل والإرهاب. وكأن وصفهم بالكفر والصد كاف في معرفة مصيرهم المهين.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل إنه المسجد نفسه وهو ظاهر القرآن، لأنه لم يذكر غيره، وقيل الحرم كله، لأن المشركين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه... وهذا صحيح لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك «١».
وقوله- سبحانه-: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ.. تشريف لهذا المكان حيث جعل الله- تعالى- الناس تحت سقفه سواء، وتشنيع على الكافرين الذين صدوا المؤمنين عنه.
ولفظ «سواء» قرأه جمهور القراء بالرفع على أنه خبر مقدم، والعاكف: مبتدأ، والباد معطوفة عليه أى: العاكف والباد سواء فيه. أى مستويان فيه.
وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على أنه المفعول الثاني لقوله «جعلناه» بمعنى صيرناه.
أى: جعلناه مستويا فيه العاكف والباد. ويصح أن يكون حالا من الهاء في جَعَلْناهُ أى:
وضعناه للناس حال كونه سواء العاكف فيه والباد.
والمراد: بالعاكف فيه: المقيم فيه. يقال: عكف فلان على الشيء، إذا لازمه ولم يفارقه.
والباد: الطارئ عليه من مكان آخر. وأصله من يكون من أهل البوادي الذين يسكنون المضارب والخيام، ويتنقلون من مكان إلى آخر.
فهذا المسجد الحرام يتساوى فيه عباد الله، فلا يملكه أحد منهم، ولا يمتاز فيه أحد منهم، بل الكل فوق أرضه وتحت سقفه سواء.
وقوله- تعالى-: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تهديد لكل من يحاول ارتكاب شيء نهى الله عنه في هذا المسجد الحرام.
والإلحاد الميل. يقال: ألحد فلان في دين الله، أى: مال وحاد عنه.
و «من» شرطية وجوابها «نذقه» ومفعول «يرد» محذوف لقصد التعميم. أى: ومن يرد فيه مرادا بإلحاد، ويصح أن يكون المفعول قوله بِإِلْحادٍ على أن الباء زائدة.
أى: ومن يرد في هذا المسجد الحرام إلحادا، أى: ميلا وحيدة عن أحكام الشريعة وآدابها بسبب ظلمه وخروجه عن طاعتنا، نذقه من عذاب أليم لا يقادر قدره، ولا يكتنه كنهه.
وقد جاء هذا التهديد في أقصى درجاته لأن القرآن توعد بالعذاب الأليم كل من ينوى ويريد الميل فيه عن دين الله، وإذا كان الأمر كذلك، فمن ينوى ويفعل يكون عقابه أشد، ومصيره أقبح.
ويدخل تحت هذا التهديد كل ميل عن الحق إلى الباطل، أو عن الخير إلى الشر كالاحتقار، والغش.
ولذا قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال في ذلك: وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب: القول الذي ذكرناه من أن المراد بالظلم في هذا الموضع، كل معصية لله، وذلك لأن الله عم بقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ولم يخصص به ظلما دون ظلم في خبر ولا عقل، فهو على عمومه، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام: ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصى الله فيه، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له «١».
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن بناء البيت وتطهيره فقال- تعالى-: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً....
وبوأنا من التبوؤ بمعنى النزول في المكان. يقال: بوأته منزلا أى: أنزلته فيه، وهيأته له، ومكنته منه.
قال بعض العلماء: والمفسرون يقولون بوأه له، وأراه إياه، بسبب ريح تسمى الخجوج، كنست ما فوق الأساس:
حتى ظهر الأساس الأول الذي كان مندرسا، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه | وأن محل البيت كان مربض غنم لرجل من جرهم. |
وظاهر قوله- تعالى- على لسان إبراهيم:
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ | يدل على أنه كان مبنيا واندرس كما يدل عليه- أيضا- قوله هنا مَكانَ الْبَيْتِ لأنه يدل على أن له مكانا سابقا كان معروفا «١». |
والمعنى: واذكر- أيها المخاطب- وقت أن هيأنا لإبراهيم- عليه السلام- مكان بيتنا الحرام، وأوصيناه بعدم الإشراك بنا، وبإخلاص العبادة لنا، كما أوصيناه- أيضا- بأن يطهر هذا البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية الشاملة للكفر والبدع والضلالات والنجاسات، وأن يجعله مهيأ للطائفين به، وللقائمين فيه لأداء فريضة الصلاة.
قال الشوكانى: والمراد بالقائمين في قوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ المصلون..
وذكر الرُّكَّعِ السُّجُودِ بعده، لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة، لأنهما لا يشرعان إلا في البيت، فالطواف عنده والصلاة إليه «٢».
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام، قذر من الأقذار ولا نجس من الأنجاس المعنوية ولا الحسية، فلا يترك فيه أحد يرتكب مالا يرضى الله، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات.
ثم ذكر- سبحانه- ما أمر به نبيه إبراهيم بعد أن بوأه مكان البيت فقال: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، يَأْتُوكَ رِجالًا. وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.
(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٤٤٨.
يقال: رجل بزنة فرح فلان يرجل فهو راجل إذا لم يكن معه ما يركبه.
والضامر: البعير المهزول من طول السفر، وهو اسم فاعل من ضمر- بزنة قعد- يضمر ضمورا فهو ضامر، إذا أصابه الهزال والتعب.
وجملة «يأتين من كل فج عميق» صفة لقوله «كل»، والجمع باعتبار المعنى. كأنه قيل:
وركبانا على ضوامر من كل طريق بعيد..
والفج في الأصل: الفجوة بين جبلين، ويستعمل في الطريق المتسع. والمراد به هنا: مطلق الطريق وجمعه فجاج.
والعميق: البعيد، مأخوذ من العمق بمعنى البعد، ومنه قولهم: بئر عميقة، أى: بعيدة الغور.
والمعنى: وأعلم يا إبراهيم الناس بفريضة الحج يأتوك مسرعين مشاة على أقدامهم، ويأتوك راكبين على دوابهم المهزولة، من كل مكان بعيد.
قال ابن كثير: أى: ناد- يا إبراهيم- في الناس داعيا إياهم إلى الحج الى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا يصل إليهم؟
فقيل: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل:
على أبى قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: «لبيك اللهم لبيك» «١».
وقيل: إن الخطاب في قوله- تعالى-: وَأَذِّنْ... للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأن الكلام عن إبراهيم- عليه السلام- قد انتهى عند قوله- تعالى-: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.
وجمهور المفسرين على أن الخطاب لإبراهيم- عليه السلام- لأن سياق الآيات يدل عليه، ولأن التوافد على هذا البيت موجود منذ عهد إبراهيم.
وما يزال وعد الله يتحقق منذ هذا العهد الى اليوم وإلى الغد، وما تزال أفئدة ملايين الناس تهوى إليه، وقلوبهم تنشرح لرؤيته، وتسعد بالطواف من حوله...
وقوله- سبحانه-: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ متعلق بقوله: يَأْتُوكَ.
ومن مظاهر منافعهم الدينية: غفران ذنوبهم، وإجابة دعائهم، ورضا الله- تعالى- عنهم.
ومن مظاهر منافعهم الدنيوية: اجتماعهم في هذا المكان الطاهر، وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى، وتبادلهم المنافع فيما بينهم عن طريق البيع والشراء وغير ذلك من أنواع المعاملات التي أحلها الله- تعالى-.
وجاء لفظ «منافع» بصيغة التنكير، للتعميم والتعظيم والتكثير. أى: منافع عظيمة وشاملة لأمور الدين والدنيا، وليس في الإمكان تحديدها لكثرتها، وقوله وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ معطوف على قوله لِيَشْهَدُوا.
والمراد بالأيام المعلومات: الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة، أو هي أيام النحر، أو يوم العيد وأيام التشريق.
والمراد ببهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم.
أى: ليشهدوا منافع لهم، وليكثروا من ذكر الله ومن طاعته في تلك الأيام المباركة.
وليشكروه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام التي يتقربون إليه- سبحانه- عن طريق ذبحها وإراقة دمائها، واستجابة لأمره- عز وجل-.
وقوله- سبحانه-: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ إرشاد منه- تعالى- إلى كيفية التصرف فيها بعد ذبحها.
أى: فكلوا من هذه البهيمة بعد ذبحها، وأطعموا منها الإنسان البائس، أى: الذي أصابه بؤس ومكروه بجانب فقره واحتياجه.
قال الآلوسى: والأمر في قوله فَكُلُوا مِنْها... للإباحة بناء على أن الأكل كان منهيا عنه شرعا، وقد قالوا: إن الأمر بعد المنع يقتضى الإباحة ويدل على سبق النهى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحى فكلوا منها وادخروا».
وقيل: لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه، أو للندب على مواساة الفقراء ومساواتهم في الأكل منها «١».
والمراد بالقضاء هنا: الإزالة، وأصله القطع والفصل، فأريد به الإزالة على سبيل المجاز.
والتفث: الوسخ والقذر، كطول الشعر والأظفار يقال: تفث فلان- كفرح- يتفث تفثا فهو تفث، إذا ترك الاغتسال والتطيب والتنظيف فأصابته الأوساخ.
والمراد بالطواف هنا: طواف الإفاضة، الذي هو أحد أركان الحج، وبه يتم التحلل.
والعتيق: القديم حيث إنه أول بيت وضع لعبادة الله في الأرض، وقيل سمى بالعتيق لأن الله- تعالى- أعتقه من أن يتسلط عليه جبار فيهدمه أو يخربه.
والمعنى: ثم بعد حلهم وبعد الإتيان بما عليهم من مناسك. فليزيلوا عنهم أدرانهم وأوساخهم، وليوفوا نذورهم التي نذروها لله- تعالى- في حجهم، وليطوفوا طواف الإفاضة، بهذا البيت القديم الذي جعله الله- تعالى- أول بيت لعبادته، وصانه من اعتداء كل جبار أثيم.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد توعدت كل من يصد الناس عن هذا البيت بأشد ألوان الوعيد، وبينت أن الناس فيه سواء، وتحدثت عن جانب من فضله- سبحانه- على نبيه إبراهيم- عليه السلام- حيث أرشده إلى مكان هذا البناء، وشرفه بتهيئته ليكون أول مكان لعبادته- تعالى-، وأمره بأن ينادى في الناس بالحج إليه، ليشهدوا منافع عظيمة لهم.
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك الى الحديث عن الذين يعظمون حرمات الله، وعما أحله الله لعباده من الأنعام، وعن سوء عاقبة من يشرك بالله، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)
وجيء هنا بلفظ ذلك للإشعار بتعظيم شأن المتحدث عنه، وعلو منزلته، وهو يعود إلى المذكور من تهيئة مكان البيت لإبراهيم، وأمره بتطهيره... إلخ.
قال صاحب الكشاف: قوله ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف أى: الأمر والشأن ذلك، كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا، وقد كان كذا «٢».
والحرمات: جمع حرمة. والحرمة كل ما أمر الله- تعالى- باحترامه، ونهى عن قوله أو فعله، ويدخل في ذلك دخولا أوليا ما يتعلق بمناسك الحج كتحريم الرفث والفسوق والجدال والصيد، وتعظيم هذه الحرمات يكون بالعلم بوجوب مراعاتها، وبالعمل بمقتضى هذا العلم.
والمعنى: ذلك الذي ذكرناه لكم عن البيت الحرام وعن مناسك الحج، هو جانب من أحكام الله- تعالى- في هذا الشأن فاتبعوها، والحال أن من يعظم حرمات الله- تعالى- بأن يترك ملابستها واقترافها، فهو أى: هذا التعظيم، خير له عند ربه. إذ بسبب هذا التعظيم لتلك الحرمات ينال رضا ربه وثوابه.
وقد جاء النهى في هذه الجملة عن فعل هذه الحرمات بأبلغ أسلوب حيث عبر عن اجتنابها بالتعظيم وبأفعل التفضيل وهو لفظ «خير» وبإضافتها إلى ذاته.
فكأنه- سبحانه- يقول: إذا كان ترك هذا التعظيم لحرمات الله يؤدى إلى حصولكم على شيء من المتاع الدنيوي الزائل، فإن الاستمساك بهذا التعظيم أفضل من ذلك بكثير عند ربكم وخالقكم، فكونوا عقلاء ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٥٤.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ.
أى: وأحل الله- تعالى- لكم فضلا منه ورحمة ذبح الأنعام وأكلها إلا ما يتلى عليكم تحريم ذبحه وأكله فاجتنبوه.
وهذا الإجمال هنا، قد جاء ما فصله قبل ذلك في سورة الأنعام في قوله- تعالى-: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.
قال بعض العلماء: ثم إنه ليس المقصود بما يتلى، ما ينزل في المستقبل، كما يعطيه ظاهر الفعل المضارع، بل المراد ما سبق نزوله مما يدل على حرمة الميتة وما أهل لغير الله به. أو ما يدل على حرمة الصيد في الحرم أو حالة الإحرام.
وعلى هذا يكون السر في التعبير بالمضارع، التنبيه إلى أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه.. والجملة معترضة لدفع ما عساه يقع في الوهم من أن تعظيم حرمات الله في الحج قد يقضى باجتناب الأنعام، كما قضى باجتناب الصيد «١».
ثم أمرهم- سبحانه- باجتناب ما يغضبه، وحضهم على الثبات على الدين الحق فقال- تعالى-: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ والفاء في قوله: فَاجْتَنِبُوا هي الفصيحة. والرجس: الشيء المستقذر الذي تعافه النفوس. ومَنْ في قوله مِنَ الْأَوْثانِ بيانية، والأوثان: الأصنام. يدخل في حكمها ومعناها عبادة كل معبود من دون الله- تعالى- كائنا من كان.
وسماها- سبحانه- رجسا، زيادة في تقبيحها وفي التنفير منها.
والزور: الكذب والباطل وكل قول مائل عن الحق فهو زور، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل والاعوجاج، ومنه قوله- تعالى-: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ أى: تميل.
وقوله حُنَفاءَ جمع حنيف وهو المائل عن الأديان الباطلة الى الدين الحق.
والمعنى: مادام الأمر كما ذكرت لكم، فاجتنبوا- أيها الناس عبادة الأوثان أو تعظيمها، واجتنبوا- أيضا- القول المائل عن الحق، وليكن شأنكم وحالكم الثبات على الدين الحق، وعلى إخلاص العبادة لله- تعالى- الذي خلقكم، وخلق كل شيء.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تعميم بعد تخصيص، فإن عبادة الأوثان رأس الزور، لما فيها من ادعاء الاستحقاق، كأنه- تعالى- لما حث على تعظيم الحرمات، أتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما، والافتراء على الله- تعالى- بأنه حكم بذلك. ولم يعطف قول الزور على الرجس، بل أعاد العامل لمزيد الاعتناء. والإضافة بيانية.. «١».
وجملة حُنَفاءَ لِلَّهِ وجملة غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ حالان مؤكدتان لما قبلهما من وجوب اجتناب عبادة الأوثان، واجتناب قول الزور.
أى: اجتنبوا ما أمرناكم باجتنابه حال كونكم ثابتين على الدين الحق، مخلصين لله العبادة.
ثم صور- سبحانه- حال من يشرك بالله تصويرا تنخلع له القلوب، ويحمل كل عاقل على اجتناب هذا الرجس فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ، أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ.
أى: ومن يشرك بالله- تعالى- في عبادته، ومات على ذلك، فكأنما سقط من السماء إلى الأرض، فاختطفته جوارح الطير بسرعة فمزقت أوصاله، أو تسقطه الريح في مكان بعيد أشد البعد بحيث لا يعثر له على أثر.
والمقصود من هذه الجملة تقبيح حال الشرك والمشركين، وبيان أن الوقوع في الشرك يؤدى إلى الهلاك الذي لا نجاة معه بحال، لأن من يسقط من السماء فتتمزق أوصاله، وتتخطفه الطير أو تلقى به الريح في مكان بعيد لا يطمع له في نجاة، بل هو هالك لا محالة.
فالجملة الكريمة مقررة لوجوب اجتناب الشرك بأبلغ صورة.
قال صاحب الكشاف: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق مزعا- أى قطعا- في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح- أى المقاذف- البعيدة.
وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط
ثم أمر- سبحانه- بتعظيم شعائره بعد أن أمر بتعظيم حرماته فقال: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.
قال القرطبي: والشعائر: جمع شعيرة، وهي كل شيء لله- تعالى- فيه أمر أشعر به وأعلم. ومنه شعار القوم في الحرب، أى: علامتهم التي يتعارفون بها. ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة لها.. فشعائر الله: إعلان دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك. وقال قوم: المراد هنا تسمين البدن. والاهتمام بأمرها.. «٢».
والمعنى: ذلك الذي أمرناكم به أو نهيناكم عنه عليكم امتثاله وطاعته، والحال أن من يعظم شعائر الله، التي من بينها الذبائح التي يتقرب بها إليه- تعالى- يكون تعظيمه إياها عن طريق تسمينها، وحسن اختيارها يكون دليلا على تقوى القلوب، وحسن صلتها بالله- سبحانه- وخشيتها منه، وحرصها على رضاه- عز وجل-.
قال الآلوسى: وتعظيمها أن تختار حسانا سمانا غالية الأثمان. روى أنه صلّى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبى جهل في أنفه برة- أى حلقة- من ذهب. وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك، وقال له: بل أهدها.. «٣».
وفي إضافة هذه الشعائر إلى الله- تعالى-: حض على الاهتمام بها وفعل ما يرضى الله- تعالى- بالنسبة لها.
والضمير المؤنث في قوله فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ يعود على الفعلة التي يتضمنها الكلام، أو إلى الشعائر بحذف المضاف، أى: فإن تعظيمها أى الشعائر من تقوى القلوب، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
وقوله- سبحانه-: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ بيان لبعض مظاهر نعم الله- تعالى- عليهم في هذه الأنعام.
أى: لكم- أيها المؤمنون- في تلك الأنعام التي تقدمونها قربة لله- تعالى- «منافع» تصل إليكم عن طريق ركوبها ولبنها ونسلها.. وهذه المنافع موقوتة إلى وقت معين، هو وقت
(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٥٦. [.....]
(٣) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٥٠.
وقوله- سبحانه- ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ بيان لمكان ذبحها.
والمحل مأخوذ من حل الشيء يحل- بالكسر- حلولا إذا وجب أو انتهى أجله. والمراد به في الآية مكان الحلول، أى: المكان الذي ينتهى فيه أجل تلك الأنعام، أو المكان الذي يجب ذبحها فيه.
والمعنى: لكم في تلك الانعام منافع إلى أجل مسمى ثم المكان الذي تذبح فيه منته إلى البيت العتيق. ومتصل به.
والمقصود بهذا المحل الحرم كله، لأن البيت ليس مكانا للذبح.
وبعضهم يرى أن المراد بالمحل في قوله: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ: تحلل الحجاج من إحرامهم بعد أداء شعائر الحج المعبر عنها بقوله- تعالى-: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ....
قال القرطبي: قوله- تعالى-: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يريد أنها تنتهي إلى البيت، وهو الطواف فقوله: مَحِلُّها مأخوذ من إحلال المحرم.
والمعنى: أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمى الجمار والسعى ينتهى إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه.. «١».
ثم بين- سبحانه- أنه قد شرع لكل أمة الذبائح التي ينتفعون بها، لكي يذكروه- سبحانه- ويشكروه ويخلصوا له العبادة، ولكي يطعموا منها السائل والمحتاج، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
ويبدو أن المراد به هنا عبادة خاصة وهي الذبح تقربا إلى الله- تعالى-.
قال الآلوسى: والمنسك موضع النسك إذا كان اسم مكان، أو النسك إذا كان مصدرا.
وفسره مجاهد هنا بالذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه- تعالى- فجعله مصدرا، وحمل النسك على عبادة خاصة، وهو أحد استعمالاته وإن كان في الأصل بمعنى العبادة مطلقا، وشاع في أعمال الحج.. «١».
وجملة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ... معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.
والمعنى: جعلنا لكم- أيها المؤمنون- منافع كثيرة في هذه الأنعام الى وقت معين، ثم تكون نهايتها وذبحها عند البيت الحرام، كما جعلنا وشرعنا لمن قبلكم من الأمم شعيرة الذبح ليتقربوا بها إلينا، وأرشدناهم إلى المكان الذي يذبحون فيه، وإلى أفضل الطرق التي تجعل، ذبائحهم مقبولة عندنا.
وفي هذه الجملة الكريمة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً، تحريك لنفوسهم نحو الإقدام على إراقة الدم تقربا إلى الله، لأن هذه الذبائح ليست من شعائر هذه الأمة وحدها، وإنما هي من شعائرها ومن شعائر الأمم التي سبقتها.
أى: شرعناها لكم وللأمم السابقة عليكم للإكثار من ذكر الله عند ذبحها فهو- سبحانه- الذي رزقكم إياها بفضله وإحسانه، فعليكم أن تكثروا من ذكره وشكره، ليزيدكم من خيره ورزقه.
وفي هذه الجملة الكريمة تقريع وتوبيخ لمن يذكرون غير اسم الله- تعالى- عند الذبح، وتأكيد لوجوب ذكر اسمه- تعالى-، حتى لكأن المقصود الأعظم من وراء ذبح هذه الأنعام، هو المداومة على ذكر اسم الله- عز وجل- وعلى شكره- سبحانه- على نعمه، أما ما سوى ذلك كالأكل منها، والانتفاع بها.. فهي مقاصد فرعية.
ثم عقب- سبحانه- على ذلك بتقرير وحدانيته، وبوجوب إسلام الوجه إليه، فقال:
فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا.
أى: شرعنا لكم ذلك لأن إلهكم إله واحد لا شريك له لا في ذاته ولا في صفاته، فله وحده أسلموا وجوهكم، وأخلصوها لعبادته وطاعته.
فجملة فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بمثابة العلة لما قبلها من تخصيص اسمه الكريم بالذكر عند الذبح، لأن تفرده- سبحانه- بالألوهية يستلزم هذا التخصيص.
وقوله- تعالى-: فَلَهُ أَسْلِمُوا مرتب على ما قبله، لأنه متى ثبت أن المستحق للعبادة والطاعة هو الله الواحد الأحد، فعليهم أن يسلموا وجوههم إليه.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يبشر المخبتين برضاه- سبحانه- وبمثوبته فقال: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ أى: المتواضعين لله- تعالى- المطمئنين إلى عدالة قضائه فيهم، ولفظ الْمُخْبِتِينَ من الإخبات. وهو في الأصل نزول الخبت- بفتح الخاء وسكون الباء.
أى: المكان المنخفض، ثم استعمل في اللين والتواضع. يقال: فلان مخبت، أى:
متواضع خاشع لله رب العالمين.
وحذف- سبحانه- المبشر به لتهويله وتعظيمه، أى: وبشر- أيها الرسول الكريم- هؤلاء المتواضعين لله- تعالى- بالثواب العظيم، والأجر الكبير الذي لا تحيط بوصفه عبارة.
ثم مدحهم- سبحانه- بأربع صفات فقال: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...
أى: بشر هؤلاء المخبتين الذين من صفاتهم أنهم إذا سمعوا ذكر الله- تعالى- وصفاته،
والذين من صفاتهم كذلك: الصبر على ما يصيبهم من مصائب ومحن في هذه الحياة، والمداومة على أداء الصلاة في مواقيتها بإخلاص وخشوع، والإنفاق مما رزقهم الله- تعالى- على الفقراء والمحتاجين.
فإن قيل: كيف نجمع بين هذه الآية التي وصفت المؤمنين الصادقين بأنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم. وبين قوله- تعالى- في آية أخرى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
فالجواب: أنه لا تنافى بين الآيتين، لأن من شأن المؤمن الصادق أنه إذا استحضر وعيد الله وحسابه لعباده يوم القيامة، امتلأ قلبه بالخشية والخوف والوجل.
فإذا ما استحضر بعد ذلك رحمته- سبحانه- وسعة عفوه، اطمأن قلبه وسكن روعه، وثبت يقينه، وانشرح صدره، واستسلم لقضاء الله وقدره بدون تردد أو تشكك أو جزع.
فالوجل والاطمئنان أمران يجدهما المؤمن في قلبه، في وقتين مختلفين. وفي حالتين متمايزتين.
ويؤخذ من هاتين الآيتين: أن التواضع لله- تعالى-، والمراقبة له- سبحانه- والصبر على بلائه، والمحافظة على فرائضه.. كل ذلك يؤدى إلى رضاه- عز وجل-، وإلى السعادة الدنيوية والأخروية.
ثم أكد سبحانه- ما سبق الحديث عنه من وجوب ذكر اسمه- تعالى- عند الذبح، ومن وجوب شكره على نعمه فقال: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ.
والبدن: جمع بدنة. وهي الإبل خاصة التي تهدى إلى البيت الحرام للتقرب بها إلى الله- تعالى- وقيل: البدن تطلق على الإبل والبقر.
وسميت بهذا الاسم لبدانتها وضخامتها. يقال: بدن الرجل- بوزن كرم- إذا كثر لحمه، وضخم جسمه.
أى: وشرعنا لكم- أيها المؤمنون- التقرب إلينا بالإبل البدينة السمينة وجعلنا ذلك شعيرة من شعائر ديننا، وعلامة من العلامات الدالة على قوة إيمان من ينفذ هذه الشعيرة بتواضع وإخلاص.
وقوله- تعالى- لَكُمْ فِيها خَيْرٌ جملة مستأنفة مقررة لما قبلها. أى: لكم فيه خير في الدنيا عن طريق الانتفاع بألبانها ووبرها.. ولكم فيها خير في الآخرة عن طريق الثواب الجزيل الذي تنالونه من خالقكم بسبب استجابتكم لما أرشدكم إليه.
وصواف: جمع صافة. أى: قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن استعدادا للذبح!.
أى: إذا ما هيأتم هذه الإبل للذبح، فاذكروا اسم الله عليها، بأن تقولوا عند نحرها:
بسم الله والله أكبر، اللهم منك وإليك.
وقوله- سبحانه-: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ بيان لما ينبغي عليهم فعله بعد ذبحها.
ووجبت بمعنى سقطت: وهو كناية عن موتها. يقال: وجب الجدار إذا سقط، ووجبت الشمس إذا غابت.
والقانع: هو الراضي بما قدره الله- تعالى- له، فلا يتعرض لسؤال الناس مأخوذ من قنع يقنع- كرضى يرضى- وزنا ومعنى.
والمعتر: هو الذي يسأل غيره ليعطيه. يقال: فلان يعترى الأغنياء، أى: يذهب إليهم طالبا عطاءهم.
وقيل: القانع هو الطامع الذي يسأل غيره، والمعتر: هو الذي يتعرض للعطاء من غير سؤال وطلب.
أى: فإذا ما سقطت جنوب هذه الإبل على الأرض، وأعددتموها للأكل فكلوا منها، وأطعموا الفقير القانع الذي لا يسألكم، والفقير المعتر الذي يتعرض لكم بالسؤال والطلب.
ثم بين- سبحانه- مظاهر فضله عليهم، حيث ذلل هذه الأنعام لهم فقال: كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وقوله كَذلِكَ نعت لمصدر محذوف. أى: مثل ذلك التسخير البديع سخرنا لكم هذه الأنعام، وذللناها لكم، وجعلناها منقادة لأمركم، لعلكم بعد أن شاهدتم هذه النعم، وانتفعتم بها، تكونون من الشاكرين لنا، والمستجيبين لتوجيهاتنا وإرشادنا.
قال صاحب الكشاف: منّ الله على عباده واستحمد إليهم، بأن سخر لهم البدن مثل التسخير الذي رأوا وعلموا. يأخذونها منقادة للأخذ طيعة، فيعقلونها ويحبسونها صافة قوائمها، ثم يطعنون في لبانها. ولولا تسخير الله لم تطعن، ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما، وأقل قوة، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهدا على ذلك «١».
أى: لن يصل إلى الله- تعالى- لحم هذه الأنعام ودماؤها، من حيث هي لحوم ودماء، ولكن الذي يصل إليه- سبحانه- ويثيبكم عليه، هو تقواكم ومراقبتكم له- سبحانه- وخوفكم منه، واستقامتكم على أمره وإخلاصكم العبادة له.
قالوا: وفي هذا إشارة إلى قبح ما كان يفعله المشركون، من تقطيعهم للحوم الأنعام، ونشرها حول الكعبة، وتلطيخها بالدماء، وتحذير للمسلمين من أن يفعلوا فعل هؤلاء الجهلاء، إذ رضا الله- تعالى- لا ينال بذلك، وإنما ينال بتقوى القلوب.
ثم كرر- سبحانه- تذكيره إياهم بنعمه، ليكون أدعى إلى شكره وطاعته فقال:
كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ، لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.
أى: كهذا التسخير العجيب الذي ترونه سخرنا لكم هذه الأنعام لكي تكبروا الله وتعظموه وتقدسوه بسبب هدايته لكم إلى الإيمان.
وبشر- أيها الرسول الكريم- المحسنين لأقوالهم وأفعالهم، بثوابنا الجزيل وبعطائنا الواسع.
وبذلك ترى أن سورة الحج قد سبحت بنا سبحا طويلا في حديثها عن البيت الحرام، وعن آداب الحج ومناسكه وأحكامه، وعن الجزاء الحسن الذي أعده- تعالى- للمستجيبين لأمره.
وبعد هذا الحديث عن الشعائر والمناسك، أذن- سبحانه- للمؤمنين بالقتال في سبيله، للدفاع عن دينه وشعائره، ووعدهم- عز وجل- بالنصر متى نصروه وحافظوا على فرائضه... فقال- تعالى-:.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
ومفعول «يدافع» محذوف. وجاء التعبير بقوله- تعالى- يُدافِعُ بصيغة المفاعلة، للمبالغة في الدفاع والدفع، أو للدلالة على أن ذلك حاصل للمؤمنين كلما حصل من الكافرين عدوان عليهم.
أى: إن الله- تعالى- بفضله وكرمه يدافع عن المؤمنين أعداءهم وخصومهم، فيرد كيدهم في نحورهم.
ويصح أن يكون يُدافِعُ بمعنى يدفع، ويؤيده قراءة ابن كثير وأبى عمرو. أى: أن الله- تعالى- يدفع السوء عن عباده المؤمنين الصادقين، ويجعل العاقبة لهم على أعداءهم.
فالجملة الكريمة بشارة للمؤمنين، وتقوية لعزائمهم حتى يقبلوا على ما شرعه الله لهم من جهاد أعدائهم، بثبات لا تردد معه، وبأمل عظيم في نصر الله وتأييده.
وقوله- سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ تعليل لوعده- سبحانه- للمؤمنين بالدفاع عنهم، وبجعل العاقبة لهم.
قال الآلوسى: وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك، لا للتقييد المشعر بمحبة الخائن والكافر... «١».
أى: إن الله- تعالى- يدافع عن المؤمنين لمحبته لهم، ويبغض هؤلاء الكافرين الذين بلغوا في الخيانة والكفر أقصى الدركات.
وأوثر التعبير بقوله- تعالى- لا يُحِبُّ على قوله: يبغض أو يكره، للإشعار بأن المؤمنين هم أحباء الله- تعالى-، وللتعريض بهؤلاء الكافرين الذين تجاوزوا كل حد في كراهيتهم لأهل الحق.
ثم رخص- سبحانه- للمؤمنين بأن يقاتلوا في سبيله فقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا....
وقوله- تعالى- أُذِنَ فعل ماض مبنى للمجهول مأخوذ من الإذن بمعنى الإباحة والرخصة. والمقصود إباحة مشروعية القتال، وقد قالوا: بأن هذه الآيات أول ما نزل في شأن مشروعية القتال.
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس قال: لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن، فنزلت هذه الآيات.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي أُذِنَ بالبناء الفاعل. والمأذون لهم فيه هو القتال، وهو محذوف في قوة المذكور بدليل قوله يُقاتَلُونَ والباء في قوله بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا للسببية.
أى: أذن الله- تعالى- للمؤمنين، ورخص لهم، بأن يقاتلوا أعداءهم الذين ظلموهم، وآذوهم، واعتدوا عليه، بعد أن صبر هؤلاء المؤمنون على أذى أعدائهم صبرا طويلا.
قال الآلوسى: والمراد بالموصول أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الذين في مكة، فقد نقل الواحدي وغيره، أن المشركين كانوا يؤذونهم، وكانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلّم بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإنى لم أومر بالقتال حتى هاجر صلّى الله عليه وسلّم فنزلت
وقوله- تعالى-: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وعد منه- سبحانه- للمؤمنين بالنصر وحض لهم على الإقدام على الجهاد في سبيله بدون تردد أو وهن.
أى: وإن الله- تعالى- لقادر على أن ينصر عباده المؤمنين. وعلى أن يمكن لهم في الأرض، وعلى أن يجعلهم الوارثين لأعدائهم الكافرين.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: قوله: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ أى: هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكنه يريد من عباده أن يبلوا جهدهم في طاعته، كما قال- تعالى-: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها، ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.. «٢».
وإنما شرع- سبحانه- الجهاد في الوقت الأليق به، لأنهم لما كانوا بمكة، كان المشركون أكثر عددا. فلو أمر المسلمون بالقتال لشق ذلك عليهم...
فلما استقروا بالمدينة. وصارت لهم دار إسلام، ومعقلا يلجئون إليه شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك.. «٣».
وقوله- سبحانه-: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ..
بيان لبعض الأسباب التي من أجلها شرع الله الجهاد في سبيله.
أى: إن الله- تعالى- لقدير على نصر المؤمنين الذين أخرجهم الكافرون من ديارهم بغير حق، وبغير أى سبب من الأسباب، سوى أنهم كانوا يقولون ربنا الله- تعالى- وحده، ولن نعبد من دونه إلها آخر.
أى: ليس هناك ما يوجب إخراجهم- في زعم المشركين- سوى قولهم ربنا الله.
ثم حرض- سبحانه- المؤمنين على القتال في سبيله، بأن بين لهم أن هذا القتال يقتضيه نظام هذا العالم وصلاحه، فقال- تعالى-: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً.
والمراد بالدفع: إذن الله المؤمنين في قتال المشركين. والمراد بقوله: بَعْضَهُمْ
(٢) سورة محمد الآية ٤.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٣١.
والصوامع: جمع صومعة، وهي بناء مرتفع يتخذه الرهبان معابد لهم.
والبيع: جمع بيعة- بكسر الباء- وهي كنائس النصارى التي لا تختص بالرهبان.
والصلوات: أماكن العبادة لليهود.
أى: ولولا أن الله- تعالى- أباح للمؤمنين قتال المشركين، لعاث المشركون في الأرض فسادا، ولهدموا في زمن موسى وعيسى أماكن العبادة الخاصة بأتباعهما، ولهدموا في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم المساجد التي تقام فيها الصلاة.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ... أى:
ولولا ما شرعه الله- تعالى- للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك.
وعطلوا ما بناه أهل الديانات من مواضع العبادات ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم في الأمم. وبه صلحت الشرائع، واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن في القتال فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر في القتال بقوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ... الآية أى: لولا الجهاد والقتال لتغلب أهل الباطل على أهل الحق في كل أمة... «١».
فالآية الكريمة تفيد أن الله- تعالى- قد شرع القتال لإعلاء الحق وإزهاق الباطل، ولولا ذلك لاختل هذا العالم، وانتشر فيه الفساد.
والتعبير بقوله- تعالى-: لَهُدِّمَتْ بالتشديد للإشعار بأن عدم مشروعية القتال، يؤدى إلى فساد ذريع، وإلى تحطيم شديد لأماكن العبادة والطاعة لله- عز وجل-.
وقدم الصوامع والبيع والصلوات على المساجد، باعتبار أنها أقدم منها في الوجود، أو للانتقال من الشريف إلى الأشرف.
ثم ساق- سبحانه- بأسلوب مؤكد سنة من سننه التي لا تتخلف فقال: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
أى: والله لينصرن- سبحانه- من ينصر دينه وأولياءه، لأنه- تعالى- هو القوى على كل فعل يريده، العزيز الذي لا يغالبه مغالب، ولا ينازعه منازع.
وقد أنجز- سبحانه- وعده وسنته، فسلط عباده المؤمنين من المهاجرين والأنصار، على
ثم وصف- سبحانه- هؤلاء المؤمنين الذين وعدهم بنصره بأكرم الصفات ليميزهم عن غيرهم فقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ.
أى: ولينصرن الله- تعالى- هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، والذين من صفاتهم أنهم إذا ما مكنا لهم في الأرض، ونصرناهم على أعدائهم، شكروا لنا ما أكرمناهم به، فأقاموا الصلاة في مواقيتها بخشوع وإخلاص، وقدموا زكاة أموالهم للمحتاجين، وأمروا غيرهم بالمعروف ونهوه عن المنكر، ولله- تعالى- وحده عاقبة الأمور ومردها ومرجعها في الآخرة، فيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
فالآية الكريمة تبين أن أولى الناس بنصر الله، هم هؤلاء المؤمنون الصادقون، الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر...
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «١».
وقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ.. «٢».
وبعد أن أذن الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين في القتال، وبشرهم بالنصر.. أتبع ذلك بتسليته صلّى الله عليه وسلّم عما أصابه من حزن بسبب تكذيب المشركين له ووبخ- سبحانه- أولئك المشركين على عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٥١]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)
(٢) سورة محمد الآية ٧.
قال- تعالى-: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «١».
واستغنى في عاد وثمود عن ذكر القوم، لاشتهارهم بهذا الاسم الذي يدل دلالة واضحة على هؤلاء الظالمين.
وقال- سبحانه-: وَأَصْحابُ مَدْيَنَ ولم يقل وقوم شعيب، لأنهم هم الأسبق في التكذيب له- عليه السلام- على أصحاب الأيكة، ولأنهم هم أهله أما أصحاب الأيكة فكانوا غرباء عنه.
وإنما كان المكذب له هو فرعون وملأه، وللإشارة إلى أن موسى- عليه السلام- قد جاء إلى الناس بآيات واضحات تدل على صدقه، ومع ذلك فقد قوبل بالتكذيب من فرعون وملئه.
ثم بين- سبحانه- ما حل بهؤلاء من عقوبات فقال: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.
والإملاء: الإمهال وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».
والنكير: اسم مصدر بمعنى الإنكار، يقال: أنكرت على فلان فعله، إذا ردعته وزجرته عنه.
أى: هؤلاء الأقوام الذين كذبوا أنبياءهم، لم أعاجلهم بالعقوبة، بل أمهلتهم وأمليت لهم، ثم أخذتهم أخذ عزيز مقتدر، فانظر- أيها العاقل- كيف كان إنكارى عليهم؟ لقد كان إنكارا مخيفا مهلكا فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «١».
وقال- سبحانه- فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ بالإظهار دون الإضمار، لزيادة التشنيع عليهم والاستفهام في قوله- تعالى-: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ للتهويل والتعجيب. أى: لقد كان إنكارا فظيعا حول حياتهم إلى موت، وعمرانهم إلى خراب، وغرورهم إلى ذلة وهوان.. فعلى مشركي قريش أن يعتبروا بذلك ويتعظوا.. وإلا فالعاقبة معروفة لهم.
وبعد هذا البيان المشتمل على سوء عاقبة هذه الأمم التي كذبت رسلها.. أتبع ذلك- سبحانه- ببيان مصير كثير من الأمم الظالمة فقال: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ، وَقَصْرٍ مَشِيدٍ.
وكلمة «كأين» مركبة من كاف التشبيه، ومن أى الاستفهامية المنونة، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير، ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها. ومميزها غالبا ما يجر بمن كما في الآية وفي غيرها. قال- تعالى-: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ... «٢»، وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ «٣».
(٢) سورة آل عمران الآية ١٤٦.
(٣) سورة يوسف الآية ١٠٥.
أَهْلَكْناها أى: فأهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها.. أو مرفوع على الابتداء، وجملة أَهْلَكْناها خبره.
أى: فكثير من القرى أهلكناها.. وقوله: وَهِيَ ظالِمَةٌ جملة حالية من مفعول أهلكنا.. «١».
ولفظ خاوِيَةٌ بمعنى ساقطة أو خالية. يقال خوى البيت يخوى إذا سقط أو خلا ممن يسكنه.
والعروش: جمع عرش وهو سقف البيت، ويسمى العريش: وكل ما يهيأ ليستظل به فهو عريش.
وبئر معطلة أى: مهجورة لهلاك أهلها، يقال: بأر فلان الأرض إذا حفرها ليستخرج منها الماء.
والمشيد: المجصص بالشّيد وهو الجصّ. يقال: شاد فلان بيته يشيده، إذا طلاه بالشّيد.
والمعنى: وكثير من القوى أهلكناها بسبب ظلمهم وكفرهم، فإذا ما نظرت إليها وجدتها خالية من أهلها، وقد سقطت سقوفها على جدرانها. وكثير من الآبار التي كانت تتفجر بالماء عطلناها وصارت مهجورة، وكثير- أيضا- من القصور المشيدة الفخمة أخليناها من أهلها.
وذلك لأنهم كذبوا رسلنا، وجحدوا نعمنا، فدمرناهم تدميرا. وجعلنا مساكنهم من بعدهم أثرا بعد عين.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على أشد ألوان الوعيد والتهديد لكفار قريش الذين كذبوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأعرضوا عن دعوته.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً «٢».
ثم ينتقل القرآن الكريم من هذا التهديد الشديد، إلى التوبيخ والتقريع لهؤلاء المشركين، الذين لا يعتبرون ولا يتعظون فيقول: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها...
(٢) سورة الطلاق الآيتان ٨، ٩.
والمعنى: إن مصارع الغابرين وديارهم، يمر بها كفار قريش، ويعرفونها، فهم يرون في طريقهم إلى الشام قرى صالح وقرى قوم لوط.. قال- تعالى-: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
«١».
والشأن في هذه الرؤية أن تجعل صاحبها يعتبر ويتعظ، متى كان عنده قلب يعقل ما يجب فهمه، أو أذن تسمع ما يجب سماعه وتنفيذه، ولكن هؤلاء الجاهلين يرون مصارع الغابرين فلا يعقلون، ولا يعتبرون، ويسمعون الأحاديث عن تلك الآبار المعطلة، والقصور الخالية من سكانها، والمنازل المهدمة، فلا يتعظون.
وقوله- تعالى-: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ بيان لسبب انطماس بصائرهم، وقسوة قلوبهم.
والضمير في قوله فَإِنَّها للقصة. أى: فإن الحال أنه لا يعتد بعمى الأبصار، ولكن الذي يعتد به هو عمى القلوب التي في الصدور، وهؤلاء المشركون قد أصيبوا بالعمى الذي هو أشنع عمى وأقبحه. وهو عمى القلوب عن الفهم وقبول الحق.
وذكر- سبحانه- أن مواضع القلوب في الصدور، لزيادة التأكيد، ولزيادة إثبات العمى لتلك القلوب التي حدد- سبحانه- موضعها تحديدا دقيقا.
قال الآلوسى: فالكلام تذييل لتهويل ما نزل بهم من عدم فقه القلب، وأنه العمى الذي لا عمى بعده، بل لا عمى إلا هو، أو المعنى: إن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وإن العمى بقلوبهم، فكأنه قيل: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب ذات بصائر، فإن الآفة ببصائر قلوبهم لا بأبصار عيونهم، وهي الآفة التي كل آفة دونها. كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعى عليهم تقاعدهم عنها «٢».
ثم أكد- سبحانه- انطماس بصائرهم، حيث بين أنهم بدل أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، استعجلوا العذاب فقال: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
أى: أن هؤلاء الطغاة بدل أن يسيروا في الأرض فيعتبروا ويتعظوا، أخذوا يطلبون منك- أيها الرسول الكريم- نزول العذاب عاجلا، على سبيل الاستهزاء بك والاستخفاف بما هددناهم به، ويقولون لك: متى هو؟.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٦٧.
وقوله- سبحانه-: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ جملة حالية جيء بها لتهديدهم على استعجالهم العذاب، أى: والحال أن الله- تعالى- لن يخلف ما وعدهم به من العذاب، بل هو منجزه في الوقت الذي يريده هو وليس الذي يريدونه هم.
وقوله- سبحانه-: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ جملة مستأنفة سيقت لبيان أن حساب الأزمان في تقدير الله- تعالى- يخالف ما يقدره البشر.
أى: دعهم- أيها الرسول الكريم- يستعجلون العذاب، فذلك دأب الظالمين في كل حين، وسبيل الجاهلين في كل زمان، وأعلمهم أن الله- تعالى- لن يخلف وعده إياهم به في الوقت المحدد لذلك، وإن يوما عنده- تعالى- كألف سنة مما يعده هؤلاء في دنياهم، وسيأتيهم هذا اليوم الذي يطول عليهم طولا شديدا، لما يرون فيه من عذاب مهين.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال ابن عباس ومجاهد: يعنى من الأيام التي خلق فيها السموات والأرض. وقال عكرمة: يعنى من أيام الآخرة، أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة.
وقال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة.
وقيل المعنى: وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سنى الدنيا فيها خوف وشدة.. «١».
ثم أكد- سبحانه- أن إملاءه للظالمين، سيعقبه العذاب الأليم، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ.
أى: وكثير من القرى الظالمة أمهلت عقوبة أهلها إلى أجل مسمى، ثم أخذتها بعد ذلك أخذا شديدا، جعلهم في قراهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها، وسيرجعون إلينا فيجدون عذابا أشد وأبقى، إذ أن مصيرهم إلىّ لا إلى غيرى.
وبعد هذا العرض لمصارع الغابرين وبيان سنة الله- تعالى- في المكذبين، يأمر- سبحانه- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرشد الناس إلى مصيرهم فيقول: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس، إن وظيفتي أن أنذركم وأخوفكم من عذاب الله، بدون التباس أو غموض.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أى: والذين بذلوا كل جهودهم في إبطال آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وصدق رسلنا، وأسرعوا في تكذيبها وغالبوا المؤمنين وعارضوهم ليظهروهم بمظهر العاجز عن الدفاع عن دينهم وعن عقيدتهم.
أُولئِكَ الموصوفون بهذا السعى الأثيم أَصْحابُ الْجَحِيمِ أى: الملازمون للنار المتأججة ملازمة المالك لما يملكه.
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك الى الحديث عن فضل الله- تعالى- على أنبيائه ورسله حيث عصمهم من كيد الشيطان ووسوسته وحفظ دعوتهم من تكذيب المكذبين، وعبث العابثين.. فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات: قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق «١»، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة، ظنا منهم أن مشركي
ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.
ثم قال- رحمه الله-: قال ابن أبى حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة سورة النجم، فلما بلغ هذا الموضع: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى.
قال: فألقى الشيطان على لسانه: «تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن ترتجى».
قالوا: - أى المشركون-: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ.. «١».
وجمع- سبحانه- بين الرسول والنبي، لأن المقصود بالرسول من بعث بكتاب، وبالنبي من بعث بغير كتاب، أو المقصود بالرسول من بعث بشرع جديد، وبالنبي من بعث لتقرير شرع من قبله.
ولفظة تَمَنَّى هنا: فسره العلماء بتفسيرين:
أولهما: أنه من التّمنّى، بمعنى محبة الشيء، وشدة الرغبة في الحصول عليه، ومفعول «ألقى» محذوف والمراد بإلقاء الشيطان في أمنيته: محاولته صرف الناس عن دعوة الحق، عن طريق إلقاء الأباطيل في نفوسهم، وتثبيتهم على ما هم فيه من ضلال.
والمعنى: وما أرسلنا من قبلك- يا محمد- من رسول ولا نبي، إلا إذا تمنى هداية قومه إلى الدين الحق الذي جاءهم به من عند ربه، ألقى الشيطان الوساوس والشبهات في طريق أمنيته لكي لا تتحقق هذه الأمنية، بأن يوهم الشيطان الناس بأن هذا الرسول أو النبي ساحر أو مجنون، أو غير ذلك من الصفات القبيحة التي برأ الله- تعالى- منها رسله وأنبياءه.
قال- تعالى-: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ «٢».
والآية الكريمة على هذا التفسير واضحة المعنى، ويؤيدها الواقع، إذ أن كل رسول أو نبي بعثه الله- تعالى- كان حريصا على هداية قومه، وكان يتمنى أن يؤمنوا جميعا، بل إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كاد يهلك نفسه هما وغما بسبب إصرار قومه على الكفر.
(٢) سورة الذاريات الآيتان ٥٢، ٥٣.
إلا أن قوم كل رسول أو نبي منهم من آمن به. ومنهم من أعرض عنه بسبب إغراء الشيطان لهم، وإيهامهم بأن ما هم عليه من ضلال هو عين الهدى.
وإلى هذا التفسير أشار صاحب الكشاف بقوله: «قوله- تعالى-: مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ دليل بين على تغاير الرسول والنبي. والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء: من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه والنبي غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله.
والسبب في نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أعرض عنه قومه وشاقوه، وخالفته عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به: تمنى لفرط ضجره من إعراضهم، ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم «٢».
أما التفسير الثاني للفظ تَمَنَّى فهو أنه بمعنى قرأ وتلا. ومنه قول حسان بن ثابت، في رثاء عثمان بن عفان رضى الله عنه:
تمنى كتاب الله أول ليله | وآخره لاقى حمام المقادر |
ومفعول أَلْقَى على هذا المعنى محذوف- أيضا- والمراد بما يلقيه الشيطان في قراءته:
ما يلقيه في معناها من أكاذيب وأباطيل، ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه الرسول وما يتلوه، وليس المراد أنه يلقى فيها ما ليس منها بالزيادة أو بالنقص، فإن ذلك محال بالنسبة لكتاب الله- تعالى- الذي تكفل- سبحانه- بحفظه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «٣».
والمعنى: وما أرسلنا من قبلك- أيها الرسول الكريم- من رسول ولا نبي إلا إذا قرأ شيئا مما أنزلناه عليه، ألقى الشيطان في معنى قراءته الشبه والأباطيل، ليصد الناس عن اتباع ما يتلوه عليهم هذا الرسول أو النبي.
قال الآلوسى- رحمه الله-: والمعنى: وما أرسلنا من قبلك رسولا ولا نبيا، إلا وحاله أنه
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٦٤.
(٣) سورة الحجر الآية ٩.
وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلّى الله عليه وسلّم حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ: إن محمدا يحل ذبيحة نفسه ويحرم ما ذبحه الله. وكقولهم عند سماع قراءته لقوله- تعالى- إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. حَصَبُ جَهَنَّمَ.. «٣» إن عيسى قد عبد من دون الله، وكذلك الملائكة قد عبدوا من دون الله. «٤».
والآية الكريمة لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ على هذا التفسير- أيضا- واضحة المعنى، إذ المراد بما يلقيه الشيطان في قراءة الرسول أو النبي، تلك الشبه والأباطيل التي يلقيها في عقول الضالين، فيجعلهم يؤولونها تأويلا سقيما ويفهمونها فهما خاطئا.
وقوله- تعالى-: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ بيان لسنته- سبحانه- التي لا تتخلف في إحقاق الحق. وإبطال الباطل.
وقوله فَيَنْسَخُ من النسخ بمعنى الإزالة. يقال: نسخت الشمس الظل إذا أزالته.
أى: فيزيل- سبحانه- بمقتضى قدرته وحكمته ما ألقاه الشيطان في القلوب التي شاء الله- تعالى- لها الإيمان والثبات على الحق ثم يحكم- سبحانه- آياته بأن يجعلها متقنة، لا تقبل الرد، ولا تحتمل الشك في كونها من عنده- عز وجل- والله عليم بجميع شئون خلقه، حكيم في كل أقواله وأفعاله وتصرفاته.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن الحكمة في إلقاء الشيطان لشبهه وضلالته هي امتحان الناس فقال: لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ....
أى: فعل ما فعل- سبحانه- ليجعل ما يلقيه الشيطان من تلك الشبه في القلوب فتنة واختبارا وامتحانا، للذين في قلوبهم مرض، أى: شك وارتياب، وهم المنافقون، وللذين قست قلوبهم، وهم الكافرون المجاهرون بالجحود والعناد.
فقوله- تعالى-: لِيَجْعَلَ.. متعلق ب أَلْقَى أى: ألقى الشيطان في أمنية الرسل والأنبياء ليجعل الله- تعالى- ذلك الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض.
(٢) سورة الأنعام الآية ١١٢.
(٣) سورة الأنبياء الآية ٩٨.
(٤) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٧٣.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة الفريقين فقال: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ، وهم من في قلوبهم مرض، ومن قست قلوبهم لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أى لفي خلاف للحق شديد. بسبب نفاقهم وكفرهم.
ثم بين- سبحانه- حكمة أخرى لما فعله الشيطان من إلقاء الشبه والوساوس في القلوب فقال:
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ.
والضمير في أَنَّهُ يعود إلى ما جاء به الرسل والأنبياء من عند ربهم.
أى: وفعل ما فعل- سبحانه- أيضا، ليعلم العلماء من عباده، الذين حبب- سبحانه- إليهم الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أن ما جاء به الرسل والأنبياء هو الحق الثابت من ربك، فيزدادوا إيمانا به فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أى: فتخضع وتسكن وتطمئن إليه نفوسهم.
ووَ إِنَّ اللَّهَ- تعالى- لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا به وصدقوا أنبياءه ورسله إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يوصلهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
هذا، وقد أبطل العلماء- قديما وحديثا- قصة الغرانيق، ومن العلماء القدماء الذين تصدوا لهذا الإبطال الإمام الفخر الرازي، فقد قال ما ملخصه: قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق، واستدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول.
أما القرآن فمن وجوه منها قوله- تعالى-: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «١» وقوله- سبحانه-: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «٢»، وقوله- عز وجل-: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ.. «٣».
وأما السنة، فقد قال الإمام البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ سورة «والنجم» وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق. وروى هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
(٢) سورة النجم الآيتان ٣، ٤.
(٣) سورة يونس الآية ١٥.
ومنها: أننا لو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه.. فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحى وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكرها. لكنهم ما بلغوا حد التواتر. وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة «١».
وقال بعض العلماء ما ملخصه: اعلم أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعا، ودلالة القرآن على بطلانها، لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج به، وصرح بعد ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب.
والحاصل: أن القرآن دل على بطلانها، ولم تثبت من جهة النقل، مع استحالة الإلقاء على لسانه صلّى الله عليه وسلّم شرعا ولو على سبيل السهو.
والذي يظهر لنا أنه الصواب: هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النبي: الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها، كإلقائه عليهم أنها سحر أو شعر أو أساطير الأولين..
والدليل على هذا المعنى: أن الله- تعالى- بين أن الحكمة في الإلقاء المذكور امتحان الخلق، لأنه قال: لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ... ثم قال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ... فهذا يدل على أن الشيطان يلقى عليهم، أن الذي يقرؤه النبي ليس بحق، فيصدقه الأشقياء، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم، ويعلمون أنه الحق لا الكذب، كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه... » «٢».
ثم بين- سبحانه- أن الكافرين سيستمرون على شكهم في القرآن حتى تأتيهم الساعة، وأنه- تعالى- سيحكم بين الناس يوم القيامة، فيجازى الذين أساءوا بما عملوا. ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى. فقال- عز وجل-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
(٢) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ٧٣١ لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطى وراجع تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٧٥.
والضمير في قوله: مِنْهُ يعود إلى القرآن الكريم، أو إلى ما جاء به الرسول من عند ربه، وقيل إلى ما ألقاه الشيطان.
وقد رجح ابن جرير كونه للقرآن فقال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال:
هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن لك من ذكر قوله: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.. أقرب منه من ذكر قوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ.. «٢».
والمعنى ولا يزال الذين كفروا في شك وريب مما أوحاه الله إليك من قرآن، بسبب قسوة قلوبهم، واستيلاء الجحود والعناد على نفوسهم.
وسيستمرون على هذه الحال حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أى: القيامة بَغْتَةً أى: فجأة أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ أى: لا مثل له في هوله وشدة عذابه ولا يوم بعده، إذ كل يوم يلد ما بعده عن الأيام إلا هذا اليوم وهو يوم القيامة فإنه لا يوم بعده.
قال ابن كثير: «وقوله: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قال مجاهد: قال أبى بن كعب: هو يوم بدر.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٧ ص ١٣٥.
وفي رواية عن عكرمة ومجاهد هو يوم القيامة لا ليلة له، وكذا قال الضحاك والحسن.
وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أو عدوا به، لكن هذا هو المراد، ولهذا قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ كقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «١».
ثم بين- سبحانه- مظاهر قدرته، وشمول قهره لغيره فقال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. والتنوين في قوله يَوْمَئِذٍ عوض عن جملة.
أى: السلطان القاهر، والتصرف الكامل، يوم تأتيهم الساعة بغتة، أو يوم يأتيهم عذابها يكون لله- تعالى- وحده، كما أن الحكم بين الناس جميعا يكون له وحده- سبحانه- فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ يكونون في هذا اليوم فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا التي جاءتهم بها رسلنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أى: لهم عذاب ينالون بسببه ما ينالون من هوان وذل.
وَالَّذِينَ هاجَرُوا من ديارهم فِي سَبِيلِ إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ثُمَّ قُتِلُوا أى: قتلهم الكفار في الجهاد أَوْ ماتُوا أى: على فراشهم.
هؤلاء وهؤلاء لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ- تعالى- بفضله وكرمه رِزْقاً حَسَناً يرضيهم ويسرهم يوم يلقونه. حيث يبوئهم جنته.
قال- تعالى-: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.. «٢».
وقال- سبحانه- وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «٣».
وقوله- عز وجل-: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييل قصد به بيان أن عطاءه- سبحانه- فوق كل عطاء، لأنه يرزق من يشاء بغير حساب، ويعطى من يشاء دون أن ينازعه منازع، أو يعارضه معارض، أو ينقص مما عنده شيء.
وقوله- تعالى-: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ.. استئناف مقرر لما قبله.
(٢) سورة آل عمران الآية ١٦٩.
(٣) سورة النساء آية ١٠٠.
أى: ليدخلنهم الجنة إدخالا يرضونه.
وقرأ نافع مُدْخَلًا- بفتح الميم- على أنه اسم مكان أريد به الجنة، أى: ليدخلنهم مكانا يرضونه وهو الجنة.
وَإِنَّ اللَّهَ- تعالى- لَعَلِيمٌ بالذي يرضيهم، وبالذي يستحقه كل إنسان من خير أو شر حَلِيمٌ فلا يعاجل بالعقوبة، بل يستر ويعفو عن كثير.
ثم بشر- سبحانه- عباده الذين يقع عليهم العدوان بالنصر على من ظلمهم، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
واسم الإشارة ذلك، في قوله- تعالى- ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ.
يعود إلى ما ذكره- سبحانه- قبل ذلك من أن الملك له يوم القيامة، ومن الرزق الحسن الذي منحه للمهاجرين في سبيله ثم قتلوا أو ماتوا.
والعقاب: مأخوذ من التعاقب، وهو مجيء الشيء بعد غيره. والمراد به هنا: مجازاة الظالم بمثل ظلمه.
قال القرطبي: قال مقاتل: نزلت هذه الآية في قوم من مشركي مكة. لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم: فقالوا: إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام. فأبى
فمعنى مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أى: من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، فسمى جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في الصورة فهي مثل: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «١».
وقوله ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أى: أن الظالم المبتدئ بالظلم عاد مرة أخرى فبغى على المظلوم وآذاه.
وقوله لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ وعد مؤكد منه- سبحانه- بنصرة المظلوم، والجملة جواب قسم محذوف. أى والله لينصرن- سبحانه- المظلوم على الظالم في الحال أو المآل.
قوله: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تعليل للنصرة، وبيان بأن المظلوم عند ما ترك العفو عن الظالم، لا يؤاخذه- سبحانه- على ذلك، مادام لم يتجاوز في رد العدوان الحدود المشروعة، وهي الانتصار على القصاص بالمثل.
أى: إن الله- تعالى- لكثير العفو عن عباده، وكثير المغفرة لذنوبهم وخطاياهم.
ثم بين- سبحانه- أن نصره للمظلوم مرجعه إلى شمول قدرته على كل شيء، فقال- تعالى-: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ.
ومعنى: يولج: يدخل. يقال: ولج فلان منزله، إذا دخله.
أى: ذلك الذين فعلناه من نصرة المبغى عليه على الباغي، كائن بسبب أن قدرتنا لا يعجزها شيء، ومن مظاهر ذلك أننا ندخل جزءا من الليل في النهار فيقصر الليل ويزيد النهار، وندخل جزءا من النهار في الليل فيحصل العكس. وأنتم ترون ذلك بأعينكم، وتشاهدون كيف يسيران بهذا النظام البديع.
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أى: وأن الله- تعالى- سميع لكل المسموعات، بصير بكل المبصرات، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقوله- سبحانه-: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ..
بيان لحقيته- عز وجل- للعبادة والطاعة والخضوع التام.
واسم الإشارة يعود إلى ما وصف به نفسه قبل ذلك من صفات القدرة الباهرة والعلم التام.
أى: ذلك الذي تراه- أيها العاقل- في هذا الكون من مخلوقات، ومن نصر للمظلوم، ومن إدخال الليل في النهار وإدخال النهار في الليل، سببه أن الله- تعالى- هو الإله الحق
وَأَنَّ اللَّهَ- تعالى- وحده هُوَ الْعَلِيُّ أى: العالي على جميع الكائنات بقدرته، وكل شيء دونه الْكَبِيرُ أى: العظيم الذي لا يدانيه في عظمته أحد.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة، قد وصفت الله- تعالى- بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ما يدل على سعة فضله ورحمته بعباده فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٦]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
والاستفهام في قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً..
للتقرير.
وقوله: مُخْضَرَّةً أى: ذات خضرة بسبب النبات الذي ينبته الله فيها بعد نزول المطر عليها.
والمعنى: لقد رأيت ببصرك وعلمت ببصيرتك أيها المخاطب أن الله- تعالى- قد أنزل من السماء ماء، فتصير الأرض بسببه ذات خضرة، وفي ذلك أعظم الأدلة على كمال قدرته، وعظيم رحمته بعباده.
وقال- سبحانه- فَتُصْبِحُ بصيغة المضارع، لاستحضار صورة الاخضرار، الذي
ولم ينصب هذا الفعل المضارع في جواب الاستفهام، لأن الاستفهام تقريرى فهو في معنى الخبر، والخبر لا جواب له، فكأنه قيل: لقد رأيت، ولأن السببية هنا غير متحققة، إذ الرؤية لا يتسبب عنها اخضرار الأرض، وإنما اخضرارها يكون بسبب نزول المطر.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى ذلك فقال: فإن قلت: هلا قيل: فأصبحت؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع؟.
قلت: لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول: أنعم علىّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكرا له. ولو قلت: فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟.
قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار. مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته فأنت ناف لشكره. شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله. «١».
وقال بعض العلماء ما ملخصه: فإن قيل: كيف قال فتصبح مع أن اخضرار الأرض قد يتأخر عن صبيحة المطر.
فالجواب: أن تصبح هنا بمعنى تصير، والعرب تقول: فلان أصبح غنيا، أى: صار غنيا، أو أن الفاء للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه، كقوله- تعالى-:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً | «٢» مع أن بين كل شيئين أربعين يوما، كما جاء في الحديث الصحيح.. «٣». |
ومن مظاهر لطفه بهم، إنزاله المطر على الأرض للانتفاع بما تنبته من كل زوج بهيج، وهو- تعالى- خبير بأحوال عباده، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من هذه الأحوال.
فإنه- سبحانه- لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وتصرفا وَإِنَّ اللَّهَ
(٢) سورة المؤمنين الآية ١٤.
(٣) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ٧٤٢.
وقوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ... بيان لألوان أخرى من النعم التي أنعم بها على بنى آدم.
أى: لقد علمت- أيضا- أيها العاقل، أن الله- تعالى- سخر لكم يا بنى آدم- ما في الأرض من دواب وشجر وأنهار، وغير ذلك مما تحتاجونه لحياتكم، وسخر لمنفعتكم السفن التي تجرى في البحر بتقديره وإرادته وإذنه.
وهو- سبحانه- الذي يمسك السماء ويمنعها من أن تقع على الأرض، فتهلك من فيها، ولو شاء لأذن لها في الوقوع فسقطت على الأرض فأهلكت من عليها.
قال الجمل: وقوله: إِلَّا بِإِذْنِهِ: الظاهر أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وهو لا يقع إلا في الكلام الموجب إلا أن قوله: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ في قوة النفي. أى: لا يتركها تقع في حالة من الأحوال إلا في حالة كونها ملتبسة بمشيئة الله- تعالى- فالباء للملابسة «١».
وقوله- سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أى: لكثير الرأفة والرحمة بهم، ومن علامات ذلك أنه سخر لهم ما في الأرض وسخر لهم الفلك، وأمسك السماء عنهم، ولم يسقطها عليهم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «٢».
ثم ختم- سبحانه- هذه النعم بما هو أجلها وأعظمها فقال: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ أى: بعد أن كنتم أمواتا في بطون أمهاتكم، وقبل أن ينفخ بقدرته الروح فيكم. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ أى: بعد انقضاء آجالكم في هذه الحياة ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أى: عند البعث والحساب.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أى: لكثير الجحود والكفران لنعم ربه التي لا تحصى.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أنواعا متعددة من الأدلة على قدرته- سبحانه-، كما ذكرت ألوانا من نعمه على عباده، ومن ذلك إنزال الماء من السماء فتصبح
(٢) سورة فاطر الآية ٤١.
وبعد أن عرضت السورة الكريمة دلائل قدرة الله- تعالى- ورحمته بعباده أتبعت ذلك ببيان أنه- سبحانه- قد جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا، وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يمضى في طريقه لتبليغ رسالة الله- تعالى- دون أن يلتفت إلى ممارات المشركين له، وأن يفوض الحكم فيهم إليه- سبحانه- فهو العليم بكل شيء، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ... كلام مستأنف جيء به لزجر معاصريه صلّى الله عليه وسلّم من أهل الأديان السماوية عن منازعته، ببيان حال ما تمسكوا به من الشرائع، وإظهار خطئهم «١».
والمراد بالأمة هنا: القوم الذين يدينون بشريعة معينة. والمراد بالمنسك المنهج والشريعة التي يتبعونها في عقيدتهم وفي معاملاتهم...
أى: شرعنا لكل أمة من الأمم السابقة منهجا يسيرون عليه في اعتقادهم وفي طريقة حياتهم، فالأمة التي وجدت من مبعث موسى الى مبعث عيسى- عليهما السلام- شريعتها التوراة، والأمة التي وجدت من مبعث عيسى حتى مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم شريعتها الإنجيل، والأمة التي وجدت منذ مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة شريعتها القرآن.
ويرى بعضهم أن المراد بالمنسك هنا: المكان الذي يذبحون فيه ذبائحهم تقربا إلى الله- تعالى-.
وقد رجح الإمام ابن جرير ذلك فقال ما ملخصه: وأصل المنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر. يقال: إن لفلان منسكا يعتاده، يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر. وقد اختلف أهل التأويل في معنى المنسك هنا، فقيل: عيد، وقيل: إراقة الدم.. والصواب من القول في ذلك أن يقال: عنى بذلك إراقة الدم أيام النحر بمنى، لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت إراقة الدم في هذه الأيام... ولذلك قلنا: عنى بالمنسك في هذا الموضع: الذبح.. «١».
ويبدو لنا أن القول الأول، وهو تفسير المنسك بالشريعة الخاصة أقرب إلى الصواب لشموله للذبح وغيره.
والضمير في قوله: هُمْ ناسِكُوهُ يعود لكل أمة.
أى: جعلنا لكل أمة شريعة تسير على تعاليمها، وتنهج على نهجها..
والفاء في قوله- تعالى-: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ لترتيب النهى على ما قبلها.
والمنازعة: المجادلة والمخاصمة. والمراد بالأمر: ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه- تعالى- من تشريعات وأحكام.
أى: قد جعلنا لكل أمة من الأمم السابقة شريعة تتبع تعاليمها، وما دام الأمر كذلك، فاسلك أنت وأتباعك- أيها الرسول الكريم- الشريعة التي أوحيناها إليك، وأمرناك باتباعها، ولا تلتفت إلى مخاصمة من ينازعك في ذلك من اليهود أو النصارى أو غيرهم، فإن منازعتهم لك فيما جئت به من عند ربك، يدل على جهلهم وسوء تفكيرهم، لأن ما جئت به من عند ربك مصدق لشريعتهم، ومهيمن عليها وناسخ لها.
ثم أرشده- سبحانه- إلى ما يجب عليه نحو دينه فقال: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ.
أى: وادع هؤلاء الذين ينازعونك فيما جئتهم به من الحق، وأدع غيرهم معهم إلى ترك التنازع والتخاصم، وإلى الدخول في دين الإسلام: فإنك أنت على الصراط المستقيم، الذي
ثم بين له- سبحانه- ما يفعله إذا ما لجّوا في منازعتهم له فقال: وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ.
أى: وإن أبوا إلا مجادلتك بعد أن ظهر الحق، ولزمتهم الحجة، فقل لهم- أيها الرسول الكريم- أمرى وأمركم إلى الله- تعالى-، فهو الذي يتولى الحكم بيني وبينكم يوم القيامة، لأنه- سبحانه- هو العليم بحالي وحالكم.
وهذه الجملة الكريمة قد تضمنت تهديدهم على استمرارهم في جدالهم بعد أن تبين لهم الحق، كما تضمنت وجوب إعراض الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنهم.
ثم أكد- سبحانه- هذا التهديد والإعراض فقال: اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أيها المسلمون وبين هؤلاء الكافرين يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ في الدنيا تَخْتَلِفُونَ من أمرنا هذا الدين، وحينئذ يتبين من هو على الحق ومن هو على الباطل، وسيجازى- سبحانه- كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات بتأكيد علمه بكل شيء فقال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ...
أى: لقد علمت- أيها الرسول الكريم- وتيقنت، أن الله- تعالى- لا يعزب عن علمه مثقال ذرة مما يحصل في السموات والأرض من أقوال أو أفعال.
إِنَّ ذلِكَ الذي يجرى في السموات والأرض كائن وثابت فِي كِتابٍ هو اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال الخلق.
إِنَّ ذلِكَ الذي ذكرناه لك من الحكم بين الناس، ومن العلم بأحوالهم ومن تسجيل أعمالهم عَلَى اللَّهِ- تعالى- يَسِيرٌ وهين، لأنه- سبحانه- له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
ثم وبخ- سبحانه- الكافرين على جهلهم، حيث عبدوا من دونه مالا ينفعهم ولا يضرهم، وحيث كرهوا الحق وأصحابه، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
إذ قوله- سبحانه-: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً نفى لأن يكون لهم دليل سمعي على عبادتها وقوله- تعالى-: وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ نفى لأن يكون لهم دليل عقلي على عبادتها.
والتنكير في قوله: «سلطانا، وعلم» للتقليل. أى: لا دليل لهم أصلا لا من جهة السمع، ولا من جهة العقل، ومع ذلك يتمسكون بهذه العبادة الباطلة.
وقوله- تعالى-: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ تهديد بسوء المصير لهؤلاء المشركين.
أى: وما للظالمين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها، من نصير ينصرهم من عقاب الله وعذابه، لأنهم بسبب عبادتهم لغير الله- تعالى-، قد قطعوا عن أنفسهم كل رحمة ومغفرة.
ثم بين- سبحانه- أنهم بجانب ضلالهم، تأخذهم العزة بالإثم إذا ما نصحهم الناصحون بالإقلاع عن هذا الضلال فقال: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ، يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا...
وقوله يَسْطُونَ من السطو، بمعنى الوثب والبطش بالغير. يقال: سطا فلان على فلان، إذا بطش به بضرب أو شتم أو سرقة أو ما يشبه ذلك.
أى: وإذا تتلى على هؤلاء الظالمين، آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، من قبل عبادنا المؤمنين تَعْرِفُ- أيها الرسول الكريم- فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بهذه الآيات البينات الْمُنْكَرَ أى: ترى في وجوههم الإنكار لها، والغضب منها ومن قارئها، والكراهية والعبوس عند سماعها.
بل ويكادون فوق ذلك، يبطشون بالمؤمنين الذين يتلون عليهم آياتنا، ويعتدون عليهم بالسب تارة، وبالضرب تارة أخرى.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهؤلاء الطغاة على سبيل التهديد والوعيد، ما من شأنه أن يردعهم عن سطوهم وبغيهم فقال: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الظالمين ألا أخبركم بما هو أشد ألما من غيظكم على من يتلو عليكم آياته، ومن همكم بالسطو عليه؟.
أشد من كل ذلك النَّارُ التي وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أى: وعدهم بدخولها، وبالاصطلاء بسعيرها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصير هؤلاء الكافرين.
قال الجمل: وقوله: النَّارُ خبر مبتدأ محذوف، كأن سائلا سأل فقال: وما الأشر؟
فقيل: النار، أى: هو النار. وحينئذ فالوقف على ذلكم، أو على النار.
ويصح أن يكون لفظ النار مبتدأ، والخبر: وعدها الله. وعلى هذا فالوقف على:
كفروا.. «١».
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى الناس. بين فيه أن كل آلهة تعبد من دونه- عز وجل- فهي باطلة وهي أعجز من أن تدافع عن نفسها، وأن كل عابد لها هو جاهل ظالم. فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٣ الى ٧٦]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
وإنما تضرب الأمثال لإيضاح المعنى الخفى، وتقريب الشيء المعقول من الشيء المحسوس، وعرض الغائب في صورة المشاهد، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب، وأثبت في النفوس.
وسمى الله- تعالى- ما ساقه في هذه الآية الكريمة مثلا، لأن ما يفعله المشركون من عبادتهم لآلهة عاجزة، يشبه المثل في غرابته وفي التعجب من فعله.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: الذي جاء به- سبحانه- ليس بمثل فكيف سماه مثلا؟.
قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستغراب مثلا، تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم «١».
والمعنى: يا أيها الناس لقد بينا لكم قصة مستغربة وحالا عجيبة. لما يعبد من دون الله- تعالى- فاستمعوا إليها بتدبر وتعقل.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.. بيان للمثل وتفسير له.
والذباب: اسم جنس واحده ذبابة- وهي حشرة معروفة بطيشها وضعفها وقذارتها.
أى: إن المعبودات الباطلة التي تعبدونها أيها المشركون، لن تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة، حتى لو اشتركت جميعها في محاولة خلق هذه الذبابة.
قال صاحب الكشاف: وهذا من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل قريش، واستركاك عقولهم.
والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه- أى قد ربطهم برباطه، حيث وصفوا بالإلهية- التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها- صورا وتماثيل، يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا.. «٢».
أى: وفضلا عن عجز تلك الأصنام مجتمعة عن خلق ذبابة، فإنها إذا اختطف الذباب منها شيئا من الأشياء لا تستطيع استرداده منه لعجزها عن ذلك.
قال القرطبي: وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه، ولاستقذاره وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره، لا يقدر من عبدوه من دون الله- تعالى- على خلق مثله، ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين، وأربابا مطاعين، وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على عجز الخاطف والمخطوف منه فقال:
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
قال الآلوسى: والطالب: عابد غير الله- تعالى- والمطلوب: الآلهة، وكون عابد ذلك طالب لدعائه إياه، واعتقاده نفعه، وضعفه لطلبه النفع من غير جهته، وكون الآخر مطلوبا ظاهرا كضعفه.
وقيل: «الطالب الذباب يطلب ما يسلبه من الآلهة، والمطلوب: الآلهة، على معنى المطلوب منه ما يسلب..» «٢».
وعلى أية حال فإن هذا التعليل يدل دلالة واضحة على عجز كل معبود باطل، وأنه قد تساوى في عجزه مع أضعف مخلوقات الله وأحقرها.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن هؤلاء المشركين، قد وضعوا الأمور في غير موضعها، لجهلهم وغبائهم فقال: ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ....
أى: ما عظموا الله حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته، حيث تركوا عبادة الواحد القهار، وعبدوا ما يعجز عن رد ما سلبه الذباب منه.
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على خلق كل شيء عَزِيزٌ لا يغالبه مغالب، ولا يدافعه مدافع.
ثم بين- سبحانه- أن له مطلق التصرف في اختيار رسله فقال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ....
أى: الله- تعالى- وحده هو الذي يختار من بين ملائكته رسلا يرسلهم لتبليغ وحيه إلى
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٢٠٢.
إِنَّ اللَّهَ- تعالى- سَمِيعٌ لأقوال عباده بَصِيرٌ بأحوالهم، لا تخفى عليه خافية من شئونهم.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أى: يعلم ما قدموا من أعمال، وما يعملون الآن، وما سيعملونه في المستقبل إذ أن علمه- سبحانه- ليس مقيدا بزمان أو مكان وَإِلَى اللَّهِ تعالى وحده تُرْجَعُ الْأُمُورُ كلها لا إلى غيره.
ثم وجه- سبحانه- في نهاية السورة نداء إلى عباده المؤمنين، أمرهم فيه بالمداومة على طاعته، وبالإخلاص في عبادته، وبالجهاد في سبيله، وبالاعتصام بحبله، فقال- تعالى-:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
والمراد بالركوع والسجود هنا: الصلاة، وعبر عنها بهما، لأنهما أهم أركانها، وناداهم- سبحانه- بصفة الإيمان، لحضهم على الامتثال لما أمروا به.
أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- وبملائكته وبكتبه وبرسله وباليوم الآخر حافظوا على أداء الصلاة في مواقيتها بخشوع وإخلاص، لأن هذه الصلاة من شأنها أن تنهاكم عن الفحشاء والمنكر، وأن ترفع درجاتكم عند خالقكم.
وقوله: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ تعميم بعد التخصيص، إذ فعل الخير يشمل كل قول وعمل يرضى الله- تعالى-: كإنفاق المال في وجوه البر، وكصلة الرحم وكالإحسان إلى الجار وكغير ذلك من الأفعال التي حضت عليها تعاليم الإسلام.
وقوله- تعالى-: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تذييل قصد به التحريض على امتثال ما أمرهم الله- تعالى- به، والفلاح: الظفر بالمطلوب.
أى: أدوا الصلاة بخشوع ومواظبة، واعبدوا ربكم عبادة خالصة، وافعلوا الخير الذي يقربكم من خالقكم، لكي تنالوا رضاه وثوابه- عز وجل-.
فكلمة «لعل» للتعليل، ويصح أن تكون على معناها الحقيقي وهو الرجاء، ولكن على تقدير صدوره من العباد، فيكون المعنى: وافعلوا الخير حالة كونكم راجين الفلاح، ومتوقعين الفوز والنجاح.
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها أنها قد جمعت أنواع التكاليف الشرعية، وأحاطت بها من كل جوانبها.
قال الآلوسى ما ملخصه: وهذه الآية آية سجدة عند الشافعى وأحمد، لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود، ولحديث عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما.
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها ليست آية سجدة، لأنها مقرونة بالأمر بالركوع، والمعهود في مثله من القرآن، كونه أمرا بما هو ركن للصلاة، كما في قوله- تعالى-: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وما روى من حديث عقبة إسناده ليس بالقوى «١».
وبعد أن أمر- سبحانه- بالصلاة وبالعبادة وبفعل الخير، أتبع ذلك بالأمر بالجهاد فقال- تعالى-: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ.
والجهاد مأخوذ من الجهد، وهو بذل أقصى الطاقة في مدافعة العدو.
وهي أنواع، أعظمها: جهاد أعداء الله- تعالى- من الكفار والمنافقين والظالمين والمبتدعين في دين الله- تعالى- ما ليس منه.
كذلك من أنواع الجهاد: جهاد النفس الأمارة بالسوء، وجهاد الشيطان.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَجاهِدُوا... أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى.
وهو الجهاد الأكبر. عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رجع من بعض غزواته فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» فِي اللَّهِ أى: في ذات الله ومن أجله. يقال: هو حق عالم، وجد عالم، ومنه حَقَّ جِهادِهِ.
فإن قلت: ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه، أو حق جهادكم فيه، كما قال: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ؟.
قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص. فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه.. «١».
وجملة «هو اجتباكم» مستأنفة، لبيان علة الأمر بالجهاد، والاجتباء: الاختيار والاصطفاء.
أى: جاهدوا- أيها المؤمنون- من أجل إعلاء كلمة الله، لأنه- سبحانه- هو الذي اختاركم للذب عن دينه، واصطفاكم لحرب أعدائه، وجدير بمن اختاره الله واصطفاه أن يكون مطيعا له.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر لطفه بعباده فقال: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
أى: ومن مظاهر رحمته بكم- أيها المؤمنون- أنه سبحانه لم يشرع في هذا الدين الذي تدينون به ما فيه مشقة بكم، أو ضيق عليكم: وإنما جعل أمر هذا الدين، مبنى على اليسر والتخفيف ورفع الحرج، ومن قواعده التي تدل على ذلك: أن الضرر يزال. وأن المشقة تجلب التيسير: وأن اليقين لا يرفع بالشك، وأن الأمور تتبع مقاصدها، وأن التوبة الصادقة النصوح تجب ما قبلها من ذنوب.
ومن الآيات التي تدل على أن هذا الدين مبنى على التيسير ورفع الحرج قوله- تعالى-:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها... «٢» وقوله- سبحانه-:... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ... «٣».
(٢) سورة البقرة الآية ٢٨٦. [.....]
(٣) سورة البقرة الآية ١٨٥.
قال بعض العلماء: وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا، بين المشقة في الأحكام الشرعية، وبين الحرج والعسر فيها، فإن الأولى حاصلة وقلما يخلو منها تكليف شرعي، إذ التكليف هو التزام ما فيه كلفة ومشقة، أما المشقة الزائدة عن الحد التي تصل إلى حد الحرج، فهي المرفوعة عن المكلفين.
فقد فرض الله الصلاة على المكلف، وأوجب عليه أداءها، وهذا شيء لا حرج فيه. ثم هو إذا لم يستطيع الصلاة من قيام، فله أن يؤديها وهو قاعد أو بالإيماء.. وهكذا جميع التكاليف الشرعية «١».
والخلاصة: أن هذا الدين الذي جاءنا به محمد صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه- عز وجل- مبنى على التخفيف والتيسير، لا على الضيق والحرج، والذين يجدون فيه ضيقا وحرجا، هم الناكبون عن هديه، الخارجون على تعاليمه.
ورحم الله الإمام القرطبي فقد قال: «رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين..» «٢».
والمراد بالملة في قوله- تعالى-: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ الدين والشريعة، ولفظ «ملة» هنا منصوب بنزع الخافض.
أى: ما جعل عليكم- أيها المؤمنون- في دينكم من حرج، كما لم يجعل ذلك- أيضا- في ملة أبيكم إبراهيم.
ويصح أن يكون منصوبا على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفى الحرج بعد حذف المصدر المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. أى: وسع عليكم في دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم.
ووصف- سبحانه- إبراهيم- عليه السلام- بالأبوة لهذه الأمة، لأن رسول هذه الأمة صلّى الله عليه وسلّم ينتهى نسبه إلى إبراهيم، ورسول هذه الأمة صلّى الله عليه وسلّم كالأب لها، من حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم جاءها من عند ربه- عز وجل- بما يحييها ويسعدها.
والضمير «هو» في قوله- تعالى-: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا.. يعود
(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ١٠١.
وسماكم- أيضا- بهذا الإسلام في هذا القرآن.
وقيل: الضمير «هو» يعود إلى إبراهيم أى: إبراهيم هو الذي سماكم المسلمين.
ومن وجوه ضعف هذا القول: أن الله- تعالى- قال: وَفِي هذا أى سماكم المسلمين.
في هذا القرآن، وإبراهيم- عليه السلام- لحق بربه قبل نزول هذا القرآن بأزمان طويلة، وأيضا فإن السياق يؤيد أن الضمير «هو» يعود إلى الله- تعالى- لأن الأفعال السابقة كقوله هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ تعود إليه- عز وجل-.
ثم بين- سبحانه- أسباب هذا الاجتباء والاصطفاء فقال: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.
والمراد بشهادة الرسول على أمته: الإخبار بأنه قد بلغهم رسالة ربه.
والمراد بشهادة هذه الأمة على غيرها من الناس: الإخبار بأن الرسل الذين أرسلهم الله- تعالى- إلى هؤلاء الناس، قد بلغوهم رسالة ربهم، ونصحوهم بإخلاص العبادة لله وحده.
ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يدعى نوح- عليه السلام- يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب. فيقال له: هل بلغت ما أرسلت به؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ».
وشبيه بهذه الجملة قوله- تعالى-: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «١».
والمعنى: فعلنا ما فعلنا من اجتبائكم، والتيسير عليكم، وتسميتكم بالمسلمين، ليكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أمر بتبليغه إليكم، ولتكونوا أنتم شهداء على الناس بأن رسلهم قد بلغوهم رسالة ربهم.
وما دام الأمر كذلك فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أيها المؤمنون بأن تؤدوها في أوقاتها بإخلاص وخشوع وَآتُوا الزَّكاةَ التي كلفكم الله- تعالى- بإيتائها إلى مستحقيها وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أى: التجئوا إليه، واستعينوا به في كل أموركم فإنه- سبحانه- هُوَ مَوْلاكُمْ
وبعد: فهذه سورة الحج، وهذا تفسير محرر لها.
نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد سيد طنطاوى
رقمها/ الآية المفسرة/ الصفحة مقدمة ٥ تعريف بسورة مريم ٩ ١/ كهيعص ذكر رحمة ربك/ ١٢ ٧/ يا زكريا إنا نبشرك بغلام/ ١٦ ١٢/ يا يحيى خذ الكتاب بقوة/ ٢٠ ١٦/ واذكر في الكتاب مريم/ ٢٢ ٢٢/ فحملته فانتبذت به مكانا/ ٢٧ ٢٧/ فأتت به قومها تحمله/ ٣٢ ٣٤/ ذلك عيسى ابن مريم قول الحق/ ٣٥ ٤١/ واذكر في الكتاب إبراهيم/ ٤٠ ٥١/ واذكر في الكتاب موسى/ ٤٤ ٥٤/ واذكر في الكتاب إسماعيل/ ٤٦ ٥٦/ واذكر في الكتاب إدريس/ ٤٧ ٥٨/ أولئك الذين أنعم الله عليهم/ ٤٨ ٦٤/ وما نتنزل إلا بأمر ربك/ ٥٤ ٦٦/ ويقول الإنسان أإذا ما مت/ ٥٦ ٧٣/ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات/ ٦٢ ٧٧/ أفرأيت الذي كفر بآياتنا/ ٦٧ ٨١/ واتخذوا من دون الله آلهة/ ٦٩ ٨٨/ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا/ ٧٣ ٩٦/ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا/ ٧٦
رقمها/ الآية المفسرة/ الصفحة مقدمة ٨١ تعريف بسورة طه ٨٣ ١/ طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى/ ٨٥ ٩/ وهل أتاك حديث موسى/ ٨٩ ١٧/ وما تلك بيمينك يا موسى/ ٩٤ ٣٦/ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى/ ١٠٠ ٤٢/ اذهب أنت وأخوك بآياتى ولا تنيا/ ١٠٦ ٤٩/ قال فمن ربكما يا موسى/ ١١١ ٦١/ قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا/ ١٢٠ ٧١/ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم/ ١٢٧ ٧٧/ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي/ ١٣١ ٨٣/ وما أعجلك عن قومك يا موسى/ ١٣٥ ٩٠/ ولقد قال لهم هارون من قبل/ ١٤١ ٩٢/ قال يا هارون ما منعك/ ١٤٢ ٩٥/ قال فما خطبك يا سامرى/ ١٤٤ ٩٩/ كذلك نقص عليك من أنباء/ ١٤٨ ١٠٥/ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها/ ١٥١ ١١٣/ وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا/ ١٥٥ ١١٥/ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل/ ١٥٧ ١٢٤/ ومن أعرض عن ذكرى فإن له/ ١٦٤ ١٣٠/ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك/ ١٦٧ ١٣٣/ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه/ ١٧١
رقمها/ الآية المفسرة/ الصفحة مقدمة ١٧٧ تمهيد بين يدي السورة ١٧٩ ١/ اقترب للناس حسابهم/ ١٨٢ ٧/ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا/ ١٨٧ ١٠/ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم/ ١٨٩ ١٦/ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما/ ١٩٣ ٢١/ أم اتخذوا آلهة من الأرض ١٩٦ ٢٦/ وقالوا اتخذوا الرحمن ولدا/ ٢٠٠ ٣٠/ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض/ ٢٠٢ ٣٤/ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد/ ٢٠٦ ٤٢/ قل من يكلؤكم بالليل والنهار/ ٢١٢ ٤٨/ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان/ ٢١٨ ٥١/ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل/ ٢٢٠ ٥٩/ قالوا من فعل هذا بآلهتنا/ ٢٢٤ ٦٦/ قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم/ ٢٢٧ ٧٤/ ولوطا آتيناه حكما وعلما/ ٢٣١ ٧٦/ ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له/ ٢٣٢ ٧٨/ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث/ ٢٣٣ ٨٣/ وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر/ ٢٤٠ ٨٥/ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل/ ٢٤٢ ٨٧/ وذا النون إذ ذهب مغاضبا/ ٢٤٣ ٨٩/ وزكريا إذ نادى ربه/ ٢٤٦ ٩١/ والتي أحصنت فرجها/ ٢٤٧
رقمها/ الآية المفسرة/ الصفحة مقدمة ٢٦٥ تعريف بسورة الحج ٢٦٧ ١/ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة/ ٢٧٢ ٣/ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم/ ٢٧٥ ٥ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث/ ٢٧٧ ٨/ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم/ ٢٨٣ ١٤/ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات/ ٢٨٧ ١٥/ من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة/ ٢٨٨ ١٧/ إن الذين آمنوا والذين هادوا/ ٢٩٠ ١٨/ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض/ ٢٩٢ ١٩/ هذان خصمان اختصموا في ربهم/ ٢٩٣ ٢٥/ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله/ ٢٩٨ ٣٠/ ذلك ومن يعظم حرمات الله/ ٣٠٤ ٣٤/ ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا/ ٣٠٩ ٣٨/ إن الله يدافع عن الذين آمنوا/ ٣١٤ ٤٢/ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم/ ٣١٩ ٥٢/ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي/ ٣٢٥ ٥٥/ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه/ ٣٣٠ ٦٠/ ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به/ ٣٣٣ ٦٣/ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء/ ٣٣٥ ٦٧/ لكل أمة جعلنا منسكا/ ٣٣٨ ٧١/ ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا/ ٣٤٠ ٧٣/ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له/ ٣٤٢ ٧٧/ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا/ ٣٤٥
[المجلد العاشر]
سورة المؤمنونبسم الله الرّحمن الرّحيم رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) صدق الله العظيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد١- سورة «المؤمنون» من السور المكية، وعدد آياتها ثماني عشرة آية ومائة، وكان نزولها بعد سورة الأنبياء.
٢- وقد افتتحت السورة الكريمة بالحديث عن الصفات الكريمة التي وصف الله- تعالى- بها عباده المؤمنين، فذكر منها أنهم في صلاتهم خاشعون وأنهم للزكاة فاعلون...
ثم ختمت السورة تلك الصفات الجليلة، ببيان ما أعده الخالق- عز وجل- لأصحاب هذه الصفات فقال: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
٣- ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى الحديث عن أطوار خلق الإنسان، فابتدأت ببيان أصل خلقه، وانتهت ببيان أنه سيموت، ثم سيبعث يوم القيامة ليحاسب على ما قدم وما أخر.
قال- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً. فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ.
٤- وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة على قدرته على البعث عن طريق خلق الإنسان في تلك الأطوار المتعددة، أتبع ذلك ببيان مظاهر قدرته- تعالى- عن طريق خلق الكائنات المختلفة التي يراها الإنسان ويشاهدها وينتفع بها..
فقال- سبحانه-: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ، فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ.
٥- ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك فيما يقرب من ثلاثين آية بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم، فذكر جانبا من قصة نوح مع قومه، ومن قصة موسى مع فرعون وقومه.
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً، وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ..
٦- ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك نداء عاما إلى الرسل- عليهم الصلاة والسلام- أمرهم فيه بالمواظبة على أكل الحلال الطيب، وعلى المداومة على العمل الصالح، وبين- سبحانه- أن شريعة الأنبياء جميعا هي شريعة واحدة في أصولها وعقائدها، فقال- تعالى-: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.
ثم تحدثت السورة الكريمة حديثا طويلا عن موقف المشركين من الدعوة الإسلامية، وبينت مصيرهم يوم القيامة، وردت على شبهاتهم ودعاواهم الفاسدة، ودافعت عن الرسول صلى الله عليه وسلّم وعن دعوته، وختمت هذا الدفاع بما يسلى النبي صلى الله عليه وسلّم ويثبت فؤاده.
قال- تعالى-: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته، منها ما يتعلق بخلق سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم، ومنها ما يتعلق بنشأتهم من الأرض، ومنها ما يتعلق بإشهادهم على أنفسهم بأن خالق هذا الكون هو الله- تعالى-.
واستمع إلى قوله- تعالى-: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ.
٩- وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله- تعالى-، أمر- سبحانه- نبيه أن يلتجئ إليه من شرورهم ومن شرور الشياطين، وأمره أن يقابل سيئات هؤلاء المشركين بالتي هي أحسن، حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
قال- تعالى-: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ.
١٠- ثم صورت السورة الكريمة في أواخرها أحوال المشركين عند ما يدركهم الموت، وكيف أنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ولكن هذا التمني لا يفيدهم شيئا، وكيف يوبخهم- سبحانه- على سخريتهم من المؤمنين في الدنيا.
١١- ثم ختمت السورة الكريمة بهذه الآية التي يأمر الله- تعالى- فيها نبيه صلى الله عليه وسلّم بالمواظبة على طلب المزيد من رحمته ومغفرته- سبحانه- فقال- تعالى-: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
١٢- وهكذا نرى سورة «المؤمنون» قد طوفت بنا في آفاق من شأنها أن تغرس الإيمان في القلوب، وأن تهدى النفوس إلى ما يسعدها في دينها ودنياها.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
صباح الأحد: ٢ من ربيع الأول سنة ١٤٠٥ هـ ٢٥/ ١١/ ١٩٨٤ م.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى