تفسير سورة التكوير

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة التكوير
مقدمة وتمهيد
١- سورة " التكوير "، وتسمى –أيضا- بسورة : " إذا الشمس كورت "، وهي من السور المكية بلا خلاف، وعدد آياتها : تسع وعشرون آية.
وتعتبر من أوائل السور القرآنية نزولا، فهي السورة السادسة أو السابعة في ترتيب النزول، فقد كان نزولها بعد سورة الفاتحة. وقبل سورة " الأعلى ".
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأيُ العين، فليقرأ " إذا الشمس كورت ". " وإذا السماء انفطرت " " وإذا السماء انشقت ".
٢- والمتأمل في هذه السورة الكريمة، يراها في نصفها الأول، تسوق أمارات يوم القيامة وعلاماته، بأسلوب مؤثر يبعث في القلوب الخوف والوجل.
ويراها في نصفها الثاني تؤكد أن هذا القرآن الكريم من عند الله –تعالى-، وليس من كلام البشر، وأن جبريل الأمين قد نزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.

التفسير قال الله- تعالى-
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤)
تكرر لفظ «إذا» في هذه الآيات اثنتي عشرة مرة، وجواب الشرط قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ. وهذا التكرار بلفظ إذا من مقاصده التشويق للجواب، لأن السامع عند ما يجد هذا الظرف وقد تكرر يكون في ترقب وشوق لمعرفة الجواب.
وعند ما يسمعه يتمكن من نفسه كل التمكن.
ولفظ «الشمس مرفوع على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده، أى: إذا كورت الشمس كورت. وأصل التكوير: لف الشيء على جهة الاستدارة، تقول: كورت العمامة، إذا لففتها.
قال صاحب الكشاف: في التكوير وجهان: أحدهما: أن يكون من كورت العمامة إذا لففتها. أى: يلف ضوء الشمس لفا فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها، لأنها ما دامت باقية، كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف.
وثانيهما: أن يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها، لأن الثوب إذا أريد رفعه، لف وطوى
296
ونحوه قوله- تعالى-: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ «١».
أى: إذا الشمس أزيل ضوؤها بعد انتشاره وانبساطه، فأصبحت مظلمة بعد أن كانت مضيئة، ومستتره بعد أن كانت بارزة.
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أى: تناثرت وتساقطت وانقلبت هيئتها من اللمعان والظهور، إلى الميل نحو الظلام والسواد.
أى: وإذا النجوم تساقطت وانقضت. يقال: انكدر البازي، إذا نزل على فريسته بسرعة، وانكدر الأعداء على القوم إذا جاءوا أرسالا متتابعين فانصبوا عليهم.
ويصح أن يكون المعنى: وإذا النجوم تغيرت وانطمس نورها، وزال لمعانها، من قولهم:
كدرت الماء فانكدر، إذا خلط به ما يجعله مائلا إلى السواد والغبرة.
وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أى: اقتلعت من أماكنها فسارت في الفضاء بقدرة الله- تعالى-. قال- تعالى- وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. وقال- سبحانه-: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً.
وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ والعشار: جمع عشراء كنفساء، وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر. وتسمى بهذا الاسم إلى أن تضع لتمام السنة. والنوق العشار كانت من أثمن الأموال عند العرب، وكانوا يحافظون عليها حتى في أشد حالات الخوف.
ومعنى «عطلت» : أهملت وتركت بدون راع يحميها، أو يلتفت إليها، وهذا تصوير بديع لما يصيب الناس من أهوال، تجعلهم لا يلتفتون إلى أعز أموالهم لديهم.
أى: وإذا النوق العشار- التي هي أغلى الأموال- عطلت، أى تركت دون أن يلتفت إليها أحد. لانشغال كل إنسان بنفسه.
وقيل: المراد بالعشار: السحب المحملة بالأمطار. أى: وإذا السحب الحاملة للأمطار قد عطلت عن نزول المطر منها، وصارت خالية من الماء الذي يحيى الأرض بعد موتها.
قال القرطبي ما ملخصه: وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ أى: النوق الحوامل التي في بطونها أولادها، الواحدة عشراء.. وإنما خصت بالذكر، لأنها أعز ما تكون عند العرب.. وهذا على وجه المثل. لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المثل، أن هول يوم القيامة، بحال ما لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٠٧.
297
وقيل: العشار: السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر، والعرب تشبه السحاب بالحامل.
وقيل:
الديار تعطل فلا تسكن والأول أشهر، وعليه من الناس الأكثر «١».
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أى: وإذا الحيوانات المتوحشة- كالأسد والنمر وغيرهما.
حُشِرَتْ أى: جمعت من أماكنها المتفرقة، وخرجت في ذهول، وتلاقت دون أن يعتدى بعضها على بعض، مخالفة بذلك ما طبعت عليه من النفور والتقاتل.
قال الآلوسى قوله: وَإِذَا الْوُحُوشُ جمع وحش، وهو حيوان البر الذي ليس في طبعه التأنس ببني آدم.. حُشِرَتْ أى: جمعت من كل جانب. وقيل: حشرت. أى:
أميتت.. وقيل: حشرت: بعثت للقصاص، فيحشر كل شيء حتى الذباب.
أخرج مسلم والترمذي عن أبى هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء..» «٢».
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أى: امتلأت وفاض ماؤها واختلط عذبها بملحها، وصارت بحرا واحدا، مأخوذ من قولهم: سجر الحوض، إذا ملأه حتى فاض من جانبيه.
ويصح أن يكون معنى «سجرت» : أحميت بالنار حتى تبخرت مياهها، وظهرت النار في مكانها، من قولهم: سجر فلان التنور، إذا ملأه بالحطب المعد للحرق.
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وقوله: زُوِّجَتْ من التزويج وهو جعل الشيء زوجا لغيره، بعد أن كان كلاهما فردا، ويطلق الزوج- أيضا- على الصنف والنوع، كما في قوله- تعالى- وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
أى: وإذا النفوس اقترنت كل واحدة منها ببدنها، أو بمن يشبهها، أو بعملها.
قال الفخر الرازي: قوله: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ فيه وجوه: أحدها: قرنت الأرواح بالأجساد.
ثانيها: يصيرون فيها- أى: يوم القيامة- ثلاثة أصناف، كما قال- تعالى- وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً.
(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٢٢٩.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٥١.
298
ثالثها: أنه يضم إلى كل صنف من كان في طبقته، فيضم الطائع إلى مثله.. «١».
ثم قال- تعالى-: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ولفظ «الموءودة» من الوأد، وهو دفن الطفلة حية.
قال صاحب الكشاف وأد يئد مقلوب من آد يؤود: إذا أثقل. قال- تعالى- وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما، لأنه إثقال بالتراب.
فإن قلت: ما حملهم على وأد البنات؟ قلت: الخوف من لحوق العار بهم من أجلهن، أو الخوف من الإملاق.
فإن قلت: فما معنى سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت به؟ وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ قلت: سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها، نحو التبكيت- لقوم عيسى- في قوله- تعالى- لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «٢».
أى: وإذا الموءودة سئلت، على سبيل التبكيت والتقريع لمن قتلها، بأى سبب من الأسباب قتلك قاتلك.
ولا شك أنها لم ترتكب ما يوجب قتلها، وإنما القصد من ذلك إلزام قائلها الحجة، حتى يزداد افتضاحا على افتضاحه.
وقد حكى القرآن في كثير من الآيات، ما كان يفعله أهل الجاهلية من قتلهم للبنات، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ، أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ، أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ «٣».
ولم يكن الوأد معمولا به عند جميع قبائل العرب، فقريش- مثلا- لم يعرف عنها ذلك وإنما عرف في قبائل ربيعة، وكنده، وتميم. ولكنهم لما كانوا جميعا راضين عن هذا الفعل، جاء الحكم عاما في شأن أهل الجاهلية.
وقوله- سبحانه-: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ أى: بسطت بعد أن كانت مطوية، وهي صحف الأعمال التي سجلتها الملائكة على أصحابها، سواء أكانت تلك الأعمال خيرا أم شرا، فهذه الصحائف تطوى عند الموت، وتنشر يوم القيامة، يوم الحساب والجزاء.
(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ٣٣٩.
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٠٨.
(٣) سورة النحل الآيتان ٥٨، ٥٩. [.....]
299
قال- تعالى-: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً «١».
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أى: قلعت وأزيلت، وأصل الكشط إزالة جلدة الحيوان عنه.
يقال: كشطت البعير كشطا، إذا نزعت جلده منه. أى: وإذا السماء نزعت وأزيلت، فلم تبق على هيئتها التي كانت عليها، من إظلالها لما تحتها.
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أى: أوقدت إيقادا شديدا للكفار، والجحيم هي النار ذات الطبقات المتعددة من الوقود كالحطب وغيره، وتسعيرها: إيقادها بشدة.
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أى: قربت وأدنيت من المؤمنين، كما في قوله- تعالى-:
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. من الزلفى بمعنى القرب، يقال: تزلف فلان إلى فلان، إذا تقرب منه.
وقوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ هو جواب الشرط لكل تلك الظروف السابقة. أى: إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت تبين لكل نفس ما عملته من خير أو شر، ومن حسن أو قبيح.. ورأت ذلك رأى العين، كما قال- تعالى-: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً...
والمراد بالنفس عموم الأنفس، لأن النكرة في سياق النفي تشمل كل نفس وأسند- سبحانه- الإحضار إلى النفوس، لأنها هي المباشرة لأعمالها في الدنيا، والتي ستجد جزاءها في الآخرة.
وجعلت معرفة النفوس لجزاء أعمالها، حاصلة عند حصول مجموع الشروط التي ذكرت في الجمل الاثنتى عشرة، لأن بعض الأزمان والأحوال التي تضمنتها هذه الشروط مقارن لحصول علم النفوس بأعمالها، كما في الستة الأخيرة، فإنها تكون عند فصل القضاء، وبعضها يحصل قبل ذلك بقليل، كما في الأحوال الستة المذكورة أولا، إلا أنه لما كان بعض هذه الأمور من مبادئ يوم القيامة، وبعضها من روادفه، نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع هذه الأمور كلها، تهويلا للخطب، وتفظيعا للأمر. وإشعارا بأن ما يسبق يوم القيامة وما يعقبه، كل ذلك من الأهوال التي يشيب لها الولدان.
وبعد أن ساق- سبحانه- ما ساق من أحوال تدل على شدائد يوم القيامة، أتبع ذلك
(١) سورة الإسراء الآيتان ١٣، ١٤.
300
ببيان أن هذا القرآن من عنده- تعالى- وأن الرسول ﷺ صادق فيما يبلغه عن ربه، فقال:
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١٥ الى ٢٩]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
والفاء في قوله- تعالى-: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ.. للتفريع على ما تقدم من تحقيق وقوع البعث، وهي تعطى- أيضا- معنى الإفصاح، و «لا» مزيدة لتأكيد القسم، وجواب القسم قوله- تعالى- إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ.
وبِالْخُنَّسِ- بزنة ركّع- جمع خانس، والخنوس: الاستخفاء والاستتار، يقال:
خنست الظبية والبقرة، إذا اختفت في بيتها.
والْجَوارِ جمع جارية، وهي التي تجرى بسرعة، من الجري بمعنى الإسراع في السير.
والْكُنَّسِ جمع كانس. يقال: كنس الظبى، إذا دخل كناسه- بكسر الكاف- وهو البيت الذي يتخذه للمبيت، وسمى بذلك لأنه يتخذه من أغصان الأشجار، ويكنس الرمل إليه حتى يكون مختفيا عن الأعين.
وهذه الصفات، المراد بها النجوم، لأنها بالنهار تكون مختفية عن الأنظار، ولا تظهر إلا بالليل، فشبهت بالظباء التي تختفى في بيوتها ولا تظهر إلا في أوقات معينة.
أى:
301
بالنهار، أى: يغيب ضوؤها عن العيون بالنهار، ويظهر بالليل، والتي تجرى من مكان إلى آخر بقدرة الله- تعالى- ثم تكنس- أى:
إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن البعث حق فأقسم بالنجوم التي تخنس
تستتر وقت غروبها- كما تتوارى الظباء في كنسها إن هذا القرآن لقول رسول كريم.
قال ابن كثير ما ملخصه: قوله- تعالى- فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ:
هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل، روى ذلك عن على بن أبى طالب وابن عباس ومجاهد.
وقال بعض الأئمة: وإنما قيل للنجوم «الخنس» أى: في حال طلوعها، ثم هي جوار في فلكها، وفي حال غيبوبتها، يقال لها «كنس»، من قول العرب. أوى الظبى إلى كناسه:
إذا تغيب فيه.
وفي رواية عن ابن عباس: أنها الظباء، وفي أخرى أنها بقر الوحش حين تكنس إلى الظل أو إلى بيوتها.
وتوقف ابن جرير في قوله: بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ هل هي النجوم أو الظباء وبقر الوحش قال: ويحتمل أن يكون الجميع مرادا.. «١».
وقوله: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ معطوف على ما قبله. وداخل في حيز القسم.
وقوله عَسْعَسَ أدبر ظلامه أو أقبل، فهذا اللفظ من الألفاظ التي تستعمل في الشيء وضده، إلا أن المناسب هنا يكون المراد به إقبال الظلام، لمقابلته بالصبح إذا تنفس، أى:
أضاء وأسفر وتبلج.
وقيل: العسعسة: رقة الظلام وذلك في طرفي النهار، فهو من المشترك المعنوي، وليس من الأضداد، أى: أقبل وأدبر معا. أى: وحق النجوم التي تغيب بالنهار، وتجرى في حال استتارها.. وحق الليل إذا أقبل بظلامه، والصبح إذا أقبل بضيائه.
إِنَّهُ أى: القرآن الكريم لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وهو جبريل- عليه السلام- الذي أرسله ربه إلى نبيه محمد ﷺ لكي يبلغه وحيه- تعالى-.
وأقسم الله- تعالى- بهذه الأشياء، لأنها في حركاتها المختلفة، من ظهور وأفول، ومن إقبال وإدبار.. تدل دلالة ظاهرة على قدرة الله- تعالى-، وعلى بديع صنعه في خلقه.
(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٦٠.
302
ونسب- سبحانه- القول إلى الرسول- وهو جبريل- لأنه هو الواسطة في تبليغ الوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم وصف- سبحانه- أمين وحيه جبريل بخمس صفات: أولها: قوله كَرِيمٍ أى:
ملك شريف، حسن الخلق، بهى المنظر، ثانيها: ذِي قُوَّةٍ أى: صاحب قوة وبطش.
كما قال- تعالى-: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى.. ثالثها: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أى: أن من صفات جبريل- عليه السلام- أنه ذو مكانة رفيعة، ومنزلة عظيمة عند الله- تعالى-.
رابعها: قوله- تعالى- مُطاعٍ أى يطيعه من معه من الملائكة المقربين.
وخامسها: قوله: - سبحانه- ثَمَّ أَمِينٍ و «ثم» بفتح الثاء- ظرف مكان للبعيد. والعامل ما قبله أو ما بعده، والمعنى: أنه مطاع في السموات عند ذي العرش، أو أمين فيها، أى: يؤدى ما كلفه الله- تعالى- به بدون أية زيادة أو نقص.
قال الشوكانى: ومن قال إن المراد بالرسول محمد ﷺ فالمعنى: أنه ذو قوة على تبليغ الرسالة إلى الأمة، مطاع يطيعه من أطاع الله، أمين على الوحى.
وقوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ: الخطاب لأهل مكة، والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: وما محمد يا أهل مكة بمجنون، وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره، وأنه ليس مما يرمونه من الجنون وغيره في شيء، وأنهم افتروا عليه ذلك، عن علم منهم، بأنه أعقل الناس وأكملهم، وهذه الجملة داخلة في جواب القسم.
فأقسم- سبحانه- بأن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدا ﷺ ليس كما يقولون من أنه مجنون، وأنه يأتى بالقرآن من جهة نفسه «١».
فالمقصود بالآية نفى الجنون عن النبي ﷺ بأكمل وجه، وتوبيخ أعدائه الذين اتهموه بتهمة هم أول من يعلم- عن طريق مشاهدتهم لاستقامة تفكيره، وسمو أخلاقه- أنه أكمل الناس عقلا وأقومهم سلوكا.
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ معطوف- أيضا- على قوله- تعالى- قبل ذلك: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ فهو من جملة المقسم عليه.
(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٣٩١، للشوكانى.
303
والمقصود بهذه الرؤية: رؤية النبي ﷺ لجبريل- عليه السلام- لأول مرة، على الهيئة التي خلقه الله عليها، عند ما كان الرسول ﷺ يتعبد في غار حراء، وكان ﷺ قد سأل جبريل أن يريه نفسه، على الهيئة التي خلقه الله- تعالى- عليها.
والأفق: هو الفضاء الواسع الذي يبدو للعين ما بين السماء والأرض.
والمبين: وصف للأفق، أى: بالأفق الواضح البين، الذي لا تشتبه معه المرئيات.
والمعنى: وو الله لقد رأى صاحبكم محمد ﷺ جبريل، بصورته التي خلقه الله عليها، بالأفق الواضح البين، الذي لا تلتبس فيه المرئيات، ولا مجال فيه للأوهام والتخيلات.
والمقصود من الآية الكريمة الرد على المشركين الذين كانوا إذا أخبرهم الرسول ﷺ بأنه رأى جبريل. كذبوه واستهزءوا به، وتأكيد أن هذه الرؤية كانت حقيقة واقعة، لا مجال معها للتشكيك أو اللبس.
قال الإمام ابن كثير: وقوله- تعالى- وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يعنى: ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله- عز وجل- وعلى الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أى: البين، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء- أى بالمكان المجاور لغار حراء. وهي المذكورة في قوله- تعالى-: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى.. «١».
والضمير في قوله- تعالى-: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ يعود إلى الرسول ﷺ المعبر عنه قبل ذلك بِصاحِبِكُمْ.
والغيب: ما غاب عن مدارك الناس وحواسهم، لأن الله- تعالى- قد استأثر بعلمه.
والضنين: هو البخيل بالشيء، مأخوذ من الضن- بالكسر والفتح- بمعنى البخل.
قال الآلوسى: «وما هو» أى: رسول الله ﷺ «على الغيب» أى: على ما يخبر به من الوحى إليه وغيره من الغيوب «بضنين» من الضن- بكسر الضاد وفتحها- بمعنى البخل، أى: ببخيل، أى: لا يبخل بالوحي، ولا يقصر في التعليم والتبليغ، ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم، على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون غيرهم على ما يزعمون معرفته إلا بإعطائهم حلوانا.
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٦١، وراجع تفسيرنا لهذه الآيات في سورة النجم.
304
وقرأ ابن كثير والكسائي وأبو عمر بظنين- بالظاء- أى: وما هو على الغيب بمتهم، من الظنة- بالكسر- بمعنى التهمة.
ثم قال: ورجحت هذه القراءة، لأنها أنسب بالمقام، لاتهام الكفرة له ﷺ بذلك، ونفى التهمة، أولى من نفى البخل. «١».
وهذا القول لا نوافق الآلوسى- رحمه الله- عليه، لأن القراءة متى ثبتت عن النبي ﷺ لا يجوز التفاضل بينها وبين غيرها التي هي مثلها في الثبوت، والقراءتان هنا سبعيتان، ومن ثم فلا ينبغي التفاضل بينهما. والمعنى عليهما واضح ولا تعارض فيه.
أى: وما محمد ﷺ ببخيل بتبليغ الوحى، بل هو مبلغ له على أكمل وجه وأتمه، وما هو- أيضا- بمتهم فيما يبلغه عن ربه، لأنه ﷺ سيد أهل الصدق والأمانة.
وقوله- سبحانه- وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ معطوف- أيضا- على قوله- تعالى- إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ والضمير هنا يعود على القرآن الكريم.
أى: وليس هذا القرآن الكريم، المنزل على سيدنا محمد ﷺ بقول شيطان مرجوم مسترق للسمع.. وإنما هو كلام الله- تعالى- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وهذا رد آخر على المشركين الذين زعموا أن القرآن الكريم إنما هو من باب الكهانة، وأن الرسول ﷺ إنما هو كاهن، تلقنه الشياطين هذا القرآن.
وقوله- سبحانه-: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ جملة معترضة بين ما سبقها، وبين قوله- تعالى- بعد ذلك إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، والمقصود فيها توبيخهم وتعجيزهم عن أن يأتوا ولو بحجة واحدة يدافعون بها عن أنفسهم.
والفاء لتفريع هذا التعجيز والتوبيخ، على الحجج السابقة، المثبتة بأن هذا القرآن من عند الله- تعالى- وليس من عند غيره.
وأين اسم استفهام عن المكان، والاستفهام هنا للتعجيز والتقريع، وهو منصوب بقوله: تَذْهَبُونَ.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم، فأى طريق تسلكون أوضح وأبين من هذا الطريق الذي أرشدناكم إليه؟ إنه لا طريق لكم سوى هذا الطريق الذي أرشدناكم إليه.
(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٦١.
305
قال صاحب الكشاف: قوله: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أو ذهابا في بنيات الطريق- أى: في الطريق المتشعبة عن الطريق الأصلى- أين تذهب؟ مثلت حالهم في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل «١».
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أى: ما هذا القرآن الكريم، إلا تذكير وإرشاد وهدايات للبشر جميعا.
وهذا الذكر العظيم إنما هو لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أى: هو نافع لمن شاء منكم- أيها الناس- أن يستقيم على طريق الحق، وأن يلزم الرشاد ويترك الضلال.
والجملة الكريمة بدل مما قبلها، للإشعار بأن الذين استجابوا لهدى القرآن قد شاءوا لأنفسهم الهداية والاستقامة.
فالمقصود بهذه الجملة: الثناء عليهم، والتنويه بشأنهم.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، ببيان أن مشيئته- تعالى- هي النافذة، فقال:
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
أى: وما تشاءون الاستقامة أو غيرها، إلا إذا شاءها وأرادها الله- تعالى- رب العالمين، إذ مشيئة الله- تعالى- هي النافذة، أما مشيئتكم فلا وزن لها إلا إذا أذنت بها مشيئته- تعالى-.
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن كل مشيئة لا قيمة لها ولا وزن.. إلا إذا أيدتها مشيئة الله- عز وجل-.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧١٣.
306

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة الانفطار
مقدمة وتمهيد
١- سورة «الانفطار» من السور المكية الخالصة، وتسمى- أيضا- سورة «إذا السماء انفطرت»، وسورة «المنفطرة» أى: السماء المنفطرة.
٢- وعدد آياتها: تسع عشرة آية. وهي السورة الثانية والثمانون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول، فكان نزولها بعد سورة (النازعات)، وقبل سورة (الانشقاق)، أى أنها السورة الثانية والثمانون- أيضا- في ترتيب النزول.
٣- وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على إثبات البعث، وعلى أهوال يوم القيامة، وعلى تنبيه الناس إلى وجوب الاستعداد لهذا اليوم الشديد، وعلى جانب من نعم الله على خلقه، وعلى بيان حسن عاقبة الأبرار، وسوء عاقبة الفجار.
307
Icon