هذه السورة مكية. وقيل : مكية باستثناء آيات ثلاث. وتسمى سورة النعم ؛ لما عدد الله فيها من نعمه على العباد، كخلق الأنعام للناس ليكون لهم فيها دفء ومنافع وطعام. ولهم فيها جمال إذا راحوا أو سرحوا. ومن نعمه إنزال الماء من السماء ليكون لهم منه شراب وسوم ومختلف الزروع والثمرات. ومن نعمه عليهم أيضا تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار والجبال. وفي ذلك من أصناف النعم والمنافع ما لا يحصى. إلى غير ذلك من ضروب القصص والأخبار والحقائق في الطبيعة والأحياء والمجتمع. ومن جملة ذلك : التنديد بما كانت تتلطخ به تصورات الجاهليين من إحساس مستقبح عن الأنثى ؛ إذ كانوا يتوارون من بعضهم لفرط امتعاضهم وضيقهم من ولادة الأنثى. هذا الشعور الظالم البغيض قد ندد به الإسلام واستفظعه استفظاعا.
ﰡ
﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ ( أتى )، بمعنى يأتي. فقد أقام الماضي مقام المستقبل، لتحقيق إثبات الأمر وصدقه. يعني عبّر بصيغة الماضي ليدل على التحقيق والوقوع لا محالة١. والمراد بأمر الله : قيام الساعة، وذلك وعيد من الله للمشركين الظالمين بأن الساعة قد اقتربت وأن عذابهم قد دنا أجله. وذلك رد على استسخارهم الحقير ؛ فقد كانوا لجهالتهم وسفاهتهم يستعجلون قيام الساعة ونزول العذاب بهم. وذلك على سبيل الاستهزاء والتكذيب. والمعنى : أنه قرب قيام الساعة وما فيها من بالغ العقاب لكم فلا تطلبوا مجيء الساعة والعذاب قبل وقتهما المكتوب.
قوله :( سبحانه وتعالى عما يشركون ) ينزه الله نفسه عن الشرك والشركاء والأنداد. وما، في قوله :( عما ) تحتمل كونها مصدرية. والتقدير : سبحانه وتعالى عن إشراكهم. وتحتمل كونها موصولة بمعنى الذي. والتقدير : سبحانه وتعالى عن الشركاء والأضداد والأنداد ؛ فهو خالق كل شيء، وله ملكوت كل شيء ليس له في ذلك نديد٢.
٢ - تفسير الرازي جـ١٩ ص ٢٢٣ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٠ وفتح القدير جـ٣ ص ١٤٧..
قوله :( من أمره ) أي هذا التنزيل لا يكون إلا بأمر الله.
قوله :( على من يشاء من عباده ) أي على النبيين الذين اصطفاهم الله لرسالته وتبليغ دينه للناس.
قوله :( أن أنذروا انه لا إله إلا أنا فاتقون ) ( أن أنذروا )، فيه وجهان :
أحدهما : البدل على قوله :( بالروح ) والمعنى : ينزل الملائكة بأنهم أنذروا أي أعلموا الناس أو بلغوهم أنه لا إله إلا أنا. والإنذار معناه الإعلام مع التخويف.
ثانيهما : أن تكون ( أن ) مفسرة ؛ لأن تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول١.
والمعنى : أن الله ينزل الملائكة بالروح بأمره على الذين يختارهم ليكونوا أنبياء من بين عباده بأن أنذروا الناس وحذروهم عقابي وانتقامي بسبب كفرهم وعصيانهم ؛ فإنه ليس من إله خالق ما تنبغي لغيره الألوهية سواي ( فاتقون ) أي خافوني بإفرادي بالعبادة وإخلاص الربوبية لي دون أحد من خلقي٢.
٢ - الكشاف جـ٢ ص ٤٠٠ وتفسير الرازي جـ١٩ ص ٢٢٥..
قوله :( تعالى عما يشركون ) أي عز الله وعلا عن شرك المشركين فالله منزّه عما يفتريه المبطلون ويصطنعونه من الآلهة المزعومة الموهومة.
والمعنى المراد : أن الله يمتن على الإنسان أن خلقه من نطفة قذرة من الماء المستقذر المهين ليمر في مراحل وأطوار مقدورة شتى، ما بين نطفة وعلقة ومضغة في داخل الرحم حتى إذا اندلق إلى الدنيا طفلا رضيعا تقلب في مراحل نشوئه من طور إلى طور، ما بين الرضاعة وطفولة وفتوة وشباب واكتهال وكبر ثم ارتداد إلى أرذل العمر. وما ينهض الإنسان قويا مكتملا في قدراته واستعدادته وتطوره حتى ينقلب إلى مخاصم لله في قدرته وعظمته. فيجترئ على ربه بالخصومة الشديدة في توقح ظاهر وكفران شديد مستبين بعد أن خلقه من ماء مستقذر بالغ المهانة٣.
٢ - القاموس المحيط جـ ١٩ ص ٢٣١ وفتح القدير جـ٣ ص ١٤٧ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٠..
٣ - تفسير الرازي جـ١٩ ص ٢٣١ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٤٧ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٠..
والأنعام من أصناف ما أنعم الله به على عباده لما فيها من عظيم المنافع والفوائد. وذلك ما يبينه قوله :( لكم فيها دفء ) فيها خبر مقدم، ودفء مبتدأ مؤخر. والمراد بالدفء ما يُستدفأ به من أوبارها وأشعارها وأصوافها. وفسره ابن عباس بالثياب والعموم أولى استنادا إلى الظاهر.
قوله :( منافع ) ما ينتفع به من الركوب والحراثة ونضح الماء، والدر والنسل. وغير ذلك من وجوه المنافع المستفادة من الأنعام.
قوله :( ومنها تأكلون ) أي مما يؤكل من الأنعام كلحومها وشحومها وألبانها وعلى هذا تكون ( من ) للتبعيض.
قوله :( حين تريحون وحين تسرحون ) ( تريحون ) من الإراحة، وهو رجوعها من المراعي عشيا إلى حظائرها. و ( تسرحون ) من السرح والسروح، وهو إخراجها في الغدو من مبيتها إلى مسارحها وهي مراعيها.
قوله :( إن ربكم لرؤوف رحيم ) رؤوف من الرأفة وهي أشد الرحمة١. والله جل وعلا عظيم الرحمة بعباده، ومما يكشف عن بالغ رحمته هذه : ما ذرأه لهم من صنوف المخلوقات مما جعله مذللا ميسرا لتحصيل المنافع للناس، ومن بين ذلك الأنعام٢.
٢ - التبيان للطوسي جـ٦ ص ٣٦٢ وروح المعاني جـ٧ ص ٩٩، ١٠٠..
قوله :( والبغال والحمير ) البغال جمع بغل وهو معروف. وكذا الحمير، جمع حمار. فقد خلق الله هذه البهائم مضافة إلى الأنعام ؛ ليكون سائر ذلك مذللا للناس كيما ينتفعوا به ويستفيدوا منه على اختلاف وجوه المنافع والفوائد.
ومن جملة المنافع المستفادة من هذه البهائم والدواب : ركوبها، وحمل الأثقال على ظهورها، والتزين بها.
والتزين المستفاد من بهيمة البغال والحمير كان ظاهرة معروفة ومألوفة لدى الأمم السابقة سواء الأمة التي تنزل عليها القرآن، أو من تبعها من الأمم والأجيال. لقد كانت ظاهرة التزين بهذا الصنف من البهائم مستطابة ومرغوبة لحاجة الناس إذ ذاك إليها. وبعد تقلص الحاجة إلى الانتفاع ببهائم الخيل والبغال والحمير ؛ فإنه لا ينبغي التقليل من أهمية هذه البهائم من حيث الصورة والمنظر. لا جرم أن بهيمة الخيل والبغال والحمير تثير في ذهن المتدبر البصير التفكر في عظمة الخالق الذي برأ الخلائق على اختلاف أشكالها وأجسامها وهيئاتها وصورها ؛ فما ينظر المرء إلى أي صنف من أصناف الدواب والبهائم، ومنها الخيل والبغال والحمير إلا ويستثار فيه الإعجاب والرغبة في إطالة النظر وروعة التملي لجمال الصور التي جاءت عليها هاتيك الأحياء العجاب.
قوله :( ويخلق ما لا تعلمون ) يخلق الله غير ما ذكر من أصناف النعم والبهائم سواء كان ذلك في سمائه مما لا نعلم عن عجيب خلقه الكثير الباهر. أو في الأرض من مختلف الخلائق والكائنات مما نعلم ومما لا نعلم. الله قادر على إيجاد ما يشاء من خلق مما ليس له مثال أو نظير ؛ فهو سبحانه الظاهر القاهر القادر على صنع ما يشاء في الطبيعة أو الأحياء أو الكائنات على اختلاف أنواعها وأشكالها.
ولدى الحديث عما لا نعلم ؛ فإنه يلزم التدبر في قوله عز وعلا :( علم الإنسان ما لم يعلم ) لقد رزق الله الإنسان عقله، فكان سببا فيما وصلت إليه البشرية في عصرها الراهن من عجيب المخترعات والصناعات العلمية، ما بين حافلة نارية تقطع القفار والأمصار والبراري في سهولة ولين ويسر. أو سفينة تمخر عباب البحر لتحمل على متنها الأحمال الهائلة الثقال. أو طائر تجوب أجواز الفضاء في سرعة مذهلة تفوق سرعة الصوت إلى غير ذلك من ضروب المخترعات العلمية الحديثة ؛ فإن ذلك وغيره في زماننا هذا أو بعده لهو من إفرازات القدرة العقلية العظيمة التي امتن الله بها على الإنسان ؛ فالله جل وعلا لهو المتفضل المنان الذي أودع في الإنسان عقله ليكون سبيلا لتحقيق هذه المنجزات العلمية المثيرة مما نعلم ومما لا نعلم.
قوله :( ومنها جائر ) الضمير عائد على السبيل ؛ أي ومن السبيل جائر، يعني عادل من المحجة، منحرف عن الحق. وقيل : المراد بذلك فِرق الضلال من أمة محمد ( ص ) ؛ فإنه جائر عن قصد السبيل.
قوله :( ولو شاء لهداكم أجمعين ) أي لهداكم قسرا وإلجاء ؛ فالله قادر على فعل ما يشاء من هداية أو إضلال. وهو سبحانه لا يهدي أو يضل إلا لحكمة لا يعلمها إلا هو٢.
٢ - التبيان للطوسي جـ٦ ص ٣٦٣ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٧٧ وروح المعاني جـ٧ ص ١٠٠- ١٠٢.
قوله :( إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) أي فيما بينه الله من وجوه النعم والخيرات التي خلقها للعباد لأكبر دليل على تفرد الله تعالى بالإلهية، وعلى حقيقة الكمال في جلاله العظيم وهو ما تجلى في قدرته البالغة وعلمه المطلق وحكمته العليا ( لقوم يتفكرون ) أي للمتبصرين المدّكرين الذين يتدبرون الآيات ويتفكرون في خلق الله. أما اللاهية قلوبهم وعقولهم عن التبصرة والذكرى، فلا تتفهم مثل هذه الآيات الواضحات البينات١.
الليل والنهار آيتان من آيات الله، جعلهما متعاقبين خلفه ؛ إذ يخلف أحدهما الآخر. وقد ذللهما الله لبني آدم أيما تذليل لكي يستفيدوا من طبيعتهما وتعاقبهما ؛ فقد جعل الله الليل فيه منام للعباد ؛ إذ يرقدون فيه ويهجعون. وجعل النهار من أجل السعي والكد والبذل في نشاط وجد. ففيه تتحقق المصالح، وتندرئ المضار، ويتعهد الناس أسباب المعاش والمكاسب من تجارة وصناعة وزراعة وغير ذلك.
قوله :( والشمس والقمر ) وهذان كذلك آيتان عظيمتان من آيات الله الكبريات الباهرات مما يستديم العجب من هذين الجرمين في عظيم خلقتهما وعجيب منظرهما ؛ ففي الشمس دفء وحرارة وحياة للآدميين وكل الخلائق. وفي القمر نور وضياء تبتهج به النفس أشد ابتهاج وتجد من حلاوة الصورة والمنظر ما يستنفر في النفس الخيال ويهيج فيها الحس، فيظل الناظر متمليا محبورا، فضلا عما يناط بالقمر من مزية التوازن مع الأرض بفعل الجاذبية المشتركة بينهما، وبفعل الدوران المنتظم للقمر من حول الشمس. ولولا وجود القمر في مكانه المناسب المقدور لاضطراب وجه الأرض وماد.
قوله :( والنجوم مسخرات بأمره ) الواو للاستئناف. والنجوم، مبتدأ، وخبره ( مسخرات ) ؛ أي أن سائر النجوم في حركاتها وسطوعها ودورانها في أفلاكها وكل أحوالها مسخرات لما خلقها الله له. وذلك بقدرته وتدبيره وحكمته سبحانه.
قوله :( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) الإشارة عائدة إلى تسخير ما بينه الله من الخلائق المسخرة ؛ فإن في هذا التسخير لدلالات كبيرة على أن الله هو الخالق الصانع ؛ وأنه المقدر الحكيم. قوله :( لقوم يعقلون ) أي للمتفكرين أولي النهي والأبصار الذين يتدبرون ما خلق الله من عجيب مخلوقاته.
قوله :( مختلفا ألوانه ) أي أصنافه. وهو قول كثير من المفسرين ؛ فإنه يعبر بالألوان عن الأجناس والأنواع. وقيل : المراد المعنى الحقيقي ؛ أي مختلفا ألوانه من البياض والسواد وغيرهما من الألوان. والأظهر العموم ؛ فقد جعل الله ما في الأرض مختلف الأصناف والألوان ليتحقق للعباد ما يبتغونه من ضروب المنافع والمصالح.
قوله :( إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ) ( يذكرون )، أصلها يتذكرون فأدغمت التاء في الذال. والمعنى : أنه فيما ذرأه الله على هذه الحال من اختلاف الألوان والأصناف ( لآية لقوم يذكرون ) أي لهو علامة ظاهرة ودلالة مكشوفة يعيها المتعظون المعتبرون٢.
٢ - البحر المحيط جـ٥ ص ٤٧٩ وروح المعاني جـ٧ ص ١١٠، ١١١.
.
قوله :( وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) ومن نعم الله على الناس ما ذلله لهم من مذخور البحر وما فيه من حلية ثمينة كاللؤلؤ والمرجان وغيرهما من ذخائر البحر ( تلبسونها ) وهذه من ملبوسات النساء جعلها الله لهن ليتزيّن لها فتعم الفائدة كلا الطرفين. الرجال والنساء ؛ فالنساء بلباس الحلي يستشعرون الحلاوة والبهجة. وكذلك الرجال يُسرون ويتلذذون برؤية زوجاتهم وهن يرفلن بألبسة الزينة الجميلة ؛ فهم جميعا يجدون في حلية البحر المستخرجة ما ينشر في حياتهم الجمال والبهجة والسرور، وتلك نعمة من نعم الله على العباد.
قوله :( وترى الفلك مواخر فيه ) المواخر يعني الجواري، جميع ماخرة ؛ أي جارية. والمخر معناه الشق. نقول : مخر السابحُ ؛ أي شق الماء بيديه. وسميت الفلك وهي السفن مواخر ؛ لأنها تشق الماء بجئاجئها، جمع جؤجؤ، وهو مقدمة السفينة١.
قوله :( ولتبتغوا من فضله ) معطوف على قوله :( وتستخرجوا ) و ( من فضله ) أي من واسع رزقه ؛ فالناس بركوبهم السفن الجواري وهي تمخر عباب البحار، يرومون الرزق والكسب بالتجارة وغيرها. وهذا كله من فضل الله ؛ أي من جزيل عطائه وامتنانه وواسع بره ورحمته.
قوله :( ولعلكم تشكرون ) أي تذكرون ما منّ الله به عليكم من خير، وما أسبغه عليكم من وافر العطاء والنعمة مما تجدونه من خيرات البر والبحر فتبادرون إلى طاعته وعبادته.
قوله :( أن تميد بكم ) ( أن تميد ) في موضع نصب على المفعول له ؛ أي كراهة أن تميد بكم. وكراهة منصوب على أنه مفعول له. أو لئلا تميد بكم١ ؛ أي لئلا تضطرب بكم. و ( تميد )، من الميد وهو الميل يمينا وشمالا وهو الاضطراب. ماد يميد ميدا وهو مائد. ماء الشيء أي تحرك. ومادت الأغصان ؛ أي تمايلت٢.
والمعنى : أن الله عز وعلا قد رسّخ الجبال الشامخات الثقال في الأرض لتستقر بثقلها فلا تتحرك أو تتمايل وتضطرب.
قوله :( وأنهار وسبلا لعلكم تهتدون ) عطف ( أنهارا ) على ( رواسي ) وعطف ( سبلا ) على ( أنهار ) أي جعل الله في الأرض أنهارا. وذلك دليل يضاف إلى الأدلة الكثيرة على قدرة الصانع العظيم. وكذلك جعل ( سبلا ) أي طرقا تسلكونها ( لعلكم تهتدون ) أي تهتدون بهذه السبل إلى مقاصدكم وانتقالكم من أجل أغراضكم وحاجاتكم.
٢ - مختار الصحاح ص ٦٤٠..
قوله :( وبالنجم هم يهتدون ) النجم، اسم جنس، فيشمل عامة النجوم التي يهتدى بها في معرفة القبلة، أو في الأسفار ليلا سواء في البر أو البحر٢.
٢ - تفسير الماوردي جـ٣ ص ١٨٢ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٧٨-٤٨٠ والتبيان جـ٦ ص ٣٦٨..
وفي الآية هذه تكبيت بليغ للمشركين الواهمين الذين يعبدون آلهة مصطنعة مفتراة من دون الله. لا جرم أن التباين عظيم بين الذي يخلق ما تقدم ذكره من سماء وأرض وجبال وأنهار وبحار، وفلك ونجوم، وهو الله جل وعلا، وبين المخاليق من مختلف الموجودات. وما المخاليق إلا الكائنات من أجناس شتى سواء فيها الأصنام الجوامد التي لا تعي ولا تنطق ولا تضر ولا تنفع، أو غير الأصنام من الأحياء كعزير والمسيح أو الجن والملائكة أو غيرهم ممن عبدتهم الأمم الضالة سفها وجهالة كنمروذ وفرعون. وأولئك جميعا ليسوا غير أصناف مختلفة من المخاليق أولي الطبائع الضعيفة والهيئات القاصرة المحدودة. فما ينبغي لذي عقل أن يعبد شيئا من هذه الكائنات ثم يعرض عن عبادة الله الخالق البارئ القادر. وهذا ما يقتضيه قوله سبحانه :( أفلا تذكرون ) استفهام إنكار وتوبيخ ؛ أي أفلا تتدبرون وتتفكرون فتعتبروا وتتعظوا وتوقنوا مبلغ ما أنتم عليه من الباطل والضلال والغفلة ؟ !
قوله :( إن الله لغفور رحيم ) الله جل وعلا يستر ذنوب المقصرين ويتجاوز عن خطايا المذنبين المفرطين الذين لم يشكروا الله حق شكره ( رحيم ) يفيض برحمته على عباده مع بالغ تفريطهم في حق الله وشديد تقصيرهم في شكره واستحقاقهم من أجل ذلك الحرمان من النعم١.
وفي ذلك من الوعيد للكافرين الظالمين ما لا يخفى. وكذلك فإن الله يعلم ( ما تعلنون ) أي ما أظهرتموه من العقائد والأعمال ؛ فكل ذلك عند الله سواء. وهو سبحانه يعلم السر والجهر ؛ بل إنهما بالنسبة إلى جلال الله سواء. وهذه خصيصة ليست لغير الله الذي يستوي عنده الظاهر المشهود، والغائب المستور.
وكذلك الملائكة عليهم الصلاة والسلام. وكذلك ما ليس من شأنه الحياة أصلا كالأصنام الجامدة الميتة التي لا تريم.
قوله :( وما يشعرون أيان يبعثون ) ( أيان )، استفهام عن الزمان بمعنى متى. و ( أيان ) مبني لتضمنه معنى الحرف وهو همزة الاستفهام٢. والمعنى : أن هذه المعبودات المصطنعة أموات لا حياة فيها ولا حركة، فأنى لهم العلم بوقت البعث. ومن كان هذا شأنه في الجهل والقصور كيف يليق بذي عقل من البشر أن يتخذ منه إلها ؟ ! ٣.
٢ - نفسه..
٣ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ٦٤ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٩٤..
قوله :( فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ) هذا وصف للضالين الخاسرين الذين يكذبون بيوم الدين ويجحدون حقيقة القيامة واليوم الموعود ؛ فهم صنف من البشر التائه الزائغ الذي لا يقبل الوعظ ولا يؤثر فيهم التذكير أو النصح لفرط غيّهم وتماديهم وكزازة طبائعهم ؛ إنهم أناس ضالون مضلون قد ارتابت قلوبهم، وفسدت فطرتهم ؛ فكانوا أولي قلوب جاحدة ( منكرة ) أي تستنكر كل يقين مما هو ظاهر وجلي ومستبين بأن الله خالق كل شيء، وله ملكوت كل شيء ؛ فيجب إفراده وحده بالإلهية والربوبية والحاكمية كيلا يكون من إله أو رب أو مشرع سواه.
قوله :( وهم مستكبرون ) هذا وصف للجاحدين الظالمين الذين أبوا إلا العتو والتكذيب، جريا وراء أهوائهم الزائغة الفاسدة ( وهم مستكبرون ) أي متكبرون عن الإقرار لله بالوحدانية وإفراده وحده بالإلهية والربوبية والحاكمية ؛ بل إنهم طوّعت لهم أنفسهم المعوجة التي تستمرئ الباطل أن يعبدوا مع الله آلهة أخرى، أو يتخذوا من دونه أربابا شتى ليصطنعوا لهم من التشريع غير ما أنزله الله للعباد.
وفي الآية تأكيد جازم على أن الله يعلم ما يخفيه هؤلاء المشركون الظالمون في قلوبهم من مكنونات السوء والكيد، وما يضمرونه للإسلام والمسلمين من نوايا الخبث والمكر. وهو كذلك يعلم ما يعلنون للبشرية من مجاهرة بالضلال والكفر وما يشيعونه على الملأ من أقاويل الظلم والباطل ليثيروا من حول الإسلام الشبهات والافتراءات فيثنوا المسلمين عن دينهم ويثبطونهم تثبيطا.
قوله :( إنه لا يحب المستكبرين ) ليس من ذنب ولا خطيئة أشد شناعة وأفدح فظاعة بعد الإشراك بالله من الكبر ؛ لأن الكبر داء يستحوذ على القلب فيسوّل له الإدبار عن دين الله ويزين له التمرد على الله في شرعه للناس. ولا يحمل المرء في نفسه شيئا من استكبار إلا ويوشك أن يبوء بالشقوة والخسران إلا أن يبادر إلى التوبة والخشوع ؛ فإن من يستكبر يسلس قياده من قبل الشيطان ليجد طريقه ممهدا إلى النار. وهؤلاء المستكبرون لا يحبهم الله ولا يثني عليهم ؛ بل يجزيهم ما يستحقونه من أليم الجزاء.
٢ - نفسه..
قوله :( ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) الأوزار، جمع وزر بالكسر والتسكين، ومعناه الإثم والثقل والحمل الثقيل١ ( ومن )، للجنس وليست للتبعيض ؛ فالذين يدعون إلى الضلال والباطل عليهم من الذنوب فوق ذنوبهم أنفسهم مثل ذنوب الذين أضلوا وأغووهم. قال ابن كثير في هذا المعنى : يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم، واقتداء أولئك بهم كما جاء في الحديث : " من دعا إلى هدى ؛ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة ؛ كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ".
قوله :( بغير علم ) أي أن هؤلاء التابعين قد سقطوا في الضلالة والغواية وهم لا يعلمون أنهم ضالون.
وقيل : إن هؤلاء السادة والكبراء الذين يضلون أتباعهم من الناس إنما يضلونهم جهلا منهم بما يستحقونه من شديد العقاب عما جنوه من إضلال غيرهم ( ألا ساء ما ساء ما يزرون ) ألا ساء إثمهم الذي يأثمون والثقل الذي يتحملون. أو بئس ما يحملونه من وزر ثقيل. والمقصود من ذلك، المبالغة في الزجر والتخويف٢.
٢ - تفسير الرازي جـ ٢٠ ص ١٨، ١٩ وتفسير البيضاوي ص ٣٥٤ وفتح القدير جـ٣ ص ١٥٦ وتفسير القرطبي جـ ١٠ ص ٩٧..
وقيل : إن هذا عام في سائر أهل الظلم والباطل الذين يشيعون الكفر والفساد في الأرض والذين يضلون الناس بغير علم ليبعدوهم عن ملة الحق والتوحيد ويهدوهم إلى طريق جهنم طريق الكفر والعصيان والتمرد على منهج الله.
قوله :( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) القواعد جمع قاعدة وهي الأساس. أي هدم الله بنيانهم باجتثاثه من أصوله فماتوا تحته.
قوله :( فخر عليهم السقف من فوقهم ) أي تهدم عليهم البنيان وكانوا هم تحته فهلكوا.
قوله :( وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) أي بعث الله عليهم عذابا من عنده بعد أن ظنوا أنهم آمنون، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. وقيل : إن ذلك كله من باب التمثيل. والمقصود : أن هؤلاء الضالين المبطلين الذين يصدون عن دين الله ويحادون الله ورسوله والمؤمنين، مصيرهم الهلاك والتدمير وسوء المصير في الدنيا.
قوله :( ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ) يسأل الله المشركين الضالين يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع : أين الآلهة التي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي والذين كنتم ( تشاقون فيهم ) أي تعادون المؤمنين وتخاصمونهم من أجلهم – أي أجل الشركاء. والمشاقة هي أن يكون أحد الخصمين في شق، والآخر في الشق الآخر. فما لهؤلاء الشركاء لا يحضرون اليوم ولا يدفعون عنكم شيئا من العذاب والخزي.
قوله :( قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) المراد بالذين أوتوا العلم، العلماء الذين كانوا يدعون الناس إلى دين الله ؛ فهم يقولون للخاسرين الذين باءوا بالعذاب والخزي يوم القيامة : إن الذل والهوان والويل اليوم على الذين كفروا بربهم وشاقوا الله ورسله والمؤمنين. لا جرم أن إظهار الشماتة بالخاسرين يوم القيامة يزيد في إيلامهم والتنكيل بهم١.
قوله :( فلبئس مثوى المتكبرين ) أي ساء مقام هؤلاء المتكبرين الذين استكبروا على الله فعصوه وجحدوا وحدانيته ولم يقروا بربوبيته. ومقامهم النار وبئس المثوى والقرار١.
قوله :( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) ذلك من قول الله عن الذين آمنوا به في الدنيا فأطاعوه والتزموا دينه وشرعه فقد وعدهم الله في هذه الدنيا حسنة أي الثواب الجزيل والجزاء الحسن. أو وعدهم النصر والغلبة والظهور على الأعداء.
قوله :( ولدار الآخرة خير ) ذلك تأكيد من الله على أن ما أعده للمتقين الصالحين من عظيم الجزاء والمثوبة لهو خير وأعظم مما حوته الدنيا من الخيرات والمباهج والنعم ؛ فهذه الدار صائرة إلى الفناء والاندثار لكن الدار الآخرة باقية خالدة لا يعتريها زوال.
قوله :( ولنعم دار المتقين ) المراد بدار المتقين الدار الآخرة حيث الجنة والنعيم المقيم. والمخصوص بالمدح محذوف لتقدم ذكره.
قول :( تجري من تحتها الأنهار ) تنساب المياه خلال الجنة ومن حولها ومن تحت أشجارها الوارفة الظليلة، وذلك على الهيئة البديعة والصورة العجيبة التي لا نعي حقيقتها وماهيتها إلا بقدر ما نتصوره من خلال هذه الكلمات الربانية.
قوله :( لهم فيها ما يشاءون ) وذلك هو النعيم بكماله المطلق الذي لا يعتريه عيب ولا نقيصة. كمال النعيم في الجنة التي يجد فيها المتقون الفائزون من الخيرات والمسرات والمباهج ما لا تتصوره عقول أهل هذه الدنيا.
قوله :( كذلك يجزي الله المتقين ) الكاف صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك الجزاء يجزي الله أهل التقوى١.
قوله :( يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) السلام معناه الأمان، وهذه بشارة من الملائكة لعباد الله المتقين بأنهم ناجون آمنون، صائرون إلى جنات النعيم بما قدموه في حياتهم الدنيا من الصالحات والطاعات.
والمعنى : ماذا ينتظر هؤلاء الضالون المكذبون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم فيفضوا بعد ذلك إلى النار ( أو يأتي أمر ربك ) وهو التدمير، والاستئصال. أو يحشرهم يوم القيامة ليساقوا إلى جهنم زمرا.
قوله :( كذلك فعل الذين من قبلهم ) أي هكذا تمادى السابقون الظالمون في غيهم وضلالهم حتى أذاقهم الله عذاب الذل والهوان. وذلك تخويف من الله لهؤلاء المستكبرين الغازين الذين كذبوا كلام لله وجحدوا نبوة رسوله ( ص ).
قوله :( وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ما ظلم الله هؤلاء المشركين المكذبين بما حل بهم من السخط والذل والهوان ؛ فقد أعذر الله إليهم كامل الإعذار، وأقام عليه الحجة البالغة بما أرسله إليهم من النبيين. لكن المشركين المكذبين هم الذين ظلموا أنفسهم بتلبسهم بالكفر والعصيان والجحود، فاستحقوا ما حل بهم من العذاب المهين.
قال المشركون في اغترار وضلال : إننا لم نعبد هذه الأصنام ولم نشرك بالله ونحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب والوصال والحوامي إلا لأن الله شاء لنا أن نفعل ذلك وقد رضيه لنا. وكذلك فعل الآباء والأجداد من عبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، ولو لم يقبل الله منا ومن آياتنا ذلك أو كرهه لنا ولهم لعاقبنا وإياهم على فعله، أو لهدانا وإياهم إلى غيره.
هكذا قال المشركون الضالعون في الخطيئة والإشراك. وما قالوا ذلك إلا وهم تستحوذ على قلوبهم وعقولهم أغشية كثاف من الوهم والغرور والسفه. ثم جاء الرد القاطع من الله على مقالة هؤلاء الضالين الواهمين السفهاء ( فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ) ليس الشأن كما زعم هؤلاء المشركون الضالون ؛ بل إن الله قد أنكر على الكافرين كفرهم وضلالهم. ونهاهم عن كل وجوه الإشراك أشد نهي. وبعث فيهم النبيين والمرسلين ليدعوهم إلى عبادة الله وحده ويحذروهم من الإشراك به ومن عصيانه ومخالفة أمره. والنبيون المرسلون إنما تناط بهم أمانة التبليغ للناس وكفى. وما عليهم بعد ذلك شيء من زور المكذبين الجاحدين أو الناكلين المستهزئين١.
لله الحجة البالغة على الناس جميعا ؛ فإنه ما من أمة من الأمم على وجه هذه الأرض إلا أرسل الله فيهم نذيرا منهم ليدعوهم إلى عبادة الله وحده وليقلعوا عن الشرك بكل صوره وأشكاله وأن يبتعدوا عن ( الطاغوت ) ويحذروه أشد تحذير.
و ( الطاغوت )، معناه : الطاغي المعتدي، أو كثير الطغيان، والمراد به هنا كل رأس في الضلال يصرف عن طريق الخير. وهو الشيطان والكاهن والساحر وكل معبود من دون الله من الجن والإنس والأصنام١.
وينبغي التذكير بحقيقة الطاغوت في مفهومه المستجد ليكون المسلمون على بينة من أمرهم، وأن يأخذوا لأنفسهم بالغ الحيطة والحذر مما يدور من حولهم من افتراءات ومؤامرات وخيانات ومكائد. وذلك بالنظر لتطور الأساليب في الإطغاء والإضلال، وبالنظر للتغيير في وجوه الكفر مع أنها في حقيقتها وماهيتها ليست إلا الجحود والنكول عن منهج الله والإعراض عن دينه، دين التوحيد والرحمة والعدل والمساواة.
وأساليب الإطغاء والإضلال كثيرة وفظيعة. وهي في هذا الزمان قد اتخذت منحى في غاية الفضاعة والباطل والنكر، وغاية التأثير الماحق الذي يأتي على القلوب والضمائر فيبدد فيها معالم الصلة بالله، ويأتي على الفطرة الإنسانية الأساسية فيسومها الإفساد والتمييع والانحراف، وهو كذلك يأتي على العقول ليصب فيها الثقافات الضالة الجاحدة التي تزين للإنسان إعلان الحرب على منهج الله وعلى دينه الحق، دين التوحيد والاستقامة والفضيلة كل ذلك بفعل الشياطين من طواغيت البشر الذين يصدون الناس عن منهج الله. منهج الإسلام. وذلك بمختلف الأسباب والوسائل في الخداع والتضليل والتشويه والافتراء، واصطناع الشبهات والحملات الثقافية المكذوبة على الإسلام في عقيدته وتشريعه وتاريخه ومجتمعه.
إن ذلكم كله من فعل الطاغوت الذي حذرنا الله منه وحرضنا على اجتنابه كيلا نقع في شراكه، شراك الكفر والظلم والضلال.
قوله :( فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ) أي من هذه الأمم التي بعث الله فيهم النبيين من أرشده الله إلى دينه الحق القويم فآمن وصدق واستقام. ومنهم من ثبتت عليه الضلالة والزيغ عن الحق لعناده وإصراره على الكفر والباطل.
وهذه من الوسائل الدقيقة التي خاض فيها العلماء من أهل السنة والمعتزلة.
وخلاصة القول في هذه المسألة عند أهل السنة : أن الله سبحانه هدى البعض وأضل البعض. فالهدى والضلال بيد الله سبحانه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ؛ فقد أمر الله الرسل بالتبليغ. وهذا التبليغ واجب عليهم والله تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه.
وقال المعتزلة : إن الله لم يمنع أحدا من الإيمان ولم يوقعه في الكفر. والرسل ليس عليهم إلا التبليغ، فما بلغوا ما كلفوا بتبليغه ؛ كان الإنسان بعد ذلك مختارا ما يريده من الحق أو الضلال.
قوله :( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) أي إن كنتم تكذبون ما نذكره لكم عن حال الأمم السابقة وما حل بهم من البأس والتدمير بسبب جحودهم وعصيانهم فسيروا أنتم في الأرض التي كانت مقامهم، والبلاد التي عمروها وبنوا فيها الحضارة وشيدوا فيها المباني والعمران، ثم انظروا إلى آثار عذاب الله فيهم، وكيف أعقبهم تكذيبهم وعصيانهم ما حاق بهم من الهلاك والسوء. وسوف تعلمون إذ ذاك صدق ما نقوله لكم لكي تعتبروا وتتعظوا وتتزجروا عن الشرك والضلال.
قوله :( وما لهم من ناصرين ) الناصر والنصير بمعنى المعين ؛ أي ليس من أحد غير الله من يعين هؤلاء الضالين الظالمين، أو ينقذهم من عقاب الله إن أراد الله أن يعذبهم١.
ذكر في سبب نزول هذه الآية : أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به : والذي أرجوه بعد الموت. فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك لتبعث بعد الموت، فأقسم بالله لا يبعث الله من يموت ؛ فأنزل الله هذه الآية١ وفيها إخبار من الله عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا بالله ( جهد أيمانهم ) أي اجتهدوا في الحلف وبالغوا في تغليظ اليمين على أن الله لا يبعث من يموت. وهذا تكذيب فاجر فاضح بيوم القيامة. هذا الركن الركين في عقيدة هذا الدين ! فإنه لا يجترئ على التكذيب بالبعث أو بقيام الساعة إلا خاسر هالك تاعس، مردود في زمرة الأشقياء الأذلين، أو هو في عداد الكافرين الضالين الذين سقطوا في براثن الجحود والتكذيب المتوقح لرب العالمين.
قوله :( بلى ) وهذا إثبات لما بعد النفي ؛ أي بلى ليبعثنهم يوم القيامة ليناقشوا الحساب ثم يلاقوا ما يستحقونه من جزاء.
قوله :( وعدا عليه حقا ) ( وعدا )، مصدر مؤكد. و ( حقا ) صفة للوعد ؛ أي وَعَدَ العبث وعدا حقا. والبعث حقيقة كونية هائلة تصدقها الأذهان في بساطة، وتركن إليها القلوب والفطر السليمة في راحة ورضى ؛ إذ تحس من أعماق أعماقها حقيقة هذا الحدث الكوني الأكبر، الحدث المزلزل الجلل الذي يأتي على الحياة والكائنات والوجود كله ليصير إلى الفناء الكامل، والانهيار المريع. وذلكم وعد من الله كتبه في الأزل. ووعد الله حق وصدق. وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.
قوله :( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) أكثر الناس لا يصدقون قيام الساعة، وأن يبعث في القبور ليساقوا بعد ذلك مهطعين مذعورين إلى الحشر. أكثر الناس ذاهلون غافلون عن هذه الحقيقة الآتية الكبرى. وذلك لفرط جهالتهم وضلالهم وإغراقهم في شهواتهم وملذاتهم وأهوائهم ؛ ولان الشياطين من الجن والإنس جهدوا جهدا بالغا في إضلال الناس وإثارة الشكوك والظنون في تصوراتهم فسدروا خلف الشياطين والطواغيت منقادين خائرين.
وقيل : لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغلبة على أهل مكة حيث الشرك والظلم وحيث يقيم الضالون الذين عذبوهم واضطروهم للخروج والهجرة ؛ بل الغلبة على سائر البلاد.
قوله :( ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) ذلك تأكيد من الله على أن ثواب المؤمنين المهاجرين في سبيل الله أكبر مما أوتوه في الدنيا من حسنة ؛ فإن ثوابهم في الآخرة الجنة وهي النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يبيد.
قوله :( لو كانوا يعلمون ) الضمير عائد إلى المؤمنين ؛ أي لو رأوا مبلغ ثوابهم في الآخرة وما أعده الله لهم من عظيم الجزاء ؛ لزادوا في اجتهادهم وصبرهم. وقيل : الضمير عائد إلى الكافرين ؛ أي لو علم الكافرون ما أعده الله لعباده المؤمنين يوم القيامة من النعيم لآمنوا ورغبوا في دين الله، دين الإسلام.
٢ - القاموس المحيط جـ١ ص ٩..
٢ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٣٥ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٧..
والإنسان بطبيعته مجبول على استعدادات منسجمة متسقة من طاقات النفس والروح والعقل. ويأتي في الطليعة من البشر هذه الفئة الممتازة الفضلى من الناس وهم النبيون المرسلون ؛ فإنهم صنف من الخليقة مفضال ومميز بما جبل عليه من هائل القدرات الروحية وبالغ الكفاءات النفسية والعقلية والفكرية بما لا يضاهيه في الكائنات نظير. فلا جرم أن يصلح النبيون أكمل صلوح لحمل رسالة السماء، وتبليغ الناس إياها. أما ما يظنه الجاهليون في هذا الصدد ؛ فليس إلا الوهم والتخريص والتقول بغير علم. ومن أجل ذلك رد الله مقالة العرب الجاهليين ووهمهم وتخريصهم بقوله :( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) يعني ما أرسلنا من قبلك يا محمد في أمة من الأمم لدعوة الناس إلى دين الله وطاعته والإقرار بوحدانيته والتزام شرعه ومنهاجه إلا رجالا من جنسهم من البشر نوحي إليهم على ألسنة الملائكة.
قوله :( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) إن كنتم لا تعلمون هذه الحقيقة وهي إرسال الرسل إلى الناس من جنسهم من بني آدم فاسألوا أهل الذكر. وهم العالمون بالكتب السماوية من قبلكم كالتوراة والإنجيل ؛ ففيهما ما ينبئكم أن المرسلين السابقين من قبلكم ما كانوا إلا من بني آدم.
وقيل : المراد بأهل الذكر : الذين أسلموا من أهل الكتاب، فعندهم العلم بهذه الحقيقة مما وعوه من التوراة والإنجيل.
تقول العرب : زبرت الكتاب إذا كتبته. والزبور، الكتاب الذي أنزل على داود عليه السلام١.
قوله :( وأنزلنا إليك الذكر لنبين للناس ما نزل إليهم ) المراد بالذكر هنا القرآن ؛ فقد أنيط برسول الله ( ص ) تبيان هذا الكتاب الحكيم للناس ؛ إذ يبين لهم ما أجمله الله فيه من الأحكام في العبادات والمعاملات والجنايات وغير ذلك من المسائل والقضايا مما ورد في كتاب الله على نحو من الإجمال أو الإشكال أو العموم، فتفصيل ذلك وتبيينه وتوضيحه منوط برسول الله ( ص ) ؛ فهو أعلم الناس بما حواه القرآن من أصول الأحكام والمعاني.
قوله :( لعلهم يتفكرون ) أي يتدبرون ما جاء به الكتاب الكريم من جليل الآيات والعظات والمعاني فيعتبرون ويهتدون٢.
٢ - تفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٧١ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ٣٧..
الاستفهام للإنكار. والمراد المشركون الظالمون الذين يعتدون على المسلمين بالصد والأذية والفتنة. فيقول الله لهم في توعد وتهديد : أفأمن هؤلاء الظالمون ( الذين مكروا السيئات ) ( السيئات ) صفة لمحذوف ؛ أي الذين مكروا المكرات السيئات. والمراد بمكرهم هنا سعيهم في إيذاء رسول الله ( ص ) وفتنة المسلمين وتعذيبهم ؛ لإغوائهم واجتيالهم عن دينهم. من أجل كيدهم وتمالئهم ومكرهم بالنبي والذين معه من المؤمنين ؛ فقد توعدهم الله بجملة نزاول أولها :( أن يخسف الله بهم الأرض ) وخسف المكان معناه الذهاب به في الأرض ؛ وخسف الله بهم الأرض أي غاب بهم فيها كما خسف بقارون ؛ إذ خسف الله به وبداره الأرض١.
وثانيهما :( أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ) المراد أن يأخذهم عذاب الله بغتة فيهلكهم من حيث لم يحتسبوا، كما فعل بقوم لوط وغيرهم ممن أتاهم أمر الله بالعذاب فجأة.
وقيل : التخوف معناه التنقص. تخوفت الشيء وتخيفته إذا تنقصته. والمراد به هنا : ما يقع في أطراف بلادهم من النقص في الأموال والأنفس والثمرات. ويأخذهم على تخوف أي على تنقص من أنفسهم وأموالهم وأرضهم. كقوله تعالى :( أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) أي أن الله لا يعاجلهم بالعذاب ؛ بل ينقص من أطراف بلادهم إلى القرى التي تجاورهم حتى يخلص الأمر إليهم فحينئذ يهلكهم١.
قوله :( فإن ربكم لرؤوف رحيم ) ويدل على رحمة الله ورأفته بالعباد : إمهاله إياهم ؛ إذ لا يعاجلهم بالعذاب فيبعث فيهم النبيين هداة مبلغين ليعظوهم ويحذروهم ويبينوا لهم سبيل الهداية والحق.
ويتفيأ ظلال ؛ أي يميل من جانب إلى جانب، فيكون أول النهار على حال ويتقلص، ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى.
والمراد إنكار الغفلة التي تحيط بعقول هؤلاء الظالمين الذين يمكرون بالنبي والذين معه من المؤمنين ؛ إذ لم يتدبروا آيات الله وحججه ودلائله في الكون والطبيعة. ومنها، أنه ما من جسم قائم كشجر أو جبل أو بناء أو غير ذلك إلا ( يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل ) أي يرجع من موضع إلى موضع. والمقصود باليمين أول النهار، وأما الشمائل فآخر النهار، وقد أفرد اليمين وجمع الشمائل ؛ لأن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع، عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد، وعن الثاني بلفظ الجمع ؛ كقوله تعالى :( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) وقيل غير ذلك من التأويل.
على أن ظاهرة الظل وحدها عجيبة من العجائب التي صنعها الله في هذا العالم. وتلك واحدة من ظواهر الطبيعة الكاثرة التي تستوقف النظر وتستثير الحس. وما أكثر الظواهر المثيرة في هذا الوجود والتي تستحق بالغ التدبر والتفكر والذكرى، وتقطع في الدلالة على أن الله حق، وأنه في بالغ قدرته وكمال علمه وسلطانه موجود الوجود.
قوله :( سجدا لله وهم داخرون ) ( سجدا ) حال من الظلال ؛ أي حال كون الظلال سجدا. واختلف المفسرون في تأويل قوله :( سجدا لله ) والأظهر أن الموصوف بالسجود في هذه الآية هي ظلال الأشياء ؛ فإنما يسجد ظلالها دون التي لها الظلال. وهو اختيار الإمام الطبري إذ قال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر في هذه الآية ظلال الأشياء هي التي تسجد وسجودها ميلانها ودورانها من جانب إلى جانب وناحية إلى ناحية ( وهم داخرون ) أي صاغرون، يقال : دخر يدْخر دخورا ؛ أي صغر يصغر صغارا، أو ذل وهان١. والمراد : أن هذه الأشياء منقادة لقدرة الله تعالى وتدبيره سواء في ذلك سكونها أو دورانها أو ميلانها. والجملة ( وهم داخرون ) حال كذلك من الظلال.
وقد أطلعنا القرآن على أن ظلال الأشياء والأجسام جميعا تسجد لله. وقيل في هذا الصدد : ظل كل شيء يسجد لله سواء كان ذلك الشيء ساجدا أم لا.
قوله :( والملائكة ) معطوف على ما قبله مما ذكر. وقد عطف للتعظيم كعطف جبريل على الملائكة. والمراد ملائكة السماء والأرض. والمعنى : أن الله يسجد له ما في السموات وما في الأرض من الدواب والملائكة ( وهم لا يستكبرون ) عن التذلل له والخشوع، والجاحدون المستكبرون قلوبهم منكرة لكن ظلالهم تسجد لله بميلانها ودورانها وحركتها.
ينهى الله عباده عن الإشراك به أو عبادة غيره من الخلائق. فيقول :( ولا تتخذوا إلهين اثنين ) ( اثنين ) توكيد ؛ فهو يؤكد على تفظيع الشرك، ناهيا العباد عن اتخاذ إله ثان مع الله. فما ينبغي لذي عقل يجد أمامه ومِنْ حوله من الدلائل والبراهين المستفيضة على وحدانية الله ما يملأ العالمين- ما ينبغي له أن يعبد أحدا غير الله. وإنما الإلهية محصورة في إله مقتدر واحد وهو الله جل جلاله، خالق الكائنات وبديع الأرض والسماوات.
قوله :( فإياي فارهبون ) أي خافون واتقوا عقابي بطاعتكم لي واجتنابكم زواجري.
قوله :( أفغير الله تتقون ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى : إذا كان الإخلاص والطاعة واجبين لله على الدوام، فكيف ينبغي لكم أن تخشوا أحدا غير الله ؟
٢ -- القاموس المحيط جـ١ ص ١٤٢..
( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) إذا أصابكم الضر، وهو الفاقة والحاجة والأسقام، أو هو كل ما كان من سوء الحال والفقر والشدة والمرض ؛ إذا أصابكم شيء من ذلك ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، وتتضرعون إليه بالدعاء، ١ وذلك هو الجأر أو الجؤار وهو الصوت الشديد كخوار البقر٢.
والمعنى : أن النعم كلها من الله يمتن بها على من يشاء من عباده. وإذا أصاب العبد من البلاء ما زالت به عنه نعمة من النعم ؛ فإنه يبادر إلى الجأر إلى الله داعيا متضرعا مستغيثا، حتى إذا استجاب الله دعاءه فكشف عنه البلاء، وما أصابه من الضراء والآفات، انقلب في الغالب على وجهه ناسيا فضل الله عليه، جاحدا ما خوله إياه من النعم. وهو قوله تعالى :﴿ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ﴾
٢ - مختار الصحاح ص ٩٠..
قوله :( فتمتعوا فسوف تعلمون ) : أمر وعيد وتهديد ؛ أي تمتعوا في حياتكم ما شئتم، فإنكم صائرون لا محالة إلى الموت، وسوف تعلمون عاقبة ذلك مما ينزل بكم من العذاب١.
لقد كانت بعض قبائل العرب تقول : الملائكة بنات الله. لا جرم أن هذه المقالة غاية الضلال والباطل. ولذلك قال :( سبحانه )، وهذا تعجيب من جهلهم القبيح الفاضح، وهو وصفهم الملائكة المقربين بالأنوثة، فضلا عن تنزيه الله لذاته عن نسبة الولد إليه. وهو عز وعلا المنزه عن نقائص المخلوقين وضعفهم.
قوله :( ولهم ما يشتهون )، وهم البنون ؛ فقد كان العرب تفيض نفوسهم رغبة في الذكور، وفي مقابل ذلك تفيض عيافة للإناث. لقد كانوا يعافون البنات ويكرهون ولادتهن ومقدمهن. كانوا لفرط سفههم وضلال عقولهم وشدة ظلمهم يبتئسون أشد الابتئاس، ويستشعرون في أنفسهم بالغ الجراحة إذا ما رزقوا البنات.
هكذا كان الجاهليون العرب يتصورون. وهو تصور خاطئ وظالم وأثيم، يراود أذهانا خالطها الفساد والمرض في مجتمع جاهلي ظلوم.
أما ميزان الإسلام فيما توزن به اعتبارات الناس ومقاديرهم، فإنها هي العقيدة الكريمة السمحة. العقيدة التي بنيت على الإيمان بالله وإفراده بالإلهية دون غيره من المخاليق. يضاف إلى ذلك مزية العلم ؛ فإنه في ميزان الإسلام عظيم القدر، بالغ الأهمية، ويعزز هذه الحقيقة من اعتبار الإيمان والعلم قوله تعالى :( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ).
وعلى هذين الاعتبارين، وهما الإيمان والعلم، تعرف مقادير الناس، لتتحقق لهم الكرامات والاعتبارات. فأيما إنسان أتقى وأعلم ؛ فهو في ميزان الإسلام خير وأفضل. يستوي في ذلك الذكر والأنثى. ولا يغني الإنسان كونه ذكرا إذا أبطأ به عمله، فكان غير ذي علم ولا تُقى. ماذا تغنيه ذكورته إذا جاء ربه يوم القيامة خاليا من الهداية والطاعة والعلم. لا جرم إذ ذاك أن يُقذف به ليكون في زمرة الخاسرين الأشقياء الذين يساقون إلى جهنم. لكن المرأة الكريمة الفضلى ذات العقيدة والخلق، فإنها تستوجب التكريم والاحترام في هذه الدنيا. وهي يوم القيامة في زمرة الآمنين الفائزين، وهي من أهل النجاء والجنة.
قوله :( أيمسكه على هون )، يمسكه من الإمساك، وهو الحبس. والهون، معناه الهوان أو المهانة. تهاون به، أي : استحقره١، والضمير في ( أيمسكه )، يرجع إلى البنت ؛ أي : أيمسك هذه المولودة، على رغم أنفه وإحساسه بهوان نفسه ؟ ! ( أم يدسه في التراب )، والدس معناه الإخفاء والدفن٢ ؛ فالمولود له متردد بين إمساك الأنثى المولودة على إحساس منه بالمهانة والعار في نفسه بسبب ولادتها. أو دفنها حية في التراب. وذلك هو الوأد. وهو الفعلة المشؤومة النكراء، الفعلة الشنيعة الفظيعة، التي كانت العرب تفعلها في جاهليتهم الأولى. الجاهلية السخيفة العمياء، التي تسوّل للإنسان عبادة الأحجار الصم، ووأد ابنته حية في الثرى، وذلك في غاية القسوة والفظاعة وكزازة القلب والطبع.
فإنه يروى أن العرب كانوا يحفرون حفيرة، ويجعلونها فيها حتى تموت.
وروي عن قيس بن عاصم أنه قال : يا رسول الله إني واريت ثماني بنات في الجاهلية، فقال عليه السلام : " أعتق عن كل واحدة منهم رقبة ". وروي أن رجلا قال : يا رسول الله ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت ؛ فقد كانت لي في الجاهلية ابنة، فأمرت امرأتي أن تزينها، فأخرجتها إلي، فانتهيت بها إلى واد بعيد القعر فألقيتها فيه. فقالت : يا أبت قتلتني. فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال عليه الصلاة والسلام : " ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام. وما كان في الإسلام يهدمه الاستغفار ".
على أن العرب كانوا يقتلون البنات على صور مختلفة ؛ فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنهم من يذبحها. وقد كانوا يفعلون ذلك، تارة للغيرة والحمية، وتارة خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة٣. لا جرم أن أسبابا ومعاذير كهذه، لهي غاية في الباطل والنكر، وغاية في الطغيان والجور وكزازة القلب. إن هذا الاجتراء المتفحش الأثيم على قتل البنات لكونهن إناثا، قد ندد به الإسلام غاية التنديد، وشدّد عليه التفظيع والنكير ؛ بل إن الإسلام قد أوجب للأنثى من ظواهر التكريم والكلاءة والصون، ما ليس له في شرائع الأرض نظير.
لقد فرض الإسلام للأنثى من بالغ العناية والرعاية والاهتمام ما أحاطها بظلال من التقدير والرحمة. وأيما إهانة للأنثى أو انتقاص لها أو حيف يصيبها من الرجل ؛ فهو في دين الإسلام إثم غليظ ومخالفة عن أمر الله. ولقد حرض الإسلام على تكريم الإناث في كل مناحي الحياة، لتكون على الدوام آمنة مبجلة مطمئنة. ومن جملة ذلك : ما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي ( ص ) قال : " من كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان، فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن ؛ فله الجنة ". وكذلك أخرج أبو داود عن ابن عباس أن النبي ( ص ) قال : " من كانت له أنثى، فلم يئدها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها ؛ أدخله الله الجنة ". وأخرج الشيخان أن النبي ( ص ) قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيرا ".
وعن أبي وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله ( ص ) : " من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه، كانت له سترا أو حجابا من النار ".
والنساء شق البشرية الآخر، المكمل للشق الأول وهو شق الرجال. وكلا الشقين يكمل أحدهما الآخر، ليكونا مؤتلفين منسجمين في حياتهما الدنيا. وفي هذا يقول الرسول ( ص ) : فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي : " إنما النساء شقائق الرجال ".
وخير شاهد على حقيقة المساواة في التكريم بين المؤمنين والمؤمنات قوله تعالى :( إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ).
قوله :( ألا ساء ما يحكمون )، أي : بئس ما قالوا وما فعلوا، وساء ما ظنوا وما صنعوا، من فظائع الوأد ونسبة الإناث إلى الله، وهم أنفسهم يكرهون البنات وينفرون منهم، وينسبون الذكور لأنفسهم. وكذلك اغتمامهم واكتئابهم، واسوداد وجوههم عند التبشير بالأنثى، ساء ذلك كله.
٢ - المصباح المنير ج، ١ ص ٢٠٧.
٣ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٥٦، ٥٧ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٧٠ وتفسير القرطبي جـ ١٠ ص ١١٦، ١١٧..
قوله :( ولله المثل الأعلى )، أي : الصفة العليا، والكمال المطلق ؛ فهو الواحد الخالق المقتدر، المنزه عن صفات العباد، الغني عن العالمين، ( وهو العزيز الحكيم )، ( العزيز )، القوي، القادر على تنفيذ ما يريد، فلا يعز عليه صنع شيء. و ( الحكيم )، الذي يفعل ما يشاء، بمقتضى حكمته البالغة١.
بعد أن بين الله حال المشركين الذين كفروا به، وجحدوا نبوة رسول الله ( ص )، وقتلوا البنات ظلما، وزعموا أن الملائكة بنات الله- بعد ذلك كله، يبين الله أن هؤلاء الظالمين يستحقون العذاب العاجل، لولا فضل الله بإمهالهم إلى يوم القيامة. وهو قوله :( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ) ( يؤاخذ )، من الأخذ ومعناه : التناول، والعقوبة ؛ أي : لو يعاقب الله الناس بسبب شركهم، وما جنوه من المعاصي والخطايا، ( ما ترك عليها من دابة )، أي : لأهلك من يدب على ظهر الأرض من الأحياء. وذلك يدل على فظاعة ما يفعله الظالمون، من عتو وجحود وعصيان. لكن الله بفضله ومنّه ورحمته، قد أمهل الظالمين إلى اليوم الموعود. وفي هذا الصدد، روي عن عبد الله بن مسعود قوله : " كاد الجعل١ أن يهلك في حجره بخطيئة بني آدم ".
قوله :( ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى )، أي : لا يؤاخذهم الله بما كسبوا في الدنيا من الآثام والمعاصي ؛ إذ لو آخذهم الله بذنوبهم لما بقي منهم أحد، بل إن الله يؤخر عنهم العذاب إلى اليوم الموعود ؛ ليلاقوا الجزاء البئيس والعذاب الذي لا يزول.
قوله :( فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون )، المراد بأجلهم، موتهم أو قيام الساعة. فإذا جاء هذا الموعد المحتوم ؛ فإن الظالمين لا يتأخرون عن موعدهم هذا أقل مدة من الزمن وهي ساعة، وكذلك فإنهم لا يسبقون هذا الأجل المحتوم مثل هذه المدة القصيرة.
قوله :( وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى )، ( الكذب )، مفعول به. ( أن لهم الحسنى )، بدل منه، بدل كل من كل١ ؛ أي : مع كل ظلمهم وعصيانهم، فإنهم يكذبون بقولهم :( أن لهم الحسنى )، أي : الجنة. وهذا غاية الكذب والتقول الظالم ؛ إذ يهذون بأن لهم من الله الجنة.
قوله :( لا جرم أن لهم النار )، ( لا جرم )، أي : حقا، لا بد منه، أن لهؤلاء الظالمين النار بدلا مما زعموه من الحسنى، وهي : الجنة، ( وأنهم مفرطون )، بفتح الراء ؛ أي : مضيعون في النار منسيون فيها أبدا، أو مقدمون معجل بهم إليهم. وذلك من أفرطته إلى كذا، أي : قدمته. ومنه قول رسول الله ( ص ) : " أنا فرطكم على الحوض "، أي : متقدمكم عليه. وكثيرا ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح شيء : فارط وفرط. ومفرطون بالتشديد ؛ أي : مقصرون، من فرط في كذا، أي : قصر٢.
٢ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٤٨ وانظر البحر المحيط جـ٥ ص ٤٩٠ وروح المعاني جـ٧ ص ١٧٠- ١٧٣..
ذلك قسم من الله يؤكد فيه إرسال النبيين إلى الأمم السابقة لهدايتهم وإرشادهم، لكنهم ضلوا وجحدوا وانقلبوا خاسرين. وفي ذلك الإخبار والقصص ما يسرّي عن قلب الرسول ( ص ) مما كان يناله من جهالات المشركين وسفاهاتهم ؛ إذ كذبوه وآذوه، وتقولوا عليه الأقاويل والافتراءات، مثل الذي فعلوه في النبيين السابقين من العصيان والأذى.
قوله :( فزين لهم الشيطان أعمالهم )، أغواهم الشيطان بعد أن أضلهم عن دين الله، واجتالهم عن الحق الذي جاءهم به النبيون المرسلون، فزين لهم الباطل بكل صوره، من الشرك والظلم وقبيح الأعمال.
قوله :( فهو وليهم اليوم )، أي : قرينهم في هذه الدنيا، إذ تولى ( الشيطان ) إضلالهم بتغريرهم وفتنتهم بكل وجوه الفتنة وضروبها. ولئن أغواهم شيطان الجن بإيحائه ووسوسته ؛ فإن شيطان الإنس والبشر لا جرم أن لا يقل اقتدارا على الإضلال والإغواء والتغرير والفتنة.
إن شيطان الإنس من البشر يملك من أساليب الغواية والبراعة في الفتنة ما أضل به الناس طيلة الزمان. وما فتئ الناس يترددون في الغي والضلال والتنكب عن رسالة السماء ودين الله الحق ؛ فهم بذلك سادرون في الفسق والمعاصي، جاهرون بارتكاب الخطايا والآثام، مخالفين بذلك كله عن منهج الله الحق ؛ منهج الإسلام. وكل ذلك بفعل الشياطين من الداخل والخارج ؛ أي من داخل النفس البشرية ومن خارجها ؛ فمن الداخل بفتنة الوسواس الخناس من إبليس وجنوده من الجن، الذين يزينون للمرء فعل القبائح والمعاصي والمنكرات، فضلا عن السقوط في الكفران والجحود. أما من الخارج فبما تصطنعه الشياطين البشرية من أساليب كاثرة شتى في التضليل والخداع والغواية، ما بين ترغيب وإغراء بالمال والمنصب وغيرهما من صنوف الشهوات، أو إغواء وترهيب وتخويف وتهديد بالتعذيب، أو الحرمان أو التهجير أو القتل.
قال صاحب الدر المصون في قوله :( فهو وليهم اليوم )، يجوز أن تكون هذه الجملة حكاية حال ماضية ؛ أي فهو ناصرهم. أو آتية. ويراد باليوم يوم القيامة. وهذا إذا عاد الضمير على ( أمم )، وهو الظاهر. وجوز الزمخشري أن يعود على قريش، فيكون حكاية حال في الحال، لا ماضية ولا آتية. وجوّز أن يكون عائدا على ( أمم )، ولكن على حذف مضاف تقديره : فهو ولي أمثالهم اليوم١.
قوله :( ولهم عذاب أليم )، أي : لهم عذاب النار يوم القيامة.
قوله :( وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) ( هدى ورحمة )، منصوبان على أن كل واحد منهما مفعول لأجله. والناصب قوله :( أنزلنا ) ١. والمعنى : أن القرآن أنزل هداية للناس، وإخراجا لهم من ظلمات الباطل والضلال والجور، إلى نور الحق واليقين والعدل والسداد. وهو كذلك رحمة للناس بكل ما يحتمله لفظ الرحمة من معاني فضلى في الخير والبر والمودة والإيثار، وغير ذلك من معان يرسخها الإسلام في واقع المسلمين. وخص المؤمنين بالهدى والرحمة ؛ لأنهم بتصديقهم ويقينهم والتزامهم منهج الإسلام يكونون هم المنتفعين بمزايا الهدى والرحمة ومقتضياتهما أكثر من غيرهما.
قوله :( خالصا سائغا للشاربين ) ( خالصا )، أي : مصفى عما يشوبه من لون دم أو رائحة فرث أو غير ذلك من الأوشاب. والسائغ، سهل المرور في الحلق. ساغ الشراب سوغا، أي : سهل مدخله٤. وجاء في الخبر : " ما شرب أحد لبنا فشرق، إن الله تعالى يقول :( لبنا خالصا سائغا للشاربين ) وهذه آية عظيمة من آيات الله الكثيرة الدالة على أنه سبحانه حق، وأنه موجد كل شيء. إن هذه العملية العجيبة في تخليق اللبن وتحصيله من وسط الأحشاء، حيث الدم والروث والبول والدهن والأوشاب، ليجيء غذاء سهلا طيبا مستلذا، تستنفر الحس والذهن، وتقطع في يقين جازم على عظمة الخالق الصانع.
٢ - القاموس المحيط ص ٢٢٢، ١٥٥٥..
٣ - تفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩١..
٤ - القاموس المحيط ص ١٠١٢..
وإلى عدم النسخ ذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه. ووجه قولهم : أن المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة. واستدلوا على ذلك بأن الله قد امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك. ولا يقع الامتنان إلا بالحلال، وذلك يدل على جواز شرب ما دون السكر من النبيذ. فإذا انتهى إلى السكر صار حراما. وعضدوا هذا القول من السنة بما رواه الدارقطني عن النبي ( ص ) أنه قال : " حرم الله تعالى الخمر بعينها ؛ القليل منها والكثير، والسكر من كل شراب " ويستفاد من ذلك : أنه يحل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار. وذهب إلى ذلك أيضا إبراهيم النخعي والطحاوي وسفيان الثوري.
والصواب أن هذه الآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر ؛ فهي دالة على كراهيتها وليس إباحتها، ووجه الدلالة على الكراهية بأن الخمر في هذه الآية وقع ذكرها في مقابلة الحسن، وهذا يقتضي قبحها. والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة. قال صاحب الكشاف بعد أن فسر السكر بما ذكره : وفيه وجهان : أحدهما : أن تكون منسوخة. والثاني : أن يجمع بين العتاب والمنة. وقال : إن القول بكونها منسوخة أولى الأقاويل. ثم قال : وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن. وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة. وعلى الأول ( العتاب ) يكون إشارة إلى السكر وإن كان مباحا ؛ فهو مما يحسن اجتنابه٢.
قوله :( إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )، أي : فيما تبين من حقائق لهو دلائل ظاهرة يتدبرها أولو الأبصار والاعتبار.
٢ - روح المعاني جـ٧ ص ١٨٠، ١٨١ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٩٤، ٤٩٦ وتفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٧٤..
قوله :( أن اتخذي من الجبال بيوتا )، ( أنِ )، تفسيرية. وقيل : مصدرية، أي : باتخاذ١. والمعنى : أن الله ألهم النحل بأن تتخذ من الجبال أوكارا تأوي إليها، ( ومن الشجر ومما يعرشون )، أي : مما يعرشه الناس : وهو ما يرفعونه من الكروم أو السقوف.
قوله :( فاسلكي سبل ربك ذللا )، الفاء للعطف ؛ أي : إذا أكلت فاسلكي سبل ربك، وهي : الطرق أو المسالك في العود إلى بيوتها، ( ذللا )، جمع ذلول. منصوب على الحال من السبل ؛ أي : ذللها الله وسهلها لها.
قوله :( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه )، ذلك من عجيب صنع الله، أن صنع من الشجر والزهور والثمر في أحشاء النحل عسلا، يخرج من ( بطونها )، يعني : أفواهها، وهو قول أكثر المفسرين. وقيل : يخرج العسل من أدبارها.
وكيفما يكون الإخراج، أو من حيثما كان ؛ فإن غاية العجب تكمن في ماهية صنع ذلك في جوف النحل ليصير عسلا، وهو الشراب الشهي المستطاب، وهذه الظاهرة العجيبة لا تحصل في غير النحل من الأحياء. لاجرم أن ذلك، هو : دليل ظاهر بالغ على عظيم قدرة الله.
على أن العسل مختلف الألوان بالبياض والصفرة والحمرة والسواد، وسبب ذلك : اختلاف طباع النحل، واختلاف المراعي. وقيل : الأبيض تلقيه شباب النحل، والأصفر تلقيه كهولها، والأحمر تلقيه مسنها، وذلك بحسب أسنان النحل.
وقيل : إن ذلك لمحض إرادة الصانع الحكيم جل جلاله.
قوله :( فيه شفاء للناس )، الضمير في قوله :( فيه )، يعود إلى العسل، وهو شفاء من جملة الأشفية والأدوية النافعة، و ( شفاء ) نكرة، للتعظيم ؛ أي : فيه شفاء، أي : شفاء، أو لدلالته على مطلق الشفاء ؛ أي : فيه بعض الشفاء، وليس كله. وليس المراد بالناس هنا العموم ؛ فإن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل، وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل في أمراضهم.
قوله :( إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون )، فيما تبين من ذكر النحل : من حيث ثواؤه في بيوت يصنعها على أشكال مختلفة عجيبة، ومن حيث غذاؤه من أوراق الشجر وأزهاره، وما يعقب ذلك من صنع العسل، هذا الشراب الذي يستشفي به كثير من الناس، وذلك بطريقة يعلم ماهيتها الله، والراسخون في العلم- إن ذلك كله ( لآية لقوم يتفكرون )، أي : دليل ظاهر وبرهان ساطع يتدبره أولوا الأبصار والنهى، فيستيقنون أن الله حق، وأنه على مل شيء قدير٢.
٢ - البحر المحيط جـ٥ ص ٤٩٧ وروح المعاني جـ٧ ص ١٨٦، ١٨٧..
قوله :( لكي لا يعلم بعد علم شيئا )، اللام في ( لكي لا ) : لام التعليل، وكي مصدرية، وهي ناصبة للفعل بعدها. والمصدر المؤول من كي والفعل مجرور باللام، وقيل : اللام لام كي، وكي للتأكيد. وفي هذا نظر. وثمة وجه على أن اللام لام الصيرورة والعاقبة. و ( شيئا )، منصوب المصدر ( علم )، وقيل : منصوب بالفعل ( يعلم ) ١ ؛ أي : يؤول أمره من حال العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئا. والمراد بذلك : قلة علمه وشدة نسيانه، فإذا علم شيئا لم يلبث أن ينساه سريعا.
قوله :( إن الله عليم قدير )، الله يعلم كل شيء مما يجري أو يدور في الكون من أشياء وحوادث. ومن جملة ذلك : الخلق والإماتة، سواء في الصغر أو الشباب أو الكبر، أو الرد إلى أخسّ العمر حيث الهرم والخرف والتلف والاهتراء، ثم إماتة الصغير قبل الكبير، أو العظيم قبل الحقير، أو العالم قبل الجاهل، أو المؤمن التقي قبل الفاسق الموغل في العصيان ؛ فكل ذلك بعلم الله وحكمته البالغة التي لا نعلم منها إلا ما علمنا إياه. وهو كذلك قدير على الخلق والتغيير والتحويل من حال إلى حال، ومن طور إلى طور، لا معقب لحكمه وتقديره٢.
٢ - روح المعاني جـ٧ ص ١٨٧، ١٨٨ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٩٨ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩٣..
قوله :( أفبنعمة الله يجحدون )، الهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء للعطف على مقدر، وذلك استفهام عن جحود هؤلاء المشركين نعمة ربهم، استفهام توبيخ وإنكار ؛ فقد تفضل الله عليهم بالنعم الكثيرة التي لا تحصى، لكنهم جحدوا ذلك كله، وعبدوا معه آلهة مزعومة أخرى٣.
٢ - روح المعاني جـ٧ ص ٤٤٩ وتفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٧٧ والكشاف جـ٢ ص ٤١٩..
٣ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٦٤..
قوله :( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة )، أي : جعل الله لكل واحد منكم من زوجه لا من زوج غيره ( بنين ) : جمع ابن. وذلك عن طريق التوالد.
قوله :( وحفدة )، معطوف على ( بنين )، لكونه من الأزواج. وفُسر بأنه أولاد الأولاد. وقيل : إنه من عطف الصفات لشيء واحد ؛ أي : جعل لكم بنين خدما. والحفدة : الخدم. والحفدة : جمع حافد، كخادم وخدم. وهو من قولهم : حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا ؛ أي : أسرع في الطاعة. وفي الحديث : " وإليك نسعى ونحفد "، أي : نسرع في طاعتك. وحفد، أي : خف في العمل وأسرع. والحفد، بالسكون معناه : المشي دون الخبب. وسيف محتفد، أي : سريع القطع. وأحفده، حمله على الإسراع. ورجل محفود، أي مخدوم١.
قوله :( ورزقكم من الطيبات )، ( من ) ؛ للتبعيض، أي : رزقكم بعض الطيبات في هذه الدنيا وليس كلها ؛ لأن كل الطيبات إنما يكون في الجنة. والمراد بالطيبات المستلذات. وهو عام في كل الخيرات من الثمرات والزروع والحيوان بأنواعه، وكذا الأشربة بأصنافها. كل ذلك من الطيبات التي تفضل الله بها على عباده.
قوله :( أفبالباطل يؤمنون )، الاستفهام ؛ للإنكار والتوبيخ. والباطل : هو ما يعتقدونه من جدوى الأصنام وبركتها وشفاعتها. أو الشيطان ؛ إذ يسوّل لهم التلبس بالشرك وفعل الحرام، مما لم ينزل الله به سلطانا، كتحريم البحائر والسوائب وغير ذلك من نعم الله ؛ فهم إنما يؤمنون بذلك الباطل.
قوله :( وبنعمة الله هم يكفرون )، نعمة الله هي الإسلام، بما حواه هذا الدين العظيم من عقيدة وشريعة وأحكام تتناول كل مشكلات الحياة البشرية، وفي ذلك من هداية البشر وإرشادهم ما يفضي إلى السلامة والنجاة في الدارين. لكن المشركين الضالين السادرين في الغي والباطل يجحدون ذلك وينكرونه أشد إنكار ؛ لسقم عقولهم وضلال تفكيرهم. وقيل : نعمة الله : ما منّ الله به على العباد من وجوه الخيرات والمنافع الدنيوية التي لا تحصى٢.
٢ - روح المعاني جـ٧ ص ١٩١، ١٩٢ وتفسير النسفي ـ٢ ص ٢٩٣..
قوله :( ولا يستطيعون )، الضمير عائد على الآلهة المصطنعة ؛ فإنها لا تملك الرزق ولا يمكنها أن تملكه.
قوله :( إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون )، الله يعلم فظاعة ما أنتم متلبسون به من الإشراك وتشبيهه بالخلق، ( وأنتم لا تعلمون )، لا تعلمون فظاعة فعلكم الشنيع، وهو الإشراك، وفظاعة ما أعده لكم في مقابل ذلك من شديد العقاب١.
أحدهما : عبد مملوك عاجز عن التصرف، فلا يقدر أن يفعل شيئا لعجزه وعبوديته.
وثانيهما : حر غني قادر على التصرف في ماله، فينفق منه سرا وعلانية. لا جرم أن الرجلين لا يستويان عندكم مع أنهما من جنس واحد، وهي الإنسانية. فكيف إذن تشركون وتسوّون بالله- وهو الخالق القادر-، من هو مخلوق من المخاليق كالأصنام والأوثان ؟ !.
قوله :( الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) ( الحمد )، معناه الشكر والثناء١. فالله سبحانه هو المستحق لكامل الثناء والشكر دون غيره من الخلائق والعباد مما يعبد الناس وممن يجزلون لهم الإطراء والثناء. واستحقاق الله وحده لكامل الحمد والشكر، حقيقة لا يعلمها أكثر الناس ؛ لأنهم غافلون، سادرون في الضلالة تائهون خلف الأهواء والشهوات، بعيدون عن منهج الله كل البعد.
أما الثاني : فهو مِنْطيق سليم الحواس، ذو رأي ورشد ينفع الناس، ويؤدي لهم حاجاتهم ومهماتهم، ويأمرهم بالعدل والخير. ( وهو على صراط مستقيم )، أي : هو في نفسه على سيرة صالحة ودين قويم. لا جرم أن الاثنين لا يستويان٢.
٢ روح المعاني جـ٧ ص ١٩٦، ١٩٧ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩٤..
قوله :( ما يمسكهن إلا الله )، أي : جعل الله فيهن خاصية الطيران ؛ فهن في قبضهن وبسطهن أجنحتهن : سابحات في الهواء، لا يمنعهن من السقوط إلا الله.
قال الرازي في ذلك : المعنى : أن جسد الطير جسم ثقيل، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقا من غير دعامة تحته ولا علاّقة فوقه، فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجو هو الله تعالى.
قوله :( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )، فيما تقدم من ظاهرة الطيران، وما بث الله في الطير من خصوصية عجيبة ليطير في جو السماء سابحا، لهو دليل ظاهر أبلج على أن الله حق. وذلك ( لقوم يؤمنون )، فقد خص المؤمنين بهذه الدلائل ؛ لأنهم هم المنتفعون بها. وذلك بما أوتوه من استقامة الطبع والفطرة وسلامة النفس من أمراض الشك والتردد والاغترار والاستكبار٢.
٢ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٩٢، ٩٣ وتفسير الطبري جـ١٤ ص ١٠٢..
قوله :( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا )، أي : تتخذون من الأدم المستفاد من جلود الأنعام بيوتا كالخيام والقباب والفساطيط.
قوله :( تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم )، ( ظعنكم )، من الظعن، وهو : الارتحال. ويقال للمرأة : ظعينة. ويقال : الظعينة بمعنى الهودج، سواء كان فيه امرأة أم لا. والجمع ظعائن وظعن، بضمتين١. وهذا النوع من البيوت يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، في خفة وسرعة ويسر ودون عناء وجهد كبيرين سواء في الترحل أو الحل. وهو قوله :( تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم )، أي : يخف عليكم حمل هذه البيوت في سفركم منتجعين تطلبون الكلأ والماء، ومتحولين من مكان إلى مكان. وكذلك :( ويوم إقامتكم )، أي : يوم قراركم في منازلكم. والمراد : أن هذه البيوت خفيفة عليكم في أوقات الحضر مثل خفتها في أوقات السفر.
قوله :( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين )، الضمير عائد إلى الأنعام. والأصواف للضأن. والأوبار للإبل، والأشعار للمعز ؛ فقد جعل الله لعباده من الأصواف والأوبار والأشعار ( أثاثا ومتاعا )، الأثاث : متاع البيت من الفرش والبسط والأكسية والثياب ونحو ذلك مما يُتمتع به. والمتاع : الزينة، أو ما يتمتعون به، ( إلى حين )، أي : حين البلا. وقيل : إلى حين الموت.
والظل الرخي الرطيب بفيئة الوارف المرغوب يحتاجه المسافرون والراحلون من مكان إلى آخر في ساعات الهجير حيث استعار الشمس والحرور، فيدركون عندئذ أن الظل نعمة أيما نعمة. على أن خلْق الظل في ذاته لا جرم دليل على قدرة الصانع، الذي أوجد في مركبات الطبيعة خواصها، فجعل فيها الحرارة والبرودة والظل الظليل.
قوله :( وجعل لكم من الجبال أكنانا )، الأكنان، والأكنة، جمع ومفرده كنان بالكسر. وهو وقاء كل شيء وستره. واستكن، استتر. كن الشيء، أي : ستره وصانه من الشمس. وأكنه في نفسه ؛ أي : أسرّه. والكن بالضم، بمعنى : الستر. والأكنة : الأغطية٢. والله يمن على عباده أن جعل لهم من الجبال أماكن يسكنون بها ويستترون، وذلك كالغيران والكهوف والبيوت المنحوثة. جعلها الله عدة للناس عند الحاجة، فيأوون إليها ويتحصنون بها من الرياح والمطر والحر، ويعتزلون بداخلها عن الناس. وها هو رسول رب العالمين، سيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم قد أوى إلى كهف في حراء للتحنث٣، ثم من بعده في ثور في طريقه مهاجرا إلى مكة.
قوله :( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر )، السرابيل، جمع ومفرده السربال، وهو القميص المتخذ من القطن أو الكتان أو الصوف. وقد اكتفى بذكر الحر في الآية ؛ لأن العلم بأحد الضدين وهو الحر، يستلزم العلم بالضد الآخر وهو البرد.
قوله :( وسرابيل تقيكم بأسكم )، البأس معناه الشدة. والمراد بها ههنا : شدة الطعن والضرب والرمي. والسرابيل التي تدرأ أذى المعتدين عمن يلبسها، يراد بها : الدروع من الحديد. وهذا يدل على اتخاذ العدة للجهاد للاستعانة بها على قتال الأعداء. ولا مساغ للمسلم أن يستسلم للهوان والطعن والضرب من غير أن يحتاط لنفسه تمام الحيطة، وأن يتخذ لذلك عدته من لبس لأمة٤ الحرب.
قوله :( كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون )، الكاف في اسم الإشارة، صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك الإتمام يتم الله نعمته عليكم. فمثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم ؛ فإنه يتم عليكم نعمة الدنيا والدين، ( لعلكم تسلمون ) بضم التاء، وهو قول أكثر المفسرين ؛ أي : تخلصون لله الربوبية، وتستسلمون لأمره، وتبادرون لطاعته شكرا لنعمه عليكم.
٢ - مختار الصحاح ص ٥٨٠ والقاموس المحيط جـ٤ ص ٢٦٦..
٣ - التحنث معناه التعبد. انظر المصباح المنير جـ١ ص ١٦٦..
٤ - اللأمة: أداة الحرب كلها، من رمح وبيضة، ومغفر وسيف ودرع. انظر المعجم الوسيط جـ٢ ص ٨١١..
قوله :( وأكثرهم الكافرون )، عبّر بالأكثر عن الكل ؛ فكلهم جاحدون لنعم الله، أو كافرون به. وقيل : أراد بالأكثر العقلاء، وهم المكلفون دون الأطفال والمجانين١.
وفي هذه المعاني الربانية الحافلة بالوعيد المرعب يقول سبحانه :( ويوم نبعث من كل أمة شهيدا )، يوم منصوب بفعل محذوف. وتقديره : واذكر يوم نبعث١. المراد بالشهيد النبي ؛ فإنه يوم القيامة يُجاء في كل أمة بنبيها ليشهد عليهم بالإنكار والجحود. والنبي في ذلك صدوق ومؤتمن لا يشهد إلا بالحق، فيشهد عليهم أنهم كانوا كافرون.
قوله :( ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون )، أي : لا يؤذن للكافرين يوم القيامة في الاعتذار والكلام أو الرجوع إلى الدنيا حيث التوبة والتكليف، بل إنهم جميعا ساكتون وجلون خزايا، ( ولا هم يستعتبون )، الاستعتاب : طلب العتاب، أو العتب وهو الموجدة. والاسم العتبى. استعتبه فاعتبه ؛ أي : استرضاه فأرضاه ( ولا هم يستعتبون )، أي : لا يطلب منهم العتبى. ومعناه الطاعة أو الرجوع إلى ما يرضي الله٢.
٢ - تفسر الرازي جـ٢٠ ص ٩٨ ومختار الصحاح ص ٤١٠ والدر المصون جـ٧ ص ٢٧٨.
.
قوله :( فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون )، ينطق الله حينئذ الأصنام والأوثان التي لا تنطق لتكذب عبدتها من المشركين ؛ إذ يقولون : إنكم أيها المشركون لكاذبون ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا. وذلك زيادة في هوان المشركين يوم القيامة وافتضاحهم.
قوله :( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء )، أي : نزلنا عليك القرآن بيانا لكل ما يحتاج إليه الناس من معرفة أمور دينهم ودنياهم من الحلال والحرام، أو الحق والباطل، أو الخير والشر. على أن القرآن فيه البيان لكثير من الأحكام والأخبار، وما بقي فهو مما يناط بالنبي ( ص ) بيانه في سنته، وما كان غير ذلك من أحوال الشريعة كالقياس والإجماع، وأقوال الصحابة، فمرده جميعا إلى القرآن ؛ فهو بذلك التبيان لكل شيء ( هدى ورحمة )، فهو هداية لمن اتبعه من الضلال. فمن اتبع كتاب الله لا يضل ولا يغوى ولا يشقى. وهو كذلك رحمة لمن أيقن أنه حق فالتزم شرعه وأحكامه. ( وبشرى للمسلمين )، القرآن بشرى من الله لكل من آمن به وصدقه واتبع هداه، بأنه له خير الجزاء في الآخرة.
روي عن عثمان بن مظعون أنه قال : لما نزلت هذه الآية، قرأتها على علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه )، فتعجب فقال : يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا ؛ فو الله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق.
وفي حديث : إن أبا طالب لما قيل له : إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه :( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )، قال : اتبعوا ابن أخي ؛ فو الله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق. وقيل : قرأ النبي ( ص ) على الوليد بن المغيرة :( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )، إلى آخر الآية. فقال : يا ابن أخي أعد ! فأعاد عليه فقال : والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر !.
وقال عثمان بن مظعون : ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله ( ص ) حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده، فاستقر الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال : يا ابن أخي أعد، فأعدت فقال : والله إن له لحلاوة... ١.
فهذه آية من الآيات التي يتدفق منها الإعجاز، وتفوح منها ريح الجمال والعذوبة، فضلا عن تزاحم المعاني ما بين أمر ونهي ووعظ وتعقيب. وذلك في غاية التماسك الوثيق، والترابط المحكم المتسق فيما بين الكلمة وما قبلها وما بعدها. وذلك هو الإعجاز ؛ فالله تعالى يأمر في كتابه الحكيم بالعدل. وقيل : العدل معناه : أن تشهد أن لا إله إلا الله. أما الإحسان فمعناه : الصبر على طاعة الله فيما أمر ونهى، سواء في الشدة والرخاء، أو في المكره والمنشط ؛ فتؤدى بذلك فرائضه.
وقيل : المراد بالعدل : القسط ؛ وهو التسوية في الحقوق فيما بين الناس، وإيصال كل ذي حق إلى حقه بعيدا عن الجور والاعتساف، والحكم بالظلم والباطل. أما الإحسان ؛ فهو التفضل وفعل كل مندوب إليه. وتلك هي شريعة العدل والفضل، وهما عنصران يكمل أحدهما الآخر، بما يميز شريعة الإسلام عن سائر الشرائع التي عرفتها البشرية، وذلك هو التوازن المطلق الذي يجتمع فيه العدل بتحصيل الحقوق، والفضل وهو العفو والتسامح في بر ومودة وسخاء. لاجرم أن ذلك خلق المسلمين الأفاضل الذين ترقى طبائعهم فوق حظوظ أنفسهم لتسمو إلى الدرجات من المعالي، فيكونون في عداد الأطهار الأبرار من الناس.
وتستبين صورة التوازن بين العدل والفضل في شريعة الإسلام بمثل قوله عز وعلا :( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين )، وقوله :( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) وقوله :( والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له )، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على شريعة العدل والفضل في هذا الدين الكامل.
قوله :( وإيتاء ذي القربى )، ذلك أمر من الله بإعطاء ذوي القرابة ما أوجب الله لهم من الحقوق والصلة.
قوله :( وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي )، ( الفحشاء )، يعني : الزنا، وما يشتد قبحه من الذنوب، وكل ما نهى الله عنه٢. وأما ( المنكر ) : فهو ما أنكره الشرع بالنهي عنه. فهو بذلك يعم سائر المعاصي والمناهي على اختلاف أنواعها. وأما ( البغي )، فهو في الأصل بمعنى التعدي، وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء٣، ومعناه ههنا : الكبر والظلم والعدوان على الناس. وفي الحديث : " ما من ذنب أجدر أن يُعجّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم ".
قوله :( يعظكم لعلكم تذكرون )، أي : يذكركم الله لتتعظوا بمواعظه ؛ وتنيبوا إليه مخبتين مذعنين٤.
٢ - القاموس المحيط جـ٢ ص ٢٩٣..
٣ - مختار الصحاح ص ٥٨..
٤ - تفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٨٢ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ١٦٥-١٦٨..
فكل ذلك قد أوجب الإسلام الوفاء به تماما. وأيما تقصير في ذلك أو مماحلة أو تفريط، فليس إلا الخيانة والغدر. وهذا واحد من معاني الإسلام وقيمه العليا في ترسيخ مكارم الأخلاق ؛ ليكون الناس بذلك أوفياء مؤتمنين حق الائتمان، فلا يخونون ولا يغشون ولا يخادعون مهما تكن الظروف.
فما يزيغ المسلم عن شيمة الوفاء بالعهد. فلا يخادع ولا ينقض الميثاق أو العهد الذي بينه وبين غيره من المؤمنين والكافرين. لا يزيغ – كما علمه الإسلام- عن قاعدة الإخلاص والصدق والوفاء، كما يزيغ غير المسلمين من الذين يبررون الوسائل كيفما كانت للوصول إلى غاياتهم ومقاصدهم ؛ فهم بذلك يكذبون وينافقون ويخادعون ويتلصصون لبلوغ مآربهم وأهوائهم. فما تتاح لهم فرصة حتى يقلبوا لمواثيقهم وعهودهم ظهر المجن فينقضوها نقضا. أما المسلمون : فإنهم صادقون أوفياء ثابتون على عهودهم مع الناس ؛ لأنهم توطنت أنفسهم على قيم الإسلام ومعانيه الفضلى في الوفاء والبر ونبذ المراوغة والكذب.
وقد قيل : نزلت هذه الآية في بيعة النبي ( ص ) على الإسلام. وقيل : نزلت في التزام الحِلْف الذي كان في الجاهلية، وجاء الإسلام بالوفاء به، فقد روي في الصحيح : " وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ". والمراد بالشدة : ما كان في نصرة الحق ومواساة المكروبين. ونظير ذلك حلف الفضول ؛ إذ اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جُدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي : حلف الفضائل. وفيه قال رسول الله ( ص ) : " لقد شهدت في دار عبد الله ابن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حُمْر النّعم، لو أدعى به في الإسلام لأجبت ".
على أن الحلف الذي كان في الجاهلية قد شدّه الإسلام وحضّ على الوفاء به، وخصه النبي ( ص ) فيما رواه أحمد عن جبير بن مطعم : " لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة. " وذلك يعني أنه لا يُحتاج في الإسلام إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه ؛ فقد جاء الشرع بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه، ودفع المظالم عن المظلومين. وفي الصحيح : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما. " قالوا : يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما ؟ قال : " تأخذ على يديه. " وفي رواية : " تمنعه من الظلم ؛ فإن ذلك نصره. " وفي الخبر : " إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ".
قوله :( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها )، ( تنقضوا ) : من النقض وهو ضد الإبرام٢. و ( الأيمان ) : جمع يمين : وهو القسم، فقد كانوا يتماسحون بأيمانهم فيتحالفون. وجمعه أيضا أيمن ؛ وايمُ الله وايمنُ الله ؛ أي : ايمن الله قسمي٣ ( توكيدها )، التوكيد مصدر وكد يؤكد، بالواو والتشديد٤.
والمعنى : لا تخالفوا ما تعاقدتم عليه الأيمان بعد توثيقها وتأكيدها. والمراد أيمان البيعة على الإسلام، أو مطلق الأيمان. ( وقد جعلتم الله عليكم كفيلا )، في محل نصب على الحال من فاعل ( تنقضوا )، أي : لا تبطلوا أيمانكم بعد ما جعلتم الله شاهدا ورقيبا على ما تعاقدتم عليه.
قوله :( إن الله يعلم ما تفعلون )، ذلك تحذير للمسلمين وتخويف من مغبة الغدر ونقض الأيمان بعد توثيقها ؛ فإنه عز وعلا يعلم ما يفعلونه في أيمانهم ومواثيقهم من صدق أو كذب. ومن وفاء أو خيانة. وهو مُسائلهم عن كل ذلك ومجازيهم.
٢ - القاموس المحيط ص ٨٤٦..
٣ - القاموس المحيط ص ١٦٠٢..
٤ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨٠..
وقيل : إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء خرقاء معروفة بمكة، كانت تنقض غزلها عقب إبرامه، فكلما عقدته نكثته.
والصواب : أن الآية تفيد عموم التحذير والنهي عن نكث العهود والمواثيق. وإنما هذا مثل ضربه الله لناقض العهد أو اليمين ؛ إذ شبهه بامرأة تنقض غزلها بعد إحكامه وتقويته، لغير مصلحة ولا جدوى إلا الحماقة والسفه.
قوله :( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم )، الجملة في محل نصب حال من :( أنكاثا )، ( دخلا )، مفعول ثان لقوله :( تتخذون )، وقيل : مفعول لأجله. والدخل، بالتحريك، ما داخلك من فساد في عقل أو جسم، ويعني أيضا : الغدر والمكر والخديعة٢. والمراد : أنكم تجعلون أيمانكم التي حلتم بها لمن عاقدتموهم من الناس ( دخلا بينكم )، أي : خديعة وغرورا، لكي يطمئنوا إليكم، وأنتم تخفون لهم في أنفسكم الغدر وعدم الوفاء لهم بالعهد، والانتقال إلى قوم آخرين لكونهم أكثر عددا منهم. وهو قوله :( أن تكون أمة هي أربى من أمة )، أي : بسبب أن تكون، أو مخافة أن تكون جماعة أزيد عددا من جماعة، أو ناس أكثر من ناس. وقد قيل : كانوا يخالفون الحلفاء فيجدون غيرهم أكثر منهم مالا وأعز نفرا وأزيد عددا، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء لقوتهم وكثرتهم. وذلك خلق الأرذال والخائنين والخائرين من الناس الذين لا تمسكهم عقيدة ولا يشدهم عهد أو ميثاق، لكنهم سجيتهم الغدر والخداع ونقض العهود كلما سنحت الظروف ليجنحوا إلى حلفاء أقوياء جدد. أولئك هم الأرذلون المنافقون الذين يلهثون خلف الأهواء والمفاسد من خسائس الأغراض والمنافع. لكن المسلمين شيمتهم الثبات على العقيدة والمبدأ ودوام التلبس بخلق الإسلام في رعي العهود وصون الأيمان والمواثيق، والثبات على الحق والفضيلة في كل الأحوال والأزمات دون زيغ أو انحراف أو اضطراب مهما تكن الظروف من الشدة واحتدام البأس والكروب. وقوله :( تكون )، فعل تام، و ( أمة )، فاعله. أو فعل ناقص، و ( أمة )، اسمها. وخبرها ( أربى ) ٣.
قوله :( إنما يبلوكم الله به )، الضمير في قوله :( به )، يعود على المصدر من ( أن تكون )، والتقدير : إنما يبلوكم الله بكون أمة ؛ أي : يختبركم الله بكونهم أربى منكم، لينظر أتصبرون على الثبات على الحق والوفاء بعهد الله وما وكدتم من الأيمان، أم أنكم تغترون بكثرة المشركين وقلة المسلمين وفقرهم، فتميلون إلى عدو الله وعدوكم وهم المشركون.
قوله :( وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون )، لسوف يبين الله للناس إذا جيء بهم يوم القيامة ما كانوا يختلفون فيه في الدنيا ؛ إذ كان المؤمنون يقرون بوحدانية الله ويصدقون المرسلين وخاتمهم محمد بن عبد الله عليه وعليهم صلوات الله وسلامه، وكان المشركون والظالمون يجحدون الرسالات جميعا أو بعضها ؛ فقد جحدت يهود بعض النبيين، من بينهم : محمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام. وجحدت النصارى نبوة الرسول الأعظم خاتم النبيين والمرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. لكن المسلمون صدقوا النبيين أجمعين وأيقنوا أنهم جميعا على الحق وأنهم قد أوحي إليهم. وكذلك كان اختلاف الناس في الدنيا. ويوم القيامة يلاقون الجزاء ليجد كل فريق منهم سبيله إما إلى النعيم، وإما إلى الجحيم٤.
٢ - القاموس المحيط ص ١٢٩..
٣ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨١..
٤ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ١١٠- ١١٣ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩٨ وتفسير البيضاوي ص ٣٦٥..
قوله :( وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله )، أي : يذيقكم الله العذاب الذي يعذب به العصاة في الدنيا بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، ( بما صددتم عن سبيل الله )، ما، مصدرية. وصددتم من الصدود، أي : بسبب صدودكم عن محجة الله وخروجكم عن دينه. أو من الصد، ومفعوله محذوف، أي : بسبب صدكم غيركم عن ملة الإسلام٢، فهم بنقضهم أيمان البيعة على الإسلام وارتدادهم يفتنون الناس ويغرونهم بمجانبة الإسلام والصدود عنه.
قوله :( ولكم عذاب عظيم )، وهو عذاب النار يوم القيامة. ويستفاد من مفهوم هذه الآية أن المراد بذلك الذين بايعوا رسول الله ( ص ) على الإسلام ونهوا عن مفارقة الإسلام لقلة أهله وكثرة المشركين.
٢ - نفس المصدر السابق..
قوله :( إنما عند الله هو خير لكم )، ما أعده الله لكم من حسن الجزاء وعظيم الثواب على الوفاء بما عاهدتم الله عليه لهو أنفع لكم وأدوم. فجزاء الأوفياء الصادقين الجنة، وهي نعيمها كريم ودائم لا ينقطع. ( إن كنتم تعلمون )، أي : تعلمون البون الهائل الشاسع بين العوضين. العوض الذي أعده الله للأوفياء الصادقين الذين يرعون العهود والمواثيق. فجزاؤهم بذلك الرضوان من الله والجنة. والعوض المهين، أو الثمن القليل الذي يتلقاه الغادرون المخادعون في مقابلة نقضهم لما عاهدوا الله عليه وانحيازهم إلى صفوف المشركين الظالمين.
قوله :( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )، أي : ليثيبن الله الذين صبروا على الفاقة وأذى الكافرين، وعلى طاعة ربهم والتزام شرعه وأحكامه يوم القيامة بجزاء أحسن من أعمالهم. أو بأحسن ما كانوا يعملون من الأعمال دون أسوئها٢.
٢ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ١١٣- ١١٥ والدر المصون جـ٧ ص ٢٨٤ وتفسير البيضاوي ص ٣٦٥..
قوله :( فلنحيينه حياة طيبة )، لسوف يحيي الله المؤمن المخلص حياة طيبة. وقد اختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة. فقد قيل : الرزق الطيب الحلال، وقيل : السعادة. وقيل : الجنة. وقيل : القناعة. والصواب من ذلك : أن الله جل وعلا يمتن على عبادة العاملين المخلصين بفيض الإحساس بالرضى والبهجة والاطمئنان. وهكذا يكون المؤمن العامل المخلص ؛ إذ يجد في نفسه من برْد الراحة والقناعة والطمأنينة، ما يجعله مستديم الشعور بالأمن والسكينة والحبور، سواء كان ذا يسار أو إعسار. وثمة حقيقة تضمنتها هذه الآية. وهي استواء الذكر والأنثى في تحصيل الحياة الطيبة، وحسن الجزاء من الله إذ تحقق شرط القبول للأعمال، وهو الإيمان الصحيح المستقيم. فأيما ذكر أو أنثى حسن عمله وهو مؤمن ؛ فإنه في زمرة السعداء والفائزين في الدارين، بغض النظر في ذلك عن اعتبارات الذكورة والأنوثة، أو اختلاف الأجناس والألوان.
قوله :( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )، ذلك يوم القيامة، فهم إذا صاروا إلى ربهم جزاهم الله الأجر بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعة.
وقيل : إن هذه الآية نزلت بسبب قوم من أهل ملل شتى، تفاخروا فقال أهل كل ملة منها : نحن أفضل، فبيّن الله لهم أفضل أهل الملل. وقيل : جلس ناس من أهل الأوثان وأهل التوراة وأهل الإنجيل. فقال هؤلاء : نحن أفضل. وقال هؤلاء : نحن أفضل، فأنزل الله تعالى :( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) الآية٢.
٢ - تفسير الطبري جـ ١٤ ص ١١٤- ١١٦ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩٩..
ويستفاد من هذه الآية : الأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن. وإنما الأمر للندب والاستحباب وليس للزوم. وهو قول الجمهور من أهل العلم ؛ إذ قالوا : إن من قرأ القرآن ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم قبل أن يقرأ ؛ لم يكن مفرطا في فرض أو واجب.
والسبب في أنه ليس الشيطان حجة أو تسلط على المؤمنين المتوكلين، فلا يقدر أن يفتتنهم أو يغويهم : هو الاستعاذة بالله من وسوسات الشيطان وإيحاءاته، وما يفضي إليه ذلك من إغراء وإغواء وفتنة.
والمؤمن المتوكل على الله يلجأ إلى ربه في كل الملمات والنائبات ؛ بل في كل الأحوال والأمور ؛ فيطلب منه العون والتثبيت، ويسأله السلامة والعافية وأن يدرأ عنه كيد الشيطان، ويصونه من وسوساته وإغراءاته.
قوله :( والذين هم به مشركون )، الضمير في قوله :( به ) يعود على ربهم ؛ أي : إنما حجة الشيطان على الذين يتبعونه ويطيعونه، والذين هم بالله مشركون. وقيل : الضمير يعود على الشيطان ؛ أي : والذين هم مشركون بسبب الشيطان١.
أما معنى الآية ههنا فهو : وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى، ( والله أعلم بما ينزل )، جملة اعتراضية بين الشرط وجوابه ؛ أي الله أعلم بالذي هو أصلح لعباده فيما يبدل ويغير من الأحكام.
قوله :( قالوا إنما أنت مفتر )، جواب إذا. والقائلون هم المشركون الجاحدون يقولون للنبي ( ص ) عقب نسخ حكم من الأحكام :( إنما أنت مفتر )، فقد نسبوا إلى النبي ( ص ) الافتراء بأنواع من المبالغات، وهي : الحصر والخطاب، واسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار٣ ؛ أي إنما أنت يا محمد متقوِّل تخرص باختلاق الكلام والأحكام من عندك، ( بل أكثرهم لا يعلمون )، مفعول ( يعلمون ) محذوف ؛ أي : بل أكثر هؤلاء القائلين إنك مفتر جهلة سفهاء، لا يعلمون الحكمة البالغة من نسخ الأحكام.
٢ - المحصول للرازي جـ١ ص ٥٢٦ وإرشاد الفحول للشوكاني ص ١٨٤..
٣ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨٦..
أي : قل لهؤلاء الجاحدين المكذبين يا محمد : إن هذا القرآن قد نزل به جبريل الأمين من عند الله ( بالحق )، يعني : متلبسا بالحكمة والهداية والنور.
قوله :( ليثبت الذين آمنوا )، أي : نزل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه من ربك تثبيتا للمؤمنين على الإيمان والتصديق بأن هذا القرآن كلام الله، وأنهم إذا سمعوه أيقنوا أنه حق، ( هدى وبشرى للمسلمين )، ( هدى وبشرى )، معطوفان على محل ( ليثبت )، فينصبان، أي : تثبيتا وهداية وبشارة١ ؛ فهو هداية للمؤمنين من الضلال، ( وبشرى للمسلمين ) الذين استسلموا لأمر الله وأذعنوا له خاضعين طائعين٢.
٢ - تفسير النسفي جـ٢ ص ٣٠٠ وتفسر البيضاوي ص ٣٦٦..
وذلك هو قوله تعالى :( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين )، اللسان، معناه : اللغة، وهو مبتدأ، وخبره ( أعجمي ). والأعجمي : من لم يتكلم بالعربية، وهو المنسوب إلى العجم. والأعجم : من في لسانه عجمة، عربيا كان أو غير عربي، أو هو من لا يفصح كالأعجمي والأخرس. والعجمي، من جنسه العجم وإن أفصح، وجمعه عجم. وقيل للبهيمة : عجماء : من حيث إنها لا تبين١. و ( الذي يلحدون )، أي : يميلون إليه. لحد، وألحد، بمعنى : مال وعدل، ومارى وجادل وظلم٢.
والمعنى : أن لغة الذي يميلون إليه بأنه يعلم محمدا القرآن، لسانه أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي في غاية البيان والفصاحة. وبذلك فإن زعمهم هذا لا يستقيم ولا يساوي في ميزان الحقيقة والمنطق شيئا، ولا يدل على غير اليأس والإفلاس، وبالغ الجحود والسفه.
٢ - القاموس المحيط ص ٤٠٤..
قوله :( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )، أي : من كفر فتكلم بالكفر بلسانه، وقلبه مؤمن بالإيمان لينجو من بلاء خطير حل به ؛ فلا حرج عليه في ذلك ؛ لأن الله يؤاخذ العباد بما تعمدت قلوبهم، ويعفو لهم عن الظاهر المخالف لما يكنه القلب. لاجرم أن ذلك فضل من الله عظيم، ورحمة منه بالغة وواسعة يفيض بها على المكروبين والمقهورين والمكرهين، فينجون من المساءلة والحساب.
قوله :( ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) لكن. استدراك٣ ؛ أي : من أتى الكفر مختارا راغبا وقد طاب به نفسا، غير مكره ولا مستحسر ؛ فأولئك عليهم من الله غضب، وهم صائرون يوم القيامة إلى العذاب العظيم وهي النار.
٢ - تفسير البيضاوي ص ٣٦٧..
٣ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٩٠..
ومعنى الآية : إن ربك يا محمد للذين تركوا ديارهم ومساكنهم وعشيرتهم ورحلوا عن كل ذلك إلى ديار الإسلام وولاية المسلمين في المدينة من بعد ما فتنهم المشركون في مكة قبل هجرتهم ؛ إذ عذبوهم وآذوهم وفتنوهم عن دينهم بقول اللسان لا بالقلب، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك وصبروا على جهادهم، وتبرأوا من مقالتهم ؛ إذ نطقوا كلمة الكفر مكرهين، ( إن ربك من بعدها لغفور رحيم )، لقد غفر الله لهم ما كان منهم من نطق للكفر باللسان دون القلب مكرهين وهم يضمرون في أعماقهم الإيمان، والله سبحانه رحيم بهم أيضا ؛ إذ لا يعاقبهم على ذلك ولا يؤاخذهم به.
وقيل : نزلت الآية في قوم من أصحاب رسول الله ( ص ) كانوا قد تخلفوا بمكة بعد هجرة النبي ( ص، ) فاشتد المشركون عليهم حتى فتنوهم عن دينهم فأيسوا من التوبة ؛ فأنزل الله فيهم هذه الآية، فهاجروا ولحقوا برسول الله ( ص ).
وقيل : ناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب رسول الله ( ص ) بالمدينة أن هاجروا فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم وكفروا مكرهين ؛ ففيهم نزلت هذه الآية.
٢ - تفسير النسفي جـ٢ ص ٣٠١ وتفسير البيضاوي ص ٣٦٧ وتفسير الطبري جـ١٤ ص ١٢٣- ١٢٥..
قوله :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )، أي : أذاق الله أهل مكة لباس الجوع والخوف. والإذاقة جارية عند العرب مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد. فإذا مس الناس شيء من ذلك قالوا : مس هؤلاء البؤس والضر. وأذاقهم العذاب. وأما اللباس فقد شبه به الجوع الذي يخالط أذاؤه أجسام المشركين. وهو منزلة اللباس لها ؛ فقد سلط الله على مشركي مكة الجوع عدة سنين بدعاء رسول الله محمد ( ص ).
وأما خوفهم فكان من سرايا رسول الله ( ص ) ومن صولة الإسلام وغلبته. وذلك كله بسبب ما كانوا يصنعونه من الكفر والجحود والصد عن دين الله.
فجحدوه وكذبوا ما جاءهم به من رسالة ودين، ( فأخذهم العذاب )، أهلكهم الله ؛ إذ أذاقهم لباس الجوف والخوف والقتل بدلا مما كانوا فيه من الأمن والاستقرار والبحبوحة.
قوله :( وهم ظالمون )، أي : أذاقهم الله الجوع والخوف بعد أن نزع عنهم الأمن والطمأنينة والسعة حال كونهم متلبسين بالظلم، وهو الإشراك بالله والصد عن سبيل الله١.
ذلك خطاب للمشركين يأمرهم فيه أن يأكلوا من لحوم الأنعام التي جعلها الله لهم حلالا طيبا. وأما ما كان المشركون يحرمونه من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي وغير ذلك مما حرموه على أنفسهم سفها وظلما ؛ فلا وجه له ولا معنى. وإنما كان ذلك مما سوّل لهم الشيطان وزينه في قلوبهم بغير حق. وهو في الحقيقة من رزق الله ؛ فليشكروا الله على ما أنعم به عليهم. وذلك إن كانوا يعبدون الله فيمتثلون لشرعه ويطيعونه فيما أمر.
قوله :( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم )، أي : من نزلت به ضرورة لأكل شيء من هذه المحرمات فلا بأس في ذلك ( غير باغ ولا عاد )، ( غير باغ )، أي : غير متجاوز للحد الذي تندفع به الحاجة. و ( عاد )، أن يجد بديلا عن هذه المحرمات. وقيل : الباغي والعادي يعم مدلولهما كل قاطع للسبيل أو مفارق للجماعة خارج على الإمام، أو كان خارجا من بيته في معصية. وأمثال هؤلاء لا يستحقون رخصة الأكل أو الشرب مما حرمه الله.
وقوله :( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون )، ذلك وعيد من الله لهؤلاء الظالمين الذين يحرمون ويحلون سفها بغير علم، ويفترون بذلك على الله كذبا ؛ فهؤلاء لا فلاح لهم ولا نجاة فهم خاسرون في الدنيا والآخرة. وهو قوله :﴿ متاع قليل ولهم عذاب أليم ﴾،
فليست الدنيا وما فيها من متاح وزخرف إلا الحطام الذي ما يلبث أن يفنى ويزول، ثم يصيرون بعد ذلك إلى عذاب الله الأليم، وهو عذاب النار، بما اقترفوه على الله من كذب وتخريص١.
قوله :( وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )، لم يظلمهم الله بهذا التضييق عليهم، بل كان ذلك على سبيل العقوبة لهم بسبب ظلمهم ومعاصيهم.
قوله :( اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم )، ( اجتباه )، أي : اصطفاه للرسالة الميمونة العظيمة، وهداه إلى ملة الإسلام، وهو صراط الله المستقيم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك خاسر، ولا يقتفيه إلا مهتد ناج.
٢ - فتح القدير جـ٣ ص ٢٠٣ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ١٩٨..
على أن المراد بقوله :( على الذين اختلفوا فيه )، على نبيهم موسى ؛ إذ أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت. فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم. وليس المراد أن اليهود اختلفوا فيه، فمنهم من قال بالسبت ومنهم من لم يقل به. وقيل : المراد باختلافهم في يوم السبت : أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة أخرى ؛ فشدد الله عليهم.
قوله :( وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )، سوف يحكم الله بين هؤلاء المختلفين في السبت عندما يصيرون إلى الله يوم القيامة، وحينئذ يقضي الله للفئة المؤمنة المستقيمة منهم بحسن الجزاء، ولأهل الباطل- وهم الأكثرون – بسوء المصير.
قوله :( وجادلهم بالتي هي أحسن )، أي : خاصمهم مخاصمة رحيمة ودود، وذلك بالأسلوب الذي هو أحسن من غيره من الأساليب، وذلك بالرفق واللين دون أسلوب الفظاعة التي تنفر منها الطبائع ؛ بل بما يوقظ القلوب إيقاظا، ويجلو العقول مما تلبس بها من الشبهات والظنون وفاسد الأخبار والمعلومات.
لا جرم أن الطبائع البشرية إنما ترق وتجنح في الغالب للرقيق من القول واللطيف من الكلمات والعبارات. وهي أشد ما تنفر وتألم من قسوة الأساليب التي تثير في النفوس المضاضة، وتهيج في القلوب الحزن والامتعاض ؛ فالذين يدعون إلى دين الله يناط بهم أن يدعوا الناس إلى هذا الدين بما يرغبهم فيه ترغيبا. وذلك بالكلمات الرفيقة الحانية، والطريقة الرحيمة النافذة.
على أن هذه الآية العظيمة محكمة. وهي في حق الذين يدعون إلى رسالة الإسلام بيان لهم على مرّ الزمان، يمضون في ضوئه وهم يدعون الناس على بصيرة. يدعونهم بالأسلوب الرحيم. الأسلوب السديد، النافذ إلى قلوبهم عسى أن يرققها ترقيقا، أو يفضي إلى تعرفهم على الإسلام فيرغبهم فيه. وإذا لم تؤثر هذه الوسيلة الرفيقة من حسن الموعظة والجدال ولم تجد سبيلها إلى القلوب والعقول، وأيقن المسلمون أن مخالفيهم معاندون جاحدون وأنهم متربصون ماكرون، نظروا بعد ذلك فيما هو أجدى وأنفع من الوسائل والأساليب صونا لعقيدتهم من التشويه والضياع، ولأوطانهم وكراماتهم من الإبادة.
قوله :( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )، أي : ليس عليك إلا التبليغ، فتدعو الناس إلى توحيد وعبادة الله وطاعته وحده، وذلك بالموعظة الحسنة والكلام الرفيق السديد. والناس مختلفون في استعدادتهم وفطرهم. ولكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة، فمن بنيت فطرته على الجنوح للدين والتشبث بحبل الله ؛ فقد اهتدى. ومن كانت فطرته متلبسة بالجحود والقسوة والنفور من الحق ؛ فإنه لا محالة صائر إلى الضلال، ولن تجدي معه بعد ذلك المواعظ والدروس والنذر. والله جل وعلا هو أعلم بنفوس البشر جميعا، فيعلم المهتدي منهم والضال.
روي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية : أنه لما انصرف المشركون عن قتلى أحد وانصرف رسول الله ( ص )، فرأى منظرا ساءه، ورأى حمزة قد شُق بطنه واصطلم أنفه وجدعت أذناه. فقال : " لولا أن يحزن النساء أو يكون سنة بعدي، لتركته حتى يبعثه الله تعالى من بطون السباع والطير. لأقتلنّ مكانه سبعين رجلا منهم "، ثم دعا ببردة فغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه، فجعل على رجليه شيئا من الإذخر، ثم قدمه وكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة. وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية. فصبر ولم يمثل بأحد.
وروي عن أبي هريرة قال : أشرف النبي ( ص ) على حمزة فرآه صريعا. فلم ير شيئا كان أوجع لقلبه منه. وقال : " والله لأقتلن بك سبعين منهم. فنزلت :( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهم خير للصابرين ).
قال المفسرون : إن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة، قالوا حين رأوا ذلك : لئن ظفرنا الله سبحانه وتعالى عليهم لنزيدن على صنيعهم، ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط، ولنفعلن ولنفعلن. ووقف رسول الله ( ص ) على عمه حمزة وقد جدعوا أنفه، وقطعوا مذاكيره، وبقروا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطتها٢ لتأكلها، فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها، فبلغ ذلك نبي الله ( ص ) فقال : " أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا. حمزة أكرم على الله من أن يُدخل شيئا من جسده النار. فلما نظر رسول الله ( ص ) إلى حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء كان أوجع لقلبه منه. فقال : " رحمة الله عليك إنك ما علمت ؛ كنت وصولا للرحم، فعالا للخيرات، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى، أما والله لئن أظفرني الله تعالى بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك "، فأنزل الله تعالى :( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) الآية فقال النبي ( ص ) " بل نصبر "، وأمسك عما أراد، وكفّر عن يمينه.
والذي قتل حمزة وحشي ؛ إذ كان هذا في صفوف المشركين في أحد، ولما سئل عن كيفية قتله حمزة أجاب : كنت غلاما لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير ابن مطعم : إن قتلت حمزة عم محمد عليه الصلاة والسلام بعمي طعيمة فأنت عتيق، قال : فخرجت، وكنت حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة رحمة الله عليه حتى رأيته في عرض الجيش مثل الجمل الأورق يهدّ الناس بسيفه هدّاً ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له وأستتر منه بحجر أو شجر ليدنو مني ؛ إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة رحمة الله عليه قال : ها يا ابن مقطّعة البُظُور. قال : ثم ضربه والله ما أخطأ رأسه. وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنّته حتى خرجت من بين رجليه فذهب لينافحني فغلب فتركته حتى مات رضي الله عنه. ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى الناس فقعدت في العسكر ولم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق. فلما قدمت مكة عتقت، فأقمت بها حتى نشأ فيها الإسلام ثم خرجت إلى الطائف فأرسلوا إلى رسول الله ( ص ) رجالا، وقيل لي : إن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يهيج الرسل. فقال : فخرجت معهم حتى قدمت على النبي ( ص ) فلما رآني قال : " أنت وحشي ؟ " قلت : نعم. قال : " أنت قتلت حمزة ؟ " قلت : قد كان من الأمر ما قد بلغك. قال : " فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني ؟ ". قال : فلما قبض رسول الله ( ص ) وخرج الناس إلى مسيلمة الكذاب قلت : لأخرجن إلى مسيلمة الكذاب لعلي أقتله فأكافئ به حمزة. فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان٣.
والآية محكمة في قول أكثر العلماء ؛ فهي بذلك غير منسوخة، وفيها يبين الله للمسلمين أنه إذا وقع عليهم أذى أو ضرر من الكافرين فلهم أن يقتصوا لأنفسهم فيعاقبوا من عاقبهم من الكافرين بمثل العقوبة التي أصابتهم منهم. وللمسلم كذلك أن يقتص ممن أصابه بجرح أو قتل ؛ ففي الجرح يقتص المجروح من الجارح، وفي القتل يقتص أولياء القتيل عن القاتل إلا أن يعفو المجروح أو الأولياء.
على أن المثلة في شريعة الإسلام حرام ؛ فقد روى الطبراني في الكبير عن ابن المغيرة أن النبي ( ص ) " نهى عن المثلة "، فالمشروع العقوبة بالمثل. وهو قوله :( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به )، أي : إن أردتم معاقبة من اعتدى عليكم فعاقبوه بمثل ما فعل بكم ولا تجاوزوا ذلك. قال الطبري في ذلك : من ظلم بظلامة فلا يحل له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه. وقال القرطبي في ذلك أيضا : في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص. فمن قتل بحديدة قُتل بها. ومن قتل بحجر قُتل به. ولا يتعدى قدر الواجب.
٢ - استرطتها: بلعتها: سرط الشيء أي بلعه. انظر مختار الصحاح ص ٩٥..
٣ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٩١-١٩٤..
قوله :( ولا تك في ضيق مما يمكرون )، الضيق، بالفتح المصدر، وبالكسر، الاسم ؛ أي : لا يضيقنّ صدرك من مكرهم، وهو خداعهم وتضليلهم وصدهم الناس عن دين الله واختلاقهم الأكاذيب على الإسلام ورسوله ( ص ) والمسلمين.