مكية. وهي مائة وتسع آيات. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] مع قوله :﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ﴾، فقد تعجبوا منه مع كونهم يعرفون أمانته وصدقه.
ﰡ
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المجتبى المختار ﴿ تلك ﴾ الآيات التي تنزل عليك هي ﴿ آياتُ الكتاب الحكيم ﴾، الذي اشتمل على الحكم الباهرة والعبر الظاهرة، أو المحكم الذي لم ينسخ منه شيء بكتاب آخر بعده، أو كلام حكيم.
قال في لطائف المنن : فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، وسمعت الشيخ أبا العباس رضي الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله، فإنَّ الله تعالى معروف بكماله وجماله، ومتى تعرف مخلوقاً مثلك يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب ؟، وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيته. هـ.
قال في المغني : المصدر الذي ليس في تقدير حرف الموصول وصلته لا يمنع التقديم عليه، على أن السعد قال في المطوّل : إن معمول المصدر إذا كان ظرفاً أو شبهة، الأظهر أنه جائز التقديم، قال تعالى :﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ﴾ [ الصافات : ١٠٢ ]، ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ﴾ [ النور : ٢ ] مثل هذا كثير في الكلام، وليس كل ما أول بشيء حكمُه حكم ما أول به، مع أن الظرف مما يكفيه رائحة الفعل ؛ لأن له شأناً ليس لغيره ؛ لتنزله من الشيء منزلة نفسه ؛ لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه، ولهذا اتسع في الظروف ما لم يتسع في غيرها. ه.
﴿ أَكَانَ للناس ﴾ أي : كفار قريش وغيرهم ﴿ عَجَباً أن أوحينا إلى رجل منهم ﴾ ولم يكن من عظمائهم ؟ والاستفهام للإنكار، والرد على من استبعد النبوة، أو تعجب من أن يبعث الله رجلاً من وسط الناس.
قيل : كانوا يقولون : العجب أن الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب. وهذا من فرط حماقتهم، وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة.
هذا. . وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقْصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه، إلا في المال، وخفةُ الحال أعون شيء في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك أي خفافاً من المال وقيل : تعجبوا من أنه بشراً رسولاً، كما سبق في سورة الأنعام. قاله البيضاوي.
ثم فسَّر الوحي المذكور فقال :﴿ أن أنذر الناس ﴾ أي : أوحينا إليه بأن أنذر الناس أي : خوفهم من غضب ربهم، ﴿ وبشّر الذين آمنوا ﴾، عمم الإنذار، ليس من أحد إلا وفيه ما ينبغي أن ينذر منه، وخصص البشارة إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به، قاله البيضاوي.
أي : بشر المؤمنون بأنَّ ﴿ لهم قَدَمَ صدْقٍ عند ربهم ﴾ أي : سابقة ومنزلة رفيعة، سميت قدَماً لأن السبق يكون بها، كما سميت النعمة يداً لأنها تُعْطى باليد، وأضيفت إلى الصدق لتحققها وللتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية. قال ابن جزي : أي : عمل صالح قدموه، وقال ابن عباس : السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ. ه. وقال ابن عطية : والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول : صدقٍ ورجل سوْءٍ. ه.
﴿ قال الكافرون إنَّ هذا ﴾ الكتاب، أو ما جاء به الرسول، ﴿ لسحر مبين ﴾ أي : بيَّن ظاهر، وقرأ ابن كثير والكوفيون :﴿ لساحر ﴾، على أن الإشارة إلى الرسول، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول أموراً خارقة للعادة، معجزة لهم عن المعارضة، وكلامهم هذا يحتمل أن يكون تفسيراً لما ذكره قبلُ من تعجبهم، أو يكون مستأنفاً.
قال في لطائف المنن : فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، وسمعت الشيخ أبا العباس رضي الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله، فإنَّ الله تعالى معروف بكماله وجماله، ومتى تعرف مخلوقاً مثلك يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب ؟، وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيته. هـ.
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ * ﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إن ربكم ﴾ الذي يستحق العبادة وحده هو ﴿ اللهُ ﴾ الذي أظهر الكائنات من العدم إلى الوجود، وبه رد على من أنكر النبوة، كأنه يقول : إنما أدعوكم إلى عبادة الله الذي خلق الأشياء، فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين ؟ ثم فصَّل ذلك فقال :﴿ الذي خلق السماوات والأرض ﴾ التي هي أصول الكائنات، ﴿ في ﴾ مقدار ﴿ ستةِ أيام ﴾ من أيام الدنيا، ولم يكن حينئذٍ ليل ولا نهار، والجمهور : أن ابتداء الخلق يوم الأحد، وفي حديث مسلم : يوم السبت، وأنه خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك. ﴿ ثم استوى على العرش ﴾ استواء يليق به، كاستواء الملك على سريره ليُدير أمر مملكته، ولذلك رتب عليه :﴿ يُدَبِّر الأمرَ ﴾، وقد تقدم الكلام عليه في الأعراف١.
قال البيضاوي : يُدبر أمر الكائنات على ما تقتضيه حكمته، وسبقت به كلمته، بتحريك أفلاكها، وتهيئ أسبابها، والتدبير : النظر في عواقب الأمور لتجيء محمودة العاقبة. ه.
﴿ ما من شفيع ﴾ تُقبل شفاعته ﴿ إلا من بعد إِذْنِه ﴾ له في الشفاعة، وهو تقرير لعظمته وعزة جلاله، ورد على من يزعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له، كالأنبياء والعلماء الأتقياء. ﴿ ذلكم الله ﴾ أي : الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية هو ﴿ الله ربكم ﴾ لا غير ؛ إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك، ﴿ فاعبدوه ﴾ : أفردوه بالعبادة ﴿ أفلا تذكرون ﴾ أي : تتفكرون أدنى تفكر، فتعرفون أنه المستحق للربوبية والعبادة، لا ما تعبدون من الأصنام.
أَيا قَادماً من سَفرةِ الهَجرِ مَرْحَباً | أَنَا ذاك لا أَنساكَ مَا هَبَّت الصَّبا. هـ. |
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ [ السجدة : ١٢ ] فبيَّن أنهم عند ربهم منكسون منحوسون، قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل، وذلك حكم الله تعالى فيمن حَرمَهُ توفيقه، ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول في منازل الجُهال. هـ.
قلت : ظاهر كلامه : أن الروح لا ترجع إلى وطنها وتتصل بحضرة ربها إلا بعد خراب هذا البدن، والحق إنها ترجع لأصلها، وتتصل بحضرة ربها مع قيام هذا البدن ؛ إذا كمل تطهيرها وتمت تصفيتها من بقايا الحس، وانقطع عنها علائق هذا العالم الجسماني، فتتصل حينئذٍ بالعالم الروحاني، مع قيام العالم الجسماني، كما هو مقرر عند أهل التحقيق، والله تعالى أعلم.
والآية كالدليل لقوله :﴿ إليه مرجعكم جميعاً ﴾، فإنَّه لمَّا كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله المكلفين على أعمالهم، كان مرجع الجميع إليه لا محالة، ويؤيده قراءة من قرأ :" أنه يبدأ " بالفتح، أي : لأنه، ويجوز أن يكون منصوباً بما نصب " وعد الله ". قاله البيضاوي.
أَيا قَادماً من سَفرةِ الهَجرِ مَرْحَباً | أَنَا ذاك لا أَنساكَ مَا هَبَّت الصَّبا. هـ. |
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ [ السجدة : ١٢ ] فبيَّن أنهم عند ربهم منكسون منحوسون، قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل، وذلك حكم الله تعالى فيمن حَرمَهُ توفيقه، ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول في منازل الجُهال. هـ.
قلت : ظاهر كلامه : أن الروح لا ترجع إلى وطنها وتتصل بحضرة ربها إلا بعد خراب هذا البدن، والحق إنها ترجع لأصلها، وتتصل بحضرة ربها مع قيام هذا البدن ؛ إذا كمل تطهيرها وتمت تصفيتها من بقايا الحس، وانقطع عنها علائق هذا العالم الجسماني، فتتصل حينئذٍ بالعالم الروحاني، مع قيام العالم الجسماني، كما هو مقرر عند أهل التحقيق، والله تعالى أعلم.
﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾ * ﴿ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾
قلت :" ضياء " : مفعول ثان، أي : ذات ضياء، وهو مصدر كقيام، أو جمع ضوء كسياط، والياء منقلبة عن الواو، وفي رواية عن ابن كثير بهمزتين في كل القرآن على القلب، بتقديم اللام على العين، والضمير في " قدره " للشمس والقمر، كقوله :
﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ [ التوبة : ٢٦ ]، أو للقمر فقط.
يقول الحق جل جلاله :﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء ﴾ أي : ذات ضوء وإشراق أصلي، ﴿ والقمرَ نوراً ﴾ أي : ذا نور عارض، مقتبس من نور الشمس عند مقابلته إياها، ولذلك يزيد نوره وينقص، فقد نبه سبحانه بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نوراً بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها، فالنور أعم من الضياء، والضياء أعظم من النور. ﴿ وقدَّره منازلَ ﴾ أي : قدر سير كل واحد منهما منازل، أو القمر فقط، وخصصه بالذكر لسرعة سيره، ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به. ولذلك علله بقوله :﴿ لتعلموا عددَ السنينَ والحسابَ ﴾ أي : حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي في معاملتكم وتصرفاتكم :
﴿ ما خلق اللَّهُ ذلك ﴾ الذي تقدم من أنواع المخلوقات ﴿ إلا بالحق ﴾ أي : ملتبساً بالحق، مراعياً فيه مقتضى الحكمة البالغة، لا عبثاً عارياً عن الحكمة، أو ما خلق ذلك إلا ليُعرف فيها، فما نُصب الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : الحق الذي خلق الله به كل شيء كلمة " كن ". قال سبحانه :﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ ﴾ [ الأنعام : ٧٣ ]. ه. وهو بعيد هنا.
﴿ نُفَصِّلُ الآياتِ لقوم يعلمون ﴾ فإنهم المنتفعون بالنظر فيها والاعتبار بها.
إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها، واطمأنوا بها لم يرحلوا عنها، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها، والذين هم عن آياتنا غافلون ؛ لانهماكهم في الهوى والحظوظ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات. وبالله التوفيق.
إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها، واطمأنوا بها لم يرحلوا عنها، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها، والذين هم عن آياتنا غافلون ؛ لانهماكهم في الهوى والحظوظ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات. وبالله التوفيق.
قال البيضاوي : والعطف إما لتغاير الوصفين، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأساً، والانهماك في الشهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلاً، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالأولين : من أنكر البعث ولم يُرد إلاّ الحياة الدنيا، وبالآخرين من ألهاه حبُ العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له.
إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها، واطمأنوا بها لم يرحلوا عنها، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها، والذين هم عن آياتنا غافلون ؛ لانهماكهم في الهوى والحظوظ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات. وبالله التوفيق.
إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها، واطمأنوا بها لم يرحلوا عنها، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها، والذين هم عن آياتنا غافلون ؛ لانهماكهم في الهوى والحظوظ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات. وبالله التوفيق.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ * ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
قلت :( تجري ) : جملة استئنافية، أو خبر ثان لإنَّ، أو حال من الضمير المنصوب في ﴿ يهديهم ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يَهْدِيهمْ ربُّهم ﴾ أي : يسددهم ﴿ بإيمانهم ﴾ ؛ بسبب إيمانهم إلى الاستقامة والنظر، أوْ إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أوْ إلى إدراك الحقائق العرفانية، كما قال عليه الصلاة والسلام- :" مَنْ عَمِلَ بما علِم أَوْرَثه اللهُ علْمَ ما لَمْ يَعْلَمْ "، أو لِمَا يشتهونه في الجنة، ﴿ تجري من تحتهم الأنهارُ ﴾ الأربعة، ﴿ في جنات النعيم ﴾.
﴿ دَعْواهم فيها ﴾ أي : دعاؤهم فيها :﴿ سبحانك اللهم ﴾ أي : اللهم إنا نسبحك تسْبيحاً. ورُوي : أن هذه الكلمة هي ثمر أهل الجنة، فإذا اشتهى أحدهم شيئاً قال : سبحانك اللهم، فينزل بين يديه. رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة.
﴿ وتحيتُهم فيها سلام ﴾ أي : ما يحيي به بعضهم بعضاً، أو تحيّة الملائكة إياهم، أو تسليم الله تعالى عليهم فيها سلام، ﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ أي : وخاتمة دعائهم في كل موطن حمده تعالى وشكره. والمعنى : أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمته وكبرياءه مجَّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، وقدَّسُوه عند مشاهدته عن كل تماثيل وخيال، فحيَّاهم بسلام من عنده، وعندما منحهم سلامه وأحلَّ عليهم رضوانه، وأدام لهم كرامته وجواره، وأراهم وجهه، حمدوه بما حمد به نفسه، فكانت بدايتهم بالتنزيه والتعظيم، وخاتمة دعائهم في كل موطن حمده وشكره على ما مكنهم فيه، من رؤية وجهه الكريم، ودوام النعيم المقيم، وسمي دعاء لأنه يستدعي المزيد من فضله. قاله المحشي.
﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
قلت :( استعجالهم ) : نصب على المصدر، أي : استعجالاً مثل استعجالهم بالخير. قال البيضاوي : وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم في الخير، حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم. ه. ( فَنَذَرَ ) : عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية، كأنه قيل : ولكن لا نعجل ولا نقضي بل نمهلهم فنذر. . الخ.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولو يعجلُ الله الناس الشرَّ ﴾ حيث يطلبونه، كقولهم :﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] ﴿ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ] ﴿ استعجالهم بالخير ﴾ ؛ كما يعجل الله لهم الخير حين يسألونه ﴿ لقُضِيَ إليهم أجلُهُم ﴾ أي : لأميتوا وأهلكوا من ساعتهم، وقرأ ابن عباس ويعقوب :" لَقَضى " بالبناء للفاعل، أي : لقضى الله إليهم أجلهم، ولكن من حلمه الله تعالى وكرمه يُمهلهم إلى تمام أجلهم، ﴿ فَنذَرُ الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ استدراجاً وإمهالاً ﴿ في طغيانهم يعمهون ﴾ : يتحيرون. والعمه : الخبط في الضلال، وهذا التفسير أليق بمناسبة الكلام، وقيل : نزلت في دعاء الإنسان على نفسه وماله بالشر، أي : لو عجل اللهُ للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعاً، فهو كقوله :﴿ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ ﴾ [ الإسراء : ١١ ] ويكون قوله :﴿ فنذر. . . ﴾ الخ استئنافاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من حلمه تعالى وسعة جوده أنه لا يعامل عبده بما يستحقه من العقاب، ولا يعاجله بما يطلبه إن لم يكن فيه سداد وصواب، حُكي أن رجلاً قال لبعض الأنبياء عليهم السلام : قل لربي : كم أعصيه وأخالفه ولم يعاقبني، فأوحى الله إلى ذلك النبي : ليعلم أني أنا وأنت أنت. ه. بل من عظيم كرمه تعالى أنه قد يعامل السائرين بعكس ما يستحقونه في جانب المخالفة ؛ فقد تهوى بهم أنفسهم إلى مقام الخفض فيرتفعون، وإلى مقام البُعد فيقتربون، وهذا في قوم سبقت لهم العناية، فلم تضرهم الجناية، وحفت بهم الرعاية، فلم تستهوهم الغواية، إذا صدرت منهم المخالفة ندموا وانكسروا. والغالب فيمن كانت تحت جناح الأولياء الكبار أن يسلك به هذا المسلك العظيم وما ذلك على الله بعزيز.
﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
قلت :( لجنبه ) : متعلق بحال محذوفة، أي : مضطجعاً لجنبه، و( كأن ) مخففة.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإذا مسَّ الإنسان الضُّرُّ ﴾ في بدنه أو ماله أو أحبابه، ﴿ دعانا ﴾ لإزالته مخلصاً فيه، وتضرع إلينا حال كونه مضطجعاً ﴿ لجَنْبِه أو قاعداً أو قائماً ﴾، وفائدة الترديد تقسم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار، ﴿ فلما كشفنا عنه ضُرَّه مرَّ ﴾ أي : مضى على طريقه واستمر على كفره، ولم يشكر الله على دفعه، أو مرَّ عن موقف الدعاء، ولم يرجع إليه. ﴿ كأن لم يَدْعُنَا ﴾ أي : كأنه لم يدعنا ﴿ إلى ﴾ كشف ﴿ ضُرّ مسَّهُ ﴾ قط :﴿ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ ﴾ [ الزمر : ٨ ] ﴿ كذلك زُيّنَ للمسرفين ﴾ أي : مثل هذا التزيين زين للمسرفين ﴿ ما كانوا يعلمون ﴾ من الانهماك في الشهوات، والإعراض عن شكر المنعم عند المسرات وذهاب العاهات.
وفي الآية تهديد لمن تشبه بهذه الحالة، بل الواجب على العبد دوام التجائه إلى ربه، والشكر له عند ظهور إجابته وإسدال عافيته.
الإشارة : من حسن الأدب ؛ السكون تحت مجاري الأقدار، والتسليم لأحكام الواحد القهار، " فليس الشأن تُرزق الطلب، إنما الشأن أن تُرزق حسن الأدب "، وحسن الأدب : هو الفهم عن الله ؛ فإذا شرح صدرك للدعاء، فادع ولا تكثر، فإن المدعو قريب، ليس بغافل فيُنبه، ولا ببعيد فتنادي عليه، فإذا دعوته وأجابك فاشكره، وإن أخَّر عنك الإجابة فاصبر ؛ فقد ضمن الإجابة فيما يريد، لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولقد أهلكنا القرونَ من قبلكم ﴾ يا أهل مكة، ﴿ لمَّا ظلمُوا ﴾ بالكفر وتكذيب الرسل، ﴿ وجاءتهم رسلُهم بالبينات ﴾ : بالمعجزات الواضحات، الدالة على صدقهم، ﴿ وما كانوا ليؤمنوا ﴾ أي : ما استقام لهم أن يُؤمنوا، لما سبق لهم من الشقاء ولفساد استعدادهم، أو ما كانوا ليؤمنوا بعد أن هلكوا لفوات محله، ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم عليه، بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم ﴿ نجزي القوم المجرمين ﴾ أي : نجزي كل مجرم، أو نجزيهم، ووضع المظهر موضع المضمر ؛ للدلالة على كمال جرمهم، وأنهم أعلام فيه. قال البيضاوي.
سورة يونس
مكية. وهي مائة وتسع آيات. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] مع قوله :﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ﴾، فقد تعجبوا منه مع كونهم يعرفون أمانته وصدقه.
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول :" إنما جعلنا خلفاً لينظر كيف عملنا، فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية " وكان أيضاً يقول :" قد استخلفتَ يا ابن الخطاب، فانظر كيف تعمل ".
ويقال لأهل كل عصر : ولقد أهلكنا القرون من قبلكم بالبُعد وغم الحجاب، لما ظلموا بالوقوف مع الحظوظ والشهوات، وجاءتهم رسلهم التي توصلهم إلى ربهم ـ وهم أولياء زمانهم ـ الآيات الواضحة على صدقهم، ولو لم يكن إلا هداية الخلق على يديهم ـ فأنكروهم، وما كانوا ليؤمنوا بهم لِمَا سبق لهم من البُعد، ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم، لننظر كيف تعملون مع شيوخ التربية في زمانكم، هل تنكرونهم أو تقرونهم، والله تعالى أعلم.
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِيا أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيا إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ * ﴿ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإذا تُتلى عليهم ﴾ يعني كفار قريش ﴿ آياتُنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ من المشركين ﴿ ائْتِ بقرآن غيرِ هذا ﴾ أي : بكتاب آخر ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب، والعقاب بعد الموت، أو ما ذكره من سب آلهتنا، وعيب ديننا، أو اجعل هذا الكلام الذي من قِبَلك على اختيارنا، فأحل ما حرمته، وحرم ما أحللته ؛ ليكون أمرنا واحداً وكلمتنا متصلة، ﴿ أو بدِّلْه ﴾ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى.
﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ ما يكون ﴾ : ما يصح ﴿ لي أن أبدِّله من تلقاء نفسي ﴾ : من قِبل نفسي، وإنما اكتفى بالجواب المذكور عن التبديل ؛ لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر، قل لهم :﴿ إنْ ﴾ أي : ما ﴿ أتبعُ إلا ما يوحى إليَّ ﴾، لا أقدر أن أقول شيئاً من عندي. قال البيضاوي : هو تعليل لما يكون، فإن المتبع لغيره في أمر لم يستبد بالتصرف فيه بوجه، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات لبعض، ورد لما عَرّضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعُه، ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصياناً فقال :﴿ إني أخاف إن عصيتُ ربي عذاب يوم عظيم ﴾ يوم القيامة، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح. ه.
والمعنى أنه الحق لا شك فيه، لو لم أُرْسَل به أنا لأرسل به غيري. وحاصل المعنى : أن الأمر بمشيئة الله لا بمشيئتي، حتى أجعله على نحو ما تشتهون. ثم قرر ذلك بقوله :﴿ فقدْ لبثتُ فيكم عُمُراً ﴾ منذ أربعين سنة ﴿ مِن قبله ﴾ أي : من قبل نزول هذا القرآن، لا أتلوه ولا أعلم منه شيئاً، وفيه إشارة إلى القرآن معجز خارق للعادة، فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يدرس فيها علماً، ولا يشاهد عالِماً، ولم ينشد قريضاً أي : شعراً ولا خطبة، ثم قرأ عليهم كتاباً أعجزت فصاحتُه كل منطيق، وفاق كل منظوم ومنثور، واحتوى على قواعد عِلْمي الأصول والفروع، وأعرب عن أَقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه، عُلم أنه معلم به من عند الله. قاله البيضاوي.
فكل من له عقل سليم أدرك حقِّيته، ولذلك قرعهم بقوله :﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي : أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر، فتعلموا أنه ليس من طوْق البشر، بل هو من عند الحكيم العليم الواحد القهار.
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ * ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فمن أظلم ﴾ لا أحد أظلم ﴿ ممن افترى على الله كذباً ﴾ بأن تقوَّل على الله ما لم يقل، وهذا بيان لبراءته، مما اتهموه به من اختراعه القرآن، وإشارة إلى كذبهم على الله في نسبة الشركاء له والولد، ﴿ أو كذَّب بآياته ﴾ فكفر بها، فلا أظلم منه ﴿ إنه ﴾ أي : الأمر والشأن ﴿ لا يُفلح المجرمون ﴾ أي : لا يظفرون ببغيتهم، ولا تنجح مساعيهم ؛ لإشراكهم بالله كما قال تعالى :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعُهم ﴾.
قال ابن جزي : هو رد عليهم في قولهم بشفاعة الأصنام، والمعنى : أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هو عالم بما في السماوات والأرض، وكل ما ليس بمعلوم له فهو عدم محض، ليس بشيء، فقوله :﴿ أتنبئون الله ﴾ تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم، أي : كيف تعلمون الله بما لا يعلم. ه. قال ابن عطية : وفي التوقيف على هذا أعظم غلبةٍ لهم، إذ لا يمكنهم إلا أن يقولوا : لا نفعل، ولا نقدر أن نخبر الله بما لا يعلم.
ثم نزه نفسه عن ذلك فقال :﴿ سبحانه وتعالى ﴾ أي : تنزيهاً له وتعاظم ﴿ عما يشركون ﴾ أي : إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم معه. وقرأ الأخوان : بالتاء، أي : عما تشركون أيها الكفار.
﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما كان الناس إلا أمةً واحدةً ﴾ موحَّدين، على الفطرة الأصلية، أو متفقين على الحق، وذلك في عهد آدم، إلى أن قتل قابيل أخاه هابيل، أو بعد الطوفان إلى زمان اختلافهم، أو الأرواح حيث استخرجهم واستشهدهم، فاتفقوا على الإقرار، ثم اختلفوا، في عالم الأشباح باتباع الهوى والأباطيل، أو ببعثة الرسل فتبعتهم طائفة وكفرت أخرى. ﴿ ولولا كلمة سبقتْ من ربك ﴾ في اللوح المحفوظ، بتأخير الحكم، أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة، فإنه يوم الفصل والجزاء، ﴿ لقُضي بينهم ﴾ عاجلاً ﴿ فيما فيه يختلفون ﴾ بإهلاك المُبْطِل وإبقاء المحق.
الإشارة : اختلاف الناس على الأولياء كاختلافهم على الأنبياء، أمر سبق به الحكم الأزلي لا محيد عنه، فمن طلب اتفاقهم عليه فهو جاهل بالله وبطريق أهل الله. والله تعالى أعلم.
﴿ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴾
﴿ يقول الحق جل جلاله :﴾ ﴿ ويقولون ﴾ ؛ يقول الكفار :﴿ لولا ﴾ ؛ هلا ﴿ أُنزلَ عليه آيةٌ ﴾ ظاهرة ﴿ من ربه ﴾ تدل على صدقه، يعاينُها الناس كلها، فتلجئهم إلى الإيمان به، وهذا الأمر على هذا الوجه لم يكن لنبي قط، إنما كانت الآية تظهر معرّضة للنظر، فيهتدي بها قوم، ويكفر بها آخرون، ﴿ فقلْ ﴾ لهم :﴿ إنما ﴾ علم ﴿ الغيب لله ﴾ مختص به، فلم أَطََّلع عليه حتى أعلم وقت نزولها، ولعله علم ما في نزولها من الضرر لكم فصرفها عنكم، ﴿ فانتظروا ﴾ نزول ما اقترحتموه، ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾ لذلك، وهذا وعد قد صدقه الله بنصرته عليه الصلاة والسلام وأخذهم ببدر وغيره، أو من المنتظرين لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.
الإشارة : ما زالت العامة تطلب من مشايخ التربية الكرامات، فجوابهم ما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل إنما الغيب لله ﴾ فانتظروا ما يظهر على أيديهم من الهداية والإرشاد، وإحياء البلاد والعباد بذكر الله، وهذا أعظم الكرامة، فإن إخراج الناس عن عوائدهم وعن دنياهم خارق للعادة، سيما في هذا الزمان الذي احتوت فيه الدنيا على القلوب، فلا ترى عالماً ولا صالحاً ولا منتسباً إلا وهو مغروق في بحر ظلماتها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
﴿ وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيا آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴾ * ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ * ﴿ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإذا أذقنا الناسَ رحمةً ﴾، كصحة وعافية وخصب، ﴿ من بعد ضراءَ مَستْهم ﴾، كمرض أو قحط ﴿ إذا لهم مكرٌ في آياتنا ﴾ بالطعن فيها، والاحتيال في دفعها، فقد قحط أهل مكة حتى أكلوا الجلود والميتة، ثم رحمهم بالغيث، فطعنوا في آياته بالتكذيب، وكادوا رسوله عليه الصلاة والسلام - ﴿ قل اللهُ أسرعُ مكراً ﴾ منكم، فقد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج يمهلهم ؛ لأنه متيقن واقع لا محالة، وكل آت قريب.
﴿ إنَّ رسلنا ﴾ الحفظة ﴿ يكتبون ما تمكرون ﴾ فنجازيكم عليه. قال البيضاوي : هو تحقيق للانتقام، وتنبيه على أن ما يدبرون في إخفائه لم يَخفْ على الحفظة فضلاً أن يخفى على الله. وعن يعقوب :" يمكرون " بالياء ليوافق ما قبله. ه. قال ابن جزي : هذه الآية للكفار، وتتضمن النهي لمن كان كذلك عن غيرهم، والمكر هنا : الطعن في آيات الله وترك شكره، ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم، سماه مكراً مشاكلة لفعلهم، وتسمية للعقوبة باسم الذنب. ه.
فنزول الرحمة بعد الشدة آية تدل على كمال قدرته. وقد وَرَدَ أنه لما نزل بهم القحط التجأوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا محمد ؛ إنك جئت تأمر بمكارم الأخلاق، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله يغيثنا، فدعا، فنزل عليهم الغيث، فكانت معجزة له عليه الصلاة والسلام.
ثم قال تعالى :﴿ هو الذي يُسيركم ﴾ إليه في بر الشريعة، وبحر الحقيقة، فيقع السير بينهما، فإذا كانت الشريعة أقوى نقص له منها وزاد في حقيقته، وإذا قويت حقيقته نقص له منها إلى شريعته، هكذا حتى تعتدلا، فتكمل تربيته، فإذا ركبوا سفن الأفكار وساروا بأرواحهم في تيار البحار، فخاضوا بأفكارهم بحار التوحيد وأسرار التفريد، وجرت أفكارهم في عالم الملكوت بريح طيبة ـ وهي ريح السلوك ـ جاءتها ريح عاصف، وهي الواردات الإلهية، تأتي من حضرة القهار، لا تصادم شيئاً إلا دمغته، فإذا خافوا على نفوسهم صدمات الجذب أو المحْو ؛ دََعوا الله مخلصين له الدين، فلما ردهم إلى السلوك اشتغلوا برياضة نفوسهم بالمجاهدة والمكابدة، فبغوا عليها كما بغت عليهم في أيام غفلتهم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر آية أخرى فقال :﴿ هو الذي يُسيركم ﴾ بقدرته ﴿ في البَرِّ والبحر حتى إذا كنتم في الفلك ﴾ : السفن، ﴿ وجَرَيْنَ بهم ﴾ بمن فيهم، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة، كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم، ففيه التفات. ومقتضى القياس : وجرين بكم ﴿ بريح طيبةٍ ﴾ : لينة الهبوب، ﴿ وفَرحُوا بها ﴾ لسهوله السير بها، ﴿ جاءتها ريحٌ عاصفٌ ﴾ أي : شديد الهبوب، ﴿ وجاءهم الموجُ من كل مكانٍ ﴾ من كل جهة لهيجان البحر حينئذ، ﴿ وظنوا أنهم أحيطَ بهم ﴾ أي : أهلكوا، أو سُدت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاط به العدو.
قال ابن عطية : ركوب البحر وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه، وكذا لضرورة المعاش بالصيد ويتصرف للتجر، وأما ركوبه لطلب الدنيا والاستكثار فمكروه عند الأكثر. قلت : ما لم يكن لبلد تجري فيه أحكام الكفار على المسلمين وإلا حرم. ثم قال : وأما ركوبه وقت ارتجاجه فممنوع، وفي الحديث :" من ركب البحر في ارتجاجه فقد برِئَتْ منه الذمة " وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" البحر لا أركبه أبداً ".
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال : لولا هذا الآية، لضربت عنق من يركب البحر. فقال ابن عباس : إني لأعلم كلمات من قالهُن عند ركوب البحر وأصابه عطب فعليّ ديته، قيل : وما هي ؟ قال : اللهم يا من له السماوات خاشعة، والأرضون السبع خاضعة، والجبال الراسية طائعة، أنت خير حفظاً وأنت أرحم الراحمين، ﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٧ ] صلى الله على محمد النبي المصطفى، وعلى أهل بيته، وأزواجه وذريته، وعلى جميع النبيين والمرسلين، والملائكة المقربين، ﴿ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
[ هود : ٤١ ]. قال بعض الفضلاء : جربته فصح. ه.
ثم قال تعالى في وصف الكفار عند إحاطة البحر بهم :﴿ دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ من غير إشراك ؛ لتراجع الفطرة، وزوال المعارض من شدة الخوف، قائلين :﴿ لئن أنجيتنا من هذه ﴾ الشدة ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ هو الذي يُسيركم ﴾ إليه في بر الشريعة، وبحر الحقيقة، فيقع السير بينهما، فإذا كانت الشريعة أقوى نقص له منها وزاد في حقيقته، وإذا قويت حقيقته نقص له منها إلى شريعته، هكذا حتى تعتدلا، فتكمل تربيته، فإذا ركبوا سفن الأفكار وساروا بأرواحهم في تيار البحار، فخاضوا بأفكارهم بحار التوحيد وأسرار التفريد، وجرت أفكارهم في عالم الملكوت بريح طيبة ـ وهي ريح السلوك ـ جاءتها ريح عاصف، وهي الواردات الإلهية، تأتي من حضرة القهار، لا تصادم شيئاً إلا دمغته، فإذا خافوا على نفوسهم صدمات الجذب أو المحْو ؛ دََعوا الله مخلصين له الدين، فلما ردهم إلى السلوك اشتغلوا برياضة نفوسهم بالمجاهدة والمكابدة، فبغوا عليها كما بغت عليهم في أيام غفلتهم. وبالله التوفيق.
﴿ يا أيها الناس إنما بَغْيُكم على أنفسكم ﴾ فإن وباله عائد عليكم، أو على أبناء جنسكم، وذلك ﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾ تتمتعون به ساعة، ﴿ ثم إلينا مرجعكم ﴾ في القيامة ﴿ فنُنبئكم بما كنتم تعملون ﴾ بالجزاء عليه.
ثم قال تعالى :﴿ هو الذي يُسيركم ﴾ إليه في بر الشريعة، وبحر الحقيقة، فيقع السير بينهما، فإذا كانت الشريعة أقوى نقص له منها وزاد في حقيقته، وإذا قويت حقيقته نقص له منها إلى شريعته، هكذا حتى تعتدلا، فتكمل تربيته، فإذا ركبوا سفن الأفكار وساروا بأرواحهم في تيار البحار، فخاضوا بأفكارهم بحار التوحيد وأسرار التفريد، وجرت أفكارهم في عالم الملكوت بريح طيبة ـ وهي ريح السلوك ـ جاءتها ريح عاصف، وهي الواردات الإلهية، تأتي من حضرة القهار، لا تصادم شيئاً إلا دمغته، فإذا خافوا على نفوسهم صدمات الجذب أو المحْو ؛ دََعوا الله مخلصين له الدين، فلما ردهم إلى السلوك اشتغلوا برياضة نفوسهم بالمجاهدة والمكابدة، فبغوا عليها كما بغت عليهم في أيام غفلتهم. وبالله التوفيق.
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ * ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إنما مَثَلُ الحياةِ الدنيا ﴾ في سرعة تقضيها، وذهاب نعيمها بعد إقبالها، واغترار الناس بها، ﴿ كماء أنزلناه من السماءِ فاختلط ﴾ أي : اشتبك ﴿ به نباتُ الأرضِ ﴾ حتى اختلط بعضه ببعض، ﴿ مما يأكلُ الناسُ والأنعام ﴾ من الزرع والبقول والحشيش، ﴿ حتى إذا أخذت الأرضُ زخرفها ﴾ أي : زينتها وبهجتها بكمال نباتها، ﴿ وازّينتْ ﴾ أي : تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة ؛ كعروس أخذت من ألوان الثياب والحلي فتزينت بها.
﴿ وظن أهلُها ﴾ أي : أهل الأرض ﴿ أنهم قادِرُون عليها ﴾ متمكنون من حصدها ورفع غلتها، ﴿ أتاها أمرُنا ﴾ أي : بعض الجوائح، كالريح والمطر، ﴿ ليلاً أو نهار فجعلناها ﴾ أي : زرعها ﴿ حصيداً ﴾ : شبيهاً بما حصد من أصله، ﴿ كأن لم تَغنَ ﴾ : كأن لم تُقم ﴿ بالأمس ﴾، أو كأن يغن زرعها، أي : لم ينبت. والمراد : تشبيه الدنيا في سرعة انقضائها بنبات اخضرَّ ثم صار هشيماً، ﴿ كذلك نُفَصِّلُ الآيات لقوم يتفكرون ﴾ ويتدبرون عواقب الأمور، فيعلمون أن الدنيا سريعة الزوال، وشيكة التغير والانتقال، فيزهدون فيها ويجعلونها مزرعة لدار السلام، التي هي دار البقاء. وهي التي دعا إليها عباده بقوله :﴿ والله يدعو إلى الدار السلام ﴾
وفي بعض خطبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال :" أما رأيتم المؤاخَذين على الغرة، المزعَجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسلُ ربهم، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا، ولا ما فاتهم رجعوا، قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" لا تخدعنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات عالية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب ولاقى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه ".
ورُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال : شهدت مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل أبيض، حسن الشعر واللون، فقال : السلام عليك يا رسول الله، قال : وعليك السلام. قال : يا رسول الله، ما الدنيا ؟ فقال : حلم النائم، وأهلها مجازَون ومعاقبون. قال : يا رسول الله، فما الآخرة ؟. قال : الأبد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، قال : يا رسول الله، فما الجنة ؟ قال : ترك الدنيا بنعيمها أبداً، ثم قال : فما خير الأمة ؟ قال : الذي يعجل بطاعة الله، قال : فكيف يكون الرجل فيها ؟ ـ أي في الدنيا ـ قال : متشمراً كطالب قافلة، قال : وكم القرار بها ؟ قال : كقدر المتخلف عن القافلة، قال : فكم بين الدنيا والآخرة ؟ قال : كغمضة عين. ثم ذهب الرجل فلم يُر، فقال صلى الله عليه وسلم :" هذا جبريل أتاكم يزهدكم في الدنيا ".
وقال الورتجبي عند قوله :﴿ والله يدعو إلى دار السلام ﴾ : الله تعالى يدعو العبادَ من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية، لئلا يفتتنوا بزخرفها وغرورها، وليصلوا إلى جواره، ونعيم مشاهدته. هـ.
قال المحشي : قلت : وذلك أن أعلى اللذات التحقق بصفات الربوبية، وهي محبوبة للقلب والروح بالطبع، لما فيه من المناسبة لها. ولذلك قال : ة ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [ الإسراء : ٨٥ ]، ثم المناسب إنما هو بقاء لا فناء وعز لا ذل فيه، وغنى لا فقر فيه، وكمال لا نقص فيه، وأمن لا خوف فيه، وهذا كله من أوصاف الربوبية، وحق كل عبد أن يطلب ملكاً عظيماً لا آخر له، ولا يكون ذلك في الدنيا لانصرافها وشوبها بآلام مكدّرات، وإنما ذلك في الآخرة ولكن الشيطان بتلبيسه وحسده يدعو إلى ما لا يدوم من العاجلة، متوسلاً بما في الطبع من العجلة، والله يدعو إلى المُلك الحقيقي، وذلك بالزهد في العاجل والراحة منه عاجلاً، ليكون ملكاً في الدنيا، وبالقرب من الله والرغبة في التحقق به وبأوصافه ليكون ملكاً في الآخرة.
وفي الطيبي : قيل لابن أدهم : ما لنا ندعو فلا نجاب ؟ فقال : لأنه دعاكم فلم تُجيبوه، ثم قرأ :﴿ والله يدعو إلى دار السلام ﴾ ﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [ الشورى : ٢٦ ]. هـ.
وفي بعض خطبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال :" أما رأيتم المؤاخَذين على الغرة، المزعَجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسلُ ربهم، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا، ولا ما فاتهم رجعوا، قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" لا تخدعنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات عالية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب ولاقى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه ".
ورُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال : شهدت مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل أبيض، حسن الشعر واللون، فقال : السلام عليك يا رسول الله، قال : وعليك السلام. قال : يا رسول الله، ما الدنيا ؟ فقال : حلم النائم، وأهلها مجازَون ومعاقبون. قال : يا رسول الله، فما الآخرة ؟. قال : الأبد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، قال : يا رسول الله، فما الجنة ؟ قال : ترك الدنيا بنعيمها أبداً، ثم قال : فما خير الأمة ؟ قال : الذي يعجل بطاعة الله، قال : فكيف يكون الرجل فيها ؟ ـ أي في الدنيا ـ قال : متشمراً كطالب قافلة، قال : وكم القرار بها ؟ قال : كقدر المتخلف عن القافلة، قال : فكم بين الدنيا والآخرة ؟ قال : كغمضة عين. ثم ذهب الرجل فلم يُر، فقال صلى الله عليه وسلم :" هذا جبريل أتاكم يزهدكم في الدنيا ".
وقال الورتجبي عند قوله :﴿ والله يدعو إلى دار السلام ﴾ : الله تعالى يدعو العبادَ من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية، لئلا يفتتنوا بزخرفها وغرورها، وليصلوا إلى جواره، ونعيم مشاهدته. هـ.
قال المحشي : قلت : وذلك أن أعلى اللذات التحقق بصفات الربوبية، وهي محبوبة للقلب والروح بالطبع، لما فيه من المناسبة لها. ولذلك قال : ة ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [ الإسراء : ٨٥ ]، ثم المناسب إنما هو بقاء لا فناء وعز لا ذل فيه، وغنى لا فقر فيه، وكمال لا نقص فيه، وأمن لا خوف فيه، وهذا كله من أوصاف الربوبية، وحق كل عبد أن يطلب ملكاً عظيماً لا آخر له، ولا يكون ذلك في الدنيا لانصرافها وشوبها بآلام مكدّرات، وإنما ذلك في الآخرة ولكن الشيطان بتلبيسه وحسده يدعو إلى ما لا يدوم من العاجلة، متوسلاً بما في الطبع من العجلة، والله يدعو إلى المُلك الحقيقي، وذلك بالزهد في العاجل والراحة منه عاجلاً، ليكون ملكاً في الدنيا، وبالقرب من الله والرغبة في التحقق به وبأوصافه ليكون ملكاً في الآخرة.
وفي الطيبي : قيل لابن أدهم : ما لنا ندعو فلا نجاب ؟ فقال : لأنه دعاكم فلم تُجيبوه، ثم قرأ :﴿ والله يدعو إلى دار السلام ﴾ ﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [ الشورى : ٢٦ ]. هـ.
﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ للذين أحسنوا ﴾ فيما بينهم وبين ربهم بتوحيده وعبادته، وفيما بينهم وبين عباده بكف أذاهم وحمل جفاهم، لهم ﴿ الحسنى ﴾ أي : المثوبة الحسنى، وهي الجنة وزيادة، وهي النظر إلى وجهه الكريم، أو الحسنى : ما يثيب به على العمل، والزيادة : ما يزيد على ما يستحق العبد تفضلاً كقوله :﴿ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾ [ النساء : ١٧٣ ]، أو الحسنى : مثل حسناتهم، والزيادة : التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة أو أكثر، ﴿ ولا يرهقُ وجوهَهم ﴾ : لا يغشاها ﴿ قَتَرٌ ﴾ : غبرة فيها سواد تغبر الوجه ﴿ ولا ذِلَّةٌ ﴾ أي : هوان، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من خزي وسوء حال، ﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ : دائمون، لا زوال لهم عنها، ولا انقراض لنعيمها، بخلاف الدنيا وزخرفها فقد تقدم مثالها.
الإشارة : للذين أحسنوا بالانقطاع إلى الله والزهد فيما سواه الحسنى، وهي المعرفة، وزيادة، وهي الترقي في المقامات، والعروج في سماء المشاهدات، والازدياد من الأسرار والمكاشفات، وترادف المناجاة والمكالمات ولا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة، بل وجوههم بنور البقاء مستبشرة، وهم خالدون في نعيم الفكرة والنظرة.
﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
قلت :( والذين ) : مبتدأ على حذف مضاف، أي : جزاء الذين كسبوا، ( وجزاء ) : خبر، أو على تقدير " لهم " أو معطوف على ( للذين أحسنوا ) على مذهب من يُجوز : في الدار زيد والحجرةِ عمرو. أو ( جزاء ) : مبتدأ، و( بمثلها ) : خبر، والجملة حينئذٍ كبرى. ومن قرأ ( قِطعَاً ) بفتح الطاء فجمع قطيع، وهو مفعول ثان، و( مظلماً ) : حال من الليل، ومن قرأ ( قِطعَاً ) بالسكون فمصدر، و( مظلماً ) نعت له، أو حال منه أو من الليل.
يقول الحق جل جلاله :﴿ والذين كسَبوا السيئات ﴾ كالكفر والشرك، وما يتبعهما من المعاصي، جزاؤهم ﴿ سيئة بمثلها ﴾ لا يزاد عليها، فلا تضاعف سيئاتهم، عدلاً منه سبحانه، ﴿ وترهقُهم ذِلةٌ ﴾ أي : هوان عند حشرهم للنار، ﴿ ما لهم من الله من عاصم ﴾ يعصمهم من عذاب الله وغضبه، ﴿ كأنما أُغشيَت وجوهُهُم قِطعَاً من الليل مظلماً ﴾، أي : يحشرون مسودة وجوههم، كأنما أُكْسِيَتْ وجوههم قطْعاً كثيرة من الليل المظلم، أو قطْعاً مظلماً من الليل ﴿ أولئك أصحابُ النار هم فيها خالدون ﴾.
قال البيضاوي : هذا مما يحتج به الوعيدية يعني المعتزلة في تخليد العصاة. والجواب : أن الآية في الكفار ؛ لاشتمال السيئات على الكفر والشرك، ولأن الذين أحسنوا يتناول الكثير من أهل القبلة، فلا يتناوله قسيمُه. ه.
الإشارة : جزاء المعاصي البُعد والهوان، وتسْويد وجوه القلوب والأبدان، كما أن جزاء الطاعة التقريب والإبرار، وتنوير وجوه القلوب والأسرار والإحسان، وفي ذلك يقول ابن النحوي في منفرجته :
وَمَعَاصِي اللَّهِ سَماجَتُها | تَزَدَانُ لِذي الخُلْقِ السَّمِج |
وَلِطَاعَتِه وَصَبَاحَتِهَا | أنْوارُ صَبَاحٍ مُنْبَلِجِ |
﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴾ * ﴿ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾ * ﴿ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾
قلت :( مكانكم ) : مفعول، أي : الزموا مكانكم، و( أنتم ) تأكيد للضمير المنتقل إليه، و( شركاؤكم ) عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يوم نحشرهم جميعاً ﴾ يعني فريق الحسنى، وفريق النار، ﴿ ثم نقول للذين أشركوا ﴾ الزموا ﴿ مكانَكم ﴾ من الخزي والهوان، حتى تنظروا ما يُفعل بكم، ﴿ أنتم شركاؤُكم ﴾ معكم، تمثيل حينئذ معهم، ﴿ فزَيَّلنا ﴾ : فرَّقنا ﴿ بينهم ﴾ وقطعنا الوُصل التي كانت بينهم، ﴿ وقال شركاؤهم ﴾، ينطقها الله تعالى تكذيباً لهم فتقول :﴿ ما كنتم إيانا تعبدون ﴾، وإنما عبدتم في الحقيقة أهواؤكم ؛ لأنها الأمارة لكم بالإشراك. وقيل : المراد بالشركاء : الملائكة والمسيح.
﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ * ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ * ﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾
يقول الحق جلاله :﴿ قل ﴾ لهم :﴿ من يرزقُكُم من السماء ﴾ بإنزال الأمطار، وإنبات الحبوب، فإن الأرزاق تحْصل بأسباب سماوية ومواد أرضية، أو من كل واحد منهما ؛ توسعة عليكم، أو من السماء لأهل التوكل، ﴿ و ﴾ من ﴿ الأرض ﴾ لأهل الأسباب. وقل لهم أيضاً :﴿ أمَّن يملك السمعَ والأبصارَ ﴾ أي : من يستطيع خلقهما وتسويتهما، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتهما، وسرعة انفعالهما من أدنى شيء، أو مَن أمرهُما بيده، إن شاء ذهب بهما ؟ وقل لهم أيضاً :﴿ ومن ﴾ يقدر أن ﴿ يُخرج الحيَّ من الميت ويخرجُ الميت من الحيَّ ﴾، فيخرج الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان ؟ وهكذا.
وقل لهم أيضاً :﴿ ومن يُدبَّرُ الأَمرَ ﴾ أي : ومن يلي تدبير العالم، من عرشه إلى فرشه ؟ وهو تعميم بعد تخصيص، ﴿ فسيقولون الله ﴾، لا محيص لهم عن الإقرار بسواه ؛ إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك ؛ لفرط وضوحُه. ﴿ فقل أفلا تتقون ﴾ عقاب الله وغضبه ؟ بسبب إشراككم معه ما لا يشاركه في شيء من ذلك.
ألا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللًّه بَاطِلُ | وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ |
قال ابن عطية : حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحقّ فيها في طرف واحد، لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال تعالى فيها :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [ المائدة : ٤٨ ]. ه.
﴿ فأَنَّى تُصرَفُون ﴾ عن الحق إلى الضلال.
ألا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللًّه بَاطِلُ | وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ |
ألا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللًّه بَاطِلُ | وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ |
﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيا إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيا إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيا إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل ﴾ لهم :﴿ هل من شركائكم من يبدأُ الخلقَ ﴾ بإظهاره للوجود ﴿ ثم يُعيده ﴾ بالبعْث. فإن قلت كيف يحتج عليهم بالإعادة، وهم لا يعترفون بها ؟ فالجواب : أنها لظهور برهانها وتواتر أخبارها كأنها معلومة عندهم، فلو أنصفوا ونظروا لأقروا بها، ولذلك أمر الرسول بأن ينوب عليهم في الجواب، فقال :﴿ قل اللهُ يبدأُ الخلق ثم يُعيده ﴾ : لأن لجاجهم وجحودهم لا يتركهم يعترفون بها، ولذلك قال لهم :﴿ فأنى تُؤفكون ﴾ : تُصرفون عن سواء السبيل.
و﴿ قل ﴾ لهم أيضاً :﴿ هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ﴾ بنصب الدلائل، وإرسال الرسل، والتوفيق للنظر والتدبر ؟ ﴿ قل اللهُ يهدي للحق ﴾. قال البيضاوي : وهدى كما يعدى بإلى ؛ لتضمنه معنى الانتهاء، يعدى باللام للدلالة على منتهى غاية الهداية. انظر تمامه.
﴿ أفمن يَهدي إلى الحق ﴾ وهو الحق ﴿ أحقُّ أن يُتبع أمَّن لا يهدي ﴾ إلى شيء، فأولى ألا يهدي غيره ﴿ إِلا أن يُهدى ﴾ ؟ أي : إلا أن يهديه غيره، وهي معبوداتهم، كالملائكة والمسيح وعزير، فلا يستطيعون أن يهدوا أنفسهم إلا أن يهديهم الله. وحمل ابن عطية الآية على الأصنام، وقال : معنى قوله :﴿ أمن لا يهدي إلا أن يهدى ﴾ هي عبارة عن أنها لا تنتقِل إلا أن تنقلَ. قال : ويحتمل أن يكون ما ذكره الله من تسبيح الجمادات ؛ هو اهتداؤه. ويحتمل أن يكون الاستثناء في اهتدائها إشارة إلى مناكرة الكفار يوم القيامة حسبما مضى في هذه السورة. ه. ﴿ فما لكم كيف تحكمون ﴾ أي : أيُّ شيء حصل لعقولكم، فكيف تحكمون بشيء يقتضي العقل بطلانه بأدنى تفكر ؟.
الإشارة : الناس على قسمين : أهل تصديق وإيمان، وأهل شهود وعيان. فأهل التصديق والإيمان هم عامة أهل اليمين، وهم أكثر المسلمين من العلماء الصالحين، يستندون في معرفتهم بالله إلى الدليل والبرهان، فتارة يقوى عندهم الدليل فيترقَّون عن اتباع الظن إلى الجزم والتصميم، وتارة يضعف فيرجعون إلى اتباع الظن الراجح.
وأما أهل الشهود والعيان، فقد غابت عنهم الأكوان في شهود المكوّن، فصاروا يستدلون بالله على وجوه غيره، فلا يجدونه، حتى قال بعضهم : لو كُلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى أشهده، محال أن تشهده وتشهد معه سواه. وقال شاعرهم :
مذْ عَرَفتُ الإِله لَم أَرَ غَيراً | وَكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ |
مُذ تَجَمَّعَتُ ما خَشِيتُ افتراقاً | فَأَنا اليَومَ وَاصِلٌ مَجمُوعُ |
عجبتُ لِمْنَ يَبَغي عَلَيكَ شَهَادَةً | وَأَنتَ الَّذي أَشهَدتُه كُلَّ شَاهِد |
ولا مطمع لأحد في التطهير من الظنون والأوهام إلا بصحبة شيخ كامل عارف بالله، فيلقي إليه نفسه، فلا يزال يسير به، حتى يقول له : ها أنت وربك، فحينئذٍ ترتفع عنه الشكوك والظنون والأوهام، ويبلغ في مشاهدة الحق إلى عين اليقين وحق اليقين. وأما قول الجنيد رضي الله عنه :( أدركت سبعين صديقاً، كلهم يعبدون الله على الظن والوهم، حتى الشيخ أبا يزيد، ولو أدرك صبياً من صبياننا لأسلم على يديه ). فقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : معنى كلامه : أنهم ظنوا وتوهموا أنهم بلغوا إلى مقام النهاية، بحيث لا مقام فوق ذلك، ولو أدرك أحدهُم صبيَّاً لنبههم على أن ما فاتهم أكثر مما أدركوا ولانقادوا له. ه. بالمعنى. والله تعالى أعلم.
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ * ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ * ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾
قلت :" تصديق " : مصدر، والعامل فيه " كان " محذوفة، أو " أنزل "، و " لا ريب " : خبر ثالث لها، و " من رب العالمين " : خبر آخر، أي : كائناً من رب العالمين، أو متعلق بتصديق أو بتفصيل، و " لا ريب " : اعتراض، أو بالفعل المعلل بهما وهو " نزل " ويجوز أن يكون حالاً من " الكتاب "، أو من الضمير في " فيه "، و " أم " : منقطعة بمعنى بل مع الاستفهام الإنكاري، و " كيف " خبر كان.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما كان هذا القرآنُ أن يفترى من دون الله ﴾ أي : صح له أن يفترى من الخلق، إذ لا قدرة له على ذلك، ﴿ ولكن ﴾ كان ﴿ تصديقَ الذي بين يديه ﴾ من الكتب، أو : ولكن أنزله تصديقاً لما سلف قبله من الكتب الإلهية، المشهود على صدقها ؛ لأنه مطابق لها، فلا يكون كذباً، كيف وهو لكونه معجزاً عيار عليها، شاهد على صحتها ؟ ﴿ وتفصيلَ الكتاب ﴾ أي : وأنزله تفصيلَ ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع، التي تضمنها الكتاب، ﴿ لا ريبَ فيه ﴾ : لا ينبغي أن يرتاب فيه ؛ لما احتفّت به من شواهد الحق، وارتياب الكفار فيه كلا ريب. كائناً ﴿ من رب العالمين ﴾، أو نزل منه.
ومعنى التَّوقع في ﴿ لمَّا ﴾ : أنه قد ظهر بالآخرة إعجازه ؛ لمّا كرر عليهم التحدَّي ؛ فزادوا أذْهانهم في معارضته ؛ فتضاءلت دونها، أو لمّا شاهدوا وقوع ما أخبر به طبق ما أخبر مراراً فلم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً. قاله البيضاوي. قال ابن جزي : لمَّا يأتهم ما فيه من الوعيد لهم، أي : وسيأتيهم يوم القيامة أو قبله.
﴿ كذلك كذَّب الذين من قبلهم ﴾ أنبياءهم، ﴿ فانظر كيف كان عاقبةُ الظالمين ﴾، فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.
﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيائُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِياءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ * ﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإن كذبوك ﴾ ؛ كذبك قومك بعد إلزام الحجة لهم ﴿ فقل ﴾ لهم :﴿ لي عملي ولكم عملكم ﴾ أي : فتبرأ منهم وقل لهم : لي جزاء عملي، ولكم جزاء عملكم، حقاً كان أو باطلاً، ﴿ أنتم بريئون مما أعملُ وأنا بريء مما تعملون ﴾، لا تؤاخذون بعملي، ولا أُؤاخذ بعملكم، ولأجل ما فيه من إيهام الإعراض عنهم وتخلية سبيلهم قيل : إنه منسوخ بآية السيف.
﴿ ومنهم من يستمعون إليك ﴾ إذا قرأت القرآن، أو علمت الشرائع، ولكن لا يقبلون، كالأصم الذي لا يسمع أصلاً، ﴿ أفأنتَ تُسمع الصُّمَّ ﴾ تقدر على إسماعهم ﴿ ولو كانوا لا يعقلون ﴾ أي : ولو انضم إلى مصممهم فَقْدُ عقولهم، فهو أحرى في عدم الاستماع.
قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام هو فهم المعنى المقصود منه، ولذلك لا توصف به أي : بالاستماع البهائم، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل وتدبره. وعقولهم لما كانت مؤوفة أي : قاصرة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد بعدت أفهامهم عن فهم الحِكَم والمعاني الدقيقة، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق. ه.
﴿ ومنهم من ينظر إليك ﴾ أي : يعاينون دلائل نبوتك، ولكن لا يصدقون، كأنهم عمي عنها، ﴿ أفأنت تهدي العُمْيَ ﴾ : تقدر على هدايتهم ﴿ ولو كانوا لا يُبصرون ﴾ أي : وإن انضم إلى عدم البصرَ عدم البصيرة، فإن المقصود من الإبصار هو الاعتبار والاستبصار، والعمدة في ذلك البصيرة، فإذا فقدت فلا اعتبار ولا استبصار، ولذلك يُحدس الأعمى المتبصر، ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق. والآية كالتعليل للأمر بالتبري.
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ * ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴾ * ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾
قلت :﴿ كأن لم يلبثوا ﴾ : حال، أي : نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة. أو صفة ليوم، والعائد محذوف، أي : كأن لم يلبثوا قبله، أو لمصدر محذوف، أي : حشراً كأن لم يلبثوا قبله. وجملة :﴿ يتعارفون ﴾ : حال أخرى مقدرة، أو بيان لقوله :﴿ كأن لم يلبثوا ﴾، أو لتعلق الظرف، والتقدير : يتعارفون يوم نحشرهم.
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يومَ نحشُرهم ﴾ ونجمعهم للحساب، فتقصر عندهم مدة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ، ﴿ كأن لمْ يلبثوا إلا ساعةً من النهار ﴾ يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، أو في القبور ؛ لهول ما يرون، حال كونهم ﴿ يتعارفون بينهم ﴾ أي : يعرف بعضهم بعضاً، كأن لم يتفارقوا إلا قليلاً، وهذا في أول حشرهم، ثم ينقطع التعارف ؛ لشدة الأمر عليهم لقوله :﴿ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ ﴾ [ المعارج : ١٠ ]
﴿ قد خَسِرَ الذين كذَّبُوا بلقاءِ الله ﴾ خسرانا لا ربح بعده، ﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ إلى طريق الربح أصلاً، أو إلى طريق توصلهم إلى معرفة الله ورضوانه، لترك استعمال ما منحوه من العقل فيما يوصل إلى الإيمان بالله ورسله، فاستكسبوا جهالات أدت بهم إلى الرّدى والعذاب الدائم.
فأما أهل اليقظة ـ وهم العارفون بالله ـ فقد حصل لهم اللقاء، قبل يوم اللقاء، قد خسر الوصول من كذَّب بأهل الوصول، وما كان أبداً ليهتدي إلى الوصول إلا بصحبة أهل الوصول. وإما نرينك أيها العارف بعض الذي نعدهم من الوصول لمن تعلق بك، أو نتوفينك قبل ذلك، فإلينا مرجعهم فنوصلهم بعدك بواسطة أو بغيرها. ولكل أمة رسول يبعثه الله يُذكر الناس ويدعوهم إلى الله، فإذا جاء رسولهم قُضي بينهم بالقسط، فيوصل من تبعه ويبعد من انتكبه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
﴿ وإما نُرينّك ﴾ أي : مهما نبصرنك ﴿ بعضَ الذي نَعِدُهم ﴾ من العذاب في حياتك، كما أراه يوم بدر. ﴿ أو نتوفينَّك ﴾ قبل أن نريك ﴿ فإلينا مَرجِعُهم ﴾ فنريكه في الآخرة، ﴿ ثم اللهُ شهيدٌ على ما يفعلون ﴾، فيجازيهم عليه حينئذٍ، فالترتيب إخباري.
وقال البيضاوي، تبعاً للزمخشري : ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها، وهو العقاب، ولذلك رتبها على الرجوع بثم، أو مؤدِّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة. ه.
فأما أهل اليقظة ـ وهم العارفون بالله ـ فقد حصل لهم اللقاء، قبل يوم اللقاء، قد خسر الوصول من كذَّب بأهل الوصول، وما كان أبداً ليهتدي إلى الوصول إلا بصحبة أهل الوصول. وإما نرينك أيها العارف بعض الذي نعدهم من الوصول لمن تعلق بك، أو نتوفينك قبل ذلك، فإلينا مرجعهم فنوصلهم بعدك بواسطة أو بغيرها. ولكل أمة رسول يبعثه الله يُذكر الناس ويدعوهم إلى الله، فإذا جاء رسولهم قُضي بينهم بالقسط، فيوصل من تبعه ويبعد من انتكبه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
[ الإسراء : ٧١ ] فإذا جاء رسلهم الموقفَ ليشهد عليهم بالكفر أو الإيمان ﴿ قضي بينهم ﴾ بإنجاء المؤمنين وعقاب الكافرين، كقوله :﴿ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم ﴾ [ الزمر : ٦٩ ].
فأما أهل اليقظة ـ وهم العارفون بالله ـ فقد حصل لهم اللقاء، قبل يوم اللقاء، قد خسر الوصول من كذَّب بأهل الوصول، وما كان أبداً ليهتدي إلى الوصول إلا بصحبة أهل الوصول. وإما نرينك أيها العارف بعض الذي نعدهم من الوصول لمن تعلق بك، أو نتوفينك قبل ذلك، فإلينا مرجعهم فنوصلهم بعدك بواسطة أو بغيرها. ولكل أمة رسول يبعثه الله يُذكر الناس ويدعوهم إلى الله، فإذا جاء رسولهم قُضي بينهم بالقسط، فيوصل من تبعه ويبعد من انتكبه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
فأما أهل اليقظة ـ وهم العارفون بالله ـ فقد حصل لهم اللقاء، قبل يوم اللقاء، قد خسر الوصول من كذَّب بأهل الوصول، وما كان أبداً ليهتدي إلى الوصول إلا بصحبة أهل الوصول. وإما نرينك أيها العارف بعض الذي نعدهم من الوصول لمن تعلق بك، أو نتوفينك قبل ذلك، فإلينا مرجعهم فنوصلهم بعدك بواسطة أو بغيرها. ولكل أمة رسول يبعثه الله يُذكر الناس ويدعوهم إلى الله، فإذا جاء رسولهم قُضي بينهم بالقسط، فيوصل من تبعه ويبعد من انتكبه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ * ﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾
قلت : قدَّم في الأعراف١ النفع، وهنا الضر ؛ لأن السؤال في الأعراف عن مطلق الساعة المشتملة على النفع والضر، وهنا السؤال عن العقاب الذي وعدهم به، بدليل قوله :﴿ قل أرأيتم أتاكم عذابه ﴾. وقوله :﴿ إلا ما شاء الله ﴾ منقطع، ويصح الاتصال، وقوله :﴿ ماذا يستعجل منه المجرمون ﴾ وضع المظهر موضع المضمر، أي : ماذا تستعجلون منه ؟.. والجملة الاستفهامية جواب الشرط، كما يقال : إن أتيتك ماذا تعطيني ؟، أو محذوف، أي : إن أتاكم ألكم منه منعة أو به طاقة فماذا تستعجلون منه ؟
وقال الواحدي : الاستفهام للتهويل والتفظيع، أي : ما أعظم ما تستعجلون منه، كما تقول : أعلمت ماذا تجْني على نفسك ؟.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل ﴾ لهم :﴿ لا أملكُ لنفسي ضراً ولا نفعاً ﴾، فكيف أملك لكم ما تستعجلون من طلب العذاب ؟ ﴿ إلا ما شاءَ اللهُ ﴾ : لكن ما شاء الله من ذلك يكون، أو : لا أملك إلا ما ملكني ربي بمشيئته وقدرته، ﴿ لكلِّ أمةٍ أجلٌ ﴾ مضروب إلى هلاكهم، ﴿ إذا جاء أجَلُهُمْ فلا يستأخرون ﴾ عنه ﴿ ساعةً ﴾، ﴿ ولا ﴾ هم ﴿ يستقدمون ﴾ عنه فلا تستعجلوا، فسيحين وقتكم وينجز وعدكم.
وقال الواحدي : الاستفهام للتهويل والتفظيع، أي : ما أعظم ما تستعجلون منه، كما تقول : أعلمت ماذا تجْني على نفسك ؟.
﴿ قل أرأيتم إن أتاكم عذابُه ﴾ الذي تستعجلون ﴿ بياتاً ﴾ أي : وقت بيات واشتغال بالنوم، ﴿ أو نهاراً ﴾ حين يشتغلون بطلب معاشكم، ﴿ ماذا يستعجل منه المجرمون ﴾ ؟ أيّ : شيء من العذاب يستعجلونه وكله مكروه لا يلائم الاستعجال ؟ وهو متعلق بأرأيتم، لأنه في معنى أخبروني، و " المجرمون "، وضع موضع المضمر ؛ للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء العذاب، لا أن يستعجلوه. قاله البيضاوي.
﴿ أثم إذا ما وقع آمنتم به ﴾ أي : أثم تؤمنون إذا وقع العذاب وعاينتموه، حين لا ينفعكم إيمانكم، ﴿ الآن ﴾ أي : فيقال لكم الآن آمنتم حين فات وقته، ﴿ وقد كنتم به تستعجلون ﴾ تكذيباً واستهزاء.
﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيا إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ * ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾
قلت :( أحق ) : مبتدأ، والضمير فاعله سد مسد الخبر، و( إي ) : حرف جواب، بمعنى نعم، وهو من لوازم القسم، لذلك يوصل بواوه، فيقال : إي والله، ولا يقال " إي " وحُده.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ويستنبئونَكَ ﴾ أي : يستخبرونك ﴿ أحقٌ هُو ﴾ أي : ما تقول من الوعد أو ادعاء النبوة، قيل : قاله حيي بن أخطب لما قدم مكة. ﴿ قل ﴾ لهم :﴿ إي وربي إنه لحقٌّ ﴾ أي : العذاب الموعود لحق، أو ما ادعيته من النبوة لثابت، والأول أرجح لقوله :﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ : بفائتين العذاب الموعود.
﴿ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض ﴾ خلقاً وملكاً وعبيداً، يتصرف فيهم تصرف المالك في ملكه، فلا يتطرقه ظلم ولا جور. ويحتمل أن يكون تقريراً لقدرته على الإثابة والعقاب، ﴿ أَلاَ إن وعد الله حقٌ ﴾ أي : ما وعد به من الثواب والعقاب، لا خلف فيه، ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ لقصور عقولهم، فلا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا.
﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الناسُ قد جاءتكم موعظة من ربكم ﴾ يعنى القرآن العظيم، ﴿ وشفاء لما في الصدور ﴾ من الشك والجهل، ﴿ وهُدىً ورحمةٌ للمؤمنين ﴾ هداية في بواطنهم بأنوار التحقيق، ورحمة في ظواهرهم بآداب التشريع.
قال البيضاوي : قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية، الكاشف عن محاسن الأعمال وقبائحها، والراغبة في المحاسن، والزاجرة عن القبائح، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، وهدى إلى الحق واليقين، ورحمة للمؤمنين ؛ حيث أنزلت عليهم فنجوا من ظلمات الضلال بنور الإيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان. والتنكير فيها للتعظيم. ه.
﴿ قل بفضل الله وبرحمته ﴾ أي : بمطلق الفضل والرحمة، ﴿ فبذلك فليفْرَحُوا ﴾ لا بغيره، أو الفضل : الإسلام، والرحمة : القرآن. وقرأ يعقوب بتاء الخطاب، ورُوي مرفوعاً، ويؤيده قراءة من قرأ :" فافرحوا "، ﴿ هو خيرٌ مما يجمعون ﴾ من حطام الدنيا، فإنها إلى الزوال، وقرأ ابن عامر :" تجمعون " بالخطاب، على معنى : فبذلك فليفرح المؤمنون، فهو خير مما تجمعون أيها المخاطبون.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ * ﴿ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾
قلت :( ما أنزل ) : نصب بأنزل أو بأرأيتم ؛ لأنه بمعنى اخبروني.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل أرأيتم ﴾ : أخبروني ﴿ ما أنزل الله لكم من رزقٍ ﴾ بقدرته، وإن سترها بالأسباب العادية، وقوله :﴿ لكم ﴾ دل على أن المراد منه : ما حلّ، ولذلك وبَّخ على التبعيض بقوله :﴿ فجعلتم منه حراماً وحلالاً ﴾ كالبحائر وأخواتها،
﴿ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ﴾ [ الأنعام : ١٣٩ ].
﴿ قل ﴾ لهم :﴿ آللَّهُ أَذِنَ لكم ﴾ في التحريم والتحليل، فتقولون ذلك عنه، ﴿ أم على الله تفترون ﴾ في نسبة ذلك إليه ؟.
قال ابن عطية : ثنَّى بإيجاب الفضل على الناس في الإمهال لهم مع الافتراء والعصيان، والإمهال داعية إلى التوبة والإنابة، ثم استدرك من لا يرى حق الإمهال ولا يشكره، ولا يبادر فيه على جهة الذم لهم، والآية بعد هذا تعم جميع فضل الله، وجميع تقصير الخلق في شكره، لا رب غيره. ه.
﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾
قلت : الضمير في ﴿ منه ﴾ يعود على القرآن، وإن لم يتقدم ذكره ؛ لدلالة ما بعده عليه، كأنه قال : وما تتلو شيئاً من القرآن، وقيل : يعود على الشأن، والأول أرجح ؛ لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء. قاله ابن جزي. قلت : والأحسن أن يعود على الله تعالى ؛ لتقدم ذكره قبل، ومن قرأ :﴿ ولا أصغر ﴾، ﴿ ولا أكبر ﴾ بالفتح فعطف على ﴿ مثقال ﴾ ممنوع من الصرف، أو مبني مع " لا "، ومن قرأ بالرفع فعطف على موضعه، أو مبتدأ، و﴿ إلا في كتاب ﴾ : خبر.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما تكون في شأنٍ ﴾ أي : أمر من الأمور، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وجميع الخلق، ولذلك قال في آخرها. ﴿ ولا تعملون من عمل ﴾، ومعنى الآية : إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، ﴿ وما تتلو منه من قرآنٍ ﴾ أي : وما تتلو شيئاً من القرآن، أو وما تتلو من الله من قرآن، أي : تأخذه عنه. ﴿ ولا تعملون من عملٍ ﴾ أي عمل كان، وهو تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم، ولذلك ذكر الحق تعالى، حيث خص بالذكر ما فيه فخامة وتعظيم، وذكر حيث عمم ما يتناول الجليل والحقير، أي : لا تعلمون شيئاً ﴿ إلا كنا عليكم شهوداً ﴾ : رقباء مطلعين عليه ظاهراً وباطناً، ﴿ إذ تُفيضون فيه ﴾ : حين تخوضون فيه وتندفعون إليه، يقال : أفاض الرجل في الأمر : إذا أخذ فيه بجد واندفع إليه، ومنه :﴿ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ ﴾
[ البقرة : ١٩٨ ]، ﴿ وما يَعْزُبُ عن ربك ﴾ أي : ما يغيب عنه ﴿ مثقال ذرةٍ ﴾ : ما يوازن نملة، ﴿ في الأرض ولا في السماء ﴾ والمراد : لا يغيب عنه شيء في الوجود بأسره، وخصهما لأن العامة لا تعرف غيرهما. قال في الكشاف : فإن قلت : لِمَ قدَّم هنا الأرض بخلاف سورة سبأ١ ؟ فالجواب : أن السماء قدمت في سبأ لأن حقها التقديم، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادةُ على أهل الأرض. ه. ﴿ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين ﴾ أي : اللوح المحفوظ، أو علمه تعالى المحيط، المُبيّن للأشياء على ما هي عليه.
الإشارة : هذه الآية وأمثالها هي أصل المراقبة عند القوم، وهي على ثلاثة أقسام : مراقبة الظواهر، ومراقبة القلوب، ومراقبة السرائر. فالأولى للعوام، والثانية للخواص، والثالثة لخواص الخواص.
فأما مراقبة الظواهر : فهي اعتقاد العبد أن الله يراه، ومطلع عليه في كل مكان، فينتجُ له الحياء من الله، فيستحيي أن يسيء الأدب معه وهو بين يديه، وفي بعض الأخبار القدسية :" إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخَللُ في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم ؟ ".
وقال عليه الصلاة والسلام- :" أفضل الناس إيماناً من يعلم أن الله معه في كل مكان " أو كما قال صلى الله عليه وسلم : ورُوي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه مرَّ براعي غنم، فقال له : أعطنا شاة من غنمك، فقال له : ليست لي. فقال له : لصاحبها أكلها الذئب، فقال له الراعي : وأين الله ؟ !. ورُويَ أن رجلاً خلا بجارية فراودها على المعصية، وقال لها : لا ترانا إلا الكواكب، فقال له : وأين مُكوكُبها ؟.
وأما مراقبة القلوب فهي : تحقيق العبد أن الله مطلع على قلبه، فيستحي منه أن يجول فيما لا يعني، أو يدبر ما لا يفيد ولا يجدي، أو يهم بسوء أدب ؛ فإنْ جال في ذلك استغفر وتاب.
وأما مراقبة السرائر فهي : كشف الحجاب عن الروح، حتى ترى الله أقرب إليها من كل شيء، فتستحي أن تجول فيما سواه من المحسوسات، فإن فعلت بادرت إلى التوبة والاستغفار، فالتوبة لا تفارق أهل المراقبة مطلقاً، وقد تقدم في أول سورة النساء٢ بعض الكلام على المراقبة، فمن لم يُحْكِم أمر المراقبة، لم يذق أسرار المشاهدة.
٢ انظر الآية ١ من سورة النساء..
﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ * ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
قلت :" الذين آمنوا " : صفة للأولياء، أو منصوب على المدح، أو مرفوع به على تقدير :" هم " أو مبتدأ، و " لهم البشرى " : خبر.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ألا إن أولياءَ الله ﴾ الذين يتولونه بالطاعة، وهو يتولاهم بالكرامة ﴿ لا خوفٌ عليهم ﴾ من لحوق مكروه، ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ بفوات مأمول.
وفي حديث آخر : قيل : يا رسول الله مَنْ أولياء الله ؟ قال :" المتحابَّون في الله ". وقال القشيري رضي الله عنه : علامة الولي ثلاث : شغله بالله، وفراره إلى الله، وهمه الله. هـ.
وقال أبو سعيد الخراز رضي الله عنه : إذا أراد الله أن يوالي عبداً من عباده فتح عليه باب ذكره، فإذا اشتد ذكره فتح عليه باب القرب، ثم رُفع إلى مجلس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا عاين ذلك بقي بلا هو، فحينئذٍ يفني نفسه ويبرأ من دعاويها. هـ.
فأنت ترى كيف جعل الفناء هو نهاية السير والوصول إلى الولاية، فَمن لا فناء له لا محبة له، ومن لا محبة له لا ولاية له. وإلى ذلك أشار ابن الفارض رضي الله عنه، في تائيته بقوله :
فلمْ تهْوَني ما لم تكنْ فيّ فانِيّا | ولم تَفنَ ما لَمْ تَجتَل فيكَ صُورتي |
ثم فسرهم بقوله :﴿ الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾، فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو ولي أعني الولاية العامة وسيأتي بقية الكلام في الإشارة إن شاء الله.
وفي حديث آخر : قيل : يا رسول الله مَنْ أولياء الله ؟ قال :" المتحابَّون في الله ". وقال القشيري رضي الله عنه : علامة الولي ثلاث : شغله بالله، وفراره إلى الله، وهمه الله. هـ.
وقال أبو سعيد الخراز رضي الله عنه : إذا أراد الله أن يوالي عبداً من عباده فتح عليه باب ذكره، فإذا اشتد ذكره فتح عليه باب القرب، ثم رُفع إلى مجلس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا عاين ذلك بقي بلا هو، فحينئذٍ يفني نفسه ويبرأ من دعاويها. هـ.
فأنت ترى كيف جعل الفناء هو نهاية السير والوصول إلى الولاية، فَمن لا فناء له لا محبة له، ومن لا محبة له لا ولاية له. وإلى ذلك أشار ابن الفارض رضي الله عنه، في تائيته بقوله :
فلمْ تهْوَني ما لم تكنْ فيّ فانِيّا | ولم تَفنَ ما لَمْ تَجتَل فيكَ صُورتي |
﴿ لهم البُشْرَى في الحياةِ الدنيا ﴾ وهو ما بشّر به المتقين في كتابه، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الحفظ والعز والكفاية، والنصر في الدنيا وما يثيبهم به في الآخرة، أو ما يريهم من الرؤيا الصالحة يراها أو تُرى له. رُوي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو محبة الناس للرجل الصالح، أو ما يتحفهم به من المكاشفات، أو التوفيق لأنواع الطاعات، أو بشرى الملائكة عند النزع، أو رؤية المقعد قبل خروج الروح، ﴿ وفي الآخرة ﴾ هي الجنة أو تلقي الملائكة إياهم عند الحشر بالبشرى والكرامة.
﴿ لا تبديل لكلماتِ الله ﴾ أي : لا تغيير لأقواله، ولا اختلاف لمواعيده، واستدل ابن عمر بالآية على أن القرآن لا يقدر أحد أن يُغيره، ﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾ الإشارة إلى كونهم مبشَّرين في الدارين، أو لانتفاء الخوف والحزن عنهم مع ما بُشروا به، والله تعالى أعلم.
وفي حديث آخر : قيل : يا رسول الله مَنْ أولياء الله ؟ قال :" المتحابَّون في الله ". وقال القشيري رضي الله عنه : علامة الولي ثلاث : شغله بالله، وفراره إلى الله، وهمه الله. هـ.
وقال أبو سعيد الخراز رضي الله عنه : إذا أراد الله أن يوالي عبداً من عباده فتح عليه باب ذكره، فإذا اشتد ذكره فتح عليه باب القرب، ثم رُفع إلى مجلس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا عاين ذلك بقي بلا هو، فحينئذٍ يفني نفسه ويبرأ من دعاويها. هـ.
فأنت ترى كيف جعل الفناء هو نهاية السير والوصول إلى الولاية، فَمن لا فناء له لا محبة له، ومن لا محبة له لا ولاية له. وإلى ذلك أشار ابن الفارض رضي الله عنه، في تائيته بقوله :
فلمْ تهْوَني ما لم تكنْ فيّ فانِيّا | ولم تَفنَ ما لَمْ تَجتَل فيكَ صُورتي |
﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
قلت :( إن ) : استئناف، ومن قرأ بالفتح فعلى إسقاط لام العلة.
يقول الحق جل جلاله : لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ ولا يحزنُكَ قولُهم ﴾ في جانب الربوبية، أو جانبك بالطعن والشتم والتهديد، فالعاقبة لك بالنصر والعز ؛ فإن الله يُعز أولياءه، ﴿ إِنَّ العزَّة لله جميعاً ﴾ أي : إن الغلبة لله جميعاً، لا يملك غيرُه منها شيئاً، فهو يقهرهم وينصرك عليهم، ﴿ هو السميع ﴾ لأقوالهم، ﴿ العليم ﴾ بمكائدهم فيجازيهم عليها.
الإشارة : الداخل على الله منكور، فكل من رام الخصوصية فليعوِّلْ على الطعن والإنكار، وليتسلَّ بما تسلى به النبي المختار، ولينتظر العز والنصر من الواحد القهار، فإن الأمر كله بيده كما قال :﴿ أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ * ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ألا إن لله مَن في السماوات ومن في والأرض ﴾ من الملائكة والثقلين ملكاً وعبيداً، فلا يصلح أحد منهم للألوهية، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات لا تصلح للربوبية، فأحرى الجامدات التي يدعونها آلهة، ﴿ وما يتبعُ الذين يدعُون من دون الله شركاءَ ﴾ أي : أيُّ شيء يتبعون، تحقيراً لهم، أو ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء يقيناً، ﴿ إن يتبعون إلا الظنَّ ﴾ وما سولت لهم أنفسهم، ﴿ وإن هم إلا يخرصُون ﴾ : يكذبون فيما ينسبون إلى الله، أو يحزرُون ويقدرون أنها شركاء تقديراً باطلاً، بل الواجب أن يعبدوا من عمت قدرته ونعمُه على خلقه، ولذلك قال :﴿ هو الذي جعل لكم الليلَ لتسكنوا فيه ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قالوا ﴾ أي : المشركون، ومن تبعهم :﴿ اتخذ الله ولداً ﴾ أي : تبنّاه كالملائكة وغيرهم، ﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزيهاً له عما يقول الظالمون، فإن التبني لا يصح إلا ممن يتصور منه الولد، ﴿ هو الغني ﴾ عن كل شيء، مفتقر إليه كلُّ شيء، والولد مسبب عن الحاجة، والحق تعالى ﴿ له ما في السماوات وما في والأرض ﴾ ملكاً وعبيداً، فلا يفتقر إلى اتخاذ الولد، وهو الغني بالإطلاق، لا يحتاج إلى من يعينه، واجب الوجود لا يفتقر إلى من يخلفه في ملكه. ﴿ إن عندكم ﴾ أي : ما عندكم ﴿ من سلطان ﴾ أي : برهان ﴿ بهذا ﴾، بل افتريتموه من عندكم، ﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾، وهو توبيخ وتقريع على اختلاقهم وجهلهم، وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وأن العقائد لا بد فيها من قاطع، وأن التقليد فيها غير سائغ. قاله البيضاوي.
قلت : والتحقيق أن إيمان المقلّد صحيح، وأن تقليد الأنبياء والرسل والكتب السماوية صحيح مكتفٍ عن الدليل.
وأما قرب العبد من ربه بطاعته فمعناه قرب محبة ورضا، لا قرب مسافة أو نسب ؛ إذ أوصاف العبودية غير مجانسة لأوصاف الربوبية، بل هي بعيدة منها مع شدة قربها، ولذلك قال في الحِكَم :" إلهي ما أقربَكَ مِنَّي وما أَبعَدَني عنك... " إلخ، وقد تشرق على العبد أنوار الربوبية فتكسوه حتى يغيب عن حسه ورسمه فلا يرى إلا أنوار ربه، فربما تغلبه الأنوار، فيدَّعي الاتحاد أو الحلول، وهو معذور عند أهل الباطن لسكره، وقد رفع التكليف عن السكران، فإذا صحى وبقي على دعواه قُتل شرعاً. والله تعالى أعلم.
وأما قرب العبد من ربه بطاعته فمعناه قرب محبة ورضا، لا قرب مسافة أو نسب ؛ إذ أوصاف العبودية غير مجانسة لأوصاف الربوبية، بل هي بعيدة منها مع شدة قربها، ولذلك قال في الحِكَم :" إلهي ما أقربَكَ مِنَّي وما أَبعَدَني عنك... " إلخ، وقد تشرق على العبد أنوار الربوبية فتكسوه حتى يغيب عن حسه ورسمه فلا يرى إلا أنوار ربه، فربما تغلبه الأنوار، فيدَّعي الاتحاد أو الحلول، وهو معذور عند أهل الباطن لسكره، وقد رفع التكليف عن السكران، فإذا صحى وبقي على دعواه قُتل شرعاً. والله تعالى أعلم.
﴿ متاع في الدنيا ﴾ يقيمون به رئاستهم في الكفر، فيتمتعون به قليلاً، أو لهم تمتع في الدنيا مدة أعمارهم، ﴿ ثم إلينا مرجعُهُم ﴾ بالموت، فيلقون الشقاء المؤبد، ﴿ ثم نُذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ﴾.
وأما قرب العبد من ربه بطاعته فمعناه قرب محبة ورضا، لا قرب مسافة أو نسب ؛ إذ أوصاف العبودية غير مجانسة لأوصاف الربوبية، بل هي بعيدة منها مع شدة قربها، ولذلك قال في الحِكَم :" إلهي ما أقربَكَ مِنَّي وما أَبعَدَني عنك... " إلخ، وقد تشرق على العبد أنوار الربوبية فتكسوه حتى يغيب عن حسه ورسمه فلا يرى إلا أنوار ربه، فربما تغلبه الأنوار، فيدَّعي الاتحاد أو الحلول، وهو معذور عند أهل الباطن لسكره، وقد رفع التكليف عن السكران، فإذا صحى وبقي على دعواه قُتل شرعاً. والله تعالى أعلم.
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ ﴾ * ﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ * ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴾
قلت :( وشركاءكم ) : مفعول معه، أو بفعل محذوف، أي : اعزموا أمركم وأجمعُوا شركاءكم ومن قرأ :" اجمَعُوا " بهمزة وصل فشركاءكم : معطوف، و " غمة " : خفيّا، وفي الحديث :" فَإنْ غُمَّ عَلَيكُمْ فَاقدَروا لَهُ ".
يقول الحق جل جلاله :﴿ واتل عليهم نبأ نوحٍٍ ﴾ أي : خبره مع قومه، قيل : اسمه عبد الغفار، وسمي نوحاً لكثرة نَوحه من هيبة ربه، ﴿ إذ قال لقومه يا قوم إن كان كَبُرَ ﴾ أي : عَظُمَ وشقَّ ﴿ عليكم مقامي ﴾ أي : كوني بين أظهركم، وإقامتي بينكم مدة مديدة أذكركم بالله، أو قيامي علّيكم لوعظكم، أو نفسي ووجودي معكم، كقولك : فعلت كذا لمكان فلان، أي له، أي : لو صعب عليكم وجودي بينكم، ﴿ وتذكيري ﴾ لكم ﴿ بآيات الله ﴾ أدعوكم بها إلى الله، ﴿ فعلى الله توكلتُ ﴾ : وثقت به، فلا أبالي ببعدكم عني وتخويفكم إياي، ﴿ فأجمعُوا أمرَكم ﴾ أي : اعزموا عليه، ﴿ وشركاءَكم ﴾ مع شركائكم، أو وأمر شركائكم، أو أجْمِعُوا أمركم واتَّفَِقُوا عليه وأجمِعُوا شركاءكم. والمعنى : أنه أمرهم بالعزم والإجماع على قصده، والسعي في إهلاكه، على أي وجه يمكنهم ؛ لشدة ثقته بالله وعدم مبالاته بهم.
﴿ ثم لا يكن أمرُكم ﴾ في قصد إهلاكي ﴿ عليكم غُمَّة ﴾ : مستوراً خفيَّاً، بل اجعلوه ظاهراً مكشوفاً تتمكنون فيه، لأن من يكتم أمراً ويخفيه لا يقدر أن يفعل ما يريد، أو ثم لا يكن حالكم عليكم غمَّاً، أي : لا يلحقكم غم إذا أهلكتموني وتخلصتم من ثقل مقامي وتذكيري. ﴿ ثم اقْضُوا ﴾ أي : انفذوا قضاءكم ﴿ إليَّ ﴾ فيما تريدون. وقرأ السري بن يَنْعَم :" أفضوا " بالفاء وقطع الهمزة، أي : انتهوا إليَّ بشرِّكم، ﴿ ولا تُنظرون ﴾ : ولا تمهلون.
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ [ هود : ٥٥ـ ٥٦ ]. وفي الحديث :" لو اجْتَمَعَ الخَلْقُ كَلُهمْ عَلَى أن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيءٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيكَ، جَفْتِ الأقلامُ وطُويت الصُّحُفُ ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" لا يَكمُلُ إيمَانُ العَبدِ حتَّى يَكُون الناسُ عندَه كالأباعد ". يعني : لا يهابهم ولا يراقبهم. وبالله التوفيق.
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ [ هود : ٥٥ـ ٥٦ ]. وفي الحديث :" لو اجْتَمَعَ الخَلْقُ كَلُهمْ عَلَى أن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيءٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيكَ، جَفْتِ الأقلامُ وطُويت الصُّحُفُ ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" لا يَكمُلُ إيمَانُ العَبدِ حتَّى يَكُون الناسُ عندَه كالأباعد ". يعني : لا يهابهم ولا يراقبهم. وبالله التوفيق.
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ [ هود : ٥٥ـ ٥٦ ]. وفي الحديث :" لو اجْتَمَعَ الخَلْقُ كَلُهمْ عَلَى أن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيءٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيكَ، جَفْتِ الأقلامُ وطُويت الصُّحُفُ ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" لا يَكمُلُ إيمَانُ العَبدِ حتَّى يَكُون الناسُ عندَه كالأباعد ". يعني : لا يهابهم ولا يراقبهم. وبالله التوفيق.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾
قلت :( بما كذبوا به ) ذكر هنا الرابط، وحذفه في سورة الأعراف، إشارة إلى جواز الأمرين، وإليه أشار في الألفية، بقوله :
كذَا الذي جُرَّ بما الموصُولُ جَر | ك " مُرَّ بالّذي مررْتُ فَهْو بَر " |
الإشارة : كما بعث الله في كل أمة رسولاً يذكرهم ويدعوهم إلى الله، بعث الله في كل عصر وليَّاً عارفاً، يدعو الخلق إلى معرفة الله وتوحيده الخاص، فمن سبقت له العناية آمن به من غير طلب آية، ومن سبق له الخذلان لا يصدق به ولو رأى ألف برهان. وبالله التوفيق.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾ * ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ * ﴿ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾ * ﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ثم بعثنا ﴾، من بعد هؤلاء الرسل ﴿ موسى وهارون إلى فرعون ومَلَئه بآياتنا ﴾ التسع، ﴿ فاستكبروا ﴾ عن اتباعها، ﴿ وكانوا قوماً مجرمين ﴾ معتادين الإجرام، فلذلك تهاونوا برسالة ربهم، واجترؤوا على ردها.
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ * ﴿ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ ﴾ * ﴿ فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ * ﴿ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقال فرعونُ ﴾ لما أراد معارضة موسى عليه السلام :﴿ ائتوني بكلِّ ساحرٍ ﴾، في قراءة الأخوين " سحَّار "، ﴿ عليم ﴾ : حاذق في فنه.
﴿ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ﴾.
﴿ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾
قلت : الضمير في " ملئهم " يعود على فرعون، وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء، أو باعتبار آل فرعون، كما يقال : ربيعة ومُضَر، أو على الذرية، أو على " قومه " و( أن يفتنهم ) بدل من فرعون، أو مفعول بخوف، وأفرد ضمير الفاعل، فلم يقل : أن يفتنوهم ؛ للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسبب فرعون.
يقول الحق جل جلاله :﴿ فما آمنَ لموسى ﴾ أي : صدّقه في أول مبعثه ﴿ إلا ذريةٌ ﴾ : إلا شباب وفتيان ﴿ من قومه ﴾ : من بني إسرائيل، آمنوا ﴿ على خوفٍ من فرعون وملئهم ﴾ أي : مع خوف من فرعون وقومه، أو على خوف من فرعون وملأ بني إسرائيل ؛ لأن الأكابر من بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من الإيمان خوفاً من فرعون، وهذا أرجح. خافوا ﴿ أن يفتنهم ﴾ : يعذبهم حتى يردهم عن دينهم، ﴿ وأن فرعونَ لعالٍ في الأرض ﴾ : لغالب فيها، ﴿ وإنه لَمِن المسرفين ﴾ في الكفر والعُتُوِّ حتى ادعى الربوبية، واسترقَّ أسباط الأنبياء.
الإشارة : أهل التصديق بأهل الخصوصية قليل في كل زمان، وإيذاء المنتسبين لهم سنة جارية في كل أوان، فكل زمان له فراعين يُؤذون المنتسبين، والعاقبة للمتقين.
﴿ وَقَالَ مُوسَى يا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ * ﴿ فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقال موسى ﴾ لقومه، لمّا رأى خوفهم من فرعون :﴿ يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ﴾ أي : ثِقُوا به واعتمِدُوا عليه، ولا تُبالوا بغيره، ﴿ إن كنتم مسلمين ﴾ مستسلمين لقضاء الله أو منقادين لأحكامه، قائمين بطاعته، بعد تحصيل الإيمان به، وقال لهم ذلك مع علمه بإيمانهم وإسلامهم ؛ إنهاضاً لهم وتحريضاً على الصبر، كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا.
﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبَوءا ﴾ أي : اتخذا ﴿ لقومكما بمصر بيوتاً ﴾ للصلاة والعبادة، وقيل : أراد الإسكندرية، وهي من مصر، ﴿ واجعلوا ﴾ أنتما وقومكما ﴿ بُيوتَكم ﴾ التي تسكنون فيها ﴿ قبلةً ﴾ : مصلّى ومساجد. ورُوي أن فرعون أخافهم، وهدم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة، فأمروا بإخفائها وجعلها في بيوتهم، وتكون متوجهة نحو القبلة يعني مكة وكان موسى يصلي إليها.
فإن قلت : لِمَ خُصَّ موسى وهارون بالخطاب في قوله :﴿ أن تَبوءا ﴾ ثم خُوطب بها بنو إسرائيل في قوله :﴿ واجعلوا بيوتكم ﴾ ؟ فالجواب : أن التبوء واتخاذ المساجد مما يتعاطاه رؤوس القوم للتشاور، بخلاف جعل البيوت قبلة فمما ينبغي أن يفعله كل أحد.
﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ في تلك البيوت، أُمروا بذلك أول مرة لئلا تظهر عليهم الكفرة ويفتنونهم عن دينهم، ﴿ وبشَّر المؤمنين ﴾ بالنصر والعز في الدنيا، وبالجنة في العقبى.
الإشارة : اتخاذ الأماكن للعبادة والعزلة مطلوب عند القوم، وفي الحِكَم :" ما نفع القلبَ شيءٌ مثلُ عزلةٍ يدخل بها ميدان فكرة "، وأصلهم في ذلك : اعتزاله صلى الله عليه وسلم في غار حراء في مبدأ الوحي، فالخلوة للمريد لا بد منها في ابتداء أمره، فإذا قوي نوره، ودخل مقام الفناء ؛ صلح له حينئذٍ الخلطة مع الناس، بحيث يكون جسده مع الخلق وقلبه مع الحق، فإن لله رجالاً أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى. وقال بعضهم : الجَسدُ في الحانوت والقلب في الملكوت، فإذا رجع إلى البقاء لم يختَرْ حالاً على حال ؛ لأنه مع الله على كل حال، وهذا من أقوياء الرجال. نفعنا الله بهم.
﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ * ﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾
قلت : اللام في ( ليُضلوا ) لام كي، متعلقة بآتيت محذوفة، أو بالمذكورة، ولفظ ( ربنا ) تكرار، أو تكون لام الأمر، فيكون دعاء عليهم بلفظ الأمر، بما علم من قرائن أحوالهم أنه لا يكون غيره. ﴿ فلا يؤمنوا ﴾ : جواب الدعاء أو عطف على ( ليضلوا ).
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأهُ زينةً ﴾ : ما يتزين به من الملابس والمراكب، ونحوها، ﴿ وأموالاً ﴾ : أنواعاً من المال ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ استدراجاً، ﴿ ربنا ﴾ آتيتهم ذلك ﴿ ليُضلوا عن سبيلك ﴾ طغياناً وبطراً بها، وصرفها في غير محلها، أو ربنا اجعلهم ضالين في سبيلك، كقول نوح عليه السلام :﴿ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً ﴾ [ نوح : ٢٤ ] لما أيس من إيمانهم، ﴿ ربنا اطمسْ على أموالهم ﴾ أي : أهلكها وامحقها، ﴿ واشْدُدْ على قلوبهم ﴾ بالقسوة، واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان، ﴿ فلا يؤمنوا حتى يَرَوا العذابَ الأليم ﴾ أي : إن تطمس على أموالهم وتشدد على قلوبهم لا يؤمنوا إلا قهراً.
وفي الآية دليل على جواز الدعاء على الظالم بالمعصية، أو الكفر، وقد فعله سعد بن أبي وقاص على الذي شهد فيه بالباطل، ووجْهُ جوازه مع استلزامه وقوع المعاصي : أنه لم يُعتبر من حيث تأديته إلى المعاصي، ولكن من حيث تأديته إلى نِكاية الظالم وعقوبته، وهذا كما قيل في تمني الشهادة أنه مشروع، وإن كان يؤدي إلى قتل الكافر للمسلم، وهو معصية ووهن في الدين، ولكن الغرض من تمنى الشهادة ثوابُها، لا نفسها.
وَلم تَقَعْ خَفِيفَةٌ بَعدَ الأَلفْ ***. . .
ويحتمل أن تكون نون الرفع، و " لا " نافية، أي : والأمر لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون.
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ * ﴿ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ * ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾
قلت :( فأتبعهم ) أي : تبعهم، يقال : تبع وأتبع لغتان.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحرَ ﴾ أي : جوزناهم في البحر يبساً ؛ حتى بلغوا الشط الآخر حافظين لهم. رُوي أن بني إسرائيل حين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف، وكان يعقوب عليه السلام قد دخل مصر في نيف وسبعين من ذريته، فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور.
﴿ فأتْبعهم ﴾ : فأدركهم ﴿ فرعونُ وجنودُه ﴾، رُوي أنهم كانوا ثمانمائة ألف أدهم، سوى ما يناسبها من أواسط الخيل. تبعهم ﴿ بغياً وعَدْواً ﴾ : باغين وعادين عليهم. مستمراً على بغيه ﴿ حتى إذا أدركه الغرق قال آمنتُ أنه ﴾ أي : بأنه ﴿ لا إله إلا الذي آمنتْ به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ﴾، فآمن حين لا ينفع الإيمان بمعانية الموت، ومن قال بصحة إيمانه فغلطٌ، كالحاتمي١ فإنه قال في الفصوص : إنه من الناجين، وذلك من جملة هفواته.
﴿ لتكونَ لمنَ خَلْفِكَ آيةً ﴾ : لمن وراءك علامة يعرفون أنك من الهالكين، والمراد : بنو إسرائيل ؛ إذ كان نفوسهم من عظمته ما خيّل إليهم أنه لا يهلك حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه، إلى أن عاينوه منطرحاً على ممرهم من الساحل، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك، فيكون ذلك عبرة ونكالاً للطغْيان، أوْ حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظيم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور، بعيد عن مظانِّ الربوبية، أو آية تدل على كمال قدرته وإحاطة علمه وحكمته، فإن إفراده بالإلقاء إلى الساحل دون غيره ؛ يفيد أنه مقصود لإزاحة الشك في أمره.
﴿ وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون ﴾ ؛ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، والإخبار بهذا الأخذ الذي وقع في قعر البحر من أعلام النبوة ؛ إذ لا يمكن أن يخبر بها إلا عَلاَّم الغيوب الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يخلو منه مكان. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيا إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾
قلت :( مُبوَّأ ) : ظرف بمعنى منزل.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولقد بوأنا ﴾ أي : أنزلنا ﴿ بني إسرائيل مُبَوَّأ صِدْقٍ ﴾ أي : منزل صدق، أي : منزلاً صالحاً مرضياً يصدق فيه ظن قاصده وساكنه، فما ظن فيه من الكمالات وجدها صدقاً وحقاً، والمراد به : الشام وقراها، ﴿ ورزقناهم من الطيبات ﴾ من اللذائذ، وكانوا متفقين على دينهم، وعلى ظهور دين الإسلام، ﴿ فما اختلفوا ﴾ في أمر دينهم ﴿ حتى جاءهم العلم ﴾ ؛ بأن قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها، ثم طغوا وعصوا، أو في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته، وتظاهر معجزاته، ﴿ إن ربك يقتضي بينهم يومَ القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾، فيميز المحقَّ من المبطل بالإنجاء والإهلاك.
الإشارة : قد يمد الله عباده بأنواع النعم، ثم يبعث لهم من يذكرهم بأيام الله، ويعرفهم به، فإذا اختلفوا عليه ظهر الشاكر من غيره، فيغير عليهم تلك النعم، فيوصل إليه أهل التصديق والاستماع والاتباع، ويبعد أهل الإنكار والابتداع. وبالله التوفيق.
﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فإن كنتَ ﴾ يا محمد ﴿ في شكٍ مما أنزلنا إليك فاسألِ الذين يقرؤون الكتاب من قَبلِكَ ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد به : من وقع له شك، فإن الملك إذا أراد أن يُعرض بأحد ؛ خاطب كبير القوم وهو يريد غيره، فهو كقول العامة : الكلام مع السارية وافهمي يا جارية.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو بعيد من الشك ؛ لأنه عين اليقين، وهو الذي علَّم الناس اليقين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت " لا أشُكُ وَلاَ أَسأَل " ١ والمراد بالذين يقرؤون الكتاب : من أسلم منهم، كعبد الله بن سلام وغيره، أو فإن كنت أيها المستمع في شك مما أنزلنا إليك على لسان فاسأل. . . الخ، وفيه تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها، بالرجوع إلى أهل اليقين إن كانت في التوحيد، أو إلى أهل العلم إن كانت في الفروع.
قال ابن عطية : الخواطر التي لا ينجو منها أحد، هي خلاف الشك الذي يحال فيه على الاستشفاء بالسؤال. ه. أي : فإنها معفوّ عنها.
ثم قال تعالى :﴿ لقد جاءك الحقُّ من ربك ﴾ واضحاً لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة ﴿ فلا تكوننَّ من الممتَرين ﴾ : الشاكِّين بالتزلزل على ما أنت عليه من الجزم واليقين، ﴿ ولا تكوننَّ من الذين كذَّبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ﴾، وهذا كله يجري على ما تقدم من أنه لكل سامع. وقال البيضاوي : هو من باب التهييج والتثبيت، وقطع الأطماع عنه، كقوله :﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ ﴾ [ القصص : ٨٦ ]. ه.
الإشارة : لا تنقطع عن العبد الأوهام والشكوك والخواطر، حتى يدخل مقام الإحسان، ويكاشف بمقام الشهود والعيان، بالغيبة عن حس الأكوان، بسطوع أنوار المعاني عند غيبة الأواني، ومن غاب عن حس نفسه غاب عنه حس جميع الأكوان ؛ وذلك بصحبة أهل العرفان، الذين سلكوا الطريق حتى أفضوا إلى عين التحقيق، فزاحت عنهم الشكوك والأوهام، وانحلت عنهم الشُّبَه، وزالت عن قلوبهم الأسقام، واطلعوا على تأويل المتشابه من القرآن، فبصحبة هؤلاء ترتفع الخواطر والشكوك، ويرتفع العبد إلى حضرة ملك الملوك، فجلوس ساعة مع هؤلاء تعدل عبادة سنين. وفي بعض الآثار :( تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين ) قلت : وقد مَنَّ الله علينا بمعرفتهم وصحبتهم، بعد أن تحققنا بخصوصيتهم، فللّه الحمد وله الشكر.
﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فإن كنتَ ﴾ يا محمد ﴿ في شكٍ مما أنزلنا إليك فاسألِ الذين يقرؤون الكتاب من قَبلِكَ ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد به : من وقع له شك، فإن الملك إذا أراد أن يُعرض بأحد ؛ خاطب كبير القوم وهو يريد غيره، فهو كقول العامة : الكلام مع السارية وافهمي يا جارية.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو بعيد من الشك ؛ لأنه عين اليقين، وهو الذي علَّم الناس اليقين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت " لا أشُكُ وَلاَ أَسأَل " ١ والمراد بالذين يقرؤون الكتاب : من أسلم منهم، كعبد الله بن سلام وغيره، أو فإن كنت أيها المستمع في شك مما أنزلنا إليك على لسان فاسأل... الخ، وفيه تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها، بالرجوع إلى أهل اليقين إن كانت في التوحيد، أو إلى أهل العلم إن كانت في الفروع.
قال ابن عطية : الخواطر التي لا ينجو منها أحد، هي خلاف الشك الذي يحال فيه على الاستشفاء بالسؤال. ه. أي : فإنها معفوّ عنها.
ثم قال تعالى :﴿ لقد جاءك الحقُّ من ربك ﴾ واضحاً لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة ﴿ فلا تكوننَّ من الممتَرين ﴾ : الشاكِّين بالتزلزل على ما أنت عليه من الجزم واليقين، ﴿ ولا تكوننَّ من الذين كذَّبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ﴾، وهذا كله يجري على ما تقدم من أنه لكل سامع. وقال البيضاوي : هو من باب التهييج والتثبيت، وقطع الأطماع عنه، كقوله :﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ ﴾ [ القصص : ٨٦ ]. ه.
الإشارة : لا تنقطع عن العبد الأوهام والشكوك والخواطر، حتى يدخل مقام الإحسان، ويكاشف بمقام الشهود والعيان، بالغيبة عن حس الأكوان، بسطوع أنوار المعاني عند غيبة الأواني، ومن غاب عن حس نفسه غاب عنه حس جميع الأكوان ؛ وذلك بصحبة أهل العرفان، الذين سلكوا الطريق حتى أفضوا إلى عين التحقيق، فزاحت عنهم الشكوك والأوهام، وانحلت عنهم الشُّبَه، وزالت عن قلوبهم الأسقام، واطلعوا على تأويل المتشابه من القرآن، فبصحبة هؤلاء ترتفع الخواطر والشكوك، ويرتفع العبد إلى حضرة ملك الملوك، فجلوس ساعة مع هؤلاء تعدل عبادة سنين. وفي بعض الآثار :( تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين ) قلت : وقد مَنَّ الله علينا بمعرفتهم وصحبتهم، بعد أن تحققنا بخصوصيتهم، فللّه الحمد وله الشكر.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ * ﴿ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إن الذين حقتْ ﴾ أي : ثبتت ﴿ عليهم كلمة ربك ﴾ بأنهم لا يؤمنون، أو بأنهم مخلدون في العذاب ﴿ لا يؤمنون ﴾ أبداً ؛ إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.
﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾
قلت :( فلولا ) : تحضيضية، و( إلا قوم يونس ) : استثناء منقطع، ويجوز الاتصال ؛ فيكون الاستثناء من معنى النفي الذي تضمَّنَهُ حرف التحضيض ؛ لأن المراد بالقُرى : أهلها، كأنه قال : ما آمن أهل قرية من القرى الماضية فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، ويؤيده قراءةُ الرفع. و " يونس " : عجمي مثلث النون.
يقول الحق جل جلاله :﴿ فلولا كانت ﴾ هلاَّ وُجدت :﴿ قريةٌ ﴾ من القرى التي أهلكناها ﴿ آمنتْ ﴾ قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر الإيمان إلى نزوله كما فعل فرعون، ﴿ فَنَفَعَها ﴾ حينئذٍ ﴿ إيمانُها ﴾ بأن يقبله الله منها ؛ فيكشف عنها العذاب، ﴿ إِلا ﴾ لكن ﴿ قومَ يونسَ لما آمنوا كشفنا عنهم عذابَ الخزي في الحياة الدنيا ﴾، فرفعنا عنهم العذاب حين آمنوا بعد أن ظهرت مخايله، فنجوا ﴿ ومتعناهم إلى حين ﴾ : إلى تمام آجالهم.
رُوي أن يونس عليه السلام بُعث إلى أهل نينوى من الموصل، فكذبوه وأصروا على تكذيبه، فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث، فلما دنا الموعد وأغامت السماء غيماً أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا، فطلبوا يونس فلم يجدوا فأيقنوا صدقه، فلبسوا المُسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم، ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها، فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والضجيج، وأخلصوا التوبة والإيمان، وتضرعوا إلى الله تعالى، فرحمهم وكشف العذاب عنهم، وكان يوم عاشوراء ويوم الجمعة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي للعبد أن يعتني بتربية إيمانه وتقوية إيقانه قبل فوات إبّانه، وهو انصرام أجله. وتربيته تكون بصحبة أهل اليقين، فإن لم يعثر بهم فبمطالعة كتبهم، والوقوف على أخبارهم ومناقبهم، مع دوام التفكر والاعتبار، والإكثار من الطاعة والخضوع والافتقار، والتمسك بالذل والانكسار، قال تعالى في بعض الأخبار :" أنا عند المنكسرة قلوبُهم من أَجلِي " وبالله التوفيق.
﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولو شاء ربُّك ﴾ هداية الخلق كلهم ﴿ لآمن من في الأرض كلُّهُم جميعاً ﴾ بحيث لا يتخلف عنه أحد، لكن حكمته اقتضت وجود الخلاف، فمن رام اتفاقهم على الإيمان فقد رام المحال، ولذلك قال :﴿ أفأنت تُكرهُ الناسَ ﴾ بالقهر على ما لم يشأ الله منهم ﴿ حتى يكونوا مؤمنين ﴾ كلهم.
قال البيضاوي : وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء، وإيلاؤها حرف الاستفهام الإنكاري، وتقديم الضمير على الفعل، للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه فضلاً عن الحث والتحريض عليه، إذ روي أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على إيمان قومه، شديد الاهتمام به، فنزلت، ولذلك قرره بقولة :﴿ وما كان لنفسٍ أن تُؤمن إلا بإذن الله ﴾.
﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ * ﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
قلت :( ماذا ) إن كانت استفهامية علقت ( انظروا ) عن العمل، وإن كانت موصولة فمفعول به، و( ما تغني الآيات ) : يحتمل الاستفهام في محل نصب بتُغني، أو النفي. ( ثم ننجي ) معطوف على محذوف دل عليه :( إلا مثل أيام ) أي : فكانت عادتنا معهم أن نهلك المكذبين، ثم ننجي رسلنا ومن آمن معهم، و " كذلك " مصدر معمول لننجي، و( حقاً ) اعتراض بينهما، وهو مصدر لفعل محذوف، أي : مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين يحق ذلك حقاً، وعلى هذا يوقف على :( الذين آمنوا )، ثم يُبْتدأ بقوله :( كذلك حقاً... ) الخ. وقيل : خبر عن ( الذين آمنوا ) أي : والذين آمنوا مثلهم في الإنجاء، وهو ضعيف.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل ﴾ للمشركين الذين طلبوا منك الآية :﴿ انظروا ماذا في السماوات والأرضِِ ﴾ من الآيات والعِبَر، وعجائب الصنع ليدلكم على وحدانية الله تعالى، وكمال قدرته، ثم بيَّن أن الآيات لا تفيد من سبق عليه الشقاء، فقال :﴿ وما تُغني الآياتُ والنُّذُرُ عن قوم لا يؤمنون ﴾ في علم الله وحُكمه.
ولُطفُ الأَواني ـ في الحقيقة ـ تَابعٌ | لِلُطْفِ المَعَانِي، والمَعَانِي بِها تَسْمُو |
هُم الرِّجالُ وغَبْنٌ أن يُقال لِمَن | لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَانِي وَصْفِهِم رَجُلُ |
ومن سبق له في العلم القديم الخذلان لا يخرج عن دائرة الأكوان، فلا يؤمن بوجود أهل الشهود والعيان، فما ينتظر مثل هذا إلا ما نزل بأمثالهِ، من هجوم الحِِمام قبل خروجه من سجن الأجرام، فإنه لا ينجو من سجن الأكوان إلا من صحب أهل العرفان، الذين أفضوا إلى فضاء الشهود والعيان وقليل ما هم.
ثم هددهم بالهلاك فقال :﴿ هل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ﴾ أي : مثل وقائعهم ونزول العذاب بهم ؛ إذ لا يستحق غيره، فهو من قولهم : أيام العرب، لوقائعها.
﴿ قل ﴾ لهم :﴿ فانتظروا ﴾ هلاككم ﴿ إني معكم من المنتظِرِين ﴾ لذلك، أو فانتظروا هلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم.
ولُطفُ الأَواني ـ في الحقيقة ـ تَابعٌ | لِلُطْفِ المَعَانِي، والمَعَانِي بِها تَسْمُو |
هُم الرِّجالُ وغَبْنٌ أن يُقال لِمَن | لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَانِي وَصْفِهِم رَجُلُ |
ومن سبق له في العلم القديم الخذلان لا يخرج عن دائرة الأكوان، فلا يؤمن بوجود أهل الشهود والعيان، فما ينتظر مثل هذا إلا ما نزل بأمثالهِ، من هجوم الحِِمام قبل خروجه من سجن الأجرام، فإنه لا ينجو من سجن الأكوان إلا من صحب أهل العرفان، الذين أفضوا إلى فضاء الشهود والعيان وقليل ما هم.
﴿ ثم نُنَجِّي رُسُلَنا ﴾ أي : عادتنا أن ننجي رسلنا ﴿ والذين آمنوا ﴾ معهم من ذلك الهلاك، ﴿ كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين ﴾ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نُهلك المجرمين ؛ حقاً واجباً علينا كما هي عادتنا مع من تحبب إلينا بالإيمان والطاعة.
ولُطفُ الأَواني ـ في الحقيقة ـ تَابعٌ | لِلُطْفِ المَعَانِي، والمَعَانِي بِها تَسْمُو |
هُم الرِّجالُ وغَبْنٌ أن يُقال لِمَن | لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَانِي وَصْفِهِم رَجُلُ |
ومن سبق له في العلم القديم الخذلان لا يخرج عن دائرة الأكوان، فلا يؤمن بوجود أهل الشهود والعيان، فما ينتظر مثل هذا إلا ما نزل بأمثالهِ، من هجوم الحِِمام قبل خروجه من سجن الأجرام، فإنه لا ينجو من سجن الأكوان إلا من صحب أهل العرفان، الذين أفضوا إلى فضاء الشهود والعيان وقليل ما هم.
﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
قلت :( وأن أقم ) : عطف على ( أن أكون ) وإن كان بصيغة الأمر ؛ لأنَّ الغرض وصل " أن " بما يتضمن معنى المصدر يدل معه عليه، وصِيغ الأفعال كلها كذلك، سواء الخبر منها والطلب، والمعنى، وأمرت بالإيمان والاستقامة.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قلْ ﴾ يا محمد لأهل مكة أو لجميع الناس :﴿ يا أيها الناسُ إن كنتم في شكٍ من ديني ﴾ ؛ بأن شككتم في صحته حتى عبدتم غير الله، ﴿ فلا أعبدُ الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبدُ الله الذي يتوفاكم ﴾ فهذا خلاصة ديني اعتقاداً وعملاً، فاعرضوها على العقل السليم، وانظروا فيها بعين الإنصاف، لتعلموا صحتها، وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم، الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفي بالذكر لأنه أليق بالتهديد، انظر البيضاوي. ﴿ وأمرت أن أكون من المؤمنين ﴾ بالله وحده، الذي دل عليه العقل ونطق به الوحي.
تَرَكتُ للِنَّاسِ دُنْياهُمْ ودِينَهم | شُغْلاً بِذِكرِكَ يا دِيني ودُنيَائِي |
وقال آخر :
تَرَكتُ لِلنَّاس مَا تَهوَى نُفُوسُهُم | مِن حُبِّ دُنيَا وَمِن عِزٍّ وَمِن جَاهِ |
كَذاكَ تَرْكُ المَقَامَاتِ هُنَا وهُنَا | والقَصْدُ غَيْبَتُنا عَمَّا سِوَى اللَّهِ |
قال بعضهم : من اعتمد على غير الله فهو في غرور ؛ لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، عطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. هـ.
وقال وهب بن منبّه : أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي، أعلم ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات من يده، وأسخطتُّ الأرض من تحته ولا أُبالي في أي وادٍ هلك. هـ.
وقال بعضهم : قرأت في بعض الكتب : أن الله عز وجل يقول :[ وعزتي وجلالي، وجودي وكرمي، وارتفاعي فوق عرشي في عُلو مكاني، لأقطعن آمال كل مؤمّل لغيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة بين الناس، ولأنحينَّه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمِّل غيري في النوائب، والشدائدُ بيدي، وأنا الحي، ويُرجى غيري ويقرع بالكفر باب غيري، وبيدي مفاتح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، ومن ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به دونها ؟ ومن ذا الذي رجاني بعظيم جرمه فقطعت رجاءه مني ؟ ومن ذا الذي قرع بابي فلم أفتح له ؟ جَعلت آمال خلقي بيني وبينهم متصلة، فقطعت بغيري، وجعلت رجاءهم مدخُوراً لهم عندي، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي بمن لا يملُّون تسبيحي من ملائكتي، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقَتْه نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدٌ غيري ؟ فما لي أراه بآماله مُعرضاً عني ؟ وما لي أراه لاهياً إلى سواي، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته منه فلم يسألني رده. وسأل غيري، أفتراني أبداً بالعطية قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي ؟ أبخيل أنا فيبخلني خلقي ؟ أليس الدنيا والآخرة لي ؟ أوَليس الفضل والرحمة بيدي ؟ أوليس الجود والكرم لي ؟ أوَليس أنا محل الآمال ؟ فمن ذا الذي يقطعها دوني ؟ وما عسى أن يؤمل المؤملون لو قُلت لأهل سمواتي وأهل أرضي : أمِّلوني، ثم أعطيتُ كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع، ما انتقص ذلك من ملكي عضو ذرَّة، وكيف ينقص ملك كامل أنا فيه ؟. فيا بؤس القانطين من رحمتي، ويا بؤسَ من عصاني ولم يراقبني، وثَبَ على محارمي ولم يَسْتَحِ منٍّي ".
﴿ وأنْ أقِمْ وجهَكَ للدين حنيفاً ﴾ ؛ مائلاً عن الأديان الفاسدة، أي : أمرت بالاستقامة بذاتي كلها في الدين والتوغل فيه، بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، أو : أن أقيم وجهي في الصلاة باستقبال القبلة. وقيل لي :﴿ ولا تكوننَّ من المشركين ﴾ بالله في شيء.
تَرَكتُ للِنَّاسِ دُنْياهُمْ ودِينَهم | شُغْلاً بِذِكرِكَ يا دِيني ودُنيَائِي |
وقال آخر :
تَرَكتُ لِلنَّاس مَا تَهوَى نُفُوسُهُم | مِن حُبِّ دُنيَا وَمِن عِزٍّ وَمِن جَاهِ |
كَذاكَ تَرْكُ المَقَامَاتِ هُنَا وهُنَا | والقَصْدُ غَيْبَتُنا عَمَّا سِوَى اللَّهِ |
قال بعضهم : من اعتمد على غير الله فهو في غرور ؛ لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، عطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. هـ.
وقال وهب بن منبّه : أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي، أعلم ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات من يده، وأسخطتُّ الأرض من تحته ولا أُبالي في أي وادٍ هلك. هـ.
وقال بعضهم : قرأت في بعض الكتب : أن الله عز وجل يقول :[ وعزتي وجلالي، وجودي وكرمي، وارتفاعي فوق عرشي في عُلو مكاني، لأقطعن آمال كل مؤمّل لغيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة بين الناس، ولأنحينَّه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمِّل غيري في النوائب، والشدائدُ بيدي، وأنا الحي، ويُرجى غيري ويقرع بالكفر باب غيري، وبيدي مفاتح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، ومن ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به دونها ؟ ومن ذا الذي رجاني بعظيم جرمه فقطعت رجاءه مني ؟ ومن ذا الذي قرع بابي فلم أفتح له ؟ جَعلت آمال خلقي بيني وبينهم متصلة، فقطعت بغيري، وجعلت رجاءهم مدخُوراً لهم عندي، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي بمن لا يملُّون تسبيحي من ملائكتي، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقَتْه نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدٌ غيري ؟ فما لي أراه بآماله مُعرضاً عني ؟ وما لي أراه لاهياً إلى سواي، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته منه فلم يسألني رده. وسأل غيري، أفتراني أبداً بالعطية قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي ؟ أبخيل أنا فيبخلني خلقي ؟ أليس الدنيا والآخرة لي ؟ أوَليس الفضل والرحمة بيدي ؟ أوليس الجود والكرم لي ؟ أوَليس أنا محل الآمال ؟ فمن ذا الذي يقطعها دوني ؟ وما عسى أن يؤمل المؤملون لو قُلت لأهل سمواتي وأهل أرضي : أمِّلوني، ثم أعطيتُ كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع، ما انتقص ذلك من ملكي عضو ذرَّة، وكيف ينقص ملك كامل أنا فيه ؟. فيا بؤس القانطين من رحمتي، ويا بؤسَ من عصاني ولم يراقبني، وثَبَ على محارمي ولم يَسْتَحِ منٍّي ".
تَرَكتُ للِنَّاسِ دُنْياهُمْ ودِينَهم | شُغْلاً بِذِكرِكَ يا دِيني ودُنيَائِي |
وقال آخر :
تَرَكتُ لِلنَّاس مَا تَهوَى نُفُوسُهُم | مِن حُبِّ دُنيَا وَمِن عِزٍّ وَمِن جَاهِ |
كَذاكَ تَرْكُ المَقَامَاتِ هُنَا وهُنَا | والقَصْدُ غَيْبَتُنا عَمَّا سِوَى اللَّهِ |
قال بعضهم : من اعتمد على غير الله فهو في غرور ؛ لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، عطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. هـ.
وقال وهب بن منبّه : أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي، أعلم ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات من يده، وأسخطتُّ الأرض من تحته ولا أُبالي في أي وادٍ هلك. هـ.
وقال بعضهم : قرأت في بعض الكتب : أن الله عز وجل يقول :[ وعزتي وجلالي، وجودي وكرمي، وارتفاعي فوق عرشي في عُلو مكاني، لأقطعن آمال كل مؤمّل لغيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة بين الناس، ولأنحينَّه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمِّل غيري في النوائب، والشدائدُ بيدي، وأنا الحي، ويُرجى غيري ويقرع بالكفر باب غيري، وبيدي مفاتح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، ومن ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به دونها ؟ ومن ذا الذي رجاني بعظيم جرمه فقطعت رجاءه مني ؟ ومن ذا الذي قرع بابي فلم أفتح له ؟ جَعلت آمال خلقي بيني وبينهم متصلة، فقطعت بغيري، وجعلت رجاءهم مدخُوراً لهم عندي، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي بمن لا يملُّون تسبيحي من ملائكتي، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقَتْه نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدٌ غيري ؟ فما لي أراه بآماله مُعرضاً عني ؟ وما لي أراه لاهياً إلى سواي، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته منه فلم يسألني رده. وسأل غيري، أفتراني أبداً بالعطية قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي ؟ أبخيل أنا فيبخلني خلقي ؟ أليس الدنيا والآخرة لي ؟ أوَليس الفضل والرحمة بيدي ؟ أوليس الجود والكرم لي ؟ أوَليس أنا محل الآمال ؟ فمن ذا الذي يقطعها دوني ؟ وما عسى أن يؤمل المؤملون لو قُلت لأهل سمواتي وأهل أرضي : أمِّلوني، ثم أعطيتُ كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع، ما انتقص ذلك من ملكي عضو ذرَّة، وكيف ينقص ملك كامل أنا فيه ؟. فيا بؤس القانطين من رحمتي، ويا بؤسَ من عصاني ولم يراقبني، وثَبَ على محارمي ولم يَسْتَحِ منٍّي ".
قال البيضاوي : ولعله ذكر الإرادة مع الخير، والمس مع الضر، مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا لاستحقاق لهم عليه، ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده. ه.
﴿ يصيب به ﴾ بذلك الخير ﴿ من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ﴾، فتعرّضوا لخيره بالتضرع والسؤال، ولا يمنعكم من ذلك ما اقترفتم من العصيان والزلل، فإنه غفور رحيم.
تَرَكتُ للِنَّاسِ دُنْياهُمْ ودِينَهم | شُغْلاً بِذِكرِكَ يا دِيني ودُنيَائِي |
وقال آخر :
تَرَكتُ لِلنَّاس مَا تَهوَى نُفُوسُهُم | مِن حُبِّ دُنيَا وَمِن عِزٍّ وَمِن جَاهِ |
كَذاكَ تَرْكُ المَقَامَاتِ هُنَا وهُنَا | والقَصْدُ غَيْبَتُنا عَمَّا سِوَى اللَّهِ |
قال بعضهم : من اعتمد على غير الله فهو في غرور ؛ لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، عطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. هـ.
وقال وهب بن منبّه : أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي، أعلم ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات من يده، وأسخطتُّ الأرض من تحته ولا أُبالي في أي وادٍ هلك. هـ.
وقال بعضهم : قرأت في بعض الكتب : أن الله عز وجل يقول :[ وعزتي وجلالي، وجودي وكرمي، وارتفاعي فوق عرشي في عُلو مكاني، لأقطعن آمال كل مؤمّل لغيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة بين الناس، ولأنحينَّه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمِّل غيري في النوائب، والشدائدُ بيدي، وأنا الحي، ويُرجى غيري ويقرع بالكفر باب غيري، وبيدي مفاتح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، ومن ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به دونها ؟ ومن ذا الذي رجاني بعظيم جرمه فقطعت رجاءه مني ؟ ومن ذا الذي قرع بابي فلم أفتح له ؟ جَعلت آمال خلقي بيني وبينهم متصلة، فقطعت بغيري، وجعلت رجاءهم مدخُوراً لهم عندي، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي بمن لا يملُّون تسبيحي من ملائكتي، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقَتْه نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدٌ غيري ؟ فما لي أراه بآماله مُعرضاً عني ؟ وما لي أراه لاهياً إلى سواي، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته منه فلم يسألني رده. وسأل غيري، أفتراني أبداً بالعطية قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي ؟ أبخيل أنا فيبخلني خلقي ؟ أليس الدنيا والآخرة لي ؟ أوَليس الفضل والرحمة بيدي ؟ أوليس الجود والكرم لي ؟ أوَليس أنا محل الآمال ؟ فمن ذا الذي يقطعها دوني ؟ وما عسى أن يؤمل المؤملون لو قُلت لأهل سمواتي وأهل أرضي : أمِّلوني، ثم أعطيتُ كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع، ما انتقص ذلك من ملكي عضو ذرَّة، وكيف ينقص ملك كامل أنا فيه ؟. فيا بؤس القانطين من رحمتي، ويا بؤسَ من عصاني ولم يراقبني، وثَبَ على محارمي ولم يَسْتَحِ منٍّي ".
﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ * ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ﴾ الرسول أو القرآن، ﴿ فمن اهتدى ﴾ بالإيمان والمتابعة ﴿ فإنما يهتدي لنفسه ﴾ ؛ لأن نفعه لها، ﴿ ومن ضلَّ فإنما يضل عليها ﴾ ؛ لأن وبال الضلال عليها، ﴿ وما أنا عليكم بوكيل ﴾ أي : موكلٌ عليكم، فأقهركم على الإيمان، وإنما أنا بشير نذير. وهو منسوخ بآية السيف.