سورة الزمر مكية، نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة، بعد الإسراء وقبيل الهجرة، وآياتها ٧٥ آية.
نزلت بعد سورة سبأ، وقد سميت سورة الزمر بذلك الاسم لقوله تعالى في آخرها :﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا... ﴾ ( الزمر : ٧١ )، وقوله تعالى :﴿ وسيق الذي اتقوا إلى الجنة زمرا... ﴾ ( الزمر ٧٣ ).
وللسورة اسمان : سورة الزمر، وسورة الغرف، لقوله تعالى :﴿ لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف... ﴾ ( الزمر : ٢٠ ).
أدلة التوحيد
سورة الزمر تهز القلب هزّا، وتسكب فيه مؤثرات الإيمان بالله، وتستعرض أمامه أدلة القدرة الإلهية، والجزاء العادل في الدنيا والآخرة، وتفتح باب الرجاء الآمل في رحمة الله ورضوانه، ومن آياتها الشهيرة قوله تعالى :﴿ قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ﴾. ( الزمر : ٥٣ ).
ومنذ افتتاح السورة إلى نهايتها وهي تؤكد على قضية التوحيد الخالص، ففي مطلع السورة :﴿ ألا لله الدين الخالص... ﴾ ( الزمر : ٣ ).
وفي خلال السورة نجد لمسات متوالية للقلوب والأفئدة، تعرض عليها أدلة القدرة ومشاهد الكون، وخلق الليل والنهار، وإنزال المطر وإنبات النبات، وبدء الخليقة، ومراحل خلق الجنين، وطبيعة النفس في اللجوء إلى الله في الضراء، والإعراض عنه في السراء، من أن يموت قائم على رءوس العباد.
ظل الآخرة
مشاهد الآخرة تظلل السورة وتسيطر على ختامها، حيث نجد الملائكة حافين من حول العرش، ونرى المؤمنين يساقون إلى الجنة أفواجا وجماعات في تكريم إلهي، وسلام ونعيم في الخلود، ونرى الكفار يساقون إلى جهنم زمرا في مهانة وإذلال.
" وظل الآخرة في السورة يتناسق مع جوها، وأهداف اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها، فهذه اللمسات أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش، ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشة وانتفاضة وخشية، نجد هذا في صورة القانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، وفي صورة الذين يخشون ربهم، حيث تقشعر جلودهم لهذا القرآن، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، كما نجده في التوجيه إلى التقوى، والخوف من العذاب والتخفيف منه، ثم نجده في مشاهد القيامة، وما فيها من فزع ومن خشية، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع " ١.
فقرات السورة
١- التوحيد الخالص :
في الآيات الأولى من السورة حث على إخلاص العبادة لله، ثم نهى عن اتخاذ الأنداد والأولياء، ثم نجد القرآن يلمس القلوب فيبين قدرة الله في خلق الناس من نفس واحدة، وتزويجها من جنسها، وخلق الأنعام أزواجا كذلك، وخلقهم في بطون أمهاتهم في ظلمات ثلاث، ومنحهم خصائص جنسهم البشري أول مرة، ثم منحهم خصائص البقاء والارتقاء، وقد استغرقت هذه الفقرة الآيات من ( ١-٧ )
٢- أنواع الإنسان وحالته :
في الفقرة الثانية نجد أن الآيات من ( ٨-٢٠ ) قد لمست القلوب لمسة أخرى، وهي تعرض على الناس صورتهم في الضراء وصورتهم في السراء، وتريهم تقلبهم وضعفهم وقلة ثباتهم على نهج إلا حين يتصلون بربهم ويتطلعون إليه، ويقنتون له، فيعرفون الطريق، ويعلمون الحقيقة وينتفعون بما وهبهم الله من خصائص الإنسان.
ثم وجهت الآيات النبي صلى الله عليه وسلم إلى إعلان كلمة التوحيد الخالصة، وإعلان خوفه من معصية الله، وإعلان تصميمه على منهجه وطريقه وتركهم هم إلى منهجهم وطريقهم، وبيان عاقبة هذا الطريق وذلك يوم يكون الحساب.
٣ -مظاهر القدرة :
في الآيات من ( ٢١-٣٥ ) لفتة إلى حياة النبات في الأرض عقب إنزال الماء من السماء، ثم نهاية النبات في فترة وجيزة، وكذلك شأن الدنيا، ثم تشير الآيات إلى الكتاب المنزل من السماء كذلك لتحيا به القلوب، وتنشرح له الصدور، مع تصوير لعاقبة المستجيبين لذكر الله، والقاسية قلوبهم من ذكر الله.
ثم تضرب الآيات مثالا لمن يعبد إلها واحدا، ومن يعبد آلهة متعددة، وهما لا يستويان مثلا، ولا يتفقان حالا، كما لا يستوي العبد الذي يملكه سادة متنازعون، والعبد الذي يعمل لسيد واحد لا يتنازعه أحد فيه.
ثم تضيع حقيقة واقعة، وهي تعرض الناس جميعا للموت والفناء، الرسول والمرسل إليهم، وسيتنوع الجزاء يوم القيامة، فيُجازي الكافرين في جهنم، ويُجازي الصادقون المصدقون جزاء المحسنين.
٤- نقاش متنوع :
في الآيات من ( ٣٦-٦١ ) نلمس قدرة القرآن الفائقة على إقامة الحجة وإقناع الإنسان، وأخذ السبيل على البشرية حتى لا تجد بدا من الإذعان والانقياد، وقد تناولت هذه الفقرة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة، تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن، وموقفه إزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة، واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة، ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية، ويكل أمره وأمر المجادلين له إلى يوم القيامة، ويمضي في طريقه ثابتا واثقا مستقيما.
يتلوا هذا بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ليس وكيلا على العباد في هداهم وضلالهم، إنما الله هو المسيطر عليهم، الآخذ بناصيتهم في كل حالة من حالتهم، وليس لهم من دونه شفيع فإن الشفاعة لله جميعا، وإليه ملك السماوات والأرض وإليه المرجع والمصير.
ثم تتعرض الآيات لوصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد، وانبساطها عند ذكر كلمة الشرك، وتعقب على هذا بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إعلان كلمة التوحيد خالصة وترك أمور المشركين لله، وتُصوِّرهم يوم القيامة يودون لو يفتدون بملء الأرض ومثله معه، وقد تكشفت لهم من الله ما يذهل ويخيف !
وتعرض الآيات موقف الإنسان من حال الهلع والجزع، ثم في حال النعمة والرخاء، فهو إذا أصابه الضر دعا الله وحده، فإذا وهبه الله النعم والرخاء ادعى دعاوى عريضة، وقال : إنما أوتيته على علم عندي، هذه الكلمة التي قالها من سبق من المتبطرين والمتكبرين فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وهو قادر على أن يبطش بكل جبار عنيد، وما كان بسط الرزق وقبضه إلا سنة من سنن الله تجري وفق حكمته وتقديره، وهو وحده الباسط القابض بيده الخلق والأمر.
ثم فتح الله أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة، ودعا العصاة إلى الإنابة والاستقامة، وإتباع منهج الحق والعدل من قبل أن يأتي يوم الحساب فتندم كل نفس ظالمة، وتتمنى أن تعود إلى الدنيا لتستدرك ما فاتها، وفي هذا اليوم تظهر الكآبة في وجوه الكافرين، ويظهر الفوز والسرور في وجوه المؤمنين.
١- الله مستحق للعبادة دون سواه.
تعرض الآيات الأخيرة في السورة من ( ٦٢-٧٥ ) ألوان قدرة الله وجلاله وتفرده بالملك والتصرف في كل شيء، وإذا تبينت لنا آثار هذه القدرة ظهرت أمامنا دعوة المشركين للنبي إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يشاركوه عبادة إلهه، مستغربة مستنكرة، فكيف يعبد معه سبحانه غيره، وله وحده مقاليد السماوات والأرض ؟ ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾، وهم يشركون به، وهو وحده المعبود القادر القاهر. ﴿ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ﴾. فهي في تصرفه وملكه كما يتصرف الإنسان فيما هو داخل قبضته. ﴿ والسماوات مطويات بيمينه... ﴾ ( الزمر : ٦٧ ).
وستطوى هذه السماوات وتبدل بقدرة الله، وبمناسبة تصوير هذه الحقيقة على هذا النحو يوم القيامة يعرض مشهدا فريدا من مشاهد القيامة، ينتهي بموقف الملائكة حافين من حول العرش، يسحبون بحمد ربهم. ﴿ وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ﴾. ( الزمر : ٧٥ ).
****
سورة الزمر
سورة مكية، نزلت في الفقرة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة، أي بعد الإسراء وقبل الهجرة، وقد نزلت تهزّ القلب هزّا، وتقدم أدلة التوحيد، وتأخذ بيد الإنسان إلى التوبة والإنابة، وتفتح أبواب التوبة على مصاريعها، وتحذّر من الإصرار على الذنوب إلى أن يأتي الموت، ويتمنى الإنسان العودة إلى الدنيا، ليستدرك ما فاته فلا يستجاب له، ثم تعرض في نهاية السورة مشاهد القيامة، وتقدم المتقين إلى الجنة، وحمدهم لله رب العالمين.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ( ١ )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ( ٢ ) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ( ٣ ) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار ( ٤ ) ﴾المفردات :
الكتاب : القرآن، ﴿ تنزيل الكتاب ﴾ : مبتدأ، ﴿ من الله ﴾ : خبر.
العزيز الحكيم : العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه.
تمهيد :
بدأ الله عددا من السور بما يفيد أنه سبحانه الذي أنزل الكتاب بالحق، وأتبع ذلك بذكر صفات الله سبحانه.
ففي سورة يس :﴿ تنزيل العزيز الرحيم ﴾ ( يس : ٥ ).
وفي هذه السورة :﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الزمر : ١ )
وفي أول سورة فصلت :﴿ حم * تنزيل من الرحمن الرحيم ﴾. ( فصلت : ١، ٢ )
وفي أول سورة الجاثية :﴿ حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الجاثية : ١، ٢ )
وفي أول سورة الأحقاف :﴿ ح * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الأحقاف : ١، ٢ ).
وهذه البدايات تؤكد تنزيل القرآن من عند الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واتصاف الله بصفات العزّة والحكمة والرحمة، أي أنه سبحانه قوي غالب حكيم رحيم، فهو أهل للألوهية، وأهل لأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى.
التفسير :
١- ﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾.
بهذه البداية البليغة بدأ الله تعالى سورة الزُّمر، والزُّمَر جمع زمرة وهي الفوج المتبوع بفوج آخر، فما أعظم الوحي والتنزيل الذي نزل به جبريل على النبي الأمين، من الله العزيز الغالب الحكيم، في أفعاله وتصرفاته، ومن ذلك اختياره محمدا صلى الله عليه وسلم لتبليغ رسالته للناس أجمعين.
بدأ الله عددا من السور بما يفيد أنه سبحانه الذي أنزل الكتاب بالحق، وأتبع ذلك بذكر صفات الله سبحانه.
ففي سورة يس :﴿ تنزيل العزيز الرحيم ﴾ ( يس : ٥ ).
وفي هذه السورة :﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الزمر : ١ )
وفي أول سورة فصلت :﴿ حم * تنزيل من الرحمن الرحيم ﴾. ( فصلت : ١، ٢ )
وفي أول سورة الجاثية :﴿ حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الجاثية : ١، ٢ )
وفي أول سورة الأحقاف :﴿ ح * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الأحقاف : ١، ٢ ).
وهذه البدايات تؤكد تنزيل القرآن من عند الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واتصاف الله بصفات العزّة والحكمة والرحمة، أي أنه سبحانه قوي غالب حكيم رحيم، فهو أهل للألوهية، وأهل لأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى.
المفردات :
مخلصا له الدين : مفردا بالعبادة فلا تشرك بعبادته أحدا.
التفسير :
٢- ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ﴾.
الله تعالى يخبر نبيّه صلى الله عليه وسلم ويخبر النّاس أجمعين من خلاله، أنه سبحانه الذي أنزل الكتاب على رسوله بالحق والصدق، مشتملا على شرائع الإسلام وعباداته ومعاملاته، وهي شرائع نافعة مفيدة، ما تمسكت بها أمة إلا صعدت إلى مدارج العلياء، وما حادت عنها أمة إلا هوت إلى الحضيض، وقد أمر الله رسوله بإخلاص العبادة لله وحده، وتجريد العبادة عن كل شريك، وإخلاص النية لله سبحانه، فهو أغنى الأغنياء عن الشرك.
وفي الحديث القدسي : " من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه " ١.
وقد كان العرب يتخذون أصناما على شكل تماثيل للملائكة والأنبياء والصالحين، ويدّعون أن الله أعظم وأكبر من أن يتجهوا إليه بالعبادة مباشرة، فهو يتقربون إلى تماثيل الأولياء والصالحين، رجاء أن يشفعوا لهم عند الله، وأن يكونوا وسطاء عند الله في تقريبهم إليه، ولذلك تكررت آيات القرآن في نفي الشفاعة عن هذه الأصنام، وبيان أن الله واحد أحد لا شريك له، وأن أحدا من الأصنام والأوثان لا يشفع عند الله إلا بإذنه، وهو سبحانه يحبط بهذه المعبودات، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن ملكه يشمل السماوات والأرض، وسهل هين يسير عليه حفظ الكون كله، فهو قريب من عباده، ولا يحتاج إلى واسطة أو شريك، نجد ذلك واضحا في آية الكرسي :﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ﴾. ( البقرة : ٢٥٥ ).
وروى الحسن، عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله، إني أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده، لا يقبل الله شيئا شورك فيه " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ ألا لله الدين الخالص... ﴾.
رواه مسلم في الزهد (٢٩٨٥) وابن ماجة في الزهد (٤٢٠٢) وأحمد في مسنده (٩٣٣٦) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"..
بدأ الله عددا من السور بما يفيد أنه سبحانه الذي أنزل الكتاب بالحق، وأتبع ذلك بذكر صفات الله سبحانه.
ففي سورة يس :﴿ تنزيل العزيز الرحيم ﴾ ( يس : ٥ ).
وفي هذه السورة :﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الزمر : ١ )
وفي أول سورة فصلت :﴿ حم * تنزيل من الرحمن الرحيم ﴾. ( فصلت : ١، ٢ )
وفي أول سورة الجاثية :﴿ حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الجاثية : ١، ٢ )
وفي أول سورة الأحقاف :﴿ ح * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الأحقاف : ١، ٢ ).
وهذه البدايات تؤكد تنزيل القرآن من عند الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واتصاف الله بصفات العزّة والحكمة والرحمة، أي أنه سبحانه قوي غالب حكيم رحيم، فهو أهل للألوهية، وأهل لأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى.
المفردات :
ألا لله الدين الخالص : العبادة الخالصة.
أولياء : شركاء، وهي الأصنام.
زلفى : قربى ومنزلة، وتشفع لنا عند الله.
كاذب كفار : كاذب على الله، كفار بعبادته غير الله.
التفسير :
٣- ﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ﴾.
الدين الخالص والعبادة الخالصة التي لا تشوبها شائبة شرك، هي العبادة المقبولة عند الله تعالى، وأما من اتخذ الأصنام والأوثان، وعبدوا الملائكة والجنّ، والشجر والبقر، والنجوم والكواكب والشمس والقمر، فكل هؤلاء يدّعون أنهم يعبدون هذه التماثيل والمخلوقات ليكونوا شفعاء ووسطاء لتقريبهم عند الله، وهذا كذب وزور، فالله أقرب إلى عباده من حبل الوريد، وهو سيحكم بين عباده يوم القيامة فيما كانوا يختلفون فيه في الدنيا، وسينطق سبحانه بالحق في شأن عباده الشركاء والوسطاء، فيُدخل المؤمنين المخلصين في الجنة، ويعاقب المشركين بدخول النار.
﴿ إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ﴾.
لا يهدي إلى دينه من اختار الضلالة وزعم أن لله ولدا، وأن الأصنام والآلهة المدّعاة تشفع له وتقربه إلى الله، وهذا كذب وكفر بالله الواحد الأحد، المستحق للعبادة، المنزّه عن الشريك والمثيل.
بدأ الله عددا من السور بما يفيد أنه سبحانه الذي أنزل الكتاب بالحق، وأتبع ذلك بذكر صفات الله سبحانه.
ففي سورة يس :﴿ تنزيل العزيز الرحيم ﴾ ( يس : ٥ ).
وفي هذه السورة :﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الزمر : ١ )
وفي أول سورة فصلت :﴿ حم * تنزيل من الرحمن الرحيم ﴾. ( فصلت : ١، ٢ )
وفي أول سورة الجاثية :﴿ حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الجاثية : ١، ٢ )
وفي أول سورة الأحقاف :﴿ ح * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الأحقاف : ١، ٢ ).
وهذه البدايات تؤكد تنزيل القرآن من عند الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واتصاف الله بصفات العزّة والحكمة والرحمة، أي أنه سبحانه قوي غالب حكيم رحيم، فهو أهل للألوهية، وأهل لأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى.
المفردات :
سبحانه : تنزيها له عن الولد والشريك.
القهار : الشديد القهر، يغلب ولا يُغلب.
التفسير :
٤- ﴿ لو أراد الله أن يتخذ ولدا لأصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار ﴾.
لقد جعلوا لله ولدا، وجعلوا الملائكة بنات الله، وادعوا أنه سبحانه تزوج من سراة الجن فأنجبوا له الملائكة، واتخذوا تماثيل الكواكب والملائكة والأنبياء والصالحين الذين مضوا، وتوجهوا بالعبادة إلى هذه المخلوقات، وهي عاجزة عن جلب الخير لنفسها، أو دفع الضرّ عنها، فكيف تحقق ذلك لغيرها، والآية تقول لهؤلاء المشركين : سنسلم جدلا أن الله أراد أن يتخذ ولدا، فكان الأوفق أن يختار الأفضل وهو الذكر لا الأنثى، والأمر كما ترى استدراج لهم إلى التفكير السليم، فالله كامل كمالا مطلقا، وقديم قدما مطلقا، والولد صنو أبيه، والولد لا يكون إلا حادثا، ومن هنا استحالة الوالدية عليه.
أي : لو أراد اتخاذ ولد، لاتخذه ابنا ذكرا على سبيل تقدير المستحيل.
﴿ سبحانه هو الله الواحد القهار ﴾.
تنزه الله تنزها مطلقا عن أن يتخذ ولدا، أو شريكا في الألوهية، لأن الولد مخلوق لله، والمخلوق لا يسمى ولدا لخالقه، ولا يصلح لذلك، فضلا عن أن يكون شريكا له، فهو سبحانه واحد أحد فرد صمد، قادر مقتدر، قهر الكون والكلّ بملكوته وجبروته وقدرته، فهو غني عن الشرك والنظير والمثيل، منزّه عن الولد والوالد.
وقد روى البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : يكذّبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني، ويشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، فأما تكذيبه لي فقوله : ليس يعيدني كما بدأني، وأما شتمه لي فقوله إن لي ولدا " ١.
والآيات تؤكد ما سبق في القرآن الكريم، من تقرير الألوهية والوحدانية، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبطلان الشرك، والتنديد بالشرك والمشركين.
رواه البخاري في بدء الخلق (٣١٩٣)، والنسائي في الجنائز (٢٠٧٨) وأحمد (٨٨٧٠)..
﴿ خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ( ٥ ) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون ( ٦ ) إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور ( ٧ ) ﴾
المفردات :
بالحق : بالحكمة والصواب.
يكور الليل على النهار : يلفّه فيخفيه، من كار العمامة وكورها على رأسه إذا لفّها، أو من كوّر المتاع ألقى بعضه على بعض. والمراد يذهب الليل، ويغشي مكانه النهار، والعكس بالعكس.
وسخر الشمس والقمر : ذللهما لمراده، وجعلهما منقادين له.
أجل مسمى : يوم القيامة.
التفسير :
٢- ﴿ خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ﴾.
خلق السماوات وما فيها، وخلق الأرض وما عليها، بالحق والعدل والإنصاف لأغراض ضرورية، وحكم ومصالح، وجعلهما من أبدع نظام. وهذا يدلّ على كمال القدرة الإلهية، واستغنائه عن الشريك والولد.
﴿ يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل... ﴾
يُغشي الليل النهار فتأتي الظلمة فيستريح الناس وينامون، ويُغشي النهار مكان الليل، فيحل به النور، فتنشط الخلائق ويعملون لما خلقوا من أجله.
﴿ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى... ﴾
ذلل وطوّع الشمس والقمر، حيث جعلهما يجريان في مدارهما، فيترتب على تذليلهما وجود النهار تارة، والليل تارة أخرى، والفصول الأربعة : الربيع، فالصيف، فالخريف، فالشتاء، لمصلحة الإنسان والحيوان والنبات، وهذا الدوران فيه من الفوائد والمصالح للعباد ما لا يقدّر قدره، من ذلك معرفة عدد السنين والحساب.
﴿ ألا هو العزيز الغفار ﴾.
فهو العزيز القادر على عقاب المقصِّرين، الغفار للتائبين النادمين.
ثم جعل منها زوجها : حوّاء.
ثمانية أزواج : الإبل والبقر والغنم والمعز، ولكل واحد من الأربعة ذكر وأنثى.
في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن، والرحم، والمشيمة.
التفسير :
٣- ﴿ خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذالكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون ﴾.
خلقكم من نفس واحدة، هي آدم عليه السلام، وخلق من آدم حواء من قصيراه.
قال تعالى :﴿ يا أبها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء... ﴾ ( النساء : ١ )
وخلق الله لنا من الأنعام ثمانية أزواج، هي الإبل، والبقر، والغنم، والماعز، وخلق من كل صنف ذكرا وأنثى، فالجمل والناقة، والثور والبقرة، والكبش والنعجة، والتيس والمعزة.
﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث... ﴾
يخلق الإنسان والحيوان في بطن الأمهات، خلقا متدرجا متطورا من حال إلى حال، أي : نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم يكسو العظام لحما، فإذا هو إنسان كامل.
﴿ في ظلمات ثلاث... ﴾
هي : ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، ثلاث أغشية يحفظ الله فيها الجنين، حيث يكون في قرار مكين، مستقرا في غشاء يحميه ويحافظ عليه، حتى يتم الخلق وينزل وليدا إلى الحياة.
وبعد أن قدّم أدلة على الألوهية والوحدانية، والقدرة البالغة، والإدارة النافذة في خلق الكون وخلق الإنسان والحيوان، أتبع ذلك بفذلكة أو نتيجة فقال :﴿ ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون ﴾.
هذا الإله القادر الخالق، المبدع للكون والإنسان والحيوان، هو الله ربكم وخالقكم ومالك الملك والمتصرف فيه، خلقا وإيجادا ورعاية وحفظا، لا إله سواه، ولا شريك له ولا ندّ له ولا مثيل.
﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾. ( الشورى : ١١ ).
فكيف تصرفون عن طاعته وعبادته إلى طاعة الشيطان، أو الكفر وعبادة الأوثان.
ولا تزر وازرة وزر أخرى : ولا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى.
التفسير :
٤- ﴿ إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور ﴾.
إن تكفروا بالله فإن الله غني عنكم وعن عبادتكم، ولا تضرّه معصيتكم، ولا تنفعه طاعتكم، ومع هذا فهو حريص على مصلحة عباده، ولا يرضى لعباده الكفر، رحمة بهم حتى لا يتعرضوا لغضبه وعذابه، وإن تشركوا يرضه لكم، وإذا آمنتم رضي عنكم.
وفي الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، ولو ان أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا... " ١.
وفي القرآن الكريم :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ﴾. ( فاطر ١٥ ).
﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى.... ﴾.
ولا تحمل نفس ذنب نفس أخرى، وقد كان رؤساء الكفر يقولون لأتباعهم :﴿ اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم... ﴾ ( العنكبوت : ١٢ ).
وقد بين القرآن أن الإنسان مسئول عن عمله ومحاسب عليه، قال تعالى :﴿ كل امرئ بما كسب رهين ﴾. ( الطور : ٢١ ).
وقال تعالى :﴿ يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ﴾. ( عبس : ٣٤-٣٧ ).
فالإنسان المذنب يتحمل ذنوبه وحده، ولا يتحمل ذنب آخر، إلا إذا كان مسئولا عنه، فإنه يتحمل شيئا من المسؤولية، كالأب المنحرف الذي يغري أولاده بالانحراف، فيتحمل الأب ذنبه، وذنب إرشاد أولاده إلى السوء، أو وقوعهم في الرذيلة.
قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا.. ﴾. ( التحريم : ٦ ).
وفي النهاية سيعود الخلائق إلى ربهم فيحاسبهم، ويخبرهم بأعمالهم ويجازيهم عليها، فهو سبحانه مطلع على السرائر، خبير بالسر والعلن.
﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم... ﴾.
أي : الموت والبعث والحشر والحساب والجزاء.
﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون... ﴾.
فيخبركم بأعمالكم تمهيدا للحساب والجزاء عليها.
﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾.
إنه مطلع على ما تكنّه السرائر وما تخفيه الضمائر، وفيه تهديد للعاصي وبشارة للطائع.
رواه مسلم في البر والصلة والآداب(٢٥٧٧)، والترمذي في صفة القيامة (٢٤٥٩) وأحمد (٥/١٦٠)، عن أبي ذر رضي الله عنه. وأوله عند مسلم وأحمد: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ". وعند الترمذي: " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ". وقال: حديث حسن..
﴿ وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ( ٨ ) أمن هو قانت أناء الليل ساجدا أو قائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ( ٩ ) قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( ١٠ ) ﴾
المفردات :
ضر : شدة من البلاء والفقر.
منيبا إليه : راجعا إليه.
خوله نعمة : أعطاه وملكه نعمة عظيمة، والأصل : أعطاك خولا – بفتحتين – أي : عبيدا وخدما، ثم عمم لمطلق العطاء.
التفسير :
٨-﴿ وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ﴾.
من شأن الإنسان أن يذكر ربّه ويتضرع إليه في البأساء والشدة، وأن يلجأ إليه عند المرض والمصاب والأمر الجلل، ثم إذا أنعم الله عليه بالنعم المتعددة، نسي الشدّة التي لجأ إلى الله من أجلها، أو نسي الربّ الذي دعاه في البأساء، وأخذ يتقرب إلى الأنداد والشركاء، التي يضلّ بها عن سبيل الله وطريقه، وهنا يهدد الله المعرضين عنه بالعذاب الشديد في الآخرة، وينذر المُعرض بأن ما يتمتع به في الدنيا، من جاه أو مال أو سلطان عرض على حائل، ثم عند الموت يجد النار أمامه، جزاء كفره، أو جزاء تضرّعه إلى الله في الضرّاء، ثم الإعراض عنه عند النعماء.
والآية عامة، واستظهر أبو حيان أن المراد بالإنسان جنس الكافر، وقيل : المراد بالآية عتبة بن ربيعة وأبو جهل.
وعلى هذا يكون معنى الآية : وإذا مسّ الإنسان الكافر ضرّ وبلاء أو مرض وبأساء، دعا الله تعالى وحده مخلصا له في العبادة والتضرع، ثم إذا منّ الله عليه بالنعماء والرخاء، نسي الدعاء الذي كان يدعوا به، أو نسي من كان يدعوه من قبل، أو نسي الضرّ الذي كان يدعوا الله إلى إزالته وكشفه، وجعل لله أوثانا وأصناما وشركاء، يعبدهم ضالا عن طريق الله تعالى، فقل له يا محمد : تمتع بكفرك متاعا قليلا، مدة الدنيا ومتاع الدنيا قليل، أما في الآخرة فمآلك جهنم لعبادة غير الله، أي : قد أبيت أن تستمر على دعاء الله، والإخلاص له في النعماء والرخاء، فاستمتع بهذا الكفر الذي أنت فيه تمتعا قليلا، لا ينجيك من عذاب النار في الآخرة.
القانت : المطيع، أو الذي يطيل القيام في صلاته.
آناء الليل : ساعاته : أوله ووسطه وآخره، أو جوفه.
التفسير :
٩- ﴿ أمن هو قانت أناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾.
أهذا الكافر الذي سبق ذكره في الآية السابقة، يستوي بالمؤمن القانت الخاشع لله في جوف الليل، حال كونه ساجدا لله يتضرع إليه، وقائما يقرأ القرآن في تضرع وحب وخشية لله، لأنه يخاف عذاب الآخرة، ويرجو رحمة الله تعالى، فقد جمع بين الخوف والرجاء، وهما جناحان يطير بهما المؤمن في ملكوت الرياضة الروحية، وسلوك منازل الآخرة، فالخوف إذا زاد عن حدّه صار يأسا :﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾. ( يوسف : ٨٧ ).
والرجاء والأمل بدون عمل طمع بدون حقّ، وفي الحديث النبوي : " ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل، ألا وإنّ أقواما غرتهم الأمانّي، خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا : نحسن الظن بالله، وكذبوا على الله، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل ".
وقال تعالى :﴿ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ ( الأعراف : ٩٩ )
﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون... ﴾
هل يستوي العالم والجاهل ؟ أي : وكما لا يستوي العالم والجاهل، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي.
﴿ إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾.
أي : إنما يتعظ أصحاب العقول السليمة، وإنما ينتفع بأمثلة القرآن أصحاب القلوب المستنيرة، والعقول الخالصة من شوائب الخلل.
قال ابن كثير :
وينبغي أن يجمع المؤمن بين الخوف والرجاء. وفي الشباب يغلب الخوف على الرجاء، وفي الشيخوخة يغلب الرجاء على الخوف، وكذلك عند الاحتضار يكون عظيم الأمل في رحمة الله وفضله.
روى الترمذي والنسائي، وابن ماجة، عن أنس رضي الله عنه قال : دخل رسول اله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال له :" كيف تجدك " ؟ فقال : أرجو وأخاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو وأمّنه الذي يخافه " ١.
وقرأ ابن عمر :﴿ أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه... ﴾ فقال : ذلك عثمان ابن عفان رضي الله عنه – أخرجه ابن أبي حاتم.
وذلك لكثرة صلاة عثمان بالليل وقراءته، قال الشاعر : يقطع الليل تسبيحا وقرآنا.
قال الفخر الرازي في التفسير الكبير :
واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأوّلها أنه بدأ فيها بذكر العمل، وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فهو القنوت والسجود والقيام، وأما العلم ففي قوله :﴿ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾ ؟
وهل يدلّ على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية، والعلم والمكاشفة هو النهاية، وفي الكلام حذف تقديره : أمن هو قانت كغيره ؟ وإنما حَسُن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر، ثم مثل بالذين يعلمون، وفيه تنبيه عظيم على فضيلة العلم. ا ه.
رواه الترمذي في الجنائز (٩٨٣) وابن ماجة في الزهد (٤٢٦١) من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: " كيف تجدك"؟ قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف ".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب..
وأرض الله واسعة : فهاجروا فيها، ولا تقيموا مع من يقترف المعاصي.
التفسير :
١٠- ﴿ قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب ﴾.
يا من آمنتم بالله ربّا، ضمّوا إلى الإيمان بالله تعالى، التقوى ومخافة الله ومراقبته.
والتقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وقيل : هي ألا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.
وقيل : هي ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ.
وقيل : هي الاجتهاد في عمل الطاعات، والابتعاد عن اقتراف المعاصي.
﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة... ﴾
للذين أحسنوا عملهم، وراقبوا ربّهم حسنة في الدنيا، من رضوان الله وتوفيقه ورزقه وعنايته، أو لمن أحسن في هذه الدنيا حسنة في الآخرة، ويمكن أن يراد الاثنان معا، أي : للمؤمنين المحسنين حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة.
﴿ وأرض الله واسعة... ﴾
أي : فهاجروا من دار الكفر إلى دار الإيمان، ولا تقيموا في أرض لا تتمكنون فيها من إقامة شعائر الله.
قال المفسرون : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه، حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة، والغرض منها التأنيس لهم والتنشيط إلى الهجرة ١.
﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾.
يكافأ الصابرون الذين صبروا على هجرة الأهل والوطن، مكافأة لا يهتدي إليها حساب الحُسّاب، أي بغير تقدير، أي : حين يكافأ أهل الطاعات كالصلاة والصيام والزكاة والحج، والجهاد وصلة الرحم وإكرام الجار والعطف على المساكين، يكافأ هؤلاء على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فإن أهل البلايا والصبر على البأساء يلقون جزاءهم بدون حصر وبدون عدد.
قال الأوزاعي : ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف غرفّا.
وقال ابن جريح : بلغني أنهم لا يحسب عليهم ثواب عملهم قطّ، ولكن يزادون على ذلك.
وقال السدّي : يعني في الجنة.
لقد كان القرآن يأخذ بيد المؤمنين، فيحثهم على الثبات والصبر، والمجاهدة في تحمل مشاق الهجرة ومتاعبها، واحتمال البلايا في طاعة الله، وكان الرسول الأمين وصحابته الأبرار قدوة عملية في الثبات والتضحية.
وفي الحديث الشريف : " تنصب الموازين لأهل الصلاة والصدقة والحج فيؤتون بها أجورهم، ولا تنصب لأل البلايا، بل يصب عليهم الأجر صبّا، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل
﴿ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ( ١١ ) وأمرت لأن أكون أول المسلمين ( ١٢ ) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( ١٣ ) قل الله أعبد له مخلصا له ديني( ١٤ ) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ( ١٥ ) لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون( ١٦ ) ﴾
المفردات :
مخلصا له الدين : أي : اعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء، موحّدا له.
التفسير :
١١- ﴿ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ﴾.
تأتي هذه الآية وما بعدها من آيات لإعلان عقيدة التوحيد، خالصة نقية من الرياء والشرك، ومن عبادة غير الله، كالملائكة أو الأصنام والأوثان.
وخلاصة معنى الآية :
قل لهم يا محمد : أمرني ربي سبحانه وتعالى أن أعبده عبادة خالصة، نقية من الشرك أو الرياء.
أول المسلمين : أول من خالف دين آبائه، وخلع عبادة الأصنام، أو أول المسلمين من هذه الأمّة.
التفسير :
١٢- ﴿ وأمرت لأن أكون أول المسلمين ﴾.
وكذلك أمرني ربي أن أكون أول المسلمين من هذه الأمة، فقد أنزل الله عليّ الوحي، وخصني بالرسالة، لأدعو نفسي والناس أجمعين إلى توحيد الله بالعبادة، ونبذ عبادة غير الله، من الأوثان والأصنام، فأنا أول من خالف دين آبائه وأجداده في نبذ عبادة الأصنام، وأنا أعتز بذلك وأفتخر به، أن أكون قدوة لكل مسلم، ومقدمة لكل مؤمن، قال تعالى :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ﴾. ( الأحزاب : ٢١ ).
تتكرر هنا أدلة التوحيد، والدعوة إليه، وتأكيد عبادة الله وحده، في إخلاص وإنابة، والابتعاد عن عبادة الأوثان، وسبب ذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تنظر إلى أبيك وجدّك وسادات قومك، يعبدون اللات والعزّى : فنزلت ردّا عليهم.
أي : إني لن أقرب الشرك، ولن أعبد الصّنم، ولن أميل إلى دينكم وعبادتكم الأوثان، لأني أخاف ترك الإخلاص، والميل إلى الشرك، فأتعرض لعذاب يوم عظيم، وهو يوم القيامة، ولسان حاله يقول : إذا كنت أخاف هذا الخوف، من الميل إلى عبادة الأوثان، فأنتم أولى بهذا الخوف، وأجدر أن تهربوا من الشرك إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.
مخلصا له ديني : طاعتي وعبادتي.
التفسير :
١٤- ﴿ قل الله أعبد مخلصا له ديني ﴾.
تتدرج الآيات وتتابع في تأكيد توحيد الله وحده، وإخلاص العبادة له، وترك عبادة ما عبده الآباء والأجداد، والهلع والخوف من التقرب للأصنام، فإن ذلك شرك، يعرض صاحبه لعذاب يوم القيامة، وأهوال هذا اليوم العظيم، وفي قمة هذا التوجّه نجد هذه الآية، وخلاصتها : إني أعبد الله لذات الله، لا خوفا من النار، ولا طمعا في الجنة، وإنما عبادة له لذاته، وإخلاصا لوجهه، لا رياء في عبادتي لله ولا سمعة، ولا ميل لغيره ولا إشراك.
وكان من دعاء المؤمنين في الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره
لبيك حقا حقا تعبدا ورقا
في معنى الآية قوله تعالى :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ﴾. ( البينة : ٥ ).
وكان من دعاء رابعة العدوية : إلهي... غارت النجوم، ونامت العيون، وبقيت أنت يا حيّ يا قيوم، إلهي... أغلقت الملوك أبوابها، وسكن كل حبيب إلى حبيبه، إلهي فأنت حبيبي، ولو طردتني عن بابك ما طُردت لعلمي بعظيم فضلك، وعميم جودك، إلهي.. إن كنت أعبدك شوقا إلى الجنة فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفا من النار فأحرقني بها، وإن كنت أعبدك لك ذاتك لأنك تستحق العبادة، فلا تحرمني من نور وجهك الكريم يا رب العالمين.
ومن شعرها :
أحبك حبين حبّ الهوى وحبّ لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواكا
وأمّا الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
وقد بدأ أبو حامد الغزالي باب الإخلاص في كتاب " إحياء علوم الدّين " بقوله : أما بعد.. فالناس هلكى إلا العاملين، والعاملون هلكى إلا المخلصين، والمخلصون على خطر عظيم.
وبيّن أبو حامد الغزالي أن الإخلاص هو أكسير العبادة، وروحها وسرُّ قبولها، والإخلاص هو التوجّه إلى الله وحده بالعمل، بدون رياء ولا سمعة، وإذا عظّم الإخلاص في قلب المؤمن أصبح يقينا بأن المطلع عليه هو الله وحده، فلا يلقي بالا لمن يراه من الناس، بل يعظّم توجهه وإخلاصه، ويقينه بأن الله حسبه وكافيه، وهذه مرتبة الإحسان، وهي أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وفي الحديث القدسي يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل : ما تقرب عبدي إلي بشيء أحبّ إلي من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن سألني لأعطينه... " ١
تقدم تخريجه، انظر هامش (٧٤)..
فاعبدوا ما شئتم : أمر تهديد وتوبيخ لهم، أي : ستلقون حتما جزاء كفركم.
الخاسرين : الكاملين في الخسران، ﴿ الذين خسروا أنفسهم ﴾. بالضلال، ﴿ وأهليهم ﴾. بدخولهم النار.
عن ابن عباس : ليس من أحد إلا خلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله.
المبين : البيّن الواضح.
التفسير :
١٥- ﴿ فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ﴾.
وهذا أمر تهديد ووعيد، أي : أنا أخلصت عبادتي له وحده، وسرت في طريق التوحيد والإخلاص لله تعالى وحده بالعبادة، فاعبدوا أنتم ما شئتم من الأصنام والأوثان والشركاء من دون الله، فستلقون عقاب ذلك يوم القيامة، قل لهم يا محمد : إنّ الخاسرين كمال الخسران، هم الذين خسروا أنفسهم حيث حرموها من الإيمان بالله تعالى، ومن سماع القرآن، ومن هدي محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنهم خسروا أهليهم، حيث أرشدوهم إلى الكفر والشرك، أو حُرموا من الحور العين في الجنة، أو حرموا أهليهم الذين أعدهم الله لهم في الجنة لو آمنوا بالله وأطاعوه.
أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة قال : ليس أحد إلا قد أعدّ الله تعالى له أهلا في الجنّة إن أطاعه.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، أنه قال في الآية : خسروا أهليهم من أهل الجنة، وكانوا قد اعدّوا لهم لو عملوا بطاعة الله.
﴿ ألا ذلك هو الخسران المبين ﴾.
إن هذا لهو الخسارة الفادحة الظاهرة، أن تخسر نفسك فلا تكون مصطلحا عليها، بل ترغمها على الكفر، وتهرب منها إلى الشرك، وأن تخسر أهلك وزوجك وذريتك، فترشدهم إلى الكفر والمعصية، وأنت حادي الطريق، وأنت الراعي المسئول عن رعيته، فبدلا من أن تقدم لها الهداية، قدمت لها الغواية، فحرمت سعادة الدنيا والآخرة، وحرمت مع أسرتك نعيم الجنة وأهلها وبحبوحتها، وصرت أهلا للعذاب الشديد بين صفائح جهنم.
ظلل : طبقات كثيرة من النار فوقهم كهيئة الظلل، جمع ظلّة، وأصلها : السحابة تظلّ ما تحتها.
ومن تحتهم ظلل : ومن تحتهم طبقات من النار، والمراد أن النار محيطة بهم إحاطة تامة من جميع الجوانب.
التفسير :
١٦- ﴿ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون ﴾.
هؤلاء الخاسرون تمام الخسارة، يعذّبون بين صفائح جهنم، فالنار تظللهم من فوقهم، تهكما بهم، فالأصل أن الإنسان يتظلل بالمظلة والشجرة، والسحابة الواقية من الحر وشدّته، وهؤلاء تظلّهم طبقات جهنم من فوقهم، وطبقات جهنم من تحتهم، وسمَّى ما تحتهم ظللا، مشاكلة من فوقهم، أو لأن ما تحتهم من طبقات النار، يظلل فئة أخرى تعذّب تحتهم، فينظر الإنسان فوقه فلا يجد إلا النار، وتحته فلا يجد إلا النار، كما أن النار تحيط به عن يمينه وعن شماله، وعن سائر الجهات التي حوله.
قال تعالى :﴿ يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ﴾. ( العنكبوت : ٥٥ ).
وقال تعالى :﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين ﴾. ( الأعراف : ٤١ )
﴿ ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون ﴾.
أي : ذلك العذاب الشديد الذي ذكره الله عقوبة للخاسرين الكافرين، مما يحذّر الله به عباده، ويخوّفهم من هذه النهاية البائسة، ويضع أمامهم هذا المنظر الرهيب، منظر إنسان قد خسر نفسه، وخسر أهله، وهو يعذّب بين طبقات النار، ولا يجد وسيلة للهرب أو الفرار، يا عباد – أي يا كل عبادي – خافوا عذابي واتقوا غضبي، وسيروا في طاعتي، وابتعدوا عن الكفر والشرك، والمراد بالفقرة الأخيرة : المؤمنون، لأنهم هم المنتفعون بهذا التوجيه، وعممه آخرون في المؤمن والكافر، أي : يا كل من يتأتى منه العبودية لله، اتقوا غضبي وعذابي، وقيل : هو خاص بالكفار. ا ه.
والأولى أن يقال : إنه خطاب عام للناس كلِّ الناس، وللعباد كل العباد بأن يتقوا الله ويراقبوه.
﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد ( ١٧ ) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ( ١٨ ) أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ( ١٩ ) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبينة تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ( ٢٠ ) ﴾
المفردات :
الطاغوت : الأوثان والمعبودات الباطلة، والمراد به : الشيطان.
وأنابوا إلى الله : رجعوا إليه وتابوا.
البشرى : الثواب على ألسنة الرسل أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون، والبشرى اسم لما يُعطاه المبشر.
التفسير :
١٧- ﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد ﴾.
من شأن القرآن أن يقابل بين عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة، وقد تحدث فيما سبق عن الخاسرين وعذابهم في النار، وهنا يتحدث عن الذين أقبلوا على الله تعالى، وابتعدوا عن عبادة الأوثان والأصنام، وطاعة الشيطان، فقال :﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها... ﴾
أي : ابتعدوا عن عبادة الأوثان والأصنام، وعن طاعة الشيطان.
﴿ وأنابوا إلى الله... ﴾
ورجعوا إلى الله مؤمنين قانتين، هؤلاء يستحقون النجاة والفوز والبشارة بالجنة.
﴿ لهم البشرى فبشر عباد ﴾.
أي : يبشرهم القرآن بالثواب الجزيل، ورضوان الله عليهم في الدنيا، والنعيم في الآخرة.
وقيل : البشرى هي أن الملائكة تنزل عليهم عند الموت، تبشرهم بأن الله تعالى سيحفظهم في ذرّيتهم فلا يخافون عليهم، وسييسر لهم دخول الجنة، ونعيم القبر.
قال تعالى :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم ﴾. ( فصلت : ٣٠-٣٢ ).
والخلاصة :
أن الملائكة تنزل على المؤمنين عند خروج الروح، فتبشرهم بأن الله يحفظهم في ذريّاتهم، فلا يخافون عليهم، وتبشّرهم بنعيم القبر ونعيم الجنة، وبولاية الله لهم في الدنيا وفي الآخرة.
قال ابن إسحاق :
نزلت الآية السابعة عشرة من سورة الزُّمَر في عثمان، وعبد الرحمان بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة، والزبير، رضي الله عنهم، سألوا أبا بكر رضي الله عنه فأخبرهم بإيمانه، وذكّرهم بالله فآمنوا.
وقيل : نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، كانوا يقولون في الجاهلية :( لا إله إلا الله )، لكن علماء القرآن يقولون : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أي أننا لا نقصر الآيات على هؤلاء الأشخاص، بل نقول : كل من هجر عبادة الأوثان، وابتعد عن السير وراء الطاغوت والطغيان، وأطاع الله وحده لا شريك له، منيبّا إلى الله تعالى، يستحق البشرى بالأخبار السّارة، فبشر أيها الرسول عبادي المؤمنين.
فيتبعون أحسنه : أي : يأخذون بالواجب والأفضل، مع جواز الأخذ بالمندوب والحسن، أو يختارون العفو ويتركون العقاب، مع أنه جائز، أو ينتقدون الرديء، ويختارون الأحسن.
أولوا الألباب : أصحاب العقول السليمة.
التفسير :
١٨- ﴿ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ﴾.
هؤلاء نفوسهم طيبة، وقلوبهم طيبة، يستمعون الأقوال المتعددة، فتلتقط نفوسهم الكلم الطيب والفكر الحسن، والذكر المفيد، وترك الرديء، فالنفوس الحسنة تبحث عن القول الحسن، والفكر الحسن، والتوجّه الحسن، وكل ما يدعوا إلى الخير، ويرغّب في الفضيلة، ويحث على الاستقامة، أمّا النفوس الخبيثة فإنها تبحث عن القول الرديء، والتفكير الخبيث، لأن الطيور على أشكالها تقع.
وقيل : المراد بالآية توجيه المؤمنين إلى أن يكونوا نقادا في الدّين، يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران، حرصوا على ما هو أقرب عند الله ثوابا، وأرجى قبولا.
وقيل : هم الذين يستمعون أوامر الله، فيتبعون أحسنها، مثل : القصاص أو العفو، والانتصار وأخذ الحق أو الإغضاء والتجاوز، وإظهار الصدقة وإخفائها.
قال تعالى :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى... ﴾ ( البقرة : ٢٣٧ ).
وقال سبحانه :﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم... ﴾ ( البقرة : ٢٧١ ).
﴿ أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ﴾.
أي : هؤلاء المتصفون بالصفات الجميلة، والقلوب الخيّرة، التي تختار الأحسن والأولى والأفضل، هم الذين هداهم الله لمعرفة دينه، واختار ما يرضيه، وهؤلاء هم أصحاب العقول السليمة، والقلوب الطاهرة البعيدة عن اتباع الهوى.
كلمة العذاب : إشارة إلى قوله تعالى :﴿ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ﴾. ( ص : ٨٥ )
التفسير :
١٩- ﴿ أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ﴾.
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية قومه، من أمثال أبى جهل وأضرابه، ممن عبدوا الطاغوت وأطاعوا الشيطان، وكفروا بالإسلام، فاستحقوا الضلالة والشقاء، وحقت عليهم كلمة العذاب، حيث قال تعالى :﴿ قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ﴾ ( ص : ٨٤، ٨٥ ).
لقد اختار الضلالة على الهدى، فوجبت عليه كلمة العذاب، وهي قسم الله أن يملأ جهنم من الشيطان وأتباعه، فاستحق ذلك الوعيد، واستوجب الخلود في جهنم، ولم يعد ممكنا لك يا محمد أن تنقذه من النار التي استحقها بعدالة الله تعالى.
والمعنى :
إنك يا محمد لا تقدر على هدايته فتخلّصه من النار، والمقصود : طب نفسا وقرّ عينا، ولا تجزع لإعراض قومك، فإن العذاب سيصيبهم جزاء وفاقا، وفي هذا المعنى نجد قوله تعالى :﴿ فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر ﴾. ( الغاشية : ٢١، ٢٢ ).
وقوله سبحانه :﴿ طسم * تلك آيات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾. ( الشعراء : ١-٣ ).
وقول الله عز وجل :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء... ﴾ ( القصص : ٥٦ ).
وقوله تعالى :﴿ ذرني ومن خلقت وحيدا ﴾. ( المدثر : ١١ ).
وقوله عز وجل :﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾. ( يونس : ٩٩ ).
من تفسير الفخر الرازي
ذكر الفخر الرازي عند تفسير هذه الآية ثلاث مسائل : نترك ما قاله في المسألتين الأولى والثانية، وننقل هنا ما قاله في المسألة الثالثة وهو ما يأتي :
احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع لأهل الكبائر، قال لأنه حق عليهم العذاب، فتلك الشفاعة تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار، وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والاستبعاد، فيقال له : لا نسلّم أن أهل الكبائر قد حق عليهم العذاب، وكيف يحق العذاب عليهم مع أن الله تعالى قال :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ﴾ ( النساء : ٤٨ ). ومع قوله :﴿ إن الله يغفر الذنوب جميعا... ﴾ ( الزمر : ٥٣ ). والله أعلم ١.
لهم غرف : منازل رفيعة عالية في الجنة، قد أُعدّ بناؤها قبل يوم القيامة.
التفسير :
٢٠- ﴿ لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبينة تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ﴾.
لكن الذين خافوا عذاب الله، وراقبوا الله وأخلصوا له العبادة : أعد الله لهم في الجنة غُرَفّا من فوقها غُرَف. وهي قصور عالية، ذات طبقات مزخرفات، قد تمّ بناؤها بحالة تشرح الصدر وتسرُّ العين، فالأنهار تجري من تحتها لكمال بهجتها، وزيادة رونقها، وهذا وعد الله للمتقين المؤمنين، ووعد الله ثابت لا ينقص ولا يخلف.
قال ابن عباس : غرف الجنة من زبرجد وياقوت.
وروى الإمام أحمد بسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وصلّى بالليل والناس نيام " ١.
ونلاحظ أن النار دركات، وأن الجنة درجات، والآية تنطوي على ما أعد الله للمتقين من كرامة ومنزلة ونعيم مقيم، في جنات مبنية بيد الرحمان وقدرته، تجري من تحتها أنهار من خمر، وأنهار من عسل، وأنهار من لبن، ﴿ ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم... ﴾ ( محمد : ١٥ ).
رواه الترمذي في البر (١٩٨٤) وفي الجنة (٢٥٢٦) وأحمد في مسنده (١٣٤٠) من حديث علي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن في الجنة غرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها "، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله ؟ قال: " لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام ". قال ابر عيسى: هذا حديث غريب..
﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ( ٢١ ) أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ( ٢٢ ) الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ( ٢٣ ) ﴾
المفردات :
فسلكه ينابيع : أي : أدخله في الأرض فصار جاريا تحتها، ينبع منها فكان بذلك ينابيع.
مختلفا ألوانه : ما بين أخضر وأبيض وأحمر وأصفر، وأنواعه من بر وشعير وذرة وفول وعدس.
ثم يهيج فتراه مصفرا : ييبس فتراه أيها الرائي بعد الخضرة مصفرا.
حطاما : فتاتا متكسرا.
التفسير :
٢١- ﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ﴾.
ألم تر أيها النبي، ويا كلّ من تتأتّى منه الرؤية، أن الله تعالى يسبب الأسباب لنزول الأمطار، مثل شروق الشمس، وإرسال أشعتها على المحيطات، وتصاعد البخر إلى السماء، ووجود السحاب الذي تحركه الرياح، ثم يتساقط مطرا، فينزل جانب منه في باطن الأرض، ثم تتفجر منه الينابيع والعيون والأفلاج، التي تسقي الزروع المختلفة الألوان، فمنها الأخضر ومنها الأحمر ومنها الأبيض ومنها الأصفر، وكذلك الزروع المختلفة الأنواع كالقمح والذرة والأزر، والفول والعدس والبرسيم والقثاء، والبطيخ والشمّام والخيار والدبّاء والخضراوات، وغير ذلك من الأصناف والألوان، التي تبهج النفس، وتقدم الغذاء والفاكهة والطعام للإنسان والحيوان والحشرات والطيور، وغيرها من الزواحف وسائر المخلوقات، وبذلك يعمر الكون وتستمر الحياة، ويتعظ أولوا الألباب وأصحاب العقول، بأن الماء تسبب في إنبات الزروع المختلفة، وأنها نبتت ثم اخضرت، وصارت بهجة للناظرين فترة محدودة، ثم يبست واصفرت وتكسرت، وصارت حطاما، وكذلك الحياة الدنيا تنتهي في وقت محدد، ويعقبها البعث والحشر والجزاء.
قال تعالى :﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا ﴾. ( الكهف : ٤٥ ).
شرح الله صدره للإسلام : وسع صدره للإسلام حتى فرح به واطمأن إليه.
فهو على نور : بصيرة وهدى ومعرفة بالله وشرائعه.
ويل : عذاب.
للقاسية قلوبهم : قلب قاس، أي صلب لا يرق ولا يلين.
من ذكر الله : من قبول القرآن، فلم تؤمن به ولم تعمل بما فيه.
التفسير :
٢٢- ﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ﴾.
دلّت الآية السابقة على بديع القدرة في إنزال الماء، منه ما يكون أنهارا تجري، كالنيل والفرات ودجلة، ومنه ما ينزل في الأرض فيكون وسيلة لتكوين الينابيع، وسقي الزرع والنبات المختلف الألوان والأنواع، الذي يعيش فترة أخضر يانعا، ثم يذبل ويصفرّ ويكون حطاما، والقلوب المتفتحة هي التي تتأثر بيد القدرة الإلهية، وتشاهد هذه القدرة في كل مظاهر الحياة والنماء، في بسمة الوليد وانفلاق الصباح وسطوع الشمس، وحركة الظلام وتحرك النبات، ونمو الإنسان من ضعف إلى قوة ثم وصوله إلى المشيب والموت.
وفي هذه الآية نجد أيضا أن من الناس من حلّت فيه بركة الله وهدايته، فشرح صدره للإسلام، وأنار قلبه بالقرآن والسنّة المطهرة والموعظة الحسنة، فترى قلبه حيا بذكر الله ومراقبته وخشيته، فهو على نور وهداية من الله تعالى.
وجواب الاستفهام محذوف دل عليه السياق، والتقدير : أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى به، كم ضاق صدره وامتنع عن الإسلام ؟
أي : هل يستوي المؤمن والكافر ؟ أو هل يستوي الأحياء والأموات ؟
وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات والنور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ﴾. ( فاطر : ١٩، ٢٢ )
﴿ فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله... ﴾
العذاب الشديد لأصحاب القلوب الصماء القاسية كالصخر، التي لا تلين لذكر الله، ولا تتسع لسماع القرآن، ولا لنداء الرحمان، بل يزيدها سماع القرآن إعراضا وبعدا وكرها وكفرا.
وبعض المفسرين قال : إن، ﴿ من ذكر الله ﴾. معناها : عن ذكر الله، فهي قلوب غافلة عن القرآن والإيمان، وأسباب الهداية والتوفيق، لأنها قاسية صلبة لا تلين لذكر الله.
﴿ أولئك في ضلال مبين ﴾.
أي : إن هؤلاء الكافرين الضالين فقد غلبهم الضلال واستهواهم الكفر، واستحوذ عليهم الشيطان، فهم في ضلال واضح، وعمى عن الحق والنور والهدى.
قال تعالى :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها... ﴾ ( الأنعام : ١٢٢ )
قال ابن عباس : من شرح الله صدره للإسلام أبو بكر رضي الله عنه.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود قال : قلنا : يا رسول الله، قوله تعالى :﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه... ﴾ كيف انشرح صدره ؟ : " إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح "، قلنا : يا رسول الله، وما علامة ذلك ؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت " ١.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن ابن عمر، أن رجلا قال : يا رسول الله، أي المؤمنين أكيس ؟ قال : " أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور من القلب انفسح واستوسع ".
قالوا : فما آية ذلك يا نبي الله ؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ".
وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : اطلبوا الحوائج من السُّمحاء، فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإني جعلت فيها سخطي " ٢.
وقال مالك بن دينار :
ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.
قال السيوطي في الدر المنثور: وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه﴾ فقلنا: يا رسول الله كيف انشراح صدره ؟ قال: " إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح " قلنا: يا رسول الله فما علامة ذلك ؟ قال:" الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت. قال العراقي في تخريج الإحياء: رواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود..
٢ اطلبوا الحوائج:
قال السيوطي في الجامع الصغير (١١٠٦): اطلبوا الحوائج إلى ذوي الرحمة من أمتي ترزقوا وتنجحوا: فإن الله تعالى يقول: رحمتي في ذوي الرحمة من عبادي،" ولا تطلبوا الحوائج عند القاسية قلوبهم فلا ترزقوا ولا تنجحوا، فإن الله تعالى يقول: "إن سخطي فيهم". ونسبه للعقيلي في الضعفاء والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد. قال: ضعيف. قال المناوي في الفيض: وقد ذكر السخاوى الحديث من عدة طرق عن نحو عشرة من الصحب. ثم قال: طرقه كلها ضعيفة لكن المتن غير موضوع. انتهى. وسبقه لنحوه ابن حجر فقال: طرقه كلها ضعيفة وبعضها أشد ضعفا من بعض..
أحسن الحديث : القرآن الكريم.
متشابها : يشبه بعضه بعضا في النظم والحسن والإحكام.
مثاني : واحدها مثنى، وهي التثنية أي : التكرار.
تقشعر : ترتعد وتضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد.
تلين : تسكن وتطمئن عند ذكر آيات الرحمة.
التفسير :
٢٣- ﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾.
عن ابن عباس : أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول الله، حدثنا بأحاديث حِسان، وبأخبار الدّهر، فنزلت هذه الآية.
والمعنى :
الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن من السماء، فهو سبحانه الذي أنزله، فنعم الذي أنزل، ونعم الكتاب المنزّل، فهو أحسن الحديث، حيث أنزله مشتملا على دلائل التوحيد والوعظ والإرشاد، والقصص وأخبار الأولين، والتشريع والآداب، وأخبار البعث والحساب، والصراط والميزان، والجنة والنار.
﴿ متشابها ﴾ : يشبه بعضه بعضا في إحكامه وسمو بيانه، ودقة بنيانه، وليس فيه خلل ولا ضعف ولا اضطراب، ولا ركاكة أسلوب، بل كلّه يشبه بعضه بعضا في قوّته وجزالته، وإحكامه وسمو معانيه.
﴿ مثاني ﴾. يثنى ويكرر في قصصه وأخباره ووعظه ووعده ووعيده، لحكمة إلهية يقتضيها السياق، وتحتاج إليه الخلائق، مع الجزالة والإعجاز، ولا تُملّ إعادته، بل كلما تكرر حلا، فهو يأتي بمناسبة جديدة في كل قصة، وتوضع القصة في سياق مناسب.
قال تعالى :﴿ ص والقرآن ذي الذكر ﴾. ( ص : ١ )
وقال تعالى :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ﴾. ( الزخرف : ٤٤ ).
وهذا الكتاب إذا سمعه المؤمنون، وأصغى إليه المتقون، وتأمّله الذاكرون ؛ وجلت قلوبهم، واقشعرت جلودهم من خشية الله تعالى ومخافته، حيث ترتعش القلوب، وتبكي العيون من خوف العذاب والوعيد، ومن خوف غضب الله وعقابه.
﴿ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم... ﴾
فمن هيبة القرآن وجلاله، إذا سمع المتقون قوارع آياته ووعيده : أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم، وإذا سمعوا وصف الجنة ونعيمها، ورحمة الله واتساعها، وآيات الرجاء من فضل الله، ومحبته لتوبة العباد ؛ تبدل خوفهم إلى رجاء، وخشيتهم إلى رغبة في فضل الله.
قال تعالى :﴿ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله... ﴾
فما أصدق هذه القلوب، وما أيسر هذه الشفافية والاستجابة لآيات الله، حيث نجد الخوف والبكاء والأنين عند آيات الوعيد، ونجد الأمل والانشراح والرجاء عند آيات الرحمة والوعد وذكر الجنان والنعيم.
قال الزجاج :﴿ إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله ﴾.
قال القرطبي في تفسير الآية :
﴿ متشابها ﴾ : يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة، ويصدّق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف.
وقال قتادة : يشبه بعضه بعضا من الآي والحروف، وقيل : يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه، لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وإن كان أعم وأعجز.
ثم وصفه فقال :﴿ مثاني ﴾. تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام ويثنى للتلاوة فلا يملّ.
﴿ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم... ﴾
تضطر وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد.
﴿ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله... ﴾
أي : عند آية الرحمة، وقيل : إلى العمل بكتاب الله والتصديق به، وقيل ﴿ إلى ذكر الله ﴾. يعني الإسلام.
قال زيد بن أسلم : قرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحاب فرقّوا : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اغتنموا الدعاء عند الرّقة فإنها رحمة " ١
وعن العباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتساقط عن الشجرة البالية ورقها " ٢
﴿ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء... ﴾
ذلك الكتاب هداية الله لعباده، أو هذا الفضل والتوفيق، والخوف من الوعيد، والرجاء والأمل في الرحمة، هداية السماء يهدي بها الله من يشاء من المتقين.
﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾.
ومن قسا قلبه وأعرض عن الله تعالى سُلب الهداية والتوفيق، وعاش في الضلال بسبب الإصرار والعناد، وهذا ليس له من هاد يهديه بعد الله أبدا.
والمقصود :
إن القلوب قلبان :
١- قلب قابل للهداية، تحلُّ فيه هداية السماء، وفيه الرقة والرحمة والخشوع والإيمان.
٢- قلب غير قابل للهداية، وفيه القسوة والصلابة، والإعراض عن ذكر الله، والكفر بهدى السماء.
قال الفخر الرازي :
﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾.
أي : من جعل قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم، منافيا لقبول هداية الله، ﴿ فما له من هاد ﴾. فلن يستطيع أحد هدايته، أو يؤثر فيه حتى يهتدى. ا ه.
وفي معنى هذه الآية يقول الله تعالى :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾. ( الحشر : ٢١ ).
وقال ابن كثير :
﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله... ﴾.
يصف الله المؤمنين بأنهم يلزمون الأدب عند سماع القرآن، كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله، لم يكونوا يتصارخون، بل عندهم الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك.
تلا – قتادة – رحمه الله – هذه الآية فقال : هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله عز وجل، بأنهم تقشعر جلودهم، وتبكي عيونهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان. ٣
قال المناوي في الفيض: (اغتنموا الدعاء) أي اجتهدوا في تحصيله وفوزوا به فإنه غنيمة (عند الرقة) بكسر الراء وشدة القاف أي عند لين القلب وخشوعه وقشعرير البدن بمشاهدة عظمة الله أو خوفا من عذابه أو حبا من كرمه أو غير ذلك مما يحدث الرقة وهو ضد القسوة التي هي علامة البعد عن الربّ ﴿فويل للقاسية قلوبهم﴾ (فإنها رحمة) أي فإن تلك الحالة ساعة رحمة فإذا دعا العبد فيها كان أرجى للإجابة والدعاء عند الرقة يصدر عن القلب حالة رغبة ورهبة فتسرع الإجابة قال تعالى ﴿يدعوننا رغبا ورهبا﴾ أي عن قلب راغب راهب خاشع ﴿وكانوا لنا خاشعين﴾(وفر) وكذا القضاعي (عن أبي) بن كعب وفيه عمر بن أحمد أبو حفص بن شاهين قال الذهبي: قال الدارقطني:
يخطئ وهو ثقة. وشبابة بن سوار قال في الكاشف: مرجئ صدوق. وقال أبو حاتم: لا يحتج به..
٢ إذا اقشعر قلب المؤمن:
قال العراقي في تخريج الإحياء: حديث "إذا اقشعر قلب المؤمن من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجرة ورقها " أخرجه الطبراني والبيهقي، من حديث العباس بسند ضعيف..
٣ مختصر تفسير ابن كثير تحقيق الصابوني المجلد الثالث ص ٢١٨..
﴿ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ( ٢٤ ) كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ( ٢٥ ) فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ( ٢٦ ) ﴾
المفردات :
يتقي بوجهه : يتلقى العذاب بوجهه لا شيء يقيه منه، أهذا كمن أمِنَ ؟
سوء العذاب : أقساه وأشدّه.
وقيل للظالمين : أي : المشركين في جهنم.
ذوقوا ما كنتم تكسبون : جزاء كسبكم الشرّ والفساد.
التفسير :
٢٤-﴿ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ﴾.
من شأن القرآن أن يقابل بين عذاب الكافرين، ونعيم المتقين.
وهنا يقول : أفمن يلقى في النار موثوقا بالحبال قد ربطت يداه بالحبال، فاضطر أن يستقبل النار بوجهه، كمن هو آمن سعيد مطمئن بالجنة ونعيمها ؟ !
ويجوز أن يراد بالوجه الجسم كله، فهو يسحب في النار على وجهه، ويُهان أعز جزء عليه وهو الوجه، فالإنسان في الدنيا يدافع عن وجهه بيديه، وفي الآخرة يلقى الكافر في النار مكتوفا.
وقال عطاء وابن زيد : يرمى به مكتوفا في النار، فأوّل شيء تمسّ منه النار وجهه.
وقال مجاهد : يجرّ على وجهه في النار. ا ه.
قال تعالى :﴿ يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ﴾. ( القمر : ٤٨ ).
﴿ وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ﴾.
للكافرين في جهنم عذاب بين طبقات النار، ومعه مهانة وتقريع من الملائكة لهم، حيث تقول لهم الملائكة : تذوقوا ألوان العذاب، جزاء كفركم بالله، واجتراح المعاصي، وتكذيب الرسل، فالجزاء من جنس العمل.
من قبلهم : من قبل أهل مكة.
من حيث لا يشعرون : من الجهة التي لا يخطر ببالهم إتيان الشرّ منها.
التفسير :
٢٥-﴿ كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾.
كذبت أمم رسلها من قبل كفار مكة، وكانوا في أمن ودعة ونعمة وعافية، لا يتوقعون نزول العذاب الشديد بهم، وبينما هم قارّون آمنون مطمئنون، جاءهم العذاب من حيث لا يتوقعون قدومه، فجاءهم ضحى وهم يلعبون وعند القيلولة والهدوء، أو في ظلام الليل وسكونه، وذلك مثل غرق قوم نوح، وغرق فرعون وجنوده، والعذاب المهلك لعاد وثمود.
قال تعالى :﴿ وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ﴾. ( محمد : ١٣ ).
الخزي : المسخ والذلّ والإهانة.
لو كانوا يعلمون : لو كانوا يعلمون ذلك ما كذبوا ولا كفروا.
التفسير :
٢٦-﴿ فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾.
من شأن القرآن أن يعرض عذاب الآخرة مشاهدا، كأنما يراه الإنسان واقعا أمامه ليتّعظ ويعتبر، وهنا يقول : لقد ذاق الكفار ألوان العذاب في الدنيا.
قال تعالى :﴿ فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا... ﴾ ( العنكبوت : ٤٠ ).
لقد أصابهم العذاب المادّي، وأذاقهم مع ذلك الخزي والهوان والذل في الحياة الدنيا ؛ حيث أصبحوا مثلا وعبرة يعتبر بها في الدنيا، وفي الآخرة عذاب أكبر، وأهوال جسام، حيث يجدون في النار ألوان العذاب والهوان والقهر والإذلال.
﴿ لو كانوا يعلمون ﴾. ذلك علما يقينا ما كذّبوا ولا كفروا، أو لو كان من شأنهم أن يعلموا شيئا لعلموا ذلك واعتبروا به.
قال الفخر الرازي :
﴿ ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾.
يعني أن أولئك، وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره، فالعذاب المدّخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع، والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب ١.
﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ( ٢٧ ) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ( ٢٨ )ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( ٢٩ )إنك ميت وإنهم ميتون ( ٣٠ ) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ( ٣١ )* ﴾
المفردات :
ضرب مثلا : تشبيه حال عجيبة بأخرى، وجعلها مثلا لها.
التفسير :
٢٧، ٢٨ – ﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون* قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ﴾.
وصف الله القرآن الكريم في الآية الثالثة والعشرين من هذه السورة بخمس صفات، وهنا ذكر الله تعالى أنه اختص هذا الكتاب بما يأتي :
ضرب فيه الأمثال، فبيّن أحوال الأمم السابقة، وبيّن ما أصاب المكذبين من الهلاك، وما أصاب المؤمنين من الفوز والتمكين في الأرض، كما ضرب الأمثال للكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وللكلمة الخبيثة – وهي كلمة الكفر والفسوق – بالشجرة الخبيثة، وضرب مثلا للذين آمنوا بامرأة فرعون، وضرب مثلا للذين كفروا بامرأتي نوح ولوط.
وفي القرآن جانب من الأمثلة التي جمعت المعنى الكثير في الألفاظ القليلة، مثل :﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾. ( الرحمن : ٦٠ ). ومثل :﴿ إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾. ( الكهف : ٣٠ ). ومثل :﴿ فبهت الذي كفر... ﴾ ( البقرة : ٢٥٨ ). ومثل :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها... ﴾ ( الإسراء : ٧ ).
كما قارن القرآن بين نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وقارن بن هدوء المؤمن واطمئنان قلبه بعبادة الله وحده لا شريك له، وحيرة الكافر وتشتته بين عدد من الأصنام والأوثان، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في الآية التاسعة والعشرين من سورة الزمر.
كما شبه القرآن إنزال الماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وبإحياء الموتى عند البعث والنشور، أي أن القرآن دخل على الناس من كل باب، فقدم لهم عقيدة التوحيد، وقدّم الأدلة المتعددة على صحة هذا العقيدة، وذكر قصص السابقين وأمثالهم، وضرب المثل بظلم بعض القرى وكفرها وإهلاكها، ونوع الأمثال فشبه الإيمان بالنور والبصر والظلّ والحياة، وشبه الكفر بالظلام وبالعمى، وبالحرور وبموت القلوب، وكان ذلك تحريكا للعقل، وتنبيها للفؤاد وتذكيرا للغافلين.
﴿ لعلهم يتذكرون ﴾. أي : كي يتعظوا ويتنبهوا ويتذكروا الإيمان، فيكون سبيلا إلى الفلاح في الدنيا، والنجاة في الآخرة.
﴿ قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ﴾.
أنزلنا قرآنا ناطقا باللغة العربية، سليما من العوج والنقص، غاية في البلاغة والفصاحة، سليما من لَفْظه وفصاحته وبلاغته وجزالة ألفاظه، سليما في معانيه من الدعوة إلى توحيد الله وإقامة العبادات والمعاملات والآداب والأحكام فقد سلم مبناه ومعناه وليس فيه عوج ولا اضطراب، ولا نقص أو خلل في ألفاظه، ولا عيوب فيما اشتمل عليه من معان، ليكون القرآن وسيلة إلى تقوى الله تعالى، والخوف منه، والتقوى غاية المنى من كل تشريع.
قال تعالى :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾. ( الطلاق : ٢، ٣ ).
أدلة التوحيد
﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ( ٢٧ ) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ( ٢٨ )ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( ٢٩ )إنك ميت وإنهم ميتون ( ٣٠ ) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ( ٣١ )* ﴾
المفردات :
ضرب مثلا : تشبيه حال عجيبة بأخرى، وجعلها مثلا لها.
التفسير :
٢٧، ٢٨ – ﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون* قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ﴾.
وصف الله القرآن الكريم في الآية الثالثة والعشرين من هذه السورة بخمس صفات، وهنا ذكر الله تعالى أنه اختص هذا الكتاب بما يأتي :
ضرب فيه الأمثال، فبيّن أحوال الأمم السابقة، وبيّن ما أصاب المكذبين من الهلاك، وما أصاب المؤمنين من الفوز والتمكين في الأرض، كما ضرب الأمثال للكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وللكلمة الخبيثة – وهي كلمة الكفر والفسوق – بالشجرة الخبيثة، وضرب مثلا للذين آمنوا بامرأة فرعون، وضرب مثلا للذين كفروا بامرأتي نوح ولوط.
وفي القرآن جانب من الأمثلة التي جمعت المعنى الكثير في الألفاظ القليلة، مثل :﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾. ( الرحمن : ٦٠ ). ومثل :﴿ إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾. ( الكهف : ٣٠ ). ومثل :﴿ فبهت الذي كفر... ﴾ ( البقرة : ٢٥٨ ). ومثل :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها... ﴾ ( الإسراء : ٧ ).
كما قارن القرآن بين نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وقارن بن هدوء المؤمن واطمئنان قلبه بعبادة الله وحده لا شريك له، وحيرة الكافر وتشتته بين عدد من الأصنام والأوثان، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في الآية التاسعة والعشرين من سورة الزمر.
كما شبه القرآن إنزال الماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وبإحياء الموتى عند البعث والنشور، أي أن القرآن دخل على الناس من كل باب، فقدم لهم عقيدة التوحيد، وقدّم الأدلة المتعددة على صحة هذا العقيدة، وذكر قصص السابقين وأمثالهم، وضرب المثل بظلم بعض القرى وكفرها وإهلاكها، ونوع الأمثال فشبه الإيمان بالنور والبصر والظلّ والحياة، وشبه الكفر بالظلام وبالعمى، وبالحرور وبموت القلوب، وكان ذلك تحريكا للعقل، وتنبيها للفؤاد وتذكيرا للغافلين.
﴿ لعلهم يتذكرون ﴾. أي : كي يتعظوا ويتنبهوا ويتذكروا الإيمان، فيكون سبيلا إلى الفلاح في الدنيا، والنجاة في الآخرة.
﴿ قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ﴾.
أنزلنا قرآنا ناطقا باللغة العربية، سليما من العوج والنقص، غاية في البلاغة والفصاحة، سليما من لَفْظه وفصاحته وبلاغته وجزالة ألفاظه، سليما في معانيه من الدعوة إلى توحيد الله وإقامة العبادات والمعاملات والآداب والأحكام فقد سلم مبناه ومعناه وليس فيه عوج ولا اضطراب، ولا نقص أو خلل في ألفاظه، ولا عيوب فيما اشتمل عليه من معان، ليكون القرآن وسيلة إلى تقوى الله تعالى، والخوف منه، والتقوى غاية المنى من كل تشريع.
قال تعالى :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾. ( الطلاق : ٢، ٣ ).
متشاكسون : مختلفون يتنازعون لسوء طباعهم.
سلما لرجل : خالصا لسيد واحد.
بل أكثرهم لا يعلمون : لا يعلمون الحق فيتبعوه.
التفسير :
٢٩- ﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾.
هذا أيضا من أمثلة القرآن الموضحة التي يشبه فيها حالا عجيبة بأخرى مثلها.
ومعنى الآية :
ضرب الله مثالا للمشرك والموحد، فالمشرك صفته صفة عبد يملكه أشخاص متعددون متنازعون مختلفون، يكلفونه بأعمال متعددة في وقت واحد، وإذا طلب من أحدهم مالا أو طعاما أو كساء، أو غير ذلك مما يحتاج إليه، أحاله على المالك الآخر، فيصاب بالإحباط والتشوش، إذ لا يدري من الذي يطيع، وعلى من يعتمد من هؤلاء المالكين له، هذا شأن المشرك بالله، الذي يعبد أصناما شتّى لا تنفعه ولا تفيده ولا تدفع عنه ضرا، فهو في حالة إحباط وتشوش، كاسفا باله قليل الرجاء، أما المثل الآخر فهو حالة رجل سلم لرجل، أي عبد لا يملكه إلا رجل واحد، يكلفه بمطالبه في نظام وترتيب، ويتكفل المالك الواحد بما يحتاج إليه العبد من طعام وشراب وكساء وغير ذلك، وهذا مثال للمؤمن الذي يعبد ربّا واحدا يلجأ إليه في البأساء، ويشكره في النعماء، ويؤمن به وحده، ويعبده وحده لا شريك له، ويتكفل الله تعالى به ويرعاه الله القوي القدير.
﴿ هل يستويان ﴾.
هل يستوي من توزّع بين عدة ملاك متشاكسين، يقول له أحدهم : اذهب إلى مكان كذا، فيقول الثاني : لا تذهب لأني أريدك في عمل كذا، وبين عبد ملكيته سالمة وخالصة لشخص واحد، أموره مرتبة وهذا المالك متكفل برعاية عبده، وسدّ حاجاته.
والجواب : لا يستويان.
﴿ الحمد لله ﴾. أي الثناء الجميل والشكل العظيم له تعالى، على أنه رب واحد، وإله واحد، لا إله غيره ولا رب سواه.
﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾.
بل أكثر المشركين لا يعلمون عدم تساوي الرجلين ولا يدركون هذا الفرق بينهما، فيشركوا مع الله غيره.
ميّت : بالتشديد، من لم يمت وسيموت ( ميْت بالتسكين، من فارقته الروح ومات بالفعل ).
التفسير :
٣٠- ﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ﴾.
كان الكافرون يستطيلون عمر النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون : غدا يموت فنستريح منه، أو نشمت فيه، فأكد القرآن هنا أن الموت لاحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا حق بالكفار المشركين، فلا داعي لأن يشمت فان في فان، فالموت سيدرك محمدا، وسيدرك أعداء محمد.
تختصمون : في يوم القيامة أمام الله تعالى، يتخاصم الكافر والمؤمن، والظالم والمظلوم، يقال : اختصم القوم، أي : خاصم بعضهم بعضا.
التفسير :
٣١- ﴿ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ﴾.
أي : تعاد الخصومة التي بينك وبينهم يوم القيامة أمام الله تعالى، فتشهد يا محمد بأنك بلّغت الرسالة، وأدّيت الأمانة، وأنهم قد كذبوا بالحق، وكفروا بالله ورسوله، ويعتذرون بما بلا طائل تحته.
وقد أورد ابن كثير وغيره من المفسرين، طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة، تفيد أن التخاصم يوم القيامة يكون بين المؤمن والكافر، وبين الظالم والمظلوم، وأن الله تعالى يعيد الخصومة التي كانت في الدنيا بين المتخاصمين مرة أخرى لتحقيق العدالة الكاملة الحقة. ومعاقبة الظالمين، ومكافأة المؤمنين.
جاء في تفسير القرطبي ما يأتي :
﴿ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ﴾.
يعني تخاصم الكافر والمؤمن، والظالم والمظلوم.
وقال الزبير : لما نزلت هذه الآية قلنا : يا رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا من خواص الذنوب ؟ قال : " نعم، ليكرّرن عليكم حتى يؤدّى إلى كل ذي حق حقه " فقال الزبير : والله إن الأمر لشديد.
وأخرج مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون من المفلس " ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال صلى الله عليه وسلم : " المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار " ١.
وفي البخاري، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليحتلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " ٢ ٣.
وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجاء بالحاكم الجائر الخائن يوم القيامة، فتخاصمه الرعية، فيفلحون عليه، فيقال له : سدّ ركنا من أركان جهنم " ٤.
تفسير القرآن الكريم
الجزء الرابع والعشرون من القرآن الكريم
رواه مسلم في البر (٢٥٨١) والترمذي في صفة القيامة(٢٤١٨) وأحمد في مسنده (٧٩٦٩) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون ما المفلس "؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل من مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار "..
٢ من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه:
رواه البخاري في المظالم (٢٤٤٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: " من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينارا ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه "..
٣ تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) مجلد ٦ ص ٥٨٦٧، مطبعة دار الغد العربي، العباسية – القاهرة..
٤ يجاء بالحاكم الجائر:
ذكره الهندي في كنز العمال (١٤٧٧١) بلفظ: يؤتى بالحكام يوم القيامة بمن قصر وبمن تعدى، فيقول: أنتم خزان أرضي ورعاء عبيدي وفيكم بغيتي، فيقول للذي قصر: ما حملك على ما صنعت؟ فيقول: رحمته، فيقول الله: أنت أرحم بعبادي مني، ويقول الذي تعدى: ما حملك على الذي صنعت؟ فيقول: غضبا مني، فيقول: انطلقوا بهم فسدوا بهم ركنا من أركان جهنم. وقال: رواه أبو سعيد النقاش في كتاب القضاة من طريق ابن عبد الرحيم المروزي عن بقية ثنا سلمة بن كلثوم عن أنس، وعنده قال أبو داود: لا أحدث عنه، وسلمة شامي ثقة وبقية روايته عن الشاميين. مقبولة، وقد صرح في هذا الحديث بالتحديث.
***
تمت الهوامش وتخرج الأحاديث
بحمد الله وبها تم الجزء (الثالث والعشرون).
﴿ فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ( ٣٢ ) والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ( ٣٣ ) لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ( ٣٤ ) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ( ٣٥ ) أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ( ٣٦ ) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ( ٣٧ ) ﴾
المفردات :
كذب على الله : بنسبة الشريك والولد إليه.
وكذّب بالصدق : وهو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
مثوى : مقاما ومأوى، من ثوى بالمقام يثوى به إذا أقام به.
تمهيد :
ذكر الله تعالى فيما سبق بعض هنات المشركين وهنا ذكر نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون على الله فيثبتون لله ولدا، ويثبتون له شركاء، ثم أتبع ذلك بوعد الصادق المصدوق، ووعد أتباعه المصدّقين المؤمنين بتكفير السيئات، وبمنحهم أفضل الثواب، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد.
التفسير :
٣٢- ﴿ فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ﴾.
أي : لا أحد يبلغ في ظلمه مبلغ من افترى على الله الكذب، بأن نسب له شريكا، أو ادعى أن الملائكة بنات الله، أو ادّعى أن لله ولدا أو صاحبة، ثم كذب بالوحي والقرآن ورسالة محمد فور مجيء ذلك إليه، فلم يتأمّل ولم يتدبر.
﴿ أليس في جهنم مثوى للكافرين ﴾.
أليس في جهنم الواسعة مكان ومستقر لهؤلاء المكذبين بالوحي والرسالة ؟
ذكر الله تعالى فيما سبق بعض هنات المشركين وهنا ذكر نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون على الله فيثبتون لله ولدا، ويثبتون له شركاء، ثم أتبع ذلك بوعد الصادق المصدوق، ووعد أتباعه المصدّقين المؤمنين بتكفير السيئات، وبمنحهم أفضل الثواب، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد.
المفردات :
والذي جاء بالصدق : هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
وصدق به : هم أتباعه المؤمنون، كأبي بكر وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المتقون : المراقبون لله، المبْعَدون عن الشرك.
التفسير :
٣٣-﴿ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ﴾.
والذي جاء بالصدق – وهو محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله وخاتم النبيين – والذين صدّقوه- مثل أبي بكر الصدّيق، وسائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – هم الذين اتقوا الله فوحّدوه وبرئوا من الأوثان والأصنام.
ذكر الله تعالى فيما سبق بعض هنات المشركين وهنا ذكر نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون على الله فيثبتون لله ولدا، ويثبتون له شركاء، ثم أتبع ذلك بوعد الصادق المصدوق، ووعد أتباعه المصدّقين المؤمنين بتكفير السيئات، وبمنحهم أفضل الثواب، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد.
المفردات :
جزاء المحسنين : على إحسانهم.
التفسير :
٣٤- ﴿ لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ﴾.
لهؤلاء المؤمنين الصادقين المصدّقين المتقين ما يشاءون من ألوان النعيم في الجنة، ومن التكريم عند الله العلي القدير، ففي الجنة ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وفيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إن هؤلاء المتقين قد أحسنوا العمل فاستحقوا أحسن الثواب.
﴿ ذلك جزاء المحسنين ﴾.
أي : ذلك الذي ذُكر من حصولهم على ما يشاءون في الدنيا والآخرة، جزاء للمحسنين الذين أخلصوا إيمانهم وأحسنوا أعمالهم.
ذكر الله تعالى فيما سبق بعض هنات المشركين وهنا ذكر نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون على الله فيثبتون لله ولدا، ويثبتون له شركاء، ثم أتبع ذلك بوعد الصادق المصدوق، ووعد أتباعه المصدّقين المؤمنين بتكفير السيئات، وبمنحهم أفضل الثواب، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد.
المفردات :
أسوأ الذي عملوا : أسوأ وأحسن بمعنى السيئ والحسن، أو أسوأ ما عملوه من المعاصي قبل الإسلام.
بأحسن الذي كانوا يعملون : أي : يجزيهم على الطاعات بأحسن جزاء، ويزيدهم في الثواب لفرط إخلاصهم.
التفسير :
٣٥ –﴿ ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ﴾.
لقد صاروا في جوار الله تعالى، وكرمه وفضله، وحسن مثوبته ورعايته، فأعطاهم في الجنة ما يشاءون من رفيع المنزلة، وأحسن المنازل في الجنة جزاء إحسانهم، وقد فعل الله بهم ذلك ليكفّر عنهم أسوأ الذي عملوا من الكفر والشرك قبل الإسلام، أو المعاصي بعد الإسلام التي تابوا منها، وليجزيهم أحسن الجزاء، حيث يرفع درجة الحسن من أعمالهم إلى درجة أحسنها، ويثيبهم على الحسن ثواب الأحسن، فهم في زيادة القرب، وفي زيادة الثواب والفضل من الله تعالى.
ذكر الله تعالى فيما سبق بعض هنات المشركين وهنا ذكر نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون على الله فيثبتون لله ولدا، ويثبتون له شركاء، ثم أتبع ذلك بوعد الصادق المصدوق، ووعد أتباعه المصدّقين المؤمنين بتكفير السيئات، وبمنحهم أفضل الثواب، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد.
المفردات :
بكاف عبده : بحافظ ومانع رسوله مما يخوّفونه به.
التفسير :
٣٦- ﴿ أليس الله بكاف عبده ويخوّفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾.
سبب النزول :
كان المشركون يخوفون رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيذاء الأصنام التي يعبدونها له صلى الله عليه وسلم، وقالوا له : أتسب آلهتنا ؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنّك أو لتصيبنك بسوء.
وقال قتادة :
مشى خالد بن الوليد إلى العزّى ليكسرها بالفأس، فقال له سادتها : نحذّركها يا خالد، فإن لها شدّة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزّى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس، وقد أنزل الله هذه الآية تأكيدا لفضل الله، وعظيم رعايته لرسوله وللمؤمنين، وأن الأصنام لا تملك نفعا ولا ضرّا، فهو سبحانه النافع الضار.
﴿ أليس الله بكاف عبده... ﴾
استفهام للتقرير والإثبات، فقد دخلت همزة الاستفهام على النفي لإفادة التقرير، والجواب : بلى الله تعالى حافظ عبده.
والمعنى :
الله تعالى يحفظ رسوله ويكفيه كل سوء، ويمنع عنه كل أذى وكل ضرّ.
﴿ ويخوّفونك بالذين من دونه... ﴾.
ويخوفك المشركون من الأصنام والأوثان، حتى تكفّ عن عيبها وذمّها، مع أنها عاجزة لا تنفع ولا تضرّ.
﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾.
من أضله الله تعالى وسلب عنه التوفيق والهدى، يتركه محبّا للفسوق والكفر، غارقا في بحار الضلال، لا يجد هاديا يهديه.
وفي معنى الآية قوله تعالى :﴿ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ﴾. ( البقرة : ١٣٧ ).
وقوله سبحانه حكاية عن إبراهيم :﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ﴾. ( الأنعام : ٨١ ).
ذكر الله تعالى فيما سبق بعض هنات المشركين وهنا ذكر نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون على الله فيثبتون لله ولدا، ويثبتون له شركاء، ثم أتبع ذلك بوعد الصادق المصدوق، ووعد أتباعه المصدّقين المؤمنين بتكفير السيئات، وبمنحهم أفضل الثواب، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد.
٣٧- ﴿ ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ﴾.
من يوفقه الله تعالى ويشرح صدره للإسلام، ويرشده إلى الحق ونور الإيمان، فلن يستطيع كفار مكة إضلاله وتخويفه وإرهابه.
﴿ أليس الله بعزيز ذي انتقام ﴾.
أي : أليس الله بغالب لا يُغالَب، منيع لا يُمانَع ولا يُنازَع، ذي انتقام وعقوبة بالغة لمن يتمرد على أمره أو نهيه.
والآية عامة تشمل كل مؤمن هداه الله إلى الإسلام والإيمان، فلن تستطيع أيّ قوة في الأرض أن تخرجه عن الحق، وفي الآية تسلية للرسول الأمين، وتثبيت للمؤمنين، وتهديد للكافرين، ووعيد لمشركي مكة بشدة انتقام الله.
﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ( ٣٨ ) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ( ٣٩ ) من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ( ٤٠ ) ﴾
المفردات :
كاشفات ضره : دافعات ضرّه ورافعاته.
ممسكات رحمته : مانعات رحمته وحابسات لها.
حسبي الله : كافيني في جميع أموري.
سبب النزول :
روى عن مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل المشركين قائلا :" من خلق السماوات والأرض " ؟ فسكتوا ؛ فنزل ذلك.
وقال غيره : قال المشركون : لا تدفع الأصنام شيئا قدّره الله، ولكنها تشفع ؛ فنزلت.
وتفيد الآيات ما يأتي :
١- أن هؤلاء المشركين مقرّون بوجود الإله الخالق القادر العالم.
٢- أن هذه الأصنام لا قدرة لها على جلب خير أو دفع شر.
التفسير :
٣٨-﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضرّه أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ﴾.
لم يدّع أحد أنه خلق السماء أو الأرض أو الجبال أو البحار، أو الأنهار أو الأشجار أو الليل أو النهار، وكان الكفار يعتقدون أن الله تعالى هو الذي خلق هذا الكون، ومع ذلك يعبدون الأصنام حتى تشفع لهم عند الله، وكانوا يخوّفون النبي صلى اله عليه وسلم ويحذرونه من إصابته بالأذى والضرّ بسبب ذم الأصنام، وتأكيد عدم غنائها وعدم نفعها أو ضرّها.
والمعنى :
ولئن سألت هؤلاء المشركين المعاندين : من خلق السماوات ورفعها، وزيّنها بالنجوم والقمر والشموس ؟ ومن بسط الأرض، وأجرى بها الأنهار والبحار ؟ ومن أرسى الجبال وأظلم الليل وأضاء النهار ؟ ليقولنّ : الذي خلق ذلك الله العزيز العليم، وهنا يأمر الله نبيه أن يجيبهم قائلا : أرأيتم هذه الأصنام والأوثان، مثل اللات والعزّى ومناة التي تعبدونها وهي لم تخلق شيئا، ولا تملك قدرة ولا نفعا ولا ضرّا، إن أرادني الله بضرّ أو شر، هل تستطيع أن تكشف عنّي الضرّ الذي أراده الله لي، أو أرادني برحمة ونعمة، هل تستطيع أن تمنعها منّي، أو تحبسها عني ؟
فلما سكتوا أو قال بعضهم : نعبدها رجاء شفاعتها لنا عند الله، أنزل الله تعالى قوله :﴿ قل حسبي الله... ﴾ أي : أعبده وأتوكل عليه، وهو حسبي وكافيني في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر.
﴿ عليه يتوكل المتوكلون ﴾.
على الله وحده يعتمد المؤمنون، ويثق المتقون، ويتوكل المتوكلون في كل أمورهم، ويعتمدون على حوله وقوته في جميع شئونهم، لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته تعالى.
روى عن مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل المشركين قائلا :" من خلق السماوات والأرض " ؟ فسكتوا ؛ فنزل ذلك.
وقال غيره : قال المشركون : لا تدفع الأصنام شيئا قدّره الله، ولكنها تشفع ؛ فنزلت.
وتفيد الآيات ما يأتي :
١- أن هؤلاء المشركين مقرّون بوجود الإله الخالق القادر العالم.
٢- أن هذه الأصنام لا قدرة لها على جلب خير أو دفع شر.
المفردات :
مكانتكم : حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتم فيها.
التفسير :
٣٩- ﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ﴾.
تأتي هذه الآية وما بعدها في مقام التهديد والوعيد، أي : اعملوا على طريقتكم التي تمكّنت من نفوسكم، وهي عداوة الإسلام والقرآن ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أي استمروا على كفرهم، وتمكّن العداوة للإسلام في قلوبكم، فإني مستمر في الدعوة إلى الإسلام والإيمان، والنتيجة ستظهر فيما بعد، وسيظهر المحق من المبطل.
روى عن مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل المشركين قائلا :" من خلق السماوات والأرض " ؟ فسكتوا ؛ فنزل ذلك.
وقال غيره : قال المشركون : لا تدفع الأصنام شيئا قدّره الله، ولكنها تشفع ؛ فنزلت.
وتفيد الآيات ما يأتي :
١- أن هؤلاء المشركين مقرّون بوجود الإله الخالق القادر العالم.
٢- أن هذه الأصنام لا قدرة لها على جلب خير أو دفع شر.
المفردات :
يخزيه : يذله ويُهينه.
مقيم : دائم لا ينقطع.
التفسير :
٤٠- ﴿ من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ﴾.
سوف ترون بأعينكم من الذي سيصيبه عذاب الدنيا، بالقتل يوم بدر، والهزيمة المخزية المذّلة، ومن منّا سيناله عذاب جهنم يوم القيامة، حيث الخلود الدائم، والعذاب المقيم الذي لا آخر له، ولا استراحة منه.
﴿ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل ( ٤١ ) الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( ٤٢ ) أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون ( ٤٤ ) ﴾
المفردات :
بالحق : متلبسا بالصدق.
بوكيل : مسلّط عليهم لتجبرهم على الهداية.
التفسير :
٤١-﴿ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل ﴾.
الآية فيها لمسة الحنان والفضل من الله على نبيه، أي : لقد أنزلنا عليك القرآن الكريم، متلبسا بالحق والصدق، مشتملا على ألوان البلاغة والبيان، والتشريع والآداب، وعرض مشاهد القيامة وخلق الكون ومشاهد الوجود، وتصريف القول في الدعوة إلى الإيمان، فمن اهتدى إلى الإيمان بالله ورسوله فنفع ذلك يعود عليه، ومن ضلّ وعزف عن الإيمان فضرر ضلاله لا يعود إلا عليه.
﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾.
لست مسلطا عليهم حتى تجبرهم على الهداية والإيمان، والمراد : طب نفسا أيها النبي، ولا تبخع نفسك حرضا على عدم إيمانهم.
جاء في حاشية الجمل على الجلالين :
وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى : ليس هداهم بيدك، حتى تقهرهم وتجبرهم عليه، وإنما هو بيدنا فإن شئنا هديناهم، وإن شئنا أبقيناهم على ما هم عليه من الضلال.
الله يتوفى الأنفس : يقبضها من الأبدان عند فناء آجالها، وهي الوفاة الكبرى.
والتي لم تمت في منامها : ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهي الوفاة الصغرى.
فيمسك التي قضى عليها الموت : يحفظها ولا يردُّها إلى البدن.
ويرسل الأخرى : يردّ النفس النائمة إلى البدن عند اليقظة.
أجل مسمى : وقت سمّاه الله ينتهي به عمرها.
لآيات : لعظات بالغات.
التفسير :
٤٢- ﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾.
يقبض الله أرواح الموتى بواسطة ملك الموت ومن يساعده من الملائكة.
قال تعالى :﴿ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ﴾. ( الأنعام : ٦١ ).
والله تعالى يتوفى أنفس النائمين عند النوم، فتجتمع أرواح النائمين وأرواح الميتين.
عن علي رضي الله عنه قال : تخرج الروح عند النوم، ويبقى شعاعها في الجسد، فبذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى جسده بأسرع من لحظة.
وعن سعيد بن جبير : إن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تتلقى في المنام، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجسادها، إلى انقضاء مدة حياتها ١.
قال القرطبي :
وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته تعالى، وانفراده بالألوهية، وأنه يحيى ويميت ويفعل ما يشاء. لا يقدر على ذلك سواه. ا ه.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾.
فيما ذكر لدلائل واضحة لقوم يُعمِلون عقولهم، ويتفكرون ويتأملون، في أنه تعالى هو المتصرف في الوجود كما يشاء، وأنه سبحانه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الملائكة الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام.
قال تعالى :﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ﴾. ( الأنعام : ٦٠ ).
أخرج البخاري، ومسلم، من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره – طرفه الذي يلي الجسد ويلي الجانب الأيمن - فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل : باسمك ربّي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " ٢.
وأخرج أحمد، والبخاري، وأبو داود، عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي : " إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردّها عليكم حين شاء " ٣.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال : العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء ولم يخطر على باله، فتكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا، فقال علي رضي الله عنه : أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين ؟ يقول الله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى... ﴾ فالله يتوفى الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده سبحانه في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة، لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها، فعجب عمر من قوله رضي الله عنهما.
ونلاحظ أنه لا منافاة بين هذه الآية التي صرحت بأن الله تعالى هو الذي يتوفى الأنفس عند موتها، وبين قوله تعالى :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ﴾. ( السجدة : ١١ ).
وقوله تعالى :﴿ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرّطون ﴾. ( الأنعام : ٦١ ).
لأن المتوفّى في الحقيقة هو الله تعالى، وملك الموت إنما يقبض الأرواح بإذنه سبحانه، ولملك الموت أعوان وجنود من الملائكة ينتزعون الأرواح بأمره المستمد من أمر الله عز وجل.
قال القرطبي في تفسيره :
وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته سبحانه وتعالى وانفراده بالألوهية، وأنه يفعل ما يشاء ويحيى ويميت، ولا يقدر على أحد سواه.
ويقول أيضا :
فإذا يقبض الله الروح في حالين، في حال النوم وحال الموت، فما قبضه في حال النوم، فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض... ، وما يقبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة.
٢ إذا أوى أحدكم إلى فراشه:
رواه البخاري في الدعوات(٦٣٢٠) وفي التوحيد (٧٣٩٣) ومسلم في الذكر (٢٧١٤) من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول: باسمك رب وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"..
٣ إن الله قبض أرواحكم:
رواه البخاري في مواقيت الصلاة (٥٩٥) من حديث أبي قتادة قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله، قال:" أخاف أن تناموا عن الصلاة"، قال بلال: أنا أوقظكم فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس فقال:" يا بلال أين ما قلت "؟ قال: ما ألقيت على نومة مثلها قط، قال:" إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة "، فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابيضت قام فصلى..
بل اتخذ المشركون من الأصنام والأوثان آلهة يعبدونها من دون الله، آملين أن تشفع لهم هذه الأصنام عند الله، ثم يبكّتهم القرآن ويلفت أنظارهم إلى أنها جمادات لا تنفع ولا تضرّ، ولا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعا أو ضرّا، وليس لها عقل تعقل به، ولا سمع تسمع به، ولا بصر تبصر به.
لله وحد سبحانه الشفاعة جميعا بكل صورها وكافة أغراضها، قال تعالى :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه.... ﴾. ( البقرة : ٢٥٥ )
ولله ملك السماوات والأرض، وملك ما بث فيهما من دابة، ومن حق المالك ألا يتكلم أحد في أمر من أمور ملكه إلا بإذنه، فهو سبحانه المتصرف في الملك والملكوت.
قال البيضاوي :
أي : هو تعالى مالك الملك كله، لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورصاه.
﴿ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ( ٤٥ ) قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ( ٤٦ ) ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ( ٤٧ ) وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( ٤٨ ) ﴾.
المفردات :
إذا ذكر الله وحده : دون ذكر الأصنام.
اشمأزت : انقبضت ونفرت.
من دونه : من دون الله.
يستبشرون : يفرحون ويسرّون.
التفسير :
٤٥-﴿ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ﴾.
إن توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وإخلاص التوجه إليه هدف أساسي من أهداف الإسلام، لكن هؤلاء المشركين إذا ذكر الله وحده، خالصا فردا صمدا متفردا بالقدرة والإرادة في هذا الكون، يغتاظ المشركون أشد الغيظ، ويغضبون لعدم ذكر آلهتهم، وإذا ذكرت الأصنام والأوثان، مثل اللات والعزّى ومناة، استبشروا وفرحوا، وظهر أثر ذلك الفرح على بشرة وجوههم.
قال الزمخشري :
ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز، إذ كل منها غاية في بابه، لأن الاستبشار هو أن يمتلئ قلبه سرورا، حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل، والاشمئزاز هو أن يمتلئ غمّا وغيظّا، حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه. ا ه.
وقال ابن عباس :
اشمأزت : قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وهم : أبو جهل بن هشام، والوليد بن عتبة، وصفوان، وأبّي بن خلف.
فاطر السماوات : خالق ومبدع السماوات على غير مثال سابق.
عالم الغيب والشهادة : عالم السرّ والعلن.
التفسير :
٤٦- ﴿ قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ﴾.
تأتي هذه الآية وعيدا للمشركين وتهديدا لهم، بفضل القضاء بينهم وبين الرسول الأمين يوم القيامة، وفيها تعليم للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته بالالتجاء إلى الله تعالى في الشدة.
والمعنى :
ادع الله تعالى وقل : يا الله يا خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق، لقد بدأت الخلق فرفعت السماء، وبسطت الأرض، وسخرت الهواء والرياح والأمطار، والليل والنهار، وأنت العليم الذي أحاط علمه بكل صغيرة وكبيرة، وأنت العالم بالخفايا، وبالسر والعلن، فقد أحاط علمك بما غاب في الأرض والسماء، وبما ظهر وشوهد في هذا الكون، وأنت المحيط بكل شيء، وأنت أيضا الحكم العدل الذي يحكم بين الكافرين والمؤمنين، وبين الرسل وأقوامهم، وبين دعاة الإيمان ودعاة الكفر ؛ فتحق الحق وتبطل الباطل.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل قرأ هذه الآية، وروى عن سعيد بن جبير أنه قال : إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه :﴿ قل الله فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ﴾.
وأخرج مسلم، وأبو داود، وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته : " اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " ١.
وأخرج الإمام أحمد، والترمذي، عن مجاهد قال : قال أبو بكر الصدّيق : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي من الليل : اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، ربّ كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شرّ نفسي، وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوء أو أجرّه إلى مسلم ٢.
رواه مسلم في صلاة المسافرين (٧٧٠) وأبو داود في الصلاة (٧٦٧) والترمذي في الدعوات (٣٤٢٠) والنسائي في قيام الليل (١٦٢٥) وابن ماجة في إقامة الصلاة (١٣٥٧) وأحمد (٢٤٦٩٩) من حديث عائشة، وقال الترمذي: حسن غريب..
٢ اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة:
رواه أحمد في مسنده (٨٢) والترمذي قي الدعوات (٣٥٢٩) من حديث عبد الله بن عمر بن العاص قال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فنظرت فإذا فيها: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال: " يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه..
لافتدوا به : لقدّموه فداء من العذاب.
وبدا : ظهر.
يحتسبون : يدخل في تقديرهم وحسابهم.
التفسير :
٤٧-﴿ ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴾.
لو أن الكافرين الذين ظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلموا أنفسهم بالكفر، كانوا يملكون جميع ما في الأرض من خيرات ونعم، ويملكون مثله معه، لافتدوا به أنفسهم من سوء العذاب، وهوله وشدته يوم القيامة، حيث يظهر لهم من أهوال القيامة، وألوان العذاب، وغضب الجبار عليهم، ما لم يكن يخطر لهم على بال، وفي الآية تفخيم لألوان العذاب والنكال الذين ينزل بالكافرين، يقابله أن المتقين يجدون في الجنة ما لم يكن يخطر لهم على بال من ألوان النعيم.
قال تعالى :﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾. ( السجدة : ١٧ ).
وقال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " ١.
وخلاصة معنى الآية :
ترقبوا أيها الظالمون هولا وعذابا لم يخطر لكم على بال، وقد تكرر معنى الآية في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم * يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ﴾. ( المائدة : ٣٦، ٣٧ ).
رواه البخاري في بدء الخلق (٣٢٤٤)، وفي التفسير (٤٧٧٩، ٤٧٨٠)، وفي التوحيد (٧٤٩٨) ومسلم في الجنة (٢٨٢٤)، والترمذي في التفسير (٣١٩٧، ٣٢٩٢)، وابن ماجة في الزهد (٤٣٢٨)، وأحمد (٩٣٦٥، ٩٦٨٨، ١٠٠٥١)، والدارمي في الرقاق (٢٨٢٨) من حديث أبي هريرة..
وظهر لهم من صحائف أعمالهم عقوبة كفرهم وعنادهم، وآثار تلك السيئات التي اكتسبوها في الدنيا، وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون بوقوعه في الدنيا، أو أيقنوا أنهم هالكون لا محالة لاستهزائهم بما كان ينذرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يذكّرهم بالبعث والجزاء والعذاب والحساب، فلا يتعظون ولا يصدّقون.
﴿ فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ( ٤٩ ) قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ( ٥٠ ) فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين ( ٥١ ) أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( ٥٢ )* ﴾
المفردات :
مس : أصاب وتمكن.
خولناه : أعطيناه وملكناه تفضلا.
على علم : على معرفة بوجوه الكسب، أو على استحقاق وجدارة بما عندي من العلم.
فتنة : محنة وابتلاء.
تمهيد :
تستمر الآيات في بيان رذائل المشركين، فهم عند الشدة والمحنة يخلصون الدعاء لله، ليقينهم أن الأصنام لا تملك لهم ضرّا ولا نفعا، وإذا أعطاهم الله النعمة ادعوا أنهم يستحقون هذه النعمة بما لهم من علم ومعرفة بكسب المال والجاه والسلطان، والحقيقة أن هذه النعم امتحان واختبار من الله، والدليل على ذلك أن من سبقهم من الظالمين قال مثل هذه المقالة، مثل قارون وأشباهه : فخسف الله بقارون والأرض، وأنزل العذاب بكثير من الظالمين، وسيلحق هذا العذاب مشركي مكة، ولن يفلتوا أبدا من عذاب الله تعالى، ويجب أن يعرفوا أن الله يوسّع الرزق على من يشاء من عباده، ويضيّق على من يشاء، وفي هذا دلائل وعلامات المؤمنين على سعة قدرته سبحانه وعظيم سلطانه.
التفسير :
٤٩-﴿ فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾.
هذه الآية معطوفة على ما سبقها أو هي متفرعة عنها، وقد كان صدر المجموعة السابقة من الآيات قوله تعالى :
﴿ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذ هم يستبشرون ﴾. ( الزمر : ٤٥ ).
وهنا يتحدث عن نتيجة مترتبة على ما سبق، وهي أن هذا الإنسان الكافر أو الإنسان عموما، إذا أصابه ضرّ أو مرض أو محنة أو فقر ؛ أخلص الدعاء لله تعالى أن يزيح عنه الضر أو البلاء، ثم إذا تفضل الله عليه بكشف الضر أو دفع البلاء، أو الغنى بعد الفقر، أو الشفاء بعد المرض، نسب هذا الفضل إلى نفسه، وادعى أن هذه النعمة أو الغنى أو الصحة إنما جاءت بسبب معرفته، واجتهاده في تثمير المال، أو الذهاب إلى الطبيب، أو خبرته في جلب النعم ودفع النقم، وما علم هذا الإنسان أنّ حضور النّعم ودفع النقم امتحان واختبار وابتلاء من الله.
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾.
أي : أكثر كفار مكة، أو أكثر البشر لا يعلمون أن ما يجري عليهم من النعم اختبار من الله، يتمحص به الشاكر والكافر، والحامد والجاحد، أو لا يعلمون سُبل الخلاص ووسائل النجاة.
تستمر الآيات في بيان رذائل المشركين، فهم عند الشدة والمحنة يخلصون الدعاء لله، ليقينهم أن الأصنام لا تملك لهم ضرّا ولا نفعا، وإذا أعطاهم الله النعمة ادعوا أنهم يستحقون هذه النعمة بما لهم من علم ومعرفة بكسب المال والجاه والسلطان، والحقيقة أن هذه النعم امتحان واختبار من الله، والدليل على ذلك أن من سبقهم من الظالمين قال مثل هذه المقالة، مثل قارون وأشباهه : فخسف الله بقارون والأرض، وأنزل العذاب بكثير من الظالمين، وسيلحق هذا العذاب مشركي مكة، ولن يفلتوا أبدا من عذاب الله تعالى، ويجب أن يعرفوا أن الله يوسّع الرزق على من يشاء من عباده، ويضيّق على من يشاء، وفي هذا دلائل وعلامات المؤمنين على سعة قدرته سبحانه وعظيم سلطانه.
٥٠- ﴿ قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ﴾.
أي : هذا طبع في الإنسان، السابق فيه مثل اللاحق، فالذين سبقوا ادعوا أنهم أهل للفضل والمال والغنى، فهذا قارون قد قال :﴿ إنما أوتيته على علم عندي... ﴾ ( القصص : ٧٨ ).
وهذا فرعون قد تألّه وتجبر وقال :﴿ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي... ﴾( الزخرف : ٥١ ).
وقال أيضا متطاولا على مقام النبوة :﴿ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ﴾. ( الزخرف : ٥٢ ).
كما قال النمرود :﴿ أنا أحيى وأميت... ﴾ ( البقرة : ٢٥٨ ).
وصدق الله العظيم :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى * أن رؤاه استغنى ﴾. ( العلق : ٦، ٧ ).
﴿ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ﴾.
أي : إن الكفار السابقين، حيث عتوا عن أمر ربهم، وتطاولوا على مقام النبوة، ﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾. ( سبأ : ٣٥ ). لم ينفعهم هذا القول شيئا حين نزل العذاب بساحتهم، فقد غرق قوم نوح بالطوفان، وأهلكت ثمود بالصيحة المهلكة، وأهلكت عاد بريح صرصر عاتية، وأغرق فرعون وهامان، ولم ينفعهم الملك ولا المال ولا الجاه ولا السلطان.
تستمر الآيات في بيان رذائل المشركين، فهم عند الشدة والمحنة يخلصون الدعاء لله، ليقينهم أن الأصنام لا تملك لهم ضرّا ولا نفعا، وإذا أعطاهم الله النعمة ادعوا أنهم يستحقون هذه النعمة بما لهم من علم ومعرفة بكسب المال والجاه والسلطان، والحقيقة أن هذه النعم امتحان واختبار من الله، والدليل على ذلك أن من سبقهم من الظالمين قال مثل هذه المقالة، مثل قارون وأشباهه : فخسف الله بقارون والأرض، وأنزل العذاب بكثير من الظالمين، وسيلحق هذا العذاب مشركي مكة، ولن يفلتوا أبدا من عذاب الله تعالى، ويجب أن يعرفوا أن الله يوسّع الرزق على من يشاء من عباده، ويضيّق على من يشاء، وفي هذا دلائل وعلامات المؤمنين على سعة قدرته سبحانه وعظيم سلطانه.
المفردات :
بمعجزين : بغائبين من العذاب ناجين.
التفسير :
٥١- ﴿ فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين ﴾.
أي : أصاب السابقين من الكافرين جزاء ما كسبوا من الكفر والظلم، مثل غرق فرعون وهامان، والذين ظلموا من أهل مكة، وجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سيصيبهم عقوبة كفرهم وظلمهم، من القتل والأسر، والقهر، وما هم بفائتين منّا، هربا يوم القيامة، بل مرجعهم إلى الله، يصنع بهم ما يشاء من العقوبة.
تستمر الآيات في بيان رذائل المشركين، فهم عند الشدة والمحنة يخلصون الدعاء لله، ليقينهم أن الأصنام لا تملك لهم ضرّا ولا نفعا، وإذا أعطاهم الله النعمة ادعوا أنهم يستحقون هذه النعمة بما لهم من علم ومعرفة بكسب المال والجاه والسلطان، والحقيقة أن هذه النعم امتحان واختبار من الله، والدليل على ذلك أن من سبقهم من الظالمين قال مثل هذه المقالة، مثل قارون وأشباهه : فخسف الله بقارون والأرض، وأنزل العذاب بكثير من الظالمين، وسيلحق هذا العذاب مشركي مكة، ولن يفلتوا أبدا من عذاب الله تعالى، ويجب أن يعرفوا أن الله يوسّع الرزق على من يشاء من عباده، ويضيّق على من يشاء، وفي هذا دلائل وعلامات المؤمنين على سعة قدرته سبحانه وعظيم سلطانه.
٥٢- ﴿ أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾.
أي : أعموا عن التفكّر والإبصار، فلم يشاهدوا بأعينهم أن الله تعالى يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده، ويضيقه على من يشاء من عباده، لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾.
في هذه القدرة البالغة دلالات واضحة، وعلامات ظاهرة لقوم يؤمنون بالله، ويقرون بوحدانيته، وأنه هو المتحكم في هذا الكون، الفعّال لما يريد، وهو سبحانه على كل شيء قدير.
﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ( ٥٣ ) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ( ٥٤ ) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ( ٥٥ ) أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ( ٥٦ ) أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ( ٥٧ ) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ( ٥٨ ) بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ( ٥٩ ) ﴾
المفردات :
الإسراف : تجاوز الحد في كل ما يفعله المرء، وكثر استعماله في إنفاق المال وتبذيره، والمراد هنا : الإفراط في المعاصي.
لا تقنطوا : لا تيأسوا.
تمهيد :
هذه آيات من أرجى الآيات في كتاب الله تعالى، أي أكثر الآيات رجاء وأملا في رحمة الله، ذلك أنها تتحدث عن عظيم رحمة الله. وسابغ فضله، وتوبته على كل من تاب ورجع إلى الله، سواء أكان كافرا فدخل في الإسلام، أم مؤمنا وتاب إلى الله تعالى من المعاصي.
التفسير :
٥٣-﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ﴾.
يا أيها الناس، ويا عباد الله تعالى، يا أيها العباد الذين أكثروا من الذنوب، وتجاوزوا الحدود في المعاصي أو في الكفر، لا تيأسوا من رحمة الله، ولا تجبنوا وتمتنعوا عن التوبة يأسا أو قنوطا، فتصابوا بالإحباط والتردد، وعدم الإقدام على الإسلام أو على التوبة، فإن باب الله مفتوح للتائبين، وهو سبحانه يغفر الذنوب جميعا للمستغفرين، وهو سبحانه واسع المغفرة وعظيم الرحمة.
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله، ونلمح أن الله تفضل على عباده في هذه الآية بالبشارات التالية :
١- نسب العباد إلى نفسه فقال سبحانه :﴿ قل يا عبادي... ﴾.
٢- وصفهم بالإسراف في المعاصي.
٣- دعاهم إلى عدم القنوط من رحمة الله، ودعاهم إلى الأمل والرجاء في مغفرته.
٤- إخبارهم بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا.
٥- تأكيد ذلك بأنه سبحانه هو الغفور الرحيم.
سبب النزول :
أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن ابن عباس، أن ناسا من أهل الشرك قَتلوا فأكثروا، وزَنوا فأكثروا، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، أو تخبرنا أن لنا توبة، أو أن لما عملنا كفارة ؟ فنزلت :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ﴾ ١. ( الفرقان : ٦٨-٧٠ ).
ونزل قوله تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله... ﴾.
وأخرج ابن جرير، عن عطاء بن يسار قال : نزلت هذه الآيات :﴿ قل يا عبادي... ﴾ إلى :﴿ وأنتم لا تشعرون ﴾. بالمدينة في وحشي قاتل حمزة لأنه ظنّ أن الله لا يقبل إسلامه.
وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بنزول هذه الآية، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، وغيرهم، عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما أحبّ أن لي في الدنيا وما فيها بهذه الآية :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله... ﴾ ٢ إلى آخر الآية.
فلسفة التوبة
يفتح الإسلام باب الرجاء في وجه الله أمام الحيارى والمسرفين، وجميع المذنبين، آملا في توبتهم واستقامتهم وهدايتهم، وبذلك تكسب البشرية إنسانا تائبا مستقيما، معتدلا مهتديا، وفي نفس الوقت نطارد اليأس والإحباط في نفوس العصاة، ونخبر الناس بأن باب الله مفتوح للتائبين بالليل والنهار، وفي الحديث الصحيح :" ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الأخير، فينادي : يا عبادي، هل من داع فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من طالب حاجة فأقضيها له ؟ حتى يطلع الفجر "، وقد تردد في القرآن سعة رحمة الله، وعظيم مغفرته وتوبته على عباده، وأنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا.
قال تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ﴾ ( النساء : ٤٨ ).
وقال تعالى :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ﴾. ( آل عمران : ١٣٥، ١٣٦ ).
وقال ابن كثير : هذه الآية دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها مهما كثرت. ا ه.
وقد أورد ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة فيها نفى القنوط، ومحاربة اليأس.
من ذلك ما ورد في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الذي قتل تسعا وتسعين نفسا، ثم ندم وسأل عابدا من عبّاد بني إسرائيل هل له من توبة ؟ فقال لا، فقتله وأكمل به مائة، ثم سأل عالما من علمائهم هل له من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة، ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها، وكان ذلك سبيلا إلى قبول التوبة وحسن الخاتمة، لأنه قصد باب الله مخلصا فقبله الله تعالى ٣.
رواه البخاري في التفسير (٤٨١٠) ومسلم في الإيمان(١٢٢) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما علمنا كفارة فنزلت:﴿والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون﴾ ونزلت: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾..
٢ ما أحب أن لي الدنيا:
رواه أحمد في مسنده (٢١٨٥٧) من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية﴿يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم﴾، فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك ؟، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: " إلا من أشرك " ثلاث مرات..
٣ كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعون إنسانا:
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (٣٤٧٠) ومسلم في التوبة(٢٧٦٦) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله فقال له: هل من توبة ؟ قال: لا، فقتله فجعل يسأل فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فناء بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ".
هذه آيات من أرجى الآيات في كتاب الله تعالى، أي أكثر الآيات رجاء وأملا في رحمة الله، ذلك أنها تتحدث عن عظيم رحمة الله. وسابغ فضله، وتوبته على كل من تاب ورجع إلى الله، سواء أكان كافرا فدخل في الإسلام، أم مؤمنا وتاب إلى الله تعالى من المعاصي.
المفردات :
وأنيبوا : ارجعوا إلى الله بالتوبة والطاعة.
وأاسلموا له : أخلصوا له العمل والعبادة.
أحسن ما أنزل إليكم من ربكم : هو القرآن.
بغتة : فجأة.
التفسير :
٥٤، ٥٥- ﴿ وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ﴾.
أي : ارجعوا إلى خالقكم، وتوبوا إلى الله تعالى، واخضعوا لأحكامه، وفرّوا إليه تائبين نادمين خاشعين خاضعين، من قبل أن يغضب عليكم، وتحل عليكم نقمته سبحانه وتعالى.
هذه آيات من أرجى الآيات في كتاب الله تعالى، أي أكثر الآيات رجاء وأملا في رحمة الله، ذلك أنها تتحدث عن عظيم رحمة الله. وسابغ فضله، وتوبته على كل من تاب ورجع إلى الله، سواء أكان كافرا فدخل في الإسلام، أم مؤمنا وتاب إلى الله تعالى من المعاصي.
المفردات :
وأنيبوا : ارجعوا إلى الله بالتوبة والطاعة.
وأاسلموا له : أخلصوا له العمل والعبادة.
أحسن ما أنزل إليكم من ربكم : هو القرآن.
بغتة : فجأة.
التفسير :
٥٤، ٥٥- ﴿ وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ﴾.
أي : ارجعوا إلى خالقكم، وتوبوا إلى الله تعالى، واخضعوا لأحكامه، وفرّوا إليه تائبين نادمين خاشعين خاضعين، من قبل أن يغضب عليكم، وتحل عليكم نقمته سبحانه وتعالى.
هذه آيات من أرجى الآيات في كتاب الله تعالى، أي أكثر الآيات رجاء وأملا في رحمة الله، ذلك أنها تتحدث عن عظيم رحمة الله. وسابغ فضله، وتوبته على كل من تاب ورجع إلى الله، سواء أكان كافرا فدخل في الإسلام، أم مؤمنا وتاب إلى الله تعالى من المعاصي.
المفردات :
يا حسرتا : يا ندامتي ويا حزني.
فرّطت : ضيعت وقصّرت.
في جنب الله : في عبادته وطاعته.
الساخرين : المستهزئين بدين الله
التفسير :
٥٦- ﴿ أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ﴾.
أي : بادروا بالتوبة كراهة أن تقول نفس يوم القيامة : يا ندامتي ويا حسرتي على ما ضيعت وقصّرت في حقوق الله، وفي أداء واجباته.
﴿ وإن كنت لمن الساخرين ﴾.
أي : إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر، مستهزئ غير موقن ولا مصدّق.
هذه آيات من أرجى الآيات في كتاب الله تعالى، أي أكثر الآيات رجاء وأملا في رحمة الله، ذلك أنها تتحدث عن عظيم رحمة الله. وسابغ فضله، وتوبته على كل من تاب ورجع إلى الله، سواء أكان كافرا فدخل في الإسلام، أم مؤمنا وتاب إلى الله تعالى من المعاصي.
٥٧- ﴿ أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ﴾.
أو تقول تلك النفس المذنبة : لو أن الله هداني لاهتديت إلى الحق وأطعت الله، وكنت من عباده الصالحين المتقين، يقول ذلك تحسرا وتألما حين يرى أهوال القيامة، وشدة عذاب أهل النار، ويرى بحبوحة النعيم لأهل الجنة.
قال ابن كثير : يتحسر المجرم ويودّ لو كان من المحسنين المخلصين، المطيعين لله عز وجل.
هذه آيات من أرجى الآيات في كتاب الله تعالى، أي أكثر الآيات رجاء وأملا في رحمة الله، ذلك أنها تتحدث عن عظيم رحمة الله. وسابغ فضله، وتوبته على كل من تاب ورجع إلى الله، سواء أكان كافرا فدخل في الإسلام، أم مؤمنا وتاب إلى الله تعالى من المعاصي.
المفردات :
كرة : رجعة.
التفسير :
٥٨- ﴿ أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ﴾.
أو تقول النفس المذنبة عند مشاهدة العذاب يوم القيامة يا ليت لي رجعة إلى الدنيا حتى أتمكن من الإيمان والعمل الصالح والإحسان.
قال ابن عباس : أخبر الله تعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه.
قال تعالى :﴿ ولا ينبئك مثل خبير ﴾. ( فاطر : ١٤ ).
وجاء في حاشية الجمل على الجلالين :
إن الكافر أولا يتحسّر، ثم يحتجّ بحجج واهية، ثم يتمنى الرجوع إلى الدنيا. ا ه
ولو رجع هذا الكافر إلى الدنيا لعاد إلى ضلاله، كما قال تعالى :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه وإنهم لكاذبون ﴾ ( الأنعام : ٢٨ )
هذه آيات من أرجى الآيات في كتاب الله تعالى، أي أكثر الآيات رجاء وأملا في رحمة الله، ذلك أنها تتحدث عن عظيم رحمة الله. وسابغ فضله، وتوبته على كل من تاب ورجع إلى الله، سواء أكان كافرا فدخل في الإسلام، أم مؤمنا وتاب إلى الله تعالى من المعاصي.
٥٩- ﴿ بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ﴾.
أيها العبد النادم بعد فوات الأوان، المحتج بعدم هداية الله لك، المتمنّي الرجوع إلى الدنيا، لقد جاءتك الرسل والكتب، وأعطيتك العقل والإرادة والاختبار، ولفتُّ نظرك إلى الكون وما فيه من عظات وعبر، ودلائل ومشاهد تدلّ على قدرة الإله الخالق، وأخبرتك بقصص الأولين وما أصاب المكذبين، وحدّثتك عن القيامة والبعث والحشر والجزاء، كأن القيامة ماثلة أمامك.
وكان في هذه الآيات ما يكفي ويرشد للإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، لكنك كذّبت المرسلين، وجحدت باليوم الآخر، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى، فلا تلومنّ إلا نفسك، ولا تحتج بأن هداية الله لم تصبك، لأن الله يُعطي هداه لمن أحبّ الهدى، ويرسل معونته وهدايته وفضله وتوفيقه لمن رغب في الإيمان وسعى إلى باب الرحمان، وفي الحديث الشريف : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له، إن الله تعالى يقول :{ فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى. ( الليل : ٥-١٠ ).
وقال تعالى :﴿ ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ﴾.
( الشمس ٧-١٠ ).
﴿ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ( ٦٠ ) وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ( ٦١ ) ﴾
المفردات :
كذبوا على الله : وصفوه بما لا يليق، مثل من ادعى أن له شريكا، أو أن للأصنام شفاعة عند الله.
وجوههم مسودة : حقيقة، أو لما يعلوها من كآبة.
مثوى : مأوى ومقاما.
التفسير :
٦٠-﴿ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ﴾.
تصف هذه الآية مشهد الكافرين في القيامة، هؤلاء الذين ادّعوا أن لله شركاء وصاحبة وولدا، فتراهم في حالة من الهلع والجزع والكآبة والحزن، وسوادُ الوجوه إمّا أن يكون حسّيا مشاهدا أمام الناس، حيث يراهم الناس في حالة من القتام والسواد، ويجوز أن يكون السواد من باب المجاز لما يعلو وجوههم من الهم والحزن والخوف من غضب الله ونقمته.
﴿ أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ﴾.
أي : إن في جهنم مكانا وإقامة ومقرّا للمتكبرين، الذي جاءتهم آيات الله ورسالاته فكذبوا بها، واستكبروا عن إتباعها والانقياد لها، وكان في مكة فريق من الأغنياء والكبراء يحتقرون الفقراء، ويأنفون من الانضمام إلى دعوة الإسلام، فهددهم القرآن بسوء المصير، ووضع أمامهم المصير الأسود، والإقامة المستمرة في عذاب جهنم.
بمفازتهم : بفوزهم وظفرهم ببغيتهم.
التفسير :
٦١- ﴿ وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ﴾.
أما المتقون المؤمنون المخلصون لله، فإن الله ينجيهم بسبب فوزهم بالجنة، وسعادتهم بالرضا، وسرورهم بالثواب العظيم.
﴿ لا يمسهم السوء ﴾. لا ينالهم عذاب جهنم.
﴿ ولا هم يحزنون ﴾. عند الفزع الأكبر، فقلوبهم مطمئنة، وهم واثقون بالنعيم المقيم، ورضوان الله رب العالمين، وقد نقل القرطبي في تفسيره، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يحشر الله مع كلّ امرئ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة، وأطيب ريح، فكلما كان رعب أو خوف قال له : لا تُرعْ فما أنت بالمراد به، ولا أنت بالمعنيّ به، فإذا كثر ذلك عليه قال : فما أحسنك فمن أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ أنا عملك الصالح، حملتني على ثقلي، فوالله لأحملنّك ولأدفعنّ عنك، فهي التي قال الله تعالى :﴿ وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ﴾. ١.
﴿ الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ( ٦٢ ) له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ( ٦٣ ) قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ( ٦٤ ) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكوننّ من الخاسرين( ٦٥ ) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ( ٦٦ ) ﴾
٦٢-﴿ الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ﴾.
هو سبحانه خالق كل شيء في هذا الكون، فالسماء والأرض، والفضاء والجبال، والبحار والأنهار، والشمس والقمر، والليل والنهار، والإنسان والحيوان، والنبات والجماد، وجميع المخلوقات والموجودات، وكلّ ما في الكون خلقه الخلاق العظيم، وهو سبحانه المتصرف في هذا الكون، الذي يمسك الكون بقدرته، ويحفظه في حالة من التوازن والصلاة للحياة.
قال تعالى :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا... ﴾ ( فاطر : ٤١ ).
قال في ظلال القرآن :
إنها الحقيقة التي ينطق بها كل شيء، فما يملك أحد أن يدّعي أنه خلق شيئا، وما يملك عقل أن يزعم أن هذا الوجود وجد من غير مبدع، وكل ما فيه ينطق بالقصد والتدبير، وليس أمر من أموره متروكا للمصادفة. ا ه.
مقاليد السماوات والأرض : مفاتيحها، وهو كناية عن ملكه لهما، وتصرُّفه فيهما.
والذين كفروا بآيات الله : القرآن أو حجج الله وبراهينه.
التفسير :
٦٣- ﴿ له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ﴾.
بيد الله مفاتيح السماوات والأرض، فهو مالكهما والمتصرف في أمورهما، خلقا وحفظا وسلامة ونفعا وضرّا، وقيل : مفاتيح السماوات بالمطر، ومفاتيح الأرض بإنبات النبات، فبيد الله إنزال المطر وإنبات النبات، وتيسير الرزق، وتصريف الخلق وفق ما يريد، على ما تشهد الفطرة، وينطق الواقع ويقر العقل والضمير.
﴿ والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ﴾.
خسروا أنفسهم، وخسروا راحة الضمير، وخسروا الاتساق مع الكون، وخسروا سعادة الدنيا، والنجاة في الآخرة، أمّا المؤمنون فقد اكتسبوا بالإيمان سعادة الدنيا، والفوز بالجنة يوم القيامة.
عرض كفار مكة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم وقالوا : هو دين آبائك، فأمره الله أن يقول لهم : أتأمروني أيها الجهلة بعبادة غير الله، بعد أن قامت الأدلة القطعية على تفرُّده بالألوهية، فهو خالق الأشياء ومدبرّها، فلا تصلح العبادة إلا له سبحانه.
لئن أشركت : على سبيل الفرض.
ليحبطن عملك : ليبطلن وليفسدن.
التفسير :
٦٥- ﴿ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكوننّ من الخاسرين ﴾.
يتفرد الله تعالى بالألوهية، ويتصف كل ما سواه بالعبودية، وقد أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى سائر الرسل بأن الشرك إذا استمر إلى الوفاة، يترتب عليه إحباط الأعمال السابقة، فإذا تاب المشرك مخلصا تاب الله عليه.
قال تعالى :﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾. ( البقرة : ٢١٧ ).
والشرك لا يتوقع ولا ينتظر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من إخوانه المرسلين، فقد اصطفاهم الله واختارهم لهذه المهمة الجليلة، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ولكن إذا صدر الشرك من المرسلين على سبيل الفرض أو الاحتمال، لكان ذلك سببّا في إحباط العمل من المرسلين، فمن باب أولى أن الشرك محبط العمل من سائر الخلق أجمعين.
قال تعالى :﴿ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾. ( الأنعام : ٨٨ ).
روى عن ابن عباس : أن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما يشاء من النّساء، ويعطوه ما يريد، وقالوا : هذا لك يا محمد، وتكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء، قال : " حتى أنظر ما يأتيني من ربّي فنزل :﴿ قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون ﴾. إلى آخر السورة ونزل :﴿ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ﴾.
وعن ابن عباس أيضا : أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم، وهم يعبدون معه إلهه، فنزلت هذه الآيات.
أي : إن العبادة لا تكون للآلهة المدّعاة، ولا تكون للأصنام والأوثان، بل تكون العبادة للإله الواحد الخالق الرازق، المستحق للعبادة وحده بلا شريك.
﴿ وكن من الشاكرين ﴾.
أي : اعبد الله مخلصا في العبادة، مع الحب والشكر، فقد أنعم على عباده نعما لا تعدُّ ولا تحصى، واختار محمدا صلى الله عليه وسلم ليكون خاتم المرسلين، ورحمة للعالمين، وصاحب الشفاعة يوم القيامة، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالشكر لله أمر لأمته أيضا، لأننا أمرنا بالاقتداء به وإتباعه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر... ﴾ ( الأحزاب : ٢١ ).
وقال تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله... ﴾ ( النساء : ٨٠ ).
﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ( ٦٧ )ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ( ٦٨ ) وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ( ٦٩ ) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ( ٧٠ ) ﴾
المفردات :
وما قدروا الله حق قدره : ما عرفوه حق معرفته حين أشركوا به غيره.
والأرض جميعا قبضته : أي أنّها ملكه وفي تصرفه وفي حوزته.
مطويات : مجموعات.
بيمينه : بقدرته.
تمهد :
تتحدث الآيات عن عظمة الله وجلاله وعظيم قدرته، فالأرض كلها في قبضته وتصرفه، والسماوات في حوزته ورهن إشارته، وهو منزّه عن أن يكون له شريك أو مثيل، ثم تعرض مشاهد النفخ في الصور وموت الناس مدة أربعين سنة، ثم النفخ مرة أخرى، حيث يقوم الناس للحساب والجزاء.
التفسير :
٦٧-﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾.
أي : ما عظموا الله حق عظمته حين عبدوا معه غيره، مع أنه الخالق المتصرف في شئون هذا الكون، في الدنيا والآخرة فالأرض كلها في قبضته وفي تصرفه.
﴿ والسماوات مطويات... ﴾ مجموعات في يمينه، وكلتا يديه يمين، وهو سبحانه منزّه عن النظير، والمثيل، ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾. ( الشورى : ١١ ).
قال الزمخشري :
والغرض من هذا الكلام – إذا أخذته بجملته ومجموعه – تصوير عظمته، والتوقيف على كنه جلاله لا غيره، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز. ا ه.
وأخرج الشيخان، والنسائي، وابن ماجة في جماعة آخرين، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر :﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه... ﴾ وهو يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرُجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قُلنا ليخرّن به ١.
وقال ابن كثير في تفسيره :
﴿ وما قدروا الله حق قدره... ﴾ أي : ما قدّر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره، وهو العظيم القادر على كل شيء، وكل شيء تحت قدره وقدرته.
وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف، وقد روى الشيخان – واللفظ للبخاري – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول : أنا الملك، أين ملوك الأرض ". ٢
رواه مسلم في صفة القيامة(٢٧٨٨) من حديث عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه فيقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها، أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله..
٢ يقبض الله الأرض ويطوي:
رواه البخاري في التفسير (٤٨١٢) ومسلم في صفة القيامة (٢٧٨٧) من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول: " يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض"..
تتحدث الآيات عن عظمة الله وجلاله وعظيم قدرته، فالأرض كلها في قبضته وتصرفه، والسماوات في حوزته ورهن إشارته، وهو منزّه عن أن يكون له شريك أو مثيل، ثم تعرض مشاهد النفخ في الصور وموت الناس مدة أربعين سنة، ثم النفخ مرة أخرى، حيث يقوم الناس للحساب والجزاء.
المفردات :
الصور : القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل.
صعق : مات.
ينظرون : ينتظرون ماذا يفعل بهم.
التفسير :
٦٨-﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ﴾.
تعرض الآية مشاهد القيامة، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن من علامات الساعة ظهور المسيخ الدجال، ثم ظهور المسيح عيسى ابن مريم، فيقتل المسيخ بإذن الله، ثم يسود الوئام بين الناس سبعين سنة، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا طيبة تنزع أرواح المؤمنين الصالحين، ولا تقوم القيامة إلا على لكع ابن لكع، أي لئيم بن لئيم.
وقد تحدث القرآن أن هناك ثلاث صيحات، الأولى صيحة الفزع، والثانية صيحة الصعق والموت، حيث يموت الناس جميعا، ويكون ملك الموت آخر من يموت، ويمكث الناس بعد نفخة الصعق أربعين سنة، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولا، وهو الباقي آخرا. ويقول :﴿ لمن الملك اليوم... ﴾ ثم يجيب نفسه فيقول :﴿ لله الواحد القهار ﴾. ( غافر : ١٦ ).
ثم يُحيى الله أول من يُحيى إسرافيل، ويأمره أن ينفخ في الصور نفخة أخرى، وهي نفخة البعث ١، قال تعالى :﴿ ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ﴾.
أي : ينفخ إسرافيل بعد أن يحييه الله تعالى قبل الخلائق، فينفخ نفخة أخرى وهي نفخة البعث والإحياء، فإذا جميع الخلائق الأموات يقومون من القبور ينظرون أهوال يوم القيامة.
قال تعالى :﴿ فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة ﴾. ( النازعات : ١٣، ١٤ ).
وقال سبحانه :﴿ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ﴾. ( الروم : ٢٥ ).
وقال تعالى :﴿ يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ﴾. ( الإسراء : ٥٢ ).
تتحدث الآيات عن عظمة الله وجلاله وعظيم قدرته، فالأرض كلها في قبضته وتصرفه، والسماوات في حوزته ورهن إشارته، وهو منزّه عن أن يكون له شريك أو مثيل، ثم تعرض مشاهد النفخ في الصور وموت الناس مدة أربعين سنة، ثم النفخ مرة أخرى، حيث يقوم الناس للحساب والجزاء.
المفردات :
أشرقت : أضاءت، وشرقت طلعت.
بنور ربها : بما يقيمه في الأرض من الحق والعدل.
الكتاب : صحائف الأعمال.
بالحق : بالعدل.
التفسير :
٦٩- ﴿ وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ﴾.
أشرقت أرض المحشر بنور عدل الله تعالى، وعظيم بهائه وسلطانه.
﴿ ووضع الكتاب... ﴾.
أي : وضعت صحائف أعمال العباد بين يديه، وقد سجل فيها الحسنات والسيئات، فالسعداء يأخذون كتبهم باليمين، والأشقياء يأخذون كتبهم بالشمال.
قال تعالى :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ﴾. ( الإسراء : ١٣، ١٤ ).
﴿ وجيء بالنبيين والشهداء... ﴾.
يجمع الله الرسل أجمعين إلى موقف الحشر، فيسألهم : بماذا أجابتكم أممكم ؟ قال تعالى :﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم... ﴾ ( المائدة : ١٠٩ ).
وجيء أيضا بالشهود الذين يشهدون على الأمم من الملائكة الحفظة التي تقيّد أعمال العباد. قال تعالى :﴿ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ﴾. ( ق : ٢١ ).
أي : سائق يسوقها للحساب، وشاهد يشهد عليها.
وكذلك يجاء بالشهداء المؤمنين الذي استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة بالبلاغ على من بلّغوه فكذّب بالحق، كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره.
لقد أفادت الآية أن الأرض تحولت إلى ساحة للقضاء، تجلّى فيها نور الجبار سبحانه وتعالى، ووزّع على كل إنسان كتابه، وفيه صحائف أعماله، ثم قال تعالى :﴿ وقضي بينهم... ﴾ وقُضِيَ بين العباد بالعدل والصدق.
﴿ وهم لا يظلمون ﴾.
أي : لا يبخس من ثوابهم، ولا يزاد في عقابهم، بل يكون الجزاء عادلا، من عند الإله العادل.
قال تعالى :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾. ( النساء : ٤٠ ).
وقال تعالى :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾. ( الأنبياء : ٤٧ ).
تتحدث الآيات عن عظمة الله وجلاله وعظيم قدرته، فالأرض كلها في قبضته وتصرفه، والسماوات في حوزته ورهن إشارته، وهو منزّه عن أن يكون له شريك أو مثيل، ثم تعرض مشاهد النفخ في الصور وموت الناس مدة أربعين سنة، ثم النفخ مرة أخرى، حيث يقوم الناس للحساب والجزاء.
المفردات :
ما عملت : جزاء ما عملت.
التفسير :
٧٠- ﴿ ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ﴾.
وأعطيت كل نفس جزاء عملها، خيرا كان أو شرّا، والله تعالى أعلم بفعلهم فلا يفوته شيء من أعمالهم.
قال تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خير يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾. ( الزلزلة : ٧، ٨ ).
وقال تعالى :﴿ ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ﴾. ( الكهف : ٤٩ ).
جاء في صفوة التفاسير للصابوني :
﴿ وهو أعلم بما يفعلون ﴾.
أي : هو تعالى أعلم بما عمل كل إنسان، ولا حاجة به إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك تشهد الكتب إلزاما للحجّة.
والمتقون يساقون إلى الجنة.
﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتيكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ( ٧١ ) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ( ٧٢ ) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ( ٧٣ ) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ( ٧٤ ) وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ( ٧٥ ) ﴾.
المفردات :
السوق : الحث على السير بعنف وإزعاج علامة على الإهانة والاحتقار، أما سوق المتقين فللإسراع بتكريمهم في الجنة.
زمرا : جماعات متفرقة متتابعة.
الخزنة : واحدهم خازن، مثل سدنة وسادن.
ينذرونكم : يخوفونكم.
حقّت : وجبت
التفسير :
٧١-﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتيكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ﴾.
في ختام سورة الزّمر، أو سورة التوحيد، نجد هذا المشهد الرهيب، حيث يساق الذين كفروا إلى جهنم جماعات جماعات، متتابعين بحسب موقفهم من الكفر وتعصبهم له، حيث يبدأ بأئمة الكفر وكبار أهل الضلالة، حتى إذا وصل الكافر إلى جهنم، فتحت أبوابها بعد وصولهم، كما تفتح أبواب السّجن بعد وصول المسجونين ووقوفهم على الباب، من باب الإهانة والإذلال، ثم تفتح أبواب جهنم فيدخل الكفار، ثم يغلق الباب خلفهم، ثم تسأل الملائكة مِنْ خزنة جهنم وحُرّاسها، يسألون الكافرين سؤال توبيخ : ألم يرسل إليكم بشر من أجناسكم يحملون إليكم رسالة الله، ويقرءون عليكم القرآن، ويدعونكم إلى التوحيد، وإتباع ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه، ويحذرونكم من عذاب جهنم وتَبعة الحساب يوم القيامة ؟ ويجيب الكافرين على هذه الأسئلة، بأن الرسل قد أرسلت إلينا، وبلّغتنا رسالة ربنا، ولكننا أعرضنا عن هدى الله، فحقت علينا كلمة العذاب، وهي قول الله تعالى :﴿ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾. ( هود : ١١٩ ).
أي : تجيبهم الملائكة : ادخلوا إلى أبواب جهنّم وتحمّلوا عذابها، ماكثين فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين، جزاء تكبركم عن اتباع الحق، وامتناعكم عن اتباع الرسل، ونفوركم من الهدى والإيمان.
سلام عليكم : أمان عظيم عليكم.
طبتم : طهرتم من دنس المعاصي وطاب مثواكم.
التفسير :
٧٣- ﴿ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ﴾.
ساقت الملائكة المتقين إلى الجنة جماعات جماعات، كل جماعة تدخل حسب منزلتها، فالمقربون ثم الأبرار ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم : الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أمثالهم، والشهداء مع بعضهم، والعلماء مع بعضهم، وكل صنف مع صنف يناسبه.
وسَوْق المتقين يراد به الإسراع بهم إلى دار الكرامة، أو المراد سَوْق مراكبهم ونجائبهم التي يركبونها.
﴿ حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها... ﴾
حتى وصلوا إلى الجنة، والحال أن أبوابها مفتحة في انتظارهم ليدخلوها، كما نجد الضيف العظيم قد اصطف أهل الدر لاستقباله، وفتّحت الأبواب في انتظار قدومه، قال تعالى :﴿ جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ﴾. ( ص : ٥٠ ).
﴿ وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ﴾.
عند دخول الأتقياء الجنة تحييهم الملائكة، قال تعالى :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام... ﴾ ( الأحزاب : ٤٤ ).
وهنا نجد أن الملائكة تعبر عن سرورها بالأتقياء، فيقول لهم :﴿ سلام عليكم... ﴾ أي : نسلم عليكم سلام تحية وتكريم.
﴿ طبتم ﴾. طابت أرواحكم بأعمالكم الطيبة، فطابت مقامكم في دار السلام.
﴿ فادخلوها خالدين ﴾ : فادخلوا الجنة حال كونكم خالدين في ذلك النعيم.
الحمد لله : كل الثناء لله وحده.
صدقنا وعده : حققه بالبعث والجنة.
وأورثنا الأرض : ملكنا أرض الجنة.
التفسير :
٧٤- ﴿ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ﴾.
يشكر أهل الجنة ربهم على حسن عطائه، وعظيم نعمائه، فقد استحقوا الإقامة في الجنة، وأرضها واسعة، وكل واحد منهم قد استحق مساحة واسعة فخمة ضخمة، ينزل في أيّ مكان من جنته حيث يشاء، فنعم هذا الجزاء ونعم جزاء العاملين، وهذا قول أهل الجنة، أو هو ثناء من الله عليهم.
حافين : محيطين محدقين.
وقضى بينهم : فصل بين الخلائق.
التفسير :
٧٥- ﴿ وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ﴾.
بعد أن دخل أهل النار جهنم، ودخل الأتقياء الجنة، كان ختام السورة دالاّ على عظمة ذي الجلال والإكرام، فالملائكة تحف بالعرش وتحدق به، وتحيط به من كل جانب، يسبحون بحمد الله، ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص، وقد حُكم بين الخلائق بالعدل والحق بلا ظلم ولا حيف.
قال الفخر الرازي :
﴿ وقضي بينهم بالحق... ﴾
أي حُكم بين الملائكة بالحق، فلكل منهم في المعرفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه، ثم نطق الكون كلّه بحمد الله وشكره، على حسن قضائه وعظيم نعمائه.
ونلاحظ أن الله تعالى بدأ الخلق بحمد الله، قال تعالى في صدر سورة الأنعام :﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور... ﴾ ( الأنعام : ١ )
كما أن الله تعالى اختتم أعمال الآخرة بالحمد، فقال سبحانه :﴿ وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ﴾.
فهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم، وإليه يرجع الخلق أجمعون، وفي نهاية كل مجلس نقول الحمد لله رب العالمين، دلالة على الختام والشكر والمنة لذى الجلال والإكرام، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما ترضى وتحبّ، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، اللهم لك الحمد والشكر والثناء الحسن الجميل، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، سبحان ربك رب العزّة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.