ﰡ
وقوله عزّ وجلّ :﴿ إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي سيفصل بين الخلائق يوم معادهم، ويجزي كل عامل بعمله، ﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ أي لا يرشد إلى الهداية، من قصده الكذب والافتراء على الله تعالى، وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهنيه، ثم بيَّن تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة، و المعاندون من اليهود والنصارى في العزيز وعيسى، فقال تبارك وتعالى :﴿ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي لكان الأمر على خلاف ما يزعمون، وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه بل هو محال، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه كما قال عزّ وجلّ :
يقطّع الليل تسبيحاً وقرآناً... وقوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي هل يستوي هذا، والذي قبله ممن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله؟ ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا، من له لب، وهو العقل، والله أعلم.
وفي الحديث :« أول الخصمين يوم القيامة الجاران »
فهذه الأحادث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة الله، وإن عظمت ذنوبه وكثرت، فإن باب الرحمة والتوبة واسع، قال الله تعالى :﴿ أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [ التوبة : ١٠٤ ]، وقال عزّ وجلّ :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ]، وقال جلّ علا في حق المنافقين :﴿ إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ ﴾ [ النساء : ١٤٥-١٤٦ ]، وقال تبارك وتعالى :﴿ إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ ﴾ [ البروج : ١٠ ] قال الحسن البصري رحمه الله : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، والآيات في هذه كثيرة جداً، وفي » الصحيحين « عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم ندم وسأل عابداً من عباد بني إسرائيل هل له من توبة؟ فقال : لا فقتله وأكمل به مائة، ثم سأل عالماً من علمائهم هل له من توبة؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها فقصدها، فأتاه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمر الله عزّ وجلّ أن يقيسوا ما بين الارضين فإلى أيهما كان أقرب منها، فوجوده أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة، هذا معنى الحديث، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه، وقال ابن عباس في قوله عزّ وجلّ :﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ الآية.
ذكر أحاديث فيها نفي القنوط
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله تعالى لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عزَّو جلَّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم »
روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال رسول الله ﷺ :« يخرج الدجال في أمتي فيمكث فيهم أربعين - لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً، أو أربعين ليلة - فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام كأنه ( عروة بن مسعود الثقفي )، فيظهر فيهلكه الله تعالى، ثم يلبث الناس بعده سنين سبعاً ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله تعالى ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، إنَّ أحدهم لو كان في كبد جبل لدخلت عليه »، قال : سمعتها من رسول الله ﷺ :« ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، قال : فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها، وهم في ذلك دارةٌ أرزاقهم، حسنٌ عيشهم، ثم ينفخ في الصور؛ فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم يرسل الله تعالى - أو ينزل الله عزّ وجلّ - مطراً كأنه الطل أو الظل - شك نعمان - فتنبت منه الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال : أيها الناس هلموا إلى ربكم ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٤ ] قال، ثم يقال : أخرجوا بعث النار، فيقال : كم؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فيومئذٍ تبعث الولدان شيباً ويومئذٍ يكشف عن ساق »
وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا ﴾ أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء، ﴿ وَوُضِعَ الكتاب ﴾ قال قتادة : كتاب الأعمال، ﴿ وَجِيءَ بالنبيين ﴾ قال ابن عباس : يشهدون على الأمم بأنهم بلغوهم رسالات الله إليهم، ﴿ والشهدآء ﴾ أي الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر، ﴿ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق ﴾ أي بالعدل، ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ]، وقال جل وعلا :﴿ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [ النساء : ٤٠ ]. ولهذا قال :﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ﴾ أي من خير أو شر، ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ ﴾ لم يذكر الجواب هاهنا، وتقديره : إذا كان هذا سعدوا وطابوا وسروا وفرحوا بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم، وإذا حذف الجواب ههنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :» « من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله تعالى دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريّان »، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله : ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال ﷺ :« نعم وأرجوا أن تكون منهم » «
وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل :« فيقول الله تعالى : يا محمد أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكة أو هجر وهجر مكة وفي رواية مكة وبصرى »، وفي « صحيح مسلم » عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها، ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ﴾ أي طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم وجزاءكم، وقوله :﴿ فادخلوها خَالِدِينَ ﴾ أي ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً، ﴿ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ﴾ أي يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر، والعطاء العظيم، والنعيم المقيم الملك الكبير يقولون عند ذلك :﴿ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ﴾ أي الذين كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام كما دعوا في الدنيا ﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ]، ﴿ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [ فاطر : ٣٤-٣٥ ]، وقوله :﴿ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين ﴾. قال أبو العالية وقتادة والسدي : أي أرض الجنة، فهذه الآية كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ]، ولهذا قالوا :﴿ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ ﴾ أي أي شئنا حللنا فنعم الأجر أجرنا على عملنا.
وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى :﴿ وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً ﴾ قال : سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة، فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلم تغير أبشارهم بعدها أبداً، ولم تشعث أشعارهم بعدها أبداً، فإنما دهنوا بالدهان ثم عمدوا إلى الأُخْرى، كأنما أمروا بها فشربوا منها فأذهب ما كان في بطونهم من أذى أو قذى، وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ ﴾، وتلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة، أبشر قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قال : وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين، فيقول : هذا فلان باسمه في الدنيا، فيقلن : أنت رأيته، فيقول : نعم، فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أسكفة الباب، قال : فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة وأكواب موضوعة وزرابي مبثوثة، قال، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه، فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ بين أحمر وأخضر وأصفر وأبيض، ومن كل لون يم يرفع طرفه إلى سقفه، فلولا أن الله تعالى قدره له لألم أن يذهب ببصره إنه لمثل البرق، ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين، ثم يتكىء إلى أريكة من أرائكه ثم يقول :﴿ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ].