ﰡ
وقوله تعالى :﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ أي لست ولله الحمد بمجنون، كما يقوله الجهلة من قومك، المكذبون بما جئتهم به من الهدى حيث نسبوك إلى الجنون، ﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي بل إن لك الأجر العظيم، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد، على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق، وصبرك على أذاهم، ومعنى ﴿ غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي غير مقطوع، كقوله :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ] ﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي غير مقطوع عنهم، وقال مجاهد ﴿ غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ : أي غير محسوب، وهو يرجع إلى ما قلناه، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ قال ابن عباس : وإنك لعلى دين عظيم وهو الإسلام، وقال عطية : لعلى أدب عظيم، وقال قتادة :» ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله ﷺ فقالت : ألست تقرأ القرآن؟ قال : بلى، قالت : فإن خلق رسول الله ﷺ كان القرآن «، وورى الإمام أحمد عن الحسن قال :» سألت عائشة عن خلق رسول الله ﷺ فقالت : كان خلقه القرآن «
وقوله تعالى :﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ المفتون ﴾ أي فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك، من المفتون الضال منك ومنهم. وهذا كقوله تعالى :﴿ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر ﴾ [ القمر : ٢٦ ]، قال ابن عباس في هذه الآية : ستعلم ويعلمون يوم القيامة، ﴿ بِأَييِّكُمُ المفتون ﴾ أي المجنون، وقال قتادة :﴿ بِأَييِّكُمُ المفتون ﴾ أي أولى بالشيطان، ومعنى المفتون ظاهر أي الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه، وإنما دخلت الباء في قوله :﴿ بِأَييِّكُمُ ﴾ لتدل على تضمين الفعل في قوله ﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴾ وتقديره : فستعلم ويعلمون، أي فستخبر ويخبرون بأيكم المفتون، والله أعلم، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين ﴾ أي هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي، ويعلم الحزب الضال عن الحق.
وقوله تعالى :﴿ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أي يمنع ما عليه وما لديه من الخير { مُعْتَدٍ ﴾ في تناول ما أحل الله له، يتجاوز فيها الحد المشروع، ﴿ أَثِيمٍ ﴾ أي تناول المحرمات، وقوله تعالى :﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ أما العتل فهو الفظ الغليظ، الجموع المنوع. روى الإمام أحمد، عن حارثة بن وهب قال، قال رسول الله ﷺ :» ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر « وفي رواية :» كل جواظ جعظري مستكبر «، وفي أخرى لأحمد :» كل جعظري، جواظ مستكبر، جمّاع، منّاع « وفي الحديث :» تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا هضما، فكان للناس ظلوماً، فذلك العتل الزنيم «، فالعتل هو الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح وغير ذلك، وأما الزنيم في لغة العب فهو الدعي في القوم، ومنه قول ( حسان بن ثابت ) يذم بعض كفّار قريش :
وأنت زنيم نيط في آل هاشم | كما نيط خلف الراكب القدح الفرد |
زنيم تداعاه الرجال زيادة | كما زيد في عرض الأديم الأكارع |
وقال تعالى :﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾، أي أعدلهم وخيرهم ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ ﴾ ! قال مجاهد والسدي أي لولا تستثنون، وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحاً، وقال ابن جرير : هو قول القائل ( إن شاء الله )، وقيل :﴿ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ ﴾ أي هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع، ولهذا قالوا :﴿ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ ﴾ أي لوم بعضهم بعضاً، وعلى ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين، فما كان جواب بعضهم لبعض ألاّ الاعتراف بالخطيئة والذنب، ﴿ قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ﴾ أي اعتدينا وبغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا ﴿ عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾ قيل : راغبون في بذلها لهم في الدنيا، وقيل : احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة، والله أعلم.
شاتل الحرب عن ساق، ... وقال ابن جرير عن مجاهد :﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ قال : شدة الأمر وجده، وقال ابن عباس قوله :﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ هو الأمر الشديد الفظيع من الهول يوم القيامة، وقال العوفي، عن ابن عباس قوله :﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ يقول : حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال، وكشفه دخول الآخرة، وروي عن النبي ﷺ قال :« ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ يعني عننور عظيم يخرون له سجداً »، وقوله تعالى :﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ أي في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه، لما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم، كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة، إذا تجلى الرب عزَّ وجلَّ فيسجد له المؤمنون، ولا يستطيع أحد من الكافرين أو المنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهمه طبقاً واحداً، كلما أراد أحدهم أن يسجد خرّ لقفاه، ثم قال تعالى :﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث ﴾ يعني القرآن، وهذا تهديد شديد أي دعني وإياه أنا أعلم كيف أستدرجه ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال تعالى :﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي وهم لا يشعرون، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة، وهو في نفس الأمر إهانة، كما قال تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥٥٦ ]، ولهذا قال ههنا :﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ أي أوخرهم وأمدهم، وذلك من كيدي ومكري بهم، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ أي عظيم لمن خالف أمري، « وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي، وفي الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال :» إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته «، ثم قرأ :﴿ وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٢ ]. وقوله تعالى :﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴾ ! المعنى أنك يا محمد تدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك عند الله تعالى، وهم يكذبون بما جئتهم به، بمجرد الجهل والكفر والعناد.