تفسير سورة القلم

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة القلم من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ (ن وَالْقَلَمِ)
[(ن وَالْقَلَمِ... (١) *] النون والقلم إن فسرناه بالمعهودين، ليس منحصرا صدوره من القلم، بل بإيجاد الله تعالى أو بواسطة أداة غير القلم لم يقدم القلم على النون.
قوله تعالى: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢)﴾
انظر الزمخشري: ما اعترضه به أبو حيان وما أجاب به المختصر السفاقسي، وحاصله أن أبا حيان منع تسلط النفي على الشيء دون ما قيد به، والسفاقسي أجازه، والصواب أن يقال: إما أن يقدر ذلك القيد داخلا قبل النفي وبعده، فإن كان قبله لزم من نفي ما هو قيد فيه نفيه هو، وإن كان بعده فالقيد مثبت، والجنون [منفي*] أي ما أنت بسبب وجود نعمة ربك مجنون، فيكون قيدا في النفي، لَا في الجنون المنفي.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾
الإتيان بلفظ (على) إشارة إلى حصول ذلك له دون [تكلف*]، وهذا إشارة إلى شدة جهلهم وغباوتهم؛ لأن الحق العظيم في غاية الجلاء والوضوح، فمن يكذب به في غاية الجهل والغباوة، قال عياض في الشفاء الخلق العظيم: قيل: هو القرآن، وقيل: الإسلام، وقيل: الطبع الكريم، وقيل: ليس لك همة إلا الله، قال الواسطي: أثنى عليه بحسن قبوله لما ابتدأه إليه من نعمه وفضله [بذلك*] على غيره، لأنه [جبله*] على [ذلك*] الخلق ثم أثنى على فاعله وجازاه عليه، ثم تلاه على قولهم بما وعده من عقباه وعقابهم بقوله تعالى: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ)، ثم عطف بذم عدوه فقال تعالى (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)، إلى قوله تعالى: (أسَاطِيرُ الأَوَّلينَ)، فذكر بضع عشرة خصلة من الذم [ختمت*] بتمام شقائه فقال تعالى (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)، فكانت نصرة الله [له*] أتم من نصرته لنفسه.
قوله تعالى: ﴿فَسَتُبْصِرُ... (٥)﴾
عبر بالمسقبل مع أنه ﷺ عالم بذلك في الحال، لأن الخطاب بذلك عام في جميع النَّاس، وكل واحد لَا يدري بماذا يختم له من ضلال أو هداية.
قوله تعالى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ... (٧)﴾
عبر بالماضي لما كان الضلال راسخا فيهم ذاتيا لهم، وكذلك أبقى الجملة مؤكدة بـ (إِنَّ) والباء.
قوله تعالى: (بِالْمُهْتَدِينَ).
عبر بالاسم هنا، وقال في سورة النجم (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى)، فعبر بالفعل؟ والجواب: أن المراد بتلك الآية عموم تعلق علمه بمن اتصف بمطلق الضلال، ومن اتصف بمطلق الهداية، والمراد بهذا المدح والثناء على النبي صلى الله عليه وسلم، فعبر فيها بالاسم الدال على ثبوته على الهداية واتصافه بأكمل صفاتها وأبلغها.
قوله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨)﴾
الموافقة والمساعدة والطاعة مترادفة، فخصص الطاعة منها لاستلزامها سلب المشاركة في فعلهم ومعبودهم، فالنهي عنها أبلغ، وهذا الخطاب إن كان للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو لشدة [تأسفه*] على عدم إيمانهم، فهي من ذلك كما قيل له في الآية الأخرى (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)، وإن كان الخطاب لغيره، فنهي عن الطاعة مطلقا، والطاعة عند الأصوليين موافقة الأمر، فيكون فيه دليل لقول ابن عرفة: [لا*] يشترط في الأمر العلو؛ بل الاستعلاء فقط، لأن هؤلاء ليس فيهم علو شرعا، وإنما فيهم الاستعلاء.
قوله تعالى: (الْمُكَذِّبِينَ).
دليل لصحة قول من قال: إن الحكم إذا علق بمشتق من صفة، فإنه غير معلل بتلك الصفة للإجماع لابن التلمساني، فإن قلت: هنا قرينة أفادت أن النهي عام؟ قلت: الأصل عدم القرينة.
قوله تعالى: ﴿فَيُدْهِنُونَ (٩)﴾
إن قلت: لَا يصح أن يكون معطوفا على (تُدْهِنُ)، لأن التمني لَا يكون إلا فيما يمكن وقوعه، فيلزم أن يتمنى الإنسان فعل غيره، [والتمني*] لَا يتعلق بفعل غيره، قلت: هو مسبب ناشئ عن دهنه، فليس هو بفعل الغير صرفا، وفيه نظر لأنهم خلطوا بين التمني والترجي؛ بأن التمني يكون في الممكن وفي المستحيل؛ بخلاف الترجي، واحتجوا بقول الشاعر:
يَا لَيْت أَيَّام الصِّبَا رَوَاجعَا
وليت للتمني.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ... (١٠)﴾
قيل: هو نهي عن الأخص، فلا يستلزم النهي عن الأعم، وفيه رد على من قال: إن (كل) إن كانت بعد نهي أو [نفي*] عمت، لأنها نزلت في شخص، وذكر ابن الصفار في شرح سيبويه أن الشلوبين نقل عن ابن أبي العافية: أن (كلًّا إذا كانت منصوبة لَا تفيد العموم، وإذا كانت مرفوعة تفيده [كقوله*]: وفيه [... ] وتعقبه عليه الشلوبين، وقال: لم [يحكه*] سيبويه بوجه، قال ابن الصفار: بل حكاه سيبويه في باب المنصوب انتهى، والذي حكى الأصوليون أنها تفيد العموم مطلقا، وهي هنا كلية، فمن اتصف بإحدى هذه الصفات يكون منهيا عن طاعته، فإِن قلت: فما وقع منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صلح الحديبية من طاعتهم؟ قلت: إنما ذلك موافقة، [والموافقة لا تقتضي*] طاعة؛ كما هو موافق لهم في [الاعتراف*] بوجود الله تعالى، أو يكون ذلك بوحي، وقد وافقهم على أن [من يأتيه منهم*]، [يرده*] عليهم، وعلى ذلك وقع صلح الحديبية.
قَدْ أصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعي عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنعِ
قوله تعالى: ﴿أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (١٤)﴾
إن قلت: يؤخذ منه ترجيح الفقر على الغَناء، لأن الغَناء سبب طغيان هذا؟ فالجواب: إن هذا إنما طغى بمجموع المال والبنين، وقدم هنا وفي سورة الكهف المال على البنين؛ بخلاف ما في آل عمران؟ والجواب: أن مناط الشهوة في الأعم النساء، ومناط الزينة في الغالب المال، وأما البنون فمحبتهم أشد من محبة المال، لأن الإنسان يفدي ولده بماله كله، وقدم هنا المال؛ لأنه أقوى الأسباب في الطغيان، قال السهيلي: [... ] الاتصاف إلا إلى ما هو أشرف منه وعكسه صاحب، فتقول أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا تقول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم صاحب [أبي*] هريرة، قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)، وقال تعالى (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)، انتهى، وانظر ما قال عياض في الشفا: فإِن صَاحبكم (١)، وانظر قوله تعالى: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ).
قوله تعالى: ﴿عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)﴾
إن قلت: لم عدل الإضافة فلم يقل على خرطومه؟ قلت: لأن الإضافة فيها نوع استحقاق واختصاص، فعدل عنها لسلب هذا المعنى حتى كأنه لَا يستحق أن [يُجعَل*] له خرطوم، لعدم المبالاة به، فيصير الأنف منه أجنبيا عنه.
(١) النص في الشفاء هكذا:
"وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ". اهـ.
قوله تعالى: ﴿كَمَا بَلَوْنَا... (١٧)﴾
التشبيه إما معنى بمعنى أو محسوس بمحسوس، لأن (ما) إما مصدرية، أو موصولة بمعنى الذي، ويقع [بمن تعلق سببه، وبمن لم يتعلق*]، قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) وقال تعالى (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا)، والعقوبة لَا تقع إلا بمن فعل [شبهها*]، وهم [لم يفعلوا*]، لكن عزموا على الفعل، قال القرطبي: [يؤخذ منه*] أن العزم على الفعل يؤاخذ به.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨)﴾
يحتمل أن يكون مقسما عليه [أو لَا*]، الزمخشري: فإن قلت: لم سمي استثناء، وإنما هو شرط؟ قلت: لأنه يؤدي [مؤدى*] الاستثناء من حيث إن [معنى قولك*] لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله. واحد انتهى، موجب هذا السؤال أن الاستثناء بالمشبه إن كان حقيقة لغوية فما وجهه، لأنه شرط الاستثناء، وإن كان في الشرع [مجازا*] فأين العلاقة.
قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ... (١٩)﴾
إن قلت: هلا قيل: من الله من العزيز الجبار، فإِن لفظ الرب يشعر بالرحمة والرأفة، والمحل محل العزة والانتقام؟ فالجواب: من وجوه:
الأول: أنه تخويف لقريش، أي إذا نالهم هذا مع استشعار الرحمة، فأحرى مع استشعار العزة والانتقام.
الثاني: أن السؤال إنما [يَرِدُ*] لو قال: طائف من ربهم، وإنما قيل: من ربك.
الثالث: أن [مآلهم*] عاقبته الرأفة والرحمة، لَا العقوبة؛ لأنهم تابوا أو حسنت توبتهم.
قوله تعالى: (وَهُمْ نَائِمُونَ).
إن قلت: ما أفاد مع أنه مفهوم؟ فالجواب: من وجوه:
الأول: أنه إشارة إلى أنهم أخذوا حالة أمنهم وطمأنينتهم.
الثاني: [لما*] قصدوا صرامها في خفية عن المساكين، فعوقبوا بخسفها في خفية عنهم.
الثالث: هو إشارة إلى أن السبب في عقوبتهم بذلك مجرد عزمهم على صرامها خفية عن المساكين، أي عوقبوا به وهم في حالة لم يشتغلوا فيها بمعصية ولا مخالفة،
بل كانوا نائمين فما الموجب لعقوبتهم إلا مجرد عزمهم وقسمهم، وعادة الله في إهلاك أكثر الأمم كونه على غرة وغفلة.
قوله تعالى: ﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ... (٢٢)﴾
عداه بـ على، لأن الذي يقطع ثمر النخل يستعلي عليها.
قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ).
صرام النخل بالفعل متأخر عن الغدو عليها، فلا يكون عليها شرطا في الغدو، ولأن الشرط متقدم على المشروط، فيتعين أن المراد إن كنتم عازمين على صرامها.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٩)﴾
وقال تعالى بعده (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) لأن الظلم معصية قاصرة على نفس الإنسان، والطغيان معصية متعدية لغيره، [وهم*] ظلموا أنفسهم بقسمهم وعدم استثنائهم، وطغوا على المساكين بعزمهم على منعهم من عادتهم.
قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّنَا... (٣٢)﴾
قال ابن عصفور: [كل ما*] وقع في القرآن من عسى [فهي*] واجبة، إلا قوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ)، وتقدم الرد عليه، واستثناء هذه [لو كان*] صوابا، لأن التبديل هنا لم يقع إلا أن يجيب: بأن ذلك في عسى، إذا كانت من الله تعالى، وهذه من كلام أصحاب الجنة.
قوله تعالى: ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ... (٣٣)﴾
وقف بعضهم على أكبر، وجواب لو محذوف أي لاهتدوا، وهو حسن.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ... (٣٤)﴾
تقديم المجرور هنا واجب، لأن الضمير في (رَبِّهِمْ) يعود عليه، فلو أخر عليه لأدى إلى عود الضمير على ما بعده لفظا ورتبة.
قوله تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)﴾
ابن عطية: لما نزلت (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، قالت قريش: إن كانت جنات، [فلنا*] فيها [أكبر الحظ*]، فنزلت (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) انتهى، لو كان كما قال: لقيل: أفنجعل المجرمين كالمسلمين، لأنهم أثبتوا للمسلمين فيها حظا، وادعوا أن لهم مثله [وأكبر منه*]، فلو روعي في الآية مقتضى السبب لقيل: أفنجعل
المجرمين كالمسلمين، وإنما رِوعي فيها مناسبتها لما قبلها، لأنه لما قال في آية المجرمين (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ)، فأتى فيه مطلقاً غير محصور فيهم، وعقبه بقوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، أتى بهذا التشبيه نفيا لما قد يتوهمه أحد من أن ذلك العذاب قد ينال المتقين بعضه، وإن قلَّ؛ أي [أفنجعل*] المسلمين في العذاب كالمجرمين، أي ليسوا مثلهم في لحوق العذاب، فلا [يلحقهم*] منه شيء ألبتَّة، قيل: [أفنجعل*] المتقين، وقال الزمخشري: معناه [أنحيف في الحكم*] فنجعل المسلمين كالمجرمين، فإن قلت: هلا قيل: أفنجعل المتقين كالمجرمين؟ قلت: كلما ناقض الأعم شيئا ناقضه الآخر.
قوله تعالى: [(مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ... (٣٧) *]
هذا الترتيب على ما يقوله الأصوليون من أن المنقولات السمعيات فرع للمعقولات، أي هل لكم على دعواكم دليل عقلي نظري؟ أم لكم دليل سمعي نقلي وجدتموه في كتبكم الذي تدرسونها؟
قوله تعالى: (فِيهِ تَدْرُسُونَ).
لم يقل: [فيه تحفظون*]، فأجاب بعضهم: بأن الغزالي في المستصفي في باب الاجتهاد، وإمام الحرمين في البرهان: [أجابا*] بأن المجتهد لَا يجب عليه حفظ القرآن، وإنما [يطالب*] بحفظ آيات الأحكام فقط، قال الغزالي: وهي خمس مائة آية، ولا يلزمه حفظ آيات القصص والأخبار، وعبر بالدرس دون الحفظ أو القراءة إشارة إلى [قولهم:*] إن العلم لَا يحصل إلا بالتكرار والممارسة والدراسة، وكذا حكى ابن سهل في أحكامه: أن اللؤلؤي سئل [عمن*] يوصي بعبده لبعض ورثته، إن أجاز باقيهم، فإن لم يجيزوه له فقد أوصى بعتقه من ثلثه، فأفتى بأن الوصية ماضية، وخطأه فيها ابن زرب وغيره، والمسألة منصوصة في المدونة في آواخر العتق، الثاني: قال ابن سهل وما سبب ذلك إلا أنه كان في آخر عمره، ترك دراسة العلم ومطالعة الكتب لكبر سنه [فنسي*] كثيرا من مسائله، وحكى المازري في العلم في حديث: " [مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ*] "، أن شيخه عبد الحميد الصائغ انقطع في آخر عمره للعبادة، حتى كان إذا سئل عن بعض المسائل، يتوقف فيها ويحيلنا على غيره.
قوله تعالى: ﴿فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (٣٨)﴾
ظاهره حجة لمن يقول: بأن [في كل*] نازلة للمجتهد أن يحكم بما شاء على القول بأن ليس لله في كل نازلة حكما معينا، وأما على القول بأن له في [كل*] نازلة حكما معينا، فلا يحكم إلا بما أداه إليه اجتهاده.
قوله تعالى: ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ... (٣٩)﴾
أي عهود ومواثيق، والمراد بالكتاب الذي فيه يدرسون ما اشتمل عليه الكتاب من الألفاظ الظاهرة الدلالة، والمراد بالأيمان [البالغة*] الألفاظ الدالة قضاء، أو المراد بالأول النص، وبالثاني [**تركيب الخصوص]، أو المراد بالأول: الدليل السمعي المعجزي، وبالثاني: الدليل السمعي غير المعجزي، فإِن الوحي قسمان، فالقرآن معجز، والسنة غير معجزة.
قوله تعالى: (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ).
يحتمل أن يكون ابتداء كلام، أي لكم لحكما إذا كان ذلك، والغرض أنه لم يكن فلا حكم لكم، وجعل الزمخشري الأول قسما وهذا جوابه، أي [أم ضمنا منكم*] وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة [متناهية*] في التوكيد (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ).
قوله تعالى: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (٤٠)﴾
لو قيل: أفيهم أو هل فيهم زعيم بذلك، لكان المعنى السؤال عن وجوه الزعيم فيهم بالأصالة، وإنما قيل: سلهم أيهم بذلك زعيم، فإِما أن يكون المعنى أنهم ادعوا أن فيهم زعيما بذلك، أي ضامنا متكفلا بتصحيح ما قالوه، فيسألوا عن تعيين ذلك الشخص الزعيم فالسؤال حقيقة، وإما أن لَا يكونوا ادعوا أن فيهم زعيما بذلك، فيكون السؤال مجازا من باب نفي الشيء بإيجابه، كقوله: عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ، أي ليس له منار فيهتدي به، والمعنى ليس لهم زعيم فيسألون عن تعيينه، فالسؤال تعجيز لهم، أو من باب انتفاء الشيء لانتفاء ملزومه، لأنه [تعالى*] أمره عليه الصلاة والسلام أن يسألهم عن تعيين، وكذلك الكلام في (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ)، وتفسير القرطبي الزعيم [بالرسول*] ضعيف، لأنهم ما ادعوا قط أن فيهم رسولا، وليس القرطبي من أهل التفسير (١)؛ لأنه يجلب الغث والسمين، وما زال الشيوخ لَا يعتبرون كلامه في التفسير.
قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ... (٤١)﴾
(١) ذكر هذا التفسير بعض المفسرين غير القرطبي، منهم: الماوردي، والثعلبي، وابن الجوزي، والمراد بالرسول كما فسره مكي بن أبي طالب "المتكلم عن القوم" وهذا نصه في تفسيره: "زعيم" معناه: ضمين. والزعيم أيضاً المتكلم عن القوم" اهـ، وبهذا لا وجه لما أبداه ابن عرفة من اعتراض وتحامل على القرطبي - رحمهم الله أجمعين. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).
حمله ابن عطية على أصنامهم وآلهتهم التي ادعوا أن لها نصيبا في العبادة، كما قال تعالى (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، وحمله الزمخشري على الشركاء الموافقين لهم في العبادة، والظاهر الأول، إذ ليس ثم [كفارٌ ولا لهم*] نظائر في شركهم، وأيضا فيعكسون هم ويقبلون النكتة، فيقولون: هل لكم أنتم من يوافقكم في توحيدكم وعبادتكم، والسؤال هنا على حقيقته اللغوية، فالمراد به مطلق الطلب في اصطلاح الأصوليين، لأن السائل هنا أعلى من المسئول.
قوله تعالى: ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢)﴾
الاستطاعة في اصطلاح المتكلمين هي القدرة على الفعل، ومن شرط القدرة عندهم مقارنتها لمقدورها، لأن الغرض عندهم لَا يبقى زمنين، فلا يقال في الجالس المتمكن من القيام، [لا يستطيع*] القيام حتى يقوم بالفعل، وأما في اللغة فهو التمكن من الفعل، فإذا فسرناه بالمعنى اللغوي فيصدق عليهم كانوا قبل ذلك مستطيعين، كما قال الزمخشري، ثم يعود ظهرهم طبقا، كما في البخاري في آخر كتاب منه.
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣)﴾
كان بعضهم عند قراءة هذا المحل [يصيح*] ويقول: والله ما سلموا، وهذه [قَلقَةٌ*] لكن مراده صحيح، لأن معنى سالمون متمكنون من الإتيان بالتكليف حتى لَا عذر لهم، ومعنى قول القائل: ما سلموا، أي أن اللَّه علم أنهم لَا يؤمنون ولا [يهتدون*]، فهو من باب التكليف بما علم الله أنه لَا يقع، ولو لم يكن هذا مراده، [لكان*] كفرا لمخالفته صريح الآية، فحاصله عدم [اتحاد*] المثبت في (سالمون) والمنفي في ["ما سلموا"*].
قوله تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥)﴾
قيل: يؤخذ منه جواز إطلاق مثل هذا من غير توقف - على مقابله؛ كـ[(مَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) *]
أجيب: بأن القرينة السياقية كاللفظية.
قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ... (٤٨)﴾
الحكم هنا القضاء الذي هو صفة [فعل*] الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين.
قوله تعالى: (وَهُوَ مَكظُومٌ).
كون الحال جملة، وهو أبلغ من كونها مفردا، لأن في الجملة إسنادين:
أحدهما: المحمول، والثاني: ضميره العائد على الموضوع، والموضوع مسند أيضا إلى صاحب الحال، ففيه التقوية، وزيادة الاعتناء ثلاث مرات، وذلك مفقود فيما إذا كانت مفردة.
قوله تعالى: ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ... (٥٠)﴾
إن قلت: القصد بذكر المشبه به الذي [هو*] حال صاحب الحوت للمشبه، وهو النبي ﷺ التنفير عن الاتصاف بحالته التي هو فيها [مملوء غيظا*]، وهذه الأوصاف لَا مدخل لها في التنفير، بل ربما يفهم منه نقيضه، فما وجه إردافها لحالة التنفير؟ فالجواب: أنه نفي لما يتوهم من [جعْلِ*] قدرٍ مناسبٍ للأنبياء من هذه الحالة من الغضب [يوجب*] نقصًا فيهم.
* * *
Icon