تفسير سورة سورة الزمر من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
سميت ﴿ سورة الزمر ﴾ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الترمذي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل. وإنما سميت سورة الزمر لوقوع هذا اللفظ فيها دون غيرها من سورة القرآن.
وفي تفسير القرطبي عن وهب بن منبه أنه سماها سورة الغرف وتناقله المفسرون. ووجهه أنها ذكر فيها لفظ الغرف، أي بهذه الصيغة دون الغرفات، في قوله تعالى ﴿ لهم غرف من فوقها غرف ﴾ الآية.
وهي مكية كلها عند الجمهور وعن ابن عباس أن قوله تعالى ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ الآيات الثلاث. وقيل : إلى سبع آيات نزلت بالمدينة في قصة، وحشي قاتل حمزة، وسنده ضعيف، وقصته عليها مخائل القصص.
وعن عمر بن الخطاب أن تلك الآيات نزلت بالمدينة في هشام بن العاصي بن وائل إذ تأخر عن الهجرة إلى المدينة بعد أن استعد لها. وفي رواية : أن معه عياش ابن أبي ربيعة وكانا تواعدا على الهجرة إلى المدينة ففتنا فافتتنا.
والأصح أنها نزلت في المشركين كما سيأتي عند تفسيرها، وما نشأ القول بأنها مدنية إلا لما روي فيها من القصص الضعيفة.
وقيل : نزل أيضا في قوله تعالى ﴿ قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم ﴾ الآية بالمدينة.
وعن ابن عباس أن قوله تعالى ﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ﴾ الآية نزل بالمدينة.
فبلغت الآيات المختلف فيها تسع آيات.
والمتجه : أنها كلها مكية وأن ما يخيل أنه نزل في قصص معينة إن صحت أسانيده أن يكون وقع التمثل به في تلك القصص فأشتبه على بعض الرواة بأنه سبب نزول.
وسيأتي عند قوله تعالى ﴿ وأرض الله واسعة ﴾ أنها نزلت قبيل هجرة المؤمنين إلى الحبشة، أي في سنة خمس قبل الهجرة.
وهي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب النزول على المختار، نزلت بعد سورة سبا وقبل سورة غافر.
وعدت آيتها عند المدنيين والمكيين والبصريين اثنتين وسبعين، وعند أهل الشام ثلاثا وسبعين، وعند أهل الكوفة خمسا وسبعين.
أغراضها
ابتدئت هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود، وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويها تكرر في ستة مواضع١ من هذه السورة لأن القرآن جامع لأغراضها.
وأغراضها كثيرة تحوم حول إثبات تفرد الله بالإلهية وإبطال الشرك فيها.
وإبطال تعللات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم.
ونفي ضرب من ضروب الإشراك إلى زعمهم أن لله ولدا.
والاستدلال على وحدانية الله في الإلهية بدلائل تفرده بإيجاد العوالم العلوية والسفلية، وبتدبير نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به.
والخلق العجيب في أطوار تكوين الإنسان والحيوان.
والاستدلال عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عندما يصيبهم الضر.
والدعوة إلى التدبر فيما يلقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول.
وتنبيههم على كفرانهم شكر النعمة.
والمقابلة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله.
وأن دين التوحيد هو الذي جاءت به الرسل من قبل.
والتحذير من أن يحل بالمشركين ما حل بأهل الشرك من الأمم الماضية.
وإعلام المشركين بأنهم وشركاءهم لا يعبأ بهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم فالله غني عن عبادتهم، ورسوله لا يخشاهم ولا يخاف أصنامهم لأن الله كفاه إياهم جميعا.
وإثبات البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت.
وتمثيل البعث بإحياء الأرض بعد موتها. وضرب لهم مثله والإفاقة بعده وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين.
وتمثيل حال المؤمنين وحال المشركين في الحياتين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
ودعاء المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم، ودعاء المؤمنين للثبات على التقوى ومفارقة دار الكفر. وختمت بوصف حال يوم الحساب.
وتخلل ذلك كله وعيد ووعد، وأمثال، وترهيب وتريب، ووعظ وإيماء بقوله ﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون ﴾ الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم وأن المشركين أهل جهالة، وذلك تنويه برفعة العلم ومذمة الجهل.
وفي تفسير القرطبي عن وهب بن منبه أنه سماها سورة الغرف وتناقله المفسرون. ووجهه أنها ذكر فيها لفظ الغرف، أي بهذه الصيغة دون الغرفات، في قوله تعالى ﴿ لهم غرف من فوقها غرف ﴾ الآية.
وهي مكية كلها عند الجمهور وعن ابن عباس أن قوله تعالى ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ الآيات الثلاث. وقيل : إلى سبع آيات نزلت بالمدينة في قصة، وحشي قاتل حمزة، وسنده ضعيف، وقصته عليها مخائل القصص.
وعن عمر بن الخطاب أن تلك الآيات نزلت بالمدينة في هشام بن العاصي بن وائل إذ تأخر عن الهجرة إلى المدينة بعد أن استعد لها. وفي رواية : أن معه عياش ابن أبي ربيعة وكانا تواعدا على الهجرة إلى المدينة ففتنا فافتتنا.
والأصح أنها نزلت في المشركين كما سيأتي عند تفسيرها، وما نشأ القول بأنها مدنية إلا لما روي فيها من القصص الضعيفة.
وقيل : نزل أيضا في قوله تعالى ﴿ قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم ﴾ الآية بالمدينة.
وعن ابن عباس أن قوله تعالى ﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ﴾ الآية نزل بالمدينة.
فبلغت الآيات المختلف فيها تسع آيات.
والمتجه : أنها كلها مكية وأن ما يخيل أنه نزل في قصص معينة إن صحت أسانيده أن يكون وقع التمثل به في تلك القصص فأشتبه على بعض الرواة بأنه سبب نزول.
وسيأتي عند قوله تعالى ﴿ وأرض الله واسعة ﴾ أنها نزلت قبيل هجرة المؤمنين إلى الحبشة، أي في سنة خمس قبل الهجرة.
وهي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب النزول على المختار، نزلت بعد سورة سبا وقبل سورة غافر.
وعدت آيتها عند المدنيين والمكيين والبصريين اثنتين وسبعين، وعند أهل الشام ثلاثا وسبعين، وعند أهل الكوفة خمسا وسبعين.
أغراضها
ابتدئت هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود، وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويها تكرر في ستة مواضع١ من هذه السورة لأن القرآن جامع لأغراضها.
وأغراضها كثيرة تحوم حول إثبات تفرد الله بالإلهية وإبطال الشرك فيها.
وإبطال تعللات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم.
ونفي ضرب من ضروب الإشراك إلى زعمهم أن لله ولدا.
والاستدلال على وحدانية الله في الإلهية بدلائل تفرده بإيجاد العوالم العلوية والسفلية، وبتدبير نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به.
والخلق العجيب في أطوار تكوين الإنسان والحيوان.
والاستدلال عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عندما يصيبهم الضر.
والدعوة إلى التدبر فيما يلقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول.
وتنبيههم على كفرانهم شكر النعمة.
والمقابلة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله.
وأن دين التوحيد هو الذي جاءت به الرسل من قبل.
والتحذير من أن يحل بالمشركين ما حل بأهل الشرك من الأمم الماضية.
وإعلام المشركين بأنهم وشركاءهم لا يعبأ بهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم فالله غني عن عبادتهم، ورسوله لا يخشاهم ولا يخاف أصنامهم لأن الله كفاه إياهم جميعا.
وإثبات البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت.
وتمثيل البعث بإحياء الأرض بعد موتها. وضرب لهم مثله والإفاقة بعده وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين.
وتمثيل حال المؤمنين وحال المشركين في الحياتين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
ودعاء المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم، ودعاء المؤمنين للثبات على التقوى ومفارقة دار الكفر. وختمت بوصف حال يوم الحساب.
وتخلل ذلك كله وعيد ووعد، وأمثال، وترهيب وتريب، ووعظ وإيماء بقوله ﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون ﴾ الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم وأن المشركين أهل جهالة، وذلك تنويه برفعة العلم ومذمة الجهل.
١ - هي قوله:﴿ تنزيل الكتاب من الله﴾ الآيتين وقوله :﴿ الله نزل أحسن الحديث ﴾ الآية، وقوله: ﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل﴾ الآيتين، وقوله: ﴿ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق﴾ ألاية، وقوله: ﴿ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم﴾ الآية، وقوله: ﴿ بلى قد جاءتك آياتي﴾ الآية..
ﰡ
وَالْخَلْقِ الْعَجِيبِ فِي أطوار تكون الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلٍ مِنْ فِعْلِهِمْ وَهُوَ الْتِجَاؤُهُمْ إِلَى الله عِنْد مَا يُصِيبُهُمُ الضُّرُّ. وَالدَّعْوَةِ إِلَى التَّدَبُّرِ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الْقَوْلِ. وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى كُفْرَانِهِمْ شُكْرَ النِّعْمَةِ. وَالْمُقَابَلَةِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَبَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ. وَأَنَّ دِينَ التَّوْحِيدِ هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ. وَالتَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِالْمُشْرِكِينَ مَا حَلَّ بِأَهْلِ الشِّرْكِ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. وَإِعْلَامِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ وَشُرَكَاءَهُمْ لَا يُعْبَأُ بِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِهِمْ، وَرَسُولُهُ لَا يَخْشَاهُمْ وَلَا يَخَافُ أَصْنَامَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ جَمِيعًا. وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.
وَتَمْثِيلِ الْبَعْثِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَهُ بِالنَّوْمِ وَالْإِفَاقَةِ بَعْدَهُ وَأَنَّهُ يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَتَمْثِيلِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَيَاتَيْنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وَدُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ لِلْإِقْلَاعِ عَنِ الْإِسْرَافِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَدُعَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ لِلثَّبَاتِ عَلَى التَّقْوَى وَمُفَارَقَةِ دَارِ الْكُفْرِ. وَخُتِمَتْ بِوَصْفِ حَالِ يَوْمِ الْحِسَابِ.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ، وَأَمْثَالٌ، وَتَرْهِيبٌ وَتَرْغِيبٌ، وَوَعْظٌ وَإِيمَاءٌ بِقَولِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩] الْآيَةَ إِلَى أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ أَهلُ عِلْمٍ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْلُ جَهَالَةٍ، وَذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِرِفْعَةِ الْعِلْمِ ومذمة الْجَهْل.
[١- ٢]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ١ إِلَى ٢]
وَتَمْثِيلِ الْبَعْثِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَهُ بِالنَّوْمِ وَالْإِفَاقَةِ بَعْدَهُ وَأَنَّهُ يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَتَمْثِيلِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَيَاتَيْنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وَدُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ لِلْإِقْلَاعِ عَنِ الْإِسْرَافِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَدُعَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ لِلثَّبَاتِ عَلَى التَّقْوَى وَمُفَارَقَةِ دَارِ الْكُفْرِ. وَخُتِمَتْ بِوَصْفِ حَالِ يَوْمِ الْحِسَابِ.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ، وَأَمْثَالٌ، وَتَرْهِيبٌ وَتَرْغِيبٌ، وَوَعْظٌ وَإِيمَاءٌ بِقَولِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩] الْآيَةَ إِلَى أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ أَهلُ عِلْمٍ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْلُ جَهَالَةٍ، وَذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِرِفْعَةِ الْعِلْمِ ومذمة الْجَهْل.
[١- ٢]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ١ إِلَى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
313
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢)
فَاتِحَةٌ أَنِيقَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ جُعِلَتْ مُقَدِّمَةً لِهَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَامِعٌ لِمَا حَوَتْهُ وَغَيْرَهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ.
فَ تَنْزِيلُ مَصْدَرٌ مُرَادٌ بِهِ مَعْنَاهُ الْمَصْدَرِيُّ لَا مَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَيْفَ وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى الْكِتَابِ وَأَصْلُ الْإِضَافَةِ أَنْ لَا تَكُونَ بَيَانِيَّةً.
وَتَنْزِيلُ: مَصْدَرُ نَزَّلَ الْمُضَاعَفِ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ مُنَجَّمًا. وَاخْتِيَارُ هَذِهِ الصِّيغَةِ هُنَا لِلرَّدِّ عَلَى الطَّاعِنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَعَلَّلُوا بِهِ قَوْلُهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضَاعَفِ وَالْمَهْمُوزِ فِي مِثْلِهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَعْهُودُ بَيْنَهُمْ عِنْدَ كُلِّ تَذْكِيرٍ وَكُلِّ مُجَادَلَةٍ. وَأَجْرَى عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْوَصْفَ بِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يُنَزَّلُ مِنْهُ يَأْتِي عَلَى مَا يُنَاسِبُ الصِّفَتَيْنِ، فَيَكُونُ عَزِيزًا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: ٤١]، أَيِ الْقُرْآنُ، عَزِيزٌ غَالِبٌ بِالْحُجَّةِ لِمَنْ كَذَّبَ بِهِ، وَغَالِبٌ بِالْفَضْلِ لِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْغَلَبَةَ تَسْتَلْزِمُ التَّفَضُّلَ وَالتَّفَوُّقَ، وَغَالِبٌ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ إِذْ أَعْجَزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ، وَيَكُونُ حَكِيمًا مِثْلَ صِفَةِ مُنْزِلِهِ.
وَالْحَكِيمُ: إِمَّا بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، فَالْقُرْآنُ أَيْضا حَاكم عَن مُعَارِضِيهِ بِالْحُجَّةِ، وَحَاكِمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨].
وَإِمَّا بِمَعْنَى: الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْبَيَانِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِالْحِكْمَةِ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ كَاتِّصَافِ مُنَزِّلِهِ بِهَا. وَهَذِهِ
مَعَانٍ مُرَادَةٌ مِنَ الْآيَةِ فِيمَا نَرَى، عَلَى أَنَّ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ ببلاغة لَفظه وبإعجازه العلمي، إِذا اشْتَمَلَ عَلَى عُلُومٍ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ عِلْمٌ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
وَفِي وَصْفِ الْحَكِيمِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِالْحِكْمَةِ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦٩].
فَاتِحَةٌ أَنِيقَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ جُعِلَتْ مُقَدِّمَةً لِهَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَامِعٌ لِمَا حَوَتْهُ وَغَيْرَهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ.
فَ تَنْزِيلُ مَصْدَرٌ مُرَادٌ بِهِ مَعْنَاهُ الْمَصْدَرِيُّ لَا مَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَيْفَ وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى الْكِتَابِ وَأَصْلُ الْإِضَافَةِ أَنْ لَا تَكُونَ بَيَانِيَّةً.
وَتَنْزِيلُ: مَصْدَرُ نَزَّلَ الْمُضَاعَفِ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ مُنَجَّمًا. وَاخْتِيَارُ هَذِهِ الصِّيغَةِ هُنَا لِلرَّدِّ عَلَى الطَّاعِنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَعَلَّلُوا بِهِ قَوْلُهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضَاعَفِ وَالْمَهْمُوزِ فِي مِثْلِهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَعْهُودُ بَيْنَهُمْ عِنْدَ كُلِّ تَذْكِيرٍ وَكُلِّ مُجَادَلَةٍ. وَأَجْرَى عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْوَصْفَ بِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يُنَزَّلُ مِنْهُ يَأْتِي عَلَى مَا يُنَاسِبُ الصِّفَتَيْنِ، فَيَكُونُ عَزِيزًا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: ٤١]، أَيِ الْقُرْآنُ، عَزِيزٌ غَالِبٌ بِالْحُجَّةِ لِمَنْ كَذَّبَ بِهِ، وَغَالِبٌ بِالْفَضْلِ لِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْغَلَبَةَ تَسْتَلْزِمُ التَّفَضُّلَ وَالتَّفَوُّقَ، وَغَالِبٌ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ إِذْ أَعْجَزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ، وَيَكُونُ حَكِيمًا مِثْلَ صِفَةِ مُنْزِلِهِ.
وَالْحَكِيمُ: إِمَّا بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، فَالْقُرْآنُ أَيْضا حَاكم عَن مُعَارِضِيهِ بِالْحُجَّةِ، وَحَاكِمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨].
وَإِمَّا بِمَعْنَى: الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْبَيَانِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِالْحِكْمَةِ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ كَاتِّصَافِ مُنَزِّلِهِ بِهَا. وَهَذِهِ
مَعَانٍ مُرَادَةٌ مِنَ الْآيَةِ فِيمَا نَرَى، عَلَى أَنَّ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ ببلاغة لَفظه وبإعجازه العلمي، إِذا اشْتَمَلَ عَلَى عُلُومٍ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ عِلْمٌ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
وَفِي وَصْفِ الْحَكِيمِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِالْحِكْمَةِ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦٩].
314
وَفِي هَذَا إرشاد إِلَى وجود التَّدَبُّرِ فِي مَعَانِي هَذَا الْكِتَابِ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ التَّدَبُّرِ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: ٥٣].
وَمَعْنَى الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٩].
وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ بِحَرْفِ (إِنَّ) مُرَاعًى فِيهِ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْخَبَرُ مِنَ الِامْتِنَانِ. فَيُحْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَمَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ فَيُحْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) عَلَى التَّأْكِيدِ اسْتِعْمَالًا لِلْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَلِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِعْلَانِ بِصِدْقِ النَّبِيءِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ الْكِتَابُ جَدِيرٌ بِالتَّأْكِيدِ لِأَنَّ دَلِيلَ صِدْقِهِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِالْإِعْجَازِ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ المعجزات، فَكَانَ مقضى التَّأْكِيدِ مَوْجُودًا بِخِلَافِ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ.
فَجُمْلَةُ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ. وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْكِتابِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ جَرْيًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِالْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَتَعْدِيَةُ أَنْزَلْنا بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [٤].
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالًا مِنَ الْكِتابَ، أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْقُرْآنَ مُلَابِسًا لِلْحَقِّ فِي جَمِيعِ مَعَانِيهِ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: ٤٢].
وَفُرِّعَ عَلَى الْمَعْنَى الصَّرِيحِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أَنْ أُمِرَ بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ. وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ تَعْرِيضٌ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ فِي الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْمُعَرَّضَ بِهِمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَّبَّرُوا فِي الْمَعْنَى الْمُعَرَّضِ بِهِ.
وَمَعْنَى الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٩].
وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ بِحَرْفِ (إِنَّ) مُرَاعًى فِيهِ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْخَبَرُ مِنَ الِامْتِنَانِ. فَيُحْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَمَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ فَيُحْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) عَلَى التَّأْكِيدِ اسْتِعْمَالًا لِلْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَلِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِعْلَانِ بِصِدْقِ النَّبِيءِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ الْكِتَابُ جَدِيرٌ بِالتَّأْكِيدِ لِأَنَّ دَلِيلَ صِدْقِهِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِالْإِعْجَازِ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ المعجزات، فَكَانَ مقضى التَّأْكِيدِ مَوْجُودًا بِخِلَافِ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ.
فَجُمْلَةُ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ. وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْكِتابِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ جَرْيًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِالْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَتَعْدِيَةُ أَنْزَلْنا بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [٤].
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالًا مِنَ الْكِتابَ، أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْقُرْآنَ مُلَابِسًا لِلْحَقِّ فِي جَمِيعِ مَعَانِيهِ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: ٤٢].
وَفُرِّعَ عَلَى الْمَعْنَى الصَّرِيحِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أَنْ أُمِرَ بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ. وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ تَعْرِيضٌ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ فِي الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْمُعَرَّضَ بِهِمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَّبَّرُوا فِي الْمَعْنَى الْمُعَرَّضِ بِهِ.
315
وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ كُبْرَى تَقْتَضِي أَنْ يُقَابِلَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّكْرِ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِشْرَاكَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ كُفْرٌ لِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا، فَإِنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِيمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، وَفِي الْعِبَادَةِ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَعْنى قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:
٥٦].
فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ التَّوْطِئَةُ إِلَى تَقْيِيدِ الْعِبَادَةِ بِحَالَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ قَوْلِهِ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ خَاصَّةٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهَا. وَلِذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُؤْتَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ خِلَافَ قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: ٦٦] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا زِيَادَةُ التَّصْرِيحِ بِالْإِخْلَاصِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ. وَقَدْ تَوَهَّمَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ عَدَمِ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ هُنَا أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ لَا يُفِيدُ الْقَصْرَ وَهِيَ زَلَّةُ عَالِمٍ.
وَالْإِخْلَاصُ: الْإِمْحَاضُ وَعَدَمُ الشَّوْبِ بِمُغَايِرٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِفْرَادَ. وَسُمِّيَتِ السُّورَةُ الَّتِي فِيهَا تَوْحِيدُ اللَّهِ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ، أَيْ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَأُوثِرَ الْإِخْلَاصُ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّوْحِيدِ وَأَخَصِّ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عِبَادَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [ص: ٨٦].
وَالدِّينُ: الْمُعَامَلَةُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُعَامَلَةُ الْمَخْلُوقِ رَبَّهُ وَهِيَ عِبَادَتُهُ. فَالْمَعْنَى:
مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ غَيْرَ خَالِطٍ بِعِبَادَتِهِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ. وَانْتُصِبَ مُخْلِصاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتر فِي فَاعْبُدِ.
وَلَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ مَعْنَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ لَمْ يَكُنْ هُنَا مُقْتَضٍ لتقديم مفعول فَاعْبُدِ اللَّهَ عَلَى عَامِلِهِ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ قَدِ اسْتُفِيدَ مِنَ الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ اسْتِنَادُ الشَّيْخِ ابْنِ الْحَاجِبِ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي تَوْجِيهِ رَأْيِهِ بِأَنْكَارِ إِفَادَةِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى فِعْلِهِ التَّخْصِيصَ، وَتَضْعِيفِهِ لِاسْتِدْلَالِ أَيِمَّةِ الْمَعَانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ آخِرَ السُّورَةِ [٦٦] بِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِمُجَرَّدِ
٥٦].
فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ التَّوْطِئَةُ إِلَى تَقْيِيدِ الْعِبَادَةِ بِحَالَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ قَوْلِهِ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ خَاصَّةٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهَا. وَلِذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُؤْتَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ خِلَافَ قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: ٦٦] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا زِيَادَةُ التَّصْرِيحِ بِالْإِخْلَاصِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ. وَقَدْ تَوَهَّمَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ عَدَمِ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ هُنَا أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ لَا يُفِيدُ الْقَصْرَ وَهِيَ زَلَّةُ عَالِمٍ.
وَالْإِخْلَاصُ: الْإِمْحَاضُ وَعَدَمُ الشَّوْبِ بِمُغَايِرٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِفْرَادَ. وَسُمِّيَتِ السُّورَةُ الَّتِي فِيهَا تَوْحِيدُ اللَّهِ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ، أَيْ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَأُوثِرَ الْإِخْلَاصُ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّوْحِيدِ وَأَخَصِّ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عِبَادَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [ص: ٨٦].
وَالدِّينُ: الْمُعَامَلَةُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُعَامَلَةُ الْمَخْلُوقِ رَبَّهُ وَهِيَ عِبَادَتُهُ. فَالْمَعْنَى:
مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ غَيْرَ خَالِطٍ بِعِبَادَتِهِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ. وَانْتُصِبَ مُخْلِصاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتر فِي فَاعْبُدِ.
وَلَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ مَعْنَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ لَمْ يَكُنْ هُنَا مُقْتَضٍ لتقديم مفعول فَاعْبُدِ اللَّهَ عَلَى عَامِلِهِ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ قَدِ اسْتُفِيدَ مِنَ الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ اسْتِنَادُ الشَّيْخِ ابْنِ الْحَاجِبِ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي تَوْجِيهِ رَأْيِهِ بِأَنْكَارِ إِفَادَةِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى فِعْلِهِ التَّخْصِيصَ، وَتَضْعِيفِهِ لِاسْتِدْلَالِ أَيِمَّةِ الْمَعَانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ آخِرَ السُّورَةِ [٦٦] بِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِمُجَرَّدِ
316
الِاهْتِمَامِ لِوُرُودِ فَاعْبُدِ اللَّهَ، قَالَ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ «الْمُفَصَّلِ» فِي الدِّيبَاجَةِ «اللَّهَ أَحْمَدُ عَلَى أَنْ جَعَلَنِي مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ»، اللَّهَ أَحْمَدُ عَلَى طَرِيقَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: ٥] تَقْدِيمًا لِلْأَهَمِّ، وَمَا قِيلَ:
إِنَّهُ لِلْحَصْرِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَالتَّمَسُّكِ فِيهِ بِنَحْوِ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: ٦٦] ضَعِيفٌ لِوُرُودِ
فَاعْبُدِ اللَّهَ اهـ. وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْإِيضَاحِ» هُنَالِكَ قَوْلَهُ: (لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْحَصْرِ فَإِنَّ الْمَعْبُودِيَّةَ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى الْخَاصَّةِ بِهِ، فَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْحَالِ لَا مِنَ التَّقْدِيمِ) اهـ.
وَهُوَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَنْعِ دَلِيلٍ شَهِدَ بِهِ الذَّوْقُ السَّلِيمُ عِنْدَ أَيِمَّةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَى سَنَدِ مَنْعِهِ بِتَوَهُّمِهِ أَنَّ التَّقْدِيمَ الَّذِي لُوحِظَ فِي مَقَامٍ يَجِبُ أَنْ يُلَاحَظَ فِي كُلِّ مَقَامٍ، كَأَنَّ الْكَلَامَ قد جعل قوالب يُؤْتَى بِهَا فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَذَلِكَ يَنْبُو عَنْهُ اخْتِلَافُ الْمَقَامَاتِ الْبَلَاغِيَّةِ، حَتَّى جُعِلَ الِاخْتِصَاصُ بِالْعِبَادَةِ مُسْتَفَادًا مِنَ الْقَرِينَةِ لَا مِنَ التَّقْدِيمِ، كَأَنَّ الْقَرِينَةَ لَوْ سُلِّمَ وَجُودُهَا تَمْنَعُ مِنَ التَّعْوِيلِ عَلَى دَلَالَةِ النُّطْقِ.
[٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٣]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ اسْتِئْنَافٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى الْإِفْرَادَ بِالْعِبَادَةِ وَهُوَ غَرَضُ السُّورَةِ وَأَفَادَ التَّعْلِيلَ لِلْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ الْخَالصَةِ لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الدِّينُ الْخَالصُ مُسْتَحَقًّا لِلَّهِ وَخَاصًّا بِهِ كَانَ الْأَمْرُ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ مُصِيبًا مَحَزَّهُ فَصَارَ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ مُسَبَّبًا عَنْ نِعْمَةِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ وَمُقْتَضًى لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ اقْتِضَاء الْكُلية لجزئياتها.
وَبِهَذَا الْعُمُومِ أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى التَّذْيِيلِ فَتَحَمَّلَتْ ثَلَاثَةَ مَوَاقِعَ كُلَّهَا تَقْتَضِي الْفَصْلَ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ تَنْوِيهًا بِمَضْمُونِهَا لِتَتَلَقَّاهُ النَّفْسُ بِشَرَاشِرِهَا وَذَلِكَ هُوَ مَا رَجَّحَ اعْتِبَارَ الِاسْتِئْنَافِ فِيهَا، وَجَعَلَ مَعْنَى التَّعْلِيلَ حَاصِلًا تَبَعًا مِنْ ذِكْرِ إِخْلَاصٍ عَامٍّ بَعْدَ إِخْلَاصٍ خَاصٍّ وَمَوْرِدُهُمَا وَاحِدٌ.
وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لَامُ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ لَا يَحِقُّ الدِّينُ الْخَالصُ، أَيْ الطَّاعَةُ غَيْرُ الْمَشُوبَةِ إِلَّا لَهُ عَلَى نَحْوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: ٢].
إِنَّهُ لِلْحَصْرِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَالتَّمَسُّكِ فِيهِ بِنَحْوِ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: ٦٦] ضَعِيفٌ لِوُرُودِ
فَاعْبُدِ اللَّهَ اهـ. وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْإِيضَاحِ» هُنَالِكَ قَوْلَهُ: (لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْحَصْرِ فَإِنَّ الْمَعْبُودِيَّةَ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى الْخَاصَّةِ بِهِ، فَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْحَالِ لَا مِنَ التَّقْدِيمِ) اهـ.
وَهُوَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَنْعِ دَلِيلٍ شَهِدَ بِهِ الذَّوْقُ السَّلِيمُ عِنْدَ أَيِمَّةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَى سَنَدِ مَنْعِهِ بِتَوَهُّمِهِ أَنَّ التَّقْدِيمَ الَّذِي لُوحِظَ فِي مَقَامٍ يَجِبُ أَنْ يُلَاحَظَ فِي كُلِّ مَقَامٍ، كَأَنَّ الْكَلَامَ قد جعل قوالب يُؤْتَى بِهَا فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَذَلِكَ يَنْبُو عَنْهُ اخْتِلَافُ الْمَقَامَاتِ الْبَلَاغِيَّةِ، حَتَّى جُعِلَ الِاخْتِصَاصُ بِالْعِبَادَةِ مُسْتَفَادًا مِنَ الْقَرِينَةِ لَا مِنَ التَّقْدِيمِ، كَأَنَّ الْقَرِينَةَ لَوْ سُلِّمَ وَجُودُهَا تَمْنَعُ مِنَ التَّعْوِيلِ عَلَى دَلَالَةِ النُّطْقِ.
[٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٣]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ اسْتِئْنَافٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى الْإِفْرَادَ بِالْعِبَادَةِ وَهُوَ غَرَضُ السُّورَةِ وَأَفَادَ التَّعْلِيلَ لِلْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ الْخَالصَةِ لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الدِّينُ الْخَالصُ مُسْتَحَقًّا لِلَّهِ وَخَاصًّا بِهِ كَانَ الْأَمْرُ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ مُصِيبًا مَحَزَّهُ فَصَارَ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ مُسَبَّبًا عَنْ نِعْمَةِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ وَمُقْتَضًى لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ اقْتِضَاء الْكُلية لجزئياتها.
وَبِهَذَا الْعُمُومِ أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى التَّذْيِيلِ فَتَحَمَّلَتْ ثَلَاثَةَ مَوَاقِعَ كُلَّهَا تَقْتَضِي الْفَصْلَ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ تَنْوِيهًا بِمَضْمُونِهَا لِتَتَلَقَّاهُ النَّفْسُ بِشَرَاشِرِهَا وَذَلِكَ هُوَ مَا رَجَّحَ اعْتِبَارَ الِاسْتِئْنَافِ فِيهَا، وَجَعَلَ مَعْنَى التَّعْلِيلَ حَاصِلًا تَبَعًا مِنْ ذِكْرِ إِخْلَاصٍ عَامٍّ بَعْدَ إِخْلَاصٍ خَاصٍّ وَمَوْرِدُهُمَا وَاحِدٌ.
وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لَامُ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ لَا يَحِقُّ الدِّينُ الْخَالصُ، أَيْ الطَّاعَةُ غَيْرُ الْمَشُوبَةِ إِلَّا لَهُ عَلَى نَحْوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: ٢].
317
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ فَأَفَادَ قَوْلُهُ: لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أَنَّهُ مُسْتَحِقُّهُ وَأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ.
وَالدِّينُ: الطَّاعَةُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْخَالِصُ: السَّالِمُ مِنْ أَنْ يَشُوبَهُ تَشْرِيكُ غَيْرِهِ فِي عِبَادَتِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ.
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ إِخْلَاصُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، أَيْ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِأَجْلِهِ، أَيْ طَلَبًا لِرِضَاهُ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَهُوَ آيِلٌ إِلَى أَحْوَالِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوله وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا أَو امْرَأَة ينْكِحهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
. وَعَرَّفَ الْغَزَالِيُّ الْإِخْلَاصَ بِأَنَّهُ تَجْرِيدُ قَصَدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ عَنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ.
وَالْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ وَإِلَى تَرْكِ الْمَنْهِيِّ إِرْضَاءَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لِوَجْهِ اللَّهِ، أَيْ لِقَصْدِ الِامْتِثَالِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْحَظُّ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعِبَادَةِ مِثْلَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِيَمْدَحَهُ النَّاسُ بِحَيْثُ لَوْ تَعَطَّلَ الْمَدْحُ لَتَرَكَ الْعِبَادَةَ.
وَلِذَا قِيلَ: الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، أَيْ إِذَا كَانَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يُقَاتِلَ لِأَجْلِ الْغَنِيمَةِ فَلَوْ أَيِسَ مِنْهَا تَرَكَ الْقِتَالَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ لِلنَّفْسِ حَظٌّ عَاجِلٌ وَكَانَ حَاصِلًا تَبَعًا لِلْعِبَادَةِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَهُوَ مُغْتَفَرٌ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا تَخْلُو عَنْهُ النُّفُوسُ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ.
وَفِي «جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ» فِي مَا جَاءَ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تُبْطِلُهَا الْخَطْرَةُ الَّتِي لَا تُمْلَكُ.
حَدَّثَ الْعُتْبِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إِلَّا مُقَاتِلٌ، فَمِنْهُمْ مَنِ الْقِتَالُ طَبِيعَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ احْتِسَابًا، فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الشَّهِيدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ: «مَنْ قَاتَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»
وَالدِّينُ: الطَّاعَةُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْخَالِصُ: السَّالِمُ مِنْ أَنْ يَشُوبَهُ تَشْرِيكُ غَيْرِهِ فِي عِبَادَتِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ.
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ إِخْلَاصُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، أَيْ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِأَجْلِهِ، أَيْ طَلَبًا لِرِضَاهُ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَهُوَ آيِلٌ إِلَى أَحْوَالِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوله وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا أَو امْرَأَة ينْكِحهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
. وَعَرَّفَ الْغَزَالِيُّ الْإِخْلَاصَ بِأَنَّهُ تَجْرِيدُ قَصَدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ عَنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ.
وَالْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ وَإِلَى تَرْكِ الْمَنْهِيِّ إِرْضَاءَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لِوَجْهِ اللَّهِ، أَيْ لِقَصْدِ الِامْتِثَالِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْحَظُّ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعِبَادَةِ مِثْلَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِيَمْدَحَهُ النَّاسُ بِحَيْثُ لَوْ تَعَطَّلَ الْمَدْحُ لَتَرَكَ الْعِبَادَةَ.
وَلِذَا قِيلَ: الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، أَيْ إِذَا كَانَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يُقَاتِلَ لِأَجْلِ الْغَنِيمَةِ فَلَوْ أَيِسَ مِنْهَا تَرَكَ الْقِتَالَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ لِلنَّفْسِ حَظٌّ عَاجِلٌ وَكَانَ حَاصِلًا تَبَعًا لِلْعِبَادَةِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَهُوَ مُغْتَفَرٌ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا تَخْلُو عَنْهُ النُّفُوسُ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ.
وَفِي «جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ» فِي مَا جَاءَ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تُبْطِلُهَا الْخَطْرَةُ الَّتِي لَا تُمْلَكُ.
حَدَّثَ الْعُتْبِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إِلَّا مُقَاتِلٌ، فَمِنْهُمْ مَنِ الْقِتَالُ طَبِيعَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ احْتِسَابًا، فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الشَّهِيدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ: «مَنْ قَاتَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»
318
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «شَرْحِهِ» : هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُ عَمَلِهِ لِلَّهِ وَعَلَى ذَلِكَ عَقَدَ نِيَّتَهُ لَمْ تَضُرْهُ الْخَطَرَاتُ الَّتِي تَقَعُ فِي الْقَلْبِ وَلَا تُمْلَكُ، عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ خِلَافَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ رَبِيعَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنِ الرَّجُلِ يُحِبُّ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ السُّوقِ فَأَنْكَرُ ذَلِكَ رَبِيعَةُ وَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يُحِبَّ أَحَدٌ أَنْ يُرَى فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩]، وَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاء: ٨٤]. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا هَذَا شَيْءٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لَا يُمْلَكُ وَذَلِكَ من وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ مِنَ الْعَمَلِ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يُكْسِلَهُ عَنِ التَّمَادِي عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَا يُؤَيِّسُهُ مِنَ الْأَجْرِ وَلِيَدْفَعَ الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ (أَيْ إِذَا أَرَادَ تَثْبِيطَهُ
عَنِ الْعَمَلِ)، وَيُجَدِّدَ النِّيَّةَ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اهـ. وَذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ رَبِيعَةَ. وَذَكَرَ أَنَّ رَبِيعَةَ أَنْكَرَ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: فَقُلْتُ لَهُ مَا تَرَى فِي التَّهْجِيرِ إِلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ الظُّهْرِ؟ قَالَ: مَا زَالَ الصَّالِحُونَ يُهَجِّرُونَ. وَفِي «جَامِعِ الْمِعْيَارِ» : سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَذْهَبُ إِلَى الْغَزْوِ وَمَعَهُ فَضْلُ مَالٍ لِيُصِيبَ بِهِ مِنْ فَضْلِ الْغَنِيمَةِ (أَيْ لِيَشْتَرِيَ مِنَ النَّاسِ مَا صَحَّ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ) فَأَجَابَ لَا بَأْسَ بِهِ وَنَزَعَ بِآيَةِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَة:
١٩٨] وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ وَلَا قَادِحٍ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالْعِبَادَةِ وَجْهَ اللَّهِ وَلَا يُعَدُّ هَذَا تَشْرِيكًا فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَبَاحَ ذَلِكَ وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ فَاعِلِهِ مَعَ أَنَّهُ قَالَ:
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الْكَهْف: ١١٠] فَدَلَّ أَنَّ هَذَا التَّشْرِيكَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ بِلَفْظِهِ وَلَا بِمَعْنَاهُ تَحْتَ آيَةِ الْكَهْفِ اهـ.
وَأَقُول: إِن الْقَصْد إِلَى الْعِبَادَةِ لِيَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ فَيَسْأَلُهُ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا لَا ضَيْرَ فِيهِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ جُعِلَتْ وَسِيلَةً لِلدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ شُرِعَتْ صَلَوَاتٌ لِكَشْفِ الضُّرِّ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِثْلَ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَصَلَاةِ الضُّرِّ وَالْحَاجَةِ، وَمِنَ الْمُغْتَفَرِ أَيْضًا أَنْ يَقْصِدَ الْعَامِلُ مِنْ عَمَلِهِ
عَنِ الْعَمَلِ)، وَيُجَدِّدَ النِّيَّةَ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اهـ. وَذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ رَبِيعَةَ. وَذَكَرَ أَنَّ رَبِيعَةَ أَنْكَرَ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: فَقُلْتُ لَهُ مَا تَرَى فِي التَّهْجِيرِ إِلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ الظُّهْرِ؟ قَالَ: مَا زَالَ الصَّالِحُونَ يُهَجِّرُونَ. وَفِي «جَامِعِ الْمِعْيَارِ» : سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَذْهَبُ إِلَى الْغَزْوِ وَمَعَهُ فَضْلُ مَالٍ لِيُصِيبَ بِهِ مِنْ فَضْلِ الْغَنِيمَةِ (أَيْ لِيَشْتَرِيَ مِنَ النَّاسِ مَا صَحَّ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ) فَأَجَابَ لَا بَأْسَ بِهِ وَنَزَعَ بِآيَةِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَة:
١٩٨] وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ وَلَا قَادِحٍ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالْعِبَادَةِ وَجْهَ اللَّهِ وَلَا يُعَدُّ هَذَا تَشْرِيكًا فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَبَاحَ ذَلِكَ وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ فَاعِلِهِ مَعَ أَنَّهُ قَالَ:
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الْكَهْف: ١١٠] فَدَلَّ أَنَّ هَذَا التَّشْرِيكَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ بِلَفْظِهِ وَلَا بِمَعْنَاهُ تَحْتَ آيَةِ الْكَهْفِ اهـ.
وَأَقُول: إِن الْقَصْد إِلَى الْعِبَادَةِ لِيَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ فَيَسْأَلُهُ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا لَا ضَيْرَ فِيهِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ جُعِلَتْ وَسِيلَةً لِلدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ شُرِعَتْ صَلَوَاتٌ لِكَشْفِ الضُّرِّ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِثْلَ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَصَلَاةِ الضُّرِّ وَالْحَاجَةِ، وَمِنَ الْمُغْتَفَرِ أَيْضًا أَنْ يَقْصِدَ الْعَامِلُ مِنْ عَمَلِهِ
319
أَنْ يَدْعُوَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَذْكُرُوهُ بِخَيْرٍ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ خُرُوجِهِ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَدَعَا لَهُ الْمُسْلِمُونَ حِينَ وَدَّعُوهُ وَلِمَنْ مَعَهُ بِأَنْ يَرُدَّهُمُ اللَّهُ سَالِمِينَ:
وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ تَقْيِيدِنَا الْحَظَّ بِأَنَّهُ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ أَنَّ رَجَاءَ الثَّوْابِ وَاتِّقَاءَ الْعِقَابِ هُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّقَرُّبِ لِرِضَى اللَّهِ تَعَالَى. وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فَضِيلَةَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ هِيَ قَضِيَّةٌ أَخَصُّ مِنْ قَضِيَّةِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَإِجْزَائِهَا فِي ذَاتِهَا إِذْ قَدْ تَعْرُو الْعِبَادَةِ عَنْ فَضِيلَةِ الْإِخْلَاصِ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحَةٌ مُجْزِئَةٌ، فَلِلْإِخْلَاصِ أَثَرٌ فِي تَحْصِيلِ ثَوَابِ الْعَمَلِ وَزِيَادَتِهِ وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِصِحَّةِ الْعَمَلِ. وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ مُجَرَّدَ الِانْقِيَادِ فَإِنْ حَصَلَ مَعَهُ دَاعٍ آخَرَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَانِبُ الدَّاعِي إِلَى الِانْقِيَادِ رَاجِحًا عَلَى جَانِبِ الدَّاعِي الْمُغَايِرِ، أَوْ مُعَادِلًا لَهُ، أَوْ مَرْجُوحًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعَادِلَ وَالْمَرْجُوحَ سَاقِطٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الطَّاعَةِ
رَاجِحًا عَلَى جَانِبِ الدَّاعِي الْآخَرِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ أَوْ لَا اهـ.
وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ: أَنَّ الْغَزَالِيَّ- أَيْ فِي كِتَابِ النِّيَّةِ مِنَ الرُّبْعِ الرَّابِعِ مِنَ «الْإِحْيَاءِ» - يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ دَاعِيَ غَيْرِ الطَّاعَةِ مَرْجُوحًا أَنَّهُ يُنَافِي الْإِخْلَاصَ.
وَعَلَامَتُهُ أَنْ تَصِيرَ الطَّاعَةُ أَخَفَّ عَلَى الْعَبْدِ بِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنْ غَرَضٍ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ بْنَ الْعَرَبِيِّ- أَيْ فِي كِتَابِ «سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ» كَمَا نَقَلَهُ فِي «الْمِعْيَارِ» - يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِخْلَاصِ.
- قَالَ الشَّاطِبِيُّ-: وَكَانَ مَجَالُ النَّظَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إِلَى انْفِكَاكِ الْقَصْدَيْنِ أَوْ عَدَمِ انْفِكَاكِهِمَا، فَالْغَزَالِيُّ يَلْتَفِتُ إِلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ اجْتِمَاعِ الْقَصْدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَصْدَانِ مِمَّا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُمَا أَوْ لَا، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ يَلْتَفِتُ إِلَى وَجْهِ الِانْفِكَاكِ).
لكنني أسأَل الرحمان مَغْفِرَةً | وَضَرْبَةً ذَات فرع يقذف الزَّبَدَا |
أَوْ طَعْنَةً مِنْ يَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً | بِحَرْبَةٍ تَنْفُذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا |
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مروا على حدثي | أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا |
رَاجِحًا عَلَى جَانِبِ الدَّاعِي الْآخَرِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ أَوْ لَا اهـ.
وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ: أَنَّ الْغَزَالِيَّ- أَيْ فِي كِتَابِ النِّيَّةِ مِنَ الرُّبْعِ الرَّابِعِ مِنَ «الْإِحْيَاءِ» - يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ دَاعِيَ غَيْرِ الطَّاعَةِ مَرْجُوحًا أَنَّهُ يُنَافِي الْإِخْلَاصَ.
وَعَلَامَتُهُ أَنْ تَصِيرَ الطَّاعَةُ أَخَفَّ عَلَى الْعَبْدِ بِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنْ غَرَضٍ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ بْنَ الْعَرَبِيِّ- أَيْ فِي كِتَابِ «سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ» كَمَا نَقَلَهُ فِي «الْمِعْيَارِ» - يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِخْلَاصِ.
- قَالَ الشَّاطِبِيُّ-: وَكَانَ مَجَالُ النَّظَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إِلَى انْفِكَاكِ الْقَصْدَيْنِ أَوْ عَدَمِ انْفِكَاكِهِمَا، فَالْغَزَالِيُّ يَلْتَفِتُ إِلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ اجْتِمَاعِ الْقَصْدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَصْدَانِ مِمَّا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُمَا أَوْ لَا، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ يَلْتَفِتُ إِلَى وَجْهِ الِانْفِكَاكِ).
320
فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ دَقِيقَةٌ أَلْحَقْنَاهَا بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْإِخْلَاصِ الْمُرَادِ فِي الْآيَةِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّشَابُهِ الْعَارِضِ بَيْنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي تُقَارِنُ قَصْدَ الْعِبَادَةِ وَبَيْنَ إِشْرَاكِ الْمَعْبُودِ فِي الْعِبَادَةِ بِغَيْرِهِ.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَأَنَّهُ خُلُوصٌ كَامِلٌ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَلَا إِشْرَاكَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ وَعَبَدُوهُمْ حِرْصًا عَلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ يَزْعُمُونَهُ عُذْرًا لَهُمْ فَقَوْلُهُمْ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ وَقَلْبِ حَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ بِأَنْ جَعَلُوا عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ وَسِيلَةً إِلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ فَنَقَضُوا بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ مَقْصِدَهَا وَتَطَلَّبُوا الْقُرْبَةَ بِمَا أَبْعَدَهَا، وَالْوَسِيلَةُ إِذَا أَفْضَتْ إِلَى إِبْطَالِ الْمَقْصِدِ كَانَ التَّوَسُّلُ بِهَا ضَرْبًا مِنَ الْعَبَثِ.
وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مُرَادٌ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ. وَجُمْلَةُ مَا نَعْبُدُهُمْ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ نَظْمَهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ، فَتَعِينَ أَنَّهُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْمُبْتَدَأِ، أَيْ هُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهِ وَبِمَا يَلِيهِ، وَفِعْلُ الْقَوْلِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَهَذَا الْقَولُ الْمَحْذُوفُ يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَيْ قَائِلِينَ:
مَا نَعْبُدُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حِينَئِذٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ اتَّخَذُوا فَإِنَّ اتِّخَاذَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ اشْتَمَلَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فَعُلِمَ مِنْهُ إِبْطَالُ تَعَلُّلِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ أَكْثَرَ من عِبَادَتهم لله. فَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ. وَالْمُرَادُ بِ مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَأَنَّهُ خُلُوصٌ كَامِلٌ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَلَا إِشْرَاكَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ وَعَبَدُوهُمْ حِرْصًا عَلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ يَزْعُمُونَهُ عُذْرًا لَهُمْ فَقَوْلُهُمْ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ وَقَلْبِ حَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ بِأَنْ جَعَلُوا عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ وَسِيلَةً إِلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ فَنَقَضُوا بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ مَقْصِدَهَا وَتَطَلَّبُوا الْقُرْبَةَ بِمَا أَبْعَدَهَا، وَالْوَسِيلَةُ إِذَا أَفْضَتْ إِلَى إِبْطَالِ الْمَقْصِدِ كَانَ التَّوَسُّلُ بِهَا ضَرْبًا مِنَ الْعَبَثِ.
وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مُرَادٌ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ. وَجُمْلَةُ مَا نَعْبُدُهُمْ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ نَظْمَهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ، فَتَعِينَ أَنَّهُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْمُبْتَدَأِ، أَيْ هُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهِ وَبِمَا يَلِيهِ، وَفِعْلُ الْقَوْلِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَهَذَا الْقَولُ الْمَحْذُوفُ يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَيْ قَائِلِينَ:
مَا نَعْبُدُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حِينَئِذٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ اتَّخَذُوا فَإِنَّ اتِّخَاذَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ اشْتَمَلَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فَعُلِمَ مِنْهُ إِبْطَالُ تَعَلُّلِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ أَكْثَرَ من عِبَادَتهم لله. فَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ. وَالْمُرَادُ بِ مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
321
اخْتِلَافُ طَرَائِقِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَفِي أَنْوَاعِهَا مِنَ الْأَنْصَابِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ.
وَمَعْنَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ ضَلَالَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ لَيْسَ مَعْنَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ مُقْتَضِيًا الْحُكْمَ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى فَرِيقٍ آخَرَ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ بِإِبْطَالِ دَعْوَى جَمِيعِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مَعْطُوفٍ عَلَى بَيْنَهُمْ مُمَاثِلٍ لَهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ، لِاقْتِضَائِهَا أَنَّ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الدِّينَ لِلَّهِ قَدْ وَافَقُوا الْحَقَّ فَالتَّقْدِيرُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُخْلِصِينَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ النَّابِغَةِ:
تَقْدِيرُهُ: بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنِي بِدَلَالَةِ سِيَاقِ الرِّثَاءِ وَالتَّلَهُّفِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِيُقَرِّبُونا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عِلَلٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا نَعْبُدُهُمْ لِشَيْءٍ إِلَّا لِعِلَّةِ أَنَّ يُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ فَيُفِيدُ قَصْرًا عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ قَصْرَ قَلْبٍ إِضَافِيٍّ، أَيْ دُونَ مَا شَنَّعْتُمْ عَلَيْنَا مِنْ أَنَّنَا كَفَرْنَا نِعْمَةَ خَالِقِنَا إِذْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْمَعْذِرَةَ وَيَكُونُ فِي أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ اسْتِخْدَامٌ لِأَنَّ اللَّامَ الْمُقَدَّرَةَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ لَامُ الْعَاقِبَةِ لَا لَامُ الْعِلَّةِ إِذْ لَا يَكُونُ الْكُفْرَانُ بِالْخَالِقِ عِلَّةٌ لِعَاقِلٍ وَلَكِنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَالْقَصْرُ لَا يُنَافِي أَنَّهُمْ أَعَدُّوهُمْ لِأَشْيَاءَ أُخَرَ إِذَا عَدُّوهُمْ شُفَعَاءَ وَاسْتَنْجَدُوهُمْ فِي النَّوَائِبِ، وَاسْتَقْسَمُوا بِأَزْلَامِهِمْ لِلنَّجَاحِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْوَاقِعِ.
وَالزُّلْفَى: مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ، أَيْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ فِي مَنْزِلَةِ الْقرب، وَالْمرَاد بهَا مَنْزِلَةُ الْكَرَامَةُ وَالْعِنَايَةِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَنَازِلِ الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ مَنْصُوبًا بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ لِيُقَرِّبُونا بَدَلَ اشْتِمَالٍ، أَيْ لِيُقَرِّبُوا مَنْزِلَتَنَا إِلَى اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زُلْفى اسْمُ مَصْدَرٍ فَيَكُونُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، أَيْ قُرْبًا شَدِيدًا.
وَأَفَادَ نَظْمُ هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَمْرَيْنِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ ثَابِتٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ، فَالْأَوَّلُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، وَالثَّانِي مِنْ كَوْنِ الْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا.
وَمَعْنَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ ضَلَالَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ لَيْسَ مَعْنَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ مُقْتَضِيًا الْحُكْمَ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى فَرِيقٍ آخَرَ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ بِإِبْطَالِ دَعْوَى جَمِيعِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مَعْطُوفٍ عَلَى بَيْنَهُمْ مُمَاثِلٍ لَهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ، لِاقْتِضَائِهَا أَنَّ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الدِّينَ لِلَّهِ قَدْ وَافَقُوا الْحَقَّ فَالتَّقْدِيرُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُخْلِصِينَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ النَّابِغَةِ:
فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا | أَبُو حُجْرٍ إِلَّا لَيَالٍ قَلَائِلُ |
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِيُقَرِّبُونا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عِلَلٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا نَعْبُدُهُمْ لِشَيْءٍ إِلَّا لِعِلَّةِ أَنَّ يُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ فَيُفِيدُ قَصْرًا عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ قَصْرَ قَلْبٍ إِضَافِيٍّ، أَيْ دُونَ مَا شَنَّعْتُمْ عَلَيْنَا مِنْ أَنَّنَا كَفَرْنَا نِعْمَةَ خَالِقِنَا إِذْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْمَعْذِرَةَ وَيَكُونُ فِي أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ اسْتِخْدَامٌ لِأَنَّ اللَّامَ الْمُقَدَّرَةَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ لَامُ الْعَاقِبَةِ لَا لَامُ الْعِلَّةِ إِذْ لَا يَكُونُ الْكُفْرَانُ بِالْخَالِقِ عِلَّةٌ لِعَاقِلٍ وَلَكِنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَالْقَصْرُ لَا يُنَافِي أَنَّهُمْ أَعَدُّوهُمْ لِأَشْيَاءَ أُخَرَ إِذَا عَدُّوهُمْ شُفَعَاءَ وَاسْتَنْجَدُوهُمْ فِي النَّوَائِبِ، وَاسْتَقْسَمُوا بِأَزْلَامِهِمْ لِلنَّجَاحِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْوَاقِعِ.
وَالزُّلْفَى: مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ، أَيْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ فِي مَنْزِلَةِ الْقرب، وَالْمرَاد بهَا مَنْزِلَةُ الْكَرَامَةُ وَالْعِنَايَةِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَنَازِلِ الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ مَنْصُوبًا بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ لِيُقَرِّبُونا بَدَلَ اشْتِمَالٍ، أَيْ لِيُقَرِّبُوا مَنْزِلَتَنَا إِلَى اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زُلْفى اسْمُ مَصْدَرٍ فَيَكُونُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، أَيْ قُرْبًا شَدِيدًا.
وَأَفَادَ نَظْمُ هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَمْرَيْنِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ ثَابِتٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ، فَالْأَوَّلُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، وَالثَّانِي مِنْ كَوْنِ الْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا.
322
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ وَعَنْ كَوْنِهِمْ كَفَّارِينَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَكِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ ضَالِّينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ مَصِيرِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ جَرَّاءِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ، فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ، أَيْ يَذَرُهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ وَيُمْهِلُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الدِّينَ فَخَالَفُوهُ.
وَالْمُرَادُ بِ مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء، أَي الْمُشْركين، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِهِمْ، وَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى الْإِضْمَارِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ وَقُوَّةِ الْكُفْرِ.
وَهِدَايَةُ اللَّهِ الْمَنْفِيَّةُ عَنْهُمْ هِيَ: أَنْ يَتَدَارَكَهُمُ اللَّهُ بِلُطْفِهِ بِخَلْقِ الْهِدَايَةِ فِي نُفُوسِهِمْ، فَالْهِدَايَةُ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ الْهِدَايَةُ التَّكْوِينِيَّةُ لَا الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ وَالتَّبْلِيغِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ، أَيِ الْعِنَايَةِ الَّتِي بِهَا تَيْسِيرُ الْهِدَايَةِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَهْتَدُوا، أَيْ لَا يُوَفِّقُهُمُ اللَّهُ بَلْ يَتْرُكُهُمْ عَلَى رَأْيِهِمْ غَضَبًا عَلَيْهِمْ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِإِفَادَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْفِعْلِ لِيُفِيدَ أَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِهِمُ التَّوْفِيقَ هُوَ كَذِبُهُمْ وَشِدَّةُ كُفْرِهِمْ.
فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولَهُ إِلَى النَّاسِ فَبَلَّغَهُمْ كَانُوا عِنْد مَا يُبَلِّغُهُمُ الرَّسُولُ رِسَالَةَ رَبِّهِ بِمُسْتَوَى مُتَحَدٍّ عِنْدَ اللَّهِ بِمَا هُمْ عَبِيدٌ مُرَبِوبُونَ ثُمَّ يَكُونُونَ أَصْنَافًا فِي تَلَقِّيهِمُ الدَّعْوَةَ فَمِنْهُمْ طَالِبُ هِدَايَةٍ بِقَبُولِ مَا فَهِمَهُ وَيَسْأَلُ عَمَّا جَهِلَهُ، وَيَتَدَبَّرُ وَيَنْظُرُ وَيَسْأَلُ، فَهَذَا بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنْ رَبِّهِ فَهُوَ يُعِينُهُ وَيَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلْخَيْرِ حَتَّى يُشْرِقَ بَاطِنُهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: ١٢٥] وَقَالَ:
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات: ٧، ٨].
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ وَعَنْ كَوْنِهِمْ كَفَّارِينَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَكِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ ضَالِّينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ مَصِيرِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ جَرَّاءِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ، فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ، أَيْ يَذَرُهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ وَيُمْهِلُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الدِّينَ فَخَالَفُوهُ.
وَالْمُرَادُ بِ مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء، أَي الْمُشْركين، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِهِمْ، وَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى الْإِضْمَارِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ وَقُوَّةِ الْكُفْرِ.
وَهِدَايَةُ اللَّهِ الْمَنْفِيَّةُ عَنْهُمْ هِيَ: أَنْ يَتَدَارَكَهُمُ اللَّهُ بِلُطْفِهِ بِخَلْقِ الْهِدَايَةِ فِي نُفُوسِهِمْ، فَالْهِدَايَةُ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ الْهِدَايَةُ التَّكْوِينِيَّةُ لَا الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ وَالتَّبْلِيغِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ، أَيِ الْعِنَايَةِ الَّتِي بِهَا تَيْسِيرُ الْهِدَايَةِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَهْتَدُوا، أَيْ لَا يُوَفِّقُهُمُ اللَّهُ بَلْ يَتْرُكُهُمْ عَلَى رَأْيِهِمْ غَضَبًا عَلَيْهِمْ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِإِفَادَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْفِعْلِ لِيُفِيدَ أَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِهِمُ التَّوْفِيقَ هُوَ كَذِبُهُمْ وَشِدَّةُ كُفْرِهِمْ.
فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولَهُ إِلَى النَّاسِ فَبَلَّغَهُمْ كَانُوا عِنْد مَا يُبَلِّغُهُمُ الرَّسُولُ رِسَالَةَ رَبِّهِ بِمُسْتَوَى مُتَحَدٍّ عِنْدَ اللَّهِ بِمَا هُمْ عَبِيدٌ مُرَبِوبُونَ ثُمَّ يَكُونُونَ أَصْنَافًا فِي تَلَقِّيهِمُ الدَّعْوَةَ فَمِنْهُمْ طَالِبُ هِدَايَةٍ بِقَبُولِ مَا فَهِمَهُ وَيَسْأَلُ عَمَّا جَهِلَهُ، وَيَتَدَبَّرُ وَيَنْظُرُ وَيَسْأَلُ، فَهَذَا بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنْ رَبِّهِ فَهُوَ يُعِينُهُ وَيَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلْخَيْرِ حَتَّى يُشْرِقَ بَاطِنُهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: ١٢٥] وَقَالَ:
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات: ٧، ٨].
323
وَلَا جَرَمَ أَنَّهُ كُلَّمَا تَوَغَّلَ الْعَبْدُ فِي الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَفِي الْكُفْرِ بِهِ ازْدَادَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَازْدَادَ بُعْدُ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمرَان: ٨٦].
وَالتَّوْفِيقُ: خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ فَنَفْيُ هِدَايَةِ اللَّهِ عَنْهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ تَوْفِيقِهِ وَلُطْفِهِ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مُسَبَّبَةُ عَنِ التَّوْفِيقِ فَعُبِّرَ بِنَفْيِ الْمُسَبَّبِ عَنْ نَفْيِ السَّبَبِ. وَكَذِبُهُمْ هُوَ مَا اخْتَلَقُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِتَأْلِيهِ الْأَصْنَامِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَاقِ صِفَاتٍ وَهْمِيَّةٍ لِلْأَصْنَامِ وَشَرَائِعَ يَدِينُونَ بِهَا لَهُم.
والكفّار: الشَّديد الْكُفْرِ الْبَلِيغُهُ، وَذَلِكَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَلَقِّيهِ، وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الْمَوَانِعِ لِلتَّدَبُّرِ فِيهِ. وَعُلِمَ مِنْ مُقَارَنَةِ وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ بِوَصْفِهِمْ بِالْأَبْلَغِيَّةِ فِي الْكُفْرِ أَنَّهُمْ مُتَبَالِغُونَ فِي الْكَذِبِ أَيْضًا لِأَنَّ كَذِبَهُمُ الْمَذْمُومَ إِنَّمَا هُوَ كَذِبُهُمْ فِي كُفْرِيَّاتِهِمْ فَلَزِمَ مِنْ مُبَالَغَةِ الْكُفْرِ مُبَالَغَةُ الْكَذِب فِيهِ.
[٤]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤]
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعُ الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَاذِبُونَ وَكَفَّارُونَ فِي اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزمر: ٣] وَأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الْهُدَى وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:
٣]، فَقَصَدَ إِبْطَالَ شِرْكِهِمْ بِإِبْطَالِ أَقْوَاهُ وَهُوَ عَدُّهُمْ فِي جُمْلَةِ شُرَكَائِهِمْ شُرَكَاءَ زَعَمُوا لَهُمْ بُنُوَّةً لِلَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: ١١٦] فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بَنَاتِ الله قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النَّجْم: ١٩- ٢١].
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَالِكَ: «كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ وَهَذِهِ الْأَصْنَامَ (يَعْنِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ) بَنَاتُ اللَّهِ» وَذَكَرَ الْبَغْوَيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ يَقُولُونَ:
وَالتَّوْفِيقُ: خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ فَنَفْيُ هِدَايَةِ اللَّهِ عَنْهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ تَوْفِيقِهِ وَلُطْفِهِ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مُسَبَّبَةُ عَنِ التَّوْفِيقِ فَعُبِّرَ بِنَفْيِ الْمُسَبَّبِ عَنْ نَفْيِ السَّبَبِ. وَكَذِبُهُمْ هُوَ مَا اخْتَلَقُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِتَأْلِيهِ الْأَصْنَامِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَاقِ صِفَاتٍ وَهْمِيَّةٍ لِلْأَصْنَامِ وَشَرَائِعَ يَدِينُونَ بِهَا لَهُم.
والكفّار: الشَّديد الْكُفْرِ الْبَلِيغُهُ، وَذَلِكَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَلَقِّيهِ، وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الْمَوَانِعِ لِلتَّدَبُّرِ فِيهِ. وَعُلِمَ مِنْ مُقَارَنَةِ وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ بِوَصْفِهِمْ بِالْأَبْلَغِيَّةِ فِي الْكُفْرِ أَنَّهُمْ مُتَبَالِغُونَ فِي الْكَذِبِ أَيْضًا لِأَنَّ كَذِبَهُمُ الْمَذْمُومَ إِنَّمَا هُوَ كَذِبُهُمْ فِي كُفْرِيَّاتِهِمْ فَلَزِمَ مِنْ مُبَالَغَةِ الْكُفْرِ مُبَالَغَةُ الْكَذِب فِيهِ.
[٤]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤]
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعُ الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَاذِبُونَ وَكَفَّارُونَ فِي اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزمر: ٣] وَأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الْهُدَى وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:
٣]، فَقَصَدَ إِبْطَالَ شِرْكِهِمْ بِإِبْطَالِ أَقْوَاهُ وَهُوَ عَدُّهُمْ فِي جُمْلَةِ شُرَكَائِهِمْ شُرَكَاءَ زَعَمُوا لَهُمْ بُنُوَّةً لِلَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: ١١٦] فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بَنَاتِ الله قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النَّجْم: ١٩- ٢١].
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَالِكَ: «كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ وَهَذِهِ الْأَصْنَامَ (يَعْنِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ) بَنَاتُ اللَّهِ» وَذَكَرَ الْبَغْوَيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ يَقُولُونَ:
324
الْأَصْنَامُ وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فَخُصَّ الِاعْتِقَادُ بِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقُولُوهُ فِي غَيْرِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، لِأَنَّ أَسْمَاءَهَا مُؤَنَّثَةٌ، وَإِلَّا فَإِنَّ فِي أَسْمَاءِ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ أَصْنَامِهِمْ مَا هُوَ مُذَكَّرٌ نَحْوَ ذِي الْخَلَصَةِ، وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِهِمْ: بِاسْمِ اللَّاتِ، بِاسْمِ الْعُزَّى.
فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْآيَاتِ بَعْدَهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى حُجَجِ انْفِرَادِ اللَّهِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَّخِذًا وَلَدًا لَاخْتَارَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مَا يَشَاءُ اخْتِيَارَهُ، أَيْ
لَاخْتَارَ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالِاخْتِيَارِ وَلَا يَخْتَارُ لِبُنُوَّتِهِ حِجَارَةً كَمَا زَعَمْتُمْ لِأَنَّ شَأْنَ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَحْسَنِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَارِ مِنْهَا فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاة بَنَات لله تَعَالَى، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهَا بَطَلَ عَنْ سَائِرِ الْأَصْنَامِ بِحُكْمِ الْمُسَاوَاةِ أَوِ الْأَحْرَى، فَتَكُونُ لَوْ هُنَا هِيَ الْمُلَقَّبَةُ لَوْ الصُّهَيْبِيَّةَ، أَيْ الَّتِي شَرْطُهَا مَفْرُوضٌ فَرْضًا عَلَى أَقْصَى احْتِمَالٍ وَهِيَ الَّتِي يُمَثِّلُونَ لَهَا بِالْمَثَلِ الْمَشْهُورِ: «نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخِفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ»، فَكَانَ هَذَا إِبْطَالًا لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَى قَوْله:
كَفَّارٌ [الزمر: ٣]. وَلَيْسَ هُوَ إِبْطَالًا لِمَقَالَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ وَجِّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ، وَلَا إِبْطَالًا لِبُنُوَّةِ الْمَسِيحِ عِنْدَ النَّصَارَى لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَقَدٍ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطِبِينَ وَلَا شُعُورٌ لَهُمْ بِهِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُحَاجَّةُ النَّصَارَى وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ الْمَكِّيُّ إِلَى مُحَاجَّةِ النَّصَارَى.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ بُنِيَ الدَّلِيلُ عَلَى قَاعِدَةِ اسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ بُنِيَ الْقِيَاسُ الشَّرْطِيُّ عَلَى فَرْضِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لَا عَلَى فَرْضِ التَّوَلُّدِ، فَاقْتَضَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاتِّخَاذِ الْوَلَدِ التَّبَنِّي لِأَنَّ إِبْطَالَ التَّبَنِّي بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَسْتَلْزِمُ إِبْطَالَ تَّوَلُّدِ الِابْنِ بِالْأَوْلَى.
وَعُزِّزَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ فِعْلِ الِاتِّخَاذِ بِتَعْقِيبِهِ بِفِعْلِ الِاصْطِفَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مُجَارَاةِ الْخَصْمِ الْمُخْطِئ لِيُغَيِّرَ فِي مَهْوَاةِ خَطَئِهِ، أَيْ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنَ اللَّهِ نِسْبَةُ بُنُوَّةٍ
فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْآيَاتِ بَعْدَهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى حُجَجِ انْفِرَادِ اللَّهِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَّخِذًا وَلَدًا لَاخْتَارَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مَا يَشَاءُ اخْتِيَارَهُ، أَيْ
لَاخْتَارَ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالِاخْتِيَارِ وَلَا يَخْتَارُ لِبُنُوَّتِهِ حِجَارَةً كَمَا زَعَمْتُمْ لِأَنَّ شَأْنَ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَحْسَنِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَارِ مِنْهَا فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاة بَنَات لله تَعَالَى، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهَا بَطَلَ عَنْ سَائِرِ الْأَصْنَامِ بِحُكْمِ الْمُسَاوَاةِ أَوِ الْأَحْرَى، فَتَكُونُ لَوْ هُنَا هِيَ الْمُلَقَّبَةُ لَوْ الصُّهَيْبِيَّةَ، أَيْ الَّتِي شَرْطُهَا مَفْرُوضٌ فَرْضًا عَلَى أَقْصَى احْتِمَالٍ وَهِيَ الَّتِي يُمَثِّلُونَ لَهَا بِالْمَثَلِ الْمَشْهُورِ: «نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخِفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ»، فَكَانَ هَذَا إِبْطَالًا لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَى قَوْله:
كَفَّارٌ [الزمر: ٣]. وَلَيْسَ هُوَ إِبْطَالًا لِمَقَالَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ وَجِّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ، وَلَا إِبْطَالًا لِبُنُوَّةِ الْمَسِيحِ عِنْدَ النَّصَارَى لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَقَدٍ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطِبِينَ وَلَا شُعُورٌ لَهُمْ بِهِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُحَاجَّةُ النَّصَارَى وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ الْمَكِّيُّ إِلَى مُحَاجَّةِ النَّصَارَى.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ بُنِيَ الدَّلِيلُ عَلَى قَاعِدَةِ اسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ بُنِيَ الْقِيَاسُ الشَّرْطِيُّ عَلَى فَرْضِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لَا عَلَى فَرْضِ التَّوَلُّدِ، فَاقْتَضَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاتِّخَاذِ الْوَلَدِ التَّبَنِّي لِأَنَّ إِبْطَالَ التَّبَنِّي بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَسْتَلْزِمُ إِبْطَالَ تَّوَلُّدِ الِابْنِ بِالْأَوْلَى.
وَعُزِّزَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ فِعْلِ الِاتِّخَاذِ بِتَعْقِيبِهِ بِفِعْلِ الِاصْطِفَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مُجَارَاةِ الْخَصْمِ الْمُخْطِئ لِيُغَيِّرَ فِي مَهْوَاةِ خَطَئِهِ، أَيْ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنَ اللَّهِ نِسْبَةُ بُنُوَّةٍ
325
لَكَانَتْ تِلْكَ النِّسْبَةُ التَّبَنِّيَ لَا غَيْرَ إِذْ لَا تتعقل بنوة لله غَيْرَ التَّبَنِّي وَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَبَنِّيًا لَاخْتَارَ مَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِالتَّبَنِّي مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دُونَ الْحِجَارَةِ الَّتِي زَعَمْتُمُوهَا بَنَاتٍ لِلَّهِ. وَإِذَا بَطَلَتْ بُنُوَّةُ تِلْكَ الْأَصْنَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَزْعُومَةِ بَطَلَتْ إِلَهِيَّةُ سَائِرِ الْأَصْنَامِ الْأُخْرَى الَّتِي اعْتَرَفُوا بِأَنَّهَا فِي مَرْتَبَةٍ دُونَ مَرْتَبَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ فَقَدِ اقْتَضَى الْكَلَامُ دَلِيلَيْنِ: طُوِيَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ دَلِيلُ اسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذُكِرَ دَلِيلُ إِبْطَالِ التبنّي لما لايليق أَنْ يَتَبَنَّاهُ الْحَكِيمُ.
هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانِ وَقْعِهَا مِمَّا قَبْلَهَا وَبِهِ تَخْرُجُ عَنْ نِطَاقِ الْحَيْرَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَ تَعَسُّفٍ فِي مَعْنَاهَا وَنَظْمِهَا وَمَوْقِعِهَا، وَلَمْ يَتِمَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَجْهُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ عَنْ تَفْسِيرِهَا. فَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ بُنُوَّةُ الْمَلَائِكَةِ وَجَعْلُ جَوَابِ لَوْ مَحْذُوفًا وَجَعْلُ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ إِرْشَادًا إِلَى الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ فِي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: «يَعْنِي لَوْ أَرَادَ اللَّهُ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ لَامْتَنَعَ، وَلَمْ يَصِحَّ لِكَوْنِهِ (أَيْ ذَلِكَ الِاتِّخَاذُ) مُحَالًا
وَلَمْ يَتَأَتَّ إِلَّا أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ خَلْقِهِ بَعْضَهُ وَيَخْتَصَّهُمْ وَيُقَرِّبَهُمْ كَمَا يَخْتَصُّ الرَّجُلُ وَلَدَهُ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَلَائِكَةِ فغرّكم اخْتِصَاصه إِيَّاهُمْ فَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ أَوْلَادُهُ جَهْلًا مِنْكُمْ بِحَقِيقَتِهِ الْمُخَالَفَةِ لحقائق الْأَجْسَام والأعراض». فَجُعِلَ مَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ جَوَابُ لَوْ مُفِيدًا مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ الَّذِي يَعْقُبُ الْمُقَدَّمَ وَالتَّالِيَ غَالِبًا، فَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِمُرَادِفِهِ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ.
وَلِلْتَفْتَزَانِيِّ بَحْثٌ يَقْتَضِي عَدَمَ اسْتِقَامَةِ تَقْرِيرِ «الْكَشَّافِ» لِدَلِيلِ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهِ، وَاسْتَظْهَرَ أَنَّ لَوْ صُهَيْبِيَّةٌ تَبَعًا لِتَقْرِيرِ ذكره صَاحب «الْكَشْف». وَبَعْدُ فَإِنَّ كَلَامَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ مُنْقَطِعَةً عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَيَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ غَرَضٍ مُسْتَأْنَفٍ مَعَ أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ نَظْمُ الِاحْتِجَاجِ لَا نَظْمُ الْإِفَادَةِ، فَكَانَ مَحْمَلُ «الْكَشَّافِ» فِيهَا بَعِيدًا. وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا فَإِنَّ فِي تَقْرِيرِ الْمُلَازَمَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ خَفَاءً وَتَعَسُّفًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّقَّارُ فِي كِتَابِهِ «التَّقْرِيبُ مُخْتَصَرُ الْكَشَّافِ».
هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانِ وَقْعِهَا مِمَّا قَبْلَهَا وَبِهِ تَخْرُجُ عَنْ نِطَاقِ الْحَيْرَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَ تَعَسُّفٍ فِي مَعْنَاهَا وَنَظْمِهَا وَمَوْقِعِهَا، وَلَمْ يَتِمَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَجْهُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ عَنْ تَفْسِيرِهَا. فَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ بُنُوَّةُ الْمَلَائِكَةِ وَجَعْلُ جَوَابِ لَوْ مَحْذُوفًا وَجَعْلُ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ إِرْشَادًا إِلَى الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ فِي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: «يَعْنِي لَوْ أَرَادَ اللَّهُ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ لَامْتَنَعَ، وَلَمْ يَصِحَّ لِكَوْنِهِ (أَيْ ذَلِكَ الِاتِّخَاذُ) مُحَالًا
وَلَمْ يَتَأَتَّ إِلَّا أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ خَلْقِهِ بَعْضَهُ وَيَخْتَصَّهُمْ وَيُقَرِّبَهُمْ كَمَا يَخْتَصُّ الرَّجُلُ وَلَدَهُ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَلَائِكَةِ فغرّكم اخْتِصَاصه إِيَّاهُمْ فَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ أَوْلَادُهُ جَهْلًا مِنْكُمْ بِحَقِيقَتِهِ الْمُخَالَفَةِ لحقائق الْأَجْسَام والأعراض». فَجُعِلَ مَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ جَوَابُ لَوْ مُفِيدًا مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ الَّذِي يَعْقُبُ الْمُقَدَّمَ وَالتَّالِيَ غَالِبًا، فَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِمُرَادِفِهِ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ.
وَلِلْتَفْتَزَانِيِّ بَحْثٌ يَقْتَضِي عَدَمَ اسْتِقَامَةِ تَقْرِيرِ «الْكَشَّافِ» لِدَلِيلِ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهِ، وَاسْتَظْهَرَ أَنَّ لَوْ صُهَيْبِيَّةٌ تَبَعًا لِتَقْرِيرِ ذكره صَاحب «الْكَشْف». وَبَعْدُ فَإِنَّ كَلَامَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ مُنْقَطِعَةً عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَيَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ غَرَضٍ مُسْتَأْنَفٍ مَعَ أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ نَظْمُ الِاحْتِجَاجِ لَا نَظْمُ الْإِفَادَةِ، فَكَانَ مَحْمَلُ «الْكَشَّافِ» فِيهَا بَعِيدًا. وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا فَإِنَّ فِي تَقْرِيرِ الْمُلَازَمَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ خَفَاءً وَتَعَسُّفًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّقَّارُ فِي كِتَابِهِ «التَّقْرِيبُ مُخْتَصَرُ الْكَشَّافِ».
326
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى اتِّخَاذِ الْوَلَدِ اتِّخَاذُ التَّشْرِيفِ وَالتَّبَنِّي وَعَلَى هَذَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ:
لَاصْطَفى وَأَمَّا الِاتِّخَاذُ الْمَعْهُودُ فِي الشَّاهِدِ (يَعْنِي اتِّخَاذَ النَّسْلِ) فَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِي جِهَةِ اللَّهِ وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَاصْطَفى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَنْ يَتَّخِذَ الِاصْطِفَاءُ وَالتَّبَنِّي قَوْلُهُ: مِمَّا يَخْلُقُ أَي من محداثته اهـ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْفَخْرُ.
وَبَنَى عَلَيْهِ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» فَقَالَ عقب تعقيب كَلَامِ «الْكَشَّافِ» «وَالْأَوْلَى مَا قِيلَ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا كَمَا زَعَمْتُمْ لَاخْتَارَ الْأَفْضَلَ (أَيِ الذُّكُورَ) لَا الْأَنْقَصَ وَهُنَّ الْإِنَاث».
وَقَالَ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» : هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بِحَسْبِ الظَّاهِرِ، وَذَكَرَ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» لَمْ يَسْلُكْهُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذكره التفتازانيّ هُنَاكَ. وَالَّذِي سَلَكَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبُ وَأَوْضَحُ مِنْ مَسْلَكِ «الْكَشَّافِ» فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ لَكِنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَصِلُ الْآيَةَ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْطَعَ بَيْنَهَا الْأَوَاصِرُ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ.
وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ تَنْزِيهٌ لَهُ عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَهُ بِالدَّلِيلِ الِامْتِنَاعِيِّ عَوْدًا إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِي فَارَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ٢].
وَجُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ دَلِيلٌ لِلتَّنْزِيهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ سُبْحانَهُ. فَجُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ تَمْهِيدٌ لِلْوَصْفَيْنِ، وَذُكِرَ اسْمُهُ الْعَلَمُ لِإِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ بِالِاسْمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ كَمَا قَالَ بَعْدَ: أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر: ٥]. وَإِثْبَاتُ
الْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ يُبْطِلُ الشَّرِيكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِ، وَإِثْبَاتُ الْقَهَّارُ يُبْطِلُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفًى وَتَشْفَعُ لَهُمْ.
وَالْقَهْرُ: الْغَلَبَةُ، أَي هُوَ الشَّديد الْغَلَبَةِ لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَلَا يَصْرِفُهُ عَنْ إِرَادَتِهِ
لَاصْطَفى وَأَمَّا الِاتِّخَاذُ الْمَعْهُودُ فِي الشَّاهِدِ (يَعْنِي اتِّخَاذَ النَّسْلِ) فَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِي جِهَةِ اللَّهِ وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَاصْطَفى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَنْ يَتَّخِذَ الِاصْطِفَاءُ وَالتَّبَنِّي قَوْلُهُ: مِمَّا يَخْلُقُ أَي من محداثته اهـ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْفَخْرُ.
وَبَنَى عَلَيْهِ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» فَقَالَ عقب تعقيب كَلَامِ «الْكَشَّافِ» «وَالْأَوْلَى مَا قِيلَ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا كَمَا زَعَمْتُمْ لَاخْتَارَ الْأَفْضَلَ (أَيِ الذُّكُورَ) لَا الْأَنْقَصَ وَهُنَّ الْإِنَاث».
وَقَالَ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» : هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بِحَسْبِ الظَّاهِرِ، وَذَكَرَ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» لَمْ يَسْلُكْهُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذكره التفتازانيّ هُنَاكَ. وَالَّذِي سَلَكَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبُ وَأَوْضَحُ مِنْ مَسْلَكِ «الْكَشَّافِ» فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ لَكِنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَصِلُ الْآيَةَ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْطَعَ بَيْنَهَا الْأَوَاصِرُ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ.
وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ تَنْزِيهٌ لَهُ عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَهُ بِالدَّلِيلِ الِامْتِنَاعِيِّ عَوْدًا إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِي فَارَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ٢].
وَجُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ دَلِيلٌ لِلتَّنْزِيهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ سُبْحانَهُ. فَجُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ تَمْهِيدٌ لِلْوَصْفَيْنِ، وَذُكِرَ اسْمُهُ الْعَلَمُ لِإِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ بِالِاسْمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ كَمَا قَالَ بَعْدَ: أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر: ٥]. وَإِثْبَاتُ
الْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ يُبْطِلُ الشَّرِيكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِ، وَإِثْبَاتُ الْقَهَّارُ يُبْطِلُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفًى وَتَشْفَعُ لَهُمْ.
وَالْقَهْرُ: الْغَلَبَةُ، أَي هُوَ الشَّديد الْغَلَبَةِ لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَلَا يَصْرِفُهُ عَنْ إِرَادَتِهِ
327
[٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥]خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر: ٤] فَإِنَّ خَلْقَ هَذِهِ الْعَوَالِمِ وَالتَّصَرُّفَ فِيهَا عَلَى شِدَّتِهَا وَعَظَمَتِهَا يُبَيِّنُ مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَمَعْنَى الْقَهَّارِيَّةِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ذَاتَ اتِّصَالَيْنِ: اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [الزمر: ٤] كَاتِّصَالِ التَّذْيِيلِ، وَاتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ اتِّصَالَ التَّمْهِيدِ.
وَقَدِ انْتَقَلَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاقْتِضَاءِ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ نَفِيَ الشَّرِيكِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ شُرَكَاؤُهُمْ خَلْقَ الْعَوَالِمِ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ خَلَقَهَا خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ وَهُوَ هُنَا ضد الْبَعْث، أَيْ خَلَقَهُمَا خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ وَالنَّفْعِ لَا يَشُوبُ خَلْقَهُمَا عَبَثٌ وَلَا اخْتِلَالٌ قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: ٣٨- ٣٩].
وَجُمْلَةُ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ بَيَانٌ ثَانٍ وَهُوَ كَتَعْدَادِ الْجُمَلِ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ أَوَ الِامْتِنَانِ.
وَأُوثِرَ الْمُضَارِعُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ وَتَكَرُّرِهِ، أَوْ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ التَّكْوِيرِ تَبَعًا لِاسْتِحْضَارِ آثَارِهَا فَإِنَّ حَالَةَ تَكْوِيرِ اللَّهِ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ وَإِنَّمَا الْمَشَاهَدُ أَثَرُهَا وَتَجَدُّدُ الْأَثَرِ يَدُلُّ عَلَى تَجَدُّدِ التَّأْثِيرِ.
وَالتَّكْوِيرُ حَقِيقَتُهُ: اللَّفُّ وَاللَّيُّ، يُقَالُ: كَوَّرَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا لَوَاهَا وَلَفَّهَا، وَمُثِّلَتْ بِهِ هُنَا هَيْئَةُ غَشَيَانِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ فِي جُزْءٍ مِنْ سَطْحِ الْأَرْضِ وَعَكْسُ ذَلِكَ عَلَى
التَّعَاقُبِ بِهَيْئَةِ كُوَرِ الْعِمَامَةَ، إِذْ تَغْشَى اللِّيَةُ اللِّيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ قَابِلٌ لِلتَّجْزِئَةِ بِأَنْ تُشَبِّهَ الْأَرْضُ بِالرَّأْسِ، وَيُشَبَّهَ تَعَاوُرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَيْهَا بِلَفِّ طَيَّاتِ الْعِمَامَةِ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ إِبْدَاعًا إِيثَارُ مَادَّةِ التَّكْوِيرِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزَةٌ عِلْمِيَّةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الرَّابِعَةِ وَالْمُوَضَّحَةِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ، فَإِنَّ مَادَّةَ التَّكْوِيرِ جَائِيَةٌ مِنِ اسْمِ الْكُرَةِ، وَهِيَ الْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ مِنْ جَمِيعِ
328
جِهَاتِهِ عَلَى التَّسَاوِي، وَالْأَرْضُ كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ فِي الْوَاقِعِ وَذَلِكَ كَانَ يَجْهَلُهُ الْعَرَبُ وَجُمْهُورُ الْبَشَرِ يَوْمَئِذٍ فَأَوْمَأَ الْقُرْآنُ إِلَيْهِ بِوَصْفِ الْعَرَضَيْنِ اللَّذَيْنِ يَعْتَرِيَانِ الْأَرْضَ عَلَى التَّعَاقُبِ وَهُمَا النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، أَوِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، إِذْ جَعَلَ تَعَاوُرَهُمَا تَكْوِيرًا لِأَنَّ عَرَضَ الْكُرَةِ يَكُونُ كُرَوِيًّا تَبَعًا لِذَاتِهَا، فَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ بِإِنْشَاءِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ اخْتِيرَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ الْإِنْشَاءَ مِنْ خَلْقِ الْعَرَضَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ لِلْأَرْضِ مَادَّةِ التَّكْوِيرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ الْغَشَيَانِ الَّذِي عُبِّرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤]، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَعَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ أَوَّلَهَا إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الْأَعْرَاف: ٥٤] فَكَانَ تَصْوِيرُ ذَلِكَ بِإِغْشَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى قُوَّةِ التَّمَكُّنِ مِنْ تَغْيِيرِهِ أَعْرَاضَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى تَغْيِيرِ أَعْظَمِ عَرَضٍ وَهُوَ النُّورُ بِتَسْلِيطِ الظُّلْمَةِ عَلَيْهِ، لِتَكُونَ هَاتِهِ الْآيَةُ لِمَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى عِلْمِ الْهَيْئَةِ فَتَكُونُ مُعْجِزَةً عِنْدَهُمْ.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ هُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُزْءِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: ٥].
وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ هُوَ تَذْلِيلُهُمَا لِلْعَمَلِ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمَا مِنْ نِظَامِ السَّيْرِ سَيْرِ الْمَتْبُوعِ وَالتَّابِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى جُمْلَةِ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّسْخِيرَ مُنَاسِبٌ لِتَكْوِيرِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ وَعَكْسِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ التَّكْوِيرَ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ فَتِلْكَ الْمُنَاسَبَةُ اقْتَضَتْ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَجُمْلَةُ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى فِي مَوْقِعِ بَدَلِ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَذَلِكَ أَوْضَحُ أَحْوَالِ التَّسْخِيرِ. وَتَنْوِينُ كُلٌّ لِلْعِوَضِ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ. وَالْجَرْيُ:
السَّيْرُ السَّرِيعُ. وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ هُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُزْءِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: ٥].
وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ هُوَ تَذْلِيلُهُمَا لِلْعَمَلِ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمَا مِنْ نِظَامِ السَّيْرِ سَيْرِ الْمَتْبُوعِ وَالتَّابِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى جُمْلَةِ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّسْخِيرَ مُنَاسِبٌ لِتَكْوِيرِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ وَعَكْسِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ التَّكْوِيرَ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ فَتِلْكَ الْمُنَاسَبَةُ اقْتَضَتْ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَجُمْلَةُ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى فِي مَوْقِعِ بَدَلِ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَذَلِكَ أَوْضَحُ أَحْوَالِ التَّسْخِيرِ. وَتَنْوِينُ كُلٌّ لِلْعِوَضِ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ. وَالْجَرْيُ:
السَّيْرُ السَّرِيعُ. وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ.
329
وَالْأَجَلُ هُوَ أَجَلُ فَنَائِهِمَا فَإِنَّ جَرْيَهُمَا لَمَّا كَانَ فِيهِ تَقْرِيبُ فَنَائِهِمَا جُعِلَ جَرْيُهُمَا كَأَنَّهُ
لِأَجْلِ الْأَجَلِ أَيْ لِأَجْلِ مَا يَطْلُبُهُ وَيَقْتَضِيهِ أَجَلُ الْبَقَاءِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: ٣٨]، فَالتَّنْكِيرُ فِي (أَجَلٍ) لِلْإِفْرَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ أَجْلَ حَيَاةِ النَّاسِ الَّذِي يَنْتَهِي بَانْتِهَاءِ الْأَعْمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَلَيْسَ الْعُمْرُ إِلَّا أَوْقَاتًا مَحْدُودَةً وَأَنْفَاسًا مَعْدُودَةً. وَجَرْيُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تُحْسَبُ بِهِ تِلْكَ الْأَوْقَاتُ وَالْأَنْفَاسُ، فَصَارَ جَرْيُهُمَا كَأَنَّهُ لِأَجَلٍ.
قَالَ أُسْقُفُ نَجْرَانَ:
وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
فَالتَّنْكِيرُ فِي أَجَلٍ لِلنَّوْعِيَّةِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى لِآجَالٍ مُسَمَّاةٍ. وَلَعَلَّ تَعْقِيبَهُ بِوَصْفِ الْغَفَّارُ يُرَجِّحُ هَذَا الْمَحْمَلَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَالْمُسَمَّى: الْمَجْعُولُ لَهُ وَسْمٌ، أَيْ مَا بِهِ يُعَيَّنُ وَهُوَ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ لِأَنْ يَبْلُغَ إِلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ [لُقْمَان: ٢٩] بِحَرْفِ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَلَامُ الْعِلَّةِ وَحَرْفُ الْغَايَةِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَأَحْسَبُ أَنَّ اخْتِلَافَ التَّعْبِيرِ بِهِمَا مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ فِي الْكَلَامِ.
أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.
اسْتِئْنَاف ابتدائي هُوَ فِي مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، فَإِنَّ وَصْفَ الْعَزِيزُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا غَالِبَ لَهُ فَلَا تُجْدِي الْمُشْرِكِينَ عِبَادَةُ أَوْلِيَائِهِمْ، وَوَصْفُ الْغَفَّارُ مُؤْذِنٌ بِاسْتِدْعَائِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ بِاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ. وَفِي وَصْفِ الْغَفَّارُ مُنَاسِبَةٌ لِذِكْرِ الْأَجَلِ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ يَظْهَرُ أَثَرُهَا بَعْدَ الْبَعْثِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَانْتِهَاءِ الْأَجَلِ تَحْرِيضًا عَلَى الْبِدَارِ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ حِينَ يَفُوتُ التَّدَارُكُ. وَفِي افْتِتَاحِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ إِيذَانٌ بِأَهَمِّيَّةِ مَدْلُولِهَا الصَّرِيحِ وَالْكِنَائِيِّ
لِأَجْلِ الْأَجَلِ أَيْ لِأَجْلِ مَا يَطْلُبُهُ وَيَقْتَضِيهِ أَجَلُ الْبَقَاءِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: ٣٨]، فَالتَّنْكِيرُ فِي (أَجَلٍ) لِلْإِفْرَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ أَجْلَ حَيَاةِ النَّاسِ الَّذِي يَنْتَهِي بَانْتِهَاءِ الْأَعْمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَلَيْسَ الْعُمْرُ إِلَّا أَوْقَاتًا مَحْدُودَةً وَأَنْفَاسًا مَعْدُودَةً. وَجَرْيُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تُحْسَبُ بِهِ تِلْكَ الْأَوْقَاتُ وَالْأَنْفَاسُ، فَصَارَ جَرْيُهُمَا كَأَنَّهُ لِأَجَلٍ.
قَالَ أُسْقُفُ نَجْرَانَ:
مَنَعَ الْبَقَاءَ تَقَلُّبُ الشَّمْسِ | وَطُلُوعُهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُمْسِي |
فَالتَّنْكِيرُ فِي أَجَلٍ لِلنَّوْعِيَّةِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى لِآجَالٍ مُسَمَّاةٍ. وَلَعَلَّ تَعْقِيبَهُ بِوَصْفِ الْغَفَّارُ يُرَجِّحُ هَذَا الْمَحْمَلَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَالْمُسَمَّى: الْمَجْعُولُ لَهُ وَسْمٌ، أَيْ مَا بِهِ يُعَيَّنُ وَهُوَ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ لِأَنْ يَبْلُغَ إِلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ [لُقْمَان: ٢٩] بِحَرْفِ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَلَامُ الْعِلَّةِ وَحَرْفُ الْغَايَةِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَأَحْسَبُ أَنَّ اخْتِلَافَ التَّعْبِيرِ بِهِمَا مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ فِي الْكَلَامِ.
أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.
اسْتِئْنَاف ابتدائي هُوَ فِي مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، فَإِنَّ وَصْفَ الْعَزِيزُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا غَالِبَ لَهُ فَلَا تُجْدِي الْمُشْرِكِينَ عِبَادَةُ أَوْلِيَائِهِمْ، وَوَصْفُ الْغَفَّارُ مُؤْذِنٌ بِاسْتِدْعَائِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ بِاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ. وَفِي وَصْفِ الْغَفَّارُ مُنَاسِبَةٌ لِذِكْرِ الْأَجَلِ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ يَظْهَرُ أَثَرُهَا بَعْدَ الْبَعْثِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَانْتِهَاءِ الْأَجَلِ تَحْرِيضًا عَلَى الْبِدَارِ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ حِينَ يَفُوتُ التَّدَارُكُ. وَفِي افْتِتَاحِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ إِيذَانٌ بِأَهَمِّيَّةِ مَدْلُولِهَا الصَّرِيحِ وَالْكِنَائِيِّ
330
[٦]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦]خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها.
انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّاسِ وَهُوَ الْخَلْقُ الْعَجِيبُ. وَأُدْمِجَ فِيهِ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ أَصْلِهِمْ وَهُوَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ تَشَعَّبَ مِنْهَا عَدَدٌ عَظِيمٌ وَبِخَلْقِ زَوْجِ آدَمَ لِيَتَقَوَّمَ نَامُوسُ التَّنَاسُلِ.
وَالْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَكْرِيرًا لِلِاسْتِدْلَالِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ أَقْبَلَ عَلَى خِطَابِهِمْ لِيَجْمَعَ فِي تَوْجِيهِ الِاسْتِدْلَالِ إِلَيْهِمْ بَيْنَ طَرِيقَيِ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عُطِفَ قَوْلُهُ: جَعَلَ مِنْها زَوْجَها بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالُّ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِي لِأَنَّ مَسَاقَهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِبْطَالِ الشَّرِيكِ بِمَرَاتِبِهِ، فَكَانَ خَلْقُ آدَمَ دَلِيلًا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَخَلْقُ زَوْجِهِ مِنْ نَفْسِهِ دَلِيلًا آخَرَ مُسْتَقِلُّ الدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ. فَعُطِفَ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِي إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِهَا بِالدَّلَالَةِ مِثْلَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا، فَكَانَ خَلْقُ زَوْجِ آدَمَ مِنْهُ أَدَلَّ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَمِنْ زَوْجِهَا لِأَنَّهُ خَلَقٌ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ فَكَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ أَجْلَبُ لِعَجَبِ السَّامِعِ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ فَجِيءَ لَهُ بِحَرْفِ التَّرَاخِي الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَرَاخِي الْمَنْزِلَةِ لَا فِي تَرَاخِي الزَّمَنِ لِأَنَّ زَمَنَ خَلْقِ زَوْجِ آدَمَ سَابِقٌ عَلَى خَلْقِ النَّاسِ. فَأَمَّا آيَةُ الْأَعْرَافِ فَمَسَاقُهَا مَسَاقُ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ، فَذُكِرَ الْأَصْلَانَ لِلنَّاسِ مَعْطُوفًا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ التَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْكَوْنُ أَصْلًا لِخَلْقِ النَّاسِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ ثَلَاثَ دَلَائِلَ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ خَلْقِ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى بِالْأَصَالَةِ وَخَلْقِ الذَّكَرِ الْأَوَّلِ بِالْإِدْمَاجِ وَخَلْقِ الْأُنْثَى بِالْأَصَالَةِ أَيْضًا.
331
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ.
اسْتِدْلَالٌ بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْعَامِ عُطِفَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ يَوْمَئِذٍ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ بِالْأَنْعَامِ وَلَا تَخْلُو الْأُمَمُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ وَلَمْ تَزَلِ الْحَاجَةُ إِلَى الْأَنْعَامِ حَافَّةً بِالْبَشَرِ فِي قِوَامِ حَيَاتِهِمْ. وَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَبَيْنَ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لِمُنَاسِبَةِ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ لِزَوْجِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ.
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانٌ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
لَكُمْ لِأَنَّ فِي الْأَنْعَامِ مَوَادَّ عَظِيمَةً لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْل: ٥- ٧] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها إِلَخْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٠].
وَالْإِنْزَالُ: نَقْلُ الْجِسْمِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَذْلِيلِ الْأَمْرِ الصَّعْبِ كَمَا يُقَالُ: نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الصَّعْبَ يُتَخَيَّلُ صَعْبَ الْمَنَالِ كَالْمُعْتَصِمِ بِقِمَمِ الْجِبَالِ، قَالَ خَصَّابُ بْنُ الْمُعَلَّى مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
فَإِطْلَاقُ الْإِنْزَالِ هُنَا بِمَعْنَى التَّذْلِيلِ وَالتَّمْكِينِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الْحَدِيدَ: ٢٥] أَيْ سَخَّرْنَاهُ لِلنَّاسِ فَأَلْهَمْنَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ قَيْنِهِ يَتَّخِذُونَهُ سُيُوفًا وَدُرُوعًا وَرِمَاحًا وَعَتَادًا مَعَ شِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُ الْأَنْعَامِ إِنْزَالَهَا الْحَقِيقِيَّ، أَيْ إِنْزَالُ أُصُولِهَا مِنْ سَفِينَةِ نُوحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَاف: ١١]، أَيْ خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَمُ، قَالَ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: ٤٠] فَيَكُونُ الْإِنْزَالُ هُوَ الْإِهْبَاطُ قَالَ تَعَالَى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: ٤٨]، فَهَذَانِ وَجْهَانِ حَسَنَانِ لِإِطْلَاقِ الْإِنْزَالِ، وَهُمَا أَحْسَنُ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُفَسِّرِينَ إِنْزَالَ الْأَنْعَامِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، أَيْ لِأَنَّ خَلْقَهَا بِأَمْر التكوين الَّذِي يَنْزِلُ مِنْ حَضْرَةِ الْقُدْسِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ.
اسْتِدْلَالٌ بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْعَامِ عُطِفَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ يَوْمَئِذٍ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ بِالْأَنْعَامِ وَلَا تَخْلُو الْأُمَمُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ وَلَمْ تَزَلِ الْحَاجَةُ إِلَى الْأَنْعَامِ حَافَّةً بِالْبَشَرِ فِي قِوَامِ حَيَاتِهِمْ. وَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَبَيْنَ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لِمُنَاسِبَةِ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ لِزَوْجِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ.
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانٌ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
لَكُمْ لِأَنَّ فِي الْأَنْعَامِ مَوَادَّ عَظِيمَةً لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْل: ٥- ٧] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها إِلَخْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٠].
وَالْإِنْزَالُ: نَقْلُ الْجِسْمِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَذْلِيلِ الْأَمْرِ الصَّعْبِ كَمَا يُقَالُ: نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الصَّعْبَ يُتَخَيَّلُ صَعْبَ الْمَنَالِ كَالْمُعْتَصِمِ بِقِمَمِ الْجِبَالِ، قَالَ خَصَّابُ بْنُ الْمُعَلَّى مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
أَنْزَلَنِي الدَّهْرُ عَلَى حُكْمِهِ | مِنْ شَاهِقٍ عَالٍ إِلَى خَفْضِ |
332
وَالْأَزْوَاجُ: الْأَنْوَاعُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْد: ٣] وَالْمُرَادُ أَنْوَاعُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ.
وَأُطْلِقَ عَلَى النَّوْعِ اسْمُ الزَّوْجِ الَّذِي هُوَ الْمُثَنِّي لِغَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ يَتَقَوَّمُ كِيَانُهُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَهُمَا زَوْجَانِ أَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَزْوَاجٌ لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أُنْزِلَ مِنْ سَفِينَةِ نُوحٍ مِنْهَا وَهُوَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ كُلِّ نَوْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ.
بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى النَّاسِ لَا غَيْرَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِتَطَوُّرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وحكمته ودقائق صنعه.
وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ الْخَلْقِ وَتَكَرُّرِهِ مَعَ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ هَذَا التَّطَوُّرِ الْعَجِيبِ اسْتِحْضَارًا بِالْوَجْهِ وَالْإِجْمَالِ الْحَاصِلِ لِلْأَذْهَانِ عَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ
إِدْرَاكِهَا، وَيَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ عُلَمَاءُ الطِّبِّ وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَقَدْ بَيَّنَهُ الْحَدِيثُ
عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»
. وَقَوْلُهُ: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أَيْ طَوْرًا مِنَ الْخَلْقِ بَعْدَ طَوْرٍ آخَرَ يُخَالِفُهُ وَهَذِهِ الْأَطْوَارُ عَشْرَةٌ:
الْأَوَّلُ: طَوْرُ النُّطْفَةِ، وَهِيَ جِسْمٌ مُخَاطِيٌّ مُسْتَدِيرٌ أَبْيَضُ خَالٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ يُشْبِهُ دُودَةً، طُولُهُ نَحْو خَمْسَة مليميتر.
الثَّانِي: طَوْرُ الْعَلَقَةِ، وَهِيَ تَتَكَوَّنُ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ وَقْتِ اسْتِقْرَارِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ، وَهِيَ فِي حَجْمِ النَّمْلَةِ الْكَبِيرَةِ طُولُهَا نَحْوُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِلِّيمِتْرًا يَلُوحُ فِيهَا الرَّأْسُ وَتَخْطِيطَاتٌ مِنْ صُوَرِ الْأَعْضَاءِ.
وَأُطْلِقَ عَلَى النَّوْعِ اسْمُ الزَّوْجِ الَّذِي هُوَ الْمُثَنِّي لِغَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ يَتَقَوَّمُ كِيَانُهُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَهُمَا زَوْجَانِ أَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَزْوَاجٌ لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أُنْزِلَ مِنْ سَفِينَةِ نُوحٍ مِنْهَا وَهُوَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ كُلِّ نَوْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ.
بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى النَّاسِ لَا غَيْرَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِتَطَوُّرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وحكمته ودقائق صنعه.
وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ الْخَلْقِ وَتَكَرُّرِهِ مَعَ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ هَذَا التَّطَوُّرِ الْعَجِيبِ اسْتِحْضَارًا بِالْوَجْهِ وَالْإِجْمَالِ الْحَاصِلِ لِلْأَذْهَانِ عَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ
إِدْرَاكِهَا، وَيَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ عُلَمَاءُ الطِّبِّ وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَقَدْ بَيَّنَهُ الْحَدِيثُ
عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»
. وَقَوْلُهُ: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أَيْ طَوْرًا مِنَ الْخَلْقِ بَعْدَ طَوْرٍ آخَرَ يُخَالِفُهُ وَهَذِهِ الْأَطْوَارُ عَشْرَةٌ:
الْأَوَّلُ: طَوْرُ النُّطْفَةِ، وَهِيَ جِسْمٌ مُخَاطِيٌّ مُسْتَدِيرٌ أَبْيَضُ خَالٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ يُشْبِهُ دُودَةً، طُولُهُ نَحْو خَمْسَة مليميتر.
الثَّانِي: طَوْرُ الْعَلَقَةِ، وَهِيَ تَتَكَوَّنُ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ وَقْتِ اسْتِقْرَارِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ، وَهِيَ فِي حَجْمِ النَّمْلَةِ الْكَبِيرَةِ طُولُهَا نَحْوُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِلِّيمِتْرًا يَلُوحُ فِيهَا الرَّأْسُ وَتَخْطِيطَاتٌ مِنْ صُوَرِ الْأَعْضَاءِ.
333
الثَّالِثُ: طَوْرُ الْمُضْغَةِ وَهِيَ قِطْعَةٌ حَمْرَاءُ فِي حَجْمِ النَّحْلَةِ.
الرَّابِعُ: عِنْدَ اسْتِكْمَالِ شَهْرَيْنِ يَصِيرُ طوله ثَلَاثَة سانتميتر وَحَجْمُ رَأْسِهِ بِمِقْدَارِ نِصْفِ بَقِيَّتِهِ وَلَا يَتَمَيَّزُ عُنُقُهُ وَلَا وَجْهُهُ وَيَسْتَمِرُّ احْمِرَارُهُ.
الْخَامِسُ: فِي الشَّهْرِ الثَّالثِ يَكُونُ طُولُهُ خَمْسَة عشر سانتيميترا وَوَزْنُهُ مِائَةُ غِرَامٍ وَيَبْدُو رَسْمُ جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ وَحَوَاجِبِهِ وَأَظَافِرِهِ وَيَسْتَمِرُّ احْمِرَارُ جِلْدِهِ.
السَّادِسُ: فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ يَصِيرُ طوله عشْرين سانتيميترا وَوَزْنُهُ (٢٤٠) غِرَامَاتِ، وَيَظْهَرُ فِي الرَّأْسِ زَغَبٌ وَتَزِيدُ أَعْضَاؤُهُ الْبَطْنِيَّةُ عَلَى أَعْضَائِهِ الصَّدْرِيَّةِ وَتَتَّضِحُ أَظَافِرُهُ فِي أَوَاخِرَ ذَلِكَ الشَّهْرِ.
السَّابِعُ: فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ يَصِيرُ طُولُهُ نَحْو ثَلَاثِينَ صنتيمترا وَوَزْنُهُ خَمْسُمِائَةِ غِرَامٍ وَيَظْهَرُ فِيهِ مُطْبِقًا وَتَتَصَلَّبُ أَظَافِرُهُ.
الثَّامِنُ: فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ يَصِيرُ طُولُهُ ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ صنتيمترا ويقلّ احمرارا جِلْدِهِ وَيَتَكَاثَفُ جِلْدُهُ وَتَظْهَرُ عَلَى الْجِلْدِ مَادَّةٌ دُهْنِيَّةٌ دَسِمَةٌ مُلْتَصِقَةٌ، وَيَطُولُ شَعْرُ رَأْسِهِ وَيَمِيلُ إِلَى الشُّقْرَةِ وَتَتَقَبَّبُ جُمْجُمَتُهُ مِنَ الْوَسَطِ.
التَّاسِعُ: فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ يَزِيدُ غِلَظُهُ أَكْثَرَ مِنِ ازْدِيَادِ طُولِهِ وَيَكُونُ طُولُهُ نَحْو أَرْبَعِينَ
صنتيمترا، وَوَزْنُهُ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَرْطَالٍ أَوْ تَزِيدُ، وَتَقْوَى حَرَكَتُهُ.
الْعَاشِرُ: فِي الشَّهْرِ التَّاسِعِ يَصِيرُ طُولُهُ مِنْ خَمْسِينَ إِلَى سِتِّينَ صنتيمترا وَوَزْنُهُ مِنْ سِتَّةٍ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ. وَيَتِمُّ عَظْمُهُ، وَيَتَضَخَّمُ رَأْسُهُ، وَيُكَثُفُ شَعْرُهُ، وَتَبْتَدِئُ فِيهِ وَظَائِفُ الْحَيَاةِ فِي الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ وَالرِّئَةِ وَالْقَلْبِ، وَيَصِيرُ نَمَاؤُهُ بِالْغِذَاءِ، وَتَظْهَرُ دَوْرَةُ الدَّمِ فِيهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالدَّوْرَةِ الْجَنِينِيَّةِ.
و (الظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ) : ظُلْمَةُ بَطْنِ الْأُمِّ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ، وَهِيَ غِشَاءٌ مِنْ جَلْدٍ يُخْلَقُ مَعَ الْجَنِينِ مُحِيطًا بِهِ لِيَقِيَهُ وَلِيَكُونَ بِهِ اسْتِقْلَالُهُ مِمَّا يَنْجَرُّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ فِي دَوْرَتِهِ الدَّمَوِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِهِ دُونَ أُمِّهِ. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ وَنُفُوذِ قُدْرَتِهِ إِلَيْهَا فِي أَشَدِّ مَا تَكُونُ فِيهِ مِنَ الْخَفَاءِ.
الرَّابِعُ: عِنْدَ اسْتِكْمَالِ شَهْرَيْنِ يَصِيرُ طوله ثَلَاثَة سانتميتر وَحَجْمُ رَأْسِهِ بِمِقْدَارِ نِصْفِ بَقِيَّتِهِ وَلَا يَتَمَيَّزُ عُنُقُهُ وَلَا وَجْهُهُ وَيَسْتَمِرُّ احْمِرَارُهُ.
الْخَامِسُ: فِي الشَّهْرِ الثَّالثِ يَكُونُ طُولُهُ خَمْسَة عشر سانتيميترا وَوَزْنُهُ مِائَةُ غِرَامٍ وَيَبْدُو رَسْمُ جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ وَحَوَاجِبِهِ وَأَظَافِرِهِ وَيَسْتَمِرُّ احْمِرَارُ جِلْدِهِ.
السَّادِسُ: فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ يَصِيرُ طوله عشْرين سانتيميترا وَوَزْنُهُ (٢٤٠) غِرَامَاتِ، وَيَظْهَرُ فِي الرَّأْسِ زَغَبٌ وَتَزِيدُ أَعْضَاؤُهُ الْبَطْنِيَّةُ عَلَى أَعْضَائِهِ الصَّدْرِيَّةِ وَتَتَّضِحُ أَظَافِرُهُ فِي أَوَاخِرَ ذَلِكَ الشَّهْرِ.
السَّابِعُ: فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ يَصِيرُ طُولُهُ نَحْو ثَلَاثِينَ صنتيمترا وَوَزْنُهُ خَمْسُمِائَةِ غِرَامٍ وَيَظْهَرُ فِيهِ مُطْبِقًا وَتَتَصَلَّبُ أَظَافِرُهُ.
الثَّامِنُ: فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ يَصِيرُ طُولُهُ ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ صنتيمترا ويقلّ احمرارا جِلْدِهِ وَيَتَكَاثَفُ جِلْدُهُ وَتَظْهَرُ عَلَى الْجِلْدِ مَادَّةٌ دُهْنِيَّةٌ دَسِمَةٌ مُلْتَصِقَةٌ، وَيَطُولُ شَعْرُ رَأْسِهِ وَيَمِيلُ إِلَى الشُّقْرَةِ وَتَتَقَبَّبُ جُمْجُمَتُهُ مِنَ الْوَسَطِ.
التَّاسِعُ: فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ يَزِيدُ غِلَظُهُ أَكْثَرَ مِنِ ازْدِيَادِ طُولِهِ وَيَكُونُ طُولُهُ نَحْو أَرْبَعِينَ
صنتيمترا، وَوَزْنُهُ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَرْطَالٍ أَوْ تَزِيدُ، وَتَقْوَى حَرَكَتُهُ.
الْعَاشِرُ: فِي الشَّهْرِ التَّاسِعِ يَصِيرُ طُولُهُ مِنْ خَمْسِينَ إِلَى سِتِّينَ صنتيمترا وَوَزْنُهُ مِنْ سِتَّةٍ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ. وَيَتِمُّ عَظْمُهُ، وَيَتَضَخَّمُ رَأْسُهُ، وَيُكَثُفُ شَعْرُهُ، وَتَبْتَدِئُ فِيهِ وَظَائِفُ الْحَيَاةِ فِي الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ وَالرِّئَةِ وَالْقَلْبِ، وَيَصِيرُ نَمَاؤُهُ بِالْغِذَاءِ، وَتَظْهَرُ دَوْرَةُ الدَّمِ فِيهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالدَّوْرَةِ الْجَنِينِيَّةِ.
و (الظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ) : ظُلْمَةُ بَطْنِ الْأُمِّ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ، وَهِيَ غِشَاءٌ مِنْ جَلْدٍ يُخْلَقُ مَعَ الْجَنِينِ مُحِيطًا بِهِ لِيَقِيَهُ وَلِيَكُونَ بِهِ اسْتِقْلَالُهُ مِمَّا يَنْجَرُّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ فِي دَوْرَتِهِ الدَّمَوِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِهِ دُونَ أُمِّهِ. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ وَنُفُوذِ قُدْرَتِهِ إِلَيْهَا فِي أَشَدِّ مَا تَكُونُ فِيهِ مِنَ الْخَفَاءِ.
334
وَانْتَصَبَ خَلْقاً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلنَّوْعِيَّةِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ بِ يَخْلُقُكُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُمَّهاتِكُمْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ فِي حَالَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ فِي حَالِ الْوَصْلِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ نُونِ بُطُونِ وَبِكَسْرِ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ فِي حَالِ الْوَصْلِ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.
بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْأَكْوَانِ كُلِّهَا: جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [الْأَنْعَام: ٧٣]، مَا يُرْشِدُ الْعَاقِلَ إِلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ الْمُسْتَحَقِّ الْعِبَادَةِ الْمُنْفَرِدِ بِالْإِلَهِيَّةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ وَالصِّفَاتِ. وَالْجُمْلَةُ فَذْلَكَةٌ وَنَتِيجَةٌ أَنْتَجَتْهَا الْأَدِلَّةُ السَّابِقَةُ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ صَاحِبِ تِلْكَ الصِّفَاتِ عَنْ غَيْرِهِ تَمْيِيزًا يُفْضِي إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمُ الَّذِي خَلَقَ وَسَخَّرَ وَأَنْشَأَ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ أَطْوَارًا هُوَ اللَّهُ، فَلَا تُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ إِذْ لَمْ تَبْقَ شُبْهَةٌ تَعْذُرُ أَهْلَ الشِّرْكِ بِشِرْكِهِمْ، أَيْ لَيْسَ شَأْنُهُ بِمُشَابِهٍ
حَالَ غَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ قَالَ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [الرَّعْد: ١٦].
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ لِإِحْضَارِ الْمُسَمَّى فِي الْأَذْهَانِ بَاسِمٍ مُخْتَصٍّ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ لِأَنَّ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ حَالِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فَاعِلَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْعَظِيمَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَولُهُ: رَبِّكُمْ صِفَةٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُمَّهاتِكُمْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ فِي حَالَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ فِي حَالِ الْوَصْلِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ نُونِ بُطُونِ وَبِكَسْرِ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ فِي حَالِ الْوَصْلِ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.
بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْأَكْوَانِ كُلِّهَا: جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [الْأَنْعَام: ٧٣]، مَا يُرْشِدُ الْعَاقِلَ إِلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ الْمُسْتَحَقِّ الْعِبَادَةِ الْمُنْفَرِدِ بِالْإِلَهِيَّةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ وَالصِّفَاتِ. وَالْجُمْلَةُ فَذْلَكَةٌ وَنَتِيجَةٌ أَنْتَجَتْهَا الْأَدِلَّةُ السَّابِقَةُ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ صَاحِبِ تِلْكَ الصِّفَاتِ عَنْ غَيْرِهِ تَمْيِيزًا يُفْضِي إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمُ الَّذِي خَلَقَ وَسَخَّرَ وَأَنْشَأَ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ أَطْوَارًا هُوَ اللَّهُ، فَلَا تُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ إِذْ لَمْ تَبْقَ شُبْهَةٌ تَعْذُرُ أَهْلَ الشِّرْكِ بِشِرْكِهِمْ، أَيْ لَيْسَ شَأْنُهُ بِمُشَابِهٍ
حَالَ غَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ قَالَ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [الرَّعْد: ١٦].
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ لِإِحْضَارِ الْمُسَمَّى فِي الْأَذْهَانِ بَاسِمٍ مُخْتَصٍّ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ لِأَنَّ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ حَالِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فَاعِلَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْعَظِيمَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَولُهُ: رَبِّكُمْ صِفَةٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ.
335
وَوَصْفُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ وَهُوَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْطِئَةٌ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِكُفْرَانِ نِعْمَتِهِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: ٧].
وَجُمْلَةُ لَهُ الْمُلْكُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَالْمُلْكُ: أَصْلُهُ مَصْدَرُ مَلَكَ، وَهُوَ مُثَلَّثُ الْمِيمِ إِلَّا أَن مَضْمُون الْمِيمِ خَصَّهُ الِاسْتِعْمَالُ بِمُلْكِ الْبِلَادِ وَرِعَايَةِ النَّاسِ، وَفِيهِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آل عمرَان: ٢٦]، وَصَاحِبُهُ: مَلِكٌ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَجَمْعُهُ: مُلُوكٌ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ الِادِّعَائِيِّ، أَيْ الْمُلْكُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا مُلْكُ الْمُلُوكِ فَهُوَ لِنَقْصِهِ وَتَعَرُّضِهِ لِلزَّوَالِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة:
٢]،
وَفِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ: «ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ»
، فَالْإِلَهِيَّةُ هِيَ الْمُلْكُ الْحَقُّ، وَلِذَلِكَ كَانَ ادِّعَاؤُهُمْ شُرَكَاءَ لِلْإِلَهِ الْحَقِّ خَطَأٌ، فَكَانَ الْحَصْرُ الِادِّعَائِيُّ لِإِبْطَالِ ادِّعَاءِ الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ الْمُلْكُ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ الِانْصِرَافُ حَالَةً اسْتُفْهِمَ عَنْهَا بِكَلِمَةِ أَنَّى الَّتِي هِيَ هُنَا بِمَعْنَى (كَيْفَ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ [الْأَنْعَام: ١٠١].
وَالصَّرْفُ: الْإِبْعَادُ عَنْ شَيْءٍ، وَالْمَصْرُوفُ عَنْهُ هُنَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: عَنْ تَوْحِيدِهِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وَجَعَلَهُمْ مَصْرُوفَيْنِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ صَارِفًا، فَجَاءَ فِي ذَلِكَ بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: فَأَنَّى تَنْصَرِفُونَ، نَعَيًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَالْمَقُودِينَ إِلَى الْكُفْرِ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّينَ بِأُمُورِهِمْ يَصْرِفُهُمُ الصَّارِفُونَ، يَعْنِي أَيِمَّةَ الْكُفْرِ أَوِ الشَّيَاطِينَ الْمُوَسْوِسِينَ لَهُمْ.
وَذَلِكَ إِلْهَابٌ لِأَنْفُسِهِمْ لِيَكُفُّوا عَن امْتِثَال أئمتهم الَّذِينَ يَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: ٢٦]، عَسَى أَنْ يَنْظُرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَهُمْ.
وَجُمْلَةُ لَهُ الْمُلْكُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَالْمُلْكُ: أَصْلُهُ مَصْدَرُ مَلَكَ، وَهُوَ مُثَلَّثُ الْمِيمِ إِلَّا أَن مَضْمُون الْمِيمِ خَصَّهُ الِاسْتِعْمَالُ بِمُلْكِ الْبِلَادِ وَرِعَايَةِ النَّاسِ، وَفِيهِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آل عمرَان: ٢٦]، وَصَاحِبُهُ: مَلِكٌ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَجَمْعُهُ: مُلُوكٌ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ الِادِّعَائِيِّ، أَيْ الْمُلْكُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا مُلْكُ الْمُلُوكِ فَهُوَ لِنَقْصِهِ وَتَعَرُّضِهِ لِلزَّوَالِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة:
٢]،
وَفِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ: «ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ»
، فَالْإِلَهِيَّةُ هِيَ الْمُلْكُ الْحَقُّ، وَلِذَلِكَ كَانَ ادِّعَاؤُهُمْ شُرَكَاءَ لِلْإِلَهِ الْحَقِّ خَطَأٌ، فَكَانَ الْحَصْرُ الِادِّعَائِيُّ لِإِبْطَالِ ادِّعَاءِ الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ الْمُلْكُ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ الِانْصِرَافُ حَالَةً اسْتُفْهِمَ عَنْهَا بِكَلِمَةِ أَنَّى الَّتِي هِيَ هُنَا بِمَعْنَى (كَيْفَ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ [الْأَنْعَام: ١٠١].
وَالصَّرْفُ: الْإِبْعَادُ عَنْ شَيْءٍ، وَالْمَصْرُوفُ عَنْهُ هُنَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: عَنْ تَوْحِيدِهِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وَجَعَلَهُمْ مَصْرُوفَيْنِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ صَارِفًا، فَجَاءَ فِي ذَلِكَ بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: فَأَنَّى تَنْصَرِفُونَ، نَعَيًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَالْمَقُودِينَ إِلَى الْكُفْرِ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّينَ بِأُمُورِهِمْ يَصْرِفُهُمُ الصَّارِفُونَ، يَعْنِي أَيِمَّةَ الْكُفْرِ أَوِ الشَّيَاطِينَ الْمُوَسْوِسِينَ لَهُمْ.
وَذَلِكَ إِلْهَابٌ لِأَنْفُسِهِمْ لِيَكُفُّوا عَن امْتِثَال أئمتهم الَّذِينَ يَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: ٢٦]، عَسَى أَنْ يَنْظُرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَهُمْ.
336
وَالْمَعْنَى: فَكَيْفَ يَصْرِفُكُمْ صَارِفٌ عَن توحيده بعد مَا عَلِمْتُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الْآنِفَةِ.
وَالْمُضَارِعُ هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ زَمَنُ الِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ.
[٧]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٧]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ.
أَتْبَعَ إِنْكَارَ انْصِرَافِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ عَلَى ثُبُوتِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، بِأَنْ أُعْلِمُوا بِأَنَّ كُفْرَهُمْ إِنْ أَصَرُّوا عَلَيْهِ لَا يَضُرُّ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَضُرُّ أَنْفُسَهُمْ. وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكَافِرِينَ وَمُقَابَلَتِهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ لِمَا سَبَقَ مِنْ إِثْبَاتِ تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ.
فَجُمْلَةُ إِنْ تَكْفُرُوا مُبَيِّنَةٌ لِإِنْكَارِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّوْحِيدِ، أَيْ إِنْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ هَذَا الزَّمَنِ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. وَمَعْنَاهُ: غَنِيٌّ عَنْ إِقْرَارِكُمْ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ لَهُ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ طَلَبِ التَّوْحِيدِ مِنْهُمْ لِنَفْعِهِمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ لَا لِنَفْعِ اللَّهِ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِهَذَا لِيُقْبِلُوا عَلَى النَّظَرِ مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً فِي تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْخَطَأِ مِنْ فِعْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ لِقَصْدِ الِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْتَرِثُ بِكُفْرِهِمْ وَلَا يَعْبَأُ بِهِ فَيَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ وَالشُّكْرَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ، لِيَتَأَكَّدَ بِذَلِكَ مَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْخَطَأِ. وَبِهَذَا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِعِبادِهِ الْعِبَادُ الَّذِينَ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَذَلِكَ جَرْيٌ عَلَى أَصْلِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ لَفْظَ الْعِبَادِ، كَقَوْلِه: وَيَوْم نحشرهم
وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١) [الْفرْقَان:
١٧]. الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ فِي لَفْظِ الْعِبَادِ الْمُضَافِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ ضَمِيرِهِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى خُصُوصِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ ظَاهِرَةٌ هُنَا ظُهُورًا دُونَ ظُهُورِهَا فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: ١٧].
وَالرِّضَى حَقِيقَتُهُ: حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَعْقُبُ حُصُولَ مُلَائِمٍ مَعَ ابْتِهَاجٍ بِهِ، وَهُوَ عَلَى
_________
(١) فِي المطبوعة: (وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا فَيَقُول) وَهَذَا خطأ.
وَالْمُضَارِعُ هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ زَمَنُ الِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ.
[٧]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٧]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ.
أَتْبَعَ إِنْكَارَ انْصِرَافِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ عَلَى ثُبُوتِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، بِأَنْ أُعْلِمُوا بِأَنَّ كُفْرَهُمْ إِنْ أَصَرُّوا عَلَيْهِ لَا يَضُرُّ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَضُرُّ أَنْفُسَهُمْ. وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكَافِرِينَ وَمُقَابَلَتِهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ لِمَا سَبَقَ مِنْ إِثْبَاتِ تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ.
فَجُمْلَةُ إِنْ تَكْفُرُوا مُبَيِّنَةٌ لِإِنْكَارِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّوْحِيدِ، أَيْ إِنْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ هَذَا الزَّمَنِ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. وَمَعْنَاهُ: غَنِيٌّ عَنْ إِقْرَارِكُمْ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ لَهُ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ طَلَبِ التَّوْحِيدِ مِنْهُمْ لِنَفْعِهِمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ لَا لِنَفْعِ اللَّهِ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِهَذَا لِيُقْبِلُوا عَلَى النَّظَرِ مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً فِي تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْخَطَأِ مِنْ فِعْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ لِقَصْدِ الِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْتَرِثُ بِكُفْرِهِمْ وَلَا يَعْبَأُ بِهِ فَيَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ وَالشُّكْرَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ، لِيَتَأَكَّدَ بِذَلِكَ مَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْخَطَأِ. وَبِهَذَا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِعِبادِهِ الْعِبَادُ الَّذِينَ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَذَلِكَ جَرْيٌ عَلَى أَصْلِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ لَفْظَ الْعِبَادِ، كَقَوْلِه: وَيَوْم نحشرهم
وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١) [الْفرْقَان:
١٧]. الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ فِي لَفْظِ الْعِبَادِ الْمُضَافِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ ضَمِيرِهِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى خُصُوصِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ ظَاهِرَةٌ هُنَا ظُهُورًا دُونَ ظُهُورِهَا فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: ١٧].
وَالرِّضَى حَقِيقَتُهُ: حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَعْقُبُ حُصُولَ مُلَائِمٍ مَعَ ابْتِهَاجٍ بِهِ، وَهُوَ عَلَى
_________
(١) فِي المطبوعة: (وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا فَيَقُول) وَهَذَا خطأ.
337
التَّحْقِيقِ فِيهِ مَعْنًى لَيْسَ فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ وَالِابْتِهَاجِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ، وَلِهَذَا يُقَابَلُ الرِّضَى بِالسُّخْطِ، وَتُقَابَلُ الْإِرَادَةُ بِالْإِكْرَاهِ، وَالرِّضَى آئِلٌ إِلَى مَعْنَى الْمَحَبَّةِ. وَالرِّضَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفَاسَةُ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ الرَّاضِي وَتَفْضِيلُهُ وَاخْتِيَارُهُ، فَإِذَا أُسْنِدَ الرِّضَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ لَازَمَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِانْفِعَالَاتِ، كَشَأْنِ إِسْنَادِ الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ الدَّالَّةِ فِي اللُّغَةِ عَلَى الانفعالات مثل:
الرحمان والرؤوف، وَإِسْنَادُ الْغَضَبِ والفرح والمحبة، فيؤوّل الرِّضَى بَلَازِمِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْعِنَايَةِ وَالْإِثَابَةِ إِنْ عُدِّيَ إِلَى النَّاسِ، وَمِنَ النَّفَاسَةِ وَالْفَضْلِ إِنْ عُدِّيَ إِلَى أَسْمَاءِ الْمَعَانِي.
وَقَدْ فَسَّرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِالِاخْتِيَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣].
وَفِعْلُ الرِّضَى يُعَدَّي فِي الْغَالِبِ بِحَرْفِ (عَنْ)، فَتَدْخُلُ عَلَى اسْمِ عَيْنٍ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهَا هُوَ مُوجِبُ الرِّضَى. وَقَدْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ فَيَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى اسْمِ مَعْنًى نَحْوَ: رَضِيتُ بِحُكْمِ فُلَانٍ، وَيَدْخُلُ عَلَى اسْمِ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمْيِيزٌ بَعْدَهُ نَحْوَ: رَضِيَتُ بِاللَّهِ رَبًّا، أَوْ نَحْوِهِ مِثْلُ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: ٣٨]، أَوْ قَرِينَةُ مَقَامٍ كَقَوْلِ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ رَضِينَا بِهِ، أَيْ رَضِينَا بِهِ حَكَمًا إِذْ هُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْكِيمِ أَوَّلِ دَاخِلٍ.
وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَلَعَلَّهُ يُرَاعَى فِيهِ التَّضْمِينُ، أَوِ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ، فَيَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى اسْمِ مَعْنًى نَحْوَ: رَضِيَتُ بِحُكْمِ فُلَانٍ بِمَعْنَى: أَحْبَبْتُ حُكْمَهُ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِوَاسِطَةِ لَامِ الْجَرِّ نَحْوَ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الْمَائِدَة: ٣]، أَيْ رَضِيتُهُ لِأَجْلِكُمْ وَأَحْبَبْتُهُ لَكُمْ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ، أَيْ لِمَنْفَعَتِكُمْ وَفَائِدَتِكُمْ. وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالشَّيْءِ الْمَرْضِيِّ لَدَى السَّامِعِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَرْضَاهُ لِأَجْلِ السَّامِعِ.
فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: لِعِبادِهِ عَامًّا غَيْرَ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ثَارَ فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ إِذْ مِنَ الضَّرُورِيِّ
الرحمان والرؤوف، وَإِسْنَادُ الْغَضَبِ والفرح والمحبة، فيؤوّل الرِّضَى بَلَازِمِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْعِنَايَةِ وَالْإِثَابَةِ إِنْ عُدِّيَ إِلَى النَّاسِ، وَمِنَ النَّفَاسَةِ وَالْفَضْلِ إِنْ عُدِّيَ إِلَى أَسْمَاءِ الْمَعَانِي.
وَقَدْ فَسَّرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِالِاخْتِيَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣].
وَفِعْلُ الرِّضَى يُعَدَّي فِي الْغَالِبِ بِحَرْفِ (عَنْ)، فَتَدْخُلُ عَلَى اسْمِ عَيْنٍ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهَا هُوَ مُوجِبُ الرِّضَى. وَقَدْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ فَيَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى اسْمِ مَعْنًى نَحْوَ: رَضِيتُ بِحُكْمِ فُلَانٍ، وَيَدْخُلُ عَلَى اسْمِ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمْيِيزٌ بَعْدَهُ نَحْوَ: رَضِيَتُ بِاللَّهِ رَبًّا، أَوْ نَحْوِهِ مِثْلُ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: ٣٨]، أَوْ قَرِينَةُ مَقَامٍ كَقَوْلِ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ رَضِينَا بِهِ، أَيْ رَضِينَا بِهِ حَكَمًا إِذْ هُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْكِيمِ أَوَّلِ دَاخِلٍ.
وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَلَعَلَّهُ يُرَاعَى فِيهِ التَّضْمِينُ، أَوِ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ، فَيَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى اسْمِ مَعْنًى نَحْوَ: رَضِيَتُ بِحُكْمِ فُلَانٍ بِمَعْنَى: أَحْبَبْتُ حُكْمَهُ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِوَاسِطَةِ لَامِ الْجَرِّ نَحْوَ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الْمَائِدَة: ٣]، أَيْ رَضِيتُهُ لِأَجْلِكُمْ وَأَحْبَبْتُهُ لَكُمْ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ، أَيْ لِمَنْفَعَتِكُمْ وَفَائِدَتِكُمْ. وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالشَّيْءِ الْمَرْضِيِّ لَدَى السَّامِعِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَرْضَاهُ لِأَجْلِ السَّامِعِ.
فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: لِعِبادِهِ عَامًّا غَيْرَ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ثَارَ فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ إِذْ مِنَ الضَّرُورِيِّ
338
أَنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَثِيرًا كَافِرِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ وَاقِعٍ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يُرِيدُ فَأَنْتَجَ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ الشَّكْلِ الثَّالثِ أَنْ يُقَالَ: كُفْرُ الْكَافِرُ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَلَا شَيْءَ من الْكفْر بمرضي لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، يَنْتِجُ الْقِيَاسُ بَعْضُ مَا أَرَادَهُ الله لَيْسَ بمرضي لَهُ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ وَالرِّضَى حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ لَفْظَاهُمَا غَيْرَ مُتَرَادِفَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِنَّ الْإِرَادَةَ غَيْرُ الرِّضَى، وَالرِّضَى غَيْرُ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، فَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالرِّضَى وَالْمَحَبَّةُ وَالِاخْتِيَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا حَمْلٌ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى مَعَانٍ يُمْكِنُ مَعَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَات قَالَ التفتازانيّ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ.
وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا الْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رَاجِعًا إِلَى خِطَابِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] رَاجِعًا إِلَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ. وَيَتَرَكَّبُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا وَمَجْمُوعِ نَظَائِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا الِاعْتِقَادُ بِأَنَّ لِلْعِبَادِ كَسْبًا فِي أَفْعَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عِنْدَ تَوَجُّهِ كَسْبِ الْعَبْدِ نَحْوَهَا، فَاللَّهُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُكْتَسِبٍ لَهَا. وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ غَيْرُ خَالِقٍ، فَإِنَّ الْكَسْبَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هُوَ الِاسْتِطَاعَةُ الْمُفَسَّرَةُ عِنْدَهُ بِسَلَامَةِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ وَآلَاتِهِ، وَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْجَبْرِ، أَيْ هِيَ دُونَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَفَوْقَ تَسْخِيرِ الْجَبْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ النَّاطِقَةِ بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَيْنَ دَلَالَةِ الضَّرُورَةِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَحَرَكَةِ الْمَاشِي، وَجَمْعًا بَيْنَ أَدِلَّةِ عُمُومِ الْقُدْرَةِ وَبَيْنَ تَوْجِيهِ الشَّرِيعَةِ خِطَابَهَا لِلْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الِاتِّحَادَ بَيْنَ مَعَانِي الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَهُوَ قَولُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ فَسَلَكُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَحْمَلَ لَفْظِ لِعِبادِهِ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَيْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَأْنَسُوا لِهَذَا الْمَحْمَلِ بِأَنَّهُ الْجَارِي عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظَةِ (الْعِبَادِ) لِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ ضَمِيرِهِ
وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا الْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رَاجِعًا إِلَى خِطَابِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] رَاجِعًا إِلَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ. وَيَتَرَكَّبُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا وَمَجْمُوعِ نَظَائِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا الِاعْتِقَادُ بِأَنَّ لِلْعِبَادِ كَسْبًا فِي أَفْعَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عِنْدَ تَوَجُّهِ كَسْبِ الْعَبْدِ نَحْوَهَا، فَاللَّهُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُكْتَسِبٍ لَهَا. وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ غَيْرُ خَالِقٍ، فَإِنَّ الْكَسْبَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هُوَ الِاسْتِطَاعَةُ الْمُفَسَّرَةُ عِنْدَهُ بِسَلَامَةِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ وَآلَاتِهِ، وَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْجَبْرِ، أَيْ هِيَ دُونَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَفَوْقَ تَسْخِيرِ الْجَبْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ النَّاطِقَةِ بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَيْنَ دَلَالَةِ الضَّرُورَةِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَحَرَكَةِ الْمَاشِي، وَجَمْعًا بَيْنَ أَدِلَّةِ عُمُومِ الْقُدْرَةِ وَبَيْنَ تَوْجِيهِ الشَّرِيعَةِ خِطَابَهَا لِلْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الِاتِّحَادَ بَيْنَ مَعَانِي الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَهُوَ قَولُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ فَسَلَكُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَحْمَلَ لَفْظِ لِعِبادِهِ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَيْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَأْنَسُوا لِهَذَا الْمَحْمَلِ بِأَنَّهُ الْجَارِي عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظَةِ (الْعِبَادِ) لِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ ضَمِيرِهِ
339
كَقَوْلِهِ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَان: ٦]، قَالُوا: فَمَنْ كَفَرَ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ كُفْرَهُ وَمَنْ آمَنَ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ إِيمَانَهُ، وَالْتَزَمَ
كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ أَصْلَهُ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالْكَسْبِ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا إِلَّا فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعِبَادِ: أَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ مَجَازِيَّةٌ، وَقَدْ عُدَّ الْخِلَافُ فِي تَشْبِيهِ الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيًّا.
وَمِنَ الْعَجِيبِ تَهْوِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِهَذَا الْقَوْلِ إِذْ يَقُولُ: «وَلَقَدْ تَمَحَّلَ بَعْضُ الْغُوَاةِ لِيُثْبِتَ لِلَّهِ مَا نَفَاهُ عَنْ ذَاتِهِ مِنَ الرِّضَى بِالْكُفْرِ فَقَالَ: هَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ إِلَخْ»، فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ رَدًّا لِأَوَّلِهِ وَهَلْ يُعَدُّ التَّأْوِيلُ تَضْلِيلًا أَمْ هَلْ يُعَدُّ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ بِالدَّلِيلِ مِنَ النَّادِرِ الْقَلِيلِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْقُدْرَةَ لِلْعِبَادِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مُقْدُورَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مِنْ نِسْبَةِ أَفْعَالٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى قُدْرَتِهِ أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ أُصُولِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلِذَلِكَ أَوْرَدُوا هَذِهِ الْآيَةَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا. وَقَدْ أَوْرَدَهَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» فِي فَصْلٍ حَشَرَ فِيهِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ تَكْفُرُوا وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ فَتُقْلِعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَتَشْكُرُوا اللَّهَ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنْزِيهِ يَرْضَ لَكُمُ الشُّكْرَ، أَيْ يُجَازِيكُمْ بِلَوَازِمِ الرِّضَى. وَالشُّكْرُ يَتَقَوَّمُ مِنِ اعْتِقَادٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ جَزَاءً عَلَى نِعْمَةٍ حَاصِلَةٍ لِلشَّاكِرِ مِنَ الْمَشْكُورِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَرْضَهُ عَائِدٌ إِلَى الشُّكْرِ المتصيّد من فعل إِنْ تَشْكُرُوا.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
كَأَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَهَا أَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَافِرًا وَشَاكِرًا وَهُمْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ بَيْنَهُمْ وَشَائِجُ الْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ، فَرُبَّمَا تَحَرَّجَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَنْ يَمَسَّهُمْ إِثْمٌ مِنْ جَرَّاءَ كُفْرِ أَقْرِبَائِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، أَوْ أَنَّهُمْ خَشَوْا أَنْ يُصِيبَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ فِي
كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ أَصْلَهُ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالْكَسْبِ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا إِلَّا فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعِبَادِ: أَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ مَجَازِيَّةٌ، وَقَدْ عُدَّ الْخِلَافُ فِي تَشْبِيهِ الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيًّا.
وَمِنَ الْعَجِيبِ تَهْوِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِهَذَا الْقَوْلِ إِذْ يَقُولُ: «وَلَقَدْ تَمَحَّلَ بَعْضُ الْغُوَاةِ لِيُثْبِتَ لِلَّهِ مَا نَفَاهُ عَنْ ذَاتِهِ مِنَ الرِّضَى بِالْكُفْرِ فَقَالَ: هَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ إِلَخْ»، فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ رَدًّا لِأَوَّلِهِ وَهَلْ يُعَدُّ التَّأْوِيلُ تَضْلِيلًا أَمْ هَلْ يُعَدُّ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ بِالدَّلِيلِ مِنَ النَّادِرِ الْقَلِيلِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْقُدْرَةَ لِلْعِبَادِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مُقْدُورَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مِنْ نِسْبَةِ أَفْعَالٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى قُدْرَتِهِ أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ أُصُولِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلِذَلِكَ أَوْرَدُوا هَذِهِ الْآيَةَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا. وَقَدْ أَوْرَدَهَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» فِي فَصْلٍ حَشَرَ فِيهِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ تَكْفُرُوا وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ فَتُقْلِعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَتَشْكُرُوا اللَّهَ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنْزِيهِ يَرْضَ لَكُمُ الشُّكْرَ، أَيْ يُجَازِيكُمْ بِلَوَازِمِ الرِّضَى. وَالشُّكْرُ يَتَقَوَّمُ مِنِ اعْتِقَادٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ جَزَاءً عَلَى نِعْمَةٍ حَاصِلَةٍ لِلشَّاكِرِ مِنَ الْمَشْكُورِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَرْضَهُ عَائِدٌ إِلَى الشُّكْرِ المتصيّد من فعل إِنْ تَشْكُرُوا.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
كَأَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَهَا أَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَافِرًا وَشَاكِرًا وَهُمْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ بَيْنَهُمْ وَشَائِجُ الْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ، فَرُبَّمَا تَحَرَّجَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَنْ يَمَسَّهُمْ إِثْمٌ مِنْ جَرَّاءَ كُفْرِ أَقْرِبَائِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، أَوْ أَنَّهُمْ خَشَوْا أَنْ يُصِيبَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ فِي
340
الدُّنْيَا فَيَلْحَقَ مِنْهُ الْقَاطِنِينَ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ كُفْرَ أُولَئِكَ لَا يُنْقِصُ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ وَأَرَادَ اطْمِئْنَانَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَأَصِلُ الْوِزْرِ، بِكَسْرِ الْوَاوِ: الثِّقَلُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِثْمِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ صَاحِبَهُ تَعَبٌ كَتَعَبِ حَامِلِ الثِّقْلِ. وَيُقَالُ: وَزِرَ بِمَعْنَى حَمَلَ الْوِزْرَ، بِمَعْنَى كَسْبَ الْإِثْمَ. وَتَأْنِيثُ وازِرَةٌ وأُخْرى بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ مَعْنَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَة: ٤٨].
وَالْمَعْنَى: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى، أَيْ لَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا مِنْ إِثْمِهَا، فَلَا تَطْمَعُ نَفْسٌ بِإِعَانَةِ ذَوِيِهَا وَأَقْرِبَائِهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَخْشَى نَفْسٌ صَالِحَةٌ أَنْ تُؤَاخَذَ بِتَبِعَةِ نَفْسٍ أُخْرَى مِنْ ذَوِيِهَا أَوْ قَرَابَتِهَا. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُتَارَكَةِ وَقَطْعِ اللِّجَاجِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ قُصَارَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُرْشِدُوا الضُّلَّالَ لَا أَنْ يُلْجِئُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ثُمَّ لِلْتَرْتِيبَيْنَ الرُّتْبِيِّ وَالتَّرَاخِي، أَيْ وَأَعْظَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ غَنِيًّا عَنْكُمْ أَنَّهُ أَعَدَّ لَكُمُ الْجَزَاءَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَسَتَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ فِي آيَةِ [الْأَنْعَامِ: ١٦٤] : بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ إِثْرَ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَضَمَّنَتِ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالِ الْمُشْركين وَلم يَجِيء مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَيْ مِنْ كُفْرِ مَنْ كَفَرَ وَشُكْرِ مَنْ شَكَرَ.
وَالْأَنْبَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ الْحَاصِلِ بِهِ الْعِلْمُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الْإِخْبَارِ بِأَنْ يُعْلِنَ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ أَعْمَالَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُظْهِرُ لَكُمُ الْحَقَّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَوْ يُخْبِرَكُمْ بِهِ مُبَاشَرَةً، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيل لجملة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
وَأَصِلُ الْوِزْرِ، بِكَسْرِ الْوَاوِ: الثِّقَلُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِثْمِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ صَاحِبَهُ تَعَبٌ كَتَعَبِ حَامِلِ الثِّقْلِ. وَيُقَالُ: وَزِرَ بِمَعْنَى حَمَلَ الْوِزْرَ، بِمَعْنَى كَسْبَ الْإِثْمَ. وَتَأْنِيثُ وازِرَةٌ وأُخْرى بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ مَعْنَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَة: ٤٨].
وَالْمَعْنَى: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى، أَيْ لَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا مِنْ إِثْمِهَا، فَلَا تَطْمَعُ نَفْسٌ بِإِعَانَةِ ذَوِيِهَا وَأَقْرِبَائِهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَخْشَى نَفْسٌ صَالِحَةٌ أَنْ تُؤَاخَذَ بِتَبِعَةِ نَفْسٍ أُخْرَى مِنْ ذَوِيِهَا أَوْ قَرَابَتِهَا. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُتَارَكَةِ وَقَطْعِ اللِّجَاجِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ قُصَارَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُرْشِدُوا الضُّلَّالَ لَا أَنْ يُلْجِئُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ثُمَّ لِلْتَرْتِيبَيْنَ الرُّتْبِيِّ وَالتَّرَاخِي، أَيْ وَأَعْظَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ غَنِيًّا عَنْكُمْ أَنَّهُ أَعَدَّ لَكُمُ الْجَزَاءَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَسَتَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ فِي آيَةِ [الْأَنْعَامِ: ١٦٤] : بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ إِثْرَ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَضَمَّنَتِ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالِ الْمُشْركين وَلم يَجِيء مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَيْ مِنْ كُفْرِ مَنْ كَفَرَ وَشُكْرِ مَنْ شَكَرَ.
وَالْأَنْبَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ الْحَاصِلِ بِهِ الْعِلْمُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الْإِخْبَارِ بِأَنْ يُعْلِنَ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ أَعْمَالَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُظْهِرُ لَكُمُ الْحَقَّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَوْ يُخْبِرَكُمْ بِهِ مُبَاشَرَةً، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيل لجملة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
341
لِأَنَّ الْعَلِيمَ بِذَاتِ الصُّدُورِ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا إِلَّا عَلِمَهُ فَإِذَا أَنْبَأَ بِأَعْمَالِهِمْ كَانَ إِنْبَاؤُهُ كَامِلًا.
وَذَاتِ: صَاحِبَةِ، مُؤَنَّثُ (ذُو) بِمَعْنَى صَاحِبٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْأَعْمَالُ، أَيْ بِالْأَعْمَالِ صَاحِبَةِ الصُّدُورِ، أَيْ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي النَّوَايَا فَعَبَّرَ بِ الصُّدُورِ عَمَّا يَحِلُّ بِهَا، وَالصُّدُورُ مُرَادٌ بِهَا الْقُلُوبُ الْمُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا بِهِ الْإِدْرَاكُ وَالْعَزْمُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: ٤٣].
[٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٨]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
هَذَا مِثَالٌ لِتَقَلُّبِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ إِشْرَاكِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ إِظْهَارِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ عُنْوَانٌ عَلَى مَبْلَغِ كُفْرِهِمْ وَأَقْصَاهُ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةُ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [الزمر: ٦] الْآيَةَ لِاشْتِرَاكِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالتَّصَرُّفِ مُسْتَوْجِبٌ لِلشُّكْرِ، وَعَلَى أَنَّ الْكُفْرَ بِهِ قَبِيحٌ، وَتَتَضَمَّنَ الِاسْتِدْلَالُ على وحدانية إلهية بِدَلِيلٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فَإِنَّهُمْ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ لَجَأْوًا إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ أَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِهِ وَجَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَلَكِنَّ عُمُومَهُ هُنَا عُمُومٌ عُرْفِيٌّ لِفَرِيقٍ مِنَ الْإِنْسَانِ وَهُمْ أَهلُ الشِّرْكِ خَاصَّةً لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لَا يَتَّفِقُ مَعَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ وَأَنَّهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَوْ أَبُو جَهْلٍ، خُرُوجٌ عَنْ مَهْيَعِ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا هَذَانِ وَأَمْثَالُهُمَا مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْجِنْسِ. وَذِكْرُ الْإِنْسَانِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِلَى قَوْلِهِ:
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزمر: ٦، ٧]، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ دَعَوْتُمْ رَبَّكُمْ إِلَخْ، فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ لِمَا فِي مَعْنَى الْإِنْسَانِ مِنْ مُرَاعَاةِ مَا فِي
وَذَاتِ: صَاحِبَةِ، مُؤَنَّثُ (ذُو) بِمَعْنَى صَاحِبٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْأَعْمَالُ، أَيْ بِالْأَعْمَالِ صَاحِبَةِ الصُّدُورِ، أَيْ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي النَّوَايَا فَعَبَّرَ بِ الصُّدُورِ عَمَّا يَحِلُّ بِهَا، وَالصُّدُورُ مُرَادٌ بِهَا الْقُلُوبُ الْمُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا بِهِ الْإِدْرَاكُ وَالْعَزْمُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: ٤٣].
[٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٨]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
هَذَا مِثَالٌ لِتَقَلُّبِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ إِشْرَاكِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ إِظْهَارِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ عُنْوَانٌ عَلَى مَبْلَغِ كُفْرِهِمْ وَأَقْصَاهُ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةُ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [الزمر: ٦] الْآيَةَ لِاشْتِرَاكِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالتَّصَرُّفِ مُسْتَوْجِبٌ لِلشُّكْرِ، وَعَلَى أَنَّ الْكُفْرَ بِهِ قَبِيحٌ، وَتَتَضَمَّنَ الِاسْتِدْلَالُ على وحدانية إلهية بِدَلِيلٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فَإِنَّهُمْ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ لَجَأْوًا إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ أَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِهِ وَجَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَلَكِنَّ عُمُومَهُ هُنَا عُمُومٌ عُرْفِيٌّ لِفَرِيقٍ مِنَ الْإِنْسَانِ وَهُمْ أَهلُ الشِّرْكِ خَاصَّةً لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لَا يَتَّفِقُ مَعَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ وَأَنَّهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَوْ أَبُو جَهْلٍ، خُرُوجٌ عَنْ مَهْيَعِ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا هَذَانِ وَأَمْثَالُهُمَا مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْجِنْسِ. وَذِكْرُ الْإِنْسَانِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِلَى قَوْلِهِ:
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزمر: ٦، ٧]، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ دَعَوْتُمْ رَبَّكُمْ إِلَخْ، فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ لِمَا فِي مَعْنَى الْإِنْسَانِ مِنْ مُرَاعَاةِ مَا فِي
342
الْإِنْسَانِيَّةِ مِنَ التَّقَلُّبِ وَالِاضْطِرَابِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِالتَّوْفِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: ٦٦]، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: ٣] وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ فِي اسْمِ الْإِنْسَانِ مُنَاسِبَةً مَعَ النِّسْيَانِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٣٣].
وَالتَّخْوِيلُ: الْإِعْطَاءُ وَالتَّمْلِيكُ دُونَ قَصْدِ عِوَضٍ. وَعَيْنُهُ وَاوٌ لَا مَحَالَةَ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَوَلِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى فِعْلِ خَالَ بِمَعْنَى: افْتَخَرَ، فَتِلْكَ مَادَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ فِعْلُ خَوَّلَ.
وَالنِّسْيَانُ: ذُهُولُ الْحَافِظَةِ عَنِ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ سَابِقًا.
وَمَا صدق مَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ هُوَ الضُّرُّ، أَيْ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى كَشْفِهِ عَنهُ، ومفعول يَدْعُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
دَعا رَبَّهُ، وَضَمِيرُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى مَا، أَيْ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى كَشْفِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا صَادِقًا عَلَى الدُّعَاءِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ وَيَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِ (إِلَى) عَائِدًا إِلَى رَبَّهُ، أَيْ نَسِيَ الدُّعَاءَ، وَضُمِّنَ الدُّعَاءُ مَعْنَى الِابْتِهَالِ
وَالتَّضَرُّعِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى). وَعَائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الصِّلَةِ تَفَادِيًا مَنْ تَكَرُّرِ الضَّمَائِرِ. وَالْمَعْنَى: نَسِيَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَالِابْتِهَالَ إِلَيْهِ.
وَالْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ، وَهُوَ الْكُفْءُ، أَيْ وَزَادَ عَلَى نِسْيَانِ رَبِّهِ فَجَعَلَ لَهُ شُرَكَاءَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَيْ لَامُ التَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ الْإِضْلَالَ لَمَّا كَانَ نَتِيجَةُ الْجَعْلِ جَازَ تَعْلِيلُ الْجَعْلَ بِهِ كَأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْجَاعِلِ. وَالْمَعْنَى:
وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا فَضَّلَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
وَالتَّخْوِيلُ: الْإِعْطَاءُ وَالتَّمْلِيكُ دُونَ قَصْدِ عِوَضٍ. وَعَيْنُهُ وَاوٌ لَا مَحَالَةَ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَوَلِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى فِعْلِ خَالَ بِمَعْنَى: افْتَخَرَ، فَتِلْكَ مَادَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ فِعْلُ خَوَّلَ.
وَالنِّسْيَانُ: ذُهُولُ الْحَافِظَةِ عَنِ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ سَابِقًا.
وَمَا صدق مَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ هُوَ الضُّرُّ، أَيْ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى كَشْفِهِ عَنهُ، ومفعول يَدْعُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
دَعا رَبَّهُ، وَضَمِيرُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى مَا، أَيْ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى كَشْفِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا صَادِقًا عَلَى الدُّعَاءِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ وَيَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِ (إِلَى) عَائِدًا إِلَى رَبَّهُ، أَيْ نَسِيَ الدُّعَاءَ، وَضُمِّنَ الدُّعَاءُ مَعْنَى الِابْتِهَالِ
وَالتَّضَرُّعِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى). وَعَائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الصِّلَةِ تَفَادِيًا مَنْ تَكَرُّرِ الضَّمَائِرِ. وَالْمَعْنَى: نَسِيَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَالِابْتِهَالَ إِلَيْهِ.
وَالْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ، وَهُوَ الْكُفْءُ، أَيْ وَزَادَ عَلَى نِسْيَانِ رَبِّهِ فَجَعَلَ لَهُ شُرَكَاءَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَيْ لَامُ التَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ الْإِضْلَالَ لَمَّا كَانَ نَتِيجَةُ الْجَعْلِ جَازَ تَعْلِيلُ الْجَعْلَ بِهِ كَأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْجَاعِلِ. وَالْمَعْنَى:
وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا فَضَّلَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
343
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيُضِلَّ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ لِيُضِلَّ النَّاسَ بَعْدَ أَنْ أَضَلَّ نَفْسَهُ إِذْ لَا يُضِلُّ النَّاسَ إِلَّا ضَالٌّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ لِيُضِلَّ هُوَ، أَيِ الْجَاعِلُ وَهُوَ إِذَا ضَلَّ أَضَلَّ النَّاسَ.
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ ذِكْرَ حَالَةِ الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ الْمُعْرِضِ عَنْ شُكْرِ رَبِّهِ يُثِيرُ وَصْفُهَا سُؤَالَ السَّامِعِ عَنْ عَاقِبَةِ هَذَا الْكَافِرِ، أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا، أَيْ قُلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، أَوْ رُوعِيَ فِي الْإِفْرَادِ لَفْظُ الْإِنْسَانِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ تَمَتَّعُوا بِكُفْرِكُمْ قَلِيلًا إِنَّكُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَعَلَى مِثْلِ هَذَيْنِ الْإِعْتِبَارَيْنِ جَاءَ إِفْرَادُ كَافِ الْخِطَابِ بَعْدَ الْخَبَرِ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [١٠- ١٢].
وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ الْمُوَقَّتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ [الْأَعْرَافِ: ٢٤].
وَالْبَاءُ فِي بِكُفْرِكَ ظَرْفِيَّةٌ أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ وَلَيْسَتْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ التَّمَتُّعِ. ومتعلّق التَّمَتُّع مَحْذُوف دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ التَّهْدِيدِ. وَالتَّقْدِيرُ: تَمَتَّعْ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي زَمَنِ كُفْرِكَ أَوْ مُتَكَسِّبًا بِكُفْرِكَ تَمَتُّعًا قَلِيلًا فَأَنْتَ آئِلٌ إِلَى الْعَذَابِ لِأَنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.
وَوَصْفُ التَّمَتُّعِ بِالْقَلِيلِ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التَّوْبَة: ٣٨]. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: تَمَتَّعْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِمْهَالِ الْمُرَادِ مِنْهُ الْإِنْذَارُ وَالْوَعِيدُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا وَهُوَ الْإِنْذَارُ بِالْمَصِيرِ إِلَى النَّارِ بَعْدَ مُدَّةِ الْحَيَاةِ.
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ ذِكْرَ حَالَةِ الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ الْمُعْرِضِ عَنْ شُكْرِ رَبِّهِ يُثِيرُ وَصْفُهَا سُؤَالَ السَّامِعِ عَنْ عَاقِبَةِ هَذَا الْكَافِرِ، أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا، أَيْ قُلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، أَوْ رُوعِيَ فِي الْإِفْرَادِ لَفْظُ الْإِنْسَانِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ تَمَتَّعُوا بِكُفْرِكُمْ قَلِيلًا إِنَّكُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَعَلَى مِثْلِ هَذَيْنِ الْإِعْتِبَارَيْنِ جَاءَ إِفْرَادُ كَافِ الْخِطَابِ بَعْدَ الْخَبَرِ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [١٠- ١٢].
وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ الْمُوَقَّتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ [الْأَعْرَافِ: ٢٤].
وَالْبَاءُ فِي بِكُفْرِكَ ظَرْفِيَّةٌ أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ وَلَيْسَتْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ التَّمَتُّعِ. ومتعلّق التَّمَتُّع مَحْذُوف دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ التَّهْدِيدِ. وَالتَّقْدِيرُ: تَمَتَّعْ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي زَمَنِ كُفْرِكَ أَوْ مُتَكَسِّبًا بِكُفْرِكَ تَمَتُّعًا قَلِيلًا فَأَنْتَ آئِلٌ إِلَى الْعَذَابِ لِأَنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.
وَوَصْفُ التَّمَتُّعِ بِالْقَلِيلِ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التَّوْبَة: ٣٨]. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: تَمَتَّعْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِمْهَالِ الْمُرَادِ مِنْهُ الْإِنْذَارُ وَالْوَعِيدُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا وَهُوَ الْإِنْذَارُ بِالْمَصِيرِ إِلَى النَّارِ بَعْدَ مُدَّةِ الْحَيَاةِ.
344
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعْضُ الْأُمَمِ
وَالطَّوَائِفِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهَا بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ.
وَأَصْحَابُ النَّارِ: هُمُ الَّذِينَ لَا يُفَارِقُونَهَا فَإِنَّ الصُّحْبَةَ تُشْعِرُ بِالْمُلَازَمَةِ، فَأَصْحَابُ النَّارِ: الْمُخَلَّدُونَ فِيهَا.
[٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٩]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ.
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَحْدَهُمْ أَمَّنْ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ دَخَلَتْ عَلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ هَمْزَةَ اسْتِفْهَامٍ وَ (مَنْ) مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ الْكَافِرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [الزمر: ٨]. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَالْقَرِينَةُ عَلَى إِرَادَةِ الْإِنْكَارِ تَعْقِيبُهُ بِقَولِهِ:
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لِظُهُورِ أَنَّ هَلْ فِيهِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَبِقَرِينَةِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ. تَقْدِيرُهُ: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ أَفْضَلُ أَمْ مَنْ هُوَ كَافِرٌ؟
وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ تَقْرِيرِيٌّ وَيُقَدَّرُ لَهُ مُعَادِلٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
وَجَعَلَ الْفَرَّاءُ الْهمزَة للنداء وأَمَّنْ هُوَ قانِتٌ: النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَادَاهُ اللَّهُ بِالْأَوْصَافِ الْعَظِيمَةِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهَا أَوْصَافٌ لَهُ وَنِدَاءٌ لِمَنْ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَعَلَيْهِ فَإِفْرَادُ (قُلْ) مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ (مِنَ) الْمُنَادَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ بِتَشْدِيدِ مِيمِ (مَنْ) عَلَى أَنَّهُ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ (أَمْ) وَ (مَنْ) فَأُدْغِمَتْ مِيمُ (أَمْ) فِي مِيمِ (مَنْ). وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ (أَمْ) مُعَادِلَةً لِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةٍ مَعَ جُمْلَتِهَا دَلَّتْ عَلَيْهَا (أَمْ) لِاقْتِضَائِهَا مُعَادِلًا. وَدَلَّ عَلَيْهَا تَعْقِيبُهُ بِ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَهَذَا الْجَاعِلُ لِلَّهِ أَنْدَادًا
وَالطَّوَائِفِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهَا بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ.
وَأَصْحَابُ النَّارِ: هُمُ الَّذِينَ لَا يُفَارِقُونَهَا فَإِنَّ الصُّحْبَةَ تُشْعِرُ بِالْمُلَازَمَةِ، فَأَصْحَابُ النَّارِ: الْمُخَلَّدُونَ فِيهَا.
[٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٩]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ.
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَحْدَهُمْ أَمَّنْ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ دَخَلَتْ عَلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ هَمْزَةَ اسْتِفْهَامٍ وَ (مَنْ) مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ الْكَافِرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [الزمر: ٨]. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَالْقَرِينَةُ عَلَى إِرَادَةِ الْإِنْكَارِ تَعْقِيبُهُ بِقَولِهِ:
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لِظُهُورِ أَنَّ هَلْ فِيهِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَبِقَرِينَةِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ. تَقْدِيرُهُ: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ أَفْضَلُ أَمْ مَنْ هُوَ كَافِرٌ؟
وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ تَقْرِيرِيٌّ وَيُقَدَّرُ لَهُ مُعَادِلٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
وَجَعَلَ الْفَرَّاءُ الْهمزَة للنداء وأَمَّنْ هُوَ قانِتٌ: النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَادَاهُ اللَّهُ بِالْأَوْصَافِ الْعَظِيمَةِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهَا أَوْصَافٌ لَهُ وَنِدَاءٌ لِمَنْ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَعَلَيْهِ فَإِفْرَادُ (قُلْ) مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ (مِنَ) الْمُنَادَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ بِتَشْدِيدِ مِيمِ (مَنْ) عَلَى أَنَّهُ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ (أَمْ) وَ (مَنْ) فَأُدْغِمَتْ مِيمُ (أَمْ) فِي مِيمِ (مَنْ). وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ (أَمْ) مُعَادِلَةً لِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةٍ مَعَ جُمْلَتِهَا دَلَّتْ عَلَيْهَا (أَمْ) لِاقْتِضَائِهَا مُعَادِلًا. وَدَلَّ عَلَيْهَا تَعْقِيبُهُ بِ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَهَذَا الْجَاعِلُ لِلَّهِ أَنْدَادًا
345
الْكَافِرُ خَيْرٌ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيٌّ وَالْمَقْصُودُ لَازِمُهُ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْخَطَأِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (أَمْ) مُنْقَطِعَةً لِمُجَرَّدِ الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. و (أَمْ) تَقْتَضِي اسْتِفْهَامًا مُقَدَّرًا بَعْدَهَا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: دَعْ تَهْدِيدَهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ وَانْتَقِلْ بِهِمْ إِلَى هَذَا
السُّؤَالِ: الَّذِي هُوَ قَانِتٌ، وَقَائِمٌ، وَيَحْذَرُ اللَّهَ وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ. وَالْمَعْنَى: أَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا هُوَ قَانِتٌ إِلَخْ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا تَتَلَاقَى تِلْكَ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ مَعَ صِفَةِ جَعْلِهِ لِلَّهِ أَنْدَادًا.
وَالْقَانِتُ: الْعَابِدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ:
٢٣٨].
وَالْآنَاءُ: جَمْعُ أَنًى مِثْلُ أَمْعَاءٍ وَمَعًى، وَأَقْفَاءٍ وَقَفًى، وَالْأَنَى: السَّاعَةُ، وَيُقَالُ أَيْضًا:
إِنَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ فِي سُورَةِ [الْأَحْزَابِ: ٥٣].
وَانْتَصَبَ آناءَ عَلَى الظَّرْفِ لِ قانِتٌ، وَتَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِقُنُوتِهِمْ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ بِاللَّيْلِ أَعْوَنُ عَلَى تَمَحُّضِ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَبْعَدُ عَنْ مُدَاخَلَةِ الرِّيَاءِ وَأَدَلُّ عَلَى إِيثَارِ عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى حَظِّ النَّفْسِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ أَدْعَى إِلَى طَلَبِ الرَّاحَةِ فَإِذَا آثَرَ الْمَرْءُ الْعِبَادَةَ فِيهِ اسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِحُبِّ التَّقَرُّبِ إِلَى الله قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: ٦]، فَلَا جَرَمَ كَانَ تَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ دَالًّا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَانِتَ لَا يَخْلُوَ مِنَ السُّجُودِ وَالْقِيَامِ أَنَاءَ النَّهَارِ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً [المزمل: ٧]، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ انْطِبَاقُ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَى حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: ساجِداً وَقائِماً حَالَانِ مُبَيِّنَانِ لِ قانِتٌ وَمُؤَكِّدَانِ لِمَعْنَاهُ. وَجُمْلَةُ يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ حَالَانِ، فَالْحَالُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِوَصْفِ عَمَلِهِ الظَّاهِرِ وَالْجُمْلَتَانِ اللَّتَانِ هُمَا ثَالِثٌ وَرَابِعٌ لِوَصْفِ عَمَلِ قَلْبِهِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْنَ الْخَوْفِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَفَلَتَاتِهِ وَبَيْنَ الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ أَنْ يُثِيبَهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ. وَفِي هَذَا تَمَامُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَارِيَةِ عَلَى وفْق حَال نبيئهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَال
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (أَمْ) مُنْقَطِعَةً لِمُجَرَّدِ الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. و (أَمْ) تَقْتَضِي اسْتِفْهَامًا مُقَدَّرًا بَعْدَهَا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: دَعْ تَهْدِيدَهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ وَانْتَقِلْ بِهِمْ إِلَى هَذَا
السُّؤَالِ: الَّذِي هُوَ قَانِتٌ، وَقَائِمٌ، وَيَحْذَرُ اللَّهَ وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ. وَالْمَعْنَى: أَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا هُوَ قَانِتٌ إِلَخْ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا تَتَلَاقَى تِلْكَ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ مَعَ صِفَةِ جَعْلِهِ لِلَّهِ أَنْدَادًا.
وَالْقَانِتُ: الْعَابِدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ:
٢٣٨].
وَالْآنَاءُ: جَمْعُ أَنًى مِثْلُ أَمْعَاءٍ وَمَعًى، وَأَقْفَاءٍ وَقَفًى، وَالْأَنَى: السَّاعَةُ، وَيُقَالُ أَيْضًا:
إِنَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ فِي سُورَةِ [الْأَحْزَابِ: ٥٣].
وَانْتَصَبَ آناءَ عَلَى الظَّرْفِ لِ قانِتٌ، وَتَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِقُنُوتِهِمْ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ بِاللَّيْلِ أَعْوَنُ عَلَى تَمَحُّضِ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَبْعَدُ عَنْ مُدَاخَلَةِ الرِّيَاءِ وَأَدَلُّ عَلَى إِيثَارِ عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى حَظِّ النَّفْسِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ أَدْعَى إِلَى طَلَبِ الرَّاحَةِ فَإِذَا آثَرَ الْمَرْءُ الْعِبَادَةَ فِيهِ اسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِحُبِّ التَّقَرُّبِ إِلَى الله قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: ٦]، فَلَا جَرَمَ كَانَ تَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ دَالًّا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَانِتَ لَا يَخْلُوَ مِنَ السُّجُودِ وَالْقِيَامِ أَنَاءَ النَّهَارِ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً [المزمل: ٧]، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ انْطِبَاقُ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَى حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: ساجِداً وَقائِماً حَالَانِ مُبَيِّنَانِ لِ قانِتٌ وَمُؤَكِّدَانِ لِمَعْنَاهُ. وَجُمْلَةُ يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ حَالَانِ، فَالْحَالُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِوَصْفِ عَمَلِهِ الظَّاهِرِ وَالْجُمْلَتَانِ اللَّتَانِ هُمَا ثَالِثٌ وَرَابِعٌ لِوَصْفِ عَمَلِ قَلْبِهِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْنَ الْخَوْفِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَفَلَتَاتِهِ وَبَيْنَ الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ أَنْ يُثِيبَهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ. وَفِي هَذَا تَمَامُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَارِيَةِ عَلَى وفْق حَال نبيئهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَال
346
أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ اللَّهَ إِلَّا فِي نَادِرِ الْأَوْقَاتِ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الِاضْطِرَارِ، ثُمَّ يُشْرِكُونَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا اهْتِمَامَ لَهُمْ إِلَّا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا لَا يَحْذَرُونَ الْآخِرَةَ وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابَهَا.
وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْف مِنْ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، أَيْ أَوْصَافِهِمُ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَحَوَّلُ.
وَالرَّجَاءُ: انْتِظَارُ مَا فِيهِ نَعِيمٌ وَمُلَاءَمَةٌ لِلنَّفْسِ. وَالْخَوْفُ: انْتِظَارُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ لِلنَّفْسِ.
وَالْمُرَادُ هُنَا: الْمُلَاءَمَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ لِقَوْلِهِ: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ، أَيْ يَحْذَرُ عِقَابَ الْآخِرَةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الرَّجَاءَ أَيْضًا الْمَأْمُولَ فِي الْآخِرَةِ. وَلِلْخَوْفِ مَزِيَّتُهُ مِنْ زَجْرِ النَّفْسِ عَمَّا لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَلِلرَّجَاءِ مَزِيَّتُهُ مِنْ حَثِّهَا عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ وَكِلَاهُمَا أَنِيسُ السَّالِكِينَ.
وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الرَّجَاءُ عَلَى وُجُودِ أَسْبَابِهِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَرْجُو إِلَّا مَا يَظُنُّهُ حَاصِلًا وَلَا يَظُنُّ
الْمَرْءُ أَمْرًا إِلَّا إِذَا لَاحَتْ لَهُ دَلَائِلُهُ وَلَوَازِمُهُ، لِأَنَّ الظَّنَّ لَيْسَ بِمُغَالَطَةٍ وَالْمَرْءُ لَا يُغَالِطُ نَفْسَهُ، فَالرَّجَاءُ يَتْبَعُ السَّعْيَ لِتَحْصِيلِ الْمَرْجُوِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاء: ١٩] فَإِنَّ تَرَقُّبَ الْمَرْءِ الْمَنْفَعَةَ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا فَذَلِكَ التَّرَقُّبُ يُسَمَّى غُرُورًا.
وَإِنَّمَا يَكُونُ الرَّجَاءُ أَوِ الْخَوْفُ ظَنًّا مَعَ تَرَدُّدٍ فِي الْمَظْنُونِ، أَمَّا الْمَقْطُوعُ بِهِ فَهُوَ الْيَقِينُ وَالْيَأْسُ وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ قَالَ تَعَالَى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الْأَعْرَاف:
٩٩]، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يُوسُف: ٨٧].
وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْ كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ». وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي الْحَسَنِ التِّهَامِيِّ إِذْ يَقُولُ:
وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ يَتَمَادَى فِي الْمَعَاصِي وَيَرْجُو فَقَالَ: هَذَا تَمَنٍّ وَإِنَّمَا الرَّجَاءُ، قَوْلُهُ: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسّرين أُرِيد بِمن هُوَ قانِتٌ أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ عَمَّارُ بْنُ
وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْف مِنْ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، أَيْ أَوْصَافِهِمُ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَحَوَّلُ.
وَالرَّجَاءُ: انْتِظَارُ مَا فِيهِ نَعِيمٌ وَمُلَاءَمَةٌ لِلنَّفْسِ. وَالْخَوْفُ: انْتِظَارُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ لِلنَّفْسِ.
وَالْمُرَادُ هُنَا: الْمُلَاءَمَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ لِقَوْلِهِ: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ، أَيْ يَحْذَرُ عِقَابَ الْآخِرَةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الرَّجَاءَ أَيْضًا الْمَأْمُولَ فِي الْآخِرَةِ. وَلِلْخَوْفِ مَزِيَّتُهُ مِنْ زَجْرِ النَّفْسِ عَمَّا لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَلِلرَّجَاءِ مَزِيَّتُهُ مِنْ حَثِّهَا عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ وَكِلَاهُمَا أَنِيسُ السَّالِكِينَ.
وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الرَّجَاءُ عَلَى وُجُودِ أَسْبَابِهِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَرْجُو إِلَّا مَا يَظُنُّهُ حَاصِلًا وَلَا يَظُنُّ
الْمَرْءُ أَمْرًا إِلَّا إِذَا لَاحَتْ لَهُ دَلَائِلُهُ وَلَوَازِمُهُ، لِأَنَّ الظَّنَّ لَيْسَ بِمُغَالَطَةٍ وَالْمَرْءُ لَا يُغَالِطُ نَفْسَهُ، فَالرَّجَاءُ يَتْبَعُ السَّعْيَ لِتَحْصِيلِ الْمَرْجُوِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاء: ١٩] فَإِنَّ تَرَقُّبَ الْمَرْءِ الْمَنْفَعَةَ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا فَذَلِكَ التَّرَقُّبُ يُسَمَّى غُرُورًا.
وَإِنَّمَا يَكُونُ الرَّجَاءُ أَوِ الْخَوْفُ ظَنًّا مَعَ تَرَدُّدٍ فِي الْمَظْنُونِ، أَمَّا الْمَقْطُوعُ بِهِ فَهُوَ الْيَقِينُ وَالْيَأْسُ وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ قَالَ تَعَالَى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الْأَعْرَاف:
٩٩]، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يُوسُف: ٨٧].
وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْ كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ». وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي الْحَسَنِ التِّهَامِيِّ إِذْ يَقُولُ:
وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا | تَبْنِي الرَّجَاءَ عَلَى شَفِيرٍ هَارِ |
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسّرين أُرِيد بِمن هُوَ قانِتٌ أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ عَمَّارُ بْنُ
347
يَاسر، وَقيل صُهَيْب، وَقِيلَ: أَبُو ذَرٍّ، وَقِيلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهِيَ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ وَلَا جَرَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ هُمْ مِنْ أَحَقِّ مَنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّلَةُ فَهِيَ شَامِلَةٌ لَهُمْ وَلَكِنَّ مَحْمَلَ الْمَوْصُولِ فِي الْآيَةِ عَلَى تَعْمِيمِ كُلِّ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الصِّلَةِ.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ موقعه كموقع قَوْله: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا [الزمر: ٨] أَثَارُهُ وَصْفُ الْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ، وَالْمَعْنَى: أَعْلِمْهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِأَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ الْعَالِمَ بِحَقِّ رَبِّهِ لَيْسَ سَوَاءٌ لِلْكَافِرِ الْجَاهِلِ بِرَبِّهِ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ هُنَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَقُولِ وَلِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ إِلَيْهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ. وَالْمَقْصُودُ: إِثْبَاتُ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ يُكَنَّى بِهِ عَنِ التَّفْضِيلِ. وَالْمُرَادُ: تَفْضِيلُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ [النِّسَاء: ٩٥] الْآيَة، فَيعرف المفضّل بالتصريح كَمَا فِي آيَة لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ [النِّسَاء: ٩٥] أَوْ بِالْقَرِينَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا:
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ إِلَخْ لِظُهُورِ أَنَّ الْعِلْمَ كَمَالٌ وَلِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ
. وَلِهَذَا كَانَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَفِعْلُ يَعْلَمُونَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَفْعُولٌ. وَالْمَعْنَى:
الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الَّذِينَ عَلِمُوا شَيْئًا مُعَيَّنًا حَتَّى يَكُونَ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولَيْنِ اخْتِصَارًا إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ الْعِلْمِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أَي أهل الْعُقُولُ، وَالْعَقْلُ وَالْعِلْمُ مُتَرَادِفَانِ، أَيْ لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ لَهُمْ عَلِمٌ فَهُمْ يُدْرِكُونَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَتَجْرِي أَعْمَالُهُمْ عَلَى حَسْبِ عِلْمِهِمْ، مَعَ الَّذِينَ
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ موقعه كموقع قَوْله: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا [الزمر: ٨] أَثَارُهُ وَصْفُ الْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ، وَالْمَعْنَى: أَعْلِمْهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِأَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ الْعَالِمَ بِحَقِّ رَبِّهِ لَيْسَ سَوَاءٌ لِلْكَافِرِ الْجَاهِلِ بِرَبِّهِ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ هُنَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَقُولِ وَلِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ إِلَيْهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ. وَالْمَقْصُودُ: إِثْبَاتُ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ يُكَنَّى بِهِ عَنِ التَّفْضِيلِ. وَالْمُرَادُ: تَفْضِيلُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ [النِّسَاء: ٩٥] الْآيَة، فَيعرف المفضّل بالتصريح كَمَا فِي آيَة لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ [النِّسَاء: ٩٥] أَوْ بِالْقَرِينَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا:
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ إِلَخْ لِظُهُورِ أَنَّ الْعِلْمَ كَمَالٌ وَلِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ
. وَلِهَذَا كَانَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
يُخْبِرُكَ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمُهُم | وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا |
الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الَّذِينَ عَلِمُوا شَيْئًا مُعَيَّنًا حَتَّى يَكُونَ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولَيْنِ اخْتِصَارًا إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ الْعِلْمِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أَي أهل الْعُقُولُ، وَالْعَقْلُ وَالْعِلْمُ مُتَرَادِفَانِ، أَيْ لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ لَهُمْ عَلِمٌ فَهُمْ يُدْرِكُونَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَتَجْرِي أَعْمَالُهُمْ عَلَى حَسْبِ عِلْمِهِمْ، مَعَ الَّذِينَ
348
لَا يَعْلَمُونَ فَلَا يُدْرِكُونَ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَلْ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الْحَقَائِقُ وَتَجْرِي أَعْمَالُهُمْ عَلَى غَيْرِ انْتِظَامٍ، كَحَالِ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا الْحِجَارَةَ آلِهَةً وَوَضَعُوا الْكُفْرَ مَوْضِعَ الشُّكْرِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي مَنْ هُوَ قَانِتٌ أَنَاءَ اللَّيْلِ يَحْذُرُ رَبَّهُ وَيَرْجُوهُ، وَمَنْ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا هُمُ الْكُفَّارُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ثَبَتَ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَسْتَوُونَ مَعَهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُم، وَإِذ قد تَقَرَّرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ فَقَدِ اقْتَضَى أَنَّ الْمُفَضَّلِينَ عَلَيْهِمْ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ.
وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَذَاكَ، إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْمَوْصُولِ إِدْمَاجًا لِلثَّنَاءِ عَلَى فَرِيقٍ وَلِذَمِّ فَرِيقٍ بِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ أَهْلُ عِلْمٍ وَأَهْلَ الشِّرْكِ أَهْلُ جَهَالَةٍ فَأَغْنَتِ الْجُمْلَةُ بِمَا فِيهَا مِنْ إِدْمَاجٍ عَنْ ذِكْرِ جُمْلَتَيْنِ، فَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ هُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ الْجَاهِلُونَ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤].
وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ أَخُو الْعِلْمِ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا نُورٌ وَمَعْرِفَةٌ حَقٌّ، وَأَنَّ الْكُفْرَ أَخُو الضَّلَالِ لِأَنَّهُ وَالضَّلَالَ ظُلْمَةٌ وَأَوْهَامٌ بَاطِلَة.
هَذَا وَوَقع فِعْلِ يَسْتَوِي فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَكْسِبُهُ عُمُومَ النَّفْيِ لِجَمِيعِ جِهَاتِ الِاسْتِوَاءِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ كِنَايَةً عَنِ الْفَضْلِ آلَ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَضْلِ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، فَإِنَّكَ مَا تَأَمَّلْتَ مَقَامًا اقْتَحَمَ فِيهِ عَالِمٌ وَجَاهِلٌ إِلَّا وَجَدْتَ لِلْعَالَمِ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ مَا لَا تَجِدُهُ لِلْجَاهِلِ وَلِنَضْرِبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِمَقَامَاتٍ سِتَّةٍ هِيَ جُلُّ وَظَائِفِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: الِاهْتِدَاءُ إِلَى الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ نَوَالُهُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ مَقَامُ الْعَمَلِ،
فَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَهْتَدِي إِلَى طُرُقِهِ فَيَبْلُغُ الْمَقْصُودَ بِيُسْرٍ وَفِي قُرْبٍ وَيَعْلَمُ مَا هُوَ مِنَ الْعَمَلِ أولى بالإقبال عَنهُ، وَغَيْرُ الْعَالِمِ بِهِ يَضِلُّ مَسَالِكَهُ وَيُضِيعُ زَمَانَهُ فِي طَلَبِهِ فَإِمَّا أَنْ يَخِيبَ فِي سَعْيِهِ وَإِمَّا أَنْ يَنَالَهُ بَعْدَ أَنْ تَتَقَاذَفَهُ الْأَرْزَاءُ وَتَنْتَابَهُ النَّوَائِبُ وَتَخْتَلِطَ عَلَيْهِ الْحَقَائِقُ فَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ بَلَغَ الْمَقْصُودَ حَتَّى إِذَا انْتَبَهَ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مُرَادِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: ٣٩].
وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَذَاكَ، إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْمَوْصُولِ إِدْمَاجًا لِلثَّنَاءِ عَلَى فَرِيقٍ وَلِذَمِّ فَرِيقٍ بِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ أَهْلُ عِلْمٍ وَأَهْلَ الشِّرْكِ أَهْلُ جَهَالَةٍ فَأَغْنَتِ الْجُمْلَةُ بِمَا فِيهَا مِنْ إِدْمَاجٍ عَنْ ذِكْرِ جُمْلَتَيْنِ، فَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ هُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ الْجَاهِلُونَ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤].
وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ أَخُو الْعِلْمِ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا نُورٌ وَمَعْرِفَةٌ حَقٌّ، وَأَنَّ الْكُفْرَ أَخُو الضَّلَالِ لِأَنَّهُ وَالضَّلَالَ ظُلْمَةٌ وَأَوْهَامٌ بَاطِلَة.
هَذَا وَوَقع فِعْلِ يَسْتَوِي فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَكْسِبُهُ عُمُومَ النَّفْيِ لِجَمِيعِ جِهَاتِ الِاسْتِوَاءِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ كِنَايَةً عَنِ الْفَضْلِ آلَ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَضْلِ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، فَإِنَّكَ مَا تَأَمَّلْتَ مَقَامًا اقْتَحَمَ فِيهِ عَالِمٌ وَجَاهِلٌ إِلَّا وَجَدْتَ لِلْعَالَمِ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ مَا لَا تَجِدُهُ لِلْجَاهِلِ وَلِنَضْرِبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِمَقَامَاتٍ سِتَّةٍ هِيَ جُلُّ وَظَائِفِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: الِاهْتِدَاءُ إِلَى الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ نَوَالُهُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ مَقَامُ الْعَمَلِ،
فَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَهْتَدِي إِلَى طُرُقِهِ فَيَبْلُغُ الْمَقْصُودَ بِيُسْرٍ وَفِي قُرْبٍ وَيَعْلَمُ مَا هُوَ مِنَ الْعَمَلِ أولى بالإقبال عَنهُ، وَغَيْرُ الْعَالِمِ بِهِ يَضِلُّ مَسَالِكَهُ وَيُضِيعُ زَمَانَهُ فِي طَلَبِهِ فَإِمَّا أَنْ يَخِيبَ فِي سَعْيِهِ وَإِمَّا أَنْ يَنَالَهُ بَعْدَ أَنْ تَتَقَاذَفَهُ الْأَرْزَاءُ وَتَنْتَابَهُ النَّوَائِبُ وَتَخْتَلِطَ عَلَيْهِ الْحَقَائِقُ فَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ بَلَغَ الْمَقْصُودَ حَتَّى إِذَا انْتَبَهَ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مُرَادِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: ٣٩].
349
وَمِنْ أَجْلِ هَذَا شَاعَ تَشْبِيهُ الْعِلْمِ بِالنُّورِ وَالْجَهْلِ بِالظُّلْمَةِ.
الْمقَام الثَّانِي: ناشىء عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مقَام السَّلَام مِنْ نَوَائِبِ الْخَطَأِ وَمُزِلَّاتِ الْمَذَلَاتِ، فَالْعَالِمُ يَعْصِمُهُ عِلْمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَاهِلُ يُرِيدُ السَّلَامَةَ فَيَقَعُ فِي الْهَلَكَةِ، فَإِنَّ الْخَطَأَ قَدْ يُوقِعُ فِي الْهَلَاكِ مِنْ حَيْثُ طَلَبِ الْفَوْزِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: ١٦] إِذْ مَثَّلَهُمْ بِالتَّاجِرِ خَرَجَ يَطْلُبُ فَوَائِدَ الرِّبْحِ مِنْ تِجَارَتِهِ فَآبَ بِالْخُسْرَانِ وَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ سَعْيُ الْجَاهِلِ بِخَبْطِ الْعَشْوَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ النُّصْحِ يُسَهِّلُونَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَقِيهُمُ الْوُقُوعَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: مَقَامُ أُنْسِ الِانْكِشَافِ فَالْعَالِمُ تَتَمَيَّزُ عِنْدَهُ الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ وَتَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقَائِقُ فَيَكُونُ مَأْنُوسًا بِهَا وَاثِقًا بِصِحَّةِ إِدْرَاكِهِ وَكُلَّمَا انْكَشَفَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ كَانَ كَمَنْ لَقِيَ أَنِيسًا بِخِلَافِ غَيْرِ الْعَالِمِ بِالْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْمُتَشَابِهَاتُ فَلَا يَدْرِي مَاذَا يَأْخُذُ وَمَاذَا يَدَعُ، فَإِنِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ خَشِيَ الزَّلَلَ وَإِنْ قَلَّدَ خَشِيَ زَلَلَ مُقَلَّدِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الْبَقَرَة:
٢٠].
الْمَقَامُ الرَّابِعُ: مَقَامُ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ بِمِقْدَارِ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومَاتِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمُ الْعَالِمِ قَوِيَ غِنَاهُ عَنِ النَّاسِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.
الْمَقَامُ الْخَامِسُ: الِالْتِذَاذُ بِالْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ حَصَرَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ اللَّذَّةُ فِي الْمَعَارِفِ وَهِيَ لَذَّةٌ لَا تَقْطَعُهَا الْكَثْرَةُ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِالظِّلِّ إِذْ قَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: ١٩- ٢١] فَإِنَّ الْجُلُوسَ فِي الظِّلِّ يَلْتَذُّ بِهِ أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ.
الْمَقَامُ السَّادِسُ: صُدُورُ الْآثَارِ النَّافِعَةِ فِي مَدَى الْعُمْرِ مِمَّا يُكْسِبُ ثَنَاءَ النَّاسِ فِي الْعَاجِلِ وَثَوَابَ اللَّهِ فِي الْآجِلِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ مَصْدَرُ الْإِرْشَادِ وَالْعِلْمِ دَلِيل عَلَى الْخَيْرِ وَقَائِدٌ إِلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨]. وَالْعِلْمُ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ
ثَوَابٌ جَزِيلٌ،
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
الْمقَام الثَّانِي: ناشىء عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مقَام السَّلَام مِنْ نَوَائِبِ الْخَطَأِ وَمُزِلَّاتِ الْمَذَلَاتِ، فَالْعَالِمُ يَعْصِمُهُ عِلْمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَاهِلُ يُرِيدُ السَّلَامَةَ فَيَقَعُ فِي الْهَلَكَةِ، فَإِنَّ الْخَطَأَ قَدْ يُوقِعُ فِي الْهَلَاكِ مِنْ حَيْثُ طَلَبِ الْفَوْزِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: ١٦] إِذْ مَثَّلَهُمْ بِالتَّاجِرِ خَرَجَ يَطْلُبُ فَوَائِدَ الرِّبْحِ مِنْ تِجَارَتِهِ فَآبَ بِالْخُسْرَانِ وَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ سَعْيُ الْجَاهِلِ بِخَبْطِ الْعَشْوَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ النُّصْحِ يُسَهِّلُونَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَقِيهُمُ الْوُقُوعَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: مَقَامُ أُنْسِ الِانْكِشَافِ فَالْعَالِمُ تَتَمَيَّزُ عِنْدَهُ الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ وَتَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقَائِقُ فَيَكُونُ مَأْنُوسًا بِهَا وَاثِقًا بِصِحَّةِ إِدْرَاكِهِ وَكُلَّمَا انْكَشَفَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ كَانَ كَمَنْ لَقِيَ أَنِيسًا بِخِلَافِ غَيْرِ الْعَالِمِ بِالْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْمُتَشَابِهَاتُ فَلَا يَدْرِي مَاذَا يَأْخُذُ وَمَاذَا يَدَعُ، فَإِنِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ خَشِيَ الزَّلَلَ وَإِنْ قَلَّدَ خَشِيَ زَلَلَ مُقَلَّدِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الْبَقَرَة:
٢٠].
الْمَقَامُ الرَّابِعُ: مَقَامُ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ بِمِقْدَارِ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومَاتِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمُ الْعَالِمِ قَوِيَ غِنَاهُ عَنِ النَّاسِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.
الْمَقَامُ الْخَامِسُ: الِالْتِذَاذُ بِالْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ حَصَرَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ اللَّذَّةُ فِي الْمَعَارِفِ وَهِيَ لَذَّةٌ لَا تَقْطَعُهَا الْكَثْرَةُ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِالظِّلِّ إِذْ قَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: ١٩- ٢١] فَإِنَّ الْجُلُوسَ فِي الظِّلِّ يَلْتَذُّ بِهِ أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ.
الْمَقَامُ السَّادِسُ: صُدُورُ الْآثَارِ النَّافِعَةِ فِي مَدَى الْعُمْرِ مِمَّا يُكْسِبُ ثَنَاءَ النَّاسِ فِي الْعَاجِلِ وَثَوَابَ اللَّهِ فِي الْآجِلِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ مَصْدَرُ الْإِرْشَادِ وَالْعِلْمِ دَلِيل عَلَى الْخَيْرِ وَقَائِدٌ إِلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨]. وَالْعِلْمُ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ
ثَوَابٌ جَزِيلٌ،
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
350
وَعَلَى بَثِّهِ مِثْلُ ذَلِكَ،
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بثه فِي صُدُور الرِّجَال، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ»
. فَهَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ فِي صُوَرِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَشْمُولٌ لِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَتَتَشَعَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ فُرُوعٌ جَمَّةٌ وَهِيَ عَلَى كَثْرَتِهَا تَنْضَوِي تَحْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَفْضِيلُ الْعَالِمِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) مَرْكَبَةٌ مِنْ حَرْفَيْنِ (إِنْ) وَ (مَا) الْكَافَّةُ أَوِ النَّافِيَةُ فَكَانَتْ (إِنْ) فِيهِ مُفِيدَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا مُغْنِيَةً غَنَاءَ فَاءِ التَّعْلِيلِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ (إِنِ) الْمُفْرَدَةِ وَ (إِنَّ) الْمُرَكَّبَةَ مَعَ (مَا)، بَلْ أَفَادَهَا التَّرْكِيبُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ وَهُوَ نَفْيُ الْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَتْهُ (إِنَّ) عَنْ غَيْرِ مَنْ أَثْبَتَتْهُ لَهُ. وَقَدْ أُخِذَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ جَانب إِثْبَات التَّذَكُّر لِلْعَالَمِينَ، وَنَفْيُهُ مِنْ غَيْرِ الْعَالَمَيْنِ، بِطَرِيقِ الْحَصْرِ لِأَن جَانب التَّذَكُّر هُوَ جَانِبُ الْعَمَلِ الدِّينِيِّ وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ بِهِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَالسَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»
. وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ، وَأُولُو الْأَلْبَابِ: هُمْ أَهلُ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ.
فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ التَّذَكُّرِ دُونَ غَيْرِهِمْ أَفَادَ عَدَمَ اسْتِوَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. فَلَيْسَ قَوْلُهُ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ كلَاما مُسْتقِلّا.
[١٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ١٠]
قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
لَمَّا أُجْرِيَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِقْبَالِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فِي أَشَدِّ الْآنَاءِ وَبِشِدَّةِ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بثه فِي صُدُور الرِّجَال، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ»
. فَهَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ فِي صُوَرِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَشْمُولٌ لِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَتَتَشَعَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ فُرُوعٌ جَمَّةٌ وَهِيَ عَلَى كَثْرَتِهَا تَنْضَوِي تَحْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَفْضِيلُ الْعَالِمِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) مَرْكَبَةٌ مِنْ حَرْفَيْنِ (إِنْ) وَ (مَا) الْكَافَّةُ أَوِ النَّافِيَةُ فَكَانَتْ (إِنْ) فِيهِ مُفِيدَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا مُغْنِيَةً غَنَاءَ فَاءِ التَّعْلِيلِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ (إِنِ) الْمُفْرَدَةِ وَ (إِنَّ) الْمُرَكَّبَةَ مَعَ (مَا)، بَلْ أَفَادَهَا التَّرْكِيبُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ وَهُوَ نَفْيُ الْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَتْهُ (إِنَّ) عَنْ غَيْرِ مَنْ أَثْبَتَتْهُ لَهُ. وَقَدْ أُخِذَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ جَانب إِثْبَات التَّذَكُّر لِلْعَالَمِينَ، وَنَفْيُهُ مِنْ غَيْرِ الْعَالَمَيْنِ، بِطَرِيقِ الْحَصْرِ لِأَن جَانب التَّذَكُّر هُوَ جَانِبُ الْعَمَلِ الدِّينِيِّ وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ بِهِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَالسَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»
. وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ، وَأُولُو الْأَلْبَابِ: هُمْ أَهلُ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ.
فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ التَّذَكُّرِ دُونَ غَيْرِهِمْ أَفَادَ عَدَمَ اسْتِوَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. فَلَيْسَ قَوْلُهُ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ كلَاما مُسْتقِلّا.
[١٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ١٠]
قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
لَمَّا أُجْرِيَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِقْبَالِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فِي أَشَدِّ الْآنَاءِ وَبِشِدَّةِ
351
مُرَاقَبَتِهُمْ إِيَّاهُ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَبِتَمْيِيزِهِمْ بِصِفَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّذَكُّرِ، بِخِلَافِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، أُتْبِعَ ذَلِكَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى خِطَابِهِمْ لِلِاسْتِزَادَةِ مِنْ ثَبَاتِهِمْ وَرِبَاطَةِ جَأْشِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ.
وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا، وَابْتِدَاءُ الْمَقُولِ بِالنِّدَاءِ وَبِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، كُلُّ ذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُقَالُ وَبِأَنَّهُ
سَيُقَالُ لَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، وَهَذَا وَضِعَ لَهُمْ فِي مَقَامِ الْمُخَاطَبَةِ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا عِبادِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَقَرَأَهُ الْعَشَرَةُ يَا عِبادِ بِدُونِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ كَمَا فِي «إِبْرَازِ الْمَعَانِي» لِأَبِي شَامَةَ وَكَمَا فِي «الدُّرَّةِ الْمُضِيئَةِ» فِي الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَمِّمَةِ لِلْعَشْرِ لِعَلِيٍّ الضَّبَّاعِ الْمِصْرِيِّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣] الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ. وَقَدْ يُوَجَّهُ هَذَا التَّخَالُفُ بِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ، فَانْتِسَابُهُمْ إِلَى اللَّهِ مُقَرَّرٌ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ إِظْهَارِ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي إِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ، فَلَيْسَ فِي كَلِمَةِ يَا عِبادِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ بِاتِّفَاقِ الْعَشَرَةِ وَلِذَلِكَ كَتَبَهَا كُتَّابُ الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ.
وَمَا وَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» مِنْ قَوْلِهِ: وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ قُلْ يَا عِبادِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو أَيْضًا وَعَاصِمٌ وَالْأَعْشَى وَابْنُ كَثِيرٍ يَا عِبادِ بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ اهـ. سَهْوٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٣] فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ فِيهِ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ فَاخْتَلَفُوا كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُمْ مُتَّقُونَ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَشْعِرُ بِأَنَّهُمْ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْأَذَى فِي الدِّينِ مَا يُخْشَى عَلَيْهِمْ مَعَهُ أَنْ يُقَصِّرُوا فِي تَقْوَاهُمْ. وَهَذَا الْأَمْرُ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ بِالْهِجْرَةِ لِلسَّلَامَةِ مِنَ الْأَذَى فِي دِينِهِمْ، وَهُوَ مَا عُرِّضَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ.
وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا، وَابْتِدَاءُ الْمَقُولِ بِالنِّدَاءِ وَبِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، كُلُّ ذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُقَالُ وَبِأَنَّهُ
سَيُقَالُ لَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، وَهَذَا وَضِعَ لَهُمْ فِي مَقَامِ الْمُخَاطَبَةِ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا عِبادِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَقَرَأَهُ الْعَشَرَةُ يَا عِبادِ بِدُونِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ كَمَا فِي «إِبْرَازِ الْمَعَانِي» لِأَبِي شَامَةَ وَكَمَا فِي «الدُّرَّةِ الْمُضِيئَةِ» فِي الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَمِّمَةِ لِلْعَشْرِ لِعَلِيٍّ الضَّبَّاعِ الْمِصْرِيِّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣] الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ. وَقَدْ يُوَجَّهُ هَذَا التَّخَالُفُ بِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ، فَانْتِسَابُهُمْ إِلَى اللَّهِ مُقَرَّرٌ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ إِظْهَارِ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي إِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ، فَلَيْسَ فِي كَلِمَةِ يَا عِبادِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ بِاتِّفَاقِ الْعَشَرَةِ وَلِذَلِكَ كَتَبَهَا كُتَّابُ الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ.
وَمَا وَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» مِنْ قَوْلِهِ: وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ قُلْ يَا عِبادِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو أَيْضًا وَعَاصِمٌ وَالْأَعْشَى وَابْنُ كَثِيرٍ يَا عِبادِ بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ اهـ. سَهْوٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٣] فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ فِيهِ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ فَاخْتَلَفُوا كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُمْ مُتَّقُونَ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَشْعِرُ بِأَنَّهُمْ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْأَذَى فِي الدِّينِ مَا يُخْشَى عَلَيْهِمْ مَعَهُ أَنْ يُقَصِّرُوا فِي تَقْوَاهُمْ. وَهَذَا الْأَمْرُ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ بِالْهِجْرَةِ لِلسَّلَامَةِ مِنَ الْأَذَى فِي دِينِهِمْ، وَهُوَ مَا عُرِّضَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ.
352
وَفِي اسْتِحْضَارِهِمْ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَقَرُّرَ إِيمَانُهُمْ مِمَّا يَقْتَضِي التَّقْوَى وَالِامْتِثَالَ لِلْمُهَاجَرَةِ. وَجُمْلَةُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ إِيرَادَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى لِلْمُتَّصِفِينَ بِهَا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلِ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ فَأُرِيدُ بَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ، وَلَكِنْ جُعِلَ قَوْلُهُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ تَمْهِيدًا لَهُ لِقَصْدِ تَعْجِيلِ التَّكَفُّلِ لَهُمْ بِمُوَافَقَةِ الْحُسْنَى فِي هِجْرَتِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ جُمْلَةُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ مَسُوقَةً مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى الْوَاقِعِ بَعْدَهَا.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أَحْسَنُوا: الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ [الزمر: ٩] الْآيَةَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْخِصَالَ تَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُفَسَّرِ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
، فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ
الْخِطَابِ بِأَنْ يُقَالَ: لَكُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، إِلَى الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا لِيَشْمَلَ الْمُخَاطِبِينَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّلَةُ. وَذَلِكَ فِي مَعْنَى: اتَّقَوْا رَبَّكُمْ لِتَكُونُوا مُحْسِنِينَ فَإِنَّ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا حَسَنَةً عَظِيمَةً فَكُونُوا مِنْهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُحْسَنِ إِلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ أَحْرِيَاءٌ بِالْإِحْسَانِ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ، وَاسْتُغْنِيَ بِالْوَصْفِ عَنِ الْمَوْصُوفِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَة: ٢٠١]. وَقَوْلِهِ فِي عَكْسِهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠]. وَتَوْسِيطُ قَوْلِهِ: فِي هذِهِ الدُّنْيا بَيْنَ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وَبَيْنَ حَسَنَةٌ نَظْمٌ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الْقُرْآنُ فِي مَوَاقِعِ الْكَلِمِ لِإِكْثَارِ الْمَعَانِي الَّتِي يَسْمَحُ بِهَا النَّظْمُ، وَهَذَا مِنْ طُرُقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. فَيَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي هذِهِ الدُّنْيا حَالًا مِنْ حَسَنَةٌ قُدِّمَ عَلَى صَاحِبِ الْحَالِ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهَا جَزَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِقِلَّةِ خُطُورِ ذَلِكَ فِي بَالِهِمْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُمْ تَعْجِيلَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ عَلَى
وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ جُمْلَةُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ مَسُوقَةً مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى الْوَاقِعِ بَعْدَهَا.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أَحْسَنُوا: الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ [الزمر: ٩] الْآيَةَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْخِصَالَ تَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُفَسَّرِ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
، فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ
الْخِطَابِ بِأَنْ يُقَالَ: لَكُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، إِلَى الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا لِيَشْمَلَ الْمُخَاطِبِينَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّلَةُ. وَذَلِكَ فِي مَعْنَى: اتَّقَوْا رَبَّكُمْ لِتَكُونُوا مُحْسِنِينَ فَإِنَّ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا حَسَنَةً عَظِيمَةً فَكُونُوا مِنْهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُحْسَنِ إِلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ أَحْرِيَاءٌ بِالْإِحْسَانِ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ، وَاسْتُغْنِيَ بِالْوَصْفِ عَنِ الْمَوْصُوفِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَة: ٢٠١]. وَقَوْلِهِ فِي عَكْسِهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠]. وَتَوْسِيطُ قَوْلِهِ: فِي هذِهِ الدُّنْيا بَيْنَ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وَبَيْنَ حَسَنَةٌ نَظْمٌ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الْقُرْآنُ فِي مَوَاقِعِ الْكَلِمِ لِإِكْثَارِ الْمَعَانِي الَّتِي يَسْمَحُ بِهَا النَّظْمُ، وَهَذَا مِنْ طُرُقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. فَيَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي هذِهِ الدُّنْيا حَالًا مِنْ حَسَنَةٌ قُدِّمَ عَلَى صَاحِبِ الْحَالِ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهَا جَزَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِقِلَّةِ خُطُورِ ذَلِكَ فِي بَالِهِمْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُمْ تَعْجِيلَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ عَلَى
353
نَحْوَ مَا أَثْنَى عَلَى مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً. وَقَدْ جَاءَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٣٠] قَوْلُهُ: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، أَيْ خَيْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَيَكُونُ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَسَنَةِ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا مُسَوَّقَةٌ لِتَثْبِيتِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْأَذَى، وَلِأَمْرِهِمْ بِالْهِجْرَةِ عَنْ دَارِ الشِّرْكِ وَالْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، فَأَمَّا ثَوَابُ الْآخِرَةِ فَأَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَمُومًى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ يُوَفَّوْنَ أَجْرَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلِهِ: «فِي الدُّنْيَا» مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ أَحْسَنُوا عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لُغَوِيٌّ، أَيْ فَعَلُوا الْحَسَنَاتِ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْحَسَنَاتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْفَوَاتِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ التَّقْصِيرِ فِي ذَلِكَ.
وَتَنْوِينُ حَسَنَةٌ لِلتَّعْظِيمِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِحَسَنَةِ الْآخِرَةِ لِلتَّعْظِيمِ الذَّاتِيِّ، وَبِالنِّسْبَةِ لِحَسَنَةِ الدُّنْيَا تَعْظِيمٌ وَصْفِيٌّ، أَيْ حَسَنَةٌ أَعْظَمُ مِنَ الْمُتَعَارَفِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ:
فِي هذِهِ الدُّنْيا لِتَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَإِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ. وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِ حَسَنَةٌ يُحْتَمَلُ حَسَنَةُ الْآخِرَةِ وَيُحْتَمَلُ حَسَنَةُ الدُّنْيَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: الَّذين يَقُولُونَ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠١]. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٣٠] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، فَأُلْحِقَ بِهَا مَا قُرِّرَ هُنَا.
وَعُطِفُ عَلَيْهِ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ عَطْفَ الْمَقْصُودِ عَلَى التَّوْطِئَةِ. وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْحَثِّ عَلَى الْهِجْرَةِ فِي الْأَرْضِ فِرَارًا بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ بِقَرِينَةِ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ وَاسِعَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِإِفَادَتِهِ وَإِنَّمَا كُنِّيَ بِهِ عَنْ لَازِمِ مَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ جَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلِهِ: «فِي الدُّنْيَا» مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ أَحْسَنُوا عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لُغَوِيٌّ، أَيْ فَعَلُوا الْحَسَنَاتِ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْحَسَنَاتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْفَوَاتِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ التَّقْصِيرِ فِي ذَلِكَ.
وَتَنْوِينُ حَسَنَةٌ لِلتَّعْظِيمِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِحَسَنَةِ الْآخِرَةِ لِلتَّعْظِيمِ الذَّاتِيِّ، وَبِالنِّسْبَةِ لِحَسَنَةِ الدُّنْيَا تَعْظِيمٌ وَصْفِيٌّ، أَيْ حَسَنَةٌ أَعْظَمُ مِنَ الْمُتَعَارَفِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ:
فِي هذِهِ الدُّنْيا لِتَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَإِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ. وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِ حَسَنَةٌ يُحْتَمَلُ حَسَنَةُ الْآخِرَةِ وَيُحْتَمَلُ حَسَنَةُ الدُّنْيَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: الَّذين يَقُولُونَ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠١]. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٣٠] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، فَأُلْحِقَ بِهَا مَا قُرِّرَ هُنَا.
وَعُطِفُ عَلَيْهِ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ عَطْفَ الْمَقْصُودِ عَلَى التَّوْطِئَةِ. وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْحَثِّ عَلَى الْهِجْرَةِ فِي الْأَرْضِ فِرَارًا بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ بِقَرِينَةِ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ وَاسِعَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِإِفَادَتِهِ وَإِنَّمَا كُنِّيَ بِهِ عَنْ لَازِمِ مَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ | فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا |
354
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ أَنْ يُلَاقُوا حَسَنَةً إِذَا هُمْ هَاجَرُوا مِنْ دِيَارِ الشِّرْكِ. وَلَيْسَ حُسْنُ الْعَيْشِ وَلَا ضِدُّهُ مَقْصُورًا عَلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِمَا كُنِّيَ عَنْهُ هُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النِّسَاء: ٩٧].
وَالْمُرَادُ: الْإِيمَاءُ إِلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ يُرِيدُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى الْحَبَشَةِ.
وَنُكْتَةُ الْكِنَايَةِ هُنَا إِلْقَاءُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ بِلُطْفٍ وَتَأْنِيسٍ دُونَ صَرِيحِ الْأَمْرِ لِمَا فِي مُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ مِنَ الْغَمِّ عَلَى النَّفْسِ، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا حِكَايَةُ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرُوا.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ وَالتَّغَرُّبَ وَالسَّفَرَ مَشَاقٌّ لَا يَسْتَطِيعُهَا إِلَّا صَابَرٌ، فَذُيِّلَ الْأَمْرُ بِهِ بِتَعْظِيمِ أَجْرِ الصَّابِرِينَ لِيَكُونَ إِعْلَامًا لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّ أَجْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَظِيمٌ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ مِنَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ أَجَرُهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
وَالصَّبْرُ: سُكُونُ النَّفْسِ عِنْدَ حُلُولِ الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ بِأَنْ لَا تَضْجَرَ وَلَا تَضْطَرِبَ لِذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥٥]. وَصِيغَةُ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ تَشْمَلُ كُلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى مَشَقَّةٍ فِي الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَمَرَاتِبُ هَذَا الصَّبْرُ مُتَفَاوِتَةٌ وَبِقَدْرِهَا يَتَفَاوَتُ الْأَجْرُ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ تَامًّا. وَالْأَجْرُ: الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَفْرَةِ وَالتَّعْظِيمِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ لَا يُتَصَدَّى لِعَدِّهِ، وَالشَّيْءَ الْعَظِيمَ لَا يُحَاطُ بِمِقْدَارِهِ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِالْمِقْدَارِ ضَرْبٌ مِنَ الْحِسَابِ وَذَلِكَ
شَأْنُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي لَا يَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَالْمُرَادُ: الْإِيمَاءُ إِلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ يُرِيدُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى الْحَبَشَةِ.
وَنُكْتَةُ الْكِنَايَةِ هُنَا إِلْقَاءُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ بِلُطْفٍ وَتَأْنِيسٍ دُونَ صَرِيحِ الْأَمْرِ لِمَا فِي مُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ مِنَ الْغَمِّ عَلَى النَّفْسِ، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا حِكَايَةُ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرُوا.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ وَالتَّغَرُّبَ وَالسَّفَرَ مَشَاقٌّ لَا يَسْتَطِيعُهَا إِلَّا صَابَرٌ، فَذُيِّلَ الْأَمْرُ بِهِ بِتَعْظِيمِ أَجْرِ الصَّابِرِينَ لِيَكُونَ إِعْلَامًا لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّ أَجْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَظِيمٌ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ مِنَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ أَجَرُهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
وَالصَّبْرُ: سُكُونُ النَّفْسِ عِنْدَ حُلُولِ الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ بِأَنْ لَا تَضْجَرَ وَلَا تَضْطَرِبَ لِذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥٥]. وَصِيغَةُ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ تَشْمَلُ كُلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى مَشَقَّةٍ فِي الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَمَرَاتِبُ هَذَا الصَّبْرُ مُتَفَاوِتَةٌ وَبِقَدْرِهَا يَتَفَاوَتُ الْأَجْرُ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ تَامًّا. وَالْأَجْرُ: الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَفْرَةِ وَالتَّعْظِيمِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ لَا يُتَصَدَّى لِعَدِّهِ، وَالشَّيْءَ الْعَظِيمَ لَا يُحَاطُ بِمِقْدَارِهِ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِالْمِقْدَارِ ضَرْبٌ مِنَ الْحِسَابِ وَذَلِكَ
شَأْنُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي لَا يَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
355
وَفِي ذِكْرِ التَّوْفِيَةِ وَإِضَافَةِ الْأَجْرِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَأْنِيسٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ لَا مِنَّةَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَإِنْ كَانَتِ الْمِنَّةُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق: ٢٥].
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما مُنْصَبٌّ عَلَى الْقَيْدِ وَهُوَ بِغَيْرِ حِسابٍ وَالْمَعْنَى: مَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ إِلَّا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ مَبْنِيٌّ عَلَى قَلْبِ ظَنِّ الصَّابِرِينَ أَنَّ أَجْرَ صَبْرِهِمْ بِمِقْدَارِ صَبْرِهِمْ، أَيْ أَنَّ أَجْرَهُمْ لَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ مَشَقَّةِ صَبْرِهِمْ.
وَالْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَأَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبِ كَانَ يَمْنَعُ ابْنَ أَخِيهِ مِنْ أَضْرَارِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْنَعَ أَصْحَابَهُ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ»
، فَخَرَجَ مُعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ فَخَرَجَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا وَتِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً سِوَى أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ صِغَارًا. وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ قَاصِدًا بِلَادَ الْحَبَشَةِ فَلَقِيَهُ ابْنُ الدِّغِنَّةِ فَصَدَّهُ وَجَعَلَهُ فِي جِوَارِهِ.
وَلِمَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ بَيْنَ الْعَرَبِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَعُذِرَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا لَقُوهُ مِنَ الْأَذَى فِي دِينِهِمْ أَذِنَ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَكَانَتْ حِكْمَتُهُ مُقْتَضِيَةً بَقَاءَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظَهْرَانِيِّ الْمُشْرِكِينَ لِبَثِّ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَوْطِنٍ آخَرَ حَتَّى إِذَا تَمَّ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ تَوَشُّجِ نَوَاةِ الدِّينِ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْبَحَ انْتِقَالُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ أَسْعَدَ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ أَذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ هَيَّأَ لَهُ بِلُطْفِهِ دُخُولَ أَهْلِهَا فِي الْإِسْلَامِ وَكُلُّ ذَلِكَ جَرَى بِقَدَرٍ وَحِكْمَةٍ ولطف بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما مُنْصَبٌّ عَلَى الْقَيْدِ وَهُوَ بِغَيْرِ حِسابٍ وَالْمَعْنَى: مَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ إِلَّا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ مَبْنِيٌّ عَلَى قَلْبِ ظَنِّ الصَّابِرِينَ أَنَّ أَجْرَ صَبْرِهِمْ بِمِقْدَارِ صَبْرِهِمْ، أَيْ أَنَّ أَجْرَهُمْ لَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ مَشَقَّةِ صَبْرِهِمْ.
وَالْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَأَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبِ كَانَ يَمْنَعُ ابْنَ أَخِيهِ مِنْ أَضْرَارِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْنَعَ أَصْحَابَهُ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ»
، فَخَرَجَ مُعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ فَخَرَجَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا وَتِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً سِوَى أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ صِغَارًا. وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ قَاصِدًا بِلَادَ الْحَبَشَةِ فَلَقِيَهُ ابْنُ الدِّغِنَّةِ فَصَدَّهُ وَجَعَلَهُ فِي جِوَارِهِ.
وَلِمَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ بَيْنَ الْعَرَبِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَعُذِرَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا لَقُوهُ مِنَ الْأَذَى فِي دِينِهِمْ أَذِنَ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَكَانَتْ حِكْمَتُهُ مُقْتَضِيَةً بَقَاءَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظَهْرَانِيِّ الْمُشْرِكِينَ لِبَثِّ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَوْطِنٍ آخَرَ حَتَّى إِذَا تَمَّ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ تَوَشُّجِ نَوَاةِ الدِّينِ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْبَحَ انْتِقَالُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ أَسْعَدَ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ أَذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ هَيَّأَ لَهُ بِلُطْفِهِ دُخُولَ أَهْلِهَا فِي الْإِسْلَامِ وَكُلُّ ذَلِكَ جَرَى بِقَدَرٍ وَحِكْمَةٍ ولطف بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
356
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٢]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢)بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِطَابِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا [الزمر: ١٠] أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ مَقُولٌ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
نَقَلَ الْفَخْرُ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْش قَالُوا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ
الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ، أَلَا تَنْظُرُ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وَجِدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ.
وَحَقًّا فَإِنَّ إِخْبَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ إِذَا حُمِلَ عَلَى صَرِيحِهِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ تَوْجِيهَهُ إِلَى الْمُشْركين الَّذِي يَبْتَغُونَ صَرْفَهُ عَنْ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ عَلَى أَنَّهُ تَوْجِيهٌ لِبَقَائِهِ بِمَكَّةَ لَا يُهَاجِرُ مَعَهُمْ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ لِلْأَمْنِ عَلَى دِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ، فَلَعَلَّهُمْ تَرَقَّبُوا أَنْ يُهَاجِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ فَآذَنَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَيْ أَنَّ يُوَحِّدُهُ فِي مَكَّةَ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَاظِرَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحجر: ٩٤- ٩٥]، أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِأَنْ يُقِيمَ عَلَى التَّبْلِيغِ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ لَوْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ لَانْقَطَعَتِ الدَّعْوَةُ وَإِنَّمَا كَانَتْ هِجْرَتُهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ رُخْصَةً لَهُمْ إِذْ ضَعُفُوا عَنْ دِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ دِينِهِمْ وَلَمْ يُرَخَّصْ ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ جَاءَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِ أَنَّ حَيَاةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَمَاتَهُ لِلَّهِ، أَيْ فَلَا يَفْرَقَ مِنَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ الدِّينِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٦٢، ١٦٣] : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.
فَكَانَ قَوْلُهُ: لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ عِلَّةً لِ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، فَالتَّقْدِيرُ: وَأُمِرْتُ بِذَلِكَ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، فَمُتَعَلِّقُ أُمِرْتُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ:
أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ عَلَيْهِ. فَ أَوَّلَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَجَازِهِ فَقَطْ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَوَّلِيَّةِ مُجَرَّدُ السَّبْقِ فِي الزَّمَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَصَلَ فَلَا جَدْوَى فِي الْإِخْبَارِ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُونَ أَقْوَى الْمُسْلِمِينَ إِسْلَامًا بِحَيْثُ أَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ كَمَا
قَالَ: «إِنِّي لِأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِهِ»
. وَعَطْفُ وَأُمِرْتُ الثَّانِي عَلَى أُمِرْتُ الْأَوَّلِ لِلتَّنْوِيهِ بِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي وَلِأَنَّهُ غَايَرَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ بِضَمِيمَةِ قَيْدِ التَّعْلِيلِ فَصَارَ ذِكْرُ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ لِبَيَانِ الْمَأْمُورِ، وَذِكْرُ الْأَمْرِ الثَّانِي لِبَيَانِ الْمَأْمُورِ لِأَجْلِهِ، لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَالثَّانِي يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَهُ كَذَلِكَ لِيَكُونَ بِعِبَادَتِهِ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، فَجَعَلَ وَجُودَهُ مُتَمَحَّضًا لِلْإِخْلَاصِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
[الْأَنْعَام: ١٦٢، ١٦٣].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ فِي خَاصَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٢] وَنَظَائِرِهَا كَثِيرَةٌ، كَانَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ لِشُمُولِ لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ للرسل السَّابِقين.
[١٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ١٣]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣)
هَذَا الْقَوْلُ مُتَعَيِّنٌ لِأَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُوَاجِهَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاوِلُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَ الدَّعْوَةَ وَأَنْ يُتَابِعَ دِينَهُمْ. وَهُمَا أَحَدُ الشِّقَّيْنِ
أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ عَلَيْهِ. فَ أَوَّلَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَجَازِهِ فَقَطْ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَوَّلِيَّةِ مُجَرَّدُ السَّبْقِ فِي الزَّمَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَصَلَ فَلَا جَدْوَى فِي الْإِخْبَارِ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُونَ أَقْوَى الْمُسْلِمِينَ إِسْلَامًا بِحَيْثُ أَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ كَمَا
قَالَ: «إِنِّي لِأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِهِ»
. وَعَطْفُ وَأُمِرْتُ الثَّانِي عَلَى أُمِرْتُ الْأَوَّلِ لِلتَّنْوِيهِ بِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي وَلِأَنَّهُ غَايَرَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ بِضَمِيمَةِ قَيْدِ التَّعْلِيلِ فَصَارَ ذِكْرُ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ لِبَيَانِ الْمَأْمُورِ، وَذِكْرُ الْأَمْرِ الثَّانِي لِبَيَانِ الْمَأْمُورِ لِأَجْلِهِ، لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَالثَّانِي يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَهُ كَذَلِكَ لِيَكُونَ بِعِبَادَتِهِ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، فَجَعَلَ وَجُودَهُ مُتَمَحَّضًا لِلْإِخْلَاصِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
[الْأَنْعَام: ١٦٢، ١٦٣].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ فِي خَاصَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٢] وَنَظَائِرِهَا كَثِيرَةٌ، كَانَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ لِشُمُولِ لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ للرسل السَّابِقين.
[١٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ١٣]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣)
هَذَا الْقَوْلُ مُتَعَيِّنٌ لِأَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُوَاجِهَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاوِلُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَ الدَّعْوَةَ وَأَنْ يُتَابِعَ دِينَهُمْ. وَهُمَا أَحَدُ الشِّقَّيْنِ
اللَّذَيْنِ وُجِّهَ الْخِطَابُ السَّابِقُ إِلَيْهِمَا، وَتَعْيِينُ كُلٍّ لِمَا وُجِّهَ إِلَيْهِ مُنْطَوٍ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَقَرِينَةِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: ١٥].
وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ عَلَى هَذَا لِلتَّأْكِيدِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْمَقُولِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنْ تَوْجِيهِ الْمَطْلَبِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ١١] الْآيَةَ فَتَكُونُ إِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَقْصُودِينَ بِتَوْجِيهِ الْقَوْلِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ: قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيءِ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ أَلَا تَنْظُرَ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وُجِدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى.
[١٤- ١٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ (١٤).
أَمْرٌ بِأَنْ يُعِيدَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ١١]، لِأَهَمِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُفَادُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا مَعًا تُفِيدَانِ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِ أَعْبُدَ اللَّهَ الْأَوَّلِ بِقَيْدِ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَبِاعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى أَعْبُدَ الثَّانِي فَتَأَكَّدَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ مَرَّتَيْنِ لِيَتَقَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا إِلَخْ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى الْكَلَامِ قَبْلَهَا فَهُوَ تَفْرِيعٌ ذِكْرِيٌّ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّسْوِيَةِ. وَالْمَقْصُودُ التَّسْوِيَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فَتَكُونُ التَّسْوِيَةُ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ
الِاكْتِرَاثِ بِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّنِي كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٢٩] : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، أَيْ اعْبُدُوا أَيَّ شَيْءٍ شِئْتُمْ عِبَادَتِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَجُعِلَتِ الصِّلَةُ هُنَا فِعْلَ الْمَشِيئَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَائِدَهُمْ فِي تَعْيِينِ مَعْبُودَاتِهِمْ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَشِيئَةِ وَالْهَوَى بِلَا دَلِيلٍ.
وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ عَلَى هَذَا لِلتَّأْكِيدِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْمَقُولِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنْ تَوْجِيهِ الْمَطْلَبِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ١١] الْآيَةَ فَتَكُونُ إِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَقْصُودِينَ بِتَوْجِيهِ الْقَوْلِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ: قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيءِ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ أَلَا تَنْظُرَ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وُجِدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى.
[١٤- ١٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ (١٤).
أَمْرٌ بِأَنْ يُعِيدَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ١١]، لِأَهَمِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُفَادُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا مَعًا تُفِيدَانِ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِ أَعْبُدَ اللَّهَ الْأَوَّلِ بِقَيْدِ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَبِاعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى أَعْبُدَ الثَّانِي فَتَأَكَّدَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ مَرَّتَيْنِ لِيَتَقَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا إِلَخْ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى الْكَلَامِ قَبْلَهَا فَهُوَ تَفْرِيعٌ ذِكْرِيٌّ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّسْوِيَةِ. وَالْمَقْصُودُ التَّسْوِيَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فَتَكُونُ التَّسْوِيَةُ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ
الِاكْتِرَاثِ بِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّنِي كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٢٩] : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، أَيْ اعْبُدُوا أَيَّ شَيْءٍ شِئْتُمْ عِبَادَتِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَجُعِلَتِ الصِّلَةُ هُنَا فِعْلَ الْمَشِيئَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَائِدَهُمْ فِي تَعْيِينِ مَعْبُودَاتِهِمْ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَشِيئَةِ وَالْهَوَى بِلَا دَلِيلٍ.
359
قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أَعْقَبَ أَمْرَ التَّسْوِيَةِ فِي شَأْنِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْعِظَةِ حِرْصًا عَلَى إِصْلَاحِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ، وَلُوحِظَ فِي إِبْلَاغِهِمْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ مَقَامُ مَا سَبَقَ مِنَ التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَأْنِهِمْ جَمْعًا بَيْنَ الْإِرْشَادِ وَبَيْنَ التَّوْبِيخِ، فَجِيءَ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ وَالْحَدِيثِ عَنِ الْغَائِبِ وَالْمُرَادُ الْمُخَاطَبُونَ.
وَافْتُتِحَ الْمَقُولُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ وَتَعْرِيفُ الْخاسِرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ أَنَّ الْجِنْسَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِالْخُسْرَانِ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ، فَيُفِيدُ هَذَا التَّرْكِيبُ قَصْرَ جِنْسِ الْخَاسِرِينَ عَلَى الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَهُوَ قَصْرُ مُبَالَغَةٍ لِكَمَالِ جِنْسِ الْخُسْرَانِ فِي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ فَخُسْرَانُ غَيْرِهِمْ كَلَا خُسْرَانٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي لَامِ التَّعْرِيفِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فَلَيْسُوا يُرِيدُونَ أَنَّ مَعْنَى الْكَمَالِ مِنْ مَعَانِي لَامِ التَّعْرِيفِ.
وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَسُوقًا بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ دَارَ الْجِدَالُ مَعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: ٧- ١٥]، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ هُمُ الَّذِينَ جَرَى الْجِدَالُ مَعَهُمْ، فَأَفَادَ مَعْنَى: إِنَّ الْخَاسِرِينَ أَنْتُمْ، إِلَّا أَنَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لِإِدْمَاجِ وَعِيدِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَمَعْنَى خُسْرَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي الْعَذَابِ فِي حِينِ حَسِبُوا أَنَّهُمْ سَعَوْا لَهَا فِي النَّعِيمِ وَالنَّجَاحِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي إِيقَاعِ أَنْفُسِهِمْ فِي الْعَذَابِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُلْقُونَهَا فِي النَّعِيمِ، بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي عَرَّضَ مَالَهُ لِلنَّمَاءِ وَالرِّبْحِ فَأُصِيبَ بِالتَّلَفِ، فَأُطْلِقَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ تَرْكِيبُ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩].
وَافْتُتِحَ الْمَقُولُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ وَتَعْرِيفُ الْخاسِرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ أَنَّ الْجِنْسَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِالْخُسْرَانِ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ، فَيُفِيدُ هَذَا التَّرْكِيبُ قَصْرَ جِنْسِ الْخَاسِرِينَ عَلَى الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَهُوَ قَصْرُ مُبَالَغَةٍ لِكَمَالِ جِنْسِ الْخُسْرَانِ فِي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ فَخُسْرَانُ غَيْرِهِمْ كَلَا خُسْرَانٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي لَامِ التَّعْرِيفِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فَلَيْسُوا يُرِيدُونَ أَنَّ مَعْنَى الْكَمَالِ مِنْ مَعَانِي لَامِ التَّعْرِيفِ.
وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَسُوقًا بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ دَارَ الْجِدَالُ مَعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: ٧- ١٥]، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ هُمُ الَّذِينَ جَرَى الْجِدَالُ مَعَهُمْ، فَأَفَادَ مَعْنَى: إِنَّ الْخَاسِرِينَ أَنْتُمْ، إِلَّا أَنَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لِإِدْمَاجِ وَعِيدِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَمَعْنَى خُسْرَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي الْعَذَابِ فِي حِينِ حَسِبُوا أَنَّهُمْ سَعَوْا لَهَا فِي النَّعِيمِ وَالنَّجَاحِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي إِيقَاعِ أَنْفُسِهِمْ فِي الْعَذَابِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُلْقُونَهَا فِي النَّعِيمِ، بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي عَرَّضَ مَالَهُ لِلنَّمَاءِ وَالرِّبْحِ فَأُصِيبَ بِالتَّلَفِ، فَأُطْلِقَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ تَرْكِيبُ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩].
360
وَأَمَّا خُسْرَانُهُمْ أَهْلِيهِمْ فَهُوَ مِثْلُ خُسْرَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَغْرَوْا أَهْلِيهِمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِالْكُفْرِ كَمَا أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَهْلِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: ٣٧]، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا [التَّحْرِيم: ٦]، فَكَانَ خُسْرَانُهُمْ خُسْرَانًا عَظِيمًا.
فَقَوْلُهُ: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ اسْتِئْنَافٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِأَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ خَسِرُوا بِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَحَبَّ مَا عِنْدَهُمْ وَبِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ جِنْسُ الْخَاسِرِينَ، يُسْتَخْلَصُ مِنْهُ أَنَّ خَسَارَتَهُمْ أَعْظَمُ خَسَارَةٍ وَأَوْضَحُهَا لِلْعَيَانِ، وَلِذَلِكَ أُوثِرَتْ خَسَارَتُهُمْ بِاسْمِ الْخُسْرَانِ الَّذِي هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ الْخَسَارَةِ دَالٌّ عَلَى قُوَّةِ الْمَصْدَرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ.
وَأُشِيرَ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِوَصْفِ خَسَارَتِهِمْ، بِأَنِ افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ دَاخِلًا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدِ تَمْيِيزَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَبِتَوَسُّطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الْمُفِيدِ لِلْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
[١٦]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ١٦]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ.
بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الزمر: ١٥]، وَخُصَّ بِالْإِبْدَالِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ خُسْرَانَهِمْ عَلَيْهِمْ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى إِهْلَاكِ أَجْسَامِهِمْ. وَالْخُسْرَانُ يَشْتَمِلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخِزْيِ وَغَضَبِ اللَّهِ وَالْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ. فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ [الزمر: ١٥].
وَالظُّلَلُ: اسْمُ جَمْعِ ظُلَّةٍ، وَهِيَ شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَعْوَادٍ مِثْلُ الصُّفَّةِ يَسْتَظِلُّ بِهِ الْجَالِسُ تَحْتَهُ، مُشْتَقَّةُ مِنَ الظِّلِّ لِأَنَّهَا يَكُونُ لَهَا ظِلٌّ فِي الشَّمْسِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٠]، وَقَوْلِهِ: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [٣٢]. وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلطَّبَقَةِ الَّتِي تَعْلُو أَهْلَ النَّارِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنَ النَّارِ، شُبِّهَتْ بِالظُّلَّةِ فِي الْعُلُوِّ وَالْغَشَيَانِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا [التَّحْرِيم: ٦]، فَكَانَ خُسْرَانُهُمْ خُسْرَانًا عَظِيمًا.
فَقَوْلُهُ: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ اسْتِئْنَافٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِأَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ خَسِرُوا بِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَحَبَّ مَا عِنْدَهُمْ وَبِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ جِنْسُ الْخَاسِرِينَ، يُسْتَخْلَصُ مِنْهُ أَنَّ خَسَارَتَهُمْ أَعْظَمُ خَسَارَةٍ وَأَوْضَحُهَا لِلْعَيَانِ، وَلِذَلِكَ أُوثِرَتْ خَسَارَتُهُمْ بِاسْمِ الْخُسْرَانِ الَّذِي هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ الْخَسَارَةِ دَالٌّ عَلَى قُوَّةِ الْمَصْدَرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ.
وَأُشِيرَ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِوَصْفِ خَسَارَتِهِمْ، بِأَنِ افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ دَاخِلًا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدِ تَمْيِيزَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَبِتَوَسُّطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الْمُفِيدِ لِلْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
[١٦]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ١٦]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ.
بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الزمر: ١٥]، وَخُصَّ بِالْإِبْدَالِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ خُسْرَانَهِمْ عَلَيْهِمْ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى إِهْلَاكِ أَجْسَامِهِمْ. وَالْخُسْرَانُ يَشْتَمِلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخِزْيِ وَغَضَبِ اللَّهِ وَالْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ. فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ [الزمر: ١٥].
وَالظُّلَلُ: اسْمُ جَمْعِ ظُلَّةٍ، وَهِيَ شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَعْوَادٍ مِثْلُ الصُّفَّةِ يَسْتَظِلُّ بِهِ الْجَالِسُ تَحْتَهُ، مُشْتَقَّةُ مِنَ الظِّلِّ لِأَنَّهَا يَكُونُ لَهَا ظِلٌّ فِي الشَّمْسِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٠]، وَقَوْلِهِ: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [٣٢]. وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلطَّبَقَةِ الَّتِي تَعْلُو أَهْلَ النَّارِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنَ النَّارِ، شُبِّهَتْ بِالظُّلَّةِ فِي الْعُلُوِّ وَالْغَشَيَانِ
361
مَعَ التَّهَكُّمِ لِأَنَّهُمْ
يَتَمَنَّوْنَ مَا يَحْجُبُ عَنْهُمْ حَرَّ النَّارِ فَعَبَّرَ عَنْ طَبَقَاتِ النَّارِ بِالظُّلَلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا وَاقِيَ لَهُمْ مِنْ حَرِّ النَّارِ عَلَى نَحْوِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَقَوْلُهُ لَهُمْ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الظُّلَلِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ وَلِأَنَّ الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ مِنَ النَّارِ تَكُونُ ظُلَلًا لِكُفَّارٍ آخَرِينَ لِأَنَّ جَهَنَّمَ دَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ.
تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الزمر: ١٥] الْآيَةَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ لِوَصْفِ عَذَابهمْ بِأَنَّهُ ظلل مِنَ النَّارِ من فَوْقهم وظلل مِنْ تَحْتِهِمْ أَنْ يَقُولَ سَائِلُ: مَا يَقَعُ إِعْدَادُ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ فَوَاتِ تَدَارُكِ كُفْرِهِمْ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ لِتَخْوِيفِ اللَّهِ عِبَادَهُ حِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ وَيُشَرِّعُ لَهُمُ الشَّرَائِعَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَرُسُلِهِ تَكُونُ ذَلِكَ عَاقِبَتُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ وَعِيدُ اللَّهِ خَبَرًا مِنْهُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا صِدْقًا حَقَّقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَتَخْوِيفُ اللَّهِ بِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَوِّفُهُمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ وَبِوَصْفِهِ، أَمَّا إِذَاقَتُهُمْ إِيَّاهُ فَهِيَ تَحْقِيقٌ لِلْوَعِيدِ.
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا بِطْرِيقِ الْمُقَابَلَةِ جَعْلُ الْجَنَّةِ لِتَرْغِيبِ عِبَادِهِ فِي التَّقْوَى، إِلَّا أَنَّهُ طَوَى ذِكْرَهُ لِأَنَّ السِّيَاق موعظة لأهل الشِّرْكِ فَاللَّهُ جَعَلَ الْجَنَّةَ وَجَهَنَّمَ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِهِ وَمُرَادِهِ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَكْمَلِ مَا تَرْتَقِي إِلَيْهِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَنَّةَ جَعَلَهَا اللَّهُ مَسْكَنًا لِأَهْلِ النُّفُوسِ الْمُقَدَّسَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ مِثْلَ الرُّسُلِ فَلِذَلِكَ هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ
حَدِيثِ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفْسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفْسٍ فِي الصَّيْفِ».
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُخْلَقُ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَيُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَفَ مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْعَذَابِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.
يَتَمَنَّوْنَ مَا يَحْجُبُ عَنْهُمْ حَرَّ النَّارِ فَعَبَّرَ عَنْ طَبَقَاتِ النَّارِ بِالظُّلَلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا وَاقِيَ لَهُمْ مِنْ حَرِّ النَّارِ عَلَى نَحْوِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَقَوْلُهُ لَهُمْ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الظُّلَلِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ وَلِأَنَّ الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ مِنَ النَّارِ تَكُونُ ظُلَلًا لِكُفَّارٍ آخَرِينَ لِأَنَّ جَهَنَّمَ دَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ.
تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الزمر: ١٥] الْآيَةَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ لِوَصْفِ عَذَابهمْ بِأَنَّهُ ظلل مِنَ النَّارِ من فَوْقهم وظلل مِنْ تَحْتِهِمْ أَنْ يَقُولَ سَائِلُ: مَا يَقَعُ إِعْدَادُ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ فَوَاتِ تَدَارُكِ كُفْرِهِمْ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ لِتَخْوِيفِ اللَّهِ عِبَادَهُ حِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ وَيُشَرِّعُ لَهُمُ الشَّرَائِعَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَرُسُلِهِ تَكُونُ ذَلِكَ عَاقِبَتُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ وَعِيدُ اللَّهِ خَبَرًا مِنْهُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا صِدْقًا حَقَّقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَتَخْوِيفُ اللَّهِ بِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَوِّفُهُمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ وَبِوَصْفِهِ، أَمَّا إِذَاقَتُهُمْ إِيَّاهُ فَهِيَ تَحْقِيقٌ لِلْوَعِيدِ.
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا بِطْرِيقِ الْمُقَابَلَةِ جَعْلُ الْجَنَّةِ لِتَرْغِيبِ عِبَادِهِ فِي التَّقْوَى، إِلَّا أَنَّهُ طَوَى ذِكْرَهُ لِأَنَّ السِّيَاق موعظة لأهل الشِّرْكِ فَاللَّهُ جَعَلَ الْجَنَّةَ وَجَهَنَّمَ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِهِ وَمُرَادِهِ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَكْمَلِ مَا تَرْتَقِي إِلَيْهِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَنَّةَ جَعَلَهَا اللَّهُ مَسْكَنًا لِأَهْلِ النُّفُوسِ الْمُقَدَّسَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ مِثْلَ الرُّسُلِ فَلِذَلِكَ هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ
حَدِيثِ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفْسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفْسٍ فِي الصَّيْفِ».
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُخْلَقُ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَيُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَفَ مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْعَذَابِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.
362
وَالتَّخْوِيفُ: مَصْدَرُ خَوَّفَهُ، إِذَا جَعَلَهُ خَائِفًا إِذَا أَرَاهُ وَوَصَفَ لَهُ شَيْئًا يُثِيرُ فِي نَفْسِهِ الْخَوْفَ، وَهُوَ الشُّعُورُ بِمَا يُؤْلِمُ النَّفْسَ بِوَاسِطَةِ إِحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ.
وَالْعِبَادُ الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا يَعُمُّ كُلَّ عَبْدٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ إِذِ الْجَمِيعُ يَخَافُونَ الْعَذَابَ عَلَى الْعِصْيَانِ، وَالْعَذَابُ مُتَفَاوِتٌ وَأَقْصَاهُ الْخُلُودُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَيْسَ الْعِبَادُ هُنَا مُرَادًا بِهِ أَهلُ الْقُرْبِ لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ التَّخْوِيفِ وَلِأَنَّ
قَرِينَةَ قَوْلِهِ: عِبادَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنَادَيْنَ جَمِيعُ الْعِبَادِ، فَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَحْوِ يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [الزخرف: ٦٨].
يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ تَفْرِيعٌ وَتَعْقِيبٌ لِجُمْلَةِ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ لِأَنَّ التَّخْوِيفَ مُؤْذِنُ بِأَنَّ الْعَذَابَ أُعِدَ لِأَهْلِ الْعِصْيَانِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعْقَبَ بِأَمْرِ النَّاسِ بِالتَّقْوَى لِلتَّفَادِي مِنَ الْعَذَابِ.
وَقُدِّمَ النِّدَاءُ عَلَى التَّفْرِيعِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٧] لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ تَحْذِيرٍ وَتَرْهِيبٍ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِاسْتِرْعَاءِ أَلْبَابِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى مَا سَيَرِدُ مِنْ بَعْدُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى التَّخْوِيفِ بِخِلَافِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا فِي سِيَاقِ التَّرْغِيبِ فِي إِكْمَالِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَالتَّزَوُّدِ لِلْآخِرَةِ فَلِذَلِكَ جَاءَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى فِيهَا مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا عِبادِ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم.
[١٧- ١٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
لَمَّا انْتَهَى تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَمَوْعِظَةُ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ ثُنِيَ عَنَانِ الْخِطَابِ إِلَى جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ مُقَابَلَةً لِنِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْعِبَادُ الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا يَعُمُّ كُلَّ عَبْدٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ إِذِ الْجَمِيعُ يَخَافُونَ الْعَذَابَ عَلَى الْعِصْيَانِ، وَالْعَذَابُ مُتَفَاوِتٌ وَأَقْصَاهُ الْخُلُودُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَيْسَ الْعِبَادُ هُنَا مُرَادًا بِهِ أَهلُ الْقُرْبِ لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ التَّخْوِيفِ وَلِأَنَّ
قَرِينَةَ قَوْلِهِ: عِبادَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنَادَيْنَ جَمِيعُ الْعِبَادِ، فَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَحْوِ يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [الزخرف: ٦٨].
يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ تَفْرِيعٌ وَتَعْقِيبٌ لِجُمْلَةِ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ لِأَنَّ التَّخْوِيفَ مُؤْذِنُ بِأَنَّ الْعَذَابَ أُعِدَ لِأَهْلِ الْعِصْيَانِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعْقَبَ بِأَمْرِ النَّاسِ بِالتَّقْوَى لِلتَّفَادِي مِنَ الْعَذَابِ.
وَقُدِّمَ النِّدَاءُ عَلَى التَّفْرِيعِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٧] لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ تَحْذِيرٍ وَتَرْهِيبٍ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِاسْتِرْعَاءِ أَلْبَابِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى مَا سَيَرِدُ مِنْ بَعْدُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى التَّخْوِيفِ بِخِلَافِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا فِي سِيَاقِ التَّرْغِيبِ فِي إِكْمَالِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَالتَّزَوُّدِ لِلْآخِرَةِ فَلِذَلِكَ جَاءَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى فِيهَا مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا عِبادِ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم.
[١٧- ١٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
لَمَّا انْتَهَى تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَمَوْعِظَةُ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ ثُنِيَ عَنَانِ الْخِطَابِ إِلَى جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ مُقَابَلَةً لِنِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ.
363
وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [غَافِر: ١٥] الْآيَةَ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِ- الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ لَهُمُ الْبُشْرى، وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ [الزمر: ١٦].
وَالطَّاغُوتُ: مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرِ طَغَا عَلَى وَزْنِ فَعَلُوتٍ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ بِوَزْن رحموت وملوكت. وَفِي أَصْلِهِ لُغَتَانِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ لِقَوْلِهِمْ: طَغَا طُغُوًّا مِثْلَ عُلُوٍّ، وَقَوْلِهِمْ: طُغْوَانُ وَطُغْيَانُ. وَظَاهِرُ «الْقَامُوسِ» أَنَّهُ وَاوِيٌّ، وَإِذْ كَانَتْ لَامُهُ حَرْفَ عِلَّةٍ وَوَقَعَتْ بَعْدَهَا وَاوٌ زِنَةَ فَعَلَوْتٍ اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَيْهَا فَقَدَّمُوهَا عَلَى الْعَيْنِ لِيَتَأَتَّى قَلْبُهَا أَلْفًا حَيْثُ تَحَرَّكَتْ وَانْفَتَحَ مَا
قَبْلَهَا فَصَارَ طَاغُوتٌ بِوَزْنِ فَلَعُوتٍ بِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَتَاؤُهُ زَائِدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَصْدَرِ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَعَلَ الطَّاغُوتَ اسْمًا أَعْجَمِيًّا عَلَى وَزْنِ فَاعُولٍ مِثْلَ جَالُوتَ وَطَالُوتَ وَهَارُونَ، وَذَكَرَهُ فِي «الْإِتْقَانِ» فِيمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ وَقَالَ: إِنَّهُ الْكَاهِنُ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَاسْتَدْرَكَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِيمَا زَادَهُ عَلَى أَبْيَاتِ ابْنِ السُّبْكِيِّ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِأَخْصَرَ مِمَّا هُنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥١].
وَأُطْلِقَ الطَّاغُوتُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْقَوِيِّ فِي الْكُفْرِ أَوِ الظُّلْمِ، فَأُطْلِقَ عَلَى الصَّنَمِ، وَعَلَى جَمَاعَةِ الْأَصْنَامِ، وَعَلَى رَئِيسِ أَهْلِ الْكُفْرِ مِثْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. وَأَمَّا جَمْعُهُ عَلَى طَوَاغِيتَ فَذَلِكَ عَلَى تَغْلِيبِ الْإِسْمِيَّةِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ إِذْ جُعِلَ الطَّاغُوتُ لِوَاحِدِ الْأَصْنَامِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ جَمَاعَةُ الْأَصْنَامِ وَقَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَعْبُدُوها بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَمْعٌ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الذُّكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٧] بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقَعَ خَبَرًا عَنِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ جَمْعٌ مُذَكَّرٌ، وَبِاعْتِبَارِ تَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ فِي زَعْمِ عِبَادِهَا. وأَنْ يَعْبُدُوها بَدَلٌ مِنَ الطَّاغُوتَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِ- الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ لَهُمُ الْبُشْرى، وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ [الزمر: ١٦].
وَالطَّاغُوتُ: مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرِ طَغَا عَلَى وَزْنِ فَعَلُوتٍ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ بِوَزْن رحموت وملوكت. وَفِي أَصْلِهِ لُغَتَانِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ لِقَوْلِهِمْ: طَغَا طُغُوًّا مِثْلَ عُلُوٍّ، وَقَوْلِهِمْ: طُغْوَانُ وَطُغْيَانُ. وَظَاهِرُ «الْقَامُوسِ» أَنَّهُ وَاوِيٌّ، وَإِذْ كَانَتْ لَامُهُ حَرْفَ عِلَّةٍ وَوَقَعَتْ بَعْدَهَا وَاوٌ زِنَةَ فَعَلَوْتٍ اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَيْهَا فَقَدَّمُوهَا عَلَى الْعَيْنِ لِيَتَأَتَّى قَلْبُهَا أَلْفًا حَيْثُ تَحَرَّكَتْ وَانْفَتَحَ مَا
قَبْلَهَا فَصَارَ طَاغُوتٌ بِوَزْنِ فَلَعُوتٍ بِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَتَاؤُهُ زَائِدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَصْدَرِ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَعَلَ الطَّاغُوتَ اسْمًا أَعْجَمِيًّا عَلَى وَزْنِ فَاعُولٍ مِثْلَ جَالُوتَ وَطَالُوتَ وَهَارُونَ، وَذَكَرَهُ فِي «الْإِتْقَانِ» فِيمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ وَقَالَ: إِنَّهُ الْكَاهِنُ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَاسْتَدْرَكَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِيمَا زَادَهُ عَلَى أَبْيَاتِ ابْنِ السُّبْكِيِّ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِأَخْصَرَ مِمَّا هُنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥١].
وَأُطْلِقَ الطَّاغُوتُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْقَوِيِّ فِي الْكُفْرِ أَوِ الظُّلْمِ، فَأُطْلِقَ عَلَى الصَّنَمِ، وَعَلَى جَمَاعَةِ الْأَصْنَامِ، وَعَلَى رَئِيسِ أَهْلِ الْكُفْرِ مِثْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. وَأَمَّا جَمْعُهُ عَلَى طَوَاغِيتَ فَذَلِكَ عَلَى تَغْلِيبِ الْإِسْمِيَّةِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ إِذْ جُعِلَ الطَّاغُوتُ لِوَاحِدِ الْأَصْنَامِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ جَمَاعَةُ الْأَصْنَامِ وَقَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَعْبُدُوها بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَمْعٌ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الذُّكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٧] بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقَعَ خَبَرًا عَنِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ جَمْعٌ مُذَكَّرٌ، وَبِاعْتِبَارِ تَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ فِي زَعْمِ عِبَادِهَا. وأَنْ يَعْبُدُوها بَدَلٌ مِنَ الطَّاغُوتَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.
364
وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٥]. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ وَأَعْلَاهَا التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالْبُشْرَى: الْبِشَارَةُ، وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ نَفْعٍ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦٤]. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْبُشْرَى بِالْجَنَّةِ.
وَفِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى إِفَادَةُ الْقَصْرِ وَهُوَ مِثلُ الْقَصْرِ فِي أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ.
وَفُرِّعَ عَلَى قَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى قَوْله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَهُمُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ، فَعَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِهِمْ بِأَنْ يُقَالَ: فَبَشِّرْهُمْ، إِلَى الْإِظْهَارِ باسم الْعباد مُضَاف إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالصِّلَةِ لِزِيَادَةِ مَدْحِهِمْ بِصِفَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَهُمَا: صِفَةُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، أَيْ عُبُودِيَّةِ التَّقَرُّبِ، وَصِفَةُ اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ وَاتِّبَاعِ أَحْسَنِهِ.
وَقَرَأَ الْعَشَرَةُ مَا عَدَا السُّوسِيِّ رَاوِي أَبِي عَمْرٍو كَلِمَةَ عِبادِ بِكَسْرِ الدَّالِ دُونَ يَاءٍ
وَهُوَ تَخْفِيفٌ وَاجْتِزَاءٌ بِوُجُودِ الْكَسْرَةِ عَلَى الدَّالِ. وَقَرَأَهَا السُّوسِيُّ بِيَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ مَفْتُوحَةٍ فِي الْوَصْلِ وَسَاكِنَةٍ فِي الْوَقْفِ، وَنُقِلَ عَنْهُ حَذْفُ الْيَاءِ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ وَهُمَا وَجْهَانِ صَحِيحَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَمَا فِي «التَّسْهِيلِ»، لَكِنِ اتّفقت الْمَصَاحِف على كِتَابَةَ عِبادِ هُنَا بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ وَذَلِكَ يُوَهِّنُ قِرَاءَةَ السُّوسِيِّ إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ لَهَا بِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ يَسْتَمِعُونَ الْأَقْوَالَ مِمَّا يَدْعُو إِلَى الْهُدَى مِثْلَ الْقُرْآنِ وَإِرْشَادِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْتَمِعُونَ الْأَقْوَالَ الَّتِي يُرِيدُ أَهْلُهَا صَرْفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ تُرَّهَاتِ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ فَإِذَا اسْتَمَعُوا ذَلِكَ اتَّبَعُوا أَحْسَنَهُ وَهُوَ مَا يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ.
وَالْمُرَادُ: يَتْبَعُونَ الْقَوْلَ الْحَسَنَ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا لَيْسَ
وَالْبُشْرَى: الْبِشَارَةُ، وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ نَفْعٍ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦٤]. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْبُشْرَى بِالْجَنَّةِ.
وَفِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى إِفَادَةُ الْقَصْرِ وَهُوَ مِثلُ الْقَصْرِ فِي أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ.
وَفُرِّعَ عَلَى قَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى قَوْله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَهُمُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ، فَعَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِهِمْ بِأَنْ يُقَالَ: فَبَشِّرْهُمْ، إِلَى الْإِظْهَارِ باسم الْعباد مُضَاف إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالصِّلَةِ لِزِيَادَةِ مَدْحِهِمْ بِصِفَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَهُمَا: صِفَةُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، أَيْ عُبُودِيَّةِ التَّقَرُّبِ، وَصِفَةُ اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ وَاتِّبَاعِ أَحْسَنِهِ.
وَقَرَأَ الْعَشَرَةُ مَا عَدَا السُّوسِيِّ رَاوِي أَبِي عَمْرٍو كَلِمَةَ عِبادِ بِكَسْرِ الدَّالِ دُونَ يَاءٍ
وَهُوَ تَخْفِيفٌ وَاجْتِزَاءٌ بِوُجُودِ الْكَسْرَةِ عَلَى الدَّالِ. وَقَرَأَهَا السُّوسِيُّ بِيَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ مَفْتُوحَةٍ فِي الْوَصْلِ وَسَاكِنَةٍ فِي الْوَقْفِ، وَنُقِلَ عَنْهُ حَذْفُ الْيَاءِ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ وَهُمَا وَجْهَانِ صَحِيحَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَمَا فِي «التَّسْهِيلِ»، لَكِنِ اتّفقت الْمَصَاحِف على كِتَابَةَ عِبادِ هُنَا بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ وَذَلِكَ يُوَهِّنُ قِرَاءَةَ السُّوسِيِّ إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ لَهَا بِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ يَسْتَمِعُونَ الْأَقْوَالَ مِمَّا يَدْعُو إِلَى الْهُدَى مِثْلَ الْقُرْآنِ وَإِرْشَادِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْتَمِعُونَ الْأَقْوَالَ الَّتِي يُرِيدُ أَهْلُهَا صَرْفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ تُرَّهَاتِ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ فَإِذَا اسْتَمَعُوا ذَلِكَ اتَّبَعُوا أَحْسَنَهُ وَهُوَ مَا يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ.
وَالْمُرَادُ: يَتْبَعُونَ الْقَوْلَ الْحَسَنَ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا لَيْسَ
365
مُسْتَعْمَلًا فِي تَفَاوُتِ الْمَوْصُوفِ بِهِ فِي الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْوَصْفِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣]. أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ نَقْدٍ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْحِكْمَةِ وَالْأَوْهَامِ نُظَّارٌ فِي الْأَدِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ نُقَّادٌ لِلْأَدِلَّةِ السُّفُسْطَائِيَّةِ. وَفِي الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَ أَحْسَنِ الْقَوْلِ سَبَبٌ فِي حُصُولِ هِدَايَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ مُسْتَأْنِفَةٌ لِاسْتِرْعَاءِ الذِّهْنِ لِتَلَقِّي هَذَا الْخَبَرَ. وَأُكِّدَ هَذَا الِاسْتِرْعَاءُ بِجَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمَ إِشَارَةٍ لِيَتَمَيَّزَ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ. أَكْمَلَ تَمَيُّزَهُ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لِأَجْلِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهِيَ صِفَاتُ اجْتِنَابِهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مَعَ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ وَاسْتِمَاعِهِمْ كَلَامِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ نَابِذِينَ مَا يُلْقِي بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَقْوَالِ التَّضْلِيلِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ ذِكْرِ أَوْصَافٍ أَوْ أَخْبَارٍ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي الِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَتَارَةً يُشَارُ إِلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كَمَا هُنَا وَتَارَةً يُشَارُ إِلَى الْخَبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ فِي سُورَةِ [ص: ٥٥].
وَقَدْ أَفَادَ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ قَصْرَ الْهِدَايَةِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ قَصْرَ تَعْيِينٍ، أَيْ دُونِ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَمَعْنَى هَداهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ نَالُوا هَذِهِ الْفَضِيلَةَ بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ قَابِلَةً لِلْهُدَى الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَهَيَّأَتْ نُفُوسُهُمْ لِذَلِكَ وَأَقْبَلُوا عَلَى سَمَاعِ الْهُدَى بِشَرَاشِرِهِمْ وَسَعَوْا إِلَى مَا يُبَلِّغُهُمْ إِلَى رِضَاهُ وَطَلَبُوا النَّجَاةَ مِنْ غَضَبِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَدْيِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ وَجَّهَ
إِلَيْهِمْ أَوَامِرَ إِرْشَادِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلُ لِلَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَطَلَّبُوا الْبَحْثَ عَمَّا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ مُسْتَأْنِفَةٌ لِاسْتِرْعَاءِ الذِّهْنِ لِتَلَقِّي هَذَا الْخَبَرَ. وَأُكِّدَ هَذَا الِاسْتِرْعَاءُ بِجَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمَ إِشَارَةٍ لِيَتَمَيَّزَ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ. أَكْمَلَ تَمَيُّزَهُ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لِأَجْلِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهِيَ صِفَاتُ اجْتِنَابِهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مَعَ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ وَاسْتِمَاعِهِمْ كَلَامِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ نَابِذِينَ مَا يُلْقِي بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَقْوَالِ التَّضْلِيلِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ ذِكْرِ أَوْصَافٍ أَوْ أَخْبَارٍ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي الِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَتَارَةً يُشَارُ إِلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كَمَا هُنَا وَتَارَةً يُشَارُ إِلَى الْخَبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ فِي سُورَةِ [ص: ٥٥].
وَقَدْ أَفَادَ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ قَصْرَ الْهِدَايَةِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ قَصْرَ تَعْيِينٍ، أَيْ دُونِ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَمَعْنَى هَداهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ نَالُوا هَذِهِ الْفَضِيلَةَ بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ قَابِلَةً لِلْهُدَى الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَهَيَّأَتْ نُفُوسُهُمْ لِذَلِكَ وَأَقْبَلُوا عَلَى سَمَاعِ الْهُدَى بِشَرَاشِرِهِمْ وَسَعَوْا إِلَى مَا يُبَلِّغُهُمْ إِلَى رِضَاهُ وَطَلَبُوا النَّجَاةَ مِنْ غَضَبِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَدْيِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ وَجَّهَ
إِلَيْهِمْ أَوَامِرَ إِرْشَادِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلُ لِلَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَطَلَّبُوا الْبَحْثَ عَمَّا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ.
366
وَأَشَارَتْ جُمْلَةُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ إِلَى معنى تهيئهم لِلِاهْتِدَاءِ بِمَا فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ عُقُولٍ كَامِلَةٍ، وَأَصْلُ الْخِلْقَةِ مَيَّالَةٌ لِفَهْمِ الْحَقَائِقِ غَيْرُ مُكْتَرِثَةٍ بِالْمَأْلُوفِ وَلَا مُرَاعَاةِ الْبَاطِلِ، عَلَى تَفَاوُتِ تِلْكَ الْعُقُولِ فِي مَدَى سُرْعَةِ الْبُلُوغِ لِلِاهْتِدَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ عِنْدَ أول دُعَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ خَدِيجَةَ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بُعَيْدَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ، فَأُشِيرُ إِلَى رُسُوخِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي عُقُولِهِمْ بِذِكْرِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ مَعَ كَلِمَةِ أُولُوا الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا مُمْسِكٌ بِمَا أضيفت إِلَيْهِ كملة أُولُوا، وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْأَلْبابِ مِنْ مَعْنَى الْكَمَالِ، فَلَيْسَ التَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لِأَنَّ جِنْسَ الْأَلْبَابِ ثَابَتٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ. وَأَشَارَ إِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ إِلَى تَمَيُّزِهِمْ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ مِنْ بَيْنِ نُظَرَائِهِمْ وَأَهْلِ عَصْرِهِمْ.
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَقَابِلٍ، فَأُشِيرَ إِلَى الْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَداهُمُ اللَّهُ، وَإِلَى الْقَابِل بِقَوْلِهِ: هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْقَصْرِ مَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ.
وَقَدْ دَلَّ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلِ بِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوا صِفَةَ اتِّبَاعِ أَحْسَنِ الْقَوْلِ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ، عَلَى شَرَفِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَلِغَلْقِ الْمَجَالِ فِي وَجْهِ الشُّبْهَةِ وَنَفْيِ تَلَبُّسِ السَّفْسَطَةِ. وَهَذَا مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَهُوَ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ عَلَى قَدْرِ قَرِيحَةِ النَّاظِرِ، وَمِنْهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهُوَ فَضِيلَةٌ وَكَمَالٌ فِي الْأَعْيَانِ وَهُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَإِدْرَاكُ دَلَائِلِ ذَلِكَ وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ وَالْفَهْمُ فِيهِ وَالتَّهَمُّمُ بِرِعَايَةِ مَقَاصِدِهِ فِي شَرَائِعِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَآدَابِ الْمُعَاشَرَةِ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَصْدَقِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، وَإِلْجَامُ الْخَائِضِينَ فِي ذَلِكَ بِعَمَايَةٍ وَغُرُورٍ، وَإِلْقَامُ الْمُتَنَطِّعِينَ وَالْمُلْحِدِينَ.
وَمِمَّا يَتْبَعُ ذَلِكَ انْتِفَاءُ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ وَأَبْلَغِ الْأَقْوَالِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ بِدُونِ اخْتِلَالِ وَلَا اعْتِلَالِ بِتَهْذِيبِ الْعُلُومِ وَمُؤَلَّفَاتِهَا، فَقَدْ قِيلَ: خُذُوا مِنْ كُلِّ عِلْمٍ أَحْسَنَهُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَقَابِلٍ، فَأُشِيرَ إِلَى الْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَداهُمُ اللَّهُ، وَإِلَى الْقَابِل بِقَوْلِهِ: هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْقَصْرِ مَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ.
وَقَدْ دَلَّ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلِ بِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوا صِفَةَ اتِّبَاعِ أَحْسَنِ الْقَوْلِ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ، عَلَى شَرَفِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَلِغَلْقِ الْمَجَالِ فِي وَجْهِ الشُّبْهَةِ وَنَفْيِ تَلَبُّسِ السَّفْسَطَةِ. وَهَذَا مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَهُوَ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ عَلَى قَدْرِ قَرِيحَةِ النَّاظِرِ، وَمِنْهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهُوَ فَضِيلَةٌ وَكَمَالٌ فِي الْأَعْيَانِ وَهُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَإِدْرَاكُ دَلَائِلِ ذَلِكَ وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ وَالْفَهْمُ فِيهِ وَالتَّهَمُّمُ بِرِعَايَةِ مَقَاصِدِهِ فِي شَرَائِعِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَآدَابِ الْمُعَاشَرَةِ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَصْدَقِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، وَإِلْجَامُ الْخَائِضِينَ فِي ذَلِكَ بِعَمَايَةٍ وَغُرُورٍ، وَإِلْقَامُ الْمُتَنَطِّعِينَ وَالْمُلْحِدِينَ.
وَمِمَّا يَتْبَعُ ذَلِكَ انْتِفَاءُ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ وَأَبْلَغِ الْأَقْوَالِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ بِدُونِ اخْتِلَالِ وَلَا اعْتِلَالِ بِتَهْذِيبِ الْعُلُومِ وَمُؤَلَّفَاتِهَا، فَقَدْ قِيلَ: خُذُوا مِنْ كُلِّ عِلْمٍ أَحْسَنَهُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
367
وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَأَبِي ذَرِّ الْغِفَارِيِّ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ مَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْقَوْلِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَ قَوْله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ الْآيَةَ فِي عُثْمَان وَعبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعْدِ بْنِ أبي وَقاص جاؤوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ أَسْلَمَ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بإيمانه فآمنوا.
[١٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ١٩]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
لَمَّا أَفَادَ الْحُصْرُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى [الزمر: ١٧] وَالْحَصْرَانِ اللَّذَانِ فِي قَوْلِهِ:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ١٨] أَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لَا بُشْرَى لَهُمْ وَلَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ وَلَا أَلْبَابَ لَهُمْ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِعُقُولِهِمْ، وَكَانَ حَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَحْرُومُونَ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ بِالنَّعِيمِ الْخَالدِ لِحِرْمَانِهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُهُ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مُفِيدٌ التَّنْبِيهَ عَلَى انْتِفَاءِ الطَّمَاعِيَةِ فِي هِدَايَةِ الْفَرِيقِ الَّذِي حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ قُصِدَ إِقْصَاؤُهُمْ عَنِ الْبُشْرَى، وَالْهِدَايَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِعُقُولِهِمْ، بِالْقَصْرِ الْمَصُوغَةِ عَلَيْهِ صِيَغُ الْقَصْرِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.
وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُبْتَكَرَةٍ فِي الْخَبَرِ الْمُهْتَمِّ بِهِ بِأَنْ يُؤَكِّدَ مَضْمُونَهُ الثَّابِتَ لِلْخَبَرِ عَنْهُ، بِإِثْبَاتِ نَقِيضِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ الْمَضْمُونِ لِضِدِّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ لِيَتَقَرَّرَ مَضْمُونُ الْخَبَرِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِأَصْلِهِ وَمَرَّةً بِنَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهُ، لِضِدِّ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: ٥٥] عَقِبَ قَوْلِهِ: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: ٤٩]. وَيَكْثُرُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِتْيَان باسم إِشَارَة لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: ١٨] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ مَرَّتَيْنِ فُرِّعَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ إِثْبَاتُ ضِدِّ حُكْمِهِمْ لِمَنْ هُمْ مُتَّصِفُونَ بِضِدِّ حَالِهِمْ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ الْفَاءِ لِتَفْرِيعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَ قَوْله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ الْآيَةَ فِي عُثْمَان وَعبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعْدِ بْنِ أبي وَقاص جاؤوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ أَسْلَمَ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بإيمانه فآمنوا.
[١٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ١٩]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
لَمَّا أَفَادَ الْحُصْرُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى [الزمر: ١٧] وَالْحَصْرَانِ اللَّذَانِ فِي قَوْلِهِ:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ١٨] أَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لَا بُشْرَى لَهُمْ وَلَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ وَلَا أَلْبَابَ لَهُمْ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِعُقُولِهِمْ، وَكَانَ حَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَحْرُومُونَ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ بِالنَّعِيمِ الْخَالدِ لِحِرْمَانِهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُهُ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مُفِيدٌ التَّنْبِيهَ عَلَى انْتِفَاءِ الطَّمَاعِيَةِ فِي هِدَايَةِ الْفَرِيقِ الَّذِي حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ قُصِدَ إِقْصَاؤُهُمْ عَنِ الْبُشْرَى، وَالْهِدَايَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِعُقُولِهِمْ، بِالْقَصْرِ الْمَصُوغَةِ عَلَيْهِ صِيَغُ الْقَصْرِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.
وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُبْتَكَرَةٍ فِي الْخَبَرِ الْمُهْتَمِّ بِهِ بِأَنْ يُؤَكِّدَ مَضْمُونَهُ الثَّابِتَ لِلْخَبَرِ عَنْهُ، بِإِثْبَاتِ نَقِيضِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ الْمَضْمُونِ لِضِدِّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ لِيَتَقَرَّرَ مَضْمُونُ الْخَبَرِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِأَصْلِهِ وَمَرَّةً بِنَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهُ، لِضِدِّ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: ٥٥] عَقِبَ قَوْلِهِ: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: ٤٩]. وَيَكْثُرُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِتْيَان باسم إِشَارَة لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: ١٨] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ مَرَّتَيْنِ فُرِّعَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ إِثْبَاتُ ضِدِّ حُكْمِهِمْ لِمَنْ هُمْ مُتَّصِفُونَ بِضِدِّ حَالِهِمْ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ الْفَاءِ لِتَفْرِيعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ
368
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ١٨] لِأَنَّ التَّفْرِيعَ يَقْتَضِي اتِّصَالًا وَارْتِبَاطًا بَيْنَ الْمُفَرَّعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ، كَالتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِ لَبِيَدٍ:
إِذْ فَرَّعَ تَشْبِيهًا عَلَى تَشْبِيهٍ لِاخْتِلَافِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا.
وَكَلِمَةُ الْعَذابِ كَلَامُ وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى حَقَّ تَحَقَّقَتْ فِي الْوَاقِعِ، أَيْ كَانَتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ الْمُتَوَعَّدِ بِهَا حَقًّا غَيْرَ كَذِبٍ، فَمَعْنَى حَقَّ هُنَا تَحَقُّقُ، وَحَقُّ كَلِمَةِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ ضِدُّ هَدْيِ اللَّهِ الْآخَرِينَ، وَكَوْنِهِمْ فِي النَّارِ ضِدُّ كَوْنِ
الْآخَرِينَ لَهُمُ الْبُشْرَى، وَتَرْتِيبُ الْمُتَضَادَّيْنِ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ شِبْهِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الْبَقَرَة: ٦، ٧] بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ٤، ٥]، فَإِنَّ قَوْلَهُ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ضِدٌّ لِقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ضِدُّ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَ (مَنْ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَبُو لَهَبٍ وَوَلَدُهُ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ عَشِيرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ (مَنْ) مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ تَذْيِيلًا، أَيْ أَنْتَ لَا تُنْقِذُ الَّذِينَ فِي النَّارِ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ كَذَلِكَ. وَإِحْدَاهُمَا تَأْكِيدٌ لِلْأُخْرَى الَّتِي قَبْلَهَا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى نَحْوِ تَكْرِيرِ (أَنْ) فِي قَوْلِ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ:
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ اليمانون أنني... إِذْ قُلْتُ: أَمَّا بَعْدُ، أَنِّي خَطِيبُهَا
وَالَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَتَبِعَهُ شَارِحُوهُ أَنَّ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ شَرْطِيَّةٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ
أَفَتِلْكَ أَمْ وَحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ | خُذِلَتْ وَهَادِيَةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا |
وَكَلِمَةُ الْعَذابِ كَلَامُ وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى حَقَّ تَحَقَّقَتْ فِي الْوَاقِعِ، أَيْ كَانَتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ الْمُتَوَعَّدِ بِهَا حَقًّا غَيْرَ كَذِبٍ، فَمَعْنَى حَقَّ هُنَا تَحَقُّقُ، وَحَقُّ كَلِمَةِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ ضِدُّ هَدْيِ اللَّهِ الْآخَرِينَ، وَكَوْنِهِمْ فِي النَّارِ ضِدُّ كَوْنِ
الْآخَرِينَ لَهُمُ الْبُشْرَى، وَتَرْتِيبُ الْمُتَضَادَّيْنِ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ شِبْهِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الْبَقَرَة: ٦، ٧] بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ٤، ٥]، فَإِنَّ قَوْلَهُ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ضِدٌّ لِقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ضِدُّ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَ (مَنْ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَبُو لَهَبٍ وَوَلَدُهُ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ عَشِيرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ (مَنْ) مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ تَذْيِيلًا، أَيْ أَنْتَ لَا تُنْقِذُ الَّذِينَ فِي النَّارِ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ كَذَلِكَ. وَإِحْدَاهُمَا تَأْكِيدٌ لِلْأُخْرَى الَّتِي قَبْلَهَا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى نَحْوِ تَكْرِيرِ (أَنْ) فِي قَوْلِ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ:
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ اليمانون أنني... إِذْ قُلْتُ: أَمَّا بَعْدُ، أَنِّي خَطِيبُهَا
وَالَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَتَبِعَهُ شَارِحُوهُ أَنَّ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ شَرْطِيَّةٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ
369
يَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ لِمَعْنَى غَيْرِ مَعْنَى التَّفْرِيعِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَإِلَّا كَانَتْ مُؤَكِّدَةً لِلْأُولَى وَذَلِكَ يُنْقِصُ مَعْنًى مِنَ الْآيَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنَ) الْأُولَى مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ، وَتَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ مُؤَكِّدَةً لِلْفَاءِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ إِلَخْ فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ وَالْفَاءُ مَعًا مُؤَكِّدَتَيْنِ لِلْهَمْزَةِ الْأُولَى وَالْفَاءُ الَّتِي مَعَهَا لِاتِّصَالِهِمَا، وَلِأَنَّ جُمْلَةَ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ صَادِقَةٌ عَلَى مَا صَدَقَتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ جَارِيًا عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ تَوَجُّهِهِ إِلَى كَلَامٍ لَا شَرْطَ فِيهِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارِ (مَنْ) شَرْطِيَّةً: أَمَّنْ تَحَقُقْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَأَنْتَ لَا تُنْقِذُهُ مِنْهُ فَتَكُونُ هَمْزَةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَتَكُونُ هَمْزَةُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ افْتُتِحَ بِهَا الْكَلَامُ الْمُتَضَمِّنُ الْإِنْكَارَ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ يَتَضَمَّنُ إِنْكَارًا، كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى نَفْيٍ قَدْ يَفْتَتِحُونَهُ بِحَرْفِ نَفْيٍ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقُوا بِالنَّفْيِ كَمَا فِي قَوْلِ مُسْلِمِ بْنِ مَعْبَدٍ الْوَالِبِيِّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ:
وَيُفِيدُ ذِكْرُهَا تَوْكِيدُ مُفَادِ هَمْزَةِ الْإِنْكَارِ إِفَادَةَ تَبَعِيَّةٍ.
وَأَصْلُ الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارِ (مَنِ) الْأُولَى مَوْصُولَةَ: الَّذِينَ تَحِقُّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَنْتَ لَا تُنْقِذُهُمْ مِنَ النَّارِ، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَتَكُونُ هَمْزَةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ تَأْكِيدًا لِلْهَمْزَةِ الْأُولَى.
ومَنْ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ فِي النَّارِ مَوْصُولَةٌ. ومَنْ فِي النَّارِ هُمْ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْعَذَابِ هِيَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَوَقَعَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَالْأَصْلُ: «أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ».
فَلَا وَاللَّهِ لَا يُلْفَى لِمَا بِي | وَلَا لِمَا بِهِمُ أَبَدًا دَوَاءُ |
وَأَصْلُ الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارِ (مَنِ) الْأُولَى مَوْصُولَةَ: الَّذِينَ تَحِقُّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَنْتَ لَا تُنْقِذُهُمْ مِنَ النَّارِ، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَتَكُونُ هَمْزَةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ تَأْكِيدًا لِلْهَمْزَةِ الْأُولَى.
ومَنْ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ فِي النَّارِ مَوْصُولَةٌ. ومَنْ فِي النَّارِ هُمْ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْعَذَابِ هِيَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَوَقَعَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَالْأَصْلُ: «أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ».
370
وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ تَهْوِيلُ حَالَتِهِمْ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنْ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ الْمُصَوِّرِ لِحَالَةِ إِحَاطَةِ النَّارِ بِهِمْ، أَيْ أَفَأَنْتَ تُرِيدُ إِنْقَاذَهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي النَّارِ وَهُمُ الْآنَ فِي النَّارِ لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ مَصِيرُهُمْ إِلَى النَّارِ، فَشُبِّهَ تَحَقُّقُ الْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِتَحَقُّقِهِ فِي الْحَالِ. وَقَدْ صُرِّحَ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٤٠] وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ [٢٢].
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ التَّسَاوِي بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ.
وَكَلِمَةُ الْعَذابِ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْكَافِرَ فِي الْعَذَابِ، أَيْ تَقْدِيرُ اللَّهِ ذَلِكَ لِلْكَافِرِ فِي وَعِيدِهِ الْمُتَكَرِّرِ فِي الْقُرْآنِ. وَتَجْرِيدُ فِعْلِ حَقَّ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ وَهُوَ كَلِمَةُ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ اكْتَسَبَ التَّذْكِيرَ مِمَّا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ نَظَرًا لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ. وَفَائِدَةُ إِقْحَامِ كَلِمَةُ
الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ وَوَعِيدُهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مُفِيدٌ لِتَقَوِّي الْحُكْمِ وَهُوَ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْرِيرِ دَعْوَتِهِ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ تَحَقُّقِ الْوَعِيدِ أَوْ يَحْصُلُ لَهُمُ الْهِدَايَةُ إِذَا لَمْ يُقَدِّرْهَا اللَّهُ لَهُمْ.
وَالْخَطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْوِينًا عَلَيْهِ بَعْضَ حِرْصِهِ عَلَى تَكْرِيرِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَحُزْنِهِ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ يُنْقِذُهُمْ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَ فِعْلُ الْإِنْقَاذِ هُنَا تَشْبِيهًا لِحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى هَدْيِهِمْ وَبُلُوغِ جُهْدِهِ فِي إِقْنَاعِهِمْ بِتَصْدِيقِ دَعَوْتِهِ، وَحَالِهِمْ فِي انْغِمَاسِهِمْ فِي مُوجِبَاتِ وَعِيدِهِمْ بِحَالِ مَنْ
يُحَاوِلُ إِنْقَاذَ سَاقِطٍ فِي النَّارِ قَدْ أَحَاطَتِ النَّارُ بِجَوَانِبِهِ اسْتِحْقَاقًا قَضَى بِهِ مَنْ لَا يُرِدْ مُرَادَهُ، فَحَالُهُمْ تُشْبِهُ حَالَ وُقُوعِهِمْ فِي النَّارِ مِنَ الْآنِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَحُذِفَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَرُمِزَ إِلَى مَعْنَاهُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ مُلَائِمَاتِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ فِعْلُ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُلَائِمَاتِ وُقُوعِهِمْ فِي النَّارِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِالْمَكْنِيَّةِ، أَيْ إِجْرَاءَ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ فِي الْمُرَكَّبِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ التَّسَاوِي بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ.
وَكَلِمَةُ الْعَذابِ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْكَافِرَ فِي الْعَذَابِ، أَيْ تَقْدِيرُ اللَّهِ ذَلِكَ لِلْكَافِرِ فِي وَعِيدِهِ الْمُتَكَرِّرِ فِي الْقُرْآنِ. وَتَجْرِيدُ فِعْلِ حَقَّ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ وَهُوَ كَلِمَةُ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ اكْتَسَبَ التَّذْكِيرَ مِمَّا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ نَظَرًا لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ. وَفَائِدَةُ إِقْحَامِ كَلِمَةُ
الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ وَوَعِيدُهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مُفِيدٌ لِتَقَوِّي الْحُكْمِ وَهُوَ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْرِيرِ دَعْوَتِهِ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ تَحَقُّقِ الْوَعِيدِ أَوْ يَحْصُلُ لَهُمُ الْهِدَايَةُ إِذَا لَمْ يُقَدِّرْهَا اللَّهُ لَهُمْ.
وَالْخَطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْوِينًا عَلَيْهِ بَعْضَ حِرْصِهِ عَلَى تَكْرِيرِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَحُزْنِهِ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ يُنْقِذُهُمْ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَ فِعْلُ الْإِنْقَاذِ هُنَا تَشْبِيهًا لِحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى هَدْيِهِمْ وَبُلُوغِ جُهْدِهِ فِي إِقْنَاعِهِمْ بِتَصْدِيقِ دَعَوْتِهِ، وَحَالِهِمْ فِي انْغِمَاسِهِمْ فِي مُوجِبَاتِ وَعِيدِهِمْ بِحَالِ مَنْ
يُحَاوِلُ إِنْقَاذَ سَاقِطٍ فِي النَّارِ قَدْ أَحَاطَتِ النَّارُ بِجَوَانِبِهِ اسْتِحْقَاقًا قَضَى بِهِ مَنْ لَا يُرِدْ مُرَادَهُ، فَحَالُهُمْ تُشْبِهُ حَالَ وُقُوعِهِمْ فِي النَّارِ مِنَ الْآنِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَحُذِفَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَرُمِزَ إِلَى مَعْنَاهُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ مُلَائِمَاتِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ فِعْلُ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُلَائِمَاتِ وُقُوعِهِمْ فِي النَّارِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِالْمَكْنِيَّةِ، أَيْ إِجْرَاءَ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ فِي الْمُرَكَّبِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ
371
قَرِينَةَ هَذِهِ الْمَكْنِيَّةِ وَهُوَ فِي ذَاتِهِ اسْتِعَارَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٧].
وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ «الْكَشَّاف» وَبَينه التفتازانيّ فَيُعَدُّ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ دَقَائِقِ أَنْظَارِهِمَا، وَبِهِ يَتِمُّ تَقْسِيمُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ إِلَى قِسْمَيْنِ مُصَرِّحَةٍ وَمَكْنِيَّةٍ. وَذَلِكَ كَانَ مَغْفُولًا عَنْهُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْقَاذَ أُطْلِقَ عَلَى الْإِلْحَاحِ فِي الْإِنْذَارِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَأَنَّ مَنْ فِي النَّارِ مَنْ هُوَ صَائِرٌ إِلَى النَّارِ، فَلَا مُتَمَسَّكُ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ عَلَى أَنَّنَا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي غَرَضِ الشَّفَاعَةِ فَإِنَّمَا نَفَتِ الشَّفَاعَةَ لَأَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ مَنْ فِي النَّارِ يَحْتَمِلُ الْعَهْدَ وَهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا شَفَاعَةَ فِيهِمْ قَالَ تَعَالَى:
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: ٤٨]، عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْقِذًا لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَ إِنْقَاذِهِ، فَأَمَّا الشَّفَاعَةُ فَهُوَ سُؤَالُ اللَّهِ أَنْ يُنْقِذَهُ.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى نُكَتٍ بَدِيعَةٍ مِنَ الْإِعْجَازِ إِذْ أَفَادَتْ أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ يَكْمُنُ الْكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ بِتَعْذِيبِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّ حَالَهُمُ الْآنَ كَحَالِ مَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ، وَحَالَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى هَدْيِهِمْ كَحَالِ مَنْ رَأَى سَاقِطًا فِي النَّارِ فَانْدَفَعَ بِدَافِعِ الشَّفَقَةِ إِلَى مُحَاوَلَةِ إِنْقَاذِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أُنْكِرَتْ شِدَّةُ حِرْصِهِ عَلَى تَخْلِيصِهِمْ فَكَانَ إِيدَاعُ هَذَا الْمَعْنَى فِي جُمْلَتَيْنِ نِهَايَةً فِي الْإِيجَازِ مَعَ قَرْنِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْإِطْنَابِ فِي مَقَامِ الصَّرَاحَةِ. ثُمَّ بِمَا أُودِعَ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْعَجِيبَةِ بِطَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَمِنَ الِاسْتِعَارَةِ الْمُصَرِّحَةِ فِي قَرِينَةِ الْمَكْنِيَّةِ.
وَحَاصِلُ نَظْمِ هَذَا التَّرْكِيبِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي النَّارِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ وَتُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُمَثَّلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ «الْكَشَّاف» وَبَينه التفتازانيّ فَيُعَدُّ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ دَقَائِقِ أَنْظَارِهِمَا، وَبِهِ يَتِمُّ تَقْسِيمُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ إِلَى قِسْمَيْنِ مُصَرِّحَةٍ وَمَكْنِيَّةٍ. وَذَلِكَ كَانَ مَغْفُولًا عَنْهُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْقَاذَ أُطْلِقَ عَلَى الْإِلْحَاحِ فِي الْإِنْذَارِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَأَنَّ مَنْ فِي النَّارِ مَنْ هُوَ صَائِرٌ إِلَى النَّارِ، فَلَا مُتَمَسَّكُ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ عَلَى أَنَّنَا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي غَرَضِ الشَّفَاعَةِ فَإِنَّمَا نَفَتِ الشَّفَاعَةَ لَأَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ مَنْ فِي النَّارِ يَحْتَمِلُ الْعَهْدَ وَهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا شَفَاعَةَ فِيهِمْ قَالَ تَعَالَى:
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: ٤٨]، عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْقِذًا لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَ إِنْقَاذِهِ، فَأَمَّا الشَّفَاعَةُ فَهُوَ سُؤَالُ اللَّهِ أَنْ يُنْقِذَهُ.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى نُكَتٍ بَدِيعَةٍ مِنَ الْإِعْجَازِ إِذْ أَفَادَتْ أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ يَكْمُنُ الْكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ بِتَعْذِيبِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّ حَالَهُمُ الْآنَ كَحَالِ مَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ، وَحَالَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى هَدْيِهِمْ كَحَالِ مَنْ رَأَى سَاقِطًا فِي النَّارِ فَانْدَفَعَ بِدَافِعِ الشَّفَقَةِ إِلَى مُحَاوَلَةِ إِنْقَاذِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أُنْكِرَتْ شِدَّةُ حِرْصِهِ عَلَى تَخْلِيصِهِمْ فَكَانَ إِيدَاعُ هَذَا الْمَعْنَى فِي جُمْلَتَيْنِ نِهَايَةً فِي الْإِيجَازِ مَعَ قَرْنِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْإِطْنَابِ فِي مَقَامِ الصَّرَاحَةِ. ثُمَّ بِمَا أُودِعَ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْعَجِيبَةِ بِطَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَمِنَ الِاسْتِعَارَةِ الْمُصَرِّحَةِ فِي قَرِينَةِ الْمَكْنِيَّةِ.
وَحَاصِلُ نَظْمِ هَذَا التَّرْكِيبِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي النَّارِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ وَتُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُمَثَّلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
372
يَقُولُ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشَ
وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تقتحمون فِيهَا».
[٢٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٠]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
أُعِيدَتْ بِشَارَةُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ تَفْصِيلًا لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ مِنْ قَبْلُ. وَافْتُتِحَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُضَادَّةِ بَيْنَهُمَا، فَحَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا لِمُجَرَّدِ الْإِشْعَارِ بِتَضَادِّ الْحَالَيْنِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُ أَنَّهُ سَيَتَلَقَّى حُكَمًا مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٣]، وَقَوْلِهِ: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٤٦]، فَحَصَلَ فِي قَضِيَّةِ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ تَقْرِيرٌ عَلَى تَقْرِير ابتدئ بالإشارتين فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ١٨] ثُمَّ بِمَا أُعْقِبَ مِنْ تَفْرِيعِ حَالِ أَضْدَادِهِمْ عَلَى ذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ ثُمَّ بِالِاسْتِدْرَاكِ الْفَارِقِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ أَضْدَادِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ: هُمُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ اللَّهِ وَكَانُوا أولي الْأَلْبَاب، فَعُدِلَ عَن الْإِتْيَان بضميرهم هُنَا إِلَى الْمَوْصُولِ لِقَصْدِ مَدْحِهِمْ بِمَدْلُولِ الصِّلَةِ وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ سَبَبٌ لِلْحُكْمِ الْمَحْكُومِ بِهِ عَلَى الْمَوْصُولِ وَهُوَ نُوَالُهُمُ الْغُرَفَ. وَعُدِلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَّقِينَ لِمَا فِي تِلْكَ الْإِضَافَةِ مِنْ تَشْرِيفِهِمْ بِرِضَى رَبِّهِمْ عَنْهِمْ.
وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلِاخْتِصَاصِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، أَيْ أُعِدَّتْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
وَالْغُرَفُ: جَمْعُ غُرْفَةٍ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ الْبَيْتُ الْمُرْتَكِزُ عَلَى بَيْتٍ آخَرَ، وَيُقَالُ لَهَا الْعُلِّيَّةُ (بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا وَبِكَسْرِ اللَّامِ مُشَدَّدَةً وَالتَّحْتِيَّةُ كَذَلِكَ)
وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تقتحمون فِيهَا».
[٢٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٠]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
أُعِيدَتْ بِشَارَةُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ تَفْصِيلًا لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ مِنْ قَبْلُ. وَافْتُتِحَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُضَادَّةِ بَيْنَهُمَا، فَحَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا لِمُجَرَّدِ الْإِشْعَارِ بِتَضَادِّ الْحَالَيْنِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُ أَنَّهُ سَيَتَلَقَّى حُكَمًا مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٣]، وَقَوْلِهِ: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٤٦]، فَحَصَلَ فِي قَضِيَّةِ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ تَقْرِيرٌ عَلَى تَقْرِير ابتدئ بالإشارتين فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ١٨] ثُمَّ بِمَا أُعْقِبَ مِنْ تَفْرِيعِ حَالِ أَضْدَادِهِمْ عَلَى ذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ ثُمَّ بِالِاسْتِدْرَاكِ الْفَارِقِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ أَضْدَادِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ: هُمُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ اللَّهِ وَكَانُوا أولي الْأَلْبَاب، فَعُدِلَ عَن الْإِتْيَان بضميرهم هُنَا إِلَى الْمَوْصُولِ لِقَصْدِ مَدْحِهِمْ بِمَدْلُولِ الصِّلَةِ وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ سَبَبٌ لِلْحُكْمِ الْمَحْكُومِ بِهِ عَلَى الْمَوْصُولِ وَهُوَ نُوَالُهُمُ الْغُرَفَ. وَعُدِلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَّقِينَ لِمَا فِي تِلْكَ الْإِضَافَةِ مِنْ تَشْرِيفِهِمْ بِرِضَى رَبِّهِمْ عَنْهِمْ.
وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلِاخْتِصَاصِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، أَيْ أُعِدَّتْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
وَالْغُرَفُ: جَمْعُ غُرْفَةٍ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ الْبَيْتُ الْمُرْتَكِزُ عَلَى بَيْتٍ آخَرَ، وَيُقَالُ لَهَا الْعُلِّيَّةُ (بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا وَبِكَسْرِ اللَّامِ مُشَدَّدَةً وَالتَّحْتِيَّةُ كَذَلِكَ)
373
وَتَقَدَّمَتِ الْغُرْفَةُ فِي آخِرَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٥].
وَمَعْنَى مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِاعْتِلَاءِ غَرْفٍ عَلَيْهَا وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ، فَالْغُرَفُ الَّتِي فَوْقَ الْغُرَفِ هِيَ لَهُمْ أَيْضًا لِأَنَّ مَا فَوْقَ الْبِنَاءِ تَابِعٌ لَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْهَوَاءِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ. فَالْمَعْنَى: لَهُمْ أَطْبَاقٌ مِنَ الْغُرَفِ، وَذَلِكَ مُقَابِلُ مَا جُعِلَ لِأَهْلِ النَّارِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: ١٦].
وَخُولِفَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ: فَجُعِلَ لِلْمُتَّقِينَ غُرَفٌ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا فَوْقَهَا غُرَفٌ، وَجُعِلَتْ لِلْمُشْرِكِينَ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَعُطِفَ عَلَيْهَا أَنَّ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ مُتَنَعِّمُونَ بِالتَّنَقُّلِ فِي تِلْكَ الْغُرَفِ، وَإِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَحْبُوسُونَ فِي مَكَانِهِمْ، وَأَنَّ الظَّلَلَ مِنَ النَّارِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ لِتَتَظَاهَرَ الظُّلَلُ بِتَوْجِيهِ لَفْحِ النَّارِ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ.
وَالْمَبْنِيَّةُ: الْمَسْمُوكَةُ الْجُدْرَانِ بِحَجَرٍ وَجَصٍّ، أَوْ حَجَرٍ وَتُرَابٍ، أَوْ بِطُوبٍ مُشَمَّسٍ ثُمَّ تُوضَعُ عَلَيْهَا السَّقْفُ، وَهَذَا نَعْتٌ لِغُرَفٍ الَّتِي فَوْقَهَا غُرَفٌ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْغُرَفَ الْمُعْتَلَى عَلَيْهَا مَبْنِيَّةٌ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَقَدْ تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَجْهِ وَصْفِ الْغُرَفِ مَعَ أَنَّ الْغُرْفَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ بِنَاءٍ، وَلَمْ يَذْهَبُوا إِلَى أَنَّهُ وَصَفٌ كَاشِفٌ وَلَهُمُ الْعُذْرُ فِي ذَلِكَ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ فَقِيلَ ذِكْرُ الْمَبْنِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا غرف حَقِيقَة لَا أَشْيَاءَ مُشَابَهَةُ الْغُرَفِ فَرْقًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الظُّلَلِ الَّتِي جُعِلَتْ لِلَّذِينَ خَسِرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنْ ظُلَلَهُمْ كَانَتْ مِنْ نَارٍ فَلَا يَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّ غُرَفَ الْمُتَّقِينَ مَجَازٌ عَنْ سَحَابَاتٍ مِنَ الظِّلِّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِعَدَمِ الدَّاعِي إِلَى الْمَجَازِ هُنَا بِخِلَافِهِ هُنَالِكَ لِأَنَّهُ اقْتَضَاهُ مَقَامَ التَّهَكُّمِ.
وَقَالَ فِي «الْكَشَّاف» : مَبْنِيَّةٌ مِثْلُ الْمَنَازِلِ اللَّاصِقَةِ لِلْأَرْضِ، أَيْ فَذكر الْوَصْف تمهيد لِقَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ الْأَنْهَارَ لَا تَجْرِي إِلَّا تَحْتَ الْمَنَازِلِ السُّفْلِيَّةِ أَيْ لَمْ يَفُتِ الْغُرَفَ شَيْءٌ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَنَازِلِ السُّفْلِيَّةِ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ أَنَّهَا مُهَيَّأَةٌ لَهُمْ مِنَ الْآنَ. فَهِيَ مَوْجُودَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْمَفْعُولِ كَاسْمِ
وَمَعْنَى مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِاعْتِلَاءِ غَرْفٍ عَلَيْهَا وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ، فَالْغُرَفُ الَّتِي فَوْقَ الْغُرَفِ هِيَ لَهُمْ أَيْضًا لِأَنَّ مَا فَوْقَ الْبِنَاءِ تَابِعٌ لَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْهَوَاءِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ. فَالْمَعْنَى: لَهُمْ أَطْبَاقٌ مِنَ الْغُرَفِ، وَذَلِكَ مُقَابِلُ مَا جُعِلَ لِأَهْلِ النَّارِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: ١٦].
وَخُولِفَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ: فَجُعِلَ لِلْمُتَّقِينَ غُرَفٌ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا فَوْقَهَا غُرَفٌ، وَجُعِلَتْ لِلْمُشْرِكِينَ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَعُطِفَ عَلَيْهَا أَنَّ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ مُتَنَعِّمُونَ بِالتَّنَقُّلِ فِي تِلْكَ الْغُرَفِ، وَإِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَحْبُوسُونَ فِي مَكَانِهِمْ، وَأَنَّ الظَّلَلَ مِنَ النَّارِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ لِتَتَظَاهَرَ الظُّلَلُ بِتَوْجِيهِ لَفْحِ النَّارِ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ.
وَالْمَبْنِيَّةُ: الْمَسْمُوكَةُ الْجُدْرَانِ بِحَجَرٍ وَجَصٍّ، أَوْ حَجَرٍ وَتُرَابٍ، أَوْ بِطُوبٍ مُشَمَّسٍ ثُمَّ تُوضَعُ عَلَيْهَا السَّقْفُ، وَهَذَا نَعْتٌ لِغُرَفٍ الَّتِي فَوْقَهَا غُرَفٌ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْغُرَفَ الْمُعْتَلَى عَلَيْهَا مَبْنِيَّةٌ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَقَدْ تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَجْهِ وَصْفِ الْغُرَفِ مَعَ أَنَّ الْغُرْفَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ بِنَاءٍ، وَلَمْ يَذْهَبُوا إِلَى أَنَّهُ وَصَفٌ كَاشِفٌ وَلَهُمُ الْعُذْرُ فِي ذَلِكَ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ فَقِيلَ ذِكْرُ الْمَبْنِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا غرف حَقِيقَة لَا أَشْيَاءَ مُشَابَهَةُ الْغُرَفِ فَرْقًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الظُّلَلِ الَّتِي جُعِلَتْ لِلَّذِينَ خَسِرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنْ ظُلَلَهُمْ كَانَتْ مِنْ نَارٍ فَلَا يَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّ غُرَفَ الْمُتَّقِينَ مَجَازٌ عَنْ سَحَابَاتٍ مِنَ الظِّلِّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِعَدَمِ الدَّاعِي إِلَى الْمَجَازِ هُنَا بِخِلَافِهِ هُنَالِكَ لِأَنَّهُ اقْتَضَاهُ مَقَامَ التَّهَكُّمِ.
وَقَالَ فِي «الْكَشَّاف» : مَبْنِيَّةٌ مِثْلُ الْمَنَازِلِ اللَّاصِقَةِ لِلْأَرْضِ، أَيْ فَذكر الْوَصْف تمهيد لِقَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ الْأَنْهَارَ لَا تَجْرِي إِلَّا تَحْتَ الْمَنَازِلِ السُّفْلِيَّةِ أَيْ لَمْ يَفُتِ الْغُرَفَ شَيْءٌ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَنَازِلِ السُّفْلِيَّةِ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ أَنَّهَا مُهَيَّأَةٌ لَهُمْ مِنَ الْآنَ. فَهِيَ مَوْجُودَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْمَفْعُولِ كَاسْمِ
374
الْفَاعِلِ فِي اقْتِضَائِهِ الِاتِّصَافِ بِالْوَصْفِ فِي زَمَنِ الْحَالِ فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مِنَ الْآنَ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ احْتِرَازًا عَنْ نَوْعٍ مِنَ الْغُرَفِ تَكُونُ نَحْتًا فِي الْحَجَرِ فِي الْجِبَالِ مِثْلُ غُرَفِ ثَمُودَ، وَمِثْلُ مَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْجَنُوبِ التُّونِسِيِّ غُرَفًا، وَهِيَ بُيُوتٌ مَنْقُورَةٌ فِي جبال (مدنين) و (مطماطة) و (تطاوين) وَانْظُرْ هَلْ تُسَمَّى تِلْكَ الْبُيُوتُ غُرَفًا فِي الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّ كُتُبَ اللُّغَةِ لَمْ تَصِفْ مُسَمَّى الْغُرْفَةِ وَصْفًا شَافِيًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيَّةٌ وَصْفًا لِلْغُرَفِ بِاعْتِبَارِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهَا مِنْ مَعْنَى الْمَبْنِيِّ الْمُعْتَلِي فَيَكُونُ الْوَصْفُ دَالًّا عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ مَبْنِيَّةٌ بِنَاءً بَالِغًا الْغَايَةَ فِي نَوْعِهِ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَظِلٌّ ظَلِيلٌ.
وَجَرْيُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا مِنْ كَمَالِ حُسْنِ مَنْظَرِهَا لِلْمُطِلِّ مِنْهَا. وَمَعْنَى مِنْ تَحْتِهَا أَنَّ الْأَنْهَارَ تَمُرُّ عَلَى مَا يُجَاوِرُ تَحْتَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٥]، فَأُطْلِقَ اسْمُ «تَحْتٍ» عَلَى مُجَاوِرِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أُسُسِهَا الْأَنْهَارُ، أَيْ تَخْتَرِقُ أُسُسَهَا وَتَمُرُّ
فِيهَا وَفِي سَاحَاتِهَا، وَذَلِكَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُرَى فِي الدِّيَارِ كَدِيَارِ دِمَشْقَ وَقَصْرِ الْحَمْرَاءِ بِالْأَنْدَلُسِ وَدِيَارِ أَهْلِ التَّرَفِ فِي مَدِينَةِ فَاسٍ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ «تَحْتِ» حَقِيقَةً.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ غُرْفَةٍ مِنْهَا يَجْرِي تَحْتَهَا نَهَرٌ فَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ لِيُقَسَّمَ عَلَى الْآحَادِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصْعَدَ الْمَاءُ إِلَى كُلِّ غُرْفَةٍ فَيَجْرِي تَحْتَهَا.
ووَعْدَ اللَّهِ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَهُمْ غُرَفٌ فِي مَعْنَى: وَعَدَهُمُ اللَّهُ غُرَفًا وَعَدًا مِنْهُ. وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ غُرَفٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَعْداً عَلَيْنا، وَإِضَافَةُ وَعْدَ إِلَى اَسْمِ الْجَلَالَةِ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُ وَعْدٌ مُوفًّى بِهِ فَوَقَعَتْ جُمْلَةُ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ بَيَانًا لِمَعْنَى وَعْدَ اللَّهِ.
وَالْمِيعَادُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنى الْوَعْد.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ احْتِرَازًا عَنْ نَوْعٍ مِنَ الْغُرَفِ تَكُونُ نَحْتًا فِي الْحَجَرِ فِي الْجِبَالِ مِثْلُ غُرَفِ ثَمُودَ، وَمِثْلُ مَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْجَنُوبِ التُّونِسِيِّ غُرَفًا، وَهِيَ بُيُوتٌ مَنْقُورَةٌ فِي جبال (مدنين) و (مطماطة) و (تطاوين) وَانْظُرْ هَلْ تُسَمَّى تِلْكَ الْبُيُوتُ غُرَفًا فِي الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّ كُتُبَ اللُّغَةِ لَمْ تَصِفْ مُسَمَّى الْغُرْفَةِ وَصْفًا شَافِيًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيَّةٌ وَصْفًا لِلْغُرَفِ بِاعْتِبَارِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهَا مِنْ مَعْنَى الْمَبْنِيِّ الْمُعْتَلِي فَيَكُونُ الْوَصْفُ دَالًّا عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ مَبْنِيَّةٌ بِنَاءً بَالِغًا الْغَايَةَ فِي نَوْعِهِ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَظِلٌّ ظَلِيلٌ.
وَجَرْيُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا مِنْ كَمَالِ حُسْنِ مَنْظَرِهَا لِلْمُطِلِّ مِنْهَا. وَمَعْنَى مِنْ تَحْتِهَا أَنَّ الْأَنْهَارَ تَمُرُّ عَلَى مَا يُجَاوِرُ تَحْتَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٥]، فَأُطْلِقَ اسْمُ «تَحْتٍ» عَلَى مُجَاوِرِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أُسُسِهَا الْأَنْهَارُ، أَيْ تَخْتَرِقُ أُسُسَهَا وَتَمُرُّ
فِيهَا وَفِي سَاحَاتِهَا، وَذَلِكَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُرَى فِي الدِّيَارِ كَدِيَارِ دِمَشْقَ وَقَصْرِ الْحَمْرَاءِ بِالْأَنْدَلُسِ وَدِيَارِ أَهْلِ التَّرَفِ فِي مَدِينَةِ فَاسٍ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ «تَحْتِ» حَقِيقَةً.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ غُرْفَةٍ مِنْهَا يَجْرِي تَحْتَهَا نَهَرٌ فَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ لِيُقَسَّمَ عَلَى الْآحَادِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصْعَدَ الْمَاءُ إِلَى كُلِّ غُرْفَةٍ فَيَجْرِي تَحْتَهَا.
ووَعْدَ اللَّهِ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَهُمْ غُرَفٌ فِي مَعْنَى: وَعَدَهُمُ اللَّهُ غُرَفًا وَعَدًا مِنْهُ. وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ غُرَفٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَعْداً عَلَيْنا، وَإِضَافَةُ وَعْدَ إِلَى اَسْمِ الْجَلَالَةِ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُ وَعْدٌ مُوفًّى بِهِ فَوَقَعَتْ جُمْلَةُ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ بَيَانًا لِمَعْنَى وَعْدَ اللَّهِ.
وَالْمِيعَادُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنى الْوَعْد.
375
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ إِلَى غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ هُدَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْغَرَضُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ وَانْثَنَى الْكَلَامُ مِنْهُ إِلَى الِاسْتِطْرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ٢] إِلَى هُنَا، فَهَذَا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ [الزمر: ٢٢، ٢٣] فَمُثِّلَتْ حَالَةُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَاهْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْوَعْدِ بِنَمَاءِ ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ، بِحَالَةِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَنَبَاتِ الزَّرْعِ بِهِ وَاكْتِمَالِهِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَجْزِئَةِ أَجْزَائِهِ عَلَى أَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا:
فَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ تَشْبِيهٌ لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ لِإِحْيَاءِ الْقُلُوبِ، وَإِسْلَاكُ الْمَاءِ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ تَشْبِيهٌ لِتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ، وَإِخْرَاجُ الزَّرْعِ الْمُخْتَلِفِ الْأَلْوَانِ تَشْبِيهٌ لِحَالِ اخْتِلَافِ النَّاسِ مِنْ طَيِّبٍ وَغَيْرِهِ، وَنَافِعٍ وَضَارٍّ، وَهِيَاجُ الزَّرْعِ تَشْبِيهٌ لِتَكَاثُرِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِحَالَةِ الْمَمَاتِ وَاسْتِوَاءِ النَّاسِ فِيهَا مِنْ نَافِعٍ وَضَارٍّ. وَفِي تَعْقِيبِ هَذَا بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: ٢٢، ٢٣] إِشَارَةٌ إِلَى الْعِبْرَةِ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ تَمْثِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعلم كَمثل الْغَيْث الْكثير أصَاب أَرضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ
فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ الله ونفعه مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»
. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَصَالَةً وَإِدْمَاجًا عَلَى عَكْسِ مَا بَيَّنَّا، فَيَكُونُ عُودًا إِلَى
376
الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ الله تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلِيلٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي يُشَاهِدُهَا النَّاسُ مُشَاهَدَةً مُتَكَرِّرَةً، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً إِلَى قَوْله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (١) مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الزمر: ٦] الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: ٥]، وَيَكُونُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَانْتِفَاعِ الْمُؤْمِنِينَ إِدْمَاجًا فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ أُدْمِجَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ إِيمَاءً إِلَى إِمْكَانِ إِحْيَاءِ النَّاسِ حَيَاةً ثَانِيَةً.
وَالْكَلَامُ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُخَاطَبًا مُعَيَّنًا. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةُ.
وَقَوْلُهُ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فِي سُورَة الْأَنْعَام [٩٩].
وفَسَلَكَهُ أَدْخَلَهُ، أَيْ جَعَلَهُ سَالِكًا، أَيْ دَاخِلًا، فَفِعْلُ سَلَكَ هُنَا مُتَعَدٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا فِي سُورَةِ طه [٥٣]، وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ أَنَّ فِعْلَ سَلَكَ يَكُونُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَهَذَا الْإِدْخَالُ دَلِيلٌ ثَانٍ.
ويَنابِيعَ جَمْعُ يَنْبُوعٍ وَهُوَ الْعَيْنُ مِنَ الْمَاءِ، تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٠]. وَانْتَصَبَ يَنابِيعَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مَاءً. وَتَصْيِيرُ الْمَاءِ الدَّاخِلِ فِي الْأَرْضِ يَنَابِيعَ دَلِيلٌ ثَالِثٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ.
وَعَطَفَ بِ ثُمَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ بِحَرْفِ ثُمَّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الزَّرْعِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ إِقْحَالِهَا أَوْقَعُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِأَبْصَارِهِمْ وَأَنْفَعُ لِعَيْشِهِمْ وَإِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَطَرِ. وَهَذَا الْإِخْرَاجُ دَلِيلٌ رَابِعٌ.
وَالْأَلْوَانُ: جَمْعُ لَوْنٍ، وَاللَّوْنُ: كَيْفِيَّةٌ لَائِحَةٌ عَلَى ظَاهِرِ الْجِسْمِ فِي الضَّوْءِ، وَتَقَدَّمَ فِي
سُورَةِ فَاطِرٍ
_________
(١) فِي المطبوعة إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.
وَالْكَلَامُ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُخَاطَبًا مُعَيَّنًا. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةُ.
وَقَوْلُهُ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فِي سُورَة الْأَنْعَام [٩٩].
وفَسَلَكَهُ أَدْخَلَهُ، أَيْ جَعَلَهُ سَالِكًا، أَيْ دَاخِلًا، فَفِعْلُ سَلَكَ هُنَا مُتَعَدٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا فِي سُورَةِ طه [٥٣]، وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ أَنَّ فِعْلَ سَلَكَ يَكُونُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَهَذَا الْإِدْخَالُ دَلِيلٌ ثَانٍ.
ويَنابِيعَ جَمْعُ يَنْبُوعٍ وَهُوَ الْعَيْنُ مِنَ الْمَاءِ، تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٠]. وَانْتَصَبَ يَنابِيعَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مَاءً. وَتَصْيِيرُ الْمَاءِ الدَّاخِلِ فِي الْأَرْضِ يَنَابِيعَ دَلِيلٌ ثَالِثٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ.
وَعَطَفَ بِ ثُمَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ بِحَرْفِ ثُمَّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الزَّرْعِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ إِقْحَالِهَا أَوْقَعُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِأَبْصَارِهِمْ وَأَنْفَعُ لِعَيْشِهِمْ وَإِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَطَرِ. وَهَذَا الْإِخْرَاجُ دَلِيلٌ رَابِعٌ.
وَالْأَلْوَانُ: جَمْعُ لَوْنٍ، وَاللَّوْنُ: كَيْفِيَّةٌ لَائِحَةٌ عَلَى ظَاهِرِ الْجِسْمِ فِي الضَّوْءِ، وَتَقَدَّمَ فِي
سُورَةِ فَاطِرٍ
_________
(١) فِي المطبوعة إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.
377
وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ الزَّرْعِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الزَّرْعِ لَوْنًا وَلِنَوْرِهَا أَلْوَانًا وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الزَّرْعِ أَلْوَانٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي أَطْوَارِ نَبَاتِهِ وَبُلُوغِهِ أَشُدَّهُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَعَ اتِّحَادِ الْأَرْضِ الَّتِي تَنْبُتُ فِيهَا وَاتِّحَادِ الْمَاءِ الَّذِي نَبَتَ بِهِ آيَةٌ خَامِسَةٌ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ.
وَمَعْنَى يَهِيجُ يُغْلُظُ وَيَرْتَفِعُ. وَحَقِيقَةُ الْهِيَاجِ: ثَوْرَةُ الْإِنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ، وَيُسْتَعَارُ الْهِيَاجُ لِشِدَّةِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ يُقَالُ: هَاجَتْ رِيحٌ، وَمِنْهُ هِيَاجُ الزَّرْعِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الزَّرْعَ تَطُولُ سُوقُهُ وَسَنَابِلُهُ فَيَتِمُّ جَفَافُهُ فَإِذَا تَحَرَّكَ بِمُرُورِ الرِّيحِ عَلَيْهِ صَارَ لَهُ حَفِيفٌ وَخَشْخَشَةٌ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَبُّ وَالْكَلَأُ وَهَذَا الطَّوْرُ آيَةٌ سَادِسَةٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ.
وَالْحُطَامُ: الْمَحْطُومُ، أَيِ الْمَكْسُورُ الْمَفْتُوتُ، وَوَزْنُ فُعَالٍ (بِضَمِّ الْفَاءِ) يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْفُتَاتِ وَالدُقَاقِ، وَمُثُلُهُ الْفُعَالَةُ كَالصُبَابَةِ وَالْقُلَامَةِ وَالْقُمَامَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَبْلُغُ مِنَ الْيَبْسِ إِلَى حَدِّ أَنْ يَتَحَطَّمَ وَيَتَكَسَّرَ بِحَكِّ بَعْضِهِ بَعْضًا وَتَسَاقُطِهِ وَكَسْرِ الرِّيحِ إِيَّاهُ. وَهَذَا الطَّوْرُ آيَةٌ سَابِعَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ. وَجَمِيعُهَا آيَاتٌ عَلَى دِقَّةِ صُنْعِهِ وَكَيْفَ أَوْدَعَ الْأَطْوَارَ الْكَثِيرَةَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ طَوْرِ وُجُودِهِ إِلَى طَوْرِ اضْمِحْلَالِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ مُبَيِّنَةٌ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَفَذْلَكَةٌ لِلْأَطْوَارِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهَا، فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِنْزَالِ إِلَى أَخِرِ الْأَطْوَارِ.
وَالْمُرَادُ: ذِكْرَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَا يَغْفُلُ عَنْهُ الْعَاقِلُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الذِّكْرَى لِمَا يَذْهَلُ عَنْهُ الْعَاقِلُ مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ مَبْدَئِهَا إِلَى مُنْتَهَاهَا. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تَصْلُحُ مِثَالًا لِتَقْرِيبِ الْبَعْثِ فَإِنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْبَاتَهَا بِسَبَبِهِ أَمْرٌ يَتَجَدَّدُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَا عَلَيْهَا مِنَ النَّبَاتِ حُطَامًا، وَتَخَلَّلَتْ زَرَارِيعُهُ الْأَرْضَ فَنَبَتَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِنُزُولِ الْمَاءِ، فَكَذَلِكَ يُعُودُ الْإِنْسَانُ بَعْدَ فَنَائِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً [نوح: ١٧، ١٨] فَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ إِدْمَاجَ تَقْرِيبِ الْبَعْثِ وَإِمْكَانِهِ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ، وَمِنْ
وَمَعْنَى يَهِيجُ يُغْلُظُ وَيَرْتَفِعُ. وَحَقِيقَةُ الْهِيَاجِ: ثَوْرَةُ الْإِنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ، وَيُسْتَعَارُ الْهِيَاجُ لِشِدَّةِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ يُقَالُ: هَاجَتْ رِيحٌ، وَمِنْهُ هِيَاجُ الزَّرْعِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الزَّرْعَ تَطُولُ سُوقُهُ وَسَنَابِلُهُ فَيَتِمُّ جَفَافُهُ فَإِذَا تَحَرَّكَ بِمُرُورِ الرِّيحِ عَلَيْهِ صَارَ لَهُ حَفِيفٌ وَخَشْخَشَةٌ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَبُّ وَالْكَلَأُ وَهَذَا الطَّوْرُ آيَةٌ سَادِسَةٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ.
وَالْحُطَامُ: الْمَحْطُومُ، أَيِ الْمَكْسُورُ الْمَفْتُوتُ، وَوَزْنُ فُعَالٍ (بِضَمِّ الْفَاءِ) يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْفُتَاتِ وَالدُقَاقِ، وَمُثُلُهُ الْفُعَالَةُ كَالصُبَابَةِ وَالْقُلَامَةِ وَالْقُمَامَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَبْلُغُ مِنَ الْيَبْسِ إِلَى حَدِّ أَنْ يَتَحَطَّمَ وَيَتَكَسَّرَ بِحَكِّ بَعْضِهِ بَعْضًا وَتَسَاقُطِهِ وَكَسْرِ الرِّيحِ إِيَّاهُ. وَهَذَا الطَّوْرُ آيَةٌ سَابِعَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ. وَجَمِيعُهَا آيَاتٌ عَلَى دِقَّةِ صُنْعِهِ وَكَيْفَ أَوْدَعَ الْأَطْوَارَ الْكَثِيرَةَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ طَوْرِ وُجُودِهِ إِلَى طَوْرِ اضْمِحْلَالِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ مُبَيِّنَةٌ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَفَذْلَكَةٌ لِلْأَطْوَارِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهَا، فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِنْزَالِ إِلَى أَخِرِ الْأَطْوَارِ.
وَالْمُرَادُ: ذِكْرَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَا يَغْفُلُ عَنْهُ الْعَاقِلُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الذِّكْرَى لِمَا يَذْهَلُ عَنْهُ الْعَاقِلُ مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ مَبْدَئِهَا إِلَى مُنْتَهَاهَا. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تَصْلُحُ مِثَالًا لِتَقْرِيبِ الْبَعْثِ فَإِنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْبَاتَهَا بِسَبَبِهِ أَمْرٌ يَتَجَدَّدُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَا عَلَيْهَا مِنَ النَّبَاتِ حُطَامًا، وَتَخَلَّلَتْ زَرَارِيعُهُ الْأَرْضَ فَنَبَتَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِنُزُولِ الْمَاءِ، فَكَذَلِكَ يُعُودُ الْإِنْسَانُ بَعْدَ فَنَائِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً [نوح: ١٧، ١٨] فَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ إِدْمَاجَ تَقْرِيبِ الْبَعْثِ وَإِمْكَانِهِ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ، وَمِنْ
378
ذَلِكَ أَنَّهَا تَصْلُحُ مَثَلًا لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْمَقْصُودُ: تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّجَوُّزُ فِي مُفْرَدَاتِ هَذَا الْمُرَكَّبِ بِأَنْ يُطْلَبَ لِكُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الدُّنْيَا طَوْرٌ يَشْتَبِهُ بِهِ مِنْ أَطْوَارِ النَّبَاتِ. وَمِنْهَا أَنَّهَا مَثَلٌ لِأَطْوَارِ الْإِنْسَانِ مِنْ طَوْرِ النُّطَفِ إِلَى الشَّبَابِ إِلَى الشَّيْخُوخَةِ ثُمَّ الْهَلَاكِ، وَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ مَعَ إِمْكَانِ تَوْزِيعِ تَشْبِيهِ كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِطَوْرٍ مِنْ أطوار الْحَالة الْمُشبه بِهَا وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاع التمثيلية.
وأولي اَلْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِأَلْبَابِهِمْ فَيَهْتَدُونَ بِمَا نُصِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ٩]، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا فَآمَنُوا. وَفِي هَذَا تَعْرِيض بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَدِمُوا الْعُقُولَ.
[٢٢]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ [الزمر: ٢٠] وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ فُرِّعَ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ.
وَ (مَنْ) مُوصِلَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ مِمَّا اقْتَضَاهُ حَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ مِنْ مُخَالَفَةِ حَالِهِ لِحَالِ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ مِثْلُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ تَقْدِيرُهُ: مِثْلُ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ اللَّاحِقِ.
وَشَرْحُ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ اسْتِعَارَةٌ لِقَبُولِ الْعَقْلِ هُدَى الْإِسْلَامِ وَمَحَبَّتِهِ. وَحَقِيقَةُ الشَّرْحِ أَنَّهُ: شَقُّ اللَّحْمِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ عِلْمُ مُشَاهِدَةِ بَاطِنِ الْأَسْبَابِ وَتَرْكِيبِهِ عِلْمُ التَّشْرِيحِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى شَقِّ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا تَحْتَ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ إِذَا تَحَيَّرَ وَتَرَدَّدَ فِي أَمْرٍ يَجِدُ فِي نَفسه غما يَتَأَثَّرُ مِنْهُ جِهَازُهُ الْعَصَبِيُّ فَيَظْهَرُ تَأَثُّرُهُ فِي انْضِغَاطِ نَفْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ تُنَفُّسُهُ عَسِيرًا وَيَكْثُرُ تَنَهُّدُهُ وَكَانَ
وأولي اَلْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِأَلْبَابِهِمْ فَيَهْتَدُونَ بِمَا نُصِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ٩]، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا فَآمَنُوا. وَفِي هَذَا تَعْرِيض بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَدِمُوا الْعُقُولَ.
[٢٢]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ [الزمر: ٢٠] وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ فُرِّعَ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ.
وَ (مَنْ) مُوصِلَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ مِمَّا اقْتَضَاهُ حَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ مِنْ مُخَالَفَةِ حَالِهِ لِحَالِ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ مِثْلُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ تَقْدِيرُهُ: مِثْلُ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ اللَّاحِقِ.
وَشَرْحُ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ اسْتِعَارَةٌ لِقَبُولِ الْعَقْلِ هُدَى الْإِسْلَامِ وَمَحَبَّتِهِ. وَحَقِيقَةُ الشَّرْحِ أَنَّهُ: شَقُّ اللَّحْمِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ عِلْمُ مُشَاهِدَةِ بَاطِنِ الْأَسْبَابِ وَتَرْكِيبِهِ عِلْمُ التَّشْرِيحِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى شَقِّ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا تَحْتَ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ إِذَا تَحَيَّرَ وَتَرَدَّدَ فِي أَمْرٍ يَجِدُ فِي نَفسه غما يَتَأَثَّرُ مِنْهُ جِهَازُهُ الْعَصَبِيُّ فَيَظْهَرُ تَأَثُّرُهُ فِي انْضِغَاطِ نَفْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ تُنَفُّسُهُ عَسِيرًا وَيَكْثُرُ تَنَهُّدُهُ وَكَانَ
379
عُضْوُ التَّنَفُّسِ فِي الصَّدْرِ، شُبِّهَ ذَلِكَ الِانْضِغَاطُ بِالضِّيقِ وَالِانْطِبَاقِ فَقَالُوا: ضَاقَ صَدْرُهُ، قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: وَيَضِيقُ صَدْرِي [الشُّعَرَاء: ١٣]، وَقَالُوا:
انْطَبَقَ صَدْرُهُ وَانْطَبَقَتْ أَضْلَاعُهُ وَقَالُوا فِي ضِدِّ ذَلِكَ: شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٥]، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ فِي انْشِرَاحٍ، أَيْ يُحِسُّ كَأَنَّ صَدْرَهُ شُرِحَ وَوُسِّعَ.
وَمِنْ رَشَاقَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ إِيثَارُ كَلِمَةِ شَرَحَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ وَأَخْلَاقَهُ وَآدَابَهُ تُكْسِبُ الْمُسْلِمَ فَرَحًا بِحَالِهِ وَمَسَرَّةً بِرِضَى رَبِّهِ وَاسْتِخْفَافًا لِلْمَصَائِبِ وَالْكَوَارِثِ لِجَزْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى حَقٍّ فِي أَمْرِهِ وَأَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى ضُرِّهِ وَأَنَّهُ رَاجٍ رَحْمَةَ رَبِّهِ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِعَدَمِ مُخَالَطَةِ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ ضَمِيرَهُ.
فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ أَوَّلُ مَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُهُ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ بِأَنَّهُ ارْتَفَعَ دَرَجَاتٍ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا حَالَةَ الشِّرْكِ أَنِ اجْتَنَبَ عِبَادَةَ أَحْجَارٍ هُوَ أَشْرَفُ مِنْهَا وَمُعْظَمُ مُمْتَلَكَاتِهِ أَشْرَفُ مِنْهَا كَفَرَسِهِ وَجَمَلِهِ وَعَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَمَاشِيَتِهِ وَنَخْلِهِ، فَشَعَرَ بِعِزَّةِ نَفْسِهِ مُرْتَفِعًا عَمَّا انْكَشَفَ لَهُ مِنْ مَهَانَتِهَا السَّابِقَةِ الَّتِي غَسَلَهَا عَنْهُ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَنْطِقُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَيَتَّسِمُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ وَمَحَبَّةِ فِعْلِ الْخَيْرِ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَلَا يَنْطَوِي بَاطِنُهُ عَلَى غِلٍّ وَلَا حَسَدٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأَصْبَحَ يَعُدُّ الْمُسْلِمِينَ لِنَفْسِهِ إِخْوَانًا، وَقَدْ تَرَكَ الِاكْتِسَابَ بِالْغَارَةِ وَالْمَيْسِرِ، وَاسْتَغْنَى بِالْقَنَاعَةِ عَنِ الضَّرَاعَةِ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا مَسَّهُ ضَرٌّ رَجَا زَوَالَهُ وَلَمْ يَيْأَسْ مِنْ تَغَيُّرِ حَالِهِ. وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى تَحَمُّلِهِ وَصَبْرِهِ، وَإِذَا مَسَّتْهُ نِعْمَةٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَتَرَقَّبَ الْمَزِيدَ، فَكَانَ صَدْرُهُ مُنْشَرِحًا بِالْإِسْلَامِ مُتَلَقِّيًا الْحَوَادِثَ بِاسْتِبْصَارٍ غَيْرَ هَيَّابٍ شُجَاعَ الْقَلْبِ عَزِيزَ النَّفْسِ.
وَاللَّامُ فِي لِلْإِسْلامِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ شَرَحَهُ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ لِأَجْلِ قَبُولِهِ. وَفُرِّعَ عَلَى أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مِنْ.
انْطَبَقَ صَدْرُهُ وَانْطَبَقَتْ أَضْلَاعُهُ وَقَالُوا فِي ضِدِّ ذَلِكَ: شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٥]، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ فِي انْشِرَاحٍ، أَيْ يُحِسُّ كَأَنَّ صَدْرَهُ شُرِحَ وَوُسِّعَ.
وَمِنْ رَشَاقَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ إِيثَارُ كَلِمَةِ شَرَحَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ وَأَخْلَاقَهُ وَآدَابَهُ تُكْسِبُ الْمُسْلِمَ فَرَحًا بِحَالِهِ وَمَسَرَّةً بِرِضَى رَبِّهِ وَاسْتِخْفَافًا لِلْمَصَائِبِ وَالْكَوَارِثِ لِجَزْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى حَقٍّ فِي أَمْرِهِ وَأَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى ضُرِّهِ وَأَنَّهُ رَاجٍ رَحْمَةَ رَبِّهِ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِعَدَمِ مُخَالَطَةِ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ ضَمِيرَهُ.
فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ أَوَّلُ مَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُهُ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ بِأَنَّهُ ارْتَفَعَ دَرَجَاتٍ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا حَالَةَ الشِّرْكِ أَنِ اجْتَنَبَ عِبَادَةَ أَحْجَارٍ هُوَ أَشْرَفُ مِنْهَا وَمُعْظَمُ مُمْتَلَكَاتِهِ أَشْرَفُ مِنْهَا كَفَرَسِهِ وَجَمَلِهِ وَعَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَمَاشِيَتِهِ وَنَخْلِهِ، فَشَعَرَ بِعِزَّةِ نَفْسِهِ مُرْتَفِعًا عَمَّا انْكَشَفَ لَهُ مِنْ مَهَانَتِهَا السَّابِقَةِ الَّتِي غَسَلَهَا عَنْهُ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَنْطِقُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَيَتَّسِمُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ وَمَحَبَّةِ فِعْلِ الْخَيْرِ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَلَا يَنْطَوِي بَاطِنُهُ عَلَى غِلٍّ وَلَا حَسَدٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأَصْبَحَ يَعُدُّ الْمُسْلِمِينَ لِنَفْسِهِ إِخْوَانًا، وَقَدْ تَرَكَ الِاكْتِسَابَ بِالْغَارَةِ وَالْمَيْسِرِ، وَاسْتَغْنَى بِالْقَنَاعَةِ عَنِ الضَّرَاعَةِ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا مَسَّهُ ضَرٌّ رَجَا زَوَالَهُ وَلَمْ يَيْأَسْ مِنْ تَغَيُّرِ حَالِهِ. وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى تَحَمُّلِهِ وَصَبْرِهِ، وَإِذَا مَسَّتْهُ نِعْمَةٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَتَرَقَّبَ الْمَزِيدَ، فَكَانَ صَدْرُهُ مُنْشَرِحًا بِالْإِسْلَامِ مُتَلَقِّيًا الْحَوَادِثَ بِاسْتِبْصَارٍ غَيْرَ هَيَّابٍ شُجَاعَ الْقَلْبِ عَزِيزَ النَّفْسِ.
وَاللَّامُ فِي لِلْإِسْلامِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ شَرَحَهُ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ لِأَجْلِ قَبُولِهِ. وَفُرِّعَ عَلَى أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مِنْ.
380
وَالنُّورُ: مُسْتَعَارٌ لِلْهُدَى وَوُضُوحِ الْحَقِّ لِأَنَّ النُّورَ بِهِ تَنْجَلِي الْأَشْيَاءُ وَيَخْرُجُ الْمُبْصِرُ مِنْ غَيَاهِبِ الضَّلَالَةِ وَتَرَدُّدِ اللَّبْسِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ وَالْأَشْبَاحِ.
وَاسْتُعِيرَتْ عَلى اسْتِعَارَةٍ تَبَعِيَّةٍ أَوْ تَمْثِيلِيَّةٍ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ النُّورِ كَمَا اسْتُعِيرَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُقَرَّرَيْنِ هُنَالِكَ. ومِنْ رَبِّهِ نعت ل- نُورٍ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ نُورٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ نُورٌ كَامِلٌ لَا تُخَالِطُهُ ظَلَمَةٌ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَى اسْمِ اللَّهِ فِي قَوْله تَعَالَى: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ النُّورِ [٣٥].
فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فُرِّعَ عَلَى وَصْفِ حَالِ مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى حَالِ ضِدِّهِ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَحِ اللَّهُ صُدُورَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَكَانَتْ لِقُلُوبِهِمْ قَسَاوَةٌ فُطِرُوا عَلَيْهَا فَلَا تَسْلُكُ دَعْوَةُ الْخَيْرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ. وَأُجْمِلَ سُوءُ حَالِهِمْ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كلمة فَوَيْلٌ مِنْ بُلُوغِهِمْ أَقْصَى غَايَاتِ الشقاوة والتعاسة، وَقد تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعَانِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: ٧٩].
وَالْقَاسِي: الْمُتَّصِفُ بِالْقَسَاوَةِ فِي الْحَالِ، وَحَقِيقَةُ الْقَسَاوَةِ: الْغِلَظُ وَالصَّلَابَةُ فِي الْأَجْسَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الْبَقَرَة: ٧٤].
وقسوة الْقَلْبِ: مُسْتَعَارَةٌ لِقِلَّةِ تَأَثُّرِ الْعَقْلِ بِمَا يُسْدَى إِلَى صَاحِبِهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَنَحْوِهَا، وَيُقَابِلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ اسْتِعَارَةُ اللِّينِ لِسُرْعَةِ التَّأَثُّرِ بِالنَّصَائِحِ وَنَحْوِهَا، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ [الزمر: ٢٣].
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (عَنْ) بِتَضْمِينِ الْقاسِيَةِ مَعْنَى الْمُعْرِضَةِ وَالنَّافِرَةِ، وَقَدْ عُدَّ مُرَادِفُ مَعْنَى (عَنْ) مِنْ مَعَانِي مِنْ، وَاسْتُشْهِدَ لَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبُ» بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: ٢٢]، وَفِيهِ نظر، لِإِمْكَان حملهما عَلَى مَعْنَيَيْنِ شَائِعَيْنِ مِنْ مَعَانِي مِنْ وَهُمَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى كَقَوْلِهِمْ: سَقَاهُمْ مِنَ الْغَيْمَةِ، أَيْ لِأَجْلِ
وَاسْتُعِيرَتْ عَلى اسْتِعَارَةٍ تَبَعِيَّةٍ أَوْ تَمْثِيلِيَّةٍ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ النُّورِ كَمَا اسْتُعِيرَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُقَرَّرَيْنِ هُنَالِكَ. ومِنْ رَبِّهِ نعت ل- نُورٍ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ نُورٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ نُورٌ كَامِلٌ لَا تُخَالِطُهُ ظَلَمَةٌ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَى اسْمِ اللَّهِ فِي قَوْله تَعَالَى: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ النُّورِ [٣٥].
فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فُرِّعَ عَلَى وَصْفِ حَالِ مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى حَالِ ضِدِّهِ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَحِ اللَّهُ صُدُورَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَكَانَتْ لِقُلُوبِهِمْ قَسَاوَةٌ فُطِرُوا عَلَيْهَا فَلَا تَسْلُكُ دَعْوَةُ الْخَيْرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ. وَأُجْمِلَ سُوءُ حَالِهِمْ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كلمة فَوَيْلٌ مِنْ بُلُوغِهِمْ أَقْصَى غَايَاتِ الشقاوة والتعاسة، وَقد تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعَانِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: ٧٩].
وَالْقَاسِي: الْمُتَّصِفُ بِالْقَسَاوَةِ فِي الْحَالِ، وَحَقِيقَةُ الْقَسَاوَةِ: الْغِلَظُ وَالصَّلَابَةُ فِي الْأَجْسَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الْبَقَرَة: ٧٤].
وقسوة الْقَلْبِ: مُسْتَعَارَةٌ لِقِلَّةِ تَأَثُّرِ الْعَقْلِ بِمَا يُسْدَى إِلَى صَاحِبِهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَنَحْوِهَا، وَيُقَابِلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ اسْتِعَارَةُ اللِّينِ لِسُرْعَةِ التَّأَثُّرِ بِالنَّصَائِحِ وَنَحْوِهَا، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ [الزمر: ٢٣].
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (عَنْ) بِتَضْمِينِ الْقاسِيَةِ مَعْنَى الْمُعْرِضَةِ وَالنَّافِرَةِ، وَقَدْ عُدَّ مُرَادِفُ مَعْنَى (عَنْ) مِنْ مَعَانِي مِنْ، وَاسْتُشْهِدَ لَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبُ» بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: ٢٢]، وَفِيهِ نظر، لِإِمْكَان حملهما عَلَى مَعْنَيَيْنِ شَائِعَيْنِ مِنْ مَعَانِي مِنْ وَهُمَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى كَقَوْلِهِمْ: سَقَاهُمْ مِنَ الْغَيْمَةِ، أَيْ لِأَجْلِ
381
الْعَطَشِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَجَعَلَ الْمَعْنَى: أَنَّ قَسْوَةَ قُلُوبِهِمْ حَصَلَتْ فِيهِمْ مِنْ أَجْلِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَعْنَى الِابْتِدَاءِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، أَيْ قَسَتْ قُلُوبُهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ سَمَاعِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ الْقُرْآنُ وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ زِيَادَةُ تَشْرِيفٍ لَهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ آيَةٌ اشْمَأَزُّوا فَتَمَكَّنَ الِاشْمِئْزَازُ مِنْهُمْ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ كُفْرَهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى كَرَاهِيَةِ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْقُرْآنِ فَكُلَّمَا سَمِعُوهُ أَعْرَضُوا وَعَانَدُوا وَتَجَدَّدَتْ كَرَاهِيَةُ الْإِسْلَامِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى تُرَسَّخَ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةُ فِي قُلُوبِهِمْ فَتَصِيرَ قُلُوبُهُمْ قَاسِيَةً.
فَكَانَ الْقُرْآنُ أَنْ سَبَّبَ اطْمِئْنَانَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: ٢٨]. وَكَانَ سَبَبًا فِي قَسَاوَةِ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْقَابِلِيَّةِ فَإِنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ آثَارُهُ وَأَفْعَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْقَابِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ خَصَائِصُ الْأَشْيَاءِ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ آثَارِهَا فِي غَالِبِ الْمُتَأَثِّرَاتِ، فَذِكْرُ اللَّهِ سَبَبٌ فِي لِينِ الْقُلُوبِ وَإِشْرَاقِهَا إِذَا كَانَتِ الْقُلُوبُ سَلِيمَةً مِنْ مَرِضِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالْكِبْرِ، فَإِذَا حَلَّ فِيهَا هَذَا الْمَرَضُ صَارَتْ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عِنْدَهَا أَشَدَّ مَرَضًا مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ قَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ عِنْدَهُمْ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَتَسَاءَلَ: كَيْفَ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ سَبَبَ قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ؟ فَأُفِيدَ بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ الضَّلَالَةِ مُنْغَمِسُونَ فِي حَمْأَتِهَا فَكَانَ ضَلَالُهُمْ أَشَدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَشَّعَ حِينَ يَسْمَعُونَ ذِكْرَ اللَّهِ.
وَافْتِتَاحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ مَا وُصِفُوا بِهِ مِنْ قَسَاوَةِ الْقُلُوبِ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ صَارُوا بِهِ أَحْرِيَاءَ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥]، فَكَانَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ:
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهُوَ الضَّلَالُ الشَّدِيدُ عِلَّةً لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ آيَةٌ اشْمَأَزُّوا فَتَمَكَّنَ الِاشْمِئْزَازُ مِنْهُمْ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ كُفْرَهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى كَرَاهِيَةِ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْقُرْآنِ فَكُلَّمَا سَمِعُوهُ أَعْرَضُوا وَعَانَدُوا وَتَجَدَّدَتْ كَرَاهِيَةُ الْإِسْلَامِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى تُرَسَّخَ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةُ فِي قُلُوبِهِمْ فَتَصِيرَ قُلُوبُهُمْ قَاسِيَةً.
فَكَانَ الْقُرْآنُ أَنْ سَبَّبَ اطْمِئْنَانَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: ٢٨]. وَكَانَ سَبَبًا فِي قَسَاوَةِ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْقَابِلِيَّةِ فَإِنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ آثَارُهُ وَأَفْعَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْقَابِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ خَصَائِصُ الْأَشْيَاءِ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ آثَارِهَا فِي غَالِبِ الْمُتَأَثِّرَاتِ، فَذِكْرُ اللَّهِ سَبَبٌ فِي لِينِ الْقُلُوبِ وَإِشْرَاقِهَا إِذَا كَانَتِ الْقُلُوبُ سَلِيمَةً مِنْ مَرِضِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالْكِبْرِ، فَإِذَا حَلَّ فِيهَا هَذَا الْمَرَضُ صَارَتْ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عِنْدَهَا أَشَدَّ مَرَضًا مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ قَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ عِنْدَهُمْ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَتَسَاءَلَ: كَيْفَ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ سَبَبَ قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ؟ فَأُفِيدَ بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ الضَّلَالَةِ مُنْغَمِسُونَ فِي حَمْأَتِهَا فَكَانَ ضَلَالُهُمْ أَشَدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَشَّعَ حِينَ يَسْمَعُونَ ذِكْرَ اللَّهِ.
وَافْتِتَاحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ مَا وُصِفُوا بِهِ مِنْ قَسَاوَةِ الْقُلُوبِ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ صَارُوا بِهِ أَحْرِيَاءَ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥]، فَكَانَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ:
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهُوَ الضَّلَالُ الشَّدِيدُ عِلَّةً لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ
382
حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ وُقُوعُ جُمْلَتِهِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَكَانَ مَضْمُونُهَا مَفْعُولًا لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ تَصْدِيرُ جُمْلَتِهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عقب وَصْفِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ.
وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْأَعْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ أَنْ تَكُونَ فَاعِلَةً وَمُنْفَعِلَةً بِاخْتِلَافِ الْمُثَارِ وَمَا تَتْرُكُهُ مِنَ الْآثَارِ لِأَنَّهَا عِلَلٌ وَمَعْلُولَاتٌ بِالِاعْتِبَارِ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مِنْهُمَا عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ التَّوَقُّفَ الْمُسَمَّى بِالدَّوْرِ الْمَعِيِّ.
وَالْمُبِينُ: الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يَخْفَى لِشِدَّتِهِ، فَالْمُبِينُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَالرُّسُوخِ فَهُوَ يَبِينُ لِلْمُتَأَمِّلِ أَنَّهُ ضَلَالٌ.
[٢٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ بِمُنَاسَبَةِ الْمُضَادَّةِ بَيْنَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٢]. وَمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُلَيِّنُ قُلُوبَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ وَجْهِ قَسْوَةِ قُلُوبِ الضَّالِّينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَكَانَتْ جُمْلَةُ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ هادٍ مُبَيِّنَةً أَنَّ قَسَاوَةَ قُلُوبِ الضَّالِّينَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هِيَ لِرَيْنٍ فِي قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لَا لِنَقْصٍ فِي هِدَايَتِهِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢] : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَة: ٦- ٧].
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكْمِيلٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ غَرَضُ السُّورَةِ وَسَيُقَفَّى بِثَنَاءٍ آخَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: ٢٧]
الْآيَةَ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ [الزمر: ٤١] ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: ٥٥].
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ يُؤْذِنُ بِتَفْخِيمِ أَحْسَنِ الْحَدِيثِ الْمُنَزَّلِ بِأَنَّ مُنْزِلَهُ هُوَ أَعْظَمُ عَظِيمٍ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَةِ الْحُكْمِ
وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْأَعْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ أَنْ تَكُونَ فَاعِلَةً وَمُنْفَعِلَةً بِاخْتِلَافِ الْمُثَارِ وَمَا تَتْرُكُهُ مِنَ الْآثَارِ لِأَنَّهَا عِلَلٌ وَمَعْلُولَاتٌ بِالِاعْتِبَارِ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مِنْهُمَا عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ التَّوَقُّفَ الْمُسَمَّى بِالدَّوْرِ الْمَعِيِّ.
وَالْمُبِينُ: الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يَخْفَى لِشِدَّتِهِ، فَالْمُبِينُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَالرُّسُوخِ فَهُوَ يَبِينُ لِلْمُتَأَمِّلِ أَنَّهُ ضَلَالٌ.
[٢٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ بِمُنَاسَبَةِ الْمُضَادَّةِ بَيْنَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٢]. وَمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُلَيِّنُ قُلُوبَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ وَجْهِ قَسْوَةِ قُلُوبِ الضَّالِّينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَكَانَتْ جُمْلَةُ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ هادٍ مُبَيِّنَةً أَنَّ قَسَاوَةَ قُلُوبِ الضَّالِّينَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هِيَ لِرَيْنٍ فِي قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لَا لِنَقْصٍ فِي هِدَايَتِهِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢] : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَة: ٦- ٧].
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكْمِيلٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ غَرَضُ السُّورَةِ وَسَيُقَفَّى بِثَنَاءٍ آخَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: ٢٧]
الْآيَةَ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ [الزمر: ٤١] ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: ٥٥].
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ يُؤْذِنُ بِتَفْخِيمِ أَحْسَنِ الْحَدِيثِ الْمُنَزَّلِ بِأَنَّ مُنْزِلَهُ هُوَ أَعْظَمُ عَظِيمٍ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَةِ الْحُكْمِ
383
وَتَحْقِيقِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ، وَيُفِيدُ مَعَ التَّقْوِيَةِ دَلَالَةً عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ اخْتِصَاصُ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى: اللَّهُ نَزَّلَ الْكِتَابَ لَا غَيْرُهُ وَضَعَهُ، فَفِيهِ إِثْبَاتٌ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عَالَمِ الْقُدْسِ، وَذَلِكَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ. فَدَلَّتِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَقَوٍّ وَاخْتِصَاصٍ بِالصَّرَاحَةِ، وَعَلَى اخْتِصَاصٍ بِالْكِنَايَةِ، وَإِذْ أُخِذَ مَفْهُومُ الْقَصْرِ وَمَفْهُومُ الْكِنَايَةِ وَهُوَ الْمُغَايِرُ لِمَنْطُوقِهِمَا كَذَلِكَ يُؤْخَذُ مُغَايِرُ التَّنْزِيلِ فِعْلًا يَلِيقُ بِوَضْعِ الْبَشَرِ، فَالتَّقْدِيرُ: لَا غَيْرَ اللَّهِ وَضَعَهُ، رَدًّا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٥] هُوَ أَنَّ التَّقَوِّيَ وَالِاخْتِصَاصَ يَجْتَمِعَانِ فِي إِسْنَادِ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ شُرَّاحُ «الْكَشَّافِ».
وَمُفَادُ هَذَا التَّقْدِيمِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِيهِ تَحْقِيقٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْإِضَافَةُ مِنَ التَّعْظِيمِ لِشَأْنِ الْمُضَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٢] كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا، فَالْمُرَادُ بِ- أَحْسَنَ الْحَدِيثِ عَيْنُ الْمُرَادِ بِ- ذِكْرِ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، عُدِلَ عَنْ ذِكْرِ ضَمِيرِهِ لِقَصْدِ إِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ عَلَيْهِ. وَهِيَ قَوْلُهُ: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ إِلَخْ، فَانْتَصَبَ كِتاباً عَلَى الْحَالِ مِنْ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَوْ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وَانْتُصِبَ مُتَشابِهاً عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ كِتاباً.
الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ. أَيْ أَحْسَنُ الْخَبَرِ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ، وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ، سُمِّيَ حَدِيثًا لِأَنَّ شَأْنَ الْإِخْبَارِ أَنْ يَكُونَ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ وَجَدَّ. سُمِّيَ الْقُرْآنُ حَدِيثًا بِاسْمِ بَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنَ الْإِنْشَاءِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغَهُ لِلنَّاسِ آلَ إِلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ.
وَقَدْ سُمِّيَ الْقُرْآنُ حَدِيثًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٥] هُوَ أَنَّ التَّقَوِّيَ وَالِاخْتِصَاصَ يَجْتَمِعَانِ فِي إِسْنَادِ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ شُرَّاحُ «الْكَشَّافِ».
وَمُفَادُ هَذَا التَّقْدِيمِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِيهِ تَحْقِيقٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْإِضَافَةُ مِنَ التَّعْظِيمِ لِشَأْنِ الْمُضَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٢] كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا، فَالْمُرَادُ بِ- أَحْسَنَ الْحَدِيثِ عَيْنُ الْمُرَادِ بِ- ذِكْرِ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، عُدِلَ عَنْ ذِكْرِ ضَمِيرِهِ لِقَصْدِ إِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ عَلَيْهِ. وَهِيَ قَوْلُهُ: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ إِلَخْ، فَانْتَصَبَ كِتاباً عَلَى الْحَالِ مِنْ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَوْ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وَانْتُصِبَ مُتَشابِهاً عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ كِتاباً.
الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ. أَيْ أَحْسَنُ الْخَبَرِ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ، وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ، سُمِّيَ حَدِيثًا لِأَنَّ شَأْنَ الْإِخْبَارِ أَنْ يَكُونَ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ وَجَدَّ. سُمِّيَ الْقُرْآنُ حَدِيثًا بِاسْمِ بَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنَ الْإِنْشَاءِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغَهُ لِلنَّاسِ آلَ إِلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ.
وَقَدْ سُمِّيَ الْقُرْآنُ حَدِيثًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
384
فِي سُورَةِ [الْأَعْرَافِ: ١٨٥]، وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً فِي سُورَةِ [الْكَهْفِ: ٦].
وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَخْبَارِ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى أَفْضَلِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ مِنَ الْمَعَانِي النَّافِعَةِ وَالْجَامِعَةِ لِأُصُولِ الْإِيمَانِ، وَالتَّشْرِيعِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ الْعَوَالِمِ وَالْكَائِنَاتِ، وَعَجَائِبِ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ، وَالْعَقْلِ، وَبَثِّ الْآدَابِ، وَاسْتِدْعَاءِ الْعُقُولِ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْحَقِّ، وَمِنْ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَبَلَاغَةِ مَعَانِيهِ الْبَالِغَيْنِ حَدَّ الْإِعْجَازِ، وَمِنْ كَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهَا. وَفِي إِسْنَادِ إِنْزَالِهِ إِلَى اللَّهِ اسْتِشْهَادٌ عَلَى حُسْنِهِ حَيْثُ نَزَّلَهُ الْعَلِيمُ بِنِهَايَةِ مَحَاسِنِ الْأَخْبَارِ وَالذِّكْرِ.
الْوَصْفُ الثَّانِي: أَنَّهُ كِتَابٌ، أَيْ مَجْمُوعُ كَلَامٍ مُرَادٌ قِرَاءَتُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَالِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ، مَأْمُورٌ بِكِتَابَتِهِ لِيَبْقَى حُجَّةً عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ فَإِنْ جُعِلَ الْكَلَامُ كِتَابًا يَقْتَضِي أَهَمِّيَّةَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْعِنَايَةَ بِتَنْسِيقِهِ وَالِاهْتِمَامَ بِحِفْظِهِ عَلَى حَالَتِهِ. وَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ كِتَابًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ كُتَّابَ الْوَحْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَكْتُبُوا كُلَّ آيَةٍ تَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ لَهَا بَيْنَ أَخَوَاتِهَا اسْتِنَادًا إِلَى أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَشَارَ إِلَى الْأَمْرِ بِكِتَابَتِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ (١) مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: ٢١- ٢٢] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَة: ٧٧- ٧٨].
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، أَيْ مُتَشَابِهَةٌ أَجْزَاؤُهُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهَا وَشَرَفِ مَعَانِيهَا، فَهِيَ مُتَكَافِئَةٌ فِي الشَّرَفِ وَالْحُسْنِ (وَهَذَا كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ مُتَنَاصِفَةٌ الْحُسْنِ، أَيْ أَنْصَفَتْ صِفَاتُهَا بَعْضُهَا بَعْضًا فَلَمْ يَزِدْ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٌ، قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
وَمِنْهُ: قَوْلُهُمْ وَجْهٌ مُقَسَّمٌ، أَيْ مُتَمَاثِلُ الْحُسْنِ، كَأَنَّ أَجْزَاءَهُ تَقَاسَمَتِ الْحُسْنَ وَتَعَادَلَتْهُ، قَالَ أَرَقَمُ بْنُ عَلْبَاءَ الْيَشْكُرِيُّ:
_________
(١) فِي المطبوعة (إِنَّه لقرآن)، وَهُوَ خطأ.
وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَخْبَارِ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى أَفْضَلِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ مِنَ الْمَعَانِي النَّافِعَةِ وَالْجَامِعَةِ لِأُصُولِ الْإِيمَانِ، وَالتَّشْرِيعِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ الْعَوَالِمِ وَالْكَائِنَاتِ، وَعَجَائِبِ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ، وَالْعَقْلِ، وَبَثِّ الْآدَابِ، وَاسْتِدْعَاءِ الْعُقُولِ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْحَقِّ، وَمِنْ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَبَلَاغَةِ مَعَانِيهِ الْبَالِغَيْنِ حَدَّ الْإِعْجَازِ، وَمِنْ كَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهَا. وَفِي إِسْنَادِ إِنْزَالِهِ إِلَى اللَّهِ اسْتِشْهَادٌ عَلَى حُسْنِهِ حَيْثُ نَزَّلَهُ الْعَلِيمُ بِنِهَايَةِ مَحَاسِنِ الْأَخْبَارِ وَالذِّكْرِ.
الْوَصْفُ الثَّانِي: أَنَّهُ كِتَابٌ، أَيْ مَجْمُوعُ كَلَامٍ مُرَادٌ قِرَاءَتُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَالِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ، مَأْمُورٌ بِكِتَابَتِهِ لِيَبْقَى حُجَّةً عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ فَإِنْ جُعِلَ الْكَلَامُ كِتَابًا يَقْتَضِي أَهَمِّيَّةَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْعِنَايَةَ بِتَنْسِيقِهِ وَالِاهْتِمَامَ بِحِفْظِهِ عَلَى حَالَتِهِ. وَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ كِتَابًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ كُتَّابَ الْوَحْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَكْتُبُوا كُلَّ آيَةٍ تَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ لَهَا بَيْنَ أَخَوَاتِهَا اسْتِنَادًا إِلَى أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَشَارَ إِلَى الْأَمْرِ بِكِتَابَتِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ (١) مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: ٢١- ٢٢] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَة: ٧٧- ٧٨].
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، أَيْ مُتَشَابِهَةٌ أَجْزَاؤُهُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهَا وَشَرَفِ مَعَانِيهَا، فَهِيَ مُتَكَافِئَةٌ فِي الشَّرَفِ وَالْحُسْنِ (وَهَذَا كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ مُتَنَاصِفَةٌ الْحُسْنِ، أَيْ أَنْصَفَتْ صِفَاتُهَا بَعْضُهَا بَعْضًا فَلَمْ يَزِدْ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٌ، قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
إِنِّي غَرِضْتُ إِلَى تَنَاصُفِ وَجْهِهَا | غَرَضَ الْمُحِبِّ إِلَى الْحَبِيبِ الْغَائِبِ |
وَيَوْمًا تَوَافَيْنَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمِ | كَأَنَّ ظَبْيَةً تَعْطُو إِلَى وَارْقِ السَّلَمِ |
(١) فِي المطبوعة (إِنَّه لقرآن)، وَهُوَ خطأ.
385
أَيْ بِوَجْهٍ قُسِّمَ الْحُسْنُ عَلَى أَجْزَائِهِ أَقْسَامًا.
فَمَعَانِيهُ مُتَشَابِهَةٌ فِي صِحَّتِهَا وَأَحْكَامِهَا وَابْتِنَائِهَا عَلَى الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَمُصَادَفَةِ الْمَحَزِّ مِنَ الْحُجَّةِ وَتَبْكِيتِ الْخُصُومِ وَكَوْنِهَا صَلَاحًا لِلنَّاسِ وَهُدًى. وَأَلْفَاظُهُ مُتَمَاثِلَةُ فِي الشَّرَفِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْإِصَابَةِ لِلْأَغْرَاضِ مِنَ الْمَعَانِي بِحَيْثُ تَبْلُغُ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهُ أَقْصَى مَا تَحْتَمِلُهُ أَشْرَفُ لُغَةٍ لِلْبَشَرِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ مُفْرَدَاتٍ وَنَظْمًا، وَبِذَلِكَ كَانَ مُعْجِزًا لكل بليغ عَن أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَفِي هَذَا
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ الْقُرْآنِ بَالِغٌ الطَّرَفَ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ وَأَنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي ذَلِكَ بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا، وَأَمَّا تَفَاوُتُهَا فِي كَثْرَةِ الْخُصُوصِيَّاتِ وَقِلَّتِهَا فَذَلِكَ تَابِعٌ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ بَلَاغَةَ الْكَلَامِ مُطَابَقَتُهُ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، وَالطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ هُوَ مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِجَمِيعِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، فَآيَاتُ الْقُرْآنِ مُتَمَاثِلَةُ مُتَشَابِهَةُ فِي الْحُسْنِ لَدَى أَهْلِ الذَّوْقِ مِنَ الْبُلَغَاءِ بِالسَّلِيقَةِ أَوْ بِالْعِلْمِ وَهُوَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ تَفَاوُتٍ رُبَّمَا بَلَغَ بَعْضُهُ مُبْلَغَ أَنْ لَا يُشْبِهَ بَقِيَّتَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: ٨٢]، فَالْكَاتِبُ الْبَلِيغُ وَالشَّاعِرُ الْمُجِيدُ لَا يَخْلُو كَلَامُ أَحَدٍ مِنْهُمَا مِنْ ضَعْفٍ فِي بَعْضِهِ، وَأَيْضًا لَا تَتَشَابَهُ أَقْوَالُ أَحَدٍ مِنْهُمَا بَلْ تَجِدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قِطَعًا مُتَفَاوِتَةً فِي الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ وَصِحَّةِ الْمَعَانِي. وَبِمَا قَرَّرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ مَعْنًى غَيْرَ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمرَان: ٧] لِاخْتِلَافِ مَا فِيهِ التَّشَابُهِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُ مَثَانِيَ، وَمَثَانِي: جَمْعُ مَثْنًى بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِتَشْدِيدِ النُّونِ جَمْعًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَوِ اسْمُ جَمْعٍ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ جَمْعُ مَثْنًى بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَهُوَ اسْمٌ لِجَعْلِ الْمَعْدُودِ أَزْوَاجًا اثْنَيْنِ، اثْنَيْنِ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَى التَّكْرِيرِ. كُنِّيَ عَنْ مَعْنَى التَّكْرِيرِ بِمَادَّةِ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ التَّكْرِيرِ، كَمَا كُنِّيَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ عَنِ التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤]، وَقَوْلُ الْعَرَبِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، أَيْ إِجَابَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمُسَاعَدَاتٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى مَثانِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي فِي سُورَةِ [الْحِجْرِ: ٨٧]، فَالْقُرْآنُ مَثَانِي لِأَنَّهُ مُكَرَّرُ الْأَغْرَاضِ.
فَمَعَانِيهُ مُتَشَابِهَةٌ فِي صِحَّتِهَا وَأَحْكَامِهَا وَابْتِنَائِهَا عَلَى الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَمُصَادَفَةِ الْمَحَزِّ مِنَ الْحُجَّةِ وَتَبْكِيتِ الْخُصُومِ وَكَوْنِهَا صَلَاحًا لِلنَّاسِ وَهُدًى. وَأَلْفَاظُهُ مُتَمَاثِلَةُ فِي الشَّرَفِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْإِصَابَةِ لِلْأَغْرَاضِ مِنَ الْمَعَانِي بِحَيْثُ تَبْلُغُ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهُ أَقْصَى مَا تَحْتَمِلُهُ أَشْرَفُ لُغَةٍ لِلْبَشَرِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ مُفْرَدَاتٍ وَنَظْمًا، وَبِذَلِكَ كَانَ مُعْجِزًا لكل بليغ عَن أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَفِي هَذَا
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ الْقُرْآنِ بَالِغٌ الطَّرَفَ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ وَأَنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي ذَلِكَ بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا، وَأَمَّا تَفَاوُتُهَا فِي كَثْرَةِ الْخُصُوصِيَّاتِ وَقِلَّتِهَا فَذَلِكَ تَابِعٌ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ بَلَاغَةَ الْكَلَامِ مُطَابَقَتُهُ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، وَالطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ هُوَ مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِجَمِيعِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، فَآيَاتُ الْقُرْآنِ مُتَمَاثِلَةُ مُتَشَابِهَةُ فِي الْحُسْنِ لَدَى أَهْلِ الذَّوْقِ مِنَ الْبُلَغَاءِ بِالسَّلِيقَةِ أَوْ بِالْعِلْمِ وَهُوَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ تَفَاوُتٍ رُبَّمَا بَلَغَ بَعْضُهُ مُبْلَغَ أَنْ لَا يُشْبِهَ بَقِيَّتَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: ٨٢]، فَالْكَاتِبُ الْبَلِيغُ وَالشَّاعِرُ الْمُجِيدُ لَا يَخْلُو كَلَامُ أَحَدٍ مِنْهُمَا مِنْ ضَعْفٍ فِي بَعْضِهِ، وَأَيْضًا لَا تَتَشَابَهُ أَقْوَالُ أَحَدٍ مِنْهُمَا بَلْ تَجِدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قِطَعًا مُتَفَاوِتَةً فِي الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ وَصِحَّةِ الْمَعَانِي. وَبِمَا قَرَّرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ مَعْنًى غَيْرَ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمرَان: ٧] لِاخْتِلَافِ مَا فِيهِ التَّشَابُهِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُ مَثَانِيَ، وَمَثَانِي: جَمْعُ مَثْنًى بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِتَشْدِيدِ النُّونِ جَمْعًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَوِ اسْمُ جَمْعٍ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ جَمْعُ مَثْنًى بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَهُوَ اسْمٌ لِجَعْلِ الْمَعْدُودِ أَزْوَاجًا اثْنَيْنِ، اثْنَيْنِ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَى التَّكْرِيرِ. كُنِّيَ عَنْ مَعْنَى التَّكْرِيرِ بِمَادَّةِ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ التَّكْرِيرِ، كَمَا كُنِّيَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ عَنِ التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤]، وَقَوْلُ الْعَرَبِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، أَيْ إِجَابَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمُسَاعَدَاتٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى مَثانِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي فِي سُورَةِ [الْحِجْرِ: ٨٧]، فَالْقُرْآنُ مَثَانِي لِأَنَّهُ مُكَرَّرُ الْأَغْرَاضِ.
386
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ امْتِنَانًا عَلَى الْأُمَّةِ بِأَنَّ أَغْرَاضَ كِتَابِهَا مُكَرَّرَةٌ فِيهِ لِتَكُونَ مَقَاصِدُهُ أَرْسَخُ فِي نُفُوسِهَا، وَلِيَسْمَعُهَا مَنْ فَاتَهُ سَمَاعُ أَمْثَالِهَا مِنْ قَبْلُ. وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا تَنْبِيهًا عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي إِعْجَازِهِ، وَهِيَ عَدَمُ الْمَلَلِ مِنْ سَمَاعِهِ وَأَنَّهُ كُلَّمَا تَكَرَّرَ غَرَضٌ مِنْ أَغْرَاضِهِ زَادَهُ تَكَرُّرُهُ قَبُولًا وَحَلَاوَةً فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ. فَكَأَنَّهُ الْوَجْهُ الْحَسَنُ الَّذِي قَالَ فِي مِثْلِهِ أَبُو نُوَاسٍ:
وَقَدْ عَدَّ عِيَاضٌ فِي كِتَابِ «الشِّفَاءِ» مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ: أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّهُ وَسَامِعَهُ لَا يَمَجُّهُ، بَلِ الْإِكْبَابُ عَلَى تِلَاوَتِهِ يَزِيدُهُ حَلَاوَةً، وَتَرْدِيدُهُ يُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةً، لَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَوْ بَلَغَ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ مَبْلَغًا عَظِيمًا يُمَلُّ مَعَ التَّرْدِيدِ
وَيُعَادَى إِذَا أُعِيدَ، وَلِذَا
وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ: «بِأَنَّهُ لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا.
وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ سَمِعَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْل: ٩٠] الْآيَةَ فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ»
. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ الْقُرْآنِ هُنَا بِكَوْنِهِ مَثَانِيَ هُوَ غَيْرُ الْوَصْفِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحجر: ٧٨] لِاخْتِلَافِ مَا أُرِيدَ فِيهِ بِالتَّثْنِيَةِ وَإِنْ كَانَ اشْتِقَاقُ الْوَصْفِ مُتَّحِدًا.
وَوُصِفَ كِتاباً وَهُوَ مُفْرِدٌ بِوَصْفِ مَثانِيَ وَهُوَ مُقْتَضٍ التَّعَدُّدَ يُعَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ جَرَى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهِ، أَيْ سُوَرِهِ أَوْ آيَاتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ غَرَضٍ مِنْهُ يُكَرَّرُ، أَيْ بِاعْتِبَارِ تَبَاعِيضِهِ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ قَبْلَهُ وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ، أَيْ مُثَنَّى الْأَغْرَاضِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
أُولَاهَا: وَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْجَلَالَةِ وَالرَّوْعَةِ فِي قُلُوبِ سَامِعِيهِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي آيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ الَّتِي تَوْجَلُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَهُوَ وَصْفُ كَمَالٍ لِأَنَّهُ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ
يَزِيدُكَ وَجْهُهُ حُسْنًا | إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرَا |
وَيُعَادَى إِذَا أُعِيدَ، وَلِذَا
وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ: «بِأَنَّهُ لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا.
وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ سَمِعَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْل: ٩٠] الْآيَةَ فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ»
. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ الْقُرْآنِ هُنَا بِكَوْنِهِ مَثَانِيَ هُوَ غَيْرُ الْوَصْفِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحجر: ٧٨] لِاخْتِلَافِ مَا أُرِيدَ فِيهِ بِالتَّثْنِيَةِ وَإِنْ كَانَ اشْتِقَاقُ الْوَصْفِ مُتَّحِدًا.
وَوُصِفَ كِتاباً وَهُوَ مُفْرِدٌ بِوَصْفِ مَثانِيَ وَهُوَ مُقْتَضٍ التَّعَدُّدَ يُعَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ جَرَى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهِ، أَيْ سُوَرِهِ أَوْ آيَاتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ غَرَضٍ مِنْهُ يُكَرَّرُ، أَيْ بِاعْتِبَارِ تَبَاعِيضِهِ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ قَبْلَهُ وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ، أَيْ مُثَنَّى الْأَغْرَاضِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
أُولَاهَا: وَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْجَلَالَةِ وَالرَّوْعَةِ فِي قُلُوبِ سَامِعِيهِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي آيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ الَّتِي تَوْجَلُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَهُوَ وَصْفُ كَمَالٍ لِأَنَّهُ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ
387
تَأْثِيرِ كَلَامِهِ فِي النُّفُوسِ، وَلَمْ يَزَلْ شَأْنُ أَهْلِ الْخَطَابَةِ وَالْحِكْمَةِ الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ كَلَامِهِمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يُوَاجَهُ بِهِ السَّامِعُونَ لِحُصُولِ فَوَائِدَ مَرْجُوَّةٍ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَمَا تَبَارَى الْخُطَبَاءُ وَالْبُلَغَاءُ فِي مَيَادِينِ الْقَوْلِ إِلَّا لِلتَّسَابُقِ إِلَى غَايَاتِ الْإِقْنَاعِ، كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ خَارِجَةَ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ؟ «عِنْدِي قِرَى كُلِّ نَازِلٍ، وَرِضَى كُلِّ سَاخِطٍ، وَخُطْبَةٌ مِنْ لَدُنْ تَطَلُعُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ، آمُرُ فِيهَا بِالتَّوَاصُلِ وَأَنْهَى عَنِ التَّقَاطُعِ». وَقَدْ ذَكَرَ أَرِسْطُو فِي الْغَرَضِ مِنَ الْخَطَابَةِ أَنَّهُ إِثَارَةُ الْأَهْوَاءِ وَقَالَ: «إِنَّهَا انْفِعَالَاتٌ فِي النَّفْسِ تُثِيرُ فِيهَا حُزْنًا أَوْ مَسَرَّةً».
وَقَدِ اقْتَضَى قَوْلُهُ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ وَهِيَ الْمَعَانِي الْمَوْسُومَةُ بِالْجَزَالَةِ الَّتِي تُثِيرُ فِي النُّفُوسِ رَوْعَةً وَجَلَالَةً وَرَهْبَةً تَبْعُثُ عَلَى امْتِثَالِ السَّامِعِينَ لَهُ وَعَمَلِهِمْ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَكُنِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِحَالَةٍ تُقَارِنُ انْفِعَالَ الْخَشْيَةِ وَالرَّهْبَةِ فِي النَّفْسِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا
ارْتَاعَ وَخَشِيَ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ أَثَرِ الِانْفِعَالِ الرَّهْبَنِيِّ، فَمَعْنَى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ تَقْشَعِرُّ مِنْ سَمَاعِهِ وَفَهْمِهِ، فَإِنَّ السَّمَاعَ وَالْفَهْمَ يَوْمَئِذٍ مُتَقَارِنَانِ لِأَنَّ السَّامِعِينَ أَهْلُ اللِّسَانِ. يُقَالُ:
اقْشَعَرَّ الْجِلْدُ، إِذَا تَقَبَّضَ تَقَبُّضًا شَدِيدًا كَالَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ شِدَّةِ بَرْدِ الْجَسَدِ وَرِعْدَتِهِ. يُقَالُ:
اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، إِذَا سَمِعَ أَوْ رَأَى مَا يُثِيرُ انْزِعَاجَهُ وَرَوْعَهُ، فَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ كِنَايَةٌ عَنْ وَجِلِ الْقُلُوبِ الَّذِي تَلْزَمُهُ قَشْعَرِيرَةٌ فِي الْجِلْدِ غَالِبًا.
وَقَدْ عَدَّ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ: الرَّوْعَةَ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْهَيْبَةَ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَهَابَهُ سَامِعُهُ، قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الْحَشْر: ٢١].
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَصْحَابُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا قرىء عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ. وَخَصُّ الْقُشَعْرِيرَةُ بِالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا سَيُرْدَفُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ كَمَا يَأْتِي، قَالَ عِيَاضٌ: «وَهِيَ، أَيِ الرَّوْعَةِ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِهِ أَعْظَمُ حَتَّى كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَقَدِ اقْتَضَى قَوْلُهُ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ وَهِيَ الْمَعَانِي الْمَوْسُومَةُ بِالْجَزَالَةِ الَّتِي تُثِيرُ فِي النُّفُوسِ رَوْعَةً وَجَلَالَةً وَرَهْبَةً تَبْعُثُ عَلَى امْتِثَالِ السَّامِعِينَ لَهُ وَعَمَلِهِمْ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَكُنِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِحَالَةٍ تُقَارِنُ انْفِعَالَ الْخَشْيَةِ وَالرَّهْبَةِ فِي النَّفْسِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا
ارْتَاعَ وَخَشِيَ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ أَثَرِ الِانْفِعَالِ الرَّهْبَنِيِّ، فَمَعْنَى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ تَقْشَعِرُّ مِنْ سَمَاعِهِ وَفَهْمِهِ، فَإِنَّ السَّمَاعَ وَالْفَهْمَ يَوْمَئِذٍ مُتَقَارِنَانِ لِأَنَّ السَّامِعِينَ أَهْلُ اللِّسَانِ. يُقَالُ:
اقْشَعَرَّ الْجِلْدُ، إِذَا تَقَبَّضَ تَقَبُّضًا شَدِيدًا كَالَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ شِدَّةِ بَرْدِ الْجَسَدِ وَرِعْدَتِهِ. يُقَالُ:
اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، إِذَا سَمِعَ أَوْ رَأَى مَا يُثِيرُ انْزِعَاجَهُ وَرَوْعَهُ، فَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ كِنَايَةٌ عَنْ وَجِلِ الْقُلُوبِ الَّذِي تَلْزَمُهُ قَشْعَرِيرَةٌ فِي الْجِلْدِ غَالِبًا.
وَقَدْ عَدَّ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ: الرَّوْعَةَ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْهَيْبَةَ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَهَابَهُ سَامِعُهُ، قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الْحَشْر: ٢١].
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَصْحَابُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا قرىء عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ. وَخَصُّ الْقُشَعْرِيرَةُ بِالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا سَيُرْدَفُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ كَمَا يَأْتِي، قَالَ عِيَاضٌ: «وَهِيَ، أَيِ الرَّوْعَةِ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِهِ أَعْظَمُ حَتَّى كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
388
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الْإِسْرَاء: ٤٦].
وَهَذِهِ الرَّوْعَةُ قَدِ اعْتَرَتْ جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ لَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ. حُكِيَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مَطْعِمٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطَّوْرِ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ إِلَى قَوْله:
الْمُصَيْطِرُونَ [الطّور: ٣٥- ٣٧] كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي»
. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ،
رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: «أُخْبِرْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ كَلَّمَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفِّهِ عَنْ سَبِّ أَصْنَامِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أُمُورًا وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعْ مَا أَقُولُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ حم فُصِّلَتْ [١] حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ»
أَيْ عَنِ الْقِرَاءَةِ.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا تَزَالُ رَوْعَتُهُ وَهَيْبَتُهُ إِيَّاهُ مَعَ تِلَاوَتِهِ تُولِيهِ انْجِذَابًا وَتُكْسِبُهُ هَشَاشَةً لِمَيْلِ قَلْبِهِ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.
الْجِهَةُ الثَّانِيَة من جِهَاتِ هَذَا الْوَصْفِ: لِينُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ سَمَاعِهِ أَيْضًا عَقِبَ
وَجَلِهَا الْعَارِضِ مِنْ سَمَاعِهِ قَبْلُ.
وَاللِّينُ: مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَالسُّرُورِ، وَهُوَ ضِدٌّ لِلْقَسَاوَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَمِعَ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ يَخْشَى رَبَّهُ وَيَتَجَنَّبُ مَا حَذَّرَ مِنْهُ فَيَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ فَإِذَا عُقِّبَ ذَلِكَ بِآيَاتِ الْبِشَارَةِ وَالْوَعْدِ اسْتَبْشَرَ وَفَرِحَ وَعَرَضَ أَعْمَالَهُ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ فَرَأَى نَفْسَهُ مُتَحَلِّيَةً بِالْعَمَلِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ وَانْقَلَبَ الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ رَجَاءً وَتَرَقُّبًا، فَذَلِكَ مَعْنَى لِينِ الْقُلُوبِ.
وَإِنَّمَا يَبْعَثُ هَذَا اللِّينَ فِي الْقُلُوبِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَعَانِي الرَّحْمَةِ وَذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الْمَوْصُوفَةِ مَعَانِيهَا بِالسُّهُولَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَهَذِهِ الرَّوْعَةُ قَدِ اعْتَرَتْ جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ لَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ. حُكِيَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مَطْعِمٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطَّوْرِ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ إِلَى قَوْله:
الْمُصَيْطِرُونَ [الطّور: ٣٥- ٣٧] كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي»
. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ،
رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: «أُخْبِرْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ كَلَّمَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفِّهِ عَنْ سَبِّ أَصْنَامِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أُمُورًا وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعْ مَا أَقُولُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ حم فُصِّلَتْ [١] حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ»
أَيْ عَنِ الْقِرَاءَةِ.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا تَزَالُ رَوْعَتُهُ وَهَيْبَتُهُ إِيَّاهُ مَعَ تِلَاوَتِهِ تُولِيهِ انْجِذَابًا وَتُكْسِبُهُ هَشَاشَةً لِمَيْلِ قَلْبِهِ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.
الْجِهَةُ الثَّانِيَة من جِهَاتِ هَذَا الْوَصْفِ: لِينُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ سَمَاعِهِ أَيْضًا عَقِبَ
وَجَلِهَا الْعَارِضِ مِنْ سَمَاعِهِ قَبْلُ.
وَاللِّينُ: مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَالسُّرُورِ، وَهُوَ ضِدٌّ لِلْقَسَاوَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَمِعَ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ يَخْشَى رَبَّهُ وَيَتَجَنَّبُ مَا حَذَّرَ مِنْهُ فَيَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ فَإِذَا عُقِّبَ ذَلِكَ بِآيَاتِ الْبِشَارَةِ وَالْوَعْدِ اسْتَبْشَرَ وَفَرِحَ وَعَرَضَ أَعْمَالَهُ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ فَرَأَى نَفْسَهُ مُتَحَلِّيَةً بِالْعَمَلِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ وَانْقَلَبَ الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ رَجَاءً وَتَرَقُّبًا، فَذَلِكَ مَعْنَى لِينِ الْقُلُوبِ.
وَإِنَّمَا يَبْعَثُ هَذَا اللِّينَ فِي الْقُلُوبِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَعَانِي الرَّحْمَةِ وَذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الْمَوْصُوفَةِ مَعَانِيهَا بِالسُّهُولَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
389
قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: ٥٣]، وَالْمَوْصُوفَةِ مَعَانِيهَا بِالرِّقَّةِ نَحْوَ: يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف: ٦٨- ٦٩]، وَقَدْ عُلِمَ فِي فَنِّ الْخَطَابَةِ أَنَّ لِلْجَزَالَةِ مَقَامَاتُهَا وللسهولة والرقة مقاماتهما.
الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ جِهَاتِ هَذَا الْوَصْفِ: أُعْجُوبَةُ جَمْعِهِ بَيْنَ التَّأْثِيرَيِنِ الْمُتَضَادَّيْنِ: مَرَّةً بِتَأْثِيرِ الرَّهْبَةِ، وَمَرَّةً بِتَأْثِيرِ الرَّغْبَةِ، لِيَكُونَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُعَامَلَةِ رَبِّهِمْ جَارِينَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ جَلَالُهُ وَمَا يَقْتَضِيهِ حِلْمُهُ وَرَحْمَتُهُ. وَهَذِهِ الْجِهَةُ اقْتَضَاهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ الْمُصَرَّحِ بِهِمَا وَهُمَا جِهَةُ الْقُشَعْرِيرَةِ وَجِهَةُ اللِّينِ، مَعَ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ بِالْأَمْرَيْنِ فَرِيقًا وَاحِدًا وَهُمُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَالْمَقْصُود وَصفهم بالتأثرين عِنْدَ تَعَاقُبِ آيَاتِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ آيَاتِ الرَّهْبَةِ. قَالَ الْفَخْرُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ قَالُوا: «السَّائِرُونَ فِي مَبْدَأِ جَلَالِ اللَّهِ إِنْ نَظَرُوا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا، وَإِنْ لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا» اهـ-. فَالْآيَةُ هُنَا ذَكَرَتْ لَهُمُ الْحَالَتَيْنِ لِوُقُوعِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: مَثانِيَ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَإِلَّا فَقَدِ اقْتُصِرَ عَلَى وَصْفِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَجَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: ٢]، فَالْمَقَامُ هُنَا لِبَيَانِ تَأَثُّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَالْمَقَامُ هُنَالِكَ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ فِي غَيْرِ حَالَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَ الْجُلُودِ وَالْقُلُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يُكْتَفَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَمَا اكْتُفِيَ فِي قَوْلِهِ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لِأَنَّ اقْشِعْرَارَ الْجُلُودِ حَالَةٌ طَارِئَةٌ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ وَجَلِ الْقُلُوبِ وَرَوْعَتِهَا فَكُنِّيَ بِهِ عَنْ تِلْكَ الرَّوْعَةِ.
وَأَمَّا لِينُ الْجُلُودِ عَقِبَ تِلْكَ الْقُشَعْرِيرَةِ فَهُوَ رُجُوعُ الْجُلُودِ إِلَى حَالَتِهَا السَّابِقَةِ قَبْلَ اقْشِعْرَارِهَا، وَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ عَنْ تَنَاسٍ أَوْ تَشَاغُلٍ بَعْدَ تِلْكَ الرَّوْعَةِ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ لِينَ الْقُلُوبِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لين خَاص ناشىء عَنِ اطْمِئْنَانِ الْقُلُوبِ بِالذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: ٢٨] وَلَيْسَ مُجَرَّدُ رُجُوعِ الْجُلُودِ إِلَى حَالَتِهَا الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْقُشَعْرِيرَةِ. وَلَمْ يُكْتَفَ بِذِكْرِ لِينِ الْقُلُوب عَن لين الْجُلُودِ لِأَنَّهُ قُصِدَ أَنَّ لِينَ الْقُلُوبِ أَفْعَمَهَا حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْجُلُودِ.
الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ جِهَاتِ هَذَا الْوَصْفِ: أُعْجُوبَةُ جَمْعِهِ بَيْنَ التَّأْثِيرَيِنِ الْمُتَضَادَّيْنِ: مَرَّةً بِتَأْثِيرِ الرَّهْبَةِ، وَمَرَّةً بِتَأْثِيرِ الرَّغْبَةِ، لِيَكُونَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُعَامَلَةِ رَبِّهِمْ جَارِينَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ جَلَالُهُ وَمَا يَقْتَضِيهِ حِلْمُهُ وَرَحْمَتُهُ. وَهَذِهِ الْجِهَةُ اقْتَضَاهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ الْمُصَرَّحِ بِهِمَا وَهُمَا جِهَةُ الْقُشَعْرِيرَةِ وَجِهَةُ اللِّينِ، مَعَ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ بِالْأَمْرَيْنِ فَرِيقًا وَاحِدًا وَهُمُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَالْمَقْصُود وَصفهم بالتأثرين عِنْدَ تَعَاقُبِ آيَاتِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ آيَاتِ الرَّهْبَةِ. قَالَ الْفَخْرُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ قَالُوا: «السَّائِرُونَ فِي مَبْدَأِ جَلَالِ اللَّهِ إِنْ نَظَرُوا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا، وَإِنْ لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا» اهـ-. فَالْآيَةُ هُنَا ذَكَرَتْ لَهُمُ الْحَالَتَيْنِ لِوُقُوعِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: مَثانِيَ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَإِلَّا فَقَدِ اقْتُصِرَ عَلَى وَصْفِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَجَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: ٢]، فَالْمَقَامُ هُنَا لِبَيَانِ تَأَثُّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَالْمَقَامُ هُنَالِكَ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ فِي غَيْرِ حَالَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَ الْجُلُودِ وَالْقُلُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يُكْتَفَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَمَا اكْتُفِيَ فِي قَوْلِهِ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لِأَنَّ اقْشِعْرَارَ الْجُلُودِ حَالَةٌ طَارِئَةٌ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ وَجَلِ الْقُلُوبِ وَرَوْعَتِهَا فَكُنِّيَ بِهِ عَنْ تِلْكَ الرَّوْعَةِ.
وَأَمَّا لِينُ الْجُلُودِ عَقِبَ تِلْكَ الْقُشَعْرِيرَةِ فَهُوَ رُجُوعُ الْجُلُودِ إِلَى حَالَتِهَا السَّابِقَةِ قَبْلَ اقْشِعْرَارِهَا، وَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ عَنْ تَنَاسٍ أَوْ تَشَاغُلٍ بَعْدَ تِلْكَ الرَّوْعَةِ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ لِينَ الْقُلُوبِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لين خَاص ناشىء عَنِ اطْمِئْنَانِ الْقُلُوبِ بِالذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: ٢٨] وَلَيْسَ مُجَرَّدُ رُجُوعِ الْجُلُودِ إِلَى حَالَتِهَا الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْقُشَعْرِيرَةِ. وَلَمْ يُكْتَفَ بِذِكْرِ لِينِ الْقُلُوب عَن لين الْجُلُودِ لِأَنَّهُ قُصِدَ أَنَّ لِينَ الْقُلُوبِ أَفْعَمَهَا حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْجُلُودِ.
390
وَ (ذِكْرِ اللَّهِ) وَهُوَ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِهِ لِبُعْدِ الْمَعَادِ، وَعُدِلَ عَنْ إِعَادَةِ اسْمِهِ السَّابِقِ لِمَدْحِهِ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ مُدِحَ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَالْمُرَادُ بِ- ذِكْرِ اللَّهِ مَا فِي آيَاتِهِ مِنْ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ وَالْبِشَارَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَا ذَكَرَ مَوْعِظَةً وَتَرْهِيبًا إِلَّا أَعْقَبَهُ بِتَرْغِيبٍ وَبِشَارَةٍ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ تَلِينُ بِحَرْفِ إِلى لِتَضْمِينِ تَلِينُ مَعْنَى: تُطَمْئِنُ وَتَسْكُنُ.
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَإِنَّ إِجْرَاءَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْغُرِّ عَلَى الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ قَدِ اسْتَكْمَلَ أَقْصَى مَا يُوصَفُ بِهِ كَلَامٌ بَالِغٌ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ كَيْفَ سَلَكَتْ آثَارُهُ إِلَى نُفُوسِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالًا يَهْجِسُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ لَمْ تَتَأَثَّرْ بِهِ نُفُوسُ فَرِيقِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَتَقَعُ جُمْلَةُ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الْهَاجِسِ.
فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ صِفَاتِ الْقُرْآنِ الْمَذْكُورَةِ وَتَأَثُّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَدْيِهِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ هُدَى اللَّهِ، أَيْ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا كَامِلًا جَامِعًا لِوَسَائِلِ الْهُدَى، فَمَنْ فَطَرَ اللَّهُ عَقْلَهُ وَنَفْسَهُ عَلَى الصَّلَاحِيَةِ لِقَبُولِ الْهُدَى سَرِيعًا أَوْ بَطِيئًا اهْتَدَى بِهِ، كَذَلِكَ وَمَنْ فَطَرَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ، أَوْ عَلَى فَسَادِ الْفَهْمِ ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ضَلَالِهِ، فَأُطْلِقَ عَلَى هَذَا الْفَطْرِ اسْمُ الْهُدَى وَاسْمُ الضَّلَالِ، وَأُسْنِدَ كِلَاهُمَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ هُوَ جَبَّارُ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا وَخَالِقُ وَسَائِلِ ذَلِكَ وَمُدَبِّرُ نَوَامِيسِهِ وَأَنْظِمَتِهِ.
فَمَعْنَى إِضَافَةِ الْهُدَى إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا هَيَّأَهُ اللَّهُ لِلْهُدَى مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ فَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ لِذَلِكَ. وَمَعْنَى إِسْنَادِ الْهُدَى وَالْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ رَاجِعٌ إِلَى مَرَاتِبِ تَأَثُّرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ
وَعُدِّيَ فِعْلُ تَلِينُ بِحَرْفِ إِلى لِتَضْمِينِ تَلِينُ مَعْنَى: تُطَمْئِنُ وَتَسْكُنُ.
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَإِنَّ إِجْرَاءَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْغُرِّ عَلَى الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ قَدِ اسْتَكْمَلَ أَقْصَى مَا يُوصَفُ بِهِ كَلَامٌ بَالِغٌ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ كَيْفَ سَلَكَتْ آثَارُهُ إِلَى نُفُوسِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالًا يَهْجِسُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ لَمْ تَتَأَثَّرْ بِهِ نُفُوسُ فَرِيقِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَتَقَعُ جُمْلَةُ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الْهَاجِسِ.
فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ صِفَاتِ الْقُرْآنِ الْمَذْكُورَةِ وَتَأَثُّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَدْيِهِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ هُدَى اللَّهِ، أَيْ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا كَامِلًا جَامِعًا لِوَسَائِلِ الْهُدَى، فَمَنْ فَطَرَ اللَّهُ عَقْلَهُ وَنَفْسَهُ عَلَى الصَّلَاحِيَةِ لِقَبُولِ الْهُدَى سَرِيعًا أَوْ بَطِيئًا اهْتَدَى بِهِ، كَذَلِكَ وَمَنْ فَطَرَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ، أَوْ عَلَى فَسَادِ الْفَهْمِ ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ضَلَالِهِ، فَأُطْلِقَ عَلَى هَذَا الْفَطْرِ اسْمُ الْهُدَى وَاسْمُ الضَّلَالِ، وَأُسْنِدَ كِلَاهُمَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ هُوَ جَبَّارُ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا وَخَالِقُ وَسَائِلِ ذَلِكَ وَمُدَبِّرُ نَوَامِيسِهِ وَأَنْظِمَتِهِ.
فَمَعْنَى إِضَافَةِ الْهُدَى إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا هَيَّأَهُ اللَّهُ لِلْهُدَى مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ فَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ لِذَلِكَ. وَمَعْنَى إِسْنَادِ الْهُدَى وَالْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ رَاجِعٌ إِلَى مَرَاتِبِ تَأَثُّرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ
391
وَعَدَمِ تَأَثُّرِهِمْ بِحَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ مُسْتَوْفِيًا لِأَسْبَابِ اهْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ فَكَانُوا مِنْهُمْ مَنِ اهْتَدَى بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ ضَلَّ عَنْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْكِتَابُ، أَيْ ذَلِكَ الْقُرْآنُ هُدَى اللَّهِ، أَيْ دَلِيلُ هُدَى اللَّهِ. وَمَقْصِدُهُ: اهْتَدَى بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ اهْتِدَاءَهُ، وَكَفَرَ بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ضَلَالَهُ.
فَجُمْلَةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ تَذْيِيلٌ لِلِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ.
وَمَعْنَى مَنْ يَشاءُ عَلَى تَقْدِيرِ: مَنْ يَشَاءُ هَدْيَهُ، أَيْ مَنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ، وَهِيَ إِرَادَتُهُ بِأَنَّهُ يَهْتَدِي فَخَلَقَهُ مُتَأَثِّرًا بِتِلْكَ الْمَشِيئَةِ فَقَدَّرَ لَهُ الِاهْتِدَاءَ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ يَشاءُ أَنَّهُ لَا يَهْدِي بِهِ مَنْ لَمْ يَشَأْ هَدْيَهُ وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، أَيْ مَنْ لَمْ يَشَأْ هَدْيَهُ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْ ضَلَالِهِ فَلَا سَبِيلَ لِهَدْيِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لِنَقْصٍ فِي الضَّالِّ لَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي مِنْ شَأْنه الْهدى.
[٢٤]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٤]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ فِيمَا مَضَى وَقَوْلِهِ الْآتِي: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: ٢٧].
وَجَعَلَهَا الْمُفَسِّرُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: ٢٣] بِدَلَالَةِ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ مُهْتَدٍ، وَفَرِيقٍ ضَالٍّ، فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ. وَجَعَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: كَمَنْ أَمِنَ الْعَذَابَ أَوْ كَمَنْ هُوَ فِي النَّعِيمِ. وَجَعَلُوا الِاسْتِفْهَامَ تَقْرِيرِيًّا أَوْ إِنْكَارِيًّا، وَالْمَقْصُودُ: عَدَمُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي الْعَذَابِ وَهُوَ الضَّالُّ وَمَنْ هُوَ فِي النَّعِيمِ وَهُوَ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ، وَحُذِفَ حَالُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الِاسْتِفْهَامُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩] وَقَوْلِهِ:
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْكِتَابُ، أَيْ ذَلِكَ الْقُرْآنُ هُدَى اللَّهِ، أَيْ دَلِيلُ هُدَى اللَّهِ. وَمَقْصِدُهُ: اهْتَدَى بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ اهْتِدَاءَهُ، وَكَفَرَ بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ضَلَالَهُ.
فَجُمْلَةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ تَذْيِيلٌ لِلِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ.
وَمَعْنَى مَنْ يَشاءُ عَلَى تَقْدِيرِ: مَنْ يَشَاءُ هَدْيَهُ، أَيْ مَنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ، وَهِيَ إِرَادَتُهُ بِأَنَّهُ يَهْتَدِي فَخَلَقَهُ مُتَأَثِّرًا بِتِلْكَ الْمَشِيئَةِ فَقَدَّرَ لَهُ الِاهْتِدَاءَ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ يَشاءُ أَنَّهُ لَا يَهْدِي بِهِ مَنْ لَمْ يَشَأْ هَدْيَهُ وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، أَيْ مَنْ لَمْ يَشَأْ هَدْيَهُ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْ ضَلَالِهِ فَلَا سَبِيلَ لِهَدْيِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لِنَقْصٍ فِي الضَّالِّ لَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي مِنْ شَأْنه الْهدى.
[٢٤]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٤]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ فِيمَا مَضَى وَقَوْلِهِ الْآتِي: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: ٢٧].
وَجَعَلَهَا الْمُفَسِّرُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: ٢٣] بِدَلَالَةِ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ مُهْتَدٍ، وَفَرِيقٍ ضَالٍّ، فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ. وَجَعَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: كَمَنْ أَمِنَ الْعَذَابَ أَوْ كَمَنْ هُوَ فِي النَّعِيمِ. وَجَعَلُوا الِاسْتِفْهَامَ تَقْرِيرِيًّا أَوْ إِنْكَارِيًّا، وَالْمَقْصُودُ: عَدَمُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي الْعَذَابِ وَهُوَ الضَّالُّ وَمَنْ هُوَ فِي النَّعِيمِ وَهُوَ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ، وَحُذِفَ حَالُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الِاسْتِفْهَامُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩] وَقَوْلِهِ:
392
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزمر: ٢٢]، وَالْقَوْلُ فِيهِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي سَابِقِهِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ وَحَذْفِ الْخَبَرِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُ كَمَنْ أَمِنَ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [مُحَمَّد: ١٤]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ اهْتَدَوْا لَا يَنَالَهُمُ الْعَذَابُ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: ٢٣] تَفْرِيعًا لِتَعْيِينِ مَا صَدَقَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَيكون فَمَنْ يَتَّقِي خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَفَهُوَ مَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ.
وَالِاتِّقَاءُ: تُكَلُّفُ الْوِقَايَةِ وَهِيَ الصَّوْنُ وَالدَّفْعُ، وَفِعْلُهَا يَتَعَدَّى إِلَى مفعولين، يُقَال:
وَفِي نَفْسَهُ ضَرْبَ السَّيْفِ، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ إِلَى سَبَبِ الْوِقَايَةِ، يُقَالُ: وَقَى بِتُرْسِهِ، وَقَالَ النَّابِغَةُ:
وَإِذَا كَانَ وَجْهُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقَى بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ، إِذِ الْوَجْهُ أَعَزُّ مَا فِي الْجَسَدِ وَهُوَ يُوقَى وَلَا يُتَّقَى بِهِ فَإِنَّ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ إِذَا تَوَقَّعَ مَا يُصِيبُ جَسَدَهُ سَتَرَ وَجْهَهُ خَوْفًا عَلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّقَاءُ بِالْوَجْهِ مُسْتَعْمَلًا كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الْوِقَايَةِ عَلَى طَرِيقَةِ التهكم أَو التلميح، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَطْلُبِ وِقَايَةَ وَجْهِهِ فَلَا يَجِدُ مَا يَقِيهِ بِهِ إِلَّا وَجْهَهُ، وَهَذَا مِنْ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ نَفْيَهُ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الْكَهْف: ٢٩].
وسُوءَ الْعَذابِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ يَتَّقِي. وَأَصْلُهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِذْ أَصْلُهُ: وَقَى نَفْسَهُ سُوءَ الْعَذَابِ، فَلَمَّا صِيغَ مِنْهُ الِافْتِعَالُ صَارَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ هُوَ الَّذِي كَانَ مَفْعُولًا ثَانِيًا.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقِيلَ عَطْفًا عَلَى الصِّلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ لَهُمْ فَإِنَّ (مَنْ) مُرَادٌ بِهَا جمع، وَالتَّعْبِير بالظالمين إِظْهَارٌ فِي
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: ٢٣] تَفْرِيعًا لِتَعْيِينِ مَا صَدَقَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَيكون فَمَنْ يَتَّقِي خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَفَهُوَ مَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ.
وَالِاتِّقَاءُ: تُكَلُّفُ الْوِقَايَةِ وَهِيَ الصَّوْنُ وَالدَّفْعُ، وَفِعْلُهَا يَتَعَدَّى إِلَى مفعولين، يُقَال:
وَفِي نَفْسَهُ ضَرْبَ السَّيْفِ، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ إِلَى سَبَبِ الْوِقَايَةِ، يُقَالُ: وَقَى بِتُرْسِهِ، وَقَالَ النَّابِغَةُ:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ | فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ |
وسُوءَ الْعَذابِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ يَتَّقِي. وَأَصْلُهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِذْ أَصْلُهُ: وَقَى نَفْسَهُ سُوءَ الْعَذَابِ، فَلَمَّا صِيغَ مِنْهُ الِافْتِعَالُ صَارَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ هُوَ الَّذِي كَانَ مَفْعُولًا ثَانِيًا.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقِيلَ عَطْفًا عَلَى الصِّلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ لَهُمْ فَإِنَّ (مَنْ) مُرَادٌ بِهَا جمع، وَالتَّعْبِير بالظالمين إِظْهَارٌ فِي
393
مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ مُسَبَّبٌ عَلَى ظُلْمِهِمْ، أَيْ شِرْكِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ فَلَا يَجِدُ وِقَايَةً تُنْجِيهِ مِنْ ذَوْقِ الْعَذَابِ فَيُقَالُ لَهُمْ: ذُوقُوا الْعَذَابَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بالظالمين جَمِيعَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، فَيَكُونُ الظَّالِمِينَ إِظْهَارًا عَلَى أَصْلِهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ، أَيْ وَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ وَأَشْبَاهِهِمْ، وَيَظْهَرُ بِذَلِكَ وَجْهُ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الزمر: ٢٥].
وَجَاءَ فِعْلُ وَقِيلَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ فِعْلٍ مَضَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ (قَدْ) وَلِذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ صِيغَةِ الْمُضِيِّ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ وُقُوعُهُ.
وَالذَّوْقُ: مُسْتَعَارٌ لِإِحْسَاسِ ظَاهِرِ الْجَسَدِ لِأَنَّ إِحْسَاسَ الذَّوْقِ بِاللِّسَانِ أَشَدُّ مِنْ إِحْسَاسِ ظَاهِرِ الْجِلْدِ فَوَجْهُ الشَّبَهِ قُوَّةُ الْجِنْسِ.
وَالْمَذُوقُ: هُوَ الْعَذَابُ فَهُوَ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ وَشَرَائِعِهِ، فَجُعِلَ الْمَذُوقُ نَفْسُ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُبَالِغَةً مُشِيرَةً إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ وَفْقُ أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَادِلٌ فِي تَعْذِيبِهِمْ.
وَأُوثِرَ تَكْسِبُونَ عَلَى (تَعْمَلُونَ) لِأَنَّ خِطَابَهُمْ كَانَ فِي حَالِ اتِّقَائِهِمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُعَذَّبِ مِنَ التَّبَرُّمِ الَّذِي هُوَ كَالْإِنْكَارِ عَلَى مُعَذِّبِهِ. فَجِيءَ بِالصِّلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مَا ذَاقُوهُ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوهُ قطعا لتبرمهم.
وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ فَلَا يَجِدُ وِقَايَةً تُنْجِيهِ مِنْ ذَوْقِ الْعَذَابِ فَيُقَالُ لَهُمْ: ذُوقُوا الْعَذَابَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بالظالمين جَمِيعَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، فَيَكُونُ الظَّالِمِينَ إِظْهَارًا عَلَى أَصْلِهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ، أَيْ وَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ وَأَشْبَاهِهِمْ، وَيَظْهَرُ بِذَلِكَ وَجْهُ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الزمر: ٢٥].
وَجَاءَ فِعْلُ وَقِيلَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ فِعْلٍ مَضَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ (قَدْ) وَلِذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ صِيغَةِ الْمُضِيِّ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ وُقُوعُهُ.
وَالذَّوْقُ: مُسْتَعَارٌ لِإِحْسَاسِ ظَاهِرِ الْجَسَدِ لِأَنَّ إِحْسَاسَ الذَّوْقِ بِاللِّسَانِ أَشَدُّ مِنْ إِحْسَاسِ ظَاهِرِ الْجِلْدِ فَوَجْهُ الشَّبَهِ قُوَّةُ الْجِنْسِ.
وَالْمَذُوقُ: هُوَ الْعَذَابُ فَهُوَ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ وَشَرَائِعِهِ، فَجُعِلَ الْمَذُوقُ نَفْسُ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُبَالِغَةً مُشِيرَةً إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ وَفْقُ أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَادِلٌ فِي تَعْذِيبِهِمْ.
وَأُوثِرَ تَكْسِبُونَ عَلَى (تَعْمَلُونَ) لِأَنَّ خِطَابَهُمْ كَانَ فِي حَالِ اتِّقَائِهِمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُعَذَّبِ مِنَ التَّبَرُّمِ الَّذِي هُوَ كَالْإِنْكَارِ عَلَى مُعَذِّبِهِ. فَجِيءَ بِالصِّلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مَا ذَاقُوهُ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوهُ قطعا لتبرمهم.
394
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٦]
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ مَصِيرِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ يُقَالُ لِلظَّالِمِينَ هُمْ وَأَمْثَالِهِمْ: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: ٢٤]، يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ سُؤَالًا عَنْ تَمَتُّعِ الْمُشْرِكِينَ بِالنِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا ويتمنون أَن يَجْعَل لَهُمُ الْعَذَابُ فَكَانَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، أَيْ هُمْ مَظِنَّةُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ كَمَا أَتَى الْعَذَابُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِذْ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بِدُونِ إِنْذَارٍ غَيْرَ مُتَرَقِّبِينَ مَجِيئَهُ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ
[يُونُس: ١٠٢]، فَكَانَ عَذَابُ الدُّنْيَا خزيا يخزي بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَجَزَاءٌ يَجْزِي بِهِ اللَّهُ الظَّالِمِينَ عَلَى ظُلْمِهِمْ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَتاهُمُ الْعَذابُ دَالَّةٌ عَلَى تَسَبُّبِ التَّكْذِيبِ فِي إِتْيَانِ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا سَاوَاهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَبَبُ حُلُولِ الْعَذَابِ بِأُولَئِكَ مَوْجُودًا فِيهِمْ فَهُوَ مُنْذِرٌ بِأَنَّهُمْ يَحِلُّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ.
وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِمْ عَائِد على فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ [الزمر: ٢٤] بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعْنَى (مَنْ) جَمْعٌ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابٍ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ
عَذَابُ السَّيْفِ الَّذِي أَخْزَاهُمُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ بَدْرٍ. فَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الَّذِي أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ:
هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ الَّذِي يُوصَفُ بِالْإِتْيَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
وحَيْثُ ظَرْفُ مَكَانٍ، أَيْ جَاءَ الْعَذَابُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ مَكَانٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ فَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ بِالصَّوَاعِقِ، وَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنَ الْجَوِّ مِثْلَ رِيحِ عَادٍ، قَالَ تَعَالَى:
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: ٢٤]، وَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنْ تَحْتِهِمْ بِالزَّلَازِلِ
وَالْخَسْفِ مِثْلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنْ نَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْأَرْضِ مَثَلَ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمٌ عَمَّ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ مِثْلَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ.
وَكَانَ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَ كَفَّارَ قُرَيْشٍ لَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ بِبَالٍ، وَهُوَ قَطْعُ السُّيُوفِ رِقَابَهُمْ وَهُمْ فِي عِزَّةٍ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُرْمَةٍ عِنْدَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مَا كَانُوا يَحْسَبُونَ أَيْدِيًا تَقْطَعُ رِقَابَهُمْ كَحَالِ أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ فِي الْغَرْغَرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ قَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ؟
فَقَالَ: «وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ».
وَاسْتِعَارَةُ الْإِذَاقَةِ لِإِهَانَةِ الْخِزْيِ تَخْيِيلِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لِلِاحْتِرَاسِ، أَيْ أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ هُوَ الْجَزَاءُ، وَأَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَقَدْ يُصِيبُ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ الظَّلَمَةِ زِيَادَةَ خِزْيٍ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ. وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ، أَيْ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَذَاقَ الْآخَرِينَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ هُوَ أَشَدُّ. وَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ قَبْلِهِمْ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْرِيضُ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْآيَةَ، تَقْدِيرُهُ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا حَلَّ بِهِمْ سَبَبُهُ تَكْذِيبُهُمْ رُسُلَهُمْ كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَوَصْفُ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِ- أَكْبَرُ بِمَعْنَى: أَشَدِّ فَهُوَ أَشَدُّ كَيْفِيَّةً مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَأَشَدُّ كَمِّيَّةً لِأَنَّهُ أبدي.
[٢٧- ٢٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر:
٢٣]، تَتِمَّةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَإِرْشَادِهِ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِتَسْفِيهِ أَحْلَامِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِهِ
وَكَانَ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَ كَفَّارَ قُرَيْشٍ لَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ بِبَالٍ، وَهُوَ قَطْعُ السُّيُوفِ رِقَابَهُمْ وَهُمْ فِي عِزَّةٍ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُرْمَةٍ عِنْدَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مَا كَانُوا يَحْسَبُونَ أَيْدِيًا تَقْطَعُ رِقَابَهُمْ كَحَالِ أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ فِي الْغَرْغَرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ قَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ؟
فَقَالَ: «وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ».
وَاسْتِعَارَةُ الْإِذَاقَةِ لِإِهَانَةِ الْخِزْيِ تَخْيِيلِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لِلِاحْتِرَاسِ، أَيْ أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ هُوَ الْجَزَاءُ، وَأَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَقَدْ يُصِيبُ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ الظَّلَمَةِ زِيَادَةَ خِزْيٍ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ. وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ، أَيْ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَذَاقَ الْآخَرِينَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ هُوَ أَشَدُّ. وَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ قَبْلِهِمْ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْرِيضُ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْآيَةَ، تَقْدِيرُهُ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا حَلَّ بِهِمْ سَبَبُهُ تَكْذِيبُهُمْ رُسُلَهُمْ كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَوَصْفُ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِ- أَكْبَرُ بِمَعْنَى: أَشَدِّ فَهُوَ أَشَدُّ كَيْفِيَّةً مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَأَشَدُّ كَمِّيَّةً لِأَنَّهُ أبدي.
[٢٧- ٢٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر:
٢٣]، تَتِمَّةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَإِرْشَادِهِ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِتَسْفِيهِ أَحْلَامِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِهِ
396
وَأَعْرَضُوا عَنِ
الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ لَمْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ وَطَعَنُوا فِيهِ وَأَنْكَرُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ كَافَّةً.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ: ذِكْرُهُ وَوَصْفُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦]. وَتَنْوِينُ مَثَلٍ لِلتَّعْظِيمِ وَالشَّرَفِ، أَيْ مِنْ كُلٍّ أَشْرَفَ الْأَمْثَالِ، فَالْمَعْنَى: ذَكَرْنَا لِلنَّاسِ فِي الْقُرْآنِ أَمْثَالًا هِيَ بَعْضٌ مِنْ كُلِّ أَنْفَعِ الْأَمْثَالِ وَأَشْرَفِهَا.
وَالْمُرَادُ: شَرَفُ نَفْعِهَا.
وَخُصَّتْ أَمْثَالُ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَزَايَا الْقُرْآنِ لِأَجْلِ لَفْتِ بَصَائِرِهِمْ لِلتَّدَبُّرِ فِي نَاحِيَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ نَوَاحِي إِعْجَازِهِ وَهِيَ بَلَاغَةُ أَمْثَالِهِ، فَإِنَّ بُلَغَاءَهُمْ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي جَوْدَةِ الْأَمْثَالِ وَإِصَابَتِهَا الْمَحَزِّ مِنْ تَشْبِيهِ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ. وَتَقَدَّمَ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٨٩]، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٥٨].
وَمَعْنَى الرَّجَاءِ فِي لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مُنْصَرِفٌ إِلَى أَنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ الْقُرْآنِيَّةِ كَحَالِ مَنْ يَرْجُو النَّاسَ مِنْهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ، وَهَذَا مِثْلُ نَظَائِرِ هَذَا التَّرَجِّي الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَمَعْنَى التَّذَكُّرِ: التَّأَمُّلُ وَالتَّدَبُّرُ لِيَنْكَشِفَ لَهُمْ مَا هُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ سَوَاءٌ مَا سَبَقَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَنَسُوهُ وَشُغِلُوا عَنْهُ بِسَفْسَافِ الْأُمُورِ، وَمَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَسْتَبْصِرَهُ الرَّأْيُ الْأَصِيلُ حَتَّى إِذَا انْكَشَفَ لَهُ كَانَ كَالشَّيْءِ الَّذِي سَبَقَ لَهُ عِلْمُهُ وَذَهَلَ عَنْهُ، فَمَعْنَى التَّذَكُّرِ مَعْنًى بَدِيعٌ شَامِلٌ لِهَذِهِ الْخَصَائِصِ.
وَهَذَا وَصْفُ الْقُرْآنِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ إِنْ صَادَفَ عَقْلًا صَافِيًا وَنَفْسًا مُجَرَّدَةً
الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ لَمْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ وَطَعَنُوا فِيهِ وَأَنْكَرُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ كَافَّةً.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ: ذِكْرُهُ وَوَصْفُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦]. وَتَنْوِينُ مَثَلٍ لِلتَّعْظِيمِ وَالشَّرَفِ، أَيْ مِنْ كُلٍّ أَشْرَفَ الْأَمْثَالِ، فَالْمَعْنَى: ذَكَرْنَا لِلنَّاسِ فِي الْقُرْآنِ أَمْثَالًا هِيَ بَعْضٌ مِنْ كُلِّ أَنْفَعِ الْأَمْثَالِ وَأَشْرَفِهَا.
وَالْمُرَادُ: شَرَفُ نَفْعِهَا.
وَخُصَّتْ أَمْثَالُ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَزَايَا الْقُرْآنِ لِأَجْلِ لَفْتِ بَصَائِرِهِمْ لِلتَّدَبُّرِ فِي نَاحِيَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ نَوَاحِي إِعْجَازِهِ وَهِيَ بَلَاغَةُ أَمْثَالِهِ، فَإِنَّ بُلَغَاءَهُمْ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي جَوْدَةِ الْأَمْثَالِ وَإِصَابَتِهَا الْمَحَزِّ مِنْ تَشْبِيهِ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ. وَتَقَدَّمَ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٨٩]، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٥٨].
وَمَعْنَى الرَّجَاءِ فِي لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مُنْصَرِفٌ إِلَى أَنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ الْقُرْآنِيَّةِ كَحَالِ مَنْ يَرْجُو النَّاسَ مِنْهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ، وَهَذَا مِثْلُ نَظَائِرِ هَذَا التَّرَجِّي الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَمَعْنَى التَّذَكُّرِ: التَّأَمُّلُ وَالتَّدَبُّرُ لِيَنْكَشِفَ لَهُمْ مَا هُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ سَوَاءٌ مَا سَبَقَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَنَسُوهُ وَشُغِلُوا عَنْهُ بِسَفْسَافِ الْأُمُورِ، وَمَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَسْتَبْصِرَهُ الرَّأْيُ الْأَصِيلُ حَتَّى إِذَا انْكَشَفَ لَهُ كَانَ كَالشَّيْءِ الَّذِي سَبَقَ لَهُ عِلْمُهُ وَذَهَلَ عَنْهُ، فَمَعْنَى التَّذَكُّرِ مَعْنًى بَدِيعٌ شَامِلٌ لِهَذِهِ الْخَصَائِصِ.
وَهَذَا وَصْفُ الْقُرْآنِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ إِنْ صَادَفَ عَقْلًا صَافِيًا وَنَفْسًا مُجَرَّدَةً
397
عَنِ الْمُكَابَرَةِ فَتَذَكَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَتَذَكَّرَ بِهِ مَنْ كَانَ التَّذَكُّرُ بِهِ سَبَبًا فِي إِيمَانِهِ بَعْدَ كُفْرِهِ بِسُرْعَةٍ أَوْ بِبُطْءٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا بِهِ فَإِنَّ عَدَمَ تَذَكُّرِهِمْ لِنَقْصٍ فِي فِطْرَتِهِمْ وَتَغْشِيَةِ الْعِنَادِ لِأَلْبَابِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُبَيَّنِ بِالْقُرْآنِ، فَالْحَالُ هُنَا مُوَطِّئَةٌ لِأَنَّهَا تَوْطِئَةٌ لِلنَّعْتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُرْآناً عَرَبِيًّا وَإِنْ كَانَ بِظَاهِرِ لَفْظِ قُرْآناً حَالًا
مُؤَكَّدَةً وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا بَعْدَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ عَرَبِيًّا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ لِأَنَّهُ نَعَتٌ لِلْحَالِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ التَّوَرُّكُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ تَلَقِّيَ مَنْ سَمِعَ كَلَامًا لَمْ يَفْهَمْهُ كَأَنَّهُ بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِ لَا يُعِيرَهُ بَالًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدُّخان: ٥٨]، مَعَ التَّحَدِّي لَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَهُوَ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَهُوَ أَيْضًا ثَنَاءٌ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامٌ بِاسْتِقَامَةِ أَلْفَاظِهِ لِأَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَفْصَحُ لُغَاتِ الْبَشَرِ.
وَالْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أُرِيدَ بِهِ: اخْتِلَالُ الْمَعَانِي دُونَ الْأَعْيَانِ، وَأَمَّا الْعَوَجُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَيَشْمَلُهَا، وَهَذَا مُخْتَارُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ مِثْلِ ابْنِ دُرَيْدٍ والزمخشري والزجاج والفيروزآبادي، وَصَحَّحَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْفَصِيحِ» أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١]، وَقَوْلِهِ: لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً فِي [سُورَةِ طه:
١٠٧].
وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْقُرْآنِ بِكَمَالِ مَعَانِيهِ بَعْدَ أَنْ أُثْنِيَ عَلَيْهِ بِاسْتِقَامَةِ أَلْفَاظِهِ.
وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ وَصْفِهِ بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى وَصْفِهِ بِانْتِفَاءِ الْعِوَجِ عَنْهُ التَّوَسُّلِ إِلَى إِيقَاعِ عِوَجٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ مَا هُوَ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَهُوَ كَلِمَةُ غَيْرَ فَيُفِيدُ انْتِفَاءَ جِنْسِ الْعِوَجِ عَلَى وَجْهِ عُمُومِ النَّفْيِ، أَيْ لَيْسَ فِيهِ عِوَجٌ قَطُّ، وَلِأَنَّ لَفْظَ عِوَجٍ مُخْتَصٌّ بِاخْتِلَالِ الْمَعَانِي، فَيَكُونُ الْكَلَامُ نَصًّا فِي اسْتِقَامَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى اسْتِقَامَةِ أَلْفَاظِهِ وَنَظْمِهِ قَدِ اسْتُفِيدَتْ مِنْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا.
وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُبَيَّنِ بِالْقُرْآنِ، فَالْحَالُ هُنَا مُوَطِّئَةٌ لِأَنَّهَا تَوْطِئَةٌ لِلنَّعْتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُرْآناً عَرَبِيًّا وَإِنْ كَانَ بِظَاهِرِ لَفْظِ قُرْآناً حَالًا
مُؤَكَّدَةً وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا بَعْدَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ عَرَبِيًّا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ لِأَنَّهُ نَعَتٌ لِلْحَالِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ التَّوَرُّكُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ تَلَقِّيَ مَنْ سَمِعَ كَلَامًا لَمْ يَفْهَمْهُ كَأَنَّهُ بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِ لَا يُعِيرَهُ بَالًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدُّخان: ٥٨]، مَعَ التَّحَدِّي لَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَهُوَ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَهُوَ أَيْضًا ثَنَاءٌ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامٌ بِاسْتِقَامَةِ أَلْفَاظِهِ لِأَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَفْصَحُ لُغَاتِ الْبَشَرِ.
وَالْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أُرِيدَ بِهِ: اخْتِلَالُ الْمَعَانِي دُونَ الْأَعْيَانِ، وَأَمَّا الْعَوَجُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَيَشْمَلُهَا، وَهَذَا مُخْتَارُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ مِثْلِ ابْنِ دُرَيْدٍ والزمخشري والزجاج والفيروزآبادي، وَصَحَّحَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْفَصِيحِ» أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١]، وَقَوْلِهِ: لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً فِي [سُورَةِ طه:
١٠٧].
وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْقُرْآنِ بِكَمَالِ مَعَانِيهِ بَعْدَ أَنْ أُثْنِيَ عَلَيْهِ بِاسْتِقَامَةِ أَلْفَاظِهِ.
وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ وَصْفِهِ بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى وَصْفِهِ بِانْتِفَاءِ الْعِوَجِ عَنْهُ التَّوَسُّلِ إِلَى إِيقَاعِ عِوَجٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ مَا هُوَ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَهُوَ كَلِمَةُ غَيْرَ فَيُفِيدُ انْتِفَاءَ جِنْسِ الْعِوَجِ عَلَى وَجْهِ عُمُومِ النَّفْيِ، أَيْ لَيْسَ فِيهِ عِوَجٌ قَطُّ، وَلِأَنَّ لَفْظَ عِوَجٍ مُخْتَصٌّ بِاخْتِلَالِ الْمَعَانِي، فَيَكُونُ الْكَلَامُ نَصًّا فِي اسْتِقَامَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى اسْتِقَامَةِ أَلْفَاظِهِ وَنَظْمِهِ قَدِ اسْتُفِيدَتْ مِنْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا.
398
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَذَكَرَ هُنَا يَتَّقُونَ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا يُسِّرَتْ عَلَيْهِمُ التَّقْوَى، وَلِأَنَّ التَّذَكُّرَ أَنْسَبُ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِأَنَّ فِي الْأَمْثَالِ عِبْرَةً بِأَحْوَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِ فَهِيَ مُفْضِيَةٌ إِلَى التَّذَكُّرِ، وَالِاتِّقَاءِ أَنْسَبُ بِانْتِفَاءِ الْعِوَجِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَقَامَتْ مَعَانِيهِ وَاتَّضَحَتْ كَانَ الْعَمَلُ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ أَيْسَرَ وَذَلِكَ هُوَ التَّقْوَى.
[٢٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٩]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩)
اسْتِئْنَافٌ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَرُّضِ إِلَى الْمَقْصُودِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
[الرّوم: ٥٨] تَوْطِئَةٌ لِهَذَا الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ لِحَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَحَالِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَفِي هَذَا الِانْتِقَالِ تَخَلُّصٌ أُتْبِعَ تَذْكِيرُهُمْ بِمَا ضُرِبَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ عَلَى وَجْهِ إِجْمَالِ الْعُمُومِ اسْتِقْصَاءً فِي التَّذْكِيرِ وَمُعَاوَدَةً لِلْإِرْشَادِ، وَتَخَلُّصًا مَنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِحَالٍ خَاصٍّ.
فَهَذَا الْمَثَلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ:
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: ٢٢]، فَهُوَ مَثَلٌ لِحَالِ مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُمْ لِلْإِسْلَامِ وَحَالِ مَنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ.
وَمَجِيءُ فِعْلِ ضَرَبَ اللَّهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّ ضَرْبَ هَذَا الْمَثَلِ مَا حَصَلَ إِلَّا فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْحَالِ مِنْ زَمَنِ الْمَاضِي لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ إِلَى عِلْمِ هَذَا الْمَثَلِ فَيُجْعَلُ كَالْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ حَصَلَ لِأَنَّ النُّفُوسَ أَرغب فِي علمه كَقَوْلِ الْمُثَوِّبِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١١٢].
أَمَّا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ فِعْلَ ضَرَبَ مُسْتَعْمِلًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ إِذْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا وَقُلْ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمَمَالِيكِ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ شُرَكَاءُ، إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ، فَكَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْخَبَرَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ، فَقَرَّرَهُ شَارِحُوهُ الطَّيِّبِيّ والقزويني والتفتازانيّ بِمَا حَاصِلُ مَجْمُوعِهِ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[٢٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٩]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩)
اسْتِئْنَافٌ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَرُّضِ إِلَى الْمَقْصُودِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
[الرّوم: ٥٨] تَوْطِئَةٌ لِهَذَا الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ لِحَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَحَالِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَفِي هَذَا الِانْتِقَالِ تَخَلُّصٌ أُتْبِعَ تَذْكِيرُهُمْ بِمَا ضُرِبَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ عَلَى وَجْهِ إِجْمَالِ الْعُمُومِ اسْتِقْصَاءً فِي التَّذْكِيرِ وَمُعَاوَدَةً لِلْإِرْشَادِ، وَتَخَلُّصًا مَنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِحَالٍ خَاصٍّ.
فَهَذَا الْمَثَلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ:
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: ٢٢]، فَهُوَ مَثَلٌ لِحَالِ مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُمْ لِلْإِسْلَامِ وَحَالِ مَنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ.
وَمَجِيءُ فِعْلِ ضَرَبَ اللَّهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّ ضَرْبَ هَذَا الْمَثَلِ مَا حَصَلَ إِلَّا فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْحَالِ مِنْ زَمَنِ الْمَاضِي لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ إِلَى عِلْمِ هَذَا الْمَثَلِ فَيُجْعَلُ كَالْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ حَصَلَ لِأَنَّ النُّفُوسَ أَرغب فِي علمه كَقَوْلِ الْمُثَوِّبِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١١٢].
أَمَّا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ فِعْلَ ضَرَبَ مُسْتَعْمِلًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ إِذْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا وَقُلْ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمَمَالِيكِ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ شُرَكَاءُ، إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ، فَكَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْخَبَرَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ، فَقَرَّرَهُ شَارِحُوهُ الطَّيِّبِيّ والقزويني والتفتازانيّ بِمَا حَاصِلُ مَجْمُوعِهِ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
399
لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ:
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: ٢٧] عَلِمَ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ بِصِدْقِ مَا عَلِمَهُ وَجَعَلَهُ لِتَحَقُّقِهِ كَأَنَّهُ مَاضٍ.
وَلِيُلَائِمَ تَوْجِيهَ الِاسْتِفْهَامِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا (فَإِنَّهُ سُؤَالُ تَبْكِيتٍ) فَتَلْتَئِمُ أَطْرَافُ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنْ إِلْقَاءِ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ إِلَى إِلْقَائِهِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِإِفَادَةِ صِدْقِ عِلْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّ هَذَا أَدَقُّ مَعْنًى وَأَنْسَبُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمُضِيَّ فِي فِعْلِ ضَرَبَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَقَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُ: ضَرْبُ الْمَثَلِ فِي عِلْمِهِ فَأَخْبِرْ بِهِ قَوْمَكَ.
فَالَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيَّ إِلَى سُلُوكِ هَذَا الْمَعْنَى فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ رَعْيُ مُنَاسَبَاتٍ اخْتُصَّ بِهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهَا مِنْ نَظَائِرِ صِيغَتِهَا مِمَّا لَمْ يُوجَدْ لِلَّهِ فِيهِ مُقْتَضٍ لِنَحْوِ هَذَا الْمَحْمَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً كَمَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٢٤]، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ
عِنْدَ قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً فِي سُورَةِ [النَّحْلِ: ١١٢].
وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ: إِنَّ الْعُدُولَ عَنْ أَنْ يُصَاغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣]، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الْكَهْف: ٣٢] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: ٤٥] إِلَى أَنْ صِيَغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ هُوَ التَّوَسُّلُ إِلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْمَثَلِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
وَإِسْنَادُ ضَرْبِ الْمَثَلِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ كَوَّنَ نَظْمَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ ثُمَّ أَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَمْثَالُهُ وَغَيْرُهَا، وَهُوَ كُلُّهُ مَأْمُورٌ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا فَاضْرِبْهُ لِلنَّاسِ وَبَيِّنْهُ لَهُمْ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَتَبْكِيتُهُمْ بِهِ فِي كَشْفِ سُوءِ حَالَتِهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ كَقَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣]، وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩]، قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: ١٠]، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ [الزمر: ١١]، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ [الزمر: ١٤]، قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ [الزمر:
١٥]، فَبَشِّرْ عِبادِ [الزمر: ١٧].
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: ٢٧] عَلِمَ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ بِصِدْقِ مَا عَلِمَهُ وَجَعَلَهُ لِتَحَقُّقِهِ كَأَنَّهُ مَاضٍ.
وَلِيُلَائِمَ تَوْجِيهَ الِاسْتِفْهَامِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا (فَإِنَّهُ سُؤَالُ تَبْكِيتٍ) فَتَلْتَئِمُ أَطْرَافُ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنْ إِلْقَاءِ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ إِلَى إِلْقَائِهِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِإِفَادَةِ صِدْقِ عِلْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّ هَذَا أَدَقُّ مَعْنًى وَأَنْسَبُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمُضِيَّ فِي فِعْلِ ضَرَبَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَقَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُ: ضَرْبُ الْمَثَلِ فِي عِلْمِهِ فَأَخْبِرْ بِهِ قَوْمَكَ.
فَالَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيَّ إِلَى سُلُوكِ هَذَا الْمَعْنَى فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ رَعْيُ مُنَاسَبَاتٍ اخْتُصَّ بِهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهَا مِنْ نَظَائِرِ صِيغَتِهَا مِمَّا لَمْ يُوجَدْ لِلَّهِ فِيهِ مُقْتَضٍ لِنَحْوِ هَذَا الْمَحْمَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً كَمَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٢٤]، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ
عِنْدَ قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً فِي سُورَةِ [النَّحْلِ: ١١٢].
وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ: إِنَّ الْعُدُولَ عَنْ أَنْ يُصَاغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣]، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الْكَهْف: ٣٢] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: ٤٥] إِلَى أَنْ صِيَغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ هُوَ التَّوَسُّلُ إِلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْمَثَلِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
وَإِسْنَادُ ضَرْبِ الْمَثَلِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ كَوَّنَ نَظْمَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ ثُمَّ أَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَمْثَالُهُ وَغَيْرُهَا، وَهُوَ كُلُّهُ مَأْمُورٌ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا فَاضْرِبْهُ لِلنَّاسِ وَبَيِّنْهُ لَهُمْ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَتَبْكِيتُهُمْ بِهِ فِي كَشْفِ سُوءِ حَالَتِهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ كَقَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣]، وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩]، قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: ١٠]، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ [الزمر: ١١]، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ [الزمر: ١٤]، قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ [الزمر:
١٥]، فَبَشِّرْ عِبادِ [الزمر: ١٧].
400
وَقَدْ يَتَطَلَّبُ وَجْهُهُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَمَا صِيغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ فَنُفَرِّقُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ بِأَنَّ مَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَانَ فِي مَقَامٍ أَهَمَّ لِأَنَّهُ إِمَّا تَمْثِيلٌ لِإِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ، وَإِمَّا لِوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِمَّا لِنَحْوِ ذَلِكَ، خِلَافًا لِمَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ كَائِنٌ فِي مَقَامِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ إِجْمَالًا فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
وَقَوْلُهُ: رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِ- مَثَلًا.
وَجَعْلُ الْمُمَثَّلِ بِهِ حَالَةَ رَجُلٍ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ امْرَأَةٍ أَوْ طِفْلٍ وَلَكِنْ لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى أَذْهَانِ النَّاسِ فِي الْمُخَاطَبَاتِ وَالْحِكَايَاتِ، وَلِأَنَّ مَا يُرَادُ مِنَ الرجل مِنَ الْأَعْمَالِ أَكْثَرُ مِمَّا يُرَادُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ أَشَدُّ شُعُورًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الدَّعَةِ أَوِ الْكَدِّ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ فَقَدْ يَغْفُلَانِ وَيَلْهَيَانِ.
وَجُمْلَةُ فِيهِ شُرَكاءُ نَعْتٌ لِ- رَجُلًا، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى شُرَكاءُ لِأَنَّ خَبَرَ النَّكِرَةِ يَحْسُنُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا إِذَا وُصِفَتْ، فَإِذَا لَمْ تُوصَفْ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِكَرَاهَةِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ. وَمَعْنَى فِيهِ شُرَكاءُ: فِي مُلْكِهِ شُرَكَاءُ.
وَالتَّشَاكُسُ: شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ، وَشِدَّةُ الِاخْتِلَافِ فِي الرَّجُلِ الِاخْتِلَافُ فِي اسْتِخْدَامِهِ وَتَوْجِيهِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَلَماً بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا مِيمٌ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ: سَلِمَ لَهُ، إِذَا خَلَصَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ سَالِمًا بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ مِنْ:
سَلِمَ، إِذَا خَلَصَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ كَمَا أَيَّدَهُ النَّحَاسُ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِيهِ لِلرَّجُلِ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِ فِي تَقَسُّمِ عَقْلِهِ بَيْنَ آلِهَةٍ كَثِيرِينَ فَهُوَ فِي حَيْرَةٍ وَشَكٍّ مِنْ رِضَى بَعْضِهِمْ عَنْهُ وَغَضَبِ بَعْضٍ، وَفِي تَرَدُّدِ عِبَادَتِهِ إِنْ أَرْضَى بِهَا أَحَدَ آلِهَتِهِ، لَعَلَّهُ يُغْضِبُ بِهَا ضِدَّهُ، فَرَغَبَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ أَوْلَى بِبَعْضِ الْأَصْنَامِ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ:
٩١]، وَيَبْقَى هُوَ ضَائِعًا لَا يَدْرِي عَلَى
وَقَوْلُهُ: رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِ- مَثَلًا.
وَجَعْلُ الْمُمَثَّلِ بِهِ حَالَةَ رَجُلٍ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ امْرَأَةٍ أَوْ طِفْلٍ وَلَكِنْ لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى أَذْهَانِ النَّاسِ فِي الْمُخَاطَبَاتِ وَالْحِكَايَاتِ، وَلِأَنَّ مَا يُرَادُ مِنَ الرجل مِنَ الْأَعْمَالِ أَكْثَرُ مِمَّا يُرَادُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ أَشَدُّ شُعُورًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الدَّعَةِ أَوِ الْكَدِّ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ فَقَدْ يَغْفُلَانِ وَيَلْهَيَانِ.
وَجُمْلَةُ فِيهِ شُرَكاءُ نَعْتٌ لِ- رَجُلًا، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى شُرَكاءُ لِأَنَّ خَبَرَ النَّكِرَةِ يَحْسُنُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا إِذَا وُصِفَتْ، فَإِذَا لَمْ تُوصَفْ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِكَرَاهَةِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ. وَمَعْنَى فِيهِ شُرَكاءُ: فِي مُلْكِهِ شُرَكَاءُ.
وَالتَّشَاكُسُ: شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ، وَشِدَّةُ الِاخْتِلَافِ فِي الرَّجُلِ الِاخْتِلَافُ فِي اسْتِخْدَامِهِ وَتَوْجِيهِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَلَماً بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا مِيمٌ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ: سَلِمَ لَهُ، إِذَا خَلَصَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ سَالِمًا بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ مِنْ:
سَلِمَ، إِذَا خَلَصَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ كَمَا أَيَّدَهُ النَّحَاسُ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِيهِ لِلرَّجُلِ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِ فِي تَقَسُّمِ عَقْلِهِ بَيْنَ آلِهَةٍ كَثِيرِينَ فَهُوَ فِي حَيْرَةٍ وَشَكٍّ مِنْ رِضَى بَعْضِهِمْ عَنْهُ وَغَضَبِ بَعْضٍ، وَفِي تَرَدُّدِ عِبَادَتِهِ إِنْ أَرْضَى بِهَا أَحَدَ آلِهَتِهِ، لَعَلَّهُ يُغْضِبُ بِهَا ضِدَّهُ، فَرَغَبَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ أَوْلَى بِبَعْضِ الْأَصْنَامِ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ:
٩١]، وَيَبْقَى هُوَ ضَائِعًا لَا يَدْرِي عَلَى
401
أَيِّهِمْ يَعْتَمِدُ، فَوَهْمُهُ شُعَاعٌ، وَقَلْبُهُ أَوْزَاعٌ، بِحَالِ مَمْلُوكٍ اشْتَرَكَ فِيهِ مَالِكُونَ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ وَتَنَازُعٌ، فَهُمْ يَتَعَاوَرُونَهُ فِي مِهَنٍ شَتَّى وَيَتَدَافَعُونَهُ فِي حَوَائِجِهِمْ، فَهُوَ حَيْرَانُ فِي إِرْضَائِهِمْ تَعْبَاْنُ فِي أَدَاءِ حُقُوقِهِمْ لَا يَسْتَقِلُّ لَحْظَةً وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنِ اسْتِرَاحَةٍ.
وَيُقَابِلُهُ تَمْثِيلُ حَالِ الْمُسْلِمِ الْمُوَحِّدِ يَقُومُ بِمَا كَلَّفَهُ رَبُّهُ عَارِفًا بِمَرْضَاتِهِ مُؤَمِّلًا رِضَاهُ وَجَزَاءَهُ، مُسْتَقِرَّ الْبَالِ، بِحَالِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْخَالِصِ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ قَدْ عَرَفَ مُرَادَ مَوْلَاهُ وَعَلِمَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ فَفَهْمُهُ وَاحِدٌ وَقَلْبُهُ مُجْتَمِعٌ وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي كُلِّ مُتَّبِعِ حَقٍّ وَمُتَّبِعِ بَاطِلٍ فَإِنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْوُجُودِ وَالْوَاقِعِ، وَالْبَاطِلُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْوَاقِعِ، فَمُتَّبِعُ الْحَقِّ لَا يَعْتَرِضُهُ مَا يشوش عَلَيْهِ باله وَلَا مَا يُثْقِلُ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ، وَمُتَّبِعُ الْبَاطِلِ يَتَعَثَّرُ بِهِ فِي مَزَالِقِ الْخُطَى وَيَتَخَبَّطُ فِي أَعْمَالِهِ بَيْنَ تَنَاقُضٍ وَخَطَأٍ.
ثُمَّ قَالَ: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا، أَيْ هَلْ يَكُونُ هَذَانِ الرَّجُلَانِ الْمُشَبَّهَانِ مُسْتَوِيَيْنِ حَالًا بَعْدَ مَا عَلِمْتُمْ مِنِ اخْتِلَافِ حَالَيِ الْمُشَبَّهِينَ بِهِمَا. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَوِيانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرِيًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارِيًّا، وَجِيءَ فِيهِ بِ- هَلْ لِتَحْقِيقِ التَّقْرِيرِ أَوِ الْإِنْكَارِ. وَانْتُصِبَ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ يَسْتَوِيانِ.
وَالْمَثَلُ: الْحَالُ. وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ يَسْتَوِي حَالَاهُمَا، وَالِاسْتِوَاءُ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ التَّمْيِيزُ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَقَدْ عُرِفَ التَّعَدُّدُ مِنْ فَاعِلِ يَسْتَوِيانِ وَلَوْ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى مَا وَقَعَ بِهِ التَّمْيِيزُ لَقِيلَ: هَلْ يَسْتَوِي مَثَلَاهُمَا.
وَجُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَحَدَ الظَّرْفَيْنِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِمَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لَا يَسَعُ الْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِقْرَارَ بِهِ، فَيُقَدَّرُونَ: أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَالَةِ، أَيْ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ لَا يَنْتَظِرُ السَّائِلُ جَوَابًا عَنْهُ، فَلِذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يَتَوَلَّى الْجَوَابَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ الْمَسْئُولُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: ١- ٢]، وَقَدْ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْمَسْئُولَ اعْتَرَفَ فَيُؤْتَى بِمَا يُنَاسِبُ اعْتِرَافَهُ كَمَا هُنَا،
وَيُقَابِلُهُ تَمْثِيلُ حَالِ الْمُسْلِمِ الْمُوَحِّدِ يَقُومُ بِمَا كَلَّفَهُ رَبُّهُ عَارِفًا بِمَرْضَاتِهِ مُؤَمِّلًا رِضَاهُ وَجَزَاءَهُ، مُسْتَقِرَّ الْبَالِ، بِحَالِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْخَالِصِ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ قَدْ عَرَفَ مُرَادَ مَوْلَاهُ وَعَلِمَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ فَفَهْمُهُ وَاحِدٌ وَقَلْبُهُ مُجْتَمِعٌ وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي كُلِّ مُتَّبِعِ حَقٍّ وَمُتَّبِعِ بَاطِلٍ فَإِنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْوُجُودِ وَالْوَاقِعِ، وَالْبَاطِلُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْوَاقِعِ، فَمُتَّبِعُ الْحَقِّ لَا يَعْتَرِضُهُ مَا يشوش عَلَيْهِ باله وَلَا مَا يُثْقِلُ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ، وَمُتَّبِعُ الْبَاطِلِ يَتَعَثَّرُ بِهِ فِي مَزَالِقِ الْخُطَى وَيَتَخَبَّطُ فِي أَعْمَالِهِ بَيْنَ تَنَاقُضٍ وَخَطَأٍ.
ثُمَّ قَالَ: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا، أَيْ هَلْ يَكُونُ هَذَانِ الرَّجُلَانِ الْمُشَبَّهَانِ مُسْتَوِيَيْنِ حَالًا بَعْدَ مَا عَلِمْتُمْ مِنِ اخْتِلَافِ حَالَيِ الْمُشَبَّهِينَ بِهِمَا. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَوِيانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرِيًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارِيًّا، وَجِيءَ فِيهِ بِ- هَلْ لِتَحْقِيقِ التَّقْرِيرِ أَوِ الْإِنْكَارِ. وَانْتُصِبَ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ يَسْتَوِيانِ.
وَالْمَثَلُ: الْحَالُ. وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ يَسْتَوِي حَالَاهُمَا، وَالِاسْتِوَاءُ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ التَّمْيِيزُ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَقَدْ عُرِفَ التَّعَدُّدُ مِنْ فَاعِلِ يَسْتَوِيانِ وَلَوْ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى مَا وَقَعَ بِهِ التَّمْيِيزُ لَقِيلَ: هَلْ يَسْتَوِي مَثَلَاهُمَا.
وَجُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَحَدَ الظَّرْفَيْنِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِمَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لَا يَسَعُ الْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِقْرَارَ بِهِ، فَيُقَدَّرُونَ: أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَالَةِ، أَيْ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ لَا يَنْتَظِرُ السَّائِلُ جَوَابًا عَنْهُ، فَلِذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يَتَوَلَّى الْجَوَابَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ الْمَسْئُولُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: ١- ٢]، وَقَدْ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْمَسْئُولَ اعْتَرَفَ فَيُؤْتَى بِمَا يُنَاسِبُ اعْتِرَافَهُ كَمَا هُنَا،
402
فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَسْتَوِيَانِ، وَذَلِكَ هُوَ مَا يَبْتَغِيهِ الْمُتَكَلِّمُ مِنِ اسْتِفْهَامِهِ، فَلَمَّا وَافَقَ جَوَابُهُمْ بُغْيَةَ الْمُسْتَفْهِمِ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى نُهُوضِ حُجَّتِهِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا، فَمَوْقِعُهَا كَمَوْقِعِ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الدَّلِيلِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّهُمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ عَلِمَ فَأَقَرَّ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً إِذَا جُعِلَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا فَتَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْإِنْكَارِ وَبَيْنَ الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ فِي قَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ عَدَمَ اسْتِوَاءِ الْحَالَتَيْنِ وَلَوْ عَلِمُوا لَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْحُسْنَى مِنْهُمَا، وَلَمَا أَصَرُّوا عَلَى الْإِشْرَاكِ.
وَأَفَادَ هَذَا أَنَّ مَا انْتَحَلُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَتَكَاذِيبِهِ لَا يَمُتُّ إِلَى الْعِلْمِ بِصِلَةٍ فَهُوَ جَهَالَةٌ وَاخْتِلَاقٌ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَأُسْنِدَ عَدَمُ الْعِلْمِ لِأَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَامَّةٌ أَتْبَاعٌ لِزُعَمَائِهِمُ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمُ الْإِشْرَاكَ وَشَرَائِعَهُ انْتِفَاعًا بِالْجَاهِ وَالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ بِحَيْثُ غَشَّى ذَلِكَ على عَمَلهم.
[٣٠- ٣١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣١]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي مَهْيَعِ إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَات الوحدانية للإله، وَتَوْضِيحِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَحَالِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُؤمنِينَ بِمَا ينبىء بِتَفْضِيلِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي مَهْيَعِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَعَلَى أَحَقِّيَّةِ الْإِيمَانِ، وَإِرْشَادِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى التَّبَصُّرِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَتَخَلَّلَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْلِعِينَ عَنْ بَاطِلِهِمْ، وَخُتِمَ بِتَسْجِيلِ جَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ، خُتِمَ هَذَا الْغَرَضُ بِإِحَالَتِهِمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارًا، وَحِينَ يَلْتَفِتُونَ فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا نَارًا.
وَقَدَّمَ لِذَلِكَ تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ فَإِنَّ الْمَوْتَ آخِرُ مَا يُذَكَّرُ بِهِ السَّادِرُ فِي غُلَوَائِهِ إِذَا كَانَ قَدِ اغْتَرَّ بِعَظَمَةِ الْحَيَاةِ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي اخْتِيَارِ طَرِيقِ السَّلَامَةِ
وَالنَّجَاةِ، وَهَذَا مِنِ انْتِهَازِ الْقُرْآنِ فُرَصَ الْإِرْشَادِ وَالْمَوْعِظَةِ.
وَأَفَادَ هَذَا أَنَّ مَا انْتَحَلُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَتَكَاذِيبِهِ لَا يَمُتُّ إِلَى الْعِلْمِ بِصِلَةٍ فَهُوَ جَهَالَةٌ وَاخْتِلَاقٌ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَأُسْنِدَ عَدَمُ الْعِلْمِ لِأَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَامَّةٌ أَتْبَاعٌ لِزُعَمَائِهِمُ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمُ الْإِشْرَاكَ وَشَرَائِعَهُ انْتِفَاعًا بِالْجَاهِ وَالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ بِحَيْثُ غَشَّى ذَلِكَ على عَمَلهم.
[٣٠- ٣١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣١]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي مَهْيَعِ إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَات الوحدانية للإله، وَتَوْضِيحِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَحَالِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُؤمنِينَ بِمَا ينبىء بِتَفْضِيلِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي مَهْيَعِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَعَلَى أَحَقِّيَّةِ الْإِيمَانِ، وَإِرْشَادِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى التَّبَصُّرِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَتَخَلَّلَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْلِعِينَ عَنْ بَاطِلِهِمْ، وَخُتِمَ بِتَسْجِيلِ جَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ، خُتِمَ هَذَا الْغَرَضُ بِإِحَالَتِهِمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارًا، وَحِينَ يَلْتَفِتُونَ فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا نَارًا.
وَقَدَّمَ لِذَلِكَ تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ فَإِنَّ الْمَوْتَ آخِرُ مَا يُذَكَّرُ بِهِ السَّادِرُ فِي غُلَوَائِهِ إِذَا كَانَ قَدِ اغْتَرَّ بِعَظَمَةِ الْحَيَاةِ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي اخْتِيَارِ طَرِيقِ السَّلَامَةِ
وَالنَّجَاةِ، وَهَذَا مِنِ انْتِهَازِ الْقُرْآنِ فُرَصَ الْإِرْشَادِ وَالْمَوْعِظَةِ.
403
فَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَاغْتُنِمَ هَذَا الْغَرَضُ لِيُجْتَلَبَ مَعَهُ مَوْعِظَةٌ بِمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ الْحَوَادِثِ عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِهَا مُعْتَبَرٌ، فَحَصَلَتْ بِهَذَا فَوَائِدُ: مِنْهَا تَمْهِيدُ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهَا التَّذْكِيرُ بِزَوَالِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَهَذَانِ عَامَّانِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا حَثُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِنْهَا إِشْعَارُهُمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُوتُ كَمَا مَاتَ النَّبِيئُونَ مِنْ قَبْلِهِ لِيَغْتَنِمُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَيَحْرِصُوا عَلَى مُلَازَمَةِ مَجْلِسِهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا فِي مَوْتِهِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي غَيْرِهِ، وَمِنْهَا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ سَوَّى فِي الْمَوْتِ بَيْنَ الْخَلْقِ دُونَ رَعْيٍ لِتَفَاضُلِهِمْ فِي الْحَيَاةِ لِتَكْثُرَ السَّلْوَةُ وَتَقِلَّ الْحَسْرَةُ.
فَجَمُلَتَا إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ اسْتِئْنَافٌ، وَعُطِفَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ عَلَى التَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الْإِنْبَاءَ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ.
وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ:
نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: ٣٠]، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِيكَ وَيَأْتِيهِمْ فَمَا يَدْرِي الْقَائِلُونَ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أَنْ يَكُونُوا يَمُوتُونَ قَبْلَكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصَارِعَ أَشَدِّ أَعْدَائِهِ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعُمَارَةَ بن الْوَلِيد فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا غَرَضَ هُنَا لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ مَيِّتُونَ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرَيْنِ بِ- (إِنَّ) لِتَحْقِيقَ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِي الْمَقْصُودِ مِنْهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْمَيِّتِ: الصَّائِرُ إِلَى الْمَوْتِ فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْوَصْفِ فِيمَنْ سَيَتَّصِفُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ مِثْلُ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠].
فَجَمُلَتَا إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ اسْتِئْنَافٌ، وَعُطِفَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ عَلَى التَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الْإِنْبَاءَ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ.
وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ:
نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: ٣٠]، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِيكَ وَيَأْتِيهِمْ فَمَا يَدْرِي الْقَائِلُونَ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أَنْ يَكُونُوا يَمُوتُونَ قَبْلَكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصَارِعَ أَشَدِّ أَعْدَائِهِ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعُمَارَةَ بن الْوَلِيد فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا غَرَضَ هُنَا لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ مَيِّتُونَ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرَيْنِ بِ- (إِنَّ) لِتَحْقِيقَ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِي الْمَقْصُودِ مِنْهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْمَيِّتِ: الصَّائِرُ إِلَى الْمَوْتِ فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْوَصْفِ فِيمَنْ سَيَتَّصِفُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ مِثْلُ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠].
404
وَالْمَيِّتُ: هُوَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْمَوْتِ، أَيْ زَالَتْ عَنْهُ الْحَيَاةُ، وَمِثْلُهُ: الْمَيْتُ بِتَخْفِيفِ
السُّكُونِ عَلَى الْيَاءِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ.
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ الْبَعْثَ.
وَتَقْدِيمُ عِنْدَ رَبِّكُمْ عَلَى تَخْتَصِمُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ.
وَالِاخْتِصَامُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، أَيْ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا اخْتَصَمْتُمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِثْبَاتِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً وَإِبْطَالِكُمْ ذَلِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النَّحْل: ١٢٤]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِصَامُ أُطْلِقَ عَلَى حِكَايَةِ مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حِينَ تُعْرَضُ أَعْمَالُهُمْ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا تَخَاصُمُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فِي طَالِعِ مَحْضَرِ خُصُومَةٍ وَمُقَاوَلَةٍ بَيْنَهُمَا يُقْرَأُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي.
وَيَجُوزُ أَنْ تُصَوَّرَ خُصُومَةُ بَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ يَوْمَئِذٍ لِيَفْتَضِحَ الْمُبْطِلُونَ وَيَبْهَجَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: ٦٤].
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَضَمِيرُ إِنَّكُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّكَ وإِنَّهُمْ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ اخْتِصَامُ الظُّلَامَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ تَأْوِيلُ الضَّمِيرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْنَا: كَيْفَ نَخْتَصِمُ وَنَحْنُ إِخْوَانٌ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَضَرَبَ بَعْضُنَا وَجْهَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ قُلْنَا: هَذَا الْخِصَامُ الَّذِي وَعَدَنَا رَبُّنَا». وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِثْلَ مَقَالَةِ ابْنِ عمر وَلَكِن أَبَا سَعِيدٍ قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ صِفِّينَ وَشَدَّ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ ذَا». وَسَوَاءٌ شَمِلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَحَامِلَ وَهُوَ الْأَلْيَقُ، أَوْ لَمْ تشملها فالمقصود الْأَصْلِيّ مِنْهَا هُوَ تَخَاصُمُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ
السُّكُونِ عَلَى الْيَاءِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ.
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ الْبَعْثَ.
وَتَقْدِيمُ عِنْدَ رَبِّكُمْ عَلَى تَخْتَصِمُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ.
وَالِاخْتِصَامُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، أَيْ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا اخْتَصَمْتُمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِثْبَاتِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً وَإِبْطَالِكُمْ ذَلِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النَّحْل: ١٢٤]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِصَامُ أُطْلِقَ عَلَى حِكَايَةِ مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حِينَ تُعْرَضُ أَعْمَالُهُمْ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا تَخَاصُمُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فِي طَالِعِ مَحْضَرِ خُصُومَةٍ وَمُقَاوَلَةٍ بَيْنَهُمَا يُقْرَأُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي.
وَيَجُوزُ أَنْ تُصَوَّرَ خُصُومَةُ بَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ يَوْمَئِذٍ لِيَفْتَضِحَ الْمُبْطِلُونَ وَيَبْهَجَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: ٦٤].
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَضَمِيرُ إِنَّكُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّكَ وإِنَّهُمْ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ اخْتِصَامُ الظُّلَامَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ تَأْوِيلُ الضَّمِيرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْنَا: كَيْفَ نَخْتَصِمُ وَنَحْنُ إِخْوَانٌ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَضَرَبَ بَعْضُنَا وَجْهَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ قُلْنَا: هَذَا الْخِصَامُ الَّذِي وَعَدَنَا رَبُّنَا». وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِثْلَ مَقَالَةِ ابْنِ عمر وَلَكِن أَبَا سَعِيدٍ قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ صِفِّينَ وَشَدَّ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ ذَا». وَسَوَاءٌ شَمِلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَحَامِلَ وَهُوَ الْأَلْيَقُ، أَوْ لَمْ تشملها فالمقصود الْأَصْلِيّ مِنْهَا هُوَ تَخَاصُمُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ
405
[٣٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سُورَةُ الزُّمَرِ)[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٣٢]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢)
أَفَادَتِ الْفَاءُ تَفْرِيعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا تَفْرِيعَ الْقَضَاءِ عَنِ الْخُصُومَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ:
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: ٣١] إِذْ قد عَلِمْتَ أَنَّ الِاخْتِصَامَ كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ وَأَنْكَرُوهُ، وَالْمَعْنَى: يَقْضِي بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ
الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ إِذْ هُوَ الَّذِي لَا أَظْلَمَ مِنْهُ، أَيْ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بِنِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ إِلَيْهِ وَالْبَنَاتِ، وَكَذَّبُوا بِالصِّدْقِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَمَا صدق مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ الْفَرِيقُ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠] وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: ٢٤].
وَقَدْ كُنِّيَ عَنْ كَوْنِهِمْ مَدِينِينَ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ أَظْلَمُ لِأَنَّ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ لَا يُقَرَّ الظَّالِمُ عَلَى ظُلْمِهِ فَإِذَا وُصِفَ الْخَصْمُ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ عُلِمَ أَنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَن دَاوُد:
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ [ص: ٢٤]. وَقَدْ عُدِلَ عَنْ صَوْغِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ إِلَى صَوْغِهِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّامِعَ لَا يَسَعُهُ إِلَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ.
فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا مُرْسَلًا أَوْ كِنَايَةً مُرَادٌ بِهِ أَنَّهُمْ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ وَأَنَّهُ لَا ظَالِمَ أَظْلَمُ مِنْهُمْ، فَآلَ مَعْنَاهُ إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ فَرِيقٌ أَظْلَمَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا أَصْنَافًا مِنَ
5
الظُّلْمِ الْعَظِيمِ: ظُلْمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُرْمَةِ الرَّبِّ بِالْكَذِبِ فِي صِفَاتِهِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ بِادِّعَاءِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَظُلْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْذِيبِهِ، وَظُلْمِ الْقُرْآنِ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الْبَاطِلِ، وَظُلْمِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَذَى، وَظُلْمِ حَقَائِقِ الْعَالَمِ بِقَلْبِهَا وَإِفْسَادِهَا، وَظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ بِإِقْحَامِهَا فِي الْعَذَابِ الْخَالِدِ.
وَعُدِلَ عَن الْإِتْيَان بضميرهم إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ كَوْنِهِمْ أَظْلَمَ النَّاسِ. وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالصِّدْقِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْكَذِبَيْنِ هُمَا جِمَاعُ مَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الظُّلْمِ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
وَالصِّدْقُ: ضِدُّ الْكَذِبِ. وَالْمُرَادُ بِالصِّدْقِ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَجِيءُ الصِّدْقِ إِلَيْهِمْ: بُلُوغُهُ إِيَّاهُمْ، أَيْ سَمَاعُهُمْ إِيَّاهُ وَفَهْمُهُمْ فَإِنَّهُ بِلِسَانِهِمْ وَجَاءَ بِأَفْصَحِ بَيَانٍ بِحَيْثُ لَا يُعْرِضُ عَنْهُ إِلَّا مُكَابِرٌ مُؤْثِرٌ حُظُوظَ الشَّهْوَةِ وَالْبَاطِلِ عَلَى حُظُوظِ الْإِنْصَافِ وَالنَّجَاةِ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ كَلِمَةِ (الصِّدْقِ) وَفِعْلِ كَذَبَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وإِذْ جاءَهُ مُتَعَلِّقٌ بِ كَذَبَ، وإِذْ ظَرْفُ زَمَنٍ مَاضٍ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الزَّمَنِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا، وَحُصُولُ مُتَعَلِّقِهِ، فَقَوْلُهُ: إِذْ جاءَهُ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ كَذَّبَ بِالْحَقِّ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ بِدُونِ مُهْلَةٍ، أَيْ بَادَرَ بِالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ وَقْفَةٍ لِإِعْمَالِ رُؤْيَةٍ وَلَا اهْتِمَامٍ بِمَيْزٍ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ.
وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَيْ أَنَّ ظُلْمَهُمْ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ مَثْوَاهُمْ فِي جَهَنَّمَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَإِنَّمَا وُجِّهَ الِاسْتِفْهَامُ إِلَى نَفْيِ مَا الْمَقْصُودُ التَّقْرِيرُ بِهِ جَرْيًا
وَعُدِلَ عَن الْإِتْيَان بضميرهم إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ كَوْنِهِمْ أَظْلَمَ النَّاسِ. وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالصِّدْقِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْكَذِبَيْنِ هُمَا جِمَاعُ مَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الظُّلْمِ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
وَالصِّدْقُ: ضِدُّ الْكَذِبِ. وَالْمُرَادُ بِالصِّدْقِ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَجِيءُ الصِّدْقِ إِلَيْهِمْ: بُلُوغُهُ إِيَّاهُمْ، أَيْ سَمَاعُهُمْ إِيَّاهُ وَفَهْمُهُمْ فَإِنَّهُ بِلِسَانِهِمْ وَجَاءَ بِأَفْصَحِ بَيَانٍ بِحَيْثُ لَا يُعْرِضُ عَنْهُ إِلَّا مُكَابِرٌ مُؤْثِرٌ حُظُوظَ الشَّهْوَةِ وَالْبَاطِلِ عَلَى حُظُوظِ الْإِنْصَافِ وَالنَّجَاةِ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ كَلِمَةِ (الصِّدْقِ) وَفِعْلِ كَذَبَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وإِذْ جاءَهُ مُتَعَلِّقٌ بِ كَذَبَ، وإِذْ ظَرْفُ زَمَنٍ مَاضٍ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الزَّمَنِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا، وَحُصُولُ مُتَعَلِّقِهِ، فَقَوْلُهُ: إِذْ جاءَهُ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ كَذَّبَ بِالْحَقِّ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ بِدُونِ مُهْلَةٍ، أَيْ بَادَرَ بِالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ وَقْفَةٍ لِإِعْمَالِ رُؤْيَةٍ وَلَا اهْتِمَامٍ بِمَيْزٍ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ.
وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَيْ أَنَّ ظُلْمَهُمْ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ مَثْوَاهُمْ فِي جَهَنَّمَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَإِنَّمَا وُجِّهَ الِاسْتِفْهَامُ إِلَى نَفْيِ مَا الْمَقْصُودُ التَّقْرِيرُ بِهِ جَرْيًا
6
عَلَى الْغَالِبِ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَهِيَ طَرِيقَةُ إِرْخَاءِ الْعَنَانِ لِلْمُقَرَّرِ بِحَيْثُ يُفْتَحُ لَهُ بَابُ الْإِنْكَارِ عِلْمًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَسَعُهُ الْإِنْكَارُ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُقِرَّ بِالْإِثْبَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا رَدًّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ النَّارِ الدَّالِّ عَلَيْهِ تَصْمِيمُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَعْوَةِ الْقُرْآنِ.
وَالْكَافِرُونَ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَأَثْبَتُوا لَهُ الشُّرَكَاءَ أَوْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ بَعْدَ ظُهُورِ دَلَالَةِ صِدْقِهِمْ، وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْكَافِرِينَ) لِلْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَشَمِلَ الْكَافِرِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ شُمُولًا أَوَّلِيًّا. وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُفِيدَةً لِلتَّذْيِيلِ أَيْضًا، وَيَكُونُ اقْتِضَاءُ مَصِيرِ الْكَافِرِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ إِلَى النَّارِ ثَابِتًا بِشِبْهِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَعُمُّ مَصِيرَ جَمِيعِ الْجِنْسِ الَّذِي هُمْ مِنْ أَصْنَافِهِ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
وَالْمَثْوَى: اسْمُ مَكَانِ الثُّوَاءِ، وَهُوَ الْقَرَارُ، فالمثوى الْمقر.
[٣٣- ٣٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٥]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالصِّدْقُ: الْقُرْآنُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ [الزمر: ٣٢].
وَجُمْلَةُ وَصَدَّقَ بِهِ صِلَةُ مَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الَّذِي صَدَّقَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ فَالْعَطْفُ عَطْفُ جُمْلَةٍ كَامِلَةٍ وَلَيْسَ عَطْفَ جُمْلَةِ صِلَةٍ.
وَالْكَافِرُونَ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَأَثْبَتُوا لَهُ الشُّرَكَاءَ أَوْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ بَعْدَ ظُهُورِ دَلَالَةِ صِدْقِهِمْ، وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْكَافِرِينَ) لِلْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَشَمِلَ الْكَافِرِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ شُمُولًا أَوَّلِيًّا. وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُفِيدَةً لِلتَّذْيِيلِ أَيْضًا، وَيَكُونُ اقْتِضَاءُ مَصِيرِ الْكَافِرِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ إِلَى النَّارِ ثَابِتًا بِشِبْهِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَعُمُّ مَصِيرَ جَمِيعِ الْجِنْسِ الَّذِي هُمْ مِنْ أَصْنَافِهِ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
وَالْمَثْوَى: اسْمُ مَكَانِ الثُّوَاءِ، وَهُوَ الْقَرَارُ، فالمثوى الْمقر.
[٣٣- ٣٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٥]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالصِّدْقُ: الْقُرْآنُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ [الزمر: ٣٢].
وَجُمْلَةُ وَصَدَّقَ بِهِ صِلَةُ مَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الَّذِي صَدَّقَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ فَالْعَطْفُ عَطْفُ جُمْلَةٍ كَامِلَةٍ وَلَيْسَ عَطْفَ جُمْلَةِ صِلَةٍ.
7
وَضَمِيرُ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى (الصِّدْقِ) وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ، وَالتَّصْدِيقُ بِكِلَيْهِمَا مُتَلَازِمٌ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ كَانَ مُرَادًا بِهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جَمَاعَةٌ فَلَا تَقَعُ صِفَتُهُمْ صِلَةً
لِ الَّذِي لِأَنَّ أَصْلَهُ لِلْمُفْرَدِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ بِفَرِيقٍ، وَقَرِينَتُهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ عَائِدُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَصَدَّقَ رَعْيًا لِلَفْظِ الَّذِي وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْإِيجَازِ.
وَرَوَى الطَّبَرَيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْعِنَايَةِ بِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ هُمُ الْمُتَّقُونَ يُفِيدُ قَصْرَ جِنْسِ الْمُتَّقِينَ عَلَى الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا متقي يَوْمَئِذٍ غَيْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَكُلُّهُمْ مُتَّقُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَشْرَقَتْ عَلَى نُفُوسِهِمْ أَنْوَارُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطَهَّرَتْ ضَمَائِرُهُمْ مِنْ كُلِّ سَيِّئَةٍ فَكَانُوا مَحْفُوظِينَ مِنَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى قَالَ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: ١١٠]. وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ تَحَقَّقَ فِيهِمْ مَا أُرِيدَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: ٢٨].
وَجُمْلَةُ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُمْ لَمَّا قُصِرَ عَلَيْهِمْ جِنْسُ الْمُتَّقِينَ كَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِمَزِيَّةٍ عَظِيمَةٍ فَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَسْأَلَ السَّامِعُ عَنْ جَزَاءِ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ لَهُم مَا يشاؤون عِنْدَ الله. وَمَا يَشاؤُنَ هُوَ مَا يُرِيدُونَ وَيَتَمَنَّوْنَ، أَيْ يُعْطِيهُمُ اللَّهُ مَا يَطْلُبُونَ فِي الْجَنَّةِ.
وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ ادَّخَرَ لَهُمْ مَا يَبْتَغُونَهُ، وَهَذَا مِنْ صِيَغِ الِالْتِزَامِ
لِ الَّذِي لِأَنَّ أَصْلَهُ لِلْمُفْرَدِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ بِفَرِيقٍ، وَقَرِينَتُهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ عَائِدُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَصَدَّقَ رَعْيًا لِلَفْظِ الَّذِي وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْإِيجَازِ.
وَرَوَى الطَّبَرَيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْعِنَايَةِ بِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ هُمُ الْمُتَّقُونَ يُفِيدُ قَصْرَ جِنْسِ الْمُتَّقِينَ عَلَى الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا متقي يَوْمَئِذٍ غَيْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَكُلُّهُمْ مُتَّقُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَشْرَقَتْ عَلَى نُفُوسِهِمْ أَنْوَارُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطَهَّرَتْ ضَمَائِرُهُمْ مِنْ كُلِّ سَيِّئَةٍ فَكَانُوا مَحْفُوظِينَ مِنَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى قَالَ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: ١١٠]. وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ تَحَقَّقَ فِيهِمْ مَا أُرِيدَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: ٢٨].
وَجُمْلَةُ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُمْ لَمَّا قُصِرَ عَلَيْهِمْ جِنْسُ الْمُتَّقِينَ كَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِمَزِيَّةٍ عَظِيمَةٍ فَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَسْأَلَ السَّامِعُ عَنْ جَزَاءِ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ لَهُم مَا يشاؤون عِنْدَ الله. وَمَا يَشاؤُنَ هُوَ مَا يُرِيدُونَ وَيَتَمَنَّوْنَ، أَيْ يُعْطِيهُمُ اللَّهُ مَا يَطْلُبُونَ فِي الْجَنَّةِ.
وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ ادَّخَرَ لَهُمْ مَا يَبْتَغُونَهُ، وَهَذَا مِنْ صِيَغِ الِالْتِزَامِ
8
وَوَعْدِ الْإِيجَابِ، يُقَالُ: لَكَ عِنْدِي كَذَا أَيْ أَلْتَزِمُ لَكَ بِكَذَا، ثُمَّ يَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ يُلْهِمُهُمْ أَنْ يَشَاءُوا مَا لَا يَتَجَاوَزُ قَدْرَ مَا عَيَّنَ اللَّهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: تَمَنَّهْ، فَلَا يَزَالُ يَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الْأَمَانِيُّ فَيَقُولُ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ»
. وَيَجُوزُ أَن مَا يَشاؤُنَ مِمَّا يَقَعُ تَحْتَ أَنْظَارِهِمْ فِي قُصُورِهِمْ وَيَحْجُبُ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يسْأَلُون إِلَّا مَا هُوَ مِنْ عَطَاءِ أَمْثَالِهِمْ وَهُوَ عَظِيمٌ وَيَقْلَعُ اللَّهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْ حُظُوظِهِمْ. وَيَجُوزُ أَن مَا يَشاؤُنَ كِنَايَةٌ عَنْ سَعَةِ مَا يُعْطَوْنَهُ كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»
وَهَذَا كَمَا يَقُولُ مَنْ أَسْدَيْتَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ:
لَكَ عَلَيَّ حُكْمُكَ، أَوْ لَكَ عِنْدِي مَا تَسْأَلُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ مَا هُوَ غَايَةُ الْإِحْسَانِ لِأَمْثَالِهِ.
وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى وَصْفِ رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ
يُعْطِيهِمْ عَطَاءَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِيثَارِ بِالْخَيْرِ.
ثُمَّ نَوَّهَ بِهَذَا الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا يَشَاءُونَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَنَّهُ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ. وَأُشِيرَ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَضَمُّنِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُحْسِنِينَ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ الْمُتَّقُونَ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِهِمْ فَيُقَالُ: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ، فَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ.
وَالْإِحْسَانُ: هُوَ كَمَالُ التَّقْوَى لِأَنَّهُ
فَسَّرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»
وَأَيُّ إِحْسَانٍ وَأَيُّ تَقْوًى أَعْظَمُ مِنْ نبذهم مَا نشأوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَمِنْ تَحَمُّلِهِمْ مُخَالَفَةَ أَهْلِيهِمْ وَذَوِيهِمْ وَعَدَاوَتِهُمْ وَأَذَاهُمْ، وَمِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى مُصَادَرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَمُفَارَقَةِ نِسَائِهِمْ تَصْدِيقًا لِلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَإِيثَارًا لِرِضَى اللَّهِ عَلَى شَهْوَةِ النَّفْسِ وَرِضَى الْعَشِيرَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: تَمَنَّهْ، فَلَا يَزَالُ يَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الْأَمَانِيُّ فَيَقُولُ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ»
. وَيَجُوزُ أَن مَا يَشاؤُنَ مِمَّا يَقَعُ تَحْتَ أَنْظَارِهِمْ فِي قُصُورِهِمْ وَيَحْجُبُ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يسْأَلُون إِلَّا مَا هُوَ مِنْ عَطَاءِ أَمْثَالِهِمْ وَهُوَ عَظِيمٌ وَيَقْلَعُ اللَّهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْ حُظُوظِهِمْ. وَيَجُوزُ أَن مَا يَشاؤُنَ كِنَايَةٌ عَنْ سَعَةِ مَا يُعْطَوْنَهُ كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»
وَهَذَا كَمَا يَقُولُ مَنْ أَسْدَيْتَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ:
لَكَ عَلَيَّ حُكْمُكَ، أَوْ لَكَ عِنْدِي مَا تَسْأَلُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ مَا هُوَ غَايَةُ الْإِحْسَانِ لِأَمْثَالِهِ.
وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى وَصْفِ رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ
يُعْطِيهِمْ عَطَاءَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِيثَارِ بِالْخَيْرِ.
ثُمَّ نَوَّهَ بِهَذَا الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا يَشَاءُونَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَنَّهُ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ. وَأُشِيرَ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَضَمُّنِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُحْسِنِينَ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ الْمُتَّقُونَ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِهِمْ فَيُقَالُ: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ، فَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ.
وَالْإِحْسَانُ: هُوَ كَمَالُ التَّقْوَى لِأَنَّهُ
فَسَّرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»
وَأَيُّ إِحْسَانٍ وَأَيُّ تَقْوًى أَعْظَمُ مِنْ نبذهم مَا نشأوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَمِنْ تَحَمُّلِهِمْ مُخَالَفَةَ أَهْلِيهِمْ وَذَوِيهِمْ وَعَدَاوَتِهُمْ وَأَذَاهُمْ، وَمِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى مُصَادَرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَمُفَارَقَةِ نِسَائِهِمْ تَصْدِيقًا لِلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَإِيثَارًا لِرِضَى اللَّهِ عَلَى شَهْوَةِ النَّفْسِ وَرِضَى الْعَشِيرَةِ.
9
وَقَوْلُهُ: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَالْتَزَمَ لَهُمْ ذَلِكَ لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ وَعْدًا مُطْلَقًا لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ مَا عَمِلُوهُ، أَيْ مَا وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَّا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِ مَا عَمِلُوا.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ إِعْلَامُهُمْ بِهِ لِيَطْمَئِنُّوا مِنْ عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَأَحْوَالِهِ.
وأَسْوَأَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى ظَاهِرِ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِنِ اقْتِضَاءِ مُفَضَّلٍ عَلَيْهِ، فَالْمُرَادُ بِأَسْوَأِ عَمَلِهِمْ هُوَ أَعْظَمُهُ سُوءًا وَهُوَ الشِّرْكُ،
سُئِلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟
فَقَالَ: «أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»
. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي عَمِلُوا إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِ الشِّرْكِ مِمَّا عَمِلُوا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشِّرْكَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَإِذَا كَفَّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا كَفَّرَ عَنْهُمْ مَا دونه من سيّىء أَعْمَالِهِمْ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، فَأَفَادَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهُمْ جَمِيعَ مَا عَمِلُوا مِنْ سَيِّئَاتٍ، فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا سَبَقَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَالْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ صَدَّقَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا عَسَى أَنْ يَعْمَلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ هَذَا التَّكْفِيرُ خُصُوصِيَّةً لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فَضْلَ الصُّحْبَةِ عَظِيمٌ.
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تسبّوا أَصْحَابِي فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَأَ مَسْلُوبَ الْمُفَاضَلَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَازٌ فِي السُّوءِ الْعَظِيمِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣] أَيِ الْعَمَلُ الشَّدِيدُ السُّوءِ، وَهُوَ الْكَبَائِرُ، وَتَكُونُ إِضَافَتُهُ بَيَانِيَّةً. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رُتْبَةَ صُحْبَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظِيمَةٌ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ إِعْلَامُهُمْ بِهِ لِيَطْمَئِنُّوا مِنْ عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَأَحْوَالِهِ.
وأَسْوَأَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى ظَاهِرِ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِنِ اقْتِضَاءِ مُفَضَّلٍ عَلَيْهِ، فَالْمُرَادُ بِأَسْوَأِ عَمَلِهِمْ هُوَ أَعْظَمُهُ سُوءًا وَهُوَ الشِّرْكُ،
سُئِلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟
فَقَالَ: «أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»
. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي عَمِلُوا إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِ الشِّرْكِ مِمَّا عَمِلُوا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشِّرْكَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَإِذَا كَفَّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا كَفَّرَ عَنْهُمْ مَا دونه من سيّىء أَعْمَالِهِمْ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، فَأَفَادَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهُمْ جَمِيعَ مَا عَمِلُوا مِنْ سَيِّئَاتٍ، فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا سَبَقَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَالْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ صَدَّقَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا عَسَى أَنْ يَعْمَلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ هَذَا التَّكْفِيرُ خُصُوصِيَّةً لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فَضْلَ الصُّحْبَةِ عَظِيمٌ.
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تسبّوا أَصْحَابِي فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَأَ مَسْلُوبَ الْمُفَاضَلَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَازٌ فِي السُّوءِ الْعَظِيمِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣] أَيِ الْعَمَلُ الشَّدِيدُ السُّوءِ، وَهُوَ الْكَبَائِرُ، وَتَكُونُ إِضَافَتُهُ بَيَانِيَّةً. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رُتْبَةَ صُحْبَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظِيمَةٌ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ
10
غَرَضًا بَعْدِيَ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ»
. وَقَدْ أَوْصَى أَيِمَّةُ سَلَفِنَا الصَّالِحِ أَنْ لَا يذكر أحد مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ، وَبِالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِأَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ فِيمَا جَرَى بَيْنَ بَعْضِهِمْ، وَيُظَنَّ بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى تَفْسِيقِ ابْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُ مِنَ الثُّوَّارِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ مِصْرَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِخَلْعِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ وَأَصْحَابَ صِفِّينَ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَمَا دَفَعَهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا السَّعْيُ لِصَلَاحِ الْإِسْلَامِ وَالذَّبِّ عَنْ جَامِعَتِهِ مِنْ أَنْ تَتَسَرَّبَ إِلَيْهَا الْفُرْقَةُ وَالِاخْتِلَالُ، فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا قُدْوَتُنَا وَوَاسِطَةُ تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ إِلَيْنَا، وَالطَّعْنُ فِي بَعْضِهِمْ يُفْضِي إِلَى مَخَاوِفَ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ عُلَمَاؤُنَا عَدَالَةَ جَمِيعِ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ بِضَمِيرِ رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِزِيَادَةِ تَمَكُّنِ الْإِخْبَارِ بِتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ تَمْكِينًا لِاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ بِوَعْدِ رَبِّهِمْ.
وَعُطِفَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْعُولِ عِلَّةً أَوْلَى فِعْلٌ هُوَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ وَهُوَ: وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِلْوَعْدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وَالْبِنَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ صِفَةٌ لِ أَجْرَهُمْ وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ يَجْزِيَهُمْ، أَيْ يَجْزِيَهِمْ أَجْرًا عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَل الْأَحْسَن بهَا الْوَعْدِ وَهُوَ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُجَازُونَ عَلَى مَا هُوَ دُونَ الْأَحْسَنِ مِنْ مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ، بِدَلَالَةِ إِيذَانِ وَصْفِ «الْأَحْسَنِ» بِأَنَّ عِلَّةَ الْجَزَاءِ هِيَ الْأَحْسَنِيَّةُ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ أَنَّ لِمَعْنَى الْحُسْنِ تَأْثِيرًا فِي الْجَزَاءِ فَإِذَا كَانَ جَزَاءُ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ أَنَّ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَانَ جَزَاءُ مَا هُوَ دُونَ الْأَحْسَنِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ جَزَاءً دُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يُجَازُوا بِزِيَادَةٍ وَتَنْفِيلٍ عَلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ بِزِيَادَةِ تَنَعُّمٍ أَوْ كَرَامَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
. وَقَدْ أَوْصَى أَيِمَّةُ سَلَفِنَا الصَّالِحِ أَنْ لَا يذكر أحد مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ، وَبِالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِأَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ فِيمَا جَرَى بَيْنَ بَعْضِهِمْ، وَيُظَنَّ بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى تَفْسِيقِ ابْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُ مِنَ الثُّوَّارِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ مِصْرَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِخَلْعِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ وَأَصْحَابَ صِفِّينَ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَمَا دَفَعَهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا السَّعْيُ لِصَلَاحِ الْإِسْلَامِ وَالذَّبِّ عَنْ جَامِعَتِهِ مِنْ أَنْ تَتَسَرَّبَ إِلَيْهَا الْفُرْقَةُ وَالِاخْتِلَالُ، فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا قُدْوَتُنَا وَوَاسِطَةُ تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ إِلَيْنَا، وَالطَّعْنُ فِي بَعْضِهِمْ يُفْضِي إِلَى مَخَاوِفَ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ عُلَمَاؤُنَا عَدَالَةَ جَمِيعِ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ بِضَمِيرِ رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِزِيَادَةِ تَمَكُّنِ الْإِخْبَارِ بِتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ تَمْكِينًا لِاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ بِوَعْدِ رَبِّهِمْ.
وَعُطِفَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْعُولِ عِلَّةً أَوْلَى فِعْلٌ هُوَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ وَهُوَ: وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِلْوَعْدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وَالْبِنَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ صِفَةٌ لِ أَجْرَهُمْ وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ يَجْزِيَهُمْ، أَيْ يَجْزِيَهِمْ أَجْرًا عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَل الْأَحْسَن بهَا الْوَعْدِ وَهُوَ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُجَازُونَ عَلَى مَا هُوَ دُونَ الْأَحْسَنِ مِنْ مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ، بِدَلَالَةِ إِيذَانِ وَصْفِ «الْأَحْسَنِ» بِأَنَّ عِلَّةَ الْجَزَاءِ هِيَ الْأَحْسَنِيَّةُ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ أَنَّ لِمَعْنَى الْحُسْنِ تَأْثِيرًا فِي الْجَزَاءِ فَإِذَا كَانَ جَزَاءُ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ أَنَّ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَانَ جَزَاءُ مَا هُوَ دُونَ الْأَحْسَنِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ جَزَاءً دُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يُجَازُوا بِزِيَادَةٍ وَتَنْفِيلٍ عَلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ بِزِيَادَةِ تَنَعُّمٍ أَوْ كَرَامَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
11
وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : أَنَّ مُقَاتِلًا كَانَ شَيْخَ الْمُرْجِئَةِ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا. وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأَسْوَأِ عَلَى الْكُفْرِ السَّابِقِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ إِنَّمَا حَصَلَ فِي حَالِ مَا وَصَفَهُمُ الله بالتقوى وَهُوَ التَّقْوَى مِنَ الشِّرْكِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَسْوَأِ الْكَبَائِرَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ اهـ. وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ فِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» وَجَوَابُهُ: لِأَنَّ الْأَسْوَأَ مُحْتَمَلٌ أَنَّ أَدِلَّة كَثِيرَة أُخْرَى تُعَارِضُ الِاسْتِدْلَالَ بِعُمُومِهَا. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ كلمة أَسْوَأَ وكملة أحسن محسّن الطّبق.
[٣٦- ٣٧]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَثَلِ رَجُلٍ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلٍ خَالِصٍ لِرَجُلٍ، كَانَ ذَلِكَ الْمَثَلُ مُثِيرًا لِأَنْ يَقُولَ قَائِلُ الْمُشْرِكِينَ لَتَتَأَلَّبَنَّ شُرَكَاؤُنَا عَلَى الَّذِي جَاءَ يُحَقِّرُهَا وَيَسُبُّهَا، وَمُثِيرًا لِحَمِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْتَصِرُوا لِآلِهَتِهِمْ كَمَا قَالَ مُشْرِكُو قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٦٨]. وَرُبَّمَا أَنْطَقَتْهُمْ حَمِيَّتُهُمْ بِتَخْوِيفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي «الْكَشَّاف» و «تَفْسِير الْقُرْطُبِيِّ» : أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا نَخَافُ أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ مَعَرَّتَهَا (بِعَيْنٍ بَعْدَ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ بِمَكْرُوهٍ يَعْنُونَ الْمَضَرَّةَ) لِعَيْبِكَ إِيَّاهَا». وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» مَا هُوَ بِمَعْنَى هَذَا، فَلَمَّا حَكَى تَكْذِيبَهُمْ النَّبِيءَ عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى مَا هَدَّدُوهُ بِهِ وَخَوَّفُوهُ مِنْ شَرِّ أَصْنَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
فَهَذَا الْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ [الزمر: ٢٩] الْآيَةَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَفْرَدْتُهُ بِالْعِبَادَةِ هُوَ كَافِيكَ شَرَّ الْمُشْرِكِينَ وَبَاطِلَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ، فَقَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِتَعْجِيلِ مَسَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ تَعْجِيلُ مَسَرَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ ضَامِنٌ لَهُ الْوِقَايَةَ كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: ١٣٧].
[٣٦- ٣٧]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَثَلِ رَجُلٍ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلٍ خَالِصٍ لِرَجُلٍ، كَانَ ذَلِكَ الْمَثَلُ مُثِيرًا لِأَنْ يَقُولَ قَائِلُ الْمُشْرِكِينَ لَتَتَأَلَّبَنَّ شُرَكَاؤُنَا عَلَى الَّذِي جَاءَ يُحَقِّرُهَا وَيَسُبُّهَا، وَمُثِيرًا لِحَمِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْتَصِرُوا لِآلِهَتِهِمْ كَمَا قَالَ مُشْرِكُو قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٦٨]. وَرُبَّمَا أَنْطَقَتْهُمْ حَمِيَّتُهُمْ بِتَخْوِيفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي «الْكَشَّاف» و «تَفْسِير الْقُرْطُبِيِّ» : أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا نَخَافُ أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ مَعَرَّتَهَا (بِعَيْنٍ بَعْدَ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ بِمَكْرُوهٍ يَعْنُونَ الْمَضَرَّةَ) لِعَيْبِكَ إِيَّاهَا». وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» مَا هُوَ بِمَعْنَى هَذَا، فَلَمَّا حَكَى تَكْذِيبَهُمْ النَّبِيءَ عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى مَا هَدَّدُوهُ بِهِ وَخَوَّفُوهُ مِنْ شَرِّ أَصْنَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
فَهَذَا الْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ [الزمر: ٢٩] الْآيَةَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَفْرَدْتُهُ بِالْعِبَادَةِ هُوَ كَافِيكَ شَرَّ الْمُشْرِكِينَ وَبَاطِلَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ، فَقَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِتَعْجِيلِ مَسَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ تَعْجِيلُ مَسَرَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ ضَامِنٌ لَهُ الْوِقَايَةَ كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: ١٣٧].
12
وَأَصْلُ النَّظْمِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالله كَافِيكَ، فَغَيَّرَ مَجْرَى النَّظْمِ لِهَذَا
الْغَرَضِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ نَظْمَ الْكَلَامِ عَلَى تَرْتِيبِهِ فِي اللَّفْظِ فَتَجْعَلَ جُمْلَةَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ اسْتِئْنَافًا، وَتَصِيرُ جُمْلَةُ وَيُخَوِّفُونَكَ حَالًا.
وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ عَبْدَهُ دُونَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَوْجِيهُ الْكَلَامِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَحُذِفَ الْمَفْعُول الثَّانِي لكاف لِظُهُورِ أَنَّ الْمَقْصُودَ كَافِيكَ أَذَاهُمْ، فَأَمَّا الْأَصْنَامُ فَلَا تَسْتَطِيعُ أَذًى حَتَّى يُكْفَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُمْ أَنْ لَا حَامِيَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ضُرِّ الْأَصْنَامِ. وَالْمُرَادُ بِ عَبْدَهُ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَحَالَةَ وَبِقَرِينَةِ ويُخَوِّفُونَكَ.
وَفِي اسْتِحْضَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، مَعْنًى عَظِيمٌ مِنْ تَشْرِيفِهِ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ وَتَحْقِيقِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلِّمِهِ إِلَى أَعْدَائِهِ.
وَالْخِطَابُ فِي وَيُخَوِّفُونَكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الْعَائِدِ عَلَى عَبْدَهُ، وَنُكْتَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ هُوَ تَمْحِيضُ قَصْدِ النَّبِيءِ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ كَمَا علمت آنِفا.
وبِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ هُمُ الْأَصْنَامُ. عَبَّرَ عَنْهُمْ وَهُمْ حِجَارَةٌ بِمَوْصُولِ الْعُقَلَاءِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ فِي الْكَلَامِ بِصِيَغِ الْعُقَلَاءِ. ومِنْ دُونِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيرُهُ: اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْ عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِهِ.
وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ خَبَرُ تَوْجِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى هَدْمِ الْعُزَّى وَأَنَّ سَادِنَ الْعُزَّى قَالَ لِخَالِدٍ: أُحَذِّرُكَهَا يَا خَالِدُ فَإِنَّ لَهَا شِدَّةً لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، فَعَمَدَ خَالِدٌ إِلَى الْعُزَّى فَهَشَّمَ أَنْفَهَا حَتَّى كَسَرَهَا بِالْفَأْسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَتَأَوَّلَ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِأَنَّ تَخْوِيفَهُمْ خَالِدًا أَرَادُوا بِهِ تَخْوِيفَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً وَسِيَاقُ الْآيَةِ نَابَ عَنْهُ. وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ قَالَ هَذَا إِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِشْهَادَ لِتَخْوِيفِ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ بِمِثَالٍ مَشْهُورٍ.
الْغَرَضِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ نَظْمَ الْكَلَامِ عَلَى تَرْتِيبِهِ فِي اللَّفْظِ فَتَجْعَلَ جُمْلَةَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ اسْتِئْنَافًا، وَتَصِيرُ جُمْلَةُ وَيُخَوِّفُونَكَ حَالًا.
وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ عَبْدَهُ دُونَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَوْجِيهُ الْكَلَامِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَحُذِفَ الْمَفْعُول الثَّانِي لكاف لِظُهُورِ أَنَّ الْمَقْصُودَ كَافِيكَ أَذَاهُمْ، فَأَمَّا الْأَصْنَامُ فَلَا تَسْتَطِيعُ أَذًى حَتَّى يُكْفَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُمْ أَنْ لَا حَامِيَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ضُرِّ الْأَصْنَامِ. وَالْمُرَادُ بِ عَبْدَهُ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَحَالَةَ وَبِقَرِينَةِ ويُخَوِّفُونَكَ.
وَفِي اسْتِحْضَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، مَعْنًى عَظِيمٌ مِنْ تَشْرِيفِهِ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ وَتَحْقِيقِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلِّمِهِ إِلَى أَعْدَائِهِ.
وَالْخِطَابُ فِي وَيُخَوِّفُونَكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الْعَائِدِ عَلَى عَبْدَهُ، وَنُكْتَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ هُوَ تَمْحِيضُ قَصْدِ النَّبِيءِ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ كَمَا علمت آنِفا.
وبِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ هُمُ الْأَصْنَامُ. عَبَّرَ عَنْهُمْ وَهُمْ حِجَارَةٌ بِمَوْصُولِ الْعُقَلَاءِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ فِي الْكَلَامِ بِصِيَغِ الْعُقَلَاءِ. ومِنْ دُونِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيرُهُ: اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْ عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِهِ.
وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ خَبَرُ تَوْجِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى هَدْمِ الْعُزَّى وَأَنَّ سَادِنَ الْعُزَّى قَالَ لِخَالِدٍ: أُحَذِّرُكَهَا يَا خَالِدُ فَإِنَّ لَهَا شِدَّةً لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، فَعَمَدَ خَالِدٌ إِلَى الْعُزَّى فَهَشَّمَ أَنْفَهَا حَتَّى كَسَرَهَا بِالْفَأْسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَتَأَوَّلَ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِأَنَّ تَخْوِيفَهُمْ خَالِدًا أَرَادُوا بِهِ تَخْوِيفَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً وَسِيَاقُ الْآيَةِ نَابَ عَنْهُ. وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ قَالَ هَذَا إِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِشْهَادَ لِتَخْوِيفِ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ بِمِثَالٍ مَشْهُورٍ.
13
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكافٍ عَبْدَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ عِبَادَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَيِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَوَّفُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَرَادُوا تَخْوِيفَهُ وَتَخْوِيفَ أَتْبَاعِهِ وَأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُمْ شَرَّهُمْ.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ الْآيَةَ وَجُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي
انْتِقامٍ
قَصَدَ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ ضَلَالَهُمْ دَاءٌ عَيَاءٌ لِأَنَّهُ ضَلَالٌ مُكَوَّنٌ فِي نُفُوسِهِمْ وَجِبِلَّتِهِمْ قَدْ ثَبَّتَتْهُ الْأَيَّامُ، وَرَسَّخَهُ تَعَاقُبُ الْأَجْيَالِ، فَرَانَ بِغِشَاوَتِهِ عَلَى أَلْبَابِهِمْ، فَلَمَّا صَارَ ضَلَالُهُمْ كَالْمَجْبُولِ الْمَطْبُوعِ أُسْنِدَ إِيجَادُهُ إِلَى اللَّهِ كِنَايَةً عَنْ تَعَسُّرِ أَوْ تَعَذُّرِ اقْتِلَاعِهِ مِنْ نُفُوسِهِمْ.
وَأُرِيدَ مِنْ نَفْيِ الْهَادِي مِنْ قَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ هادٍ نَفِيُ حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ، فَكُنِّيَ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ الْهُدَى بِانْتِفَاءِ الْهَادِي لِأَنَّ عَدَمَ الِاهْتِدَاءِ يَجْعَلُ هَادِيَهُمْ كَالْمَنْفِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٦] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ.
وَالْآيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ فِي إِفَادَةِ نَفْيِ جِنْسِ الْهَادِي، إِلَّا أَنَّ إِفَادَةَ ذَلِكَ هُنَا بِزِيَادَةِ مِنْ تَنْصِيصًا عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ. وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ بِبِنَاءِ هَادِي عَلَى الْفَتْحِ بَعْدَ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فَإِنَّ بِنَاءَ اسْمِهَا عَلَى الْفَتْحِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْجِنْسِ نَصًّا. وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ تَفَنُّنٌ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ.
وَتَقْدِيمُ لَهُ عَلَى هادٍ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِهِمْ فِي مَقَامِ نَفْيِ الْهَادِي لَهُمْ لِأَنَّ ضَلَالَهُمُ الْمَحْكِيَّ هُنَا بَالِغٌ فِي الشَّنَاعَةِ إِذَا بَلَغَ بِهِمْ حَدُّ الطَّمَعِ فِي تَخْوِيفِ النَّبِيءِ بِأَصْنَامِهِمْ فِي حَالِ ظُهُورِ عَدَمِ اعْتِدَادِهِ بِأَصْنَامِهِمْ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ مِنْ حَالِ دَعْوَتِهِ، وَإِذْ بَلَغَ بِهِمُ اعْتِقَادُ مَقْدِرَةِ أَصْنَامِهِمْ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ قُدْرَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ، بِخِلَافِ آيَةِ الْأَعْرَافِ فَإِنَّ فِيهَا ذِكْرَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ ضَلَالٌ دُونَ ضَلَالِ التَّخْوِيفِ مِنْ بَأْسِ أَصْنَامِهِمْ.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ الْآيَةَ وَجُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي
انْتِقامٍ
قَصَدَ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ ضَلَالَهُمْ دَاءٌ عَيَاءٌ لِأَنَّهُ ضَلَالٌ مُكَوَّنٌ فِي نُفُوسِهِمْ وَجِبِلَّتِهِمْ قَدْ ثَبَّتَتْهُ الْأَيَّامُ، وَرَسَّخَهُ تَعَاقُبُ الْأَجْيَالِ، فَرَانَ بِغِشَاوَتِهِ عَلَى أَلْبَابِهِمْ، فَلَمَّا صَارَ ضَلَالُهُمْ كَالْمَجْبُولِ الْمَطْبُوعِ أُسْنِدَ إِيجَادُهُ إِلَى اللَّهِ كِنَايَةً عَنْ تَعَسُّرِ أَوْ تَعَذُّرِ اقْتِلَاعِهِ مِنْ نُفُوسِهِمْ.
وَأُرِيدَ مِنْ نَفْيِ الْهَادِي مِنْ قَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ هادٍ نَفِيُ حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ، فَكُنِّيَ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ الْهُدَى بِانْتِفَاءِ الْهَادِي لِأَنَّ عَدَمَ الِاهْتِدَاءِ يَجْعَلُ هَادِيَهُمْ كَالْمَنْفِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٦] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ.
وَالْآيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ فِي إِفَادَةِ نَفْيِ جِنْسِ الْهَادِي، إِلَّا أَنَّ إِفَادَةَ ذَلِكَ هُنَا بِزِيَادَةِ مِنْ تَنْصِيصًا عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ. وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ بِبِنَاءِ هَادِي عَلَى الْفَتْحِ بَعْدَ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فَإِنَّ بِنَاءَ اسْمِهَا عَلَى الْفَتْحِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْجِنْسِ نَصًّا. وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ تَفَنُّنٌ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ.
وَتَقْدِيمُ لَهُ عَلَى هادٍ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِهِمْ فِي مَقَامِ نَفْيِ الْهَادِي لَهُمْ لِأَنَّ ضَلَالَهُمُ الْمَحْكِيَّ هُنَا بَالِغٌ فِي الشَّنَاعَةِ إِذَا بَلَغَ بِهِمْ حَدُّ الطَّمَعِ فِي تَخْوِيفِ النَّبِيءِ بِأَصْنَامِهِمْ فِي حَالِ ظُهُورِ عَدَمِ اعْتِدَادِهِ بِأَصْنَامِهِمْ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ مِنْ حَالِ دَعْوَتِهِ، وَإِذْ بَلَغَ بِهِمُ اعْتِقَادُ مَقْدِرَةِ أَصْنَامِهِمْ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ قُدْرَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ، بِخِلَافِ آيَةِ الْأَعْرَافِ فَإِنَّ فِيهَا ذِكْرَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ ضَلَالٌ دُونَ ضَلَالِ التَّخْوِيفِ مِنْ بَأْسِ أَصْنَامِهِمْ.
14
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ فَقَدِ اقْتَضَاهَا أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي اعْتَرَضَتْ بَعْدَهُ الْجُمْلَتَانِ اقْتَضَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا مُتَمَسِّكًا بِاللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرِّ وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَآخَرُ مُسْتَمْسِكًا بِالْأَصْنَامِ الْعَاجِزَةِ عَنِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ ضَلَالَ الْفَرِيقِ الثَّانِي ضَلَالٌ مَكِينٌ بِبَيَانِ أَنَّ هُدَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ رَاسِخٌ مَتِينٌ فَلَا مَطْمَعَ لِلْفَرِيقِ الضَّالِّ بِأَنْ يَجُرُّوا الْمُهْتَدِينَ إِلَى ضَلَالِهِمْ.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ.
تَعْلِيلٌ لِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ كِفَايَةِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ كَإِنْكَارِ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِعِزَّةِ اللَّهِ مُتَقَرِّرٌ فِي النُّفُوسِ لِاعْتِرَافِ الْكُلِّ بِإِلَهِيَّتِهِ وَالْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي الْعِزَّةَ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُنْتَقِمٌ مُتَقَرِّرٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ أَخْذِهِ لِبَعْضِ الْأُمَمِ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ. فَإِذَا كَانُوا يُقِرُّونَ لِلَّهِ بِالْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَمَا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَافٍ عَبْدَهُ بِعِزَّتِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِصَابَةِ عَبْدِهِ بِسُوءٍ، وَبِانْتِقَامِهِ مِنَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ لِعَبْدِهِ الْأَذَى.
والعزيز: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعِزِّ، وَهُوَ مَنَعَةُ الْجَانِبِ وَأَنْ لَا يَنَالَهُ الْمُتَسَلِّطُ وَهُوَ ضِدُّ الذُّلِّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٩].
والانتقام: الْمُكَافَأَةُ عَلَى الشَّرِّ بِشَرٍّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّقْمِ وَهُوَ الْغَضَبُ كَأَنَّهُ مُطَاوِعُهُ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنِ النَّقْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٦]. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ
أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ.
تَعْلِيلٌ لِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ كِفَايَةِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ كَإِنْكَارِ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِعِزَّةِ اللَّهِ مُتَقَرِّرٌ فِي النُّفُوسِ لِاعْتِرَافِ الْكُلِّ بِإِلَهِيَّتِهِ وَالْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي الْعِزَّةَ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُنْتَقِمٌ مُتَقَرِّرٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ أَخْذِهِ لِبَعْضِ الْأُمَمِ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ. فَإِذَا كَانُوا يُقِرُّونَ لِلَّهِ بِالْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَمَا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَافٍ عَبْدَهُ بِعِزَّتِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِصَابَةِ عَبْدِهِ بِسُوءٍ، وَبِانْتِقَامِهِ مِنَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ لِعَبْدِهِ الْأَذَى.
والعزيز: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعِزِّ، وَهُوَ مَنَعَةُ الْجَانِبِ وَأَنْ لَا يَنَالَهُ الْمُتَسَلِّطُ وَهُوَ ضِدُّ الذُّلِّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٩].
والانتقام: الْمُكَافَأَةُ عَلَى الشَّرِّ بِشَرٍّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّقْمِ وَهُوَ الْغَضَبُ كَأَنَّهُ مُطَاوِعُهُ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنِ النَّقْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٦]. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ
15
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٣٨]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ [الزمر: ٣٧]، وَجُمْلَةِ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: ٣٦] وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّوْطِئَةَ إِلَيْهِ بِمَا لَا نِزَاعَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي عَظَائِمِ الْأُمُورِ، أَيْ خَلْقِهِمَا وَمَا تَحْوِيَانِهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ.
قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ جَاءَتْ جُمْلَةُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُجَاوَبَةِ لِكَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ بِجُمْلَةِ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفِ الثَّانِيَةُ بِالْوَاوِ وَلَا بِالْفَاءِ، وَالْمَعْنَى: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَقُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخْ. وَالْفَاءُ مِنْ أَفَرَأَيْتُمْ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى جَوَابِهِمْ تَفْرِيعًا يُفِيدُ مُحَاجَّتَهُمْ عَلَى لَازِمِ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤]. وَهَذَا تَفْرِيعُ الْإِلْزَامِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَالنَّتِيجَةُ عَلَى الدَّلِيلِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا بِأَنَّهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيمَا تَحْوِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ، أَيْ أَفَظَنَنْتُمْ.
وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَفْعُولُ (رَأَيْتُمُ) الْأَوَّلُ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ سَدَّ مَسَدَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ الْمُعْتَرِضُ بَعْدَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ عَلَى قَاعِدَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ
مُبْتَدَأٍ وَشَرْطٍ أَنْ يَجْرِيَ مَا بَعْدَهُمَا عَلَى مَا يُنَاسِبُ جُمْلَةَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ فِي مَعْنَى الْمُبْتَدَأِ.
16
وَجُمْلَةُ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ جَوَابُ إِنْ. وَاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ إِذَا صُدِّرَ الْجَوَابُ بِأَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ غَيْرِ الْهَمْزَةِ يَجُوزُ تَجَرُّدُهُ عَنِ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ لِلْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام:
٤٧]، وَيَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [هود: ٦٣]. فَأَمَّا الْمُصَدَّرُ بِالْهَمْزَةِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق: ١٣، ١٤].
وَجَوَابُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَاتٍ ضُرَّهُ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ إِنْكَارًا لِهَذَا الظَّنِّ.
وَجِيءَ بِحَرْفِ هَلْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَهِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَيْضًا تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَتْهُ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ مَا فِي (هَلْ) مِنْ إِفَادَةِ التَّحْقِيقِ. وَضَمِيرُ هُنَّ عَائِدٌ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ وَكَذَلِكَ الضَّمَائِرُ الْمُؤَنَّثَةُ الْوَارِدَةُ بَعْدَهُ ظَاهِرَةً وَمُسْتَتِرَةً، إِمَّا لِأَن (مَا) صدق مَا الْمَوْصُولَةُ هُنَا أَحْجَارٌ غَيْرُ عَاقِلَةٍ وَجَمْعُ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ يَجْرِي عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُصَيِّرُ الْكَلَامَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ كَالْإِنَاثِ لَا تَقْدِرُ عَلَى النَّصْرِ.
وَالْكَاشِفَاتُ: الْمُزِيلَاتُ، فَالْكَشْفُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ بِتَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ وَهُوَ الضُّرُّ بِشَيْءٍ مُسْتَتِرٍ، وَتَشْبِيهُ إِزَالَتِهِ بِكَشْفِ الشَّيْءِ الْمَسْتُورِ، أَيْ إِخْرَاجِهِ، وَهِيَ مَكْنِيَّةٌ وَالْكَشْفُ اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ.
وَالْإِمْسَاكُ أَيْضًا مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الرَّحْمَةِ بِمَا يُسْعَفُ بِهِ، وَتَشْبِيهُ التَّعَرُّضِ لِحُصُولِهَا بِإِمْسَاكِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ مَتَاعَهُ عَنْ طَالِبِيهِ.
وَعَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِرَادَةِ لِلضُّرِّ وَالرَّحْمَةِ، إِلَى تَعْدِيَتِهِ لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ ذَاتِ الْمَضْرُورِ وَالْمَرْحُومِ مَعَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَاتِ الْمَعَانِي دُونَ الذَّوَاتِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أَرَادَ ضُرِّي أَوْ أَرَادَ رَحْمَتِي فَحَقُّ فِعْلِ الْإِرَادَةِ إِذَا قُصِدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى شَيْئَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَأَنْ يَكُونَ مَا مَعَهُ مُعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، نَحْوَ أَرَدْتُ خَيْرًا لِزَيْدٍ، أَوْ أَرَدْتُ بِهِ خَيْرًا، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ قَصَدَ بِهِ
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام:
٤٧]، وَيَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [هود: ٦٣]. فَأَمَّا الْمُصَدَّرُ بِالْهَمْزَةِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق: ١٣، ١٤].
وَجَوَابُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَاتٍ ضُرَّهُ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ إِنْكَارًا لِهَذَا الظَّنِّ.
وَجِيءَ بِحَرْفِ هَلْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَهِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَيْضًا تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَتْهُ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ مَا فِي (هَلْ) مِنْ إِفَادَةِ التَّحْقِيقِ. وَضَمِيرُ هُنَّ عَائِدٌ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ وَكَذَلِكَ الضَّمَائِرُ الْمُؤَنَّثَةُ الْوَارِدَةُ بَعْدَهُ ظَاهِرَةً وَمُسْتَتِرَةً، إِمَّا لِأَن (مَا) صدق مَا الْمَوْصُولَةُ هُنَا أَحْجَارٌ غَيْرُ عَاقِلَةٍ وَجَمْعُ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ يَجْرِي عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُصَيِّرُ الْكَلَامَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ كَالْإِنَاثِ لَا تَقْدِرُ عَلَى النَّصْرِ.
وَالْكَاشِفَاتُ: الْمُزِيلَاتُ، فَالْكَشْفُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ بِتَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ وَهُوَ الضُّرُّ بِشَيْءٍ مُسْتَتِرٍ، وَتَشْبِيهُ إِزَالَتِهِ بِكَشْفِ الشَّيْءِ الْمَسْتُورِ، أَيْ إِخْرَاجِهِ، وَهِيَ مَكْنِيَّةٌ وَالْكَشْفُ اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ.
وَالْإِمْسَاكُ أَيْضًا مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الرَّحْمَةِ بِمَا يُسْعَفُ بِهِ، وَتَشْبِيهُ التَّعَرُّضِ لِحُصُولِهَا بِإِمْسَاكِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ مَتَاعَهُ عَنْ طَالِبِيهِ.
وَعَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِرَادَةِ لِلضُّرِّ وَالرَّحْمَةِ، إِلَى تَعْدِيَتِهِ لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ ذَاتِ الْمَضْرُورِ وَالْمَرْحُومِ مَعَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَاتِ الْمَعَانِي دُونَ الذَّوَاتِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أَرَادَ ضُرِّي أَوْ أَرَادَ رَحْمَتِي فَحَقُّ فِعْلِ الْإِرَادَةِ إِذَا قُصِدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى شَيْئَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَأَنْ يَكُونَ مَا مَعَهُ مُعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، نَحْوَ أَرَدْتُ خَيْرًا لِزَيْدٍ، أَوْ أَرَدْتُ بِهِ خَيْرًا، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ قَصَدَ بِهِ
17
الِاهْتِمَامَ بِالْمُرَادِ بِهِ لِإِيصَالِ الْمُرَادِ إِلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّ ذَاتَهُ هِيَ الْمُرَادُ لِمَنْ يُرِيدُ إِيصَالَ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالذَّوَاتِ.
وَالْمُرَادُ أَحْوَالُ الذَّوَاتِ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣]، أَيْ أَكْلُهَا. وَنَظْمُ التَّرْكِيبِ: إِنْ أَرَادَنِي وَأَنَا مُتَلَبِّسٌ بِضُرٍّ مِنْهُ أَوْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ، قَالَ عَمْرُو بْنُ شَاسٍ:
وَإِنَّمَا فَرَضَ إِرَادَةَ الضُّرِّ وَإِرَادَةَ الرَّحْمَةِ فِي نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَرَادَكُمْ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ إِلَى مَا خَوَّفُوهُ مِنْ ضُرِّ أَصْنَامِهِمْ إِيَّاهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ومُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بِإِضَافَةِ الْوَصْفَيْنِ إِلَى الِاسْمَيْنِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِتَنْوِينِ الْوَصْفَيْنِ وَنَصْبِ ضُرِّهِ وَرَحمته وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي لَفْظِ تَعَلُّقِ الْوَصْفِ بِمَعْمُولِهِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَلَمَّا أَلْقَمَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ الْحَجَرَ وَقَطَعَهُمْ فَلَا يُحِيرُوا بِبِنْتِ شَفَةٍ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ وَلَمْ يَنْتَظِمْ حَسْبِيَ اللَّهُ فِي جُمْلَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَأْمُورَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ تَوْجِيهُهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ فِيمَا سَبَقَهُ مُقْنِعًا مِنْ قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِأَصْنَامِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ شِعَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيع شؤونه، وَفِيهِ حَظٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ حَاصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ:
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ٦٤]، فَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ هَذَا الْغَرَضِ عَنِ الْغَرَضِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَالْحَسْبُ: الْكَافِي. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٧٣]. وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِعُمُومِ الْمُتَعَلِّقَاتِ، أَيْ حَسْبِيَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ اعْتِقَادُهُ، ثُمَّ تُذَكُّرُهُ، ثُمَّ الْإِعْلَانُ بِهِ، لِتَعْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ وَإِغَاظَةِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْمُرَادُ أَحْوَالُ الذَّوَاتِ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣]، أَيْ أَكْلُهَا. وَنَظْمُ التَّرْكِيبِ: إِنْ أَرَادَنِي وَأَنَا مُتَلَبِّسٌ بِضُرٍّ مِنْهُ أَوْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ، قَالَ عَمْرُو بْنُ شَاسٍ:
أَرَادَتْ عِرَارًا بِالْهَوَانِ وَمَنْ يُرِدْ | عِرَارًا لَعَمْرِي بِالْهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ |
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ومُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بِإِضَافَةِ الْوَصْفَيْنِ إِلَى الِاسْمَيْنِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِتَنْوِينِ الْوَصْفَيْنِ وَنَصْبِ ضُرِّهِ وَرَحمته وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي لَفْظِ تَعَلُّقِ الْوَصْفِ بِمَعْمُولِهِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَلَمَّا أَلْقَمَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ الْحَجَرَ وَقَطَعَهُمْ فَلَا يُحِيرُوا بِبِنْتِ شَفَةٍ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ وَلَمْ يَنْتَظِمْ حَسْبِيَ اللَّهُ فِي جُمْلَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَأْمُورَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ تَوْجِيهُهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ فِيمَا سَبَقَهُ مُقْنِعًا مِنْ قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِأَصْنَامِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ شِعَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيع شؤونه، وَفِيهِ حَظٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ حَاصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ:
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ٦٤]، فَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ هَذَا الْغَرَضِ عَنِ الْغَرَضِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَالْحَسْبُ: الْكَافِي. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٧٣]. وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِعُمُومِ الْمُتَعَلِّقَاتِ، أَيْ حَسْبِيَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ اعْتِقَادُهُ، ثُمَّ تُذَكُّرُهُ، ثُمَّ الْإِعْلَانُ بِهِ، لِتَعْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ وَإِغَاظَةِ الْمُشْرِكِينَ.
18
وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ أُمُورِ الْمُفَوِّضِ إِلَى مَنْ يَكْفِيهِ إِيَّاهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَجُمْلَةُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ تَذَكُّرًا مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِلَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ الْقَائِلِينَ لِأَنَّ حَسْبِيَ اللَّهُ يؤول إِلَى مَعْنَى: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ حَسْبِيَ أَنَا وَحَسْبُ كُلِّ مُتَوَكِّلٍ، أَيْ كُلِّ مُؤْمِنٍ يَعْرِفُ اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى كِفَايَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَتَعْرِيفُ الْمُتَوَكِّلُونَ
لِلْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ، أَيِ الْمُتَوَكِّلُونَ الْحَقِيقِيُّونَ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِغَيْرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَاطَبَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِأَنْ يَقُولَهُ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِقَوْلِ: حَسْبِيَ اللَّهُ، أَيِ اجْعَلِ اللَّهَ حَسْبَكَ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّوَكُّلِ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ وَهُمُ الرُّسُلُ وَالصَّالِحُونَ وَإِذْ قَدْ كُنْتَ مِنْ رَفِيقِهِمْ فَكُنْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: ٩٠].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى يَتَوَكَّلُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّ أَهْلَ التَّوَكُّلِ الْحَقِيقِيِّينَ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ تَعْرِيض بالمشركين إِذْ اعْتَمَدُوا فِي أُمُورِهِمْ على أصنامهم.
[٣٩- ٤٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
لَمَّا أَبْلَغَهُمُ اللَّهُ من الموعظة أقْصَى مَبْلَغٍ، وَنَصَبَ لَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ أَسَطَعَ حُجَّةٍ، وَثَبَّتَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَخَ تَثْبِيتٍ، لَا جَرَمَ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُوَادِعَهُمْ مُوَادَعَةَ مُسْتَقْرِبِ النَّصْرِ، وَيُوَاعِدَهُمْ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مَنْ خُسْرٍ.
وَعَدَمُ عَطْفِ جُمْلَةِ قُلْ هَذِهِ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ [الزمر: ٣٨] لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ نَظِيرَ تَرْكِ الْعَطْفِ فِي الْبَيْتِ الْمَشْهُورِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي:
وَجُمْلَةُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ تَذَكُّرًا مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِلَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ الْقَائِلِينَ لِأَنَّ حَسْبِيَ اللَّهُ يؤول إِلَى مَعْنَى: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ حَسْبِيَ أَنَا وَحَسْبُ كُلِّ مُتَوَكِّلٍ، أَيْ كُلِّ مُؤْمِنٍ يَعْرِفُ اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى كِفَايَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَتَعْرِيفُ الْمُتَوَكِّلُونَ
لِلْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ، أَيِ الْمُتَوَكِّلُونَ الْحَقِيقِيُّونَ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِغَيْرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَاطَبَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِأَنْ يَقُولَهُ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِقَوْلِ: حَسْبِيَ اللَّهُ، أَيِ اجْعَلِ اللَّهَ حَسْبَكَ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّوَكُّلِ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ وَهُمُ الرُّسُلُ وَالصَّالِحُونَ وَإِذْ قَدْ كُنْتَ مِنْ رَفِيقِهِمْ فَكُنْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: ٩٠].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى يَتَوَكَّلُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّ أَهْلَ التَّوَكُّلِ الْحَقِيقِيِّينَ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ تَعْرِيض بالمشركين إِذْ اعْتَمَدُوا فِي أُمُورِهِمْ على أصنامهم.
[٣٩- ٤٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
لَمَّا أَبْلَغَهُمُ اللَّهُ من الموعظة أقْصَى مَبْلَغٍ، وَنَصَبَ لَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ أَسَطَعَ حُجَّةٍ، وَثَبَّتَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَخَ تَثْبِيتٍ، لَا جَرَمَ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُوَادِعَهُمْ مُوَادَعَةَ مُسْتَقْرِبِ النَّصْرِ، وَيُوَاعِدَهُمْ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مَنْ خُسْرٍ.
وَعَدَمُ عَطْفِ جُمْلَةِ قُلْ هَذِهِ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ [الزمر: ٣٨] لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ نَظِيرَ تَرْكِ الْعَطْفِ فِي الْبَيْتِ الْمَشْهُورِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي:
19
وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا | بَدَلًا أَرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ |
وَالْمَكَانَةُ: الْمَكَانُ، وَتَأْنِيثُهُ رُوعِيَ فِيهِ مَعْنَى الْبُقْعَةِ، اسْتُعِيرَ لِلْحَالَةِ الْمُحِيطَةِ بِصَاحِبِهَا إِحَاطَةَ الْمَكَانِ بِالْكَائِنِ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: اعْمَلُوا عَلَى طَرِيقَتِكُمْ وَحَالِكُمْ مِنْ عَدَاوَتِي، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٥].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَكانَتِكُمْ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مَكَانَاتِكُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ.
وَقَالَ تَعَالَى هُنَا: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ لِيَكُونَ التَّهْدِيدُ بِعَذَابِ خِزْيٍ فِي الدُّنْيَا
وَعَذَابٍ مُقِيمٍ فِي الْآخِرَةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٥] : قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْعَذَابَ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: ١٣٤].
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ إِنِّي عامِلٌ لِيَعُمَّ كُلَّ مُتَعَلِّقٍ يَصْلُحُ أَن يتَعَلَّق بِعَمَل مَعَ الِاخْتِصَارِ فَإِنَّ مُقَابَلَتَهُ بِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ إِنِّي عامِلٌ أَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى عَمَلِهِ فِي نُصْحِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى مَا يُنْجِيهِمْ. وَأَنَّ حَذْفَ ذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مِقْدَارِ مَكَانَتِهِ وَحَالَتِهِ بَلْ حَالُهُ تَزْدَادُ كُلَّ حِينٍ قُوَّةً وَشِدَّةً لَا يَعْتَرِيهَا تَقْصِيرٌ وَلَا يُثَبِّطُهَا إِعْرَاضُهُمْ، وَهَذَا مِنْ مُسْتَتْبِعَاتِ الْحَذْفِ وَلَمْ نُنَبِّهْ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ.
ومَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَّقَتْ فِعْلَ تَعْلَمُونَ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ.
20
وَالْعَذَابُ الْمُخْزِي هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِقَامَتُهُ خُلُودُهُ. وَتَنْوِينُ عَذابٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ الْمُرَادِ بِهِ التَّهْوِيلُ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ يَأْتِيهِ إِلَى الْعَذَابِ الْمُخْزِي لِأَنَّ الْإِتْيَانَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ يُفَاجِئُهُمْ كَمَا يَأْتِي الطَّارِقُ. وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ فِعْلِ يَحِلُّ إِلَى الْعَذَابِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْحُلُولَ مُشْعِرٌ بِالْمُلَازَمَةِ وَالْإِقَامَةِ مَعَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ الْخُلُودِ، وَلِذَلِكَ يُسمى منزل القَوْل حِلَّةً، وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ الْقَاطِنِينَ غَيْرِ الْمُسَافِرِينَ هُمْ حِلَالٌ، فَكَانَ الْفِعْلُ مُنَاسِبًا لِوَصْفِهِ بِالْمُقِيمِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَحِلُّ بِحَرْفِ (عَلَى) لِلدَّلَالَةِ على تمكنه.
[٤١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤١]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ الْمُفِيدِ مُوَادَعَتَهُمْ وَتَهْوِينَ تَصْمِيمِ كُفْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَتَثْبِيتِهِ عَلَى دَعْوَتِهِ. وَالْمَعْنَى: لِأَنَّا نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِفَائِدَةِ النَّاسِ وَكَفَاكَ ذَلِكَ شَرَفًا وَهِدَايَةً وَكَفَاكَ تَبْلِيغُهُ إِلَيْهِمْ فَمَنِ اهْتَدَى مِنَ النَّاسِ فَهِدَايَتُهُ لِنَفْسِهِ بِوَاسِطَتِكَ وَمَنْ ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ بِهِ فَضَلَالُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا عَلَيْكَ مِنْ ضَلَالِهِمْ تَبِعَةٌ لِأَنَّكَ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ. وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الزمر: ٢]، لِأَنَّ تِلْكَ فِي غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ إِلَيْهِ، ولِلنَّاسِ مُتَعَلق ب- أَنْزَلْنا، وبِالْحَقِّ حَالٌ مِنَ الْكِتابَ،
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ النَّاسِ. وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَفْهُومٌ مِمَّا تُؤْذِنُ بِهِ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى الْفَائِدَةِ وَالنَّفْعِ أَيْ لِنَفْعِ النَّاسِ، أَوْ مِمَّا يُؤْذَنُ بِهِ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اهْتَدى إِلَخْ. وَفَاءُ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ لِلتَّفْرِيعِ وَهُوَ تَفْرِيع ناشىء مِنْ مَعْنَى اللَّامِ. وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، أَيْ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ الِاهْتِدَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ اهْتِدَاءَهُ لِفَائِدَةِ
وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِقَامَتُهُ خُلُودُهُ. وَتَنْوِينُ عَذابٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ الْمُرَادِ بِهِ التَّهْوِيلُ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ يَأْتِيهِ إِلَى الْعَذَابِ الْمُخْزِي لِأَنَّ الْإِتْيَانَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ يُفَاجِئُهُمْ كَمَا يَأْتِي الطَّارِقُ. وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ فِعْلِ يَحِلُّ إِلَى الْعَذَابِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْحُلُولَ مُشْعِرٌ بِالْمُلَازَمَةِ وَالْإِقَامَةِ مَعَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ الْخُلُودِ، وَلِذَلِكَ يُسمى منزل القَوْل حِلَّةً، وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ الْقَاطِنِينَ غَيْرِ الْمُسَافِرِينَ هُمْ حِلَالٌ، فَكَانَ الْفِعْلُ مُنَاسِبًا لِوَصْفِهِ بِالْمُقِيمِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَحِلُّ بِحَرْفِ (عَلَى) لِلدَّلَالَةِ على تمكنه.
[٤١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤١]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ الْمُفِيدِ مُوَادَعَتَهُمْ وَتَهْوِينَ تَصْمِيمِ كُفْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَتَثْبِيتِهِ عَلَى دَعْوَتِهِ. وَالْمَعْنَى: لِأَنَّا نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِفَائِدَةِ النَّاسِ وَكَفَاكَ ذَلِكَ شَرَفًا وَهِدَايَةً وَكَفَاكَ تَبْلِيغُهُ إِلَيْهِمْ فَمَنِ اهْتَدَى مِنَ النَّاسِ فَهِدَايَتُهُ لِنَفْسِهِ بِوَاسِطَتِكَ وَمَنْ ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ بِهِ فَضَلَالُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا عَلَيْكَ مِنْ ضَلَالِهِمْ تَبِعَةٌ لِأَنَّكَ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ. وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الزمر: ٢]، لِأَنَّ تِلْكَ فِي غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ إِلَيْهِ، ولِلنَّاسِ مُتَعَلق ب- أَنْزَلْنا، وبِالْحَقِّ حَالٌ مِنَ الْكِتابَ،
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ النَّاسِ. وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَفْهُومٌ مِمَّا تُؤْذِنُ بِهِ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى الْفَائِدَةِ وَالنَّفْعِ أَيْ لِنَفْعِ النَّاسِ، أَوْ مِمَّا يُؤْذَنُ بِهِ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اهْتَدى إِلَخْ. وَفَاءُ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ لِلتَّفْرِيعِ وَهُوَ تَفْرِيع ناشىء مِنْ مَعْنَى اللَّامِ. وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، أَيْ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ الِاهْتِدَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ اهْتِدَاءَهُ لِفَائِدَةِ
21
نَفْسِهِ لَا غَيْرُ، أَيْ لَيْسَتْ لَكَ مِنِ اهْتِدَائِهِ فَائِدَةٌ لِذَاتِكَ لِأَنَّ فَائِدَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهِيَ شَرَفُهُ وأجره) ثَابِتَة عَن التَّبْلِيغِ سَوَاءٌ اهْتَدَى مَنِ اهْتَدَى وَضَلَّ مَنْ ضَلَّ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ آخِرَ سُورَةِ يُونُسَ [١٠٨]، وَفِي قَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ [٩١، ٩٢]، وَلَكِنْ جِيءَ فِي تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ بِصِيغَةِ قَصْرِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى نَفْسِ الْمُهْتَدِي وَتُرِكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَيْنَكَ الْآيَتَيْنِ وَارِدَتَانِ بِالْأَمْرِ بِمُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ الْمَقَامُ فِيهِمَا مُنَاسِبًا لِإِفَادَةِ أَنَّ فَائِدَةَ اهْتِدَائِهِمْ لَا تَعُودُ إِلَّا لِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ لَيْسَتْ لِي مَنْفَعَةٌ مِنِ اهْتِدَائِهِمْ، خِلَافًا لِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا خِطَابٌ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهَا حَالُ مَنْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُدِلِّ بِاهْتِدَائِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِيهِ لِتَنْزِيلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسَفِهِ عَلَى ضَلَالِهِمُ الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالِهِمْ ضُرٌّ، فَخُوطِبَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَلِذَلِكَ اتَّحَدَتِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الِاشْتِمَالِ عَلَى الْقَصْرِ بِالنِّسْبَةِ لِجَانِبِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٩٢] فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ فِي معنى: فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، أَي لَيْسَ ضلالكم عليّ فَإِنَّمَا أَنا من الْمُنْذِرِينَ. وَهَذِهِ نُكَتٌ مِنْ دَقَائِقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ القَوْل فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فِي سُورَةِ يُونُس [١٠٨]. وَجُمْلَة ووَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أَيْ لَسْتَ مَأْمُورًا بِإِرْغَامِهِمْ عَلَى الِاهْتِدَاءِ، فَصِيغَ هَذَا الْخَبَرُ فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ حُكْمِ هَذَا النَّفْي.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ آخِرَ سُورَةِ يُونُسَ [١٠٨]، وَفِي قَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ [٩١، ٩٢]، وَلَكِنْ جِيءَ فِي تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ بِصِيغَةِ قَصْرِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى نَفْسِ الْمُهْتَدِي وَتُرِكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَيْنَكَ الْآيَتَيْنِ وَارِدَتَانِ بِالْأَمْرِ بِمُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ الْمَقَامُ فِيهِمَا مُنَاسِبًا لِإِفَادَةِ أَنَّ فَائِدَةَ اهْتِدَائِهِمْ لَا تَعُودُ إِلَّا لِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ لَيْسَتْ لِي مَنْفَعَةٌ مِنِ اهْتِدَائِهِمْ، خِلَافًا لِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا خِطَابٌ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهَا حَالُ مَنْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُدِلِّ بِاهْتِدَائِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِيهِ لِتَنْزِيلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسَفِهِ عَلَى ضَلَالِهِمُ الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالِهِمْ ضُرٌّ، فَخُوطِبَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَلِذَلِكَ اتَّحَدَتِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الِاشْتِمَالِ عَلَى الْقَصْرِ بِالنِّسْبَةِ لِجَانِبِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٩٢] فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ فِي معنى: فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، أَي لَيْسَ ضلالكم عليّ فَإِنَّمَا أَنا من الْمُنْذِرِينَ. وَهَذِهِ نُكَتٌ مِنْ دَقَائِقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ القَوْل فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فِي سُورَةِ يُونُس [١٠٨]. وَجُمْلَة ووَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أَيْ لَسْتَ مَأْمُورًا بِإِرْغَامِهِمْ عَلَى الِاهْتِدَاءِ، فَصِيغَ هَذَا الْخَبَرُ فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ حُكْمِ هَذَا النَّفْي.
22
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤٢]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَثَلًا لِحَالِ ضَلَالِ الضَّالِّينَ وَهُدَى الْمُهْتَدِينَ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ:
فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: ٤١].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اسْتِمْرَارَ الضَّالِّ عَلَى ضَلَالِهِ قَدْ يَحْصُلُ بَعْدَهُ اهْتِدَاءٌ وَقَدْ يُوَافِيهِ أَجَلُهُ وَهُوَ فِي ضَلَالِهِ فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِذَلِكَ بِنَوْمِ النَّائِمِ قَدْ تَعْقُبُهُ إِفَاقَةٌ وَقَدْ يَمُوتُ النَّائِمُ فِي نَوْمِهِ، وَهَذَا تَهْوِينٌ عَلَى نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجَاءِ إِيمَانِ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُمْ يَوْمَئِذٍ فِي ضَلَالٍ وَشِرْكٍ كَمَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ. فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَلَهَا اتِّصَالٌ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: ٢٢].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا إِلَى اسْتِدْلَالٍ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ دَلِيلَ التَّصَرُّفِ بِخَلْقِ الذَّوَاتِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: ٥، ٦]، ثُمَّ دَلِيلَ التَّصَرُّفِ بِخَلْقِ أَحْوَالِ ذَوَاتٍ وَإِنْشَاءِ ذَوَاتٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزمر: ٢١] وَأَعْقَبَ كُلَّ دَلِيلٍ بِمَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ وَالزَّجْرُ عَنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَاهُ، فَانْتَقَلَ هُنَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةٍ عَجِيبَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَنْفُسِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ وَحَالَةُ النَّوْمِ. وَقَدْ أَنْبَأَ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، فَهَذَا دَلِيلٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١] وَقَالَ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الرّوم: ٢٨]، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلتَّدَرُّجِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَلَهَا اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَجُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ أَفَادَتِ الْآيَةُ إِبْرَازَ حَقِيقَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ نَوَامِيسِ الْحَيَاتَيْنِ النَّفْسِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ تَخْصِيصِهِ بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ، أَيِ اللَّهُ يَتَوَفَّى لَا غَيْرُهُ فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِإِظْهَارِ فَسَادِ أَنْ أَشْرَكُوا
23
بِهِ آلِهَةً لَا تَمْلِكُ تَصَرُّفًا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ.
وَالتَّوَفِّي: الْإِمَاتَةُ، وُسُمِّيَتْ تَوَفِّيًا لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَمَاتَ أَحَدًا فَقَدْ توفّاه أَجله فَالله الْمُتَوَفِّي وَمَلَكُ الْمَوْتِ مُتَوَفٍّ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُبَاشِرُ التَّوَفِّي.
وَالْمَيِّتُ: مُتَوَفَّى بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ التَّوَفِّي مُرَادِفًا لِلْإِمَاتَةِ وَالْوَفَاةُ مُرَادِفَةٌ لِلْمَوْتِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَيْفِيَّةِ تَصْرِيفِ ذَلِكَ وَاشْتِقَاقِهِ من مَادَّة الْوَفَاء.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٤] : وَقَوْلِهِ:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ [١١].
وَالْأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، وَهِيَ الشَّخْصُ وَالذَّاتُ قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَتُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ الَّذِي بِهِ الْحَيَاةُ وَالْإِدْرَاكُ.
وَمَعْنَى التَّوَفِّي يَتَعَلَّقُ بِالْأَنْفُسِ عَلَى كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ. وَالْمَعْنَى: يَتَوَفَّى النَّاسَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فَإِنَّ الَّذِي يُوصَفُ بِالْمَوْتِ هُوَ الذَّاتُ لَا الرُّوحُ وَأَنَّ تَوَفِّيهَا سَلْبُ الْأَرْوَاحِ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ عَطْفٌ عَلَى الْأَنْفُسِ بِاعْتِبَارِ قَيْدِ حِينَ مَوْتِها لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَصْفِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي تَمُوتُ فِي حَالَةِ نَوْمِهَا، وَالْأَنْفُسَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي نَوْمِهَا فَأَفَاقَتْ. وَيَتَعَلَّقُ فِي مَنامِها بِقَوْلِهِ: يَتَوَفَّى، أَيْ وَيَتَوَفَّى أَنْفُسًا لَمْ تَمُتْ يَتَوَفَّاهَا فِي مَنَامِهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَعَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتَوَفِّيهَا هُوَ مَنَامُهَا، وَهَذَا جَارٍ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ بِحَسَبِ عُرْفِ اللُّغَةِ إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَى النَّائِمِ مَيِّتَ وَلَا مُتَوَفَّى. وَهُوَ تَشْبِيهٌ نُحِّيَ بِهِ مَنْحَى التَّنْبِيهِ إِلَى حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنَّ حَالَةَ النَّوْمِ حَالَةُ انْقِطَاعِ أَهَمِّ فَوَائِدِ الْحَيَاةِ عَنِ الْجَسَدِ وَهِيَ الْإِدْرَاكُ سِوَى أَنَّ أَعْضَاءَهُ الرَّئِيسِيَّةَ لَمْ تَفْقِدْ صَلَاحِيَتَهَا لِلْعَوْدَةِ إِلَى أَعْمَالِهَا حِينَ الْهُبُوبِ مِنَ النَّوْمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ
وَالتَّوَفِّي: الْإِمَاتَةُ، وُسُمِّيَتْ تَوَفِّيًا لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَمَاتَ أَحَدًا فَقَدْ توفّاه أَجله فَالله الْمُتَوَفِّي وَمَلَكُ الْمَوْتِ مُتَوَفٍّ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُبَاشِرُ التَّوَفِّي.
وَالْمَيِّتُ: مُتَوَفَّى بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ التَّوَفِّي مُرَادِفًا لِلْإِمَاتَةِ وَالْوَفَاةُ مُرَادِفَةٌ لِلْمَوْتِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَيْفِيَّةِ تَصْرِيفِ ذَلِكَ وَاشْتِقَاقِهِ من مَادَّة الْوَفَاء.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٤] : وَقَوْلِهِ:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ [١١].
وَالْأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، وَهِيَ الشَّخْصُ وَالذَّاتُ قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَتُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ الَّذِي بِهِ الْحَيَاةُ وَالْإِدْرَاكُ.
وَمَعْنَى التَّوَفِّي يَتَعَلَّقُ بِالْأَنْفُسِ عَلَى كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ. وَالْمَعْنَى: يَتَوَفَّى النَّاسَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فَإِنَّ الَّذِي يُوصَفُ بِالْمَوْتِ هُوَ الذَّاتُ لَا الرُّوحُ وَأَنَّ تَوَفِّيهَا سَلْبُ الْأَرْوَاحِ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ عَطْفٌ عَلَى الْأَنْفُسِ بِاعْتِبَارِ قَيْدِ حِينَ مَوْتِها لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَصْفِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي تَمُوتُ فِي حَالَةِ نَوْمِهَا، وَالْأَنْفُسَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي نَوْمِهَا فَأَفَاقَتْ. وَيَتَعَلَّقُ فِي مَنامِها بِقَوْلِهِ: يَتَوَفَّى، أَيْ وَيَتَوَفَّى أَنْفُسًا لَمْ تَمُتْ يَتَوَفَّاهَا فِي مَنَامِهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَعَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتَوَفِّيهَا هُوَ مَنَامُهَا، وَهَذَا جَارٍ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ بِحَسَبِ عُرْفِ اللُّغَةِ إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَى النَّائِمِ مَيِّتَ وَلَا مُتَوَفَّى. وَهُوَ تَشْبِيهٌ نُحِّيَ بِهِ مَنْحَى التَّنْبِيهِ إِلَى حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنَّ حَالَةَ النَّوْمِ حَالَةُ انْقِطَاعِ أَهَمِّ فَوَائِدِ الْحَيَاةِ عَنِ الْجَسَدِ وَهِيَ الْإِدْرَاكُ سِوَى أَنَّ أَعْضَاءَهُ الرَّئِيسِيَّةَ لَمْ تَفْقِدْ صَلَاحِيَتَهَا لِلْعَوْدَةِ إِلَى أَعْمَالِهَا حِينَ الْهُبُوبِ مِنَ النَّوْمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ
24
وَالْفَاءُ فِي فَيُمْسِكُ فَاءُ الْفَصِيحَةِ لِأَنَّ مَا تقدم يَقْتَضِي مُقَدرا يُفْصِحُ عَنْهُ الْفَاءُ لِبَيَانِ تَوَفِّي النُّفُوسِ فِي الْمَقَامِ.
وَالْإِمْسَاكُ: الشَّدُّ بِالْيَدِ وَعَدَمُ تَسْلِيمِ الْمَشْدُودِ. وَالْمَعْنَى: فَيُبْقِي وَلَا يَرُدُّ النَّفْسَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ، أَيْ يَمْنَعُهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْحَيَاةِ فَإِطْلَاقُ الْإِمْسَاكِ عَلَى بَقَاءِ حَالَةِ الْمَوْتِ تَمْثِيلٌ لِدَوَامِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَمِنْ لَطَائِفِهِ أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ يَتَمَنَّوْنَ عَوْدَ مَيِّتِهِمْ لَوْ وَجَدُوا إِلَى عُودِهِ سَبِيلًا وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْمَحْ لِنَفْسٍ مَاتَتْ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْحَيَاةِ.
وَالْإِرْسَالُ: الْإِطْلَاقُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ مُبَارَحَةِ الْمَكَانِ لِلرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانَ وَالْمُرَادُ بِ الْأُخْرى الَّتِي لَمْ تَمُتْ وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ. وَالْمَعْنَى: يَرُدُّ إِلَيْهَا الْحَيَاةَ كَامِلَةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِبْرَازُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَفَاتَيْنِ.
وَيَتَعَلَّقُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى بِفِعْلِ يُرْسِلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى يَرُدُّ الْحَيَاةَ إِلَيْهَا، أَيْ فَلَا يَسْلُبُهَا الْحَيَاةَ كُلَّهَا إِلَّا فِي أَجَلِهَا الْمُسَمَّى، أَيِ الْمُعَيَّنِ لَهَا فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالتَّسْمِيَةُ: التَّعْيِينُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٢].
هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَلِيُّ عَنِ التَّكَلُّفَاتِ وَعَنِ ارْتِكَابِ شِبْهِ الِاسْتِخْدَامِ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى وَعَنِ التَّقْدِيرِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا تَذْكُرُ النَّتِيجَةَ عَقِبَ الدَّلِيلِ، أَيْ أَنَّ فِي حَالَةِ الْإِمَاتَةِ وَالْإِنَامَةِ دَلَائِلَ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ الْإِخْبَارَ بِاخْتِلَافِ حَالَتَيِ الْمَوْتِ وَالنَّوْمِ بَلِ الْمَقْصُودُ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَرُ فِي مَضْرِبِ الْمَثَلِ، وَفِي دَقَائِقِ صُنْعِ اللَّهِ وَالتَّذْكِيرُ بِمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الْحِكْمَةِ الَّتِي تَمُرُّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ كُلَّ يَوْمٍ فِي
وَالْإِمْسَاكُ: الشَّدُّ بِالْيَدِ وَعَدَمُ تَسْلِيمِ الْمَشْدُودِ. وَالْمَعْنَى: فَيُبْقِي وَلَا يَرُدُّ النَّفْسَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ، أَيْ يَمْنَعُهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْحَيَاةِ فَإِطْلَاقُ الْإِمْسَاكِ عَلَى بَقَاءِ حَالَةِ الْمَوْتِ تَمْثِيلٌ لِدَوَامِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَمِنْ لَطَائِفِهِ أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ يَتَمَنَّوْنَ عَوْدَ مَيِّتِهِمْ لَوْ وَجَدُوا إِلَى عُودِهِ سَبِيلًا وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْمَحْ لِنَفْسٍ مَاتَتْ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْحَيَاةِ.
وَالْإِرْسَالُ: الْإِطْلَاقُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ مُبَارَحَةِ الْمَكَانِ لِلرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانَ وَالْمُرَادُ بِ الْأُخْرى الَّتِي لَمْ تَمُتْ وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ. وَالْمَعْنَى: يَرُدُّ إِلَيْهَا الْحَيَاةَ كَامِلَةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِبْرَازُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَفَاتَيْنِ.
وَيَتَعَلَّقُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى بِفِعْلِ يُرْسِلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى يَرُدُّ الْحَيَاةَ إِلَيْهَا، أَيْ فَلَا يَسْلُبُهَا الْحَيَاةَ كُلَّهَا إِلَّا فِي أَجَلِهَا الْمُسَمَّى، أَيِ الْمُعَيَّنِ لَهَا فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالتَّسْمِيَةُ: التَّعْيِينُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٢].
هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَلِيُّ عَنِ التَّكَلُّفَاتِ وَعَنِ ارْتِكَابِ شِبْهِ الِاسْتِخْدَامِ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى وَعَنِ التَّقْدِيرِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا تَذْكُرُ النَّتِيجَةَ عَقِبَ الدَّلِيلِ، أَيْ أَنَّ فِي حَالَةِ الْإِمَاتَةِ وَالْإِنَامَةِ دَلَائِلَ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ الْإِخْبَارَ بِاخْتِلَافِ حَالَتَيِ الْمَوْتِ وَالنَّوْمِ بَلِ الْمَقْصُودُ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَرُ فِي مَضْرِبِ الْمَثَلِ، وَفِي دَقَائِقِ صُنْعِ اللَّهِ وَالتَّذْكِيرُ بِمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الْحِكْمَةِ الَّتِي تَمُرُّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ كُلَّ يَوْمٍ فِي
25
نَفْسِهِ، وَتَمُرُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي آلِهِمْ وَفِي عَشَائِرِهِمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَمَّا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَبَدِيعِ الصُّنْعِ.
وَجَعَلَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ عَجِيبَتَانِ ثُمَّ فِي كُلِّ حَالَةٍ تَصَرُّفٌ يُغَايِرُ التَّصَرُّفَ الَّذِي فِي الْأُخْرَى، فَفِي حَالَةِ الْمَوْتِ سَلْبُ الْحَيَاةِ عَنِ الْجِسْمِ وَبَقَاءُ الْجِسْمِ كَالْجَمَادِ وَمَنْعٌ مِنْ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ الْحَيَاةُ وَفِي حَالَةِ النَّوْمِ سَلْبُ بَعْضِ الْحَيَاةِ عَنِ الْجِسْمِ حَتَّى يَكُونَ كَالْمَيِّتِ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ثُمَّ مَنْحُ الْحَيَاةِ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ دَوَالَيْكَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ إِبَّانُ سَلْبِهَا عَنْهُ سلبا مستمرا.
و (الْآيَات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) حَاصِلَةٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ إِرَادَةِ التَّمْثِيل وَإِرَادَة اسْتِدْلَال عَلَى الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِتَنْزِيلِ مُعْظَمِ النَّاسِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِتِلْكَ الْآيَاتِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَالتَّفَكُّرُ: تَكَلُّفُ الْفِكْرَةِ، وَهُوَ مُعَالَجَةُ الْفِكْرِ وَمُعَاوَدَةُ التَّدَبُّرِ فِي دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْحَقَائِقِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْمَوْتِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلنَّائِبِ وَبِرَفْعِ الْمَوْتِ وَهُوَ عَلَى مُرَاعَاةِ نَزْعِ الْخَافِضِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْخَافِضُ صَارَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ مَجْرُورًا بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ بِهِ فَجُعِلَ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ قَضى مَعْنَى كتب وَقدر.
[٤٣- ٤٤]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٤٣ إِلَى ٤٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)
أَمِ مُنْقَطِعَةٌ وَهِيَ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ انْتِقَالًا مِنْ تَشْنِيعِ إِشْرَاكِهِمْ إِلَى إِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا دَمَغَتْهُمْ حُجَجُ الْقُرْآنِ بِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ
وَجَعَلَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ عَجِيبَتَانِ ثُمَّ فِي كُلِّ حَالَةٍ تَصَرُّفٌ يُغَايِرُ التَّصَرُّفَ الَّذِي فِي الْأُخْرَى، فَفِي حَالَةِ الْمَوْتِ سَلْبُ الْحَيَاةِ عَنِ الْجِسْمِ وَبَقَاءُ الْجِسْمِ كَالْجَمَادِ وَمَنْعٌ مِنْ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ الْحَيَاةُ وَفِي حَالَةِ النَّوْمِ سَلْبُ بَعْضِ الْحَيَاةِ عَنِ الْجِسْمِ حَتَّى يَكُونَ كَالْمَيِّتِ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ثُمَّ مَنْحُ الْحَيَاةِ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ دَوَالَيْكَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ إِبَّانُ سَلْبِهَا عَنْهُ سلبا مستمرا.
و (الْآيَات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) حَاصِلَةٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ إِرَادَةِ التَّمْثِيل وَإِرَادَة اسْتِدْلَال عَلَى الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِتَنْزِيلِ مُعْظَمِ النَّاسِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِتِلْكَ الْآيَاتِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَالتَّفَكُّرُ: تَكَلُّفُ الْفِكْرَةِ، وَهُوَ مُعَالَجَةُ الْفِكْرِ وَمُعَاوَدَةُ التَّدَبُّرِ فِي دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْحَقَائِقِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْمَوْتِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلنَّائِبِ وَبِرَفْعِ الْمَوْتِ وَهُوَ عَلَى مُرَاعَاةِ نَزْعِ الْخَافِضِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْخَافِضُ صَارَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ مَجْرُورًا بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ بِهِ فَجُعِلَ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ قَضى مَعْنَى كتب وَقدر.
[٤٣- ٤٤]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٤٣ إِلَى ٤٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)
أَمِ مُنْقَطِعَةٌ وَهِيَ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ انْتِقَالًا مِنْ تَشْنِيعِ إِشْرَاكِهِمْ إِلَى إِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا دَمَغَتْهُمْ حُجَجُ الْقُرْآنِ بِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ
26
شُرَكَاءُ تَمَحَّلُوا تَأْوِيلًا لِشِرْكِهِمْ فَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَمَّا اسْتُوفِيَتِ الْحُجَجُ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ أَقْبَلَ هُنَا عَلَى إِبْطَالِ تَأْوِيلِهِمْ مِنْهُ وَمَعْذِرَتِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تُشْعِرُ بِهِ أَمِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهَا هُوَ هُنَا لِلْإِنْكَارِ بِمَعْنَى أَنَّ تَأْوِيَلَهُمْ وَعُذْرَهُمْ مُنْكَرٌ كَمَا كَانَ الْمُعْتَذَرُ عَنْهُ مُنْكَرًا فَلَمْ يَقْضُوا بِهَذِهِ الْمَعْذِرَةِ وَطَرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بَيَانُ مُرَادِهِمْ بِكَوْنِهِمْ شُفَعَاءَ.
وَأَمْرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَقَالَةً تَقْطَعُ بُهْتَانَهُمْ وَهِيَ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ.
فَالْوَاوُ فِي أَوَلَوْ كانُوا عَاطِفَةٌ كَلَامَ الْمُجِيبِ عَلَى كَلَامِهِمْ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا سُمِّيَ بِعَطْفِ التَّلْقِينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤]، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي نَظِيرِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١]. وَصَاحِبُ الْحَالِ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَيَشْفَعُونَ لَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ تَصْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ قَبْلَ وَاوِ الْحَالِ كَحُكْمِ تَصْدِيرِهِ قَبْلَ وَاوِ الْعَطْفِ.
وَأَفَادَ تَنْكِيرُ شَيْئاً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عُمُومَ كُلِّ مَا يُمْلَكُ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الشَّفَاعَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ أَمْرًا مَعْنَوِيًّا كَانَ مَعْنَى مِلْكِهَا تَحْصِيلُ إِجَابَتِهَا، وَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ إِذْ كَيْفَ يَشْفَعُ مَنْ لَا يَعْقِلُ فَإِنَّهُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ لَا يُتَصَوَّرُ خُطُورُ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِرَادَتُهُ إِلَى الِاسْتِشْفَاعِ فَاتِّخَاذُهُمْ شُفَعَاءَ مِنَ الْحَمَاقَةِ.
وَلَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ لِأَصْنَامِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ فِي عُمُومِ نَفْيِ مِلْكِ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ عَنِ الْأَصْنَامِ، قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ أَيِ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ. وَأُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنْ لَا يَمْلِكَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ هُوَ مَالِكُ إِجَابَةِ شَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ الْحَقِّ.
وَأَمْرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَقَالَةً تَقْطَعُ بُهْتَانَهُمْ وَهِيَ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ.
فَالْوَاوُ فِي أَوَلَوْ كانُوا عَاطِفَةٌ كَلَامَ الْمُجِيبِ عَلَى كَلَامِهِمْ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا سُمِّيَ بِعَطْفِ التَّلْقِينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤]، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي نَظِيرِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١]. وَصَاحِبُ الْحَالِ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَيَشْفَعُونَ لَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ تَصْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ قَبْلَ وَاوِ الْحَالِ كَحُكْمِ تَصْدِيرِهِ قَبْلَ وَاوِ الْعَطْفِ.
وَأَفَادَ تَنْكِيرُ شَيْئاً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عُمُومَ كُلِّ مَا يُمْلَكُ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الشَّفَاعَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ أَمْرًا مَعْنَوِيًّا كَانَ مَعْنَى مِلْكِهَا تَحْصِيلُ إِجَابَتِهَا، وَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ إِذْ كَيْفَ يَشْفَعُ مَنْ لَا يَعْقِلُ فَإِنَّهُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ لَا يُتَصَوَّرُ خُطُورُ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِرَادَتُهُ إِلَى الِاسْتِشْفَاعِ فَاتِّخَاذُهُمْ شُفَعَاءَ مِنَ الْحَمَاقَةِ.
وَلَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ لِأَصْنَامِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ فِي عُمُومِ نَفْيِ مِلْكِ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ عَنِ الْأَصْنَامِ، قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ أَيِ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ. وَأُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنْ لَا يَمْلِكَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ هُوَ مَالِكُ إِجَابَةِ شَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ الْحَقِّ.
27
وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ الْمَجْرُورِ وَهُوَ لِلَّهِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيْ قَصْرِ مِلْكِ الشَّفَاعَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ.
وجَمِيعاً حَالٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ مُفِيدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لَا يَشِذُّ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ حَقِيقَةِ الشَّفَاعَةِ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلَّهِ وَقَدْ تَأَكَّدَ بِلَازِمِ هَذِهِ لِحَالِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ مِنِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِتَعْمِيمِ انْفِرَادِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الشَّامِلِ لِلتَّصَرُّفِ فِي مُؤَاخَذَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَسْيِيرِ أُمُورِهِمْ فَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ الْمُفِيدِ لِتَقْرِيرِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ وَزِيَادَةٌ. وَالْمُرَادُ الْمُلْكُ بِالتَّصَرُّفِ بِالْخَلْقِ وَتَصْرِيفِ أَحْوَالِ الْعَالَمَيْنِ وَمَنْ فِيهِمَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْملك لَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ صَرَفَهُ عَنْ أَمْرٍ أَرَادَ وُقُوعَهُ إِلَى ضِدِّ ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي مُدَّةِ وُجُودِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِأَنْ تَكُونَ لِآلِهَتِهِمْ شَفَاعَةٌ لَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَعُطِفَ عَلَيْهِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَإِلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَ اللَّهِ بَعْدَ الْحَشْرِ إِلَّا مَنْ أَذِنَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ مَضْمُونَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَنَّ لِلَّهِ مُلْكَ الْآخِرَةِ كَمَا كَانَ لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَمُلْكُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ لِسَعَةِ مَمْلُوكَاتِهِ وَبَقَائِهَا. وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَى تُرْجَعُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّقَوِّي وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٤٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤٥]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ [الزمر: ٤٣] لِإِظْهَارِ تَنَاقُضِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمُ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ مَا يَقُولُونَهُ أَقْضِيَةٌ سُفُسْطَائِيَّةٌ يَقُولُونَهَا لِلتَّنَصُّلِ مِنْ دَمَغَاتِ الْحُجَجِ الَّتِي جَبَهَهُمْ بِهَا الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ تَارَةً عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِأَنَّ شُرَكَاءَهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ إِلَهُهُمْ وَإِلَهُ شُرَكَائِهِمْ، ثُمَّ
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيْ قَصْرِ مِلْكِ الشَّفَاعَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ.
وجَمِيعاً حَالٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ مُفِيدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لَا يَشِذُّ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ حَقِيقَةِ الشَّفَاعَةِ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلَّهِ وَقَدْ تَأَكَّدَ بِلَازِمِ هَذِهِ لِحَالِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ مِنِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِتَعْمِيمِ انْفِرَادِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الشَّامِلِ لِلتَّصَرُّفِ فِي مُؤَاخَذَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَسْيِيرِ أُمُورِهِمْ فَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ الْمُفِيدِ لِتَقْرِيرِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ وَزِيَادَةٌ. وَالْمُرَادُ الْمُلْكُ بِالتَّصَرُّفِ بِالْخَلْقِ وَتَصْرِيفِ أَحْوَالِ الْعَالَمَيْنِ وَمَنْ فِيهِمَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْملك لَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ صَرَفَهُ عَنْ أَمْرٍ أَرَادَ وُقُوعَهُ إِلَى ضِدِّ ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي مُدَّةِ وُجُودِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِأَنْ تَكُونَ لِآلِهَتِهِمْ شَفَاعَةٌ لَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَعُطِفَ عَلَيْهِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَإِلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَ اللَّهِ بَعْدَ الْحَشْرِ إِلَّا مَنْ أَذِنَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ مَضْمُونَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَنَّ لِلَّهِ مُلْكَ الْآخِرَةِ كَمَا كَانَ لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَمُلْكُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ لِسَعَةِ مَمْلُوكَاتِهِ وَبَقَائِهَا. وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَى تُرْجَعُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّقَوِّي وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٤٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤٥]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ [الزمر: ٤٣] لِإِظْهَارِ تَنَاقُضِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمُ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ مَا يَقُولُونَهُ أَقْضِيَةٌ سُفُسْطَائِيَّةٌ يَقُولُونَهَا لِلتَّنَصُّلِ مِنْ دَمَغَاتِ الْحُجَجِ الَّتِي جَبَهَهُمْ بِهَا الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ تَارَةً عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِأَنَّ شُرَكَاءَهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ إِلَهُهُمْ وَإِلَهُ شُرَكَائِهِمْ، ثُمَّ
28
إِذَا ذَكَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَوْ ذَكَرَ الْمُسْلِمُونَ كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوب الْمُشْركين من ذَلِك. وَكَذَلِكَ إِذا ذكر الله بِأَنَّهُ إِلَه النَّاس وَلم يذكر مَعَ ذكره أَن أصنامهم شُرَكَاء لله اشمأزت قُلُوبُهُمْ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ فَلَا يَرْضَوْنَ بِالسُّكُوتِ عَنْ وَصْفِ أَصْنَامِهِمْ بِالْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يُسَوُّونَهَا بِاللَّهِ تَعَالَى.
فَقَوْلُهُ: وَحْدَهُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ حَالًا مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا. وَيُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: ذُكِرَ اللَّهُ معنى: ذكر بِوَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ وَيَكُونُ مَعْنَى ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ ذُكِرَ تَفَرُّدُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوْلِ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ فِي وَحْدَهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَصْدَرًا وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، أَيْ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِ ذُكِرَ لِبَيَانِ نَوْعِهِ، أَيْ ذِكْرًا وَحْدًا، أَيْ لَمْ يُذْكَرْ مَعَ اسْمِ اللَّهِ أَسْمَاءُ أَصْنَامِهِمْ. وَإِضَافَةُ الْمَصَدَرِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِاشْتِهَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِهَذَا الْوَحْدِ. وَهَذَا الذِّكْرُ هُوَ الَّذِي يَجْرِي فِي دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الصَّلَوَاتِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَفِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَعْنَى إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا ذُكِرَتْ أَصْنَامُهُمْ بِوَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ حِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، أَيْ وَلَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ مَعَهَا فَاسْتِبْشَارُهُمْ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ أَصْنَامِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يُرَجِّحُونَ جَانِبَ الْأَصْنَامِ عَلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالذِّكْرُ: هُوَ النُّطْقُ بِالِاسْمِ. وَالْمُرَادُ إِذَا ذَكَرَ الْمُسْلِمُونَ اسْمَ اللَّهِ اشْمَأَزَّ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا ذِكْرَ آلِهَتِهِمْ وَإِذَا ذَكَرَ الْمُشْرِكُونَ أَسْمَاءَ أَصْنَامِهِمُ اسْتَبْشَرَ الَّذِينَ يُسْمَعُونَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ آلِهَتِهِمْ بِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
دُونَ لَفْظِ:
شُرَكَائِهِمْ أَوْ شُفَعَائِهِمْ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ اسْتِبْشَارِهِمْ بِذَلِكَ الذِّكْرِ هُوَ أَنَّهُ ذِكْرُ مَنْ هُمْ دُونَ اللَّهِ، أَيْ ذِكْرٌ مُنَاسِبٌ لِهَذِهِ الصِّلَةِ، أَيْ هُوَ ذكر خَالٍ عَنِ اسْمِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى: وَإِذَا ذُكِرَ شُرَكَاؤُهُمْ دُونَ ذِكْرِ اللَّهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى التَّعَرُّضِ لِهَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ فِي سُوءِ نَوَايَا الْمُشْرِكِينَ نَحْوَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي بُطْلَانِ اعْتِذَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ إِلَّا لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ، فَأَمَّا الذِّكْرُ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ آلِهَتِهِمْ كَقَوْلِهِمْ فِي
فَقَوْلُهُ: وَحْدَهُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ حَالًا مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا. وَيُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: ذُكِرَ اللَّهُ معنى: ذكر بِوَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ وَيَكُونُ مَعْنَى ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ ذُكِرَ تَفَرُّدُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوْلِ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ فِي وَحْدَهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَصْدَرًا وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، أَيْ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِ ذُكِرَ لِبَيَانِ نَوْعِهِ، أَيْ ذِكْرًا وَحْدًا، أَيْ لَمْ يُذْكَرْ مَعَ اسْمِ اللَّهِ أَسْمَاءُ أَصْنَامِهِمْ. وَإِضَافَةُ الْمَصَدَرِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِاشْتِهَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِهَذَا الْوَحْدِ. وَهَذَا الذِّكْرُ هُوَ الَّذِي يَجْرِي فِي دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الصَّلَوَاتِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَفِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَعْنَى إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا ذُكِرَتْ أَصْنَامُهُمْ بِوَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ حِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، أَيْ وَلَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ مَعَهَا فَاسْتِبْشَارُهُمْ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ أَصْنَامِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يُرَجِّحُونَ جَانِبَ الْأَصْنَامِ عَلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالذِّكْرُ: هُوَ النُّطْقُ بِالِاسْمِ. وَالْمُرَادُ إِذَا ذَكَرَ الْمُسْلِمُونَ اسْمَ اللَّهِ اشْمَأَزَّ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا ذِكْرَ آلِهَتِهِمْ وَإِذَا ذَكَرَ الْمُشْرِكُونَ أَسْمَاءَ أَصْنَامِهِمُ اسْتَبْشَرَ الَّذِينَ يُسْمَعُونَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ آلِهَتِهِمْ بِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
دُونَ لَفْظِ:
شُرَكَائِهِمْ أَوْ شُفَعَائِهِمْ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ اسْتِبْشَارِهِمْ بِذَلِكَ الذِّكْرِ هُوَ أَنَّهُ ذِكْرُ مَنْ هُمْ دُونَ اللَّهِ، أَيْ ذِكْرٌ مُنَاسِبٌ لِهَذِهِ الصِّلَةِ، أَيْ هُوَ ذكر خَالٍ عَنِ اسْمِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى: وَإِذَا ذُكِرَ شُرَكَاؤُهُمْ دُونَ ذِكْرِ اللَّهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى التَّعَرُّضِ لِهَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ فِي سُوءِ نَوَايَا الْمُشْرِكِينَ نَحْوَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي بُطْلَانِ اعْتِذَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ إِلَّا لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ، فَأَمَّا الذِّكْرُ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ آلِهَتِهِمْ كَقَوْلِهِمْ فِي
29
التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَذَلِكَ ذِكْرٌ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ بِالْمَقَامِ.
وَذَكَرَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ: إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُرْوَى مِنْ قِصَّةِ الْغَرَانِيقِ، وَنُسِبَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِذَلِكَ إِلَى مُجَاهِدٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ سِيَاقِ الْآيَةِ. وَمِنَ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَخْبَارِ الْمَوْضُوعَةِ فَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ.
وَالِاشْمِئْزَازُ: شِدَّةُ الْكَرَاهِيَةِ وَالنُّفُورِ، أَيْ كَرِهَتْ ذَلِكَ قُلُوبُهُمْ وَمَدَارِكُهُمْ.
وَالِاسْتِبْشَارُ: شِدَّةُ الْفَرَحِ حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَى بَشْرَةِ الْوَجْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦٧].
وَمُقَابَلَةُ الِاشْمِئْزَازِ بِالِاسْتِبْشَارِ مُطَابَقَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ الِاشْمِئْزَازَ غَايَةُ الْكَرَاهِيَةِ وَالِاسْتِبْشَارُ غَايَةُ الْفَرَحِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِهَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ النَّاسِ مَعَ قَصْدِ إِعَادَةِ تَذْكِيرِهِمْ بِوُقُوعِ الْقِيَامَةِ.
وإِذا الْأُولَى وإِذا الثَّانِيَةُ ظَرْفَانِ مُضَمَّنَانِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ.
وإِذا الثَّالِثَةُ لِلْمُفَاجَأَةِ لِلدَّلَالَةِ على أَنهم يعاجلهم الِاسْتِبْشَارُ حِينَئِذٍ مِنْ فَرْطِ حُبِّهِمْ آلِهَتَهُمْ.
وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَسْتَبْشِرُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: مُسْتَبْشِرُونَ، لِإِفَادَةِ تجدّد استبشارهم.
[٤٦]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤٦]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)
لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ السُّورَةِ مُشْعِرًا بِالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مُصَمِّمُونَ عَلَى بَاطِلِهِمْ عَلَى مَا غَمَرَهُمْ مِنْ حُجَجِ الْحَقِّ دُونَ إِغْنَاءِ الْآيَاتِ وَالتَّدَبُّرِ عَنْهُمْ أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا
وَذَكَرَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ: إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُرْوَى مِنْ قِصَّةِ الْغَرَانِيقِ، وَنُسِبَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِذَلِكَ إِلَى مُجَاهِدٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ سِيَاقِ الْآيَةِ. وَمِنَ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَخْبَارِ الْمَوْضُوعَةِ فَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ.
وَالِاشْمِئْزَازُ: شِدَّةُ الْكَرَاهِيَةِ وَالنُّفُورِ، أَيْ كَرِهَتْ ذَلِكَ قُلُوبُهُمْ وَمَدَارِكُهُمْ.
وَالِاسْتِبْشَارُ: شِدَّةُ الْفَرَحِ حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَى بَشْرَةِ الْوَجْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦٧].
وَمُقَابَلَةُ الِاشْمِئْزَازِ بِالِاسْتِبْشَارِ مُطَابَقَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ الِاشْمِئْزَازَ غَايَةُ الْكَرَاهِيَةِ وَالِاسْتِبْشَارُ غَايَةُ الْفَرَحِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِهَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ النَّاسِ مَعَ قَصْدِ إِعَادَةِ تَذْكِيرِهِمْ بِوُقُوعِ الْقِيَامَةِ.
وإِذا الْأُولَى وإِذا الثَّانِيَةُ ظَرْفَانِ مُضَمَّنَانِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ.
وإِذا الثَّالِثَةُ لِلْمُفَاجَأَةِ لِلدَّلَالَةِ على أَنهم يعاجلهم الِاسْتِبْشَارُ حِينَئِذٍ مِنْ فَرْطِ حُبِّهِمْ آلِهَتَهُمْ.
وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَسْتَبْشِرُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: مُسْتَبْشِرُونَ، لِإِفَادَةِ تجدّد استبشارهم.
[٤٦]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤٦]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)
لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ السُّورَةِ مُشْعِرًا بِالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مُصَمِّمُونَ عَلَى بَاطِلِهِمْ عَلَى مَا غَمَرَهُمْ مِنْ حُجَجِ الْحَقِّ دُونَ إِغْنَاءِ الْآيَاتِ وَالتَّدَبُّرِ عَنْهُمْ أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا
30
الْقَوْلَ تَنْفِيسًا عَنْهُ مِنْ كَدْرِ الْأَسَى عَلَى قَوْمِهِ، وَإِعْذَارًا لَهُمْ بِالنِّذَارَةِ، وَإِشْعَارًا لَهُمْ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِهِمْ مُضَاعٌ، وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَارِكَتُهُمْ وَأَنْ يُفَوِّضَ الْحُكْمَ فِي خِلَافِهِمْ إِلَى اللَّهِ. وَفِي هَذَا التَّفْوِيضِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ هُوَ الْوَاثِقُ بِحَقِيَّةِ دِينِهِ الْمُطْمَئِنُّ بِأَنَّ التَّحْكِيمَ يُظْهِرُ حَقَّهُ وَبَاطِلَ خَصْمِهِ.
وَابْتُدِئَ خِطَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَوْجِيهٍ وَتَحَاكُمٍ. وَإِجْرَاءُ الْوَصْفَيْنِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بِخُضُوعِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لِحُكْمِهِ وَشُمُولِ عِلْمِهِ لِدَخَائِلِهِمْ مِنْ مُحِقٍّ وَمُبْطِلٍ.
وَالْفَاطِرُ: الْخَالِقُ، وَفَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاطِرٌ لِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ. وَوَصْفُ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُشْعِرٌ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَتَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَصْفِ الْعِلْمِ لِأَنَّ شُعُورَ النَّاسِ بِقُدْرَتِهِ سَابِقٌ عَلَى شُعُورِهِمْ بِعِلْمِهِ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِطَلَبِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِلْزَامٌ وَقَهْرٌ فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ مُبَاشَرَةً.
وَالْغَيْبُ: مَا خَفِيَ وَغَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ، وَالشَّهَادَةُ: مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْسَاسِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْعُلُومِ.
وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ عِبادِكَ دُونَ أَنْ يَقُولَ:
بَيْنَنَا، لِمَا فِي عِبادِكَ مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُضَافٌ فَيَشْمَلُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي قَضِيَّتِهِمْ هَذِهِ وَالْحُكْمَ بَيْنَ كُلِّ مُخْتَلِفِينَ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ أَنْسَبُ بِالدُّعَاءِ وَالْمُبَاهَلَةِ.
وَجُمْلَةُ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ. وَالْمَعْنَى: احْكُمْ بَيْنَنَا.
وَفِي تَلْقِينِ هَذَا الدُّعَاءِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْحَقُّ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ تَحْكُمُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَنْتَ لَا غَيْرُكَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يعْتَقد أَن غير اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِمُفَادِ الْقَصْرِ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْقَصْرَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً
وَابْتُدِئَ خِطَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَوْجِيهٍ وَتَحَاكُمٍ. وَإِجْرَاءُ الْوَصْفَيْنِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بِخُضُوعِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لِحُكْمِهِ وَشُمُولِ عِلْمِهِ لِدَخَائِلِهِمْ مِنْ مُحِقٍّ وَمُبْطِلٍ.
وَالْفَاطِرُ: الْخَالِقُ، وَفَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاطِرٌ لِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ. وَوَصْفُ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُشْعِرٌ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَتَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَصْفِ الْعِلْمِ لِأَنَّ شُعُورَ النَّاسِ بِقُدْرَتِهِ سَابِقٌ عَلَى شُعُورِهِمْ بِعِلْمِهِ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِطَلَبِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِلْزَامٌ وَقَهْرٌ فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ مُبَاشَرَةً.
وَالْغَيْبُ: مَا خَفِيَ وَغَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ، وَالشَّهَادَةُ: مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْسَاسِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْعُلُومِ.
وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ عِبادِكَ دُونَ أَنْ يَقُولَ:
بَيْنَنَا، لِمَا فِي عِبادِكَ مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُضَافٌ فَيَشْمَلُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي قَضِيَّتِهِمْ هَذِهِ وَالْحُكْمَ بَيْنَ كُلِّ مُخْتَلِفِينَ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ أَنْسَبُ بِالدُّعَاءِ وَالْمُبَاهَلَةِ.
وَجُمْلَةُ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ. وَالْمَعْنَى: احْكُمْ بَيْنَنَا.
وَفِي تَلْقِينِ هَذَا الدُّعَاءِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْحَقُّ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ تَحْكُمُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَنْتَ لَا غَيْرُكَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يعْتَقد أَن غير اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِمُفَادِ الْقَصْرِ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْقَصْرَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً
31
عَنْ شِدَّةِ شَكِيمَتِهِمْ فِي الْعِنَادِ وَعَدَمِ
الْإِنْصَافِ وَالِانْصِيَاعِ إِلَى قَوَاطِعِ الْحُجَجِ، بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ يَتَطَلَّبُ حَاكِمًا فِيهِمْ لَا يَجِدُ حَاكِمًا فِيهِمْ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. وَهَذَا أَيْضا يؤمىء إِلَى الْعُذْرِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيَامِهِ بِأَقْصَى مَا كُلِّفَ بِهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَقَّنَهُ رَبُّهُ أَنْ يَقُولَهُ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى: أَنَّكَ أَبْلَغْتَ وَأَدَّيْتَ الرِّسَالَةَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يُعْجِزُهَا الْأَلِدَّاءُ أَمْثَالُ قَوْمِكَ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْمُعَانِدِينَ.
وَالْحُكْمُ يَصْدُقُ بِحُكْمِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمُحَقَّقُ الَّذِي لَا يُخْلَفُ، وَيَشْمَلُ حُكْمَ الدُّنْيَا بِنَصْرِ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَجِّلَ بَعْضَ حُكْمِهِ بِأَنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا.
وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ صِلَةٌ لِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِيَدُلَّ عَلَى تَحَقُّقِ الِاخْتِلَافِ، وَكَوْنُ خَبَرِ (كَانَ) مُضَارِعًا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ مُتَجَدِّدٌ إِذْ لَا طَمَاعِيَةَ فِي ارْعِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ بَاطِلِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ فِيهِ عَلَى يَخْتَلِفُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ الْمُخْتَلف فِيهِ.
[٤٧- ٤٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٤٧ إِلَى ٤٨]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: ٤٦] إِلَخْ لِأَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي دَعَا رَبَّهُ لِلْمُحَاكَمَةِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ سَيَكُونُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَهْوِيلِ مَا سَيَكُونُ بِهِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمُشْرِكُونَ فِدْيَةً مِنْهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لَافْتَدَوْا بِهَا.
الْإِنْصَافِ وَالِانْصِيَاعِ إِلَى قَوَاطِعِ الْحُجَجِ، بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ يَتَطَلَّبُ حَاكِمًا فِيهِمْ لَا يَجِدُ حَاكِمًا فِيهِمْ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. وَهَذَا أَيْضا يؤمىء إِلَى الْعُذْرِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيَامِهِ بِأَقْصَى مَا كُلِّفَ بِهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَقَّنَهُ رَبُّهُ أَنْ يَقُولَهُ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى: أَنَّكَ أَبْلَغْتَ وَأَدَّيْتَ الرِّسَالَةَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يُعْجِزُهَا الْأَلِدَّاءُ أَمْثَالُ قَوْمِكَ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْمُعَانِدِينَ.
وَالْحُكْمُ يَصْدُقُ بِحُكْمِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمُحَقَّقُ الَّذِي لَا يُخْلَفُ، وَيَشْمَلُ حُكْمَ الدُّنْيَا بِنَصْرِ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَجِّلَ بَعْضَ حُكْمِهِ بِأَنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا.
وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ صِلَةٌ لِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِيَدُلَّ عَلَى تَحَقُّقِ الِاخْتِلَافِ، وَكَوْنُ خَبَرِ (كَانَ) مُضَارِعًا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ مُتَجَدِّدٌ إِذْ لَا طَمَاعِيَةَ فِي ارْعِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ بَاطِلِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ فِيهِ عَلَى يَخْتَلِفُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ الْمُخْتَلف فِيهِ.
[٤٧- ٤٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٤٧ إِلَى ٤٨]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: ٤٦] إِلَخْ لِأَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي دَعَا رَبَّهُ لِلْمُحَاكَمَةِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ سَيَكُونُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَهْوِيلِ مَا سَيَكُونُ بِهِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمُشْرِكُونَ فِدْيَةً مِنْهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لَافْتَدَوْا بِهَا.
32
وَ (مَا فِي الْأَرْضِ) يَشْمَلُ كل عَزِيز عَلَيْهِم مِنْ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بَلْ وَأَنْفُسِهِمْ فَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ أَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَافْتَدَوْا بِهِ يَوْمَئِذٍ. وَوَجْهُ التَّهْوِيلِ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِلْكُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الشُّحِّ بِهَا فِي مُتَعَارَفِ النُّفُوسِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي شِدَّةِ الدَّرْكِ وَالشَّقَاءِ بِحَالِ مَنْ لَوْ كَانَ لَهُ مَا ذُكِرَ لِبَذَلَهُ فِدْيَةً مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَتَضَمَّنَ حَرْفُ الشَّرْطِ أَنَّ كَوْنَ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ مُنْتَفٍ، فَأَفَادَ أَنْ لَا فِدَاءَ لَهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ وَهُوَ تَأْيِيسٌ لَهُمْ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ سُوءِ الْعَذابِ بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ، أَيْ لَافْتَدَوْا بِهِ لأجل الْعَذَاب السيّء الَّذِي شَاهَدُوهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْبَدَلِ، أَيْ بَدَلًا عَنْ سُوءِ الْعَذابِ.
وَعُطِفَ عَلَى هَذَا التَّأْيِيسِ تَهْوِيلٌ آخَرُ فِي عِظَمِ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ مِنَ الْإِيهَامِ الَّذِي تَذْهَبُ فِيهِ نَفْسُ السَّامِعِ إِلَى كُلِّ تَصْوِيرٍ مِنَ الشِّدَّةِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْوَاوِ لِلْحَالِ، أَيْ لَافْتَدَوْا بِهِ فِي حَالِ ظُهُورِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ.
ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ بَدا. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمُ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَظُنُّونَهُ.
وَالِاحْتِسَابُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْحِسَابِ بِمَعْنَى الظَّنِّ مِثْلَ: اقْتَرَبَ بِمَعْنَى قَرُبَ. وَالْمَعْنَى:
مَا لَمْ يَكُونُوا يَظُنُّونَهُ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُتَجَاوِزًا أَقْصَى مَا يَتَخَيَّلُهُ الْمُتَخَيَّلُ حِينَ يَسْمَعُ أَوْصَافَهُ، فَلَا الْتِفَاتَ فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ إِلَى كَوْنِهِمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ فَلَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، وَنَظِير هَذَا فِي الْوَعْدِ بِالْخَبَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَة: ١٧].
وسَيِّئاتُ جَمْعُ سَيِّئَةٍ، وَهُوَ وَصْفٌ أُضِيفَ إِلَى مَوْصُوفِهِ وَهُوَ الْمَوْصُولُ مَا كَسَبُوا أَيْ مَكْسُوبَاتِهِمُ السَّيِّئَاتِ. وَتَأْنِيثُهَا بِاعْتِبَارِ شُهْرَةِ إِطْلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ سُوءِ الْعَذابِ بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ، أَيْ لَافْتَدَوْا بِهِ لأجل الْعَذَاب السيّء الَّذِي شَاهَدُوهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْبَدَلِ، أَيْ بَدَلًا عَنْ سُوءِ الْعَذابِ.
وَعُطِفَ عَلَى هَذَا التَّأْيِيسِ تَهْوِيلٌ آخَرُ فِي عِظَمِ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ مِنَ الْإِيهَامِ الَّذِي تَذْهَبُ فِيهِ نَفْسُ السَّامِعِ إِلَى كُلِّ تَصْوِيرٍ مِنَ الشِّدَّةِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْوَاوِ لِلْحَالِ، أَيْ لَافْتَدَوْا بِهِ فِي حَالِ ظُهُورِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ.
ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ بَدا. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمُ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَظُنُّونَهُ.
وَالِاحْتِسَابُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْحِسَابِ بِمَعْنَى الظَّنِّ مِثْلَ: اقْتَرَبَ بِمَعْنَى قَرُبَ. وَالْمَعْنَى:
مَا لَمْ يَكُونُوا يَظُنُّونَهُ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُتَجَاوِزًا أَقْصَى مَا يَتَخَيَّلُهُ الْمُتَخَيَّلُ حِينَ يَسْمَعُ أَوْصَافَهُ، فَلَا الْتِفَاتَ فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ إِلَى كَوْنِهِمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ فَلَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، وَنَظِير هَذَا فِي الْوَعْدِ بِالْخَبَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَة: ١٧].
وسَيِّئاتُ جَمْعُ سَيِّئَةٍ، وَهُوَ وَصْفٌ أُضِيفَ إِلَى مَوْصُوفِهِ وَهُوَ الْمَوْصُولُ مَا كَسَبُوا أَيْ مَكْسُوبَاتِهِمُ السَّيِّئَاتِ. وَتَأْنِيثُهَا بِاعْتِبَارِ شُهْرَةِ إِطْلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى
33
الْفِعْلَةِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا كَسَبُوهُ مَا هُوَ مِنْ فَاسِدِ الِاعْتِقَادِ كَاعْتِقَادِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ وَإِضْمَارِ الْبُغْضِ لِلرَّسُولِ وَالصَّالِحِينَ وَالْأَحْقَادِ وَالتَّحَاسُدِ فَجَرَى تَأْنِيثُ الْوَصْفِ عَلَى تَغْلِيبِ السَّيِّئَاتِ الْعَمَلِيَّةِ مِثْلَ الْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَالْفَوَاحِشِ تَغْلِيبًا لَفْظِيًّا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَأُوثِرَ فِعْلُ كَسَبُوا عَلَى فِعْلِ: عَمِلُوا، لِقَطْعِ تَبَرُّمِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِتَسْجِيلِ أَنَّهُمُ اكْتَسَبُوا أَسْبَابَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: ٢٤] دون: تَعْمَلُونَ.
وَالْحَوْقُ: الْإِحَاطَةُ، أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ فَلَمْ يَنْفَلِتُوا مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي اشْتِقَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠].
وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِذِكْرِهِ تَنْزِيلًا للعقاب منزلَة مستهزء بِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَتجْعَل مُتَعَلق يَسْتَهْزِؤُنَ مَحْذُوفًا، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ ذِكْرِهِ الْعَذَابَ.
وَتَقْدِيمُ بِهِ على يَسْتَهْزِؤُنَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٤٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤٩]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر: ٤٥] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ مُسَلْسَلٌ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ لِلْمُنَاسِبَاتِ.
وَتَفْرِيعُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعُ وَصْفِ بَعْضٍ مِنْ غَرَائِبِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهَلْ أَغْرَبُ مِنْ فَزَعِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ وَقَدْ كَانُوا يَشْمَئِزُّونَ مِنْ ذِكْرِ اسْمِهِ وَحْدَهُ فَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَتَعْكِيسٌ، فَإِنَّهُ تَسَبُّبُ
وَأُوثِرَ فِعْلُ كَسَبُوا عَلَى فِعْلِ: عَمِلُوا، لِقَطْعِ تَبَرُّمِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِتَسْجِيلِ أَنَّهُمُ اكْتَسَبُوا أَسْبَابَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: ٢٤] دون: تَعْمَلُونَ.
وَالْحَوْقُ: الْإِحَاطَةُ، أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ فَلَمْ يَنْفَلِتُوا مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي اشْتِقَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠].
وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِذِكْرِهِ تَنْزِيلًا للعقاب منزلَة مستهزء بِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَتجْعَل مُتَعَلق يَسْتَهْزِؤُنَ مَحْذُوفًا، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ ذِكْرِهِ الْعَذَابَ.
وَتَقْدِيمُ بِهِ على يَسْتَهْزِؤُنَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٤٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤٩]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر: ٤٥] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ مُسَلْسَلٌ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ لِلْمُنَاسِبَاتِ.
وَتَفْرِيعُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعُ وَصْفِ بَعْضٍ مِنْ غَرَائِبِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهَلْ أَغْرَبُ مِنْ فَزَعِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ وَقَدْ كَانُوا يَشْمَئِزُّونَ مِنْ ذِكْرِ اسْمِهِ وَحْدَهُ فَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَتَعْكِيسٌ، فَإِنَّهُ تَسَبُّبُ
34
حَدِيثٍ عَلَى حَدِيثٍ وَلَيْسَ تَسَبُّبًا عَلَى الْوُجُودِ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ هُنَا وَعَطْفِ نَظِيرِهَا بِالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ [الزمر: ٨].
وَالْمَقْصُودُ بِالتَّفْرِيعِ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ فَتَتْمِيمٌ وَاسْتِطْرَادٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ [الزمر: ٨] الْآيَةَ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ كُلَّ مُشْرِكٍ فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَهُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ وَلِئَلَّا تَخْلُو إِعَادَةُ الْآيَةِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي الْقِصَصِ الْمُكَرَّرَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ إِنَّما فِيهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ (إِنَّ) الْكَافَّةِ الَّتِي تَصِيرُ كَلِمَةً تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ بِمَنْزِلَةِ (مَا) النَّافِيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا (إِلَّا) الِاسْتِثْنَائِيَّةُ. وَالْمَعْنَى: مَا أُوتِيتَ الَّذِي أُوتِيتَهُ مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا لِعِلْمٍ مِنِّي بِطُرُقِ اكْتِسَابِهِ. وَتَرْكِيزُ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ:
أُوتِيتُهُ عَائِدٌ إِلَى نِعْمَةً عَلَى تَأْوِيلِ حِكَايَةِ مَقَالَتِهِمْ بِأَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنْهُمْ فِي حَالِ حُضُورِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ فَهُوَ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى ذَاتٍ مُشَاهَدَةٍ، فَالضَّمِيرُ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: ٢٤].
وَمَعْنَى قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَجَرَى فِي أَقْوَالِهِ إِذِ الْقَوْلُ عَلَى وَفْقِ الِاعْتِقَادِ. وعَلى لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ عِلْمٍ، أَيْ بِسَبَبِ عِلْمٍ. وَخُولِفَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ آيَةِ سُورَةِ الْقَصَصِ [٧٨] فِي قَوْلِهِ: عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا عِنْدِي لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ هُنَا مُجَرَّدُ الْفِطْنَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَأُرِيدَ هُنَالِكَ عِلْمُ صَوْغِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْكِيمْيَاءِ
الَّتِي اكْتَسَبَ بِهَا قَارُونُ مِنْ مَعْرِفَةِ تَدَابِيرِهَا مَالًا عَظِيمًا،
وَالْمَقْصُودُ بِالتَّفْرِيعِ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ فَتَتْمِيمٌ وَاسْتِطْرَادٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ [الزمر: ٨] الْآيَةَ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ كُلَّ مُشْرِكٍ فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَهُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ وَلِئَلَّا تَخْلُو إِعَادَةُ الْآيَةِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي الْقِصَصِ الْمُكَرَّرَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ إِنَّما فِيهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ (إِنَّ) الْكَافَّةِ الَّتِي تَصِيرُ كَلِمَةً تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ بِمَنْزِلَةِ (مَا) النَّافِيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا (إِلَّا) الِاسْتِثْنَائِيَّةُ. وَالْمَعْنَى: مَا أُوتِيتَ الَّذِي أُوتِيتَهُ مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا لِعِلْمٍ مِنِّي بِطُرُقِ اكْتِسَابِهِ. وَتَرْكِيزُ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ:
أُوتِيتُهُ عَائِدٌ إِلَى نِعْمَةً عَلَى تَأْوِيلِ حِكَايَةِ مَقَالَتِهِمْ بِأَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنْهُمْ فِي حَالِ حُضُورِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ فَهُوَ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى ذَاتٍ مُشَاهَدَةٍ، فَالضَّمِيرُ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: ٢٤].
وَمَعْنَى قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَجَرَى فِي أَقْوَالِهِ إِذِ الْقَوْلُ عَلَى وَفْقِ الِاعْتِقَادِ. وعَلى لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ عِلْمٍ، أَيْ بِسَبَبِ عِلْمٍ. وَخُولِفَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ آيَةِ سُورَةِ الْقَصَصِ [٧٨] فِي قَوْلِهِ: عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا عِنْدِي لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ هُنَا مُجَرَّدُ الْفِطْنَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَأُرِيدَ هُنَالِكَ عِلْمُ صَوْغِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْكِيمْيَاءِ
الَّتِي اكْتَسَبَ بِهَا قَارُونُ مِنْ مَعْرِفَةِ تَدَابِيرِهَا مَالًا عَظِيمًا،
35
وَهُوَ عِلْمٌ خَاصٌّ بِهِ، وَأَمَّا مَا هُنَا فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُوجَدُ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَالْمُرَادُ: الْعِلْمُ بِطُرُقِ الْكَسْبِ وَدَفْعِ الضُّرِّ كَمَثَلِ حِيَلِ النُّوتِيِّ فِي هَوْلِ الْبَحْرِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ إِذَا ذَكَّرَهُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدُ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ صِيغَةِ الْحَصْرِ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَلْبَ كَلَامِ مَنْ يَقُولُ لَهُ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِ.
وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ وَهُوَ إِبْطَالٌ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أُوتُوا ذَلِكَ بِسَبَبِ عِلْمِهِمْ وَتَدْبِيرِهِمْ، أَيْ بَلْ إِنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي أُوتُوهَا إِنَّمَا آتَاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا لِيُظْهِرَ لِلْأُمَمِ مِقْدَارَ شُكْرِهِمْ، أَيْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى حَالَةٍ فِيهِمْ تُشْبِهُ حَالَةَ الِاخْتِبَارِ لِمِقْدَارِ عِلْمِهِمْ بِاللَّهِ وَشُكْرِهِمْ إِيَّاهُ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالنِّعْمَةَ بِهَا أَثَرٌ فِي الْمَنْعِ عَلَيْهِ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا وَاللَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ وَغَنِيٌّ عَنِ اخْتِبَارِهِمْ.
وَضَمِيرُ هِيَ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قالَ عَلَى طَرِيقَةِ إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلٍ نَحْوَ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨]، وَإِنَّمَا أَنَّثَ ضَمِيرَهُ بِاعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِلَفْظِ فِتْنَةٌ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَوْلِ بِالْكَلِمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] بَعْدَ قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠] وَالْمُرَادُ: أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ سَبَبُ فِتْنَةٍ أَوْ مُسَبَّبٌ عَنْ فِتْنَةٍ فِي نُفُوسِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى نِعْمَةً.
وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ناشىء عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، أَيْ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَمِنْهُمُ الْقَائِلُونَ، أَنَّهُمْ فِي فِتْنَةٍ بِمَا أُوتُوا مِنْ نِعْمَةٍ إِذَا كَانُوا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ نَتِيجَةُ مَسَاعِيهِمْ وَحِيَلِهِمْ.
وَضَمِيرُ أَكْثَرَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَادًا، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّاسُ، أَيْ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ بَعْضَ مَا أُوتُوهُ مِنَ النِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ لَهُمْ فِتْنَةً بِحَسَبِ مَا يَتَلَقَّوْنَهَا بِهِ مِنْ قِلَّةِ
وَالْمُرَادُ: الْعِلْمُ بِطُرُقِ الْكَسْبِ وَدَفْعِ الضُّرِّ كَمَثَلِ حِيَلِ النُّوتِيِّ فِي هَوْلِ الْبَحْرِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ إِذَا ذَكَّرَهُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدُ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ صِيغَةِ الْحَصْرِ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَلْبَ كَلَامِ مَنْ يَقُولُ لَهُ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِ.
وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ وَهُوَ إِبْطَالٌ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أُوتُوا ذَلِكَ بِسَبَبِ عِلْمِهِمْ وَتَدْبِيرِهِمْ، أَيْ بَلْ إِنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي أُوتُوهَا إِنَّمَا آتَاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا لِيُظْهِرَ لِلْأُمَمِ مِقْدَارَ شُكْرِهِمْ، أَيْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى حَالَةٍ فِيهِمْ تُشْبِهُ حَالَةَ الِاخْتِبَارِ لِمِقْدَارِ عِلْمِهِمْ بِاللَّهِ وَشُكْرِهِمْ إِيَّاهُ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالنِّعْمَةَ بِهَا أَثَرٌ فِي الْمَنْعِ عَلَيْهِ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا وَاللَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ وَغَنِيٌّ عَنِ اخْتِبَارِهِمْ.
وَضَمِيرُ هِيَ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قالَ عَلَى طَرِيقَةِ إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلٍ نَحْوَ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨]، وَإِنَّمَا أَنَّثَ ضَمِيرَهُ بِاعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِلَفْظِ فِتْنَةٌ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَوْلِ بِالْكَلِمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] بَعْدَ قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠] وَالْمُرَادُ: أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ سَبَبُ فِتْنَةٍ أَوْ مُسَبَّبٌ عَنْ فِتْنَةٍ فِي نُفُوسِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى نِعْمَةً.
وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ناشىء عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، أَيْ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَمِنْهُمُ الْقَائِلُونَ، أَنَّهُمْ فِي فِتْنَةٍ بِمَا أُوتُوا مِنْ نِعْمَةٍ إِذَا كَانُوا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ نَتِيجَةُ مَسَاعِيهِمْ وَحِيَلِهِمْ.
وَضَمِيرُ أَكْثَرَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَادًا، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّاسُ، أَيْ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ بَعْضَ مَا أُوتُوهُ مِنَ النِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ لَهُمْ فِتْنَةً بِحَسَبِ مَا يَتَلَقَّوْنَهَا بِهِ مِنْ قِلَّةِ
36
الشُّكْرِ وَمَا يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، فَدَخَلَ فِي هَذَا الْأَكْثَرِ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على علم.
[٥٠- ٥١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥١]
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١)
جُمْلَةُ قَدْ قالَهَا مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ هِيَ فِتْنَةٌ [الزمر: ٤٩] لِأَنَّ بَيَانَ مَغَبَّةِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ فِي شَأْنِ النِّعْمَةِ الَّتِي تَنَالُهُمْ يُبَيِّنُ أَنَّ نِعْمَةَ هَؤُلَاءِ كَانَتْ فِتْنَةً لَهُمْ. وَضَمِيرُ قالَهَا عَائِدٌ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الزمر: ٤٩]، عَلَى تَأْوِيلِ الْقَوْلِ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠].
والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمْ غَيْرُ المتدينين مِمَّن سلفوا مِمَّنْ عَلِمَهُمُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ قَارُونُ وَقَدْ حَكَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ مَا كَسَبُوهُ مِنْ أَمْوَالٍ. وَعَدَمُ إِغْنَائِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَ الْعَذَابِ بِأَمْوَالِهِمْ. وَالْفَاءُ فِي فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ لِتَفْرِيعِ عَدَمِ إِغْنَاءِ مَا كَسَبُوهُ عَلَى مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ فَإِنَّ عَدَمَ الْإِغْنَاءِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ حَلَّ بِهِمْ مِنَ السُّوءِ مَا شَأْنُ مِثْلِهِ أَنْ يَتَطَلَّبَ صَاحِبُهُ الِافْتِدَاءَ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ السُّوءُ عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِدَاءٌ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا. فَفَاءُ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا مُفَرَّعَةٌ على جملَة فَما أَغْنى عَنْهُمْ، أَيْ تَسَبَّبَ عَلَى انْتِفَاءِ إِغْنَاءِ الْكَسْبِ عَنْهُمْ حُلُولُ الْعِقَابِ بِهِمْ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي تَرْتِيبِ الْجُمَلِ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا مُقَدَّمَةً عَلَى جُمْلَةِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ إِنَّمَا
[٥٠- ٥١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥١]
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١)
جُمْلَةُ قَدْ قالَهَا مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ هِيَ فِتْنَةٌ [الزمر: ٤٩] لِأَنَّ بَيَانَ مَغَبَّةِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ فِي شَأْنِ النِّعْمَةِ الَّتِي تَنَالُهُمْ يُبَيِّنُ أَنَّ نِعْمَةَ هَؤُلَاءِ كَانَتْ فِتْنَةً لَهُمْ. وَضَمِيرُ قالَهَا عَائِدٌ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الزمر: ٤٩]، عَلَى تَأْوِيلِ الْقَوْلِ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠].
والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمْ غَيْرُ المتدينين مِمَّن سلفوا مِمَّنْ عَلِمَهُمُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ قَارُونُ وَقَدْ حَكَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ مَا كَسَبُوهُ مِنْ أَمْوَالٍ. وَعَدَمُ إِغْنَائِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَ الْعَذَابِ بِأَمْوَالِهِمْ. وَالْفَاءُ فِي فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ لِتَفْرِيعِ عَدَمِ إِغْنَاءِ مَا كَسَبُوهُ عَلَى مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ فَإِنَّ عَدَمَ الْإِغْنَاءِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ حَلَّ بِهِمْ مِنَ السُّوءِ مَا شَأْنُ مِثْلِهِ أَنْ يَتَطَلَّبَ صَاحِبُهُ الِافْتِدَاءَ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ السُّوءُ عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِدَاءٌ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا. فَفَاءُ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا مُفَرَّعَةٌ على جملَة فَما أَغْنى عَنْهُمْ، أَيْ تَسَبَّبَ عَلَى انْتِفَاءِ إِغْنَاءِ الْكَسْبِ عَنْهُمْ حُلُولُ الْعِقَابِ بِهِمْ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي تَرْتِيبِ الْجُمَلِ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا مُقَدَّمَةً عَلَى جُمْلَةِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ إِنَّمَا
يُتَرَقَّبُ عِنْدَ حُلُولِ الضَّيْرِ بِهِمْ فَإِذَا تَقَرَّرَ عَدَمُ الْإِغْنَاءِ يُذْكَرُ بَعْدَهُ حُلُولُ الْمُصِيبَةِ، فَعُكِسَ التَّرْتِيبُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِقَصْدِ التَّعْجِيلِ بِإِبْطَالِ مَقَالَةِ قَائِلِهِمْ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الزمر: ٤٩]، أَيْ لَوْ كَانَ لِعِلْمِهِمْ أَثَرٌ فِي جَلْبِ النِّعْمَةِ لَهُمْ لَكَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّنَا اهْتَدَيْنَا إِلَى كَشْفِ عَادَةٍ مِنْ عَادَاتِ الْقُرْآنِ إِذَا ذُكِرَتْ فِيهِ هَذِهِ الْإِشَارَةُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ. وَإِصَابَةُ السَّيِّئَاتِ مُرَادٌ بِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِصَابَةُ جَزَاءِ السَّيِّئَاتِ وَهُوَ عِقَابُ الدُّنْيَا وَعِقَابُ الْآخِرَةِ لِأَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا.
وَالْمُعْجِزُ: الْغَالِبُ، وَتَقَدَّمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٤]، أَيْ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَا، فَحُذِفَ مَفْعُولُ اسْمِ الْفَاعِلِ
لِدَلَالَةِ الْقَرِينَة عَلَيْهِ.
[٥٢]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥٢]
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٤٩] فَبَعْدَ أَنْ وَصَفَ أَكْثَرهم بِانْتِفَاء الْعلم بِأَن الرَّحْمَة لَهُم فتْنَة وابتلاء، عطف عَلَيْهِ إِنْكَار علمهمْ انْتِفَاء عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَإِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ وَصَمِّهِمْ آذَانَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي تُذَكِّرُهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى بَقُوا فِي جَهَالَةٍ مُرَكَّبَةٍ وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، أَيْ يُعْطِي الْخَيْرَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ.
فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي انْتِفَاءِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي انْتِفَاءِ الْعِلْمِ، فَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ تَوْبِيخًا. وَاقْتَصَرَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى إِنْكَارِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِأَنْ بَسْطَ الرِّزْقِ وَقَدْرَهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّنَا اهْتَدَيْنَا إِلَى كَشْفِ عَادَةٍ مِنْ عَادَاتِ الْقُرْآنِ إِذَا ذُكِرَتْ فِيهِ هَذِهِ الْإِشَارَةُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ. وَإِصَابَةُ السَّيِّئَاتِ مُرَادٌ بِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِصَابَةُ جَزَاءِ السَّيِّئَاتِ وَهُوَ عِقَابُ الدُّنْيَا وَعِقَابُ الْآخِرَةِ لِأَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا.
وَالْمُعْجِزُ: الْغَالِبُ، وَتَقَدَّمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٤]، أَيْ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَا، فَحُذِفَ مَفْعُولُ اسْمِ الْفَاعِلِ
لِدَلَالَةِ الْقَرِينَة عَلَيْهِ.
[٥٢]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥٢]
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٤٩] فَبَعْدَ أَنْ وَصَفَ أَكْثَرهم بِانْتِفَاء الْعلم بِأَن الرَّحْمَة لَهُم فتْنَة وابتلاء، عطف عَلَيْهِ إِنْكَار علمهمْ انْتِفَاء عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَإِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ وَصَمِّهِمْ آذَانَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي تُذَكِّرُهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى بَقُوا فِي جَهَالَةٍ مُرَكَّبَةٍ وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، أَيْ يُعْطِي الْخَيْرَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ.
فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي انْتِفَاءِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي انْتِفَاءِ الْعِلْمِ، فَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ تَوْبِيخًا. وَاقْتَصَرَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى إِنْكَارِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِأَنْ بَسْطَ الرِّزْقِ وَقَدْرَهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ
تَعَالَى لِأَنَّهُ أَدْنَى لِمُشَاهَدَتِهِمْ أَحْوَالَ قَوْمِهِمْ فَكَمْ مِنْ كَادٍّ غَيْرِ مَرْزُوقٍ وَكَمْ مِنْ آخَرَ يَجِيئُهُ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.
وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الرِّزْقِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ بِيَدِ الله تَعَالَى ينبىء عَنْ بَقِيَّةِ الْأَحْوَالِ فَتَحْصُلُ فِي ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَجُعِلَتِ الْآيَاتُ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَتَخَلَّقُوا بِهِ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ لِلْمُشْرِكِينَ الغافلين عَنهُ.
[٥٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥٣]
قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
أَطْنَبَتْ آيَاتُ الْوَعِيدِ بِأَفْنَانِهَا السَّابِقَةِ إِطْنَابًا يَبْلُغُ مِنْ نُفُوسِ سَامِعِيهَا أَيَّ مَبْلَغٍ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ، عَلَى رَغْمِ تَظَاهُرِهِمْ بِقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَا. وَقَدْ يَبْلُغُ بِهِمْ وَقْعُهَا مَبْلَغَ الْيَأْسِ مِنْ سَعْيٍ يُنْجِيهِمْ مِنْ وَعِيدِهَا، فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ بِبَعْثِ الرَّجَاءِ فِي نُفُوسِهِمْ لِلْخُرُوجِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ إِذَا أَرَادُوهَا عَلَى عَادَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمَجِيدِ مِنْ مُدَاوَاةِ النُّفُوسِ بِمَزِيجِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الزَّوَاجِرَ السَّابِقَةَ تُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُوَاجِهِينَ بِهَا خَاطَرَ التَّسَاؤُلِ عَنْ مَسَالِكِ النَّجَاةِ فَتَتَلَاحَمُ فِيهَا الْخَوَاطِرُ الْمَلَكِيَّةُ وَالْخَوَاطِرُ الشَّيْطَانِيَّةُ إِلَى أَنْ يُرْسِيَ
التَّلَاحُمُ عَلَى انْتِصَارِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَكَانَ فِي إِنَارَةِ السَّبِيلِ لَهَا مَا يُسَهِّلُ خَطْوَ الْحَائِرِينَ فِي ظُلُمَاتِ الشَّكِّ وَيَرْتَفِقُ بِهَا وَيُوَاسِيهَا بَعْدَ أَنْ أَثْخَنَتْهَا جُرُوحُ التَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ وَيُضَمِّدُ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ وَالْحَلِيمُ يَزْجُرُ وَيَلِينُ وَتُثِيرُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ غَضَبُ اللَّهِ بِالَّذِينِ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ فَأَعْرَضُوا أَوْ حَبَّبَهُمْ فِي الْحَقِّ فَأَبْغَضُوا فَلَعَلَّهُ لَا يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ أَوْبَةٌ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى حُكْمِهِ
وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الرِّزْقِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ بِيَدِ الله تَعَالَى ينبىء عَنْ بَقِيَّةِ الْأَحْوَالِ فَتَحْصُلُ فِي ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَجُعِلَتِ الْآيَاتُ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَتَخَلَّقُوا بِهِ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ لِلْمُشْرِكِينَ الغافلين عَنهُ.
[٥٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥٣]
قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
أَطْنَبَتْ آيَاتُ الْوَعِيدِ بِأَفْنَانِهَا السَّابِقَةِ إِطْنَابًا يَبْلُغُ مِنْ نُفُوسِ سَامِعِيهَا أَيَّ مَبْلَغٍ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ، عَلَى رَغْمِ تَظَاهُرِهِمْ بِقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَا. وَقَدْ يَبْلُغُ بِهِمْ وَقْعُهَا مَبْلَغَ الْيَأْسِ مِنْ سَعْيٍ يُنْجِيهِمْ مِنْ وَعِيدِهَا، فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ بِبَعْثِ الرَّجَاءِ فِي نُفُوسِهِمْ لِلْخُرُوجِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ إِذَا أَرَادُوهَا عَلَى عَادَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمَجِيدِ مِنْ مُدَاوَاةِ النُّفُوسِ بِمَزِيجِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الزَّوَاجِرَ السَّابِقَةَ تُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُوَاجِهِينَ بِهَا خَاطَرَ التَّسَاؤُلِ عَنْ مَسَالِكِ النَّجَاةِ فَتَتَلَاحَمُ فِيهَا الْخَوَاطِرُ الْمَلَكِيَّةُ وَالْخَوَاطِرُ الشَّيْطَانِيَّةُ إِلَى أَنْ يُرْسِيَ
التَّلَاحُمُ عَلَى انْتِصَارِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَكَانَ فِي إِنَارَةِ السَّبِيلِ لَهَا مَا يُسَهِّلُ خَطْوَ الْحَائِرِينَ فِي ظُلُمَاتِ الشَّكِّ وَيَرْتَفِقُ بِهَا وَيُوَاسِيهَا بَعْدَ أَنْ أَثْخَنَتْهَا جُرُوحُ التَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ وَيُضَمِّدُ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ وَالْحَلِيمُ يَزْجُرُ وَيَلِينُ وَتُثِيرُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ غَضَبُ اللَّهِ بِالَّذِينِ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ فَأَعْرَضُوا أَوْ حَبَّبَهُمْ فِي الْحَقِّ فَأَبْغَضُوا فَلَعَلَّهُ لَا يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ أَوْبَةٌ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى حُكْمِهِ
39
الْمُشْتَمِّ مِنْهُ تَرَقُّبُ قَطْعِ الْجِدَالِ وَفَصْمِهُ فَكَانَ أَمْرُهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَادِيَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ تَنْفِيسًا عَلَيْهِ وَتَفْتِيحًا لِبَابِ الْأَوْبَةِ إِلَيْهِ فَهَذَا كَلَامٌ يَنْحَلُّ إِلَى اسْتِئْنَافَيْنِ فَجُمْلَةُ قُلْ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ مَا تَرَقَبَّهُ أَفْضَلُ النَّبِيئِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ بَلِّغْ عَنِّي هَذَا الْقَوْلَ.
وَجُمْلَةُ يَا عِبادِيَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ لَهُمْ. وَابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِالنِّدَاءِ وَعُنْوَانِ الْعِبَادِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إِعْدَادٌ لِلْقَبُولِ وَإِطْمَاعٌ فِي النَّجَاةِ.
وَالْخطاب بعنوان يَا عِبادِيَ مُرَادٌ بِهِ الْمُشْرِكُونَ ابْتِدَاءً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ [الزمر: ٥٤] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: ٥٦] وَقَوْلُهُ: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [الزمر: ٥٩].
فَهَذَا الْخِطَابُ جَرَى عَلَى غَيْرِ الْغَالِبِ فِي مِثْلِهِ فِي عَادَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ ذِكْرِ عِبادِي بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ تَعَالَى.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ- يَعْنِي وَقَدْ سَمِعُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ لِمَنْ يَعْمَلُ تِلْكَ الْأَعْمَالَ وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ عَلِمُوا أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ جَرَائِمٌ وَهُمْ فِي جَاهِلِيَّةٍ- فَنَزَلَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الْفرْقَان: ٦٨] يَعْنِي إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الْفرْقَان: ٧٠] وَنَزَلَ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثٌ عِدَّةٌ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَهِيَ بَيْنَ ضَعِيفٍ وَمَجْهُولٍ وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ مجموعها أَنَّهَا جزئيات لِعُمُومِ الْآيَةِ وَأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ لِخِطَابِ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي دِيبَاجَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ. وَمِنْ أَجْمَلِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا اجْتَمَعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ اتَّعَدْتُ أَنَا وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ السَّهْمِيُّ،
وَجُمْلَةُ يَا عِبادِيَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ لَهُمْ. وَابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِالنِّدَاءِ وَعُنْوَانِ الْعِبَادِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إِعْدَادٌ لِلْقَبُولِ وَإِطْمَاعٌ فِي النَّجَاةِ.
وَالْخطاب بعنوان يَا عِبادِيَ مُرَادٌ بِهِ الْمُشْرِكُونَ ابْتِدَاءً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ [الزمر: ٥٤] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: ٥٦] وَقَوْلُهُ: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [الزمر: ٥٩].
فَهَذَا الْخِطَابُ جَرَى عَلَى غَيْرِ الْغَالِبِ فِي مِثْلِهِ فِي عَادَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ ذِكْرِ عِبادِي بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ تَعَالَى.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ- يَعْنِي وَقَدْ سَمِعُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ لِمَنْ يَعْمَلُ تِلْكَ الْأَعْمَالَ وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ عَلِمُوا أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ جَرَائِمٌ وَهُمْ فِي جَاهِلِيَّةٍ- فَنَزَلَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الْفرْقَان: ٦٨] يَعْنِي إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الْفرْقَان: ٧٠] وَنَزَلَ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثٌ عِدَّةٌ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَهِيَ بَيْنَ ضَعِيفٍ وَمَجْهُولٍ وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ مجموعها أَنَّهَا جزئيات لِعُمُومِ الْآيَةِ وَأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ لِخِطَابِ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي دِيبَاجَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ. وَمِنْ أَجْمَلِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا اجْتَمَعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ اتَّعَدْتُ أَنَا وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ السَّهْمِيُّ،
40
وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ عُتْبَةَ. فَقُلْنَا:
الْمَوْعِدُ أَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ، وَقُلْنَا: مَنْ تَأَخَّرَ مِنَّا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ عُتْبَةَ وَحُبِسَ عَنَّا هِشَامٌ وَإِذَا هُوَ قَدْ فُتِنَ فَافْتَتَنَ فَكُنَّا نَقُولُ بِالْمَدِينَةِ: هَؤُلَاءِ قَدْ عَرَفُوا اللَّهَ ثُمَّ افْتَتَنُوا لِبَلَاءٍ لَحِقَهُمْ لَا نَرَى لَهُمْ تَوْبَةً. وَكَانُوا هُمْ يَقُولُونَ هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إِلَى قَوْله: مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٦٠] قَالَ عُمَرُ فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي ثُمَّ بَعَثْتُهَا إِلَى هِشَامٍ. قَالَ هِشَامٌ: فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيَّ خَرَجْتُ بِهَا إِلَى ذِي طَوَى فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا فَعَرَفْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِينَا فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ عَلَى بَعِيرِي فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» اهـ. فَقَوْلُ عُمَرَ: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ» يُرِيدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ وَأَنَّهُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَلَمْ يَسْمَعْهُ عُمَرُ إِذْ كَانَ فِي شَاغِلِ تَهْيِئَةِ الْهِجْرَةِ فَمَا سَمِعَهَا إِلَّا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّ عُمَرَ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ تَمْهِيدٌ بِإِجْمَالٍ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: ٥٤]. وَبَعْدَ هَذَا فَعُمُومُ «عِبَادِيَ» وَعُمُومُ صِلَةِ الَّذِينَ أَسْرَفُوا يَشْمَلُ أَهْلَ الْمَعَاصِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَادَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تُفَرَّغُ فِي قَوَالِبٍ تَسَعُهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ. وَلَعَلَّ وَجْهَ ثُبُوتِ الْيَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ نَظِيرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: ١٠]، أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلَّذِينَ أَسْرَفُوا وَفِي مُقَدِّمَتِهِمُ الْمُشْرِكُونَ وَكُلُّهُمْ مَظِنَّةُ تَطَرُّقِ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلَى نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ إِثْبَاتُ (يَا) الْمُتَكَلِّمِ فِي خِطَابِهِمْ زِيَادَةَ تَصْرِيحٍ بِعَلَامَةِ التَّكَلُّمِ تَقْوِيَةً لِنِسْبَةِ عُبُودِيَّتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ شَأْنَ الرَّبِّ الرَّحْمَةُ بِعِبَادِهِ.
وَالْإِسْرَافُ: الْإِكْثَارُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِسْرَافُ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِسْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦] وَقَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٣]. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُعَدَّى إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِحَرْفِ مِنْ، وَتَعْدِيَتُهُ هُنَا بِ- (عَلَى) لِأَنَّ
الْمَوْعِدُ أَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ، وَقُلْنَا: مَنْ تَأَخَّرَ مِنَّا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ عُتْبَةَ وَحُبِسَ عَنَّا هِشَامٌ وَإِذَا هُوَ قَدْ فُتِنَ فَافْتَتَنَ فَكُنَّا نَقُولُ بِالْمَدِينَةِ: هَؤُلَاءِ قَدْ عَرَفُوا اللَّهَ ثُمَّ افْتَتَنُوا لِبَلَاءٍ لَحِقَهُمْ لَا نَرَى لَهُمْ تَوْبَةً. وَكَانُوا هُمْ يَقُولُونَ هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إِلَى قَوْله: مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٦٠] قَالَ عُمَرُ فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي ثُمَّ بَعَثْتُهَا إِلَى هِشَامٍ. قَالَ هِشَامٌ: فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيَّ خَرَجْتُ بِهَا إِلَى ذِي طَوَى فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا فَعَرَفْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِينَا فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ عَلَى بَعِيرِي فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» اهـ. فَقَوْلُ عُمَرَ: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ» يُرِيدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ وَأَنَّهُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَلَمْ يَسْمَعْهُ عُمَرُ إِذْ كَانَ فِي شَاغِلِ تَهْيِئَةِ الْهِجْرَةِ فَمَا سَمِعَهَا إِلَّا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّ عُمَرَ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ تَمْهِيدٌ بِإِجْمَالٍ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: ٥٤]. وَبَعْدَ هَذَا فَعُمُومُ «عِبَادِيَ» وَعُمُومُ صِلَةِ الَّذِينَ أَسْرَفُوا يَشْمَلُ أَهْلَ الْمَعَاصِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَادَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تُفَرَّغُ فِي قَوَالِبٍ تَسَعُهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ. وَلَعَلَّ وَجْهَ ثُبُوتِ الْيَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ نَظِيرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: ١٠]، أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلَّذِينَ أَسْرَفُوا وَفِي مُقَدِّمَتِهِمُ الْمُشْرِكُونَ وَكُلُّهُمْ مَظِنَّةُ تَطَرُّقِ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلَى نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ إِثْبَاتُ (يَا) الْمُتَكَلِّمِ فِي خِطَابِهِمْ زِيَادَةَ تَصْرِيحٍ بِعَلَامَةِ التَّكَلُّمِ تَقْوِيَةً لِنِسْبَةِ عُبُودِيَّتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ شَأْنَ الرَّبِّ الرَّحْمَةُ بِعِبَادِهِ.
وَالْإِسْرَافُ: الْإِكْثَارُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِسْرَافُ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِسْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦] وَقَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٣]. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُعَدَّى إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِحَرْفِ مِنْ، وَتَعْدِيَتُهُ هُنَا بِ- (عَلَى) لِأَنَّ
41
الْإِكْثَارَ هُنَا مِنْ أَعْمَالٍ تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ وَتَثْقُلُ بِهَا وَذَلِكَ مُتَعَارَفٌ فِي التَّبِعَاتِ وَالْعُدْوَانِ تَقُولُ: أَكْثَرْتُ عَلَى فُلَانٍ، فَمَعْنَى أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَنَّهُمْ جَلَبُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا تُثْقِلُهُمْ تَبِعَتُهُ لِيَشْمَلَ مَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ شِرْكٍ وَسَيِّئَاتٍ.
وَالْقُنُوطُ: الْيَأْسُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٥٥].
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً تعلليل لِلنَّهْيِ عَنِ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَمَادَّةُ الْغَفْرِ تَرْجِعُ إِلَى السَّتْرِ، وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَسْتُورِ وَاحْتِيَاجَهُ لِلسَّتْرِ فَدَلَّ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ عَلَى أَنَّ الذُّنُوبَ ثَابِتَةٌ، أَيِ الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا ثَابِتَةٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُهَا، أَيْ يُزِيلُ الْمُؤَاخَذَةَ بِهَا، وَهَذِهِ الْمَغْفِرَةُ تَقْتَضِي أَسْبَابًا أُجْمِلَتْ هُنَا وَفُصِّلَتْ فِي دَلَائِلَ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢]، وَتِلْكَ الدَّلَائِلُ يَجْمَعُهَا أَنَّ لِلْغُفْرَانِ أَسْبَابًا تَطْرَأُ عَلَى الْمُذْنِبِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالذُّنُوبِ عَبَثًا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْحَكِيمُ تَعَالَى، كَيْفَ وَقَدْ سَمَّاهَا ذُنُوبًا وَتَوَعَّدَ عَلَيْهَا فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ دَعْوَةً إِلَى تَطَلُّبِ أَسْبَابِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ فَإِذَا طَلَبَهَا الْمُذْنِبُ عَرَفَ تَفْصِيلَهَا. وجَمِيعاً حَالٌ مِنَ الذُّنُوبَ، أَيْ حَالُ جَمِيعِهَا، أَيْ عُمُومُهَا، فَيَغْفِرُ كُلَّ ذَنْبٍ مِنْهَا إِنْ حَصَلَتْ مِنَ الْمُذْنِبِ أَسْبَابُ ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كَلِمَةِ (جَمِيعٍ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٦٧].
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أَيْ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَغْفِرَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ مَا بَلَغَ جَمِيعُهَا مِنَ الْكَثْرَةِ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْغُفْرَانِ شَدِيدُ الرَّحْمَةِ. فَبَطَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَان شَيْء.
وَالْقُنُوطُ: الْيَأْسُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٥٥].
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً تعلليل لِلنَّهْيِ عَنِ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَمَادَّةُ الْغَفْرِ تَرْجِعُ إِلَى السَّتْرِ، وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَسْتُورِ وَاحْتِيَاجَهُ لِلسَّتْرِ فَدَلَّ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ عَلَى أَنَّ الذُّنُوبَ ثَابِتَةٌ، أَيِ الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا ثَابِتَةٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُهَا، أَيْ يُزِيلُ الْمُؤَاخَذَةَ بِهَا، وَهَذِهِ الْمَغْفِرَةُ تَقْتَضِي أَسْبَابًا أُجْمِلَتْ هُنَا وَفُصِّلَتْ فِي دَلَائِلَ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢]، وَتِلْكَ الدَّلَائِلُ يَجْمَعُهَا أَنَّ لِلْغُفْرَانِ أَسْبَابًا تَطْرَأُ عَلَى الْمُذْنِبِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالذُّنُوبِ عَبَثًا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْحَكِيمُ تَعَالَى، كَيْفَ وَقَدْ سَمَّاهَا ذُنُوبًا وَتَوَعَّدَ عَلَيْهَا فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ دَعْوَةً إِلَى تَطَلُّبِ أَسْبَابِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ فَإِذَا طَلَبَهَا الْمُذْنِبُ عَرَفَ تَفْصِيلَهَا. وجَمِيعاً حَالٌ مِنَ الذُّنُوبَ، أَيْ حَالُ جَمِيعِهَا، أَيْ عُمُومُهَا، فَيَغْفِرُ كُلَّ ذَنْبٍ مِنْهَا إِنْ حَصَلَتْ مِنَ الْمُذْنِبِ أَسْبَابُ ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كَلِمَةِ (جَمِيعٍ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٦٧].
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أَيْ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَغْفِرَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ مَا بَلَغَ جَمِيعُهَا مِنَ الْكَثْرَةِ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْغُفْرَانِ شَدِيدُ الرَّحْمَةِ. فَبَطَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَان شَيْء.
42
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥٤]
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤)لَمَّا فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الرَّجَاءِ أَعْقَبَهُ بِالْإِرْشَادِ إِلَى وَسِيلَةِ الْمَغْفِرَةِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْقُنُوطِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَبَيْنَ الْإِنَابَةِ جَمْعًا يَقْتَضِي الْمُبَادَرَةَ، وَهِيَ أَيْضًا مُقْتَضَى صِيغَةِ الْأَمْرِ.
وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ وَلِمَا فِيهَا وَفِي التَّوْبَةِ مِنْ مَعْنَى الرُّجُوعِ عُدِّيَ الْفِعْلَانِ بِحَرْفِ إِلَى.
وَالْمَعْنَى: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ بِأَنْ تُوَحِّدُوهُ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْإِسْلَامِ، أَيِ التَّصْدِيقُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ إِيذَانٌ بِوَعِيدٍ قَرِيبٍ إِنْ لَمْ يُنِيبُوا وَيُسْلِمُوا كَمَا يُلْمِحُ إِلَيْهِ فِعْلُ يَأْتِيَكُمُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَذَابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُنِيبُوا وَيُسْلِمُوا يَأْتِهِمُ الْعَذَابُ. وَالْعَذَابُ مِنْهُ مَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا إِنْ شَاءَهُ اللَّهُ وَهَذَا
خَاصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَدِ اسْتَعَاذَ لَهُمْ مِنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٥]، وَمِنَ الْعَذَابِ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَهُوَ جَزَاءُ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ.
وَهَذَا الْخِطَابُ يَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُ بِنَصِيبٍ، فَنَصِيبُ الْمُشْرِكِينَ الْإِنَابَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَنَصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ التَّوْبَةُ إِذَا أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَحَاصِلٌ لَهُمْ.
وَالنَّصْرُ: الْإِعَانَةُ عَلَى الْغَلَبَةِ بِحَيْثُ يَنْفَلِتُ الْمَغْلُوبُ مِنْ غَلَبَةِ قَاهِرِهِ كُرْهًا عَلَى الْقَاهِرِ وَلَا نَصِيرَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَلَيْسَتْ مِنْ حَقِيقَةِ النَّصْرِ الْمَنْفِيِّ وَهَذِهِ الْفِقْرَةُ أَكْثَرُ حَظٍّ فِيهَا هُوَ حَظّ الْمُشْركين.
[٥٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥٥]
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥)
أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: ١٨]. وَالْحَظُّ لِلْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: ١٧، ١٨].
وأَحْسَنَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى كَامِلِ الْحُسْنِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ حُسْنٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣].
وَإِضَافَةُ أَحْسَنَ إِلَى مَا أُنْزِلَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ.
وَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ هُوَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ قَبْلُ بِنَوْعَيْهِ وَكُلُّهُ بَغْتَةٌ إِذْ لَا يَتَقَدَّمُهُ إِشْعَارٌ، فَعَذَابُ الدُّنْيَا يَحِلُّ بَغْتَةً وَعَذَابُ الْآخِرَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَظْهَرُ بَوَارِقُهُ عِنْدَ الْبَعْثِ وَقَدْ أَتَاهُمْ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَأْتِيهِمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ يَوْم الْبَعْث.
[٥٦- ٥٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٨]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
أَنْ تَقُولَ تَعْلِيل لِلْأَوَامِرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: ٥٤] واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ [الزمر: ٥٥] عَلَى حَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَعَ (أَنْ) وَهُوَ كَثِيرٌ.
[٥٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥٥]
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥)
أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: ١٨]. وَالْحَظُّ لِلْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: ١٧، ١٨].
وأَحْسَنَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى كَامِلِ الْحُسْنِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ حُسْنٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣].
وَإِضَافَةُ أَحْسَنَ إِلَى مَا أُنْزِلَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ.
وَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ هُوَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ قَبْلُ بِنَوْعَيْهِ وَكُلُّهُ بَغْتَةٌ إِذْ لَا يَتَقَدَّمُهُ إِشْعَارٌ، فَعَذَابُ الدُّنْيَا يَحِلُّ بَغْتَةً وَعَذَابُ الْآخِرَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَظْهَرُ بَوَارِقُهُ عِنْدَ الْبَعْثِ وَقَدْ أَتَاهُمْ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَأْتِيهِمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ يَوْم الْبَعْث.
[٥٦- ٥٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٨]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
أَنْ تَقُولَ تَعْلِيل لِلْأَوَامِرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: ٥٤] واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ [الزمر: ٥٥] عَلَى حَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَعَ (أَنْ) وَهُوَ كَثِيرٌ.
44
وَفِيهِ حَذْفُ لَا النَّافِيَةِ بَعْدَ أَنْ، وَهُوَ شَائِعٌ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥٥- ١٥٧]، وَكَقَوْلِهِ: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا [النِّسَاء: ١٣٥]. وَعَادَةُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» تَقْدِيرُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ تَفْعَلُوا كَذَا. وَتَقْدِيرُ (لَا) النَّافِيَةِ أَظْهَرُ لِكَثْرَةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ.
وَالْمَعْنَى: لِئَلَّا تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ. وَظَاهِرُ الْقَوْلِ أَنَّهُ الْقَوْلُ جَهْرَةً وَهُوَ شَأْنُ الَّذِي ضَاقَ صَبْرُهُ عَنْ إِخْفَاءِ نَدَامَتِهِ فِي نَفسه فيصرح بِمَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ فَتَكُونُ هَذِهِ النَّدَامَةُ الْمُصَرَّحُ بِهَا زَائِدَةً عَلَى الَّتِي أَسَرَّهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بَاطِنًا فِي النَّفْسِ. وَتَنْكِيرُ نَفْسٌ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ أَنْ يَقُولَ صِنْفٌ مِنَ النُّفُوسِ وَهِيَ نُفُوسُ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: ١٤]. وَقَوْلُ لَبِيدٍ:
أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا يُرِيدُ نَفْسَهُ.
وَحَرْفُ (يَا) فِي قَوْله: يَا حَسْرَتى اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْحَسْرَةِ بِالْعَاقِلِ الَّذِي يُنَادَى لِيُقْبِلَ، أَيْ هَذَا وَقْتُكِ فَاحْضُرِي، وَالنِّدَاءُ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ يَا حَسْرَتِي احْضُرِي فَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَيْكِ، أَيْ إِلَى التَّحَسُّرِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ كَالْمَثَلِ لِشِدَّةِ التَّحَسُّرِ.
وَالْحَسْرَةُ: النَّدَامَةُ الشَّدِيدَةُ. وَالْأَلِفُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحْدَهُ يَا حَسْرَتَايَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَلِفِ الَّتِي جُعِلَتْ عِوَضًا عَنِ الْيَاءِ فِي قَوْلهم: يَا حَسْرَتى. وَالْأَشْهَرُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ الْيَاءَ الَّتِي بَعْدَ الْأَلْفِ مَفْتُوحَةٌ. وَتَعْدِيَةُ الْحَسْرَةِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ كَمَا هُوَ غَالِبُهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ التَّحَسُّرِ مِنْ مَدْخُولِ عَلى.
وَالْمَعْنَى: لِئَلَّا تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ. وَظَاهِرُ الْقَوْلِ أَنَّهُ الْقَوْلُ جَهْرَةً وَهُوَ شَأْنُ الَّذِي ضَاقَ صَبْرُهُ عَنْ إِخْفَاءِ نَدَامَتِهِ فِي نَفسه فيصرح بِمَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ فَتَكُونُ هَذِهِ النَّدَامَةُ الْمُصَرَّحُ بِهَا زَائِدَةً عَلَى الَّتِي أَسَرَّهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بَاطِنًا فِي النَّفْسِ. وَتَنْكِيرُ نَفْسٌ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ أَنْ يَقُولَ صِنْفٌ مِنَ النُّفُوسِ وَهِيَ نُفُوسُ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: ١٤]. وَقَوْلُ لَبِيدٍ:
أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا يُرِيدُ نَفْسَهُ.
وَحَرْفُ (يَا) فِي قَوْله: يَا حَسْرَتى اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْحَسْرَةِ بِالْعَاقِلِ الَّذِي يُنَادَى لِيُقْبِلَ، أَيْ هَذَا وَقْتُكِ فَاحْضُرِي، وَالنِّدَاءُ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ يَا حَسْرَتِي احْضُرِي فَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَيْكِ، أَيْ إِلَى التَّحَسُّرِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ كَالْمَثَلِ لِشِدَّةِ التَّحَسُّرِ.
وَالْحَسْرَةُ: النَّدَامَةُ الشَّدِيدَةُ. وَالْأَلِفُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحْدَهُ يَا حَسْرَتَايَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَلِفِ الَّتِي جُعِلَتْ عِوَضًا عَنِ الْيَاءِ فِي قَوْلهم: يَا حَسْرَتى. وَالْأَشْهَرُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ الْيَاءَ الَّتِي بَعْدَ الْأَلْفِ مَفْتُوحَةٌ. وَتَعْدِيَةُ الْحَسْرَةِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ كَمَا هُوَ غَالِبُهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ التَّحَسُّرِ مِنْ مَدْخُولِ عَلى.
45
وَ (مَا) فِي (مَا فَرَّطْتُ) صدرية، أَيْ عَلَى تَفْرِيطِي فِي جَنْبِ اللَّهِ.
وَالتَّفْرِيطُ: التَّضْيِيعُ وَالتَّقْصِيرُ، يُقَالُ: فَرَطَهُ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ: فَرَّطَ فِيهِ. وَالْجَنْبُ
وَالْجَانِبُ مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ نَاحِيَةُ الشَّيْءِ وَمَكَانُهُ وَمِنْهُ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النِّسَاء: ٣٦] أَيِ الصَّاحِبُ الْمُجَاوِرُ.
وَحَرْفُ فِي هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ فَرَّطْتُ فَلَا يَكُونُ لِلْفِعْلِ مَفْعُولٌ وَيَكُونُ الْمُفَرَّطُ فِيهِ هُوَ جَنْبُ اللَّهِ، أَيْ جِهَتُهُ وَيَكُونُ الْجَنْبُ مُسْتَعَارًا لِلشَّأْنِ وَالْحَقِّ، أَيْ شَأْنِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَوَصَايَاهُ تَشْبِيهًا لَهَا بِمَكَانِ السَّيِّدِ وَحِمَاهُ إِذَا أُهْمِلَ حَتَّى اعْتُدِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَقْفَرَ، كَمَا قَالَ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ:
أَو تكون جُمْلَةَ فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ تَمْثِيلًا لِحَالِ النَّفْسِ الَّتِي أُوقِفَتْ لِلْحِسَابِ وَالْعِقَابِ بِحَالِ الْعَبْدِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِ سَيِّدُهُ حِرَاسَةَ حِمَاهُ وَرِعَايَةَ مَاشِيَتِهِ فَأَهْمَلَهَا حَتَّى رُعِيَ الْحِمَى وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَأُحْضِرَ لِلثِّقَافِ فَيَقُولُ: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ سَيِّدِي. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ إِبْقَاءُ الْجَنْبِ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ التَّمْثِيلَ يَعْتَمِدُ تَشْبِيهَ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً وَفِعْلُ فَرَّطْتُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَحَدِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَحَذْفُهُ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ، وَيَكُونُ الْمَجْرُورُ بِ فِي حَالًا مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ، أَيْ كَائِنًا مَا فَرَّطْتُهُ فِي جَانِبِ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ النَّدَامَةِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ قَبُولِ مَا جَاءَهَا بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهُدَى فَكَانَتْ تَسْخَرُ مِنْهُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ فَرَّطْتُ، أَيْ فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ تَفْرِيطَ السَّاخِرِ لَا تَفْرِيطَ الْغَافِلِ، وَهَذَا إِقْرَارٌ بِصُورَةِ التَّفْرِيطِ.
وَالتَّفْرِيطُ: التَّضْيِيعُ وَالتَّقْصِيرُ، يُقَالُ: فَرَطَهُ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ: فَرَّطَ فِيهِ. وَالْجَنْبُ
وَالْجَانِبُ مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ نَاحِيَةُ الشَّيْءِ وَمَكَانُهُ وَمِنْهُ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النِّسَاء: ٣٦] أَيِ الصَّاحِبُ الْمُجَاوِرُ.
وَحَرْفُ فِي هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ فَرَّطْتُ فَلَا يَكُونُ لِلْفِعْلِ مَفْعُولٌ وَيَكُونُ الْمُفَرَّطُ فِيهِ هُوَ جَنْبُ اللَّهِ، أَيْ جِهَتُهُ وَيَكُونُ الْجَنْبُ مُسْتَعَارًا لِلشَّأْنِ وَالْحَقِّ، أَيْ شَأْنِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَوَصَايَاهُ تَشْبِيهًا لَهَا بِمَكَانِ السَّيِّدِ وَحِمَاهُ إِذَا أُهْمِلَ حَتَّى اعْتُدِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَقْفَرَ، كَمَا قَالَ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ:
أَمَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ وَامِقٍ | لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تقطّع |
وَجُمْلَةُ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ النَّدَامَةِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ قَبُولِ مَا جَاءَهَا بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهُدَى فَكَانَتْ تَسْخَرُ مِنْهُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ فَرَّطْتُ، أَيْ فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ تَفْرِيطَ السَّاخِرِ لَا تَفْرِيطَ الْغَافِلِ، وَهَذَا إِقْرَارٌ بِصُورَةِ التَّفْرِيطِ.
46
وَ (إنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنْ إِنَّ الْمُشَدَّدَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمِنَ السَّاخِرِينَ فَارِقَةٌ بَيْنَ إَنْ الْمُخَفَّفَةِ وَ (إِن) النافية.
ولَمِنَ السَّاخِرِينَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اتِّصَافِهِمْ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كُنْتُ لَسَاخِرَةً، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧].
وَمَعْنَى أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ لِقَصْدِ الِاعْتِذَارِ وَالتَّنَصُّلِ، تُعِيدُ أَذْهَانُهُمْ مَا اعْتَادُوا الِاعْتِذَارَ بِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠] وَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ لِقَصْدِ إِفْحَامِ النَّبِيءِ حِينَ يَدْعُوهُمْ فَبَقِيَ ذَلِكَ التَّفْكِيرُ عَالِقًا بِعُقُولِهِمْ حِينَ يَحْضُرُونَ لِلْحِسَابِ. وَالْكَلَامُ فِي مِنَ
الْمُتَّقِينَ
مثله فِي لَمِنَ السَّاخِرِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهَا: حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَهُوَ تَمَنٍّ مَحْضٌ. ولَوْ فِيهِ لِلتَّمَنِّي، وَانْتَصَبَ فَأَكُونَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي.
وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٠٢]، أَيْ كَرَّةً إِلَى الدُّنْيَا فَأُحْسِنَ، وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْمُسِيئِينَ. وَقَدْ حُكِيَ كَلَامُ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ عَلَى تَرْتِيبِهِ الطَّبِيعِيِّ فِي جَوَلَانِهِ فِي الْخَاطِرِ بِالِابْتِدَاءِ بِالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا أَوْقَعَتْ فِيهِ نَفسهَا، ثمَّ بالاعتذار وَالتَّنَصُّلِ طَمَعًا أَنْ يُنْجِيَهَا ذَلِكَ، ثُمَّ بِتَمَنِّي أَنْ تَعُودَ إِلَى الدُّنْيَا لِتَعْمَلَ الْإِحْسَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠]. فَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي النَّظْمِ هُوَ أَحْكَمُ تَرْتِيبٍ وَلَوْ رُتِّبَ الْكَلَامُ عَلَى خِلَافِهِ لَفَاتَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَوَلُّدِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الْخَاطِرِ حِينَمَا يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِنْشَاءِ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْهُ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْإِنْشَاء والخطابة».
ولَمِنَ السَّاخِرِينَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اتِّصَافِهِمْ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كُنْتُ لَسَاخِرَةً، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧].
وَمَعْنَى أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ لِقَصْدِ الِاعْتِذَارِ وَالتَّنَصُّلِ، تُعِيدُ أَذْهَانُهُمْ مَا اعْتَادُوا الِاعْتِذَارَ بِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠] وَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ لِقَصْدِ إِفْحَامِ النَّبِيءِ حِينَ يَدْعُوهُمْ فَبَقِيَ ذَلِكَ التَّفْكِيرُ عَالِقًا بِعُقُولِهِمْ حِينَ يَحْضُرُونَ لِلْحِسَابِ. وَالْكَلَامُ فِي مِنَ
الْمُتَّقِينَ
مثله فِي لَمِنَ السَّاخِرِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهَا: حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَهُوَ تَمَنٍّ مَحْضٌ. ولَوْ فِيهِ لِلتَّمَنِّي، وَانْتَصَبَ فَأَكُونَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي.
وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٠٢]، أَيْ كَرَّةً إِلَى الدُّنْيَا فَأُحْسِنَ، وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْمُسِيئِينَ. وَقَدْ حُكِيَ كَلَامُ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ عَلَى تَرْتِيبِهِ الطَّبِيعِيِّ فِي جَوَلَانِهِ فِي الْخَاطِرِ بِالِابْتِدَاءِ بِالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا أَوْقَعَتْ فِيهِ نَفسهَا، ثمَّ بالاعتذار وَالتَّنَصُّلِ طَمَعًا أَنْ يُنْجِيَهَا ذَلِكَ، ثُمَّ بِتَمَنِّي أَنْ تَعُودَ إِلَى الدُّنْيَا لِتَعْمَلَ الْإِحْسَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠]. فَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي النَّظْمِ هُوَ أَحْكَمُ تَرْتِيبٍ وَلَوْ رُتِّبَ الْكَلَامُ عَلَى خِلَافِهِ لَفَاتَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَوَلُّدِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الْخَاطِرِ حِينَمَا يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِنْشَاءِ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْهُ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْإِنْشَاء والخطابة».
47
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥٩]
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)بَلى حَرْفٌ لِإِبْطَالِ مَنْفِيٍّ أَوْ فِيهِ رَائِحَةُ النَّفْيِ، لِقَصْدِ إِثْبَاتِ مَا نُفِيَ قَبْلَهُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هُنَا جَوَابًا لِقَوْلِ النَّفْسِ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر: ٥٧]، لِمَا تَقْتَضِيهِ لَوْ الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ لِلتَّمَنِّي مِنِ انْتِفَاءِ مَا تَمَنَّاهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هَدَاهُ لِيَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَيْ لَمْ يَهْدِنِي اللَّهُ فَلَمْ أَتَّقِ. وَجُمْلَةُ قَدْ جاءَتْكَ آياتِي تَفْصِيلٌ لِلْإِبْطَالِ وَبَيَانٌ لَهُ، وَهُوَ مِثْلُ الْجَوَابِ بِالتَّسْلِيمِ بَعْدَ الْمَنْعِ، أَيْ هَدَاكَ اللَّهُ.
وَقَدْ قُوبِلَ كَلَامُ النَّفْسِ بِجَوَابٍ يُقَابِلُهُ عَلَى عَدَدِ قَرَائِنِهِ الثَّلَاثِ (١)، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَهَذَا مُقَابِلُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي [الزمر: ٥٧] ثُمَّ بِقَوْلِهِ:
وَاسْتَكْبَرْتَ وَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهَا: عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٦] أَيْ لَيْسَتْ نِهَايَةُ أَمْرِكِ التَّفْرِيطَ بَلْ أَعْظَمَ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِ النَّفْسِ لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر: ٥٧] فَهَذِهِ قَرَائِنُ ثَلَاثٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ هَدَاكِ فِي الدُّنْيَا بِالْإِرْشَادِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ فَقَابَلْتِ الْإِرْشَادَ بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْكُفْرِ بِهَا فَلَا عُذْرَ لَكِ.
وَكَانَ الْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمُشَوَّشِ بَعْدَ اللَّفِّ رَعْيًا لِمُقْتَضَى ذَلِكَ التَّشْوِيشِ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ ابْتِدَاءُ النَّشْرِ بِإِبْطَالِ الْأَهَمِّ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اللَّفُّ وَهُوَ مَا سَاقُوهُ عَلَى مَعْنَى التَّنَصُّلِ وَالِاعْتِذَارِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي [الزمر: ٥٧] لِقَصْدِ الْمُبَادَرَةِ بِإِعْلَامِهِمْ بِمَا يَدْحَضُ مَعْذِرَتَهُمْ، ثُمَّ عَادَ إِلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٦] فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ: فَكَذَّبْتَ بِها، ثُمَّ أَكْمَلَ بِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: ٥٨] بِقَوْلِهِ: وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ. وَلَمْ يُورَدْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ النَّفْسِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: ٥٦] لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ.
_________
(١) الْقَرَائِن القرآنية: جمع قرينَة وَهِي الْفَقْرَة ذَات الفاصلة.
وَلَوْ لَمْ يُسْلَكْ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي النَّشْرِ لِهَذَا اللَّفِّ لَفَاتَ التَّعْجِيلُ بِدَحْضِ الْمَعْذِرَةِ، وَلَفَاتَتْ مُقَابَلَةُ الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ الْمُجَابِ عَنْهَا بِقَرَائِنِ أَمْثَالِهَا لِمَا عَلِمَتْ مِنْ أَنَّ الْإِبْطَالَ رُوعِيَ فِيهِ قَرَائِنٌ ثَلَاث على وزان أَقْوَالِ النَّفْسِ، وَأَنَّ تَرْتِيبَ أَقْوَالِ النَّفْسِ كَانَ جَارِيًا عَلَى التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ، فَلَوْ لَمْ يُشَوَّشِ النَّشْرُ لَوَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيهِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَدَدِ قَرَائِنِ اللَّفِّ فَتَفُوتُ نُكْتَةُ الْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ شَأْنُ الْجِدَالِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَرُّكِ.
وَتَرْكِيبُ قَوْلِهِ: وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي نَظَائِرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: ٥٦] وَمَا بَعْدَهُ مِمَّا أُقْحِمَ فِيهِ فِعْلُ كُنْتَ.
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ التَّاءَاتِ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَكَذَلِكَ فَتَحُ الْكَافِ مِنْ قَوْلِهِ: جاءَتْكَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّفْسِ بِمَعْنَى الذَّاتِ الْمُغَلَّبَةِ فِي أَنْ يُرَادَ بِهَا الذُّكُورُ وَيُعْلَمَ أَنَّ النِّسَاءَ مِثْلُهُمْ، مِثْلُ تَغْلِيبِ صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْله: لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: ٥٦].
[٦٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦٠]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)
عَطْفٌ عَلَى إِحْدَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَذَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: ٥١]، أَيْ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَصَابَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْوِدَادُ الْوُجُوهِ حَقِيقَةً جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَامَةً لَهُمْ وَجَعَلَ بَقِيَّةَ النَّاسِ بِخِلَافِهِمْ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ اسْوِدَادَ الْوُجُوهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَامَةً عَلَى سُوءِ الْمَصِيرِ كَمَا جَعَلَ بَيَاضَهَا عَلَامَةً عَلَى حُسْنِ الْمَصِيرِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ
اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
وَتَرْكِيبُ قَوْلِهِ: وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي نَظَائِرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: ٥٦] وَمَا بَعْدَهُ مِمَّا أُقْحِمَ فِيهِ فِعْلُ كُنْتَ.
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ التَّاءَاتِ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَكَذَلِكَ فَتَحُ الْكَافِ مِنْ قَوْلِهِ: جاءَتْكَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّفْسِ بِمَعْنَى الذَّاتِ الْمُغَلَّبَةِ فِي أَنْ يُرَادَ بِهَا الذُّكُورُ وَيُعْلَمَ أَنَّ النِّسَاءَ مِثْلُهُمْ، مِثْلُ تَغْلِيبِ صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْله: لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: ٥٦].
[٦٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦٠]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)
عَطْفٌ عَلَى إِحْدَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَذَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: ٥١]، أَيْ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَصَابَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْوِدَادُ الْوُجُوهِ حَقِيقَةً جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَامَةً لَهُمْ وَجَعَلَ بَقِيَّةَ النَّاسِ بِخِلَافِهِمْ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ اسْوِدَادَ الْوُجُوهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَامَةً عَلَى سُوءِ الْمَصِيرِ كَمَا جَعَلَ بَيَاضَهَا عَلَامَةً عَلَى حُسْنِ الْمَصِيرِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ
اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
49
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْيِضَاضُ الْوُجُوهِ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّضْرَةِ وَالْبَهْجَةِ قَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ [الْقِيَامَة: ٢٢]، وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
بِيضُ الْوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ وَيَقُولُونَ فِي الَّذِي يَخْصُلُ خَصْلَةً يَفْتَخِرُ بِهَا قَوْمُهُ: بَيَّضْتَ وُجُوهَنَا. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَجُمْلَةُ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا بَصَرِيَّةٌ لَا يَنْصِبُ فِعْلُهَا مَفْعُولَيْنِ. وَلَا يَلْزَمُ اقْتِرَانُ جُمْلَةِ الْحَالِ الِاسْمِيَّةِ بِالْوَاوِ.
والَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ: هُمُ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَيْهِ مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ مِنَ الشَّرِيكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَكَاذِيبِ الشِّرْكِ، فَالَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: ٥١]، وُصِفُوا أَوَّلًا بِالظُّلْمِ ثُمَّ وُصِفُوا بِالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ فِي حِكَايَةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
وَيَدْخُلُ فِي الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ كُلُّ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ صِفَةً لَا دَلِيلَ لَهُ فِيهَا، وَمَنْ شَرَعَ شَيْئًا فَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ مُتَعَمِّدًا قَاصِدًا تَرْوِيجَهُ لِلْقَبُولِ بِدُونِ دَلِيلٍ، فَيَدْخُلُ أَهْلُ الضَّلَالِ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا صِفَاتٍ لِلَّهِ أَوْ نَسَبُوا إِلَيْهِ تَشْرِيعًا، وَلَا يَدْخُلُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ الْمُخْطِئُونَ فِي الْأَدِلَّةِ سَوَاءٌ فِي الْفُرُوعِ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الْأُصُولِ عَلَى مَا نَخْتَارُهُ إِذَا اسْتَفْرَغُوا الْجُهُودَ.
وَنِسْبَةُ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ أَمْرُهَا خَطِيرٌ، وَلذَلِك قَالَ أَئِمَّتنَا: إِنَّ الْحُكْمَ الْمَقِيسَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ دِينُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَالَهُ اللَّهُ.
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِجُمْلَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ
بِيضُ الْوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ وَيَقُولُونَ فِي الَّذِي يَخْصُلُ خَصْلَةً يَفْتَخِرُ بِهَا قَوْمُهُ: بَيَّضْتَ وُجُوهَنَا. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَجُمْلَةُ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا بَصَرِيَّةٌ لَا يَنْصِبُ فِعْلُهَا مَفْعُولَيْنِ. وَلَا يَلْزَمُ اقْتِرَانُ جُمْلَةِ الْحَالِ الِاسْمِيَّةِ بِالْوَاوِ.
والَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ: هُمُ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَيْهِ مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ مِنَ الشَّرِيكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَكَاذِيبِ الشِّرْكِ، فَالَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: ٥١]، وُصِفُوا أَوَّلًا بِالظُّلْمِ ثُمَّ وُصِفُوا بِالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ فِي حِكَايَةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
وَيَدْخُلُ فِي الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ كُلُّ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ صِفَةً لَا دَلِيلَ لَهُ فِيهَا، وَمَنْ شَرَعَ شَيْئًا فَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ مُتَعَمِّدًا قَاصِدًا تَرْوِيجَهُ لِلْقَبُولِ بِدُونِ دَلِيلٍ، فَيَدْخُلُ أَهْلُ الضَّلَالِ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا صِفَاتٍ لِلَّهِ أَوْ نَسَبُوا إِلَيْهِ تَشْرِيعًا، وَلَا يَدْخُلُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ الْمُخْطِئُونَ فِي الْأَدِلَّةِ سَوَاءٌ فِي الْفُرُوعِ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الْأُصُولِ عَلَى مَا نَخْتَارُهُ إِذَا اسْتَفْرَغُوا الْجُهُودَ.
وَنِسْبَةُ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ أَمْرُهَا خَطِيرٌ، وَلذَلِك قَالَ أَئِمَّتنَا: إِنَّ الْحُكْمَ الْمَقِيسَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ دِينُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَالَهُ اللَّهُ.
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِجُمْلَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ
50
السَّامِعَ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ اسْوِدَادِ الْوُجُوهِ فَيُجَابُ بِأَنَّ فِي جَهَنَّمَ مَثْوَاهُمْ يَعْنِي لِأَنَّ السَّوَادَ يُنَاسِبُ مَا سَيَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ مَنْ مَسِّ النَّارِ فَأُجِيبَ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ بِتَنْزِيلِ السَّائِلِ الْمُقَدَّرِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَثْوَاهُمْ جَهَنَّمُ فَلَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ مُنَاسَبَةِ سَوَادِ وُجُوهِهِمْ، لِمَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ لِلدَّخَائِلِ عَنَاوِينَهَا، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
[الْأَنْعَام: ٥٣]، وَكَقَوْلِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حِينَ كَانَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ وَقَدْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا «مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَكَقَوْلِ الْحَجَّاجِ فِي خُطْبَتِهِ فِي أَهِلِ الْكُوفَةِ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ» إِلَخْ.
وَالتَّكَبُّرُ: شِدَّةُ الْكِبْرِ، وَمِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَكَبِّرُ، وَالْكِبْرُ: إِظْهَارُ الْمَرْءِ التَّعَاظُمَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَعُدُّ نَفْسَهُ عَظِيمًا. وَتَعْرِيفُ الْمُتَكَبِّرِينَ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَأَصْحَابُ التَّكَبُّرِ مَرَاتِبُ أَقْوَاهَا الشِّرْكُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: ٦٠] وَهُوَ الْمَعْنِيُّ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابَلَهُ بِالْإِيمَانِ، وَدُونَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ حَقِيقَةِ مَاهِيَّةِ التَّكَبُّرِ، وَكُلُّهَا مَذْمُومَةٌ. وَمَا يَدُورُ عَلَى الْأَلْسُنِ: أَنَّ الْكِبْرَ عَلَى أَهْلِ الْكِبْرِ عِبَادَةٌ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَفِي وَصْفِهِمْ بِالْمُتَكَبِّرِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ بِتَسْوِيدِ وُجُوهِهِمْ كَانَ مُنَاسِبًا لِكِبْرِيَائِهِمْ لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ إِذا كَانَ سيّىء الْوَجْهِ انْكَسَرَتْ كِبْرِيَاؤُهُ لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ تَضْعُفُ بِمِقْدَارِ شُعُورِ صَاحِبِهَا بِمَعْرِفَةِ النَّاس نقائصه.
[٦١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦١]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: ٦٠] إِلَى
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
[الْأَنْعَام: ٥٣]، وَكَقَوْلِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حِينَ كَانَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ وَقَدْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا «مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَكَقَوْلِ الْحَجَّاجِ فِي خُطْبَتِهِ فِي أَهِلِ الْكُوفَةِ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ» إِلَخْ.
وَالتَّكَبُّرُ: شِدَّةُ الْكِبْرِ، وَمِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَكَبِّرُ، وَالْكِبْرُ: إِظْهَارُ الْمَرْءِ التَّعَاظُمَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَعُدُّ نَفْسَهُ عَظِيمًا. وَتَعْرِيفُ الْمُتَكَبِّرِينَ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَأَصْحَابُ التَّكَبُّرِ مَرَاتِبُ أَقْوَاهَا الشِّرْكُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: ٦٠] وَهُوَ الْمَعْنِيُّ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابَلَهُ بِالْإِيمَانِ، وَدُونَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ حَقِيقَةِ مَاهِيَّةِ التَّكَبُّرِ، وَكُلُّهَا مَذْمُومَةٌ. وَمَا يَدُورُ عَلَى الْأَلْسُنِ: أَنَّ الْكِبْرَ عَلَى أَهْلِ الْكِبْرِ عِبَادَةٌ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَفِي وَصْفِهِمْ بِالْمُتَكَبِّرِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ بِتَسْوِيدِ وُجُوهِهِمْ كَانَ مُنَاسِبًا لِكِبْرِيَائِهِمْ لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ إِذا كَانَ سيّىء الْوَجْهِ انْكَسَرَتْ كِبْرِيَاؤُهُ لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ تَضْعُفُ بِمِقْدَارِ شُعُورِ صَاحِبِهَا بِمَعْرِفَةِ النَّاس نقائصه.
[٦١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦١]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: ٦٠] إِلَى
51
آخِرِهَا، أَيْ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا مِنْ جَهَنَّمَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَكَبِّرِينَ. وَهَذَا إِيذَانٌ بِأَنَّ التَّقْوَى تُنَافِي التَّكَبُّرَ لِأَنَّ التَّقْوَى كَمَالُ الْخُلُقِ الشَّرْعِيِّ وَتَقْتَضِي اجْتِنَابَ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالَ الْأَمْرِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَالْكِبْرُ مَرَضٌ قَلْبِيٌّ بَاطِنِيٌّ فَإِذَا كَانَ الْكِبْرُ مُلْقِيًا صَاحِبَهُ فِي النَّارِ بِحُكْمِ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٦٠] فَضِدُّ أُولَئِكَ نَاجُونَ مِنْهَا وَهُمُ الْمُتَّقُونَ إِذِ التَّقْوَى تَحُولُ دُونَ أَسْبَابِ الْعِقَابِ الَّتِي مِنْهَا الْكِبْرُ، فَالَّذِينَ اتَّقَوْا هُمْ أَهْلُ التَّقْوَى وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَلِذَلِكَ فَفِعْلُ اتَّقَوْا مَنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ.
وَالْمَفَازَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا لِلْفَوْزِ وَهُوَ الْفَلَاحُ، مِثْلَ الْمَتَابِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً [النبأ: ٣١]، وَلِحَاقُ التَّاءِ بِهِ مِنْ قَبِيلِ لِحَاقِ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: ٢]. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي اسْمِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٨٨]، وَالْبَاءُ
لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْفَوْزِ أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ مَا حَصَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَوْزِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَفَازَةُ اسْمًا لِلْفَلَاةِ، كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
سُمِّيَتْ مَفَازَةً بِاسْمِ مَكَانِ الْفَوْزِ، أَيِ النَّجَاةُ وَتَأْنِيثُهَا بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، وَسَمَّوْهَا مَفَازَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَنْ حَلَّ بِهَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ عَدُوُّهُ، كَمَا قَالَ الْعُدَيْلُ:
وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي). وَالْمَفَازَةُ: الْجَنَّةُ. وَإِضَافَةُ مَفَازَةٍ إِلَى ضَمِيرِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ تَلَبُّسِهِمْ بِالْفَوْزِ حَتَّى عُرِفَ بِهِمْ كَمَا يُقَالُ: فَازَ فَوْزَ فُلَانٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَفازَتِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِمَفَازَاتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهِيَ تَجْرِي عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْمَفَازَةِ لِأَنَّ
وَالْمَفَازَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا لِلْفَوْزِ وَهُوَ الْفَلَاحُ، مِثْلَ الْمَتَابِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً [النبأ: ٣١]، وَلِحَاقُ التَّاءِ بِهِ مِنْ قَبِيلِ لِحَاقِ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: ٢]. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي اسْمِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٨٨]، وَالْبَاءُ
لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْفَوْزِ أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ مَا حَصَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَوْزِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَفَازَةُ اسْمًا لِلْفَلَاةِ، كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
لِوِرْدٍ تَقْلِصُ الْغِيطَانُ عَنْهُ | يَبُذُّ مَفَازَةِ الْخِمْسِ الْكَمَالِ |
وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تنالني | بِسَاط بأيدي أَنا عجات عَرِيضُ |
تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا | مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمُّ صَبَّارِ |
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَفازَتِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِمَفَازَاتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهِيَ تَجْرِي عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْمَفَازَةِ لِأَنَّ
52
الْمَصْدَرَ قَدْ يُجْمَعُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الصَّادِرِ مِنْهُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ، وَكَذَلِكَ تَعَدُّدُ أَمْكِنَةِ الْفَوْزِ بِتَعَدُّدِ الطَّوَائِفِ، وَعَلَى هَذَا فَإِضَافَةُ الْمَفَازَةِ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ اتَّقَوْا لِتَعْرِيفِهَا بِهِمْ، أَيِ الْمَفَازَةُ الَّتِي عَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَهُمْ وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتٍ وَأَخْبَارٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً [النبأ: ٣١، ٣٣].
وَجُمْلَةُ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لِأَنَّ نَفْيَ مَسِّ السُّوءِ هُوَ إِنْجَاؤُهُمْ وَنَفْيُ الْحُزْنِ عَنْهُمْ نَفْيٌ لِأَثَرِ الْمَسِّ السُّوءَ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ نَفْيِ السُّوءِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِنَفْيِ حَالَةِ أَهْلِ النَّارِ عَنْهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي مَسٍّ مِنَ السُّوءِ مُتَجَدِّدٌ. وَجِيءَ فِي نَفْيِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَيْضًا فِي حَزْنٍ وَغَمٍّ ثَابِتٍ لَازِمٍ لَهُمْ.
وَمِنْ لَطِيفِ التَّعْبِيرِ هَذَا التَّفَنُّنُ، فَإِنَّ شَأْنَ الْأَسْوَاءِ الْجَسَدِيَّةِ تَجَدُّدُ آلَامِهَا وَشَأْنُ الْأَكْدَارِ الْقَلْبِيَّةِ دَوَامُ الإحساس بهَا.
[٦٢- ٦٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٣]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)
هَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: ٦٤] فِي ذِكْرِ تَمَسُّكِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالتَّصَلُّبِ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى قَطْعِ دَابِرِهِ، وَجُعِلَتِ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُقْدِمَاتٍ تُؤَيِّدُ مَا يَجِيءُ بَعْدَهَا من قَوْله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: ٦٤].
وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَمَعْطُوفَاتُهُ عَلَى ثَلَاثِ جُمَلٍ وَجُمْلَةٍ رَابِعَةٍ:
وَجُمْلَةُ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لِأَنَّ نَفْيَ مَسِّ السُّوءِ هُوَ إِنْجَاؤُهُمْ وَنَفْيُ الْحُزْنِ عَنْهُمْ نَفْيٌ لِأَثَرِ الْمَسِّ السُّوءَ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ نَفْيِ السُّوءِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِنَفْيِ حَالَةِ أَهْلِ النَّارِ عَنْهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي مَسٍّ مِنَ السُّوءِ مُتَجَدِّدٌ. وَجِيءَ فِي نَفْيِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَيْضًا فِي حَزْنٍ وَغَمٍّ ثَابِتٍ لَازِمٍ لَهُمْ.
وَمِنْ لَطِيفِ التَّعْبِيرِ هَذَا التَّفَنُّنُ، فَإِنَّ شَأْنَ الْأَسْوَاءِ الْجَسَدِيَّةِ تَجَدُّدُ آلَامِهَا وَشَأْنُ الْأَكْدَارِ الْقَلْبِيَّةِ دَوَامُ الإحساس بهَا.
[٦٢- ٦٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٣]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)
هَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: ٦٤] فِي ذِكْرِ تَمَسُّكِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالتَّصَلُّبِ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى قَطْعِ دَابِرِهِ، وَجُعِلَتِ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُقْدِمَاتٍ تُؤَيِّدُ مَا يَجِيءُ بَعْدَهَا من قَوْله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: ٦٤].
وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَمَعْطُوفَاتُهُ عَلَى ثَلَاثِ جُمَلٍ وَجُمْلَةٍ رَابِعَةٍ:
53
فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَدْخَلَتْ كُلَّ مَوْجُودٍ فِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ وَلِيُّ التَّصَرُّفِ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَهُوَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَوْ كَانَ خَالِقَ نَفْسِهِ أَوْ صِفَاتِهِ لَزِمَ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِالدَّوْرِ فِي الْحِكْمَةِ، وَاسْتِحَالَتُهُ عَقْلِيَّةٌ، فَخَصَّ هَذَا الْعُمُومَ الْعَقْلُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِثْبَاتُ حَقِيقَةٍ، وَإِلْزَامُ النَّاسِ بِتَوْحِيدِهِ لِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا قَصْدُ ثَنَاءٍ وَلَا تَعَاظُمٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ تَذْكِيرُ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ جَمِيعًا هُمْ وَمَا مَعَهُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِمْ بِالْإِيجَادِ.
الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وَجِيءَ بِهَا مَعْطُوفَةً لِأَنَّ مَدْلُولَهَا مُغَايِرٌ لِمَدْلُولِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْوَكِيلُ الْمُتَصَرِّفُ فِي شَيْءٍ بِدُونِ تَعَقُّبٍ وَلَمَّا لَمْ يُعَلَّقْ بِذَلِكَ الْوَصْفِ شَيْءٌ عُلِمَ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ جِنْسُ التَّصَرُّفِ وَحَقِيقَتُهُ الَّتِي تَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ مَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ، فَعَمَّ تَصَرُّفُهُ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ تَقْدِيرِ الْأَعْمَالِ وَالْآجَالِ وَالْحَرَكَاتِ، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تَقْتَضِي الِاحْتِيَاجَ إِلَيْهِ بِالْإِمْدَادِ فَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَوَجَدَهُمْ لَمْ يَسْتَغْنُوا عَنْهُ لَمْحَةً مَا.
الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَجِيءَ بِهَا مَفْصُولَةً لِأَنَّهَا تُفِيدُ بَيَانَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ الْوَكِيلَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ.
وَالْمَقَالِيدُ: جَمَعَ إِقْلِيدٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهَذَا جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَإِقْلِيدٌ قِيلَ مُعَرَّبٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ، وَأَصْلُهُ (كِلِيدٌ) قِيلَ مِنَ الرُّومِيَّةِ وَأَصْلُهُ (إِقْلِيدِسُ) وَقيل كلمة يَمَانِية وَهُوَ مِمَّا تَقَارَبَتْ فِيهِ اللُّغَاتُ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ حِفْظِ ذَخَائِرِهَا، فَذَخَائِرُ الْأَرْضِ عَنَاصِرُهَا وَمَعَادِنُهَا وَكَيْفِيَّاتُ أَجْوَائِهَا وَبِحَارِهَا، وَذَخَائِرُ السَّمَاوَاتِ سَيْرُ كَوَاكِبِهَا وَتَصَرُّفَاتُ أَرْوَاحِهَا فِي عَوَالِمِهَا وَعَوَالِمِنَا وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْعَنَاصِرُ وَالْقُوَى شَدِيدَةُ النَّفْعِ لِلنَّاسِ وَكَانَ النَّاسُ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا شُبِّهَتْ بِنَفَائِسَ الْمَخْزُونَاتِ فَصَحَّ
أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمَقَالِيدُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَهِيَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ لِلْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ التَّكْوِينِيِّ وَالتَّسْخِيرِيِّ الَّذِي يَفِيضُ بِهِ عَلَى النَّاسِ مِنْ تِلْكَ الذَّخَائِرِ الْمُدَّخَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحجر: ٢١].
الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وَجِيءَ بِهَا مَعْطُوفَةً لِأَنَّ مَدْلُولَهَا مُغَايِرٌ لِمَدْلُولِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْوَكِيلُ الْمُتَصَرِّفُ فِي شَيْءٍ بِدُونِ تَعَقُّبٍ وَلَمَّا لَمْ يُعَلَّقْ بِذَلِكَ الْوَصْفِ شَيْءٌ عُلِمَ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ جِنْسُ التَّصَرُّفِ وَحَقِيقَتُهُ الَّتِي تَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ مَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ، فَعَمَّ تَصَرُّفُهُ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ تَقْدِيرِ الْأَعْمَالِ وَالْآجَالِ وَالْحَرَكَاتِ، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تَقْتَضِي الِاحْتِيَاجَ إِلَيْهِ بِالْإِمْدَادِ فَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَوَجَدَهُمْ لَمْ يَسْتَغْنُوا عَنْهُ لَمْحَةً مَا.
الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَجِيءَ بِهَا مَفْصُولَةً لِأَنَّهَا تُفِيدُ بَيَانَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ الْوَكِيلَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ.
وَالْمَقَالِيدُ: جَمَعَ إِقْلِيدٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهَذَا جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَإِقْلِيدٌ قِيلَ مُعَرَّبٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ، وَأَصْلُهُ (كِلِيدٌ) قِيلَ مِنَ الرُّومِيَّةِ وَأَصْلُهُ (إِقْلِيدِسُ) وَقيل كلمة يَمَانِية وَهُوَ مِمَّا تَقَارَبَتْ فِيهِ اللُّغَاتُ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ حِفْظِ ذَخَائِرِهَا، فَذَخَائِرُ الْأَرْضِ عَنَاصِرُهَا وَمَعَادِنُهَا وَكَيْفِيَّاتُ أَجْوَائِهَا وَبِحَارِهَا، وَذَخَائِرُ السَّمَاوَاتِ سَيْرُ كَوَاكِبِهَا وَتَصَرُّفَاتُ أَرْوَاحِهَا فِي عَوَالِمِهَا وَعَوَالِمِنَا وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْعَنَاصِرُ وَالْقُوَى شَدِيدَةُ النَّفْعِ لِلنَّاسِ وَكَانَ النَّاسُ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا شُبِّهَتْ بِنَفَائِسَ الْمَخْزُونَاتِ فَصَحَّ
أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمَقَالِيدُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَهِيَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ لِلْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ التَّكْوِينِيِّ وَالتَّسْخِيرِيِّ الَّذِي يَفِيضُ بِهِ عَلَى النَّاسِ مِنْ تِلْكَ الذَّخَائِرِ الْمُدَّخَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحجر: ٢١].
54
وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ مُعْطِي مَا يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ النُّبُوءَةُ وَهَدْيُ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ جَهْلَ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى أَنْ أَنْكَرُوا اخْتِصَاصَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ دُونَهُمْ، وَاخْتِصَاصُ أَتْبَاعِهِ بِالْهُدَى فَقَالُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام: ٥٣]. فَهَذِهِ الْجُمَلُ اشْتَمَلَتْ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثٍ تَقْتَضِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دِلَالَةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ، ثُمَّ بِالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، ثُمَّ بِوَضْعِ النُّظُمِ وَالنَّوَامِيسِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالتَّهْذِيبِيَّةِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ وَفِي نِظَامِ الْبَشَرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مُوجِبٌ تَوْحِيدَهُ وَتَصْدِيقَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِمْسَاكَ بِعُرْوَتِهِ كَمَا رَشَدَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ.
فَأَمَّا الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فَتَحْتَمِلُ الِاعْتِرَاضَ وَلَكِنَّ اقْتِرَانَهَا بِالْوَاوِ بَعْدَ نَظَائِرِهَا يُرَجِّحُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهَا عَاطِفَةً وَأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى مَفَادِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، وَتَكُونُ مُقَدَّمَةً رَابِعَةً لِلْمَقْصُودِ تَجْهِيلًا لِلَّذِينِ هُمْ ضِدُّ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الْحَقِّ بِإِبْطَالِ ضِدِّهِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ. لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ يَعُودُ إِلَى تَرْغِيبٍ وَتَنْفِيرٍ فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ خَاسِرِينَ لَا جَرَمَ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِ الله هم الفائزين، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُقَابِلُ جُمْلَةَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ [الزمر: ٦١] الْمُنْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُفِيدَةٌ إِنْذَارَهُمْ وَتَأْفِينَ آرَائِهِمْ، لِأَنَّ مَوْقِعَهَا بَعْدَ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَهِيَ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ يَقْتَضِي التَّنْدِيدَ عَلَيْهِمْ فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا.
وَوُصِفَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بِأَنَّهُمُ الْخَاسِرُونَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ مَنْ لَهُ مَقَالِيدُ خَزَائِنِ الْخَيْرِ فَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْحِرْمَانِ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ وَأَعْظَمُهَا خَزَائِنُ خَيْرِ الْآخِرَةِ.
وَآيَاتُ اللَّهِ هِيَ دَلَائِلُ وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْجُمَلُ الثَّلَاثُ السَّابِقَةُ.
فَأَمَّا الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فَتَحْتَمِلُ الِاعْتِرَاضَ وَلَكِنَّ اقْتِرَانَهَا بِالْوَاوِ بَعْدَ نَظَائِرِهَا يُرَجِّحُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهَا عَاطِفَةً وَأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى مَفَادِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، وَتَكُونُ مُقَدَّمَةً رَابِعَةً لِلْمَقْصُودِ تَجْهِيلًا لِلَّذِينِ هُمْ ضِدُّ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الْحَقِّ بِإِبْطَالِ ضِدِّهِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ. لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ يَعُودُ إِلَى تَرْغِيبٍ وَتَنْفِيرٍ فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ خَاسِرِينَ لَا جَرَمَ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِ الله هم الفائزين، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُقَابِلُ جُمْلَةَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ [الزمر: ٦١] الْمُنْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُفِيدَةٌ إِنْذَارَهُمْ وَتَأْفِينَ آرَائِهِمْ، لِأَنَّ مَوْقِعَهَا بَعْدَ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَهِيَ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ يَقْتَضِي التَّنْدِيدَ عَلَيْهِمْ فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا.
وَوُصِفَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بِأَنَّهُمُ الْخَاسِرُونَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ مَنْ لَهُ مَقَالِيدُ خَزَائِنِ الْخَيْرِ فَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْحِرْمَانِ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ وَأَعْظَمُهَا خَزَائِنُ خَيْرِ الْآخِرَةِ.
وَآيَاتُ اللَّهِ هِيَ دَلَائِلُ وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْجُمَلُ الثَّلَاثُ السَّابِقَةُ.
55
وَالْإِخْبَارُ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاسْمِ الْإِشَارَة للتّنْبِيه عَن أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ خَسِرُوا لِأَجْلِ مَا وُصِفُوا بِهِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَتَوَسُّطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِإِفَادَةِ حَصْرِ الْخَسَارَةِ فِيهِمْ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِخَسَارَةِ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَسَارَتِهِمْ فَخَسَارَتُهُمْ أعظم خسارة.
[٦٤]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦٤]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
هَذَا نَتِيجَةُ الْمُقَدِّمَاتِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِثْبَاتِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِ لِيَقْرَعَ بِهِ أَسْمَاعَهُمْ، فَإِنَّ الْحَقَائِقَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَبَعْدَ تَقَرُّرِهَا عِنْدَهُمْ وَإِنْذَارِهِمْ عَلَى مُخَالَفَةِ حَالِهِمْ لِمَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الْحَقَائِقُ أَمَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُوَجِّهَ إِلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ مُنَوَّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ إِذْ كَانَتْ أَنْفُسُهُمْ قَدْ خَسِئَتْ بِمَا جَبَهَهَا مِنَ الْكَلَام السَّابِق تأييسها لَهُمْ مِنْ مُحَاوَلَةِ صَرْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوْحِيدِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ.
وَتَوَسُّطُ فِعْلِ قُلْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ التَّفْرِيعِ وَالْمُفَرَّعِ عَنْهُ لِتَصْيِيرِ الْمَقَامِ لِخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقَامُ الْكَلَامِ قَبْلَهُ مَقَامَ الْبَيَانِ لِكُلِّ سَامِعٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ الْوَاسِطَةُ فِي جَعْلِ التَّفْرِيعِ خَاصًّا بِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ وَوَفْرَةِ الْمَعَانِي وَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ نُسَمِّيَهُ «تلوين الْبسَاط».
وفَغَيْرَ اللَّهِ مَنْصُوبٌ بِ أَعْبُدُ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ تَأْمُرُونِّي عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) كَثِيرٌ فَقَوْلُهُ: أَعْبُدُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ أَعْبُدَ فَلَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ الْمُتَعَلِّقُ بِ تَأْمُرُونِّي حُذِفَتْ (أَنْ) الَّتِي كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ:
وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ وَابْنِ مَالِكٍ وَنُحَاةِ الْأَنْدَلُسِ.
وَالْجُمْهُورُ يَمْنَعُونَهُ وَيَجْعَلُونَ قَوْلَهُ: أَعْبُدُ هُوَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ، وَفِعْلَ
[٦٤]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦٤]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
هَذَا نَتِيجَةُ الْمُقَدِّمَاتِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِثْبَاتِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِ لِيَقْرَعَ بِهِ أَسْمَاعَهُمْ، فَإِنَّ الْحَقَائِقَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَبَعْدَ تَقَرُّرِهَا عِنْدَهُمْ وَإِنْذَارِهِمْ عَلَى مُخَالَفَةِ حَالِهِمْ لِمَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الْحَقَائِقُ أَمَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُوَجِّهَ إِلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ مُنَوَّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ إِذْ كَانَتْ أَنْفُسُهُمْ قَدْ خَسِئَتْ بِمَا جَبَهَهَا مِنَ الْكَلَام السَّابِق تأييسها لَهُمْ مِنْ مُحَاوَلَةِ صَرْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوْحِيدِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ.
وَتَوَسُّطُ فِعْلِ قُلْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ التَّفْرِيعِ وَالْمُفَرَّعِ عَنْهُ لِتَصْيِيرِ الْمَقَامِ لِخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقَامُ الْكَلَامِ قَبْلَهُ مَقَامَ الْبَيَانِ لِكُلِّ سَامِعٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ الْوَاسِطَةُ فِي جَعْلِ التَّفْرِيعِ خَاصًّا بِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ وَوَفْرَةِ الْمَعَانِي وَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ نُسَمِّيَهُ «تلوين الْبسَاط».
وفَغَيْرَ اللَّهِ مَنْصُوبٌ بِ أَعْبُدُ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ تَأْمُرُونِّي عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) كَثِيرٌ فَقَوْلُهُ: أَعْبُدُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ أَعْبُدَ فَلَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ الْمُتَعَلِّقُ بِ تَأْمُرُونِّي حُذِفَتْ (أَنْ) الَّتِي كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ:
أَلَا أَيُهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى | وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي |
وَالْجُمْهُورُ يَمْنَعُونَهُ وَيَجْعَلُونَ قَوْلَهُ: أَعْبُدُ هُوَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ، وَفِعْلَ
56
تَأْمُرُونِّي اعْتِرَاضًا أَوْ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ: أَأَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ حَالَ كَوْنِكُمْ تَأْمُرُونَنِي بِذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ،
وَفِي الْحَدِيثِ «وَتُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ»
. وَقَرَأَ نَافِعٌ تَأْمُرُونِّي بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى حَذْفِ وَاحِدَةٍ مِنَ النُّونَيْنِ اللَّتَيْنِ هَمَّا نُونُ الرَّفْعِ وَنُونُ الْوِقَايَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَحْذُوفَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الْحجر: ٥٤]، وَفَتَحَ نَافِعٌ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّفَادِي مِنَ الْمَدِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَأْمُرُونِّي بِتَشْدِيدِ النُّونِ إِدْغَامًا لِلنُّونَيْنِ مَعَ تَسْكِينِ الْيَاءِ لِلتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَأْمُرُونَنِي بِإِظْهَارِ النُّونَيْنِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ.
وَنِدَاؤُهُمْ بِوَصْفِ الْجَاهِلِينَ تَقْرِيعٌ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ وُصِفُوا بِالْخُسْرَانِ لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ نَقْصِ الْآخِرَةِ وَنَقْصِ الدُّنْيَا. وَالْجَهْلُ هُنَا ضِدُّ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا دَلَالَةَ الدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَمْ تُفِدْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَعَمُوا عَنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَرْأًى مِنْهُمْ وَمَسْمَعٍ فَجَهِلُوا دَلَالَتَهَا عَلَى الصَّانِعِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَكْفِهِمْ هَذَا الْحَظُّ مِنَ الْجَهْلِ حَتَّى تَدَلَّوْا إِلَى حَضِيضِ عِبَادَةِ أَجْسَامٍ مِنَ الصَّخْرِ الْأَصَمِّ. وَإِطْلَاقُ الْجَهْلِ عَلَى ضِدِّ الْعِلْمِ إِطْلَاقٌ عَرَبِيٌّ قَدِيمٌ قَالَ النَّابِغَةُ:
وَقَالَ السموأل أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيُّ:
وَحُذِفَ مَفْعُولُ الْجاهِلُونَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ كَأَنَّ الْجَهْلَ صَارَ لَهُمْ سَجِيَّةً فَلَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا فَهُمْ جَاهِلُونَ بِمَا أَفَادَتْهُ الدَّلَائِلُ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي لَوْ عَلِمُوهَا لَمَا أَشْرَكُوا وَلَمَا دَعَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اتِّبَاعِ شِرْكِهِمْ، وَهُمْ جَاهِلُونَ بِمَرَاتِبِ النُّفُوسِ الْكَامِلَةِ جَهْلًا أَطْمَعَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوْحِيدِ وَأَنْ يَسْتَزِلُّوهُ
وَفِي الْحَدِيثِ «وَتُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ»
. وَقَرَأَ نَافِعٌ تَأْمُرُونِّي بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى حَذْفِ وَاحِدَةٍ مِنَ النُّونَيْنِ اللَّتَيْنِ هَمَّا نُونُ الرَّفْعِ وَنُونُ الْوِقَايَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَحْذُوفَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الْحجر: ٥٤]، وَفَتَحَ نَافِعٌ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّفَادِي مِنَ الْمَدِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَأْمُرُونِّي بِتَشْدِيدِ النُّونِ إِدْغَامًا لِلنُّونَيْنِ مَعَ تَسْكِينِ الْيَاءِ لِلتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَأْمُرُونَنِي بِإِظْهَارِ النُّونَيْنِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ.
وَنِدَاؤُهُمْ بِوَصْفِ الْجَاهِلِينَ تَقْرِيعٌ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ وُصِفُوا بِالْخُسْرَانِ لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ نَقْصِ الْآخِرَةِ وَنَقْصِ الدُّنْيَا. وَالْجَهْلُ هُنَا ضِدُّ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا دَلَالَةَ الدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَمْ تُفِدْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَعَمُوا عَنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَرْأًى مِنْهُمْ وَمَسْمَعٍ فَجَهِلُوا دَلَالَتَهَا عَلَى الصَّانِعِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَكْفِهِمْ هَذَا الْحَظُّ مِنَ الْجَهْلِ حَتَّى تَدَلَّوْا إِلَى حَضِيضِ عِبَادَةِ أَجْسَامٍ مِنَ الصَّخْرِ الْأَصَمِّ. وَإِطْلَاقُ الْجَهْلِ عَلَى ضِدِّ الْعِلْمِ إِطْلَاقٌ عَرَبِيٌّ قَدِيمٌ قَالَ النَّابِغَةُ:
يُخْبِرْكَ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمِهِمْ | وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ علما |
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ | فَلَيْسَ سَوَاءٌ عَالِمٌ وَجَهُولُ |
57
بِخُزَعْبَلَاتِهِمْ وَإِطْمَاعِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ إِنْ هُوَ شَارَكَهُمْ فِي عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ يَحْسَبُونَ الدِّينَ مُسَاوَمَةً ومغابنة وتطفيفا.
[٦٥- ٦٦]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
تَأْيِيدٌ لِأَمْرِهِ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ مَقَالَةَ إِنْكَارِ أَنْ يَطْمَعُوا مِنْهُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، بِأَنَّهُ قَوْلٌ اسْتَحَقُّوا أَنْ يُرْمُوا بِغِلْظَتِهِ لِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِالْأَدِلَّةِ وَجَاهِلُونَ بِنَفْسِ الرَّسُولِ وَزَكَائِهَا. وَأَعْقَبَ بِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَطَرَّقُ الْإِشْرَاكُ حَوَالَيْ قُلُوبِهِمْ، فَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ حَاوَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِإِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ.
وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جملَة قُلْ [الزمر: ٦٤]. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وبحرف (قد) تَأْكِيد لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالْوَحْيُ: الْإِعْلَامُ مِنَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ.
فَالْمُرَادُ الْقَبْلِيَّةُ فِي صِفَةِ النُّبُوءَةِ فَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مُرَادٌ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ.
وَجُمْلَةُ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى أُوحِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ
إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ
[طه: ١٢٠].
وَالتَّاءُ فِي أَشْرَكْتَ تَاءُ الْخِطَابِ لِكُلِّ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ أُوحِيَ إِلَيْكَ، وَيَكُونُ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اعْتِرَاضًا لِأَنَّ الْبَيَانَ تَابِعٌ لِلْمُبَيَّنِ عُمُومُهُ وَنَحْوِهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ تَعْرِيضٌ بِقَوْمِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ لِأَنَّ فَرْضَ إِشْرَاكِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ.
[٦٥- ٦٦]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
تَأْيِيدٌ لِأَمْرِهِ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ مَقَالَةَ إِنْكَارِ أَنْ يَطْمَعُوا مِنْهُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، بِأَنَّهُ قَوْلٌ اسْتَحَقُّوا أَنْ يُرْمُوا بِغِلْظَتِهِ لِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِالْأَدِلَّةِ وَجَاهِلُونَ بِنَفْسِ الرَّسُولِ وَزَكَائِهَا. وَأَعْقَبَ بِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَطَرَّقُ الْإِشْرَاكُ حَوَالَيْ قُلُوبِهِمْ، فَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ حَاوَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِإِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ.
وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جملَة قُلْ [الزمر: ٦٤]. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وبحرف (قد) تَأْكِيد لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالْوَحْيُ: الْإِعْلَامُ مِنَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ.
فَالْمُرَادُ الْقَبْلِيَّةُ فِي صِفَةِ النُّبُوءَةِ فَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مُرَادٌ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ.
وَجُمْلَةُ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى أُوحِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ
إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ
[طه: ١٢٠].
وَالتَّاءُ فِي أَشْرَكْتَ تَاءُ الْخِطَابِ لِكُلِّ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ أُوحِيَ إِلَيْكَ، وَيَكُونُ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اعْتِرَاضًا لِأَنَّ الْبَيَانَ تَابِعٌ لِلْمُبَيَّنِ عُمُومُهُ وَنَحْوِهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ تَعْرِيضٌ بِقَوْمِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ لِأَنَّ فَرْضَ إِشْرَاكِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ.
58
وَاللَّامُ فِي لَئِنْ أَشْرَكْتَ مُوطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَاللَّامُ فِي لَيَحْبَطَنَّ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ.
وَالْحَبْطُ: الْبُطْلَانُ وَالدَّحْضُ، حَبِطَ عَمَلُهُ: ذَهَبَ بَاطِلًا. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ هُنَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يُرْجَى مِنْهُ الْجَزَاءُ الْحَسَنُ الْأَبَدِيُّ.
وَمَعْنَى حَبْطِهِ: أَنْ يَكُونَ لَغْوًا غَيْرَ مَجَازِيٍّ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ حُكْمُ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَحُكْمُ رُجُوعِ ثَوَابِ الْعَمَلِ لِصَاحِبِهِ إِنْ عَادَ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ إِيمَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٧].
ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ الْإِشْرَاكِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، شَبَّهَ حَالَهُ حِينَئِذٍ بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي أَخْرَجَ مَالًا لِيَرْبَحَ فِيهِ زِيَادَةَ مَالٍ فَعَادَ وَقَدْ ذَهَبَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ أَوْ أَكْثَرُهُ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَنْ أَشْرَكَ بَعْدَ التَّوْحِيدِ فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ قَدْ طَلَبَ بِهِ مُبْتَكِرُوهُ زِيَادَةَ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ إِذْ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي طَلَبَ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ وَلَكِنَّهُ طَلَبَ الرِّبْحَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ، فَبَاءَ بِخُسْرَانِهِ وَتَبَابِهِ. وَفِي تَقْدِيرِ فَرْضِ وُقُوعِ الْإِشْرَاكِ مِنَ الرَّسُولِ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ مَعَ تَحَقُّقِ عِصْمَتِهِمْ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَخَطَرِ الْإِشْرَاكِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْفَضْلِ لَوْ فُرِضَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهَا الْإِشْرَاكُ لَمَا أَبْقَى مِنْهَا أَثَرًا وَلَدَحَضَهَا دَحْضًا.
وبَلِ لِإِبْطَالِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ أَيْ بَلْ لَا تُشْرِكُ، أَوْ لِإِبْطَالِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدْ يَظْهَرُ أَنَّهَا تَفْرِيعٌ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ حَبْطِ الْعَمَلِ وَمِنَ الْخُسْرَانِ فَحَصَلَ بِاجْتِمَاعِ بَلِ وَالْفَاءِ، فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ، أَنْ جَمَعَتْ غَرَضَيْنِ: غَرَضَ
إِبْطَالِ كَلَامِهِمْ، وَغَرَضَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَهَذَا وَجْهٌ رَشِيقٌ.
وَمُقْتَضَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْفَاءَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِحَسَبِ
وَالْحَبْطُ: الْبُطْلَانُ وَالدَّحْضُ، حَبِطَ عَمَلُهُ: ذَهَبَ بَاطِلًا. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ هُنَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يُرْجَى مِنْهُ الْجَزَاءُ الْحَسَنُ الْأَبَدِيُّ.
وَمَعْنَى حَبْطِهِ: أَنْ يَكُونَ لَغْوًا غَيْرَ مَجَازِيٍّ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ حُكْمُ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَحُكْمُ رُجُوعِ ثَوَابِ الْعَمَلِ لِصَاحِبِهِ إِنْ عَادَ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ إِيمَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٧].
ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ الْإِشْرَاكِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، شَبَّهَ حَالَهُ حِينَئِذٍ بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي أَخْرَجَ مَالًا لِيَرْبَحَ فِيهِ زِيَادَةَ مَالٍ فَعَادَ وَقَدْ ذَهَبَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ أَوْ أَكْثَرُهُ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَنْ أَشْرَكَ بَعْدَ التَّوْحِيدِ فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ قَدْ طَلَبَ بِهِ مُبْتَكِرُوهُ زِيَادَةَ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ إِذْ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي طَلَبَ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ وَلَكِنَّهُ طَلَبَ الرِّبْحَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ، فَبَاءَ بِخُسْرَانِهِ وَتَبَابِهِ. وَفِي تَقْدِيرِ فَرْضِ وُقُوعِ الْإِشْرَاكِ مِنَ الرَّسُولِ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ مَعَ تَحَقُّقِ عِصْمَتِهِمْ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَخَطَرِ الْإِشْرَاكِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْفَضْلِ لَوْ فُرِضَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهَا الْإِشْرَاكُ لَمَا أَبْقَى مِنْهَا أَثَرًا وَلَدَحَضَهَا دَحْضًا.
وبَلِ لِإِبْطَالِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ أَيْ بَلْ لَا تُشْرِكُ، أَوْ لِإِبْطَالِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدْ يَظْهَرُ أَنَّهَا تَفْرِيعٌ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ حَبْطِ الْعَمَلِ وَمِنَ الْخُسْرَانِ فَحَصَلَ بِاجْتِمَاعِ بَلِ وَالْفَاءِ، فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ، أَنْ جَمَعَتْ غَرَضَيْنِ: غَرَضَ
إِبْطَالِ كَلَامِهِمْ، وَغَرَضَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَهَذَا وَجْهٌ رَشِيقٌ.
وَمُقْتَضَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْفَاءَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِحَسَبِ
59
الْمَقَامِ، وَتَقْدِيرُهُ: تَنَبَّهْ فَاعْبُدِ اللَّهَ (أَيْ تَنَبَّهْ لِمَكْرِهِمْ وَلَا تَغْتَرِرْ بِمَا أَمَرُوكَ أَنْ تَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ) فَحُذِفَ فِعْلُ الْأَمْرِ اخْتِصَارًا فَلَمَّا حُذِفَ اسْتُنْكِرَ الِابْتِدَاءُ بِالْفَاءِ فَقَدَّمُوا مَفْعُولَ الْفِعْلِ الْمُوَالِي لَهَا فَكَانَتِ الْفَاءُ مُتَوَسِّطَةً كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي نَسْجِ الْكَلَامِ وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ التَّقْدِيمِ حَصْرٌ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ والزجاج الْفَاء جزاءية دَالَّةً عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيره: إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا مُقَابِلَ قَوْلِهِ: أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤] فَاعْبُدِ اللَّهَ، فَلَمَّا حُذِفَ الشَّرْطُ (أَيْ إِيجَازًا) عَوَّضَ عَنْهُ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ الْفَاءُ مُؤْذِنَةٌ بِفِعْلٍ قَبْلَهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الْمُوَالِي لَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: اللَّهُ أَعْبُدُ فَاعْبُدْ، فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ حُذِفَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِمَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى فَاعْبُدْ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٤]، أَيْ أَعْبُدُ اللَّهَ لَا غَيْرَهُ، وَهَذَا فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤].
وَالشُّكْرُ هُنَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ فَقَدْ تَمَّحَضَ مَعْنَى الشُّكْرِ هُنَا لِلْعَمَلِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى وَالْقَوْلُ عُمُومُ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ قَبْلَهُ أَوْ فِي خُصُوصِهِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ كَالْقَوْلِ فِي لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.
[٦٧]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦٧]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَنَّ لَهُ مَقَالِيدَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ مَلِكُ عَوَالِمِ الدُّنْيَا، وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِدَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ هُمُ
وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى فَاعْبُدْ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٤]، أَيْ أَعْبُدُ اللَّهَ لَا غَيْرَهُ، وَهَذَا فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤].
وَالشُّكْرُ هُنَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ فَقَدْ تَمَّحَضَ مَعْنَى الشُّكْرِ هُنَا لِلْعَمَلِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى وَالْقَوْلُ عُمُومُ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ قَبْلَهُ أَوْ فِي خُصُوصِهِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ كَالْقَوْلِ فِي لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.
[٦٧]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦٧]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَنَّ لَهُ مَقَالِيدَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ مَلِكُ عَوَالِمِ الدُّنْيَا، وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِدَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ هُمُ
60
الْخَاسِرُونَ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى عَظَمَةِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ الْأَبَدِيِّ، وَأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى مَلَكُوتِ الدُّنْيَا قَدْ خَسِرُوا بِتَرْكِ النَّظَرِ، فَلَوِ اطَّلَعُوا عَلَى عَظِيمِ مُلْكِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لَقَدَّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ فَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةً جُمْلَةَ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: ٦٣] وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ إِلَخْ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، اقْتَضَاهَا التَّنَاسُبُ مَعَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الزمر: ٦٣].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: ٦٢] فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَجُمْلَةُ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ كِلْتَاهُمَا مَعْطُوفَتَيْنِ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: ٦٢]. وَالْمَعْنَى: هُوَ هُوَ، إِلَّا أَنَّ الْحَالَ أَوْضَحُ إِفْصَاحًا عَنْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ انْتَقَلَ بِهِ إِلَى وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِيهِ، وَجُمْلَةُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ اعْتِرَاضًا، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْجَاهِلِ بِعَظَمَةِ شَيْءٍ بِحَالِ مَنْ لَمْ يُحَقِّقْ مِقْدَارَ صُبْرَةٍ فَنَقَصَهَا عَنْ مِقْدَارِهَا، فَصَارَ مَعْنَى مَا قَدَرُوا اللَّهَ: مَا عَرَفُوا عَظَمَتَهُ حَيْثُ لَمْ يُنَزِّهُوهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنَ الشَّرِيكِ فِي إِلَهِيَّتِهِ.
وحَقَّ قَدْرِهِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ مَا قَدَرُوا اللَّهَ قَدْرَهُ الْحَقَّ، فَانْتَصَبَ حَقَّ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَجَمِيعٌ: أَصْلُهُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِثْلَ قَتِيلٍ، قَالَ لَبِيدٌ:
وَبِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ تَوْكِيدًا مِثْلَ (كُلٍّ) وَ (أَجْمَعَ) قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ [٦]. وَقَدْ وَقَعَ جَمِيعاً هُنَا حَالًا مِنَ الْأَرْضُ وَاسْمُ الْأَرْضُ مُؤَنَّثٌ فَكَانَ تَجْرِيدُ (جَمِيعٍ) مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ جَرْيَا عَلَى الْوَجْهِ الْغَالِبِ فِي جَرَيَانِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ عَلَى مَوْصُوفِهِ، وَقَدْ تَلْحَقُهُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: ٦٢] فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَجُمْلَةُ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ كِلْتَاهُمَا مَعْطُوفَتَيْنِ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: ٦٢]. وَالْمَعْنَى: هُوَ هُوَ، إِلَّا أَنَّ الْحَالَ أَوْضَحُ إِفْصَاحًا عَنْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ انْتَقَلَ بِهِ إِلَى وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِيهِ، وَجُمْلَةُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ اعْتِرَاضًا، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْجَاهِلِ بِعَظَمَةِ شَيْءٍ بِحَالِ مَنْ لَمْ يُحَقِّقْ مِقْدَارَ صُبْرَةٍ فَنَقَصَهَا عَنْ مِقْدَارِهَا، فَصَارَ مَعْنَى مَا قَدَرُوا اللَّهَ: مَا عَرَفُوا عَظَمَتَهُ حَيْثُ لَمْ يُنَزِّهُوهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنَ الشَّرِيكِ فِي إِلَهِيَّتِهِ.
وحَقَّ قَدْرِهِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ مَا قَدَرُوا اللَّهَ قَدْرَهُ الْحَقَّ، فَانْتَصَبَ حَقَّ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَجَمِيعٌ: أَصْلُهُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِثْلَ قَتِيلٍ، قَالَ لَبِيدٌ:
عَرِيَتْ وَكَانَ بِهَا الْجَمِيعُ فَأَبْكَرُوا | مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُهَا وَثِمَامُهَا |
61
فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةٌ | وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا |
وَالْقَبْضَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ الْمَرَّةُ مِنَ الْقَبْضِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فِي سُورَةِ طَهَ [٩٦].
وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأَرْضِ بِهَذَا الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ وَإِنَّمَا صِيغَ لَهَا وَزْنُ الْمَرَّةِ تَحْقِيرًا لَهَا فِي جَانِبِ عَظَمَةِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا لَمْ يُجَأْ بِهَا مَضْمُومَةَ الْقَافِ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمَقْبُوضِ لِئَلَّا تَفُوتَ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاتِّصَافِ وَلَا الدَّلَالَةُ عَلَى التَّحْقِيرِ فَالْقَبْضَةُ مُسْتَعَارَةٌ للتناول اسْتِعَارَة تصريحية، وَالْقَبْضَةُ تَدُلُّ عَلَى تَمَامِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْمَقْبُوضِ وَأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَا تَصَرُّفَ لَهُ وَلَا تَحَرُّكَ.
وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى تَعْطِيلِ حَرَكَةِ الْأَرْضِ وَانْقِمَاعِ مَظَاهِرِهَا إِذْ تُصْبِحُ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ شَيْئًا مَوْجُودًا لَا عَمَلَ لَهُ وَذَلِكَ بِزَوَالِ نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ وَانْقِرَاضِ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ الَّتِي كَانَتْ تَمُدُّ الْمَوْجُودَاتِ الْحَيَّةِ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ.
وَطَيُّ السَّمَاوَاتِ: اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ لِتَشْوِيشِ تَنْسِيقِهَا وَاخْتِلَالِ أَبْعَادِ أَجْرَامِهَا، فَإِنَّ الطَّيَّ رَدُّ وَلَفُّ بَعْضِ شُقَقِ الثَّوْبِ أَوْ الْوَرَقِ عَلَى بَعْضٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَبْسُوطَةً مُنْتَشِرَةً عَلَى نَسَقٍ مُنَاسِبٍ لِلْمَقْصُودِ مِنْ نَشْرِهِ فَإِذَا انْتَهَى الْمَقْصُودُ طُوِيَ الْمَنْشُورُ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤]. وَإِثْبَاتُ الطَّيِّ تَخْيِيلٌ.
وَالْبَاءُ فِي بِيَمِينِهِ لِلْآلَةِ وَالسَّبَبِيَّةِ. وَالْيَمِينُ: وَصْفٌ لِلْيَدِ وَلَا يَدَ هُنَا وَإِنَّمَا هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ بِالْيَدِ الْيَمِينِ قَالَ الشَّاعِرُ أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: