تفسير سورة سورة محمد من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
.
لمؤلفه
الشربيني
.
المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وتسمى القتال والذين كفروا وهي : ثمان وثلاثون آية، وخمسمائة وتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الملك الأعظم الذي أقام جنده للذب عن حماه ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمت رحمته تارة بالبرهان، وتارة بالسيف واللسان ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص حزبه بالحفظ في طريق الجنان.
ﰡ
واختلف في قوله تعالى :﴿ الذين كفروا ﴾ من هم ؟ فقيل : هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر منهم أبو جهل والحارث ابنا هشام، وعقبة، وشيبة ابنا ربيعة، وغيرهم، وقيل : كفار قريش وقيل : أهل الكتاب وقيل : كل كافر لأنهم ستروا أنوار الأدلة وضلوا على علم ﴿ وصدّوا ﴾ أي : امتنعوا بأنفسهم، ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر، ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي : الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم، ﴿ أضلّ ﴾ أي : أبطل إبطالاً عظيماً يزيل العين والأثر، ﴿ أعمالهم ﴾ كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وفك الأسارى، وحفظ الجوار، وغير ذلك. فلا يرون لها في الآخرة ثواباً ويجزي عليها في الدنيا من فضله تعالى.
تنبيه : أوّل هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة.
ولما ذكر تعالى أهل الكفر معبراً عنهم بأدنى طبقاتهم ليشمل من فوقهم، ذكر أضدادهم كذلك ؛ ليعمّ من كان منهم من جميع الفرق. بقوله تعالى :﴿ والذي آمنوا ﴾ أي : أقرّوا بالإيمان باللسان ﴿ وعملوا ﴾ تصديقاً لدعواهم ﴿ الصالحات ﴾ أي : الأعمال الكاملة في الصلاح، بتأسيسها على الإيمان. ولما كان هذا الوصف لا يخص أتباع محمد صلى الله عليه وسلم خصهم بقوله تعالى :﴿ وآمنوا ﴾ أي : مع ذلك ﴿ بما نزل ﴾ أي : ممن لا منزل إلا هو، منجماً مفرقاً ليجدّدوا بعد الإيمان به إجمالاً الإيمان بكل نجم منه ﴿ على محمد ﴾ النبيّ الأميّ العربيّ القرشيّ المكيّ المدنيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى :﴿ وهو ﴾ أي : هذا الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم موصوف بأنه ﴿ الحق ﴾ أي : الكامل في الحقيقة ينسخ ولا ينسخ كائناً ﴿ من ربهم ﴾ أي : المحسن إليهم بإرساله أما إحسانه إلى أمّته فواضح وأمّا سائر الأمم فبكونه هو الشافع فيهم الشفاعة العظمى يوم القيامة، وأمّته هي الشاهدة لهم جملة معترضة وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ ﴿ وهو ﴾ بسكون الهاء والباقون بضمّها ﴿ كفر عنهم سيئاتهم ﴾ أي : ستر أعمالهم السيئة بالإيمان، وعملهم الصالح ﴿ وأصلح بالهم ﴾ أي : حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد.
﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم الذي ذكر هنا من جزاء الطائفتين. ﴿ بأن ﴾ أي : بسبب أن ﴿ الذين كفروا ﴾ أي : ستروا مرائي عقولهم ﴿ اتبعوا ﴾ أي : بغاية جهدهم ومعالجتهم ﴿ الباطل ﴾ من العمل الذي لا حقيقة له في الخارج تطابقه وذلك هو الابتداع والميل مع الهوى فضلوا ﴿ وأن الذين آمنوا ﴾ أي : ولو كانوا في أقل درجات الإيمان ﴿ اتبعوا ﴾ أي بغاية جهدهم ﴿ الحق ﴾ أي الذي له واقع يطابقه وذلك هو الحكمة وهو العلم بموافقة العمل وهو معرفة المعلوم على ما هو عليه ﴿ من ربهم ﴾ أي : الذي أحسن إليهم بإيجادهم وما سببه من حسن اعتقادهم فاهتدوا ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا الضرب العظيم الشأن ﴿ يضرب الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿ للناس ﴾ أي : كل من فيه قوّة الاضطراب والحركة ﴿ أمثالهم ﴾ أي : أمثال أنفسهم، أو أمثال الفريقين المتقدّمين، أو أمثال جميع الأشياء التي يحتاجون إلى بيان أمثالها، مبيناً لها مثل هذا البيان، ليأخذ كل أحد من ذلك جزاء حاله، فقد علم من هذا المثل أنّ من اتبع الباطل أضلّ الله تعالى عمله، ووفر سيئاته، وأفسد باله ومن اتبع الحق عمل به ضد ذلك كائناً من كان. وهو غاية الحث على طلب العلم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بها.
ولما بين تعالى أنّ الذين كفروا أضلّ أعمالهم، وأن اعتبار الإنسان بالعمل، ومن لا عمل له فهو همج إعدامه خير من وجوده سبب عنه. قوله تعالى :
﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا ﴾ أيها المؤمنون في المحاربة، وقوله تعالى :
﴿ فضرب الرقاب ﴾ أصله : فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، ضماً إلى التأكيد الاختصار والحكمة في اختيار ضرب الرقبة دون غيرها من الأعضاء، لأنّ المؤمن هنا ليس بدافع إنما هو رافع، وذلك لأن من يدفع الصائل لا ينبغي أولاً أن يقصد مقتله بل يتدرج ويضرب غير المقتل، فإن اندفع فذاك، ولا يرقى إلى درجة الإهلاك فأخبر تعالى أنه ليس المقصود دفعهم عنكم بل المقصود رفعهم من وجه الأرض ؛ فإذاً ينبغي أن يكون قصدكم أولاً إلى قتلهم، بخلاف دفع الصائل. فالرقبة أظهر المقاتل وقطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك والرقبة ظاهرة في الحرب، ففي ضربها حز العنق، وهو مستلزم للموت، بخلاف سائر المواضع، ولاسيما في الحرب وفي قوله تعالى :
﴿ لقيتم ﴾ ما ينبئ عن مخالفتهم الصائل ؛ لأن قوله تعالى
﴿ لقيتم ﴾ يدل على أنّ القصد من جانبهم، بخلاف قولنا : لقيكم ولذلك قال تعالى في غير هذا الموضع
﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ].
﴿ حتى إذا أثخنتموهم ﴾ أي : أكثرتم فيهم القتل، وهذه غاية الأمر بضرب الرقاب، لا لبيان غاية القتل.
﴿ فشدّوا ﴾ أي : فأمسكوا عن القتل وأسروهم
﴿ الوثاق ﴾ أي : ما يوثق به الأسرى وقوله تعالى :
﴿ فإما مناً بعد ﴾ أي : في جميع أزمان ما بعد الأسر
﴿ وإما فداء ﴾ فيه وجهان أشهرهما : أنهما منصوبان على المصدر بفعل لا يجوز إظهاره، لأنّ المصدر متى سيق تفصيلاً لعاقبة جملة، وجب نصبه بإضمار فعل لا يجوز إظهاره، والتقدير : فإما أن تمنوا مناً أي : بإطلاقهم من غير شيء، وإما أن تفدوا فداء أي : تفادوهم بمال أو أسرى مسلمين ومثل هذا قول القائل :
لأحمدنّ فإما درء واقعة | تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل |
والثاني : قاله أبو البقاء أنهما مفعولان بهما لعامل مقدّر تقديره : أولوهم مَنَّاً، واقبلوا منهم فداء قال أبو حيان : وليس بإعراب نحوي وقوله تعالى :
﴿ حتى تضع الحرب أوزارها ﴾ أي : أثقالها من السلاح وغيره بأن يسلم الكافر، أو يدخل في العهد، مجاز وقيل : هو من مجاز الحذف أي : أهل الحرب وهو غاية للقتل والأسر. والمعنى أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى تدخل الملل كلها في الإسلام، ويكون الدين كله لله، فلا يكون بعده جهاد ولا قتال وذلك عند نزول عيسى عليه السلام وجاء في الحديث :
«الجهاد حاضر منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال » وقال الفراء حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم.
تنبيه : اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هي منسوخة بقوله تعالى
﴿ فإمّا تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ﴾ [ الأنفال : ٥٧ ] وبقوله تعالى :
﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] وإليه ذهب قتادة والضحاك والسدّي وابن جريج وهو قول الأوزاعي، وأصحاب الرأي وقالوا : لا يجوز المّن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء وذهب آخرون إلى أنّ الآية محكمة والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم، أو يسترقهم أو يمنّ عليهم فيطلقهم بغير عوض. أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين وإليه ذهب ابن عمر، وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق قال ابن عباس رضي الله عنهما لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى في الأسارى
﴿ فإما مناً بعد وإما فداء ﴾ وهذا هو الأصح والاختيار لأنه عمل به صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :«بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا ذم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، حتى كان الغد فقال له صلى الله عليه وسلم ما عندك يا ثمامة ؟ قال : عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى إذا كان بعد الغد، قال : ما عندك يا ثمامة قال : عندي ما قلت لك ؟. قال : أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. فلمّا قدم مكة، قال له قائل : صبوت قال : لا، ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن عمران بن حصين قال : أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من عقيل فأوثقوه وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.
قوله تعالى :
﴿ ذلك ﴾ يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي : الأمر ذلك وأن ينتصب بإضمار افعلوا قال الرازي : ويحتمل أن يقال : ذلك واجب. أو مقدّم كما يقول القائل إن فعلت فذاك. أي : فذاك مقصود ومطلوب، قال المفسرون : ومعناه ذلك الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار.
﴿ ولو يشاء الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي له جميع الكمال
﴿ لاتنصر منهم ﴾ أي : بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً، فيهلكهم بأن لا يبقي منهم أحداً وكفاكم أمرهم بغير قتال.
﴿ ولكن ﴾ أمركم بذلك
﴿ ليبلو ﴾ أي يختبر
﴿ بعضكم ببعض ﴾ أي يفعل في ذلك فعل المختبر، ليرتب عليه الجزاء فيصير من قتل من المؤمنين إلى الجنة ومن قتل من الكافرين إلى النار.
فإن قيل : فما فائدة الابتلاء مع حصول العلم عند المبتلي، فإذا كان الله تعالى عالماً بجميع الأشياء فأي فائدة فيه ؟ أجيب : بأن هذا السؤال كقول القائل : لم عاقب الكافر وهو مستغن ؟ ولم خلق النار محرقة وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضرّ ؟ وجوابه :
﴿ لا يسأل عما يفعل ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ]. ونزل يوم أحد لما فشا في المسلمين القتل والجراحات
﴿ والذين قتلوا في سبيل الله ﴾ أي : لأجل تسهيل طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال
﴿ فلن يضلّ ﴾ أي : لا يضيع ولا يبطل
﴿ أعمالهم ﴾ وقرأ أبو عمرو وحفص : بضم القاف وكسر التاء مبنياً للمفعول على معنى أنه أصاب القتل بعضهم كقوله تعالى
﴿ قاتل معه ربيون ﴾ [ آل عمران : ١٤٦ ] والباقون بفتح القاف والتاء وألف بينهما أي جاهدوا.
﴿ سيهديهم ﴾ أي أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور، وفي الآخرة إلى الدرجات بوعد لا خلف فيه ﴿ ويصلح بالهم ﴾ أي يرضي خصماءهم، ويقبل أعمالهم.
﴿ ويدخلهم الجنة ﴾ أي : الكاملة في النعيم ﴿ عرفها ﴾ أي : أعلمها، وبينها ﴿ لهم ﴾ أي : بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة قال مجاهد : يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا، يستدلون عليها وعن مقاتل : أنّ الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما : عرفها لهم : طيبها مشتق من العرف وهو الريح الطيبة يقال طعام معرف أي : مطيب.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : أقرّوا بذلك ﴿ إن تنصروا الله ﴾ أي : دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ ينصركم ﴾ أي : على عدوّكم فإنه الناصر لا غيره، من عدد أو عدد. ويثبت أقدامكم أي في القيام بحقوق الإسلام والمجاهدة مع الكفار.
ولما بين تعالى ما لأهل الإيمان بين ما لأهل الكفران بقوله تعالى :﴿ والذين كفروا ﴾ وهو مبتدأ أي : ستروا ما دل عليه العقل، وقادت إليه الفطرة الأولى، وخبره تعسوا يدل عليه قوله تعالى :﴿ فتعساً لهم ﴾ أي : هلاكاً لهم وخيبة من الله تعالى، وقال ابن عباس : أي بعداً لهم وقيل التعس الجرّ على الوجه، والنكس : الجرّ على الرأس وقوله تعالى :﴿ وأضل أعمالهم ﴾ عطف على تعسوا أي : أبطلها وإن كانت ظاهرة الإتقان ؛ لأجل تضييع الأساس وهو الإيمان.
وقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ والخبر الجار بعده، أو خبر مبتدأ مضمر. أي : الأمر ذلك ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ كرهوا ما أنزل الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا نعمة إلا منه من القرآن وما أنزل الله تعالى فيه من التكاليف والأحكام لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذّ فشق عليهم ذلك، وتعاظمهم والذي أنزله من القرآن وغيره هو روح الوجود الذي لا بقاء بدونه فلما كرهوا الروح الأعظم بطلت أرواحهم فتبعتها أشباحهم وهو معنى قوله تعالى مسبباً بياناً لمعنى إضلال أعمالهم ﴿ فأحبط ﴾ أي : أبطل إبطالاً لا صلاح معه ﴿ أعمالهم ﴾ بسبب : أنهم أفسدوها بنياتهم فصارت وإن كانت صورها صالحة ليس لها أرواح لكونها واقعة على غير ما أمر به الله الذي لا أمر إلا له، ولا يقبل من العمل إلا ما حدّه ورسمه.
ثم خوّف الكفار بقوله تعالى :﴿ أفلم يسيروا في الأرض ﴾ أي : التي فيها آثار الوقائع ﴿ فينظروا كيف كان عاقبة ﴾ أي : آخر أمر ﴿ الذين من قبلهم دمّر الله ﴾ أي : أوقع الملك الأعظم الهلاك ﴿ عليهم ﴾ بما عم أهاليهم وأموالهم، وكل من رضي أفعالهم أو مقالهم. وعدل عن أن يقول ولهؤلاء إلى قوله تعالى ﴿ وللكافرين ﴾ تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وهو العراقة في الكفر ﴿ أمثالها ﴾ أي : أمثال عاقبة من قبلهم.
﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم وهو نصر المؤمنين وقهر الكافرين، ﴿ بأن الله ﴾ أي : بسبب أنّ الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال ﴿ مولى ﴾ أي : ولي وناصر ﴿ الذين آمنوا ﴾ فهو يفعل معهم بما له من الجلال والجمال ما يفعل القريب بقريبه الحبيب له قال القشيري : ويصح أن يقال : أرجى آية في القرآن هذه الآية ؛ لأن الله تعالى لم يقل إنه هادي العباد وأصحاب الأوراد والاجتهاد بل علق ذلك بالإيمان ﴿ وأنّ الكافرين ﴾ أي : العريقين في هذا الوصف. ﴿ لا مولى لهم ﴾ فيدفع العذاب عنهم وهذا لا يخالف قوله تعالى ﴿ وردّوا إلى الله مولاهم الحق ﴾ [ سورة يونس : ٣٠ ] فإنّ المولى فيه بمعنى المالك.
ثم ذكر سبحانه وتعالى ما للفريقين بقوله تعالى :
﴿ إنّ الله ﴾ أي الذي له جميع الصفّات ﴿ يدخل الذين آمنوا ﴾ أي : أوقعوا التصديق ﴿ وعملوا ﴾ تصديقاً لما ادعوا أنهم أوقعوه ﴿ الصالحات ﴾ أي : الطاعات ﴿ جنات ﴾ أي : بساتين عظيمة الشأن موصوفة بأنها ﴿ تجري من تحتها ﴾ أي : من تحت قصورها ﴿ الأنهار ﴾ فهي دائمة النموّ والبهجة والنضارة والثمرة ﴿ والذين كفروا يتمتعون ﴾ أي : في الدنيا بالملاذ، كما تتمتع الأنعام ناسين ما أمر الله تعالى به معرضين عن كتابه.
﴿ ويأكلون ﴾ على سبيل الاستمرار ﴿ كما تأكل الأنعام ﴾ أي : أكل التذاذ ومرح من أيّ موضع كان وكيف الأكل من غير تمييز الحرام من غيره، إذ ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، لا يلتفتون إلى الآخرة ؛ لأنّ الله تعالى أعطاهم الدنيا، ووسع عليهم فيها، وفرغهم لها حتى شغلتهم عنه هواناً بهم وبغضاً لهم فيدخلهم ناراً وقودها الناس والحجارة كما قال تعالى :﴿ والنار مثوى لهم ﴾ أي : منزل ومقام ومصير.
ولما ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله تعالى ﴿ أفلم يسيروا في الأرض ﴾ ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبيّ صلى الله عليه وسلم مثلاً تسلية له. فقال تعالى :﴿ وكأين ﴾ أي : وكم ﴿ من قرية ﴾ أريد أهلها أي : كذبت رسولها ﴿ هي أشد قوة ﴾ وأكثر عدداً ﴿ من قريتك ﴾ مكة أي : أهلها وقوله تعالى :﴿ التي أخرجتك ﴾ روعي فيه لفظ قرية وقوله تعالى :﴿ أهلكناهم ﴾ أي : بأنواع العذاب روعي فيه معنى قرية الأول ﴿ فلا ناصر لهم ﴾ يدفع عنهم الهلاك. كذلك نفعل بهم فاصبر كما صبر رسلهم قال ابن عباس :«لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال أنت أحب أرض الله إلى الله وأحب بلاد الله إليّ ولو أنّ المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك » فأنزل الله تعالى هذه.
﴿ أفمن كان ﴾ أي : في جميع أحواله ﴿ على بينة ﴾ أي : حجة ظاهرة البيان في أنها حق ﴿ من ربه ﴾ أي : المربي والمدبر له المحسن إليه وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ﴿ كمن زين له ﴾ بتزيين الشيطان بتسليطنا له عليه ﴿ سوء عمله ﴾ فرآه حسناً وهم : أبو جهل والكفار ﴿ واتبعوا أهواءهم ﴾ في ذلك ولا شبهة لهم في شيء من أعمالهم السيئة فضلاً عن دليل.
ولما تكرّر ذكر الجنة في هذه السورة بين صفتها بقوله تعالى :﴿ مثل ﴾ أي : صفة ﴿ الجنة ﴾ أي : البساتين العظيمة التي تستر داخلها من كثرة أشجارها ﴿ التي وعد المتقون ﴾ أي : الذين حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن فعل لم يدلّ عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين.
تنبيه : اختلف في إعراب هذه الآية على أوجه :
أحدها : أن ﴿ مثل ﴾ مبتدأ وخبره مقدّر. قدره النضر بن شميل : مثل الجنة ما تسمعون. فما تسمعون خبره و﴿ فيها أنهار ﴾ مفسر له. وقدّره سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة. والجملة بعدها أيضاً مفسرة للمثل.
ثانيها : أن ﴿ مثل ﴾ زائدة تقديره : الجنة التي وعد المتقون ﴿ فيها أنهار ﴾ ونظير زيادة ﴿ مثل ﴾ هنا زيادة اسم في قول القائل :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ***
ثالثها : أنّ مثل الجنة مبتدأ، والخبر : قوله تعالى ﴿ كمن هو خالد في النار ﴾ فقدّره ابن عطية : أمثل أهل الجنة كمن هو خالد فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصح وقدّره الزمخشريّ : أمثّل الجنة كمثل جزاء من هو خالد. والجملة من قوله تعالى ﴿ فيها أنهار ﴾ حال من الجنة أي : مستقرّة فيها أنهار ﴿ من ماء ﴾ ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم، مع اتحاد الأرض ببساطها، وشدّة اتصالها، للدلالة على أنّ فاعل ذلك قادر مختار وقد يكون آسناً أي : متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقته، أو من عارض عرض له من منبعه، أو مجراه قال تعالى :﴿ غير آسن ﴾ أي : ثابت له في وقت ما شيء من الطعم، أو اللون، أو الريح بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه بخلاف ماء الدنيا فيتغير لعارض وقرأ ابن كثير : بقصر الهمزة والباقون : بمدّها وهما لغتان ﴿ وأنهار من لبن ﴾ ولما كان التغير غير محمود قال تعالى :﴿ لم يتغير طعمه ﴾ أي : بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر بخلاف لبن الدنيا، لخروجه من الضرع وهذا يفهم : أنهم لو أرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير. وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة، كما كان في الدنيا متنوعاً ﴿ وأنهار من خمر ﴾ ولما كان الخمر يكره طعمها وإنما يشربها شاربوها لأثرها. وإنه متى تغير طعمها زال اسمها عرّف أنّ كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن، غير متعرّض لطعم فقال تعالى :﴿ لذة ﴾ أي : لذيذة ﴿ للشاربين ﴾ في طيب الطعم، وحسن العاقبة بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب ﴿ وأنهار من عسل ﴾ ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً، لخروجه من بطون النحل بالشمع، وغيره من القذى قال تعالى :﴿ مصفى ﴾ أي : هو صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له في وقت ما.
تنبيه : قال أبو حيان في حكمة ترتيب هذه الأنهار : إنه بدأ بالماء الذي لا تستغني عنه المشروبات، ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات في كثير من أوقات العرب، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الريّ والمطعم، تشوّقت النفس إلى ما تلتذ به، ثم بالعسل لأنّ فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المطعوم والمشروب، ا. ه. فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى في الخمر :﴿ لذة للشاربين ﴾ ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين، ولا قال في العسل مصفى للناظرين. أجاب الرازي : بأنّ اللذة تختلف باختلاف الأشخاص فرب طعام يلتذ به شخص، ويعافه الآخر. فقال : لذة للشاربين بأسرهم، ولأنّ الخمر كريهة الطعم في الدنيا فقال : لذة أي : لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم. وأمّا الطعم واللون فلا يختلف باختلاف الناس، فإنّ الحلو والحامض وغيرهما يدركه كل أحد لكن قد يعافه بعض الناس، ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أنّ له طعماً واحداً. وكذلك اللبن فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجة.
فائدة : روي عن كعب الأحبار أنه قال : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ونهر الفرات نهر لبنهم ونهر مصر نهر خمرهم ونهر سيحان وجيجان نهر عسلهم وهذه الأنهار الأربعة، تخرج من نهر الكوثر وقال ابن عبد الحكم في فتوح مصر : إن كعب الأحبار سئل هل تجد لهذا النيل في كتاب الله عز وجلّ خبراً فقال أي : والذي فلق البحر لموسى إني أجده في كتاب الله تعالى أنّ الله عز وجلّ يوحي إليه في كل عام مرتين يوحى إليه عند جريه أنّ الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله تعالى له ثم يوحى إليه بعد ذلك يا نيل غر حميداً وعن كعب أيضاً أنه قال : أربعة أنهر من الجنة، وضعها الله تعالى في الدنيا فالنيل : نهر العسل في الجنة، والفرات : نهر الخمر في الجنة، وسيحان : نهر الماء في الجنة، وجيجان : نهر اللبن في الجنة » وعنه أيضاً أنه قال : النيل في الآخرة لبناً، أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل، والفرات خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجلّ، وجيجان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل وأصل هذا كله ما في الصحيح في وصف الجنة عن أبي هريرة «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال سيحان وجيجان والنيل والفرات من أنهار الجنة »
ولما كانت الثمار ألذ مستطاب بعد منافع الشراب قال تعالى :﴿ ولهم فيها ﴾ وقوله تعالى :﴿ من كل الثمرات ﴾ فيه وجهان أحدهما : أنّ هذا الجار صفه لمقدر، ذلك المقدر مبتدأ، وخبره الجار قبله، وهو لهم وفيها متعلق بما تعلق به والتقدير ولهم فيها زوجان من كل الثمرات كأنه انتزعه من قوله تعالى ﴿ فيهما من كل فاكهة زوجان ﴾ وقدّره بعضهم صنف والأوّل كما قال ابن عادل أليق ثانيهما أن ﴿ من ﴾ مزيدة في المبتدأ.
﴿ ومغفرة من ربهم ﴾ فهو راض عنهم مع إحسانه إليهم بما ذكر، بخلاف سيد العبيد في الدنيا فإنه قد يكون مع إحسانه إليهم ساخطاً عليهم وقوله تعالى :﴿ كمن هو خالد في النار ﴾ خبر مبتدأ مقدّر أي : أمن هو في هذا النعيم، كمن هو مقيم إقامة لا انقطاع معها في النار التي لا ينطفئ لهيبها، ولا ينفك أسيرها، ووحده لأنّ الخلود يعم من فيها على حدّ سواء، ﴿ وسقوا ﴾ أي : عوض ما ذكر من شراب أهل الجنة ﴿ ماء حميماً ﴾ هو في غاية الحرارة ﴿ فقطع أمعاءهم ﴾ أي : مصارينهم، فخرجت من أدبارهم وهو جمع مع بالقصر وألفه عن ياء لقولهم معيان.
﴿ ومنهم من يستمع إليك ﴾ أي : في خطب الجمعة، وهم المنافقون والضمير في قوله تعالى ﴿ ومنهم ﴾ يحتمل أن يعود إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة ﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله ﴾ [ البقرة : ٨ ] بعد ذكر الكفار ويحتمل أن يعود إلى أهل مكة ؛ لأنّ ذكرهم سبق في قوله تعالى ﴿ هي أشدّ قوة من قريتك التي أخرجتك ﴾ ويحتمل أن يرجع إلى معنى قوله تعالى ﴿ هو خالد في النار وسقوا ماء حميما ﴾ أي : ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك ﴿ حتى إذا ﴾ أي : واستمر جهلهم لأنفسهم في الإصغاء حتى إذا ﴿ خرجوا ﴾ أي : المستمعون والسامعون ﴿ من عندك قالوا ﴾ أي : الفريقان تعامياً واستهزاءً. ﴿ للذين أوتوا العلم ﴾ بسبب تهيئة الله تعالى لهم من صفاء الأفهام بتجردهم عن النفوس والحظوظ، وانقيادهم لما تدعو إليه الفطرة الأولى. منهم ابن مسعود وابن عباس ﴿ ماذا قال ﴾ أي : النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ آنفا ﴾ أي : قبل افتراقنا وخروجنا عنه روى مقاتل :«أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء ماذا قال محمد آنفاً » أي الساعة، أي : لا ترجع إليه وقرأ البزي بقصر الهمزة بخلاف عنه والباقون بالمدّ وهما لغتان بمعنى واحد وهما اسما فاعل كحاذر وحذر، ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء من كل خير ﴿ الذين طبع الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ على قلوبهم ﴾ أي : بالكفر فلم يفهموا فهم انتفاع ؛ لأنّ مثل هذا الجمود لا يكون إلا بذلك ﴿ واتبعوا ﴾ أي : بغاية جهدهم.
﴿ أهواءهم ﴾ أي : في الكفر والنفاق، فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام، ويقبلون على جمع الحطام، فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية ﴿ مثل الجنة ﴾ بأنهم ﴿ زين لهم سوء عملهم ﴾. ثم ذكر تعالى أضداد هؤلاء بقوله سبحانه :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ﴾.
﴿ والذين اهتدوا ﴾ أي : اجتهدوا باستماعهم منك في الإيمان، والتسليم والإذعان بأنواع المجاهدات وهم المؤمنون ﴿ زادهم ﴾ أي : الله الذي طبع على قلوب الكفرة، ﴿ هدى ﴾ بأن شرح صدورهم، ونورها بأنوار المشاهدات، فصارت أوعية للحكمة ﴿ وآتاهم تقواهم ﴾ أي : ألهمهم ما يتقون به النار، قال ابن برجان : التقوى عمل الإيمان كما أن أعمال الجوارح عمل الإسلام.
﴿ فهل ﴾ أي : ما
﴿ ينظرون ﴾ أي : ينتظرون وجودها إشارة إلى شدة قربها.
﴿ إلا الساعة ﴾ وقوله تعالى :
﴿ أن تأتيهم ﴾ أي : الكافرين بدل اشتمال من الساعة أي : ليس الأمر إلا أن تأتيهم
﴿ بغتة ﴾ أي : فجأة من غير شعور بها، ولا استعداد لها. وقوله تعالى :
﴿ فقد جاء أشراطها ﴾ جمع شرط بسكون الراء وفتحها قال أبو الأسود :
فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا | فقد جعلت أشراطاً وله تبدو |
والأشراط : العلامات ومنه أشراط الساعة وأشرط الرجل نفسه أي ألزمها أموراً قال أوس :
فأشرط فيها نفسه وهو يقسم | فألقى بأسباب له وتوكلا |
والشرط : القطع أيضاً، مصدر شرط الجلد يشرطه شرطاً قال السهيلي عن ابن سعد عن أنس قال
«رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلي الإبهام بعثت والساعة كهاتين » وعن أنس قال :
«لأحدّثنكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الربا، ويشرب الخمر، وتقل الرجال، وتكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد » وعن أبي هريرة قال :
«بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي، فقال : متى الساعة ؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم : لم يسمع حتى إذا قضى حديثه، قال : أين السائل عن الساعة ؟ قال : ها أنا يا رسول الله قال : إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة فقيل : كيف إضاعتها قال : إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة ».
ومن أشراطها انشقاق القمر المؤذن بآية الشمس في طلوعها من مغربها، وغير ذلك وما بعد مقدّمات الشيء إلا حضوره.
﴿ فأنى ﴾ أي : فكيف وأين
﴿ لهم ﴾ أي التذكر والاتعاظ والتوبة
﴿ إذا جاءتهم ذكراهم ﴾ أي : الساعة لا تنفعهم. نظيره قوله تعالى
﴿ يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ﴾ [ الفجر : ٢٣ ] ولما علم بذلك أنّ الذكرى غير نافعة إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل، أو جاءت الأشراط المحققة الكاشفة لها، سبب عنه أمر أعظم الخلق تكويناً ليكون لغيره تكليفاً فقال :
﴿ فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ﴾.
﴿ فاعلم أنه ﴾ أي : الشأن العظيم ﴿ لا إله ﴾ أي : لا معبود بحق ﴿ إلا الله ﴾ أي : إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، فإنه النافع يوم القيامة وقيل : الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره وقال الحسن بن الفضل : فازدد علماً إلى علمك وقال أبو العالية وابن عيينة معناه إذا جاءتهم الساعة، فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله، ﴿ واستغفر لذنبك ﴾ أي : لأجله، أمر بذلك مع عصمته لتستن به أمته وقد فعله قال صلى الله عليه وسلم «إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة » وقيل : معنى قوله ﴿ لذنبك ﴾ أي : لذنب أهل بيتك وللمؤمنين والمؤمنات الذين ليسوا من أمتك بأهل بيت وقيل : المراد النبيّ، والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحسناتنا دون ذلك قال صلى الله عليه وسلم «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة » وقيل : هو كل مقام عال ارتفع منه إلى أعلى منه. وقوله تعالى :﴿ وللمؤمنين والمؤمنات ﴾ فيه إكرام من الله تعالى لهذه الأمّة ؛ حيث أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم ﴿ والله ﴾ المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ يعلم متقلبكم ﴾ أي : تصرّفكم لأشغالكم بالنهار، ومكانه وزمانه ﴿ ومثواكم ﴾ أي : مأواكم إلى مضاجعكم بالليل أي : هو عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه شيء منها فاحذروه، والخطاب للمؤمنين وغيرهم، وقيل : يعلم متقلبكم في أعمالكم، ومثواكم في الجنة والنار، ومثله حقيق بأن يخشى ويتقى وأن يستغفر ويسترحم، وعن سفيان ابن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به ﴿ فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ﴾ فأمر بالعمل بعد العلم وقال :﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو ﴾ [ الحديد : ٢٠ ] الآية.
﴿ ويقول الذين آمنوا ﴾ طلباً للجهاد. ﴿ لولا ﴾ أي : هلا، ولا التفات إلى قول بعضهم أن لا زائدة والأصل لو ﴿ نزلت سورة ﴾ أي سورة كانت، نسرّ بسماعها، ونتعبد بتلاوتها، ونعمل بما فيها ﴿ فإذا أنزلت سورة ﴾ أي : قطعة من القرآن، تكامل نزولها كلها تدريجاً، أو جملة وزادت على مطلوبهم في الحسن بأنها ﴿ محكمة ﴾ أي : مبينة، لا يلتبس شيء منها بنوع إجمال، ولا ينسخ لكونه جامعاً للمحاسن في كل زمان ومكان وقال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة. وهي أشدّ القرآن على المنافقين ﴿ وذكر فيها القتال ﴾ أي : الأمر به ﴿ رأيت الذين في قلوبهم مرض ﴾ أي : شك وهم المنافقون. ﴿ ينظرون إليك ﴾ شرراً بتحديق شديد، كراهية منهم للجهاد، وجبنا منهم عن لقاء العدوّ ﴿ نظر المغشيّ ﴾ والأصل نظراً مثل نظر المغشي ﴿ عليه من الموت ﴾ الذي هو : نهاية الغشي فهو لا يطرف بعينه، بل شاخص لا يطرف كراهية القتال ؛ من الجبن والخوف. والمعنى : أنّ المؤمن كان ينتظر نزول الأحكام والتكاليف ويطلب تنزيلها، وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها وأمّا المنافق، فإذا أنزلت السورة أو الآية وفيها تكليف شق عليه ذلك فحصل التباين بين الفريقين في العلم والعمل وقوله تعالى ﴿ فأولى لهم ﴾ وعيد بمعنى فويل لهم وهو أفعل من الولي وهو القرب ومعناه الدعاء عليه بأن يليهم المكروه.
وقوله تعالى :﴿ طاعة وقول معروف ﴾ مستأنف، أي : طاعة ومعروف خير لهم وأمثل، أي : لو أطاعوا وقالوا قولاً معروفاً لكان أمثل وأحسن، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بدليل قوله تعالى :﴿ وقول معروف ﴾ فإنه موصوف فكأنه تعالى قال : طاعة مخلصة وقول معروف خير، وقيل : يقول المنافقون قبل نزول السورة المحكمة طاعة رفع على الحكاية، أي : أمرنا طاعة أو منا طاعة وقول معروف حسن، وقيل : متصل بما قبله واللام في قوله تعالى ﴿ لهم ﴾ بمعنى الباء أي فأولى بهم طاعة الله ورسوله، وقوله : معروف بالإجابة أولى بهم، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. ثم سبب عنهما قوله تعالى مسنداً إلى الأمر ما هو لأهله تأكيداً لمضمون الكلام :﴿ فإذا عزم الأمر ﴾، أي : فإذا أمر بالقتال الذي ذكر في أوّل السورة وغيره من الأوامر أمراً مجزوماً به مقروحاً عليه ﴿ فلو صدقوا الله ﴾ أي : الملك الأعظم في قولهم الذي قالوه في طلب التنزيل ﴿ لكان ﴾ أي : صدقهم له ﴿ خيراً لهم ﴾ أي : من تعللهم، وجملة لو جواب إذا، نحو : إذا جاءني طعام فلو جئتني لأطعمتك، وقيل : محذوف، وتقديره : فاصدق كذا قدّره أبو البقاء وعزم الأمر على سبيل المجاز، كقوله : قد جدّت الحرب فجدوا، أو يكون على حذف مضاف أي عزم أهل الأمر.
وقوله تعالى :﴿ فهل عسيتم ﴾ فيه التفات عن الغيبة، أي : لعلكم ﴿ إن توليتم ﴾ أي : أعرضتم عن الإيمان والجهاد ﴿ أن تفسدوا ﴾ أي : توقعوا الإفساد العظيم الذي يستمر تجدّده ﴿ في الأرض ﴾ بالمعصية والبغي وسفك الدماء الذي يسخط الله تعالى، ويغضبه أشدّ غضب على فاعله، وتكونوا في غاية الجراءة عليه وترجعوا إلى الفرقة بعدما جمعكم الله بالإسلام. وقرأ نافع بكسر السين والباقون بفتحها ﴿ وتقطعوا ﴾ أي : تقطيعاً كثيراً ﴿ أرحامكم ﴾ أي : تعودوا إلى أمر الجاهلية في الإغارة من بعض على بعض وغير ذلك، قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن، وقال بعضهم : هو من الولاية. قال الفراء : يقول فهل عسيتم إن توليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم نزلت في بني أمية وبني هاشم.
﴿ أولئك ﴾ أي : المفسدون ﴿ الذين لعنهم الله ﴾ أي : طردهم أشدّ الطرد الملك الأعظم لما ذكر من إفسادهم وتقطيعهم، ثم سبب عن لعنهم قوله تعالى ﴿ فأصمهم ﴾ أي : عن الانتفاع بما سمعوه ﴿ وأعمى أبصارهم ﴾ أي عن الانتفاع بما يبصرون فليس سماعهم سماع إدراك، ولا إبصارهم إبصار اعتبار، فلا سماع ولا إبصار.
﴿ أفلا يتدبرون ﴾ بقلوب منفتحة منشرحة ليهتدوا إلى كل خير ﴿ القرآن ﴾ أي : يجهدوا أنفسهم في أن يتفكروا في الكتاب الجامع لكل خير، الفارق بين الحق والباطل، حتى لا يجسروا على المعاصي.
فإن قيل قال تعالى :﴿ فأصمهم وأعمى أبصارهم ﴾ فكيف يمكنهم التدبر في القرآن ؟ وهو كقول القائل للأعمى : أبصر وللأصم اسمع، أجيب بثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض ؛ الأول : تكليف ما لا يطاق جائز. والله تعالى أمر من علم منه بأنه لا يؤمن أن يؤمن فلذلك جاز أن يصمهم، ويعميهم، ويذمهم على ترك التدبر.
الثاني : أن قوله ﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ المراد منه الناس.
الثالث : أن يقال أنّ هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدّمة، كأنه تعالى قال ﴿ أولئك الذين لعنهم الله ﴾ أي : أبعدهم عنه، أو عن الصدق، أو الخير، أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام، وأعماهم لا يبصرون طريقة الإسلام فإذا هم بين أمرين : إمّا لا يتدبرون القرآن، فيبعدون عنه لأنّ الله تعالى لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق، والقرآن منها هو الصنف الأعلى بل النوع الأشرف.
وإمّا يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة تقديره أفلا يتدبرون القرآن لكونهم ملعونين مبعدين ﴿ أم ﴾ أي : بل ﴿ على قلوب ﴾ أي : من قلوب الفاعلين لذلك ﴿ أقفالها ﴾ فلا تعي شيئاً ولا تفهم أمراً، ولا تزداد إلا غباوة وعناداً لأنها لا تقدر على التدبير قال القشيري : فلا يدخلها زواجر التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاع العلم، فلا يحصل لهم فهم الخطاب. والباب إذا كان مغلقاً فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه فلا كفرهم يخرج، ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل. ا. ه.
فإن قيل ما الفائدة في تنكير القلوب. أجاب الزمخشري بقوله : يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون للتنبيه على كونه موصوفاً، لأنّ النكرة بالوصف أولى من المعرفة كأنه قال أم على قلوب قاسية أو مظلمة.
الثاني : أن تكون للتبعيض كأنه قال أم على بعض القلوب لأنّ النكرة لا تعم تقول : جاءني رجال فيفهم البعض، وجاءني الرجال فيفهم الكل. والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب، وذلك لأنّ القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً، لأنّ القلب خلق للمعرفة فإذا لم تكن فيه المعرفة، فكأنه لا يعرف قلباً فلا يكون قلباً يعرف، كما يقال للإنسان المؤذي : هذا ليس بإنسان فكذلك يقال : هذا ليس بقلب، هذا حجر، وإذا علم هذا، فالتعريف إمّا بالألف واللام، وإما بالإضافة بأن يقال على قلوبهم أقفالها، وهي لعدم عود فائدة إليهم كأنها ليست لهم.
فإن قيل قد قال تعالى ﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ [ البقرة : ٧ ] وقال تعالى :﴿ فويل للقاسية قلوبهم ﴾ [ الزمر : ٢٢ ].
أجيب بأنّ الأقفال أبلغ من الختم، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿ أقفالها ﴾ بالإضافة ؟ ولم يقل أقفال كما قال :﴿ قلوب ﴾.
أجيب بأنّ الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم يضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم، وأضاف الأقفال إليها لكونها مناسبة لها، أو يقال : أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكفر والعناد.
ولما أخبر تعالى بأقفال قلوبهم بين منشأ ذلك. فقال تعالى :﴿ إنّ الذين ارتدوا ﴾ أي : من أهل الكتاب وغيرهم ﴿ على أدبارهم ﴾ أي : رجعوا كفارا ﴿ من بعدما تبين ﴾ أي : غاية البيان ﴿ لهم الهدى ﴾ أي : بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن بيان مبين ﴿ الشيطان سوّل لهم ﴾ أي : زين وسهل لهم اقتراف الكبائر ﴿ وأملى ﴾ أي : ومدّ الشيطان ﴿ لهم ﴾ في الآمال والأماني بإرادته تعالى فهو المضل لهم وقرأ أبو عمرو : بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء والباقون : بفتح الهمزة واللام وسكون الألف المنقلبة وأمالها حمزة والكسائي محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح قال في الكشاف : فإن قلت : من هؤلاء ؟ قلت : اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعدما تبين لهم الهدى وهو نعته في التوراة وقيل : هم المنافقون.
﴿ ذلك ﴾ أي : إضلالهم ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ قالوا ﴾ أي : المنافقون ﴿ للذين كرهوا ﴾ أي : وهم المشركون ﴿ ما ﴾ أي : جميع ما ﴿ نزل الله ﴾ أي : الملك الأعظم على التدريج بحسب الوقائع، تنزيلاً في إعجاز الخلق في بلاغة التركيب مع فصاحة المفردات وجزالتها، مع السهولة في النطق، والعذوبة في السمع، والملاءمة للطبع ﴿ سنطيعكم في بعض الأمر ﴾ أي : أمر المعاونة على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيط الناس عن الجهاد معه قالوا ذلك سراً، فأظهره الله تعالى، ﴿ والله ﴾ أي : قالوا ذلك والحال أن الملك الأعظم المحيط بكل شيء علما وقدرة ﴿ يعلم ﴾ أي : على ممر الأوقات ﴿ أسرارهم ﴾ أي : كلها ؛ هذا الذي أفشاه عليهم، وغيره مما في ضمائرهم مما لم يبرز على ألسنتهم ولعلهم لم يعلموه فضلاً عن أقوالهم التي تحدثت بها أنفسهم فبان بذلك أنه لا أديان لهم ولا عقول ولا مروءات. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر الهمزة مصدراً والباقون بفتحها جمع سر.
﴿ فكيف ﴾ أي : حالهم ﴿ إذا توفتهم الملائكة ﴾ أي : قبضت رسلنا، وهم ملك الموت وأعوانه أرواحهم كاملة وقوله تعالى :﴿ يضربون وجوههم وأدبارهم ﴾ تصوير لتوفيهم بما يخافون منه ويجبنون عن القتال له وعن ابن عباس : لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره.
وقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى التوفي الموصوف ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ اتبعوا ﴾ أي : عالجوا فطرتهم الأولى في أن اتبعوا ﴿ ما أسخط الله ﴾ أي : الملك الأعظم، وهو الكفر وكتمان نعت الرسول صلى الله عليه وسلم وعصيان الأمر ﴿ وكرهوا ﴾ بالإشراك ﴿ رضوانه ﴾ بكراهتهم أعظم أسباب رضاه وهو الإيمان، فهم لما دونه بالقعود عن الطاعات أكره ؛ لأنّ ذلك ظاهر غاية الظهور في أنّ فاعله غير معذور في ترك النظر فيه.
﴿ فأحبط ﴾ أي : فلذلك تسبب عنه أنه أفسد. ﴿ أعمالهم ﴾ أي : الصالحة فأسقطها بحيث لم يبق لها وزن أصلاً لتضييع الأساس من مكارم الأخلاق ؛ من القرى والأخذ بيد الضعيف والتصدّق والإعتاق وغير ذلك من وجوه الإرفاق.
﴿ أم حسب الذين ﴾ وكان الأصل أم حسبوا لضعف عقولهم كما أفهمه التعبير بالحسبان ولكنه عبر تعالى بما دلّ على الآفة التي أدّتهم إلى ذلك بقوله تعالى :﴿ في قلوبهم ﴾ أي : التي إذا أفسدت فسد جميع أجسادهم ﴿ مرض ﴾ أي : آفة لا طب لها حسباناً هو في غاية الثبات كما دل عليه التأكيد في قوله تعالى :﴿ أن لن يخرج الله ﴾ أي يبرز من هو محيط بصفات الكمال للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التجديد والاستمرار وقوله تعالى :﴿ أضغانهم ﴾ جمع ضغن، وهي الأحقاد أي أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى تعرفوا نفاقهم وكانت صدورهم تغلي حنقاً عليهم.
﴿ ولو نشاء لأريناكهم ﴾ من رؤية البصر وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أريناك إياهم جاز وقال الرازي الإراءة هنا بمعنى التعريف وقوله تعالى
﴿ فلعرفتهم ﴾ عطف على جواب لو
﴿ بسيماهم ﴾ أي : بسبب علاماتهم التي نجعلها غالبة عليهم عالية لهم في إظهار ضمائرهم غلبة لا يقدرون على مدافعتها بوجه ولم يذكرهم سبحانه بأسمائهم إبقاء على قراباتهم المخلصين من الفتن وقوله تعالى
﴿ ولتعرفنهم ﴾ جواب قسم محذوف
﴿ في لحن القول ﴾ أي : الصادر منهم، ولحنه فحواه أي معناه وما يدل عليه ويلوح عليه من ميله عن حقائقه إلى عواقبه، وما يؤول إليه أمره مما يخفى على غيرك قال أنس : ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم. وعن ابن عباس : لحن القول هو قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا وقيل اللحن أن تلحن بكلامك أي تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال :
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا | واللحن يعرفه ذوو الألباب |
وقيل للمخطئ : لاحن، لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وقال أبو حيان : كانوا اصطلحوا على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح
﴿ والله ﴾ أي : بما له من الكمال
﴿ يعلم أعمالكم ﴾ كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها علماً ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدّد بحسب تجدّدها مستمرّاً باستمرار ذلك.
﴿ ولنبلونكم ﴾ أي : نعاملكم معاملة المبتلى، بأن نخالطكم بما لنا من العظمة بالأوامر الشديدة على النفوس والنواهي الكريهة إليها. ﴿ حتى نعلم ﴾ أي : بالابتلاء علماً شهودياً يشهده غيرنا مطابقاً لما كنا نعلمه علماً غيبياً، فنستخرج من سرائركم ما جبلناكم عليه مما لا يعلمه أحد منكم بل ولا تعلمونه حق علمه ﴿ المجاهدين منكم ﴾ في القتال وفي سائر الأعمال والشدائد والأهوال امتثالاً للأمر بذلك ﴿ والصابرين ﴾ أي : على شدائد الجهاد وغيره من الأنكاد قال القشيري : فبالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال فيظهر المخلص ويفتضح المماذق وينكشف المنافق ا. ه.
وعن الفضيل : أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا ﴿ ونبلو أخباركم ﴾ أي : نخالطها بأن : نسلط عليها من يحرفها فيجعل حسنها قبيحاً وقبيحها حسنا ليظهر للناس العامل لله والعامل للشيطان، فإنّ العامل لله إذا سمى قبيحه باسم الحسن علم أنّ ذلك إحسان من الله تعالى إليه فيستحي منه ويرجع، وإذا سمى حسنه باسم القبيح وأشهر به علم أنّ ذلك لطف من الله تعالى به لكي لا يدركه العجب أو يهاجمه الرياء فيزيد في إحسانه، والعامل للشيطان يزداد في القبائح، لأنّ شهرته عند الناس محط نظره ويرجع عن الحسن لأنه لم يوصله إلى ما أراد به من ثناء الناس عليه بالخير.
﴿ إنّ الذين كفروا ﴾ أي : غطوا ما دلتهم عليه عقولهم من ظاهر آيات الله لاسيما بعد إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بواضح المعجزات ﴿ وصدّوا ﴾ أي امتنعوا ومنعوا غيرهم زيادة في كفرهم ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي الطريق الواضح الذي نهجه الملك الأعظم ﴿ وشاقوا الرسول ﴾ أي : الكامل في الرسالة المعروف غاية المعرفة. ﴿ من بعد ما تبين ﴾ أي : غاية البيان بالمعجز ﴿ لهم الهدى ﴾ بحيث صار ظاهراً بنفسه غير محتاج ما أظهره الرسول من الآيات الظاهرة وهم قريظة والنضير والمطعمون يوم بدر ﴿ لن يضروا الله ﴾ أي ملك الملوك ﴿ شيئاً ﴾ بما هم عليه من الكفر والصدّ أو لن يضرّوا رسوله صلى الله عليه وسلم بمشاقته وحذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته ﴿ وسيحبط ﴾ أي : يفسد فيبطل بوعد لا خلف فيه ﴿ أعمالهم ﴾ من المحاسن لبنائها على غير أساس.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : أقرّوا بألسنتهم ﴿ أطيعوا الله ﴾ أي : الملك الأعظم تصديقاً لدعواكم طاعة لشدّة الاجتهاد فيها أنها خالصة، وعظم الرسول صلى الله عليه وسلم بإفراده فقال تعالى :﴿ وأطيعوا الرسول ﴾ لأنّ طاعته من طاعة الذي أرسله، فإذا فعلتم ذلك حصنتم أنفسكم وأعمالكم، فتكون صحيحة ببنائها على الطاعة بتصحيح النيات وتصفيتها مع الإحسان للصورة في الظاهر، ليستكمل العمل صورة وروحاً ﴿ ولا تبطلوا أعمالكم ﴾ قال عطاء بالشك والنفاق. وقال الكلبي : بالرياء والسمعة. وقال الحسن : بالمعاصي والكبائر. وقال أبو العالية :«كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضرّ مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت هذه الآية » فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل : لا تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطلوا أعمالكم نزلت في بني أسد. قال تعالى ﴿ لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ]
وعن حذيفة فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم. وعن ابن عمر : كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولاً حتى ﴿ نزل ولا تبطلوا أعمالكم ﴾ فقلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش، حتى نزل ﴿ إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ [ النساء : ٤٨ ] فكففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها. وعن قتادة : رحم الله عبداً لم يحبط عمله الصالح بعمله السيئ. وعن ابن عباس : لا تبطلوا بالرياء والسمعة أعمالكم. وعنه أيضاً : بالشك والنفاق. وقيل بالعجب، فإنّ العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
﴿ إن الذين كفروا ﴾ أي : أوقعوا الكفر بفعلهم فعل الساتر لما دل عليه العقل من آيات الله المرئية والمسموعة ﴿ وصدّوا عن سبيل الله ﴾ أي : الملك الأعلى عن الواضح المستقيم الموصل إلى كل ما ينبغي أن يقصد كل من أراد بتماديهم على باطلهم وأذاهم لمن خالفهم ﴿ ثم ماتوا ﴾ بعد المدّ لهم في مضمارهم بالتطويل في أعمارهم ﴿ وهم ﴾ أي : والحال أنهم ﴿ كفار فلن يغفر الله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال الذي يمنع من تسوية المسيء بالمحسن ﴿ لهم ﴾ فلا يمحو ذنوبهم ولا يستر عيوبهم، بل يفضح سرائرهم ويردّهم على أعقابهم في كل ما يتقلبون فيه، لأنهم قد أبطلوا أعمالهم بالخروج عن دائرة الطاعة فلم يبق لهم ما يغفر لهم تسببه، وقد دلت هذه الآية على ما دلت عليه آية البقرة من أنّ إحباط العمل في المرتدّ مشروط بالموت على الكفر قيل : نزلت في أصحاب القليب قال الزمخشريّ : والظاهر العموم.
ثم رغب تعالى في لزوم الجهاد محذراً من تركه بقوله تعالى :﴿ فلا تهنوا ﴾ أي : تضعفوا ضعفاً يؤدّي بكم إلى الهوان والذلّ ﴿ وتدعوا ﴾ أعداءكم ﴿ إلى السلم ﴾ أي : المسالمة وهي الصلح ﴿ وأنتم ﴾ أي : والحال أنكم ﴿ الأعلون ﴾ أي : الظاهرون الغالبون قال الكلبي : آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات. وأصل الأعلون الأعليون فأعلّ وقرأ حمزة وشعبة بكسر السين والباقون بفتحها ثم عطف على الحال قوله تعالى ﴿ والله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا يعجزه شيء ولا كفء له ﴿ معكم ﴾ أي : بنصره ومعونته وجميع ما يفعله الكريم إذا كان مع عبده ومن علم أنه سيده وعلم أنه قادر على ما يريد لم يبال بشيء أصلاً ﴿ ولن يتركم ﴾ أي : ينقصكم ﴿ أعمالكم ﴾ أي : ثوابها كما يفعل مع أعدائكم في إحباط أعمالهم، لأنكم لم تبطلوا أعمالكم بجعل الدنيا محط أمركم.
﴿ إنما الحياة ﴾ وأشار إلى دناءتها تنفيراً عنها بقوله :﴿ الدنيا ﴾ أي : الاشتغال بها ﴿ لعب ﴾ أي : أعمال ضائعة سافلة تزيد في السرور ما يسرع اضمحلاله فيبطل من غير ثمرة ﴿ ولهو ﴾ أي : مشغلة يطلب بها إثارة اللذة كالغناء ﴿ وإن تؤمنوا وتتقوا ﴾ أي : تخافوا فتجعلوا بينكم وبين غضبه سبحانه وتعالى وقاية من جهاد أعدائه، وذلك من أعمال الآخرة ﴿ يؤتكم ﴾ أي : الله سبحانه الذي فعلتم ذلك من أجله في الدار الآخرة ﴿ أجوركم ﴾ أي : ثواب كل أعمالكم ببنائها على الأساس، ولأنه غنيّ لا ينقصه الإعطاء ﴿ ولا يسألكم ﴾ أي : الله في الدنيا ﴿ أموالكم ﴾ أي : لنفسه ولا كلها لغيره، بل يقتصر على جزء يسير مما تفضل به عليكم كربع العشر وعشره.
﴿ إن يسألكموها ﴾ أي : كلها ﴿ فيحفكم ﴾ أي : يبالغ في سؤالكم ويبلغ فيه الغاية حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك، فالإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء يقال : أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح، وأحفى شاربه استأصله ﴿ تبخلوا ﴾ فلا تعطوا شيئاً ﴿ ويخرج أضغانكم ﴾ أي : ما تضغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والضمير في يخرج لله تعالى أو الرسول أو السؤال، أو البخل، واقتصر عليه الجلال المحلي، قال قتادة : علم الله تعالى أنّ في مسألة الأموال خروج الأضغان يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير فكيف لا تبخلون بالكثير.
﴿ ها أنتم ﴾ وحقر أمرهم بقوله تعالى :﴿ هؤلاء ﴾ أي : أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، وقوله تعالى ﴿ تدعون لتنفقوا في سبيل الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي يرجى خيره ولا يخشى غيره استئناف مقرّر لذلك أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرها ﴿ فمنكم من يبخل ﴾ أي : ناس يبخلون، وحذف القسم الآخر وهو ومنكم من يجود، لأنّ المراد الاستدلال على ما قبله من البخل ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه لينفع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله تعالى :﴿ ومن ﴾ أي : والحال أنه من ﴿ يبخل ﴾ بذلك ﴿ فإنما يبخل ﴾ بماله بخلا ضارّاً ﴿ عن نفسه ﴾ فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدّي فإنه إمساك عمن يستحق ﴿ والله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿ الغني ﴾ وحده عن نفقتكم ﴿ وأنتم ﴾ أيها المكلفون خاصة ﴿ الفقراء ﴾ لاحتياجكم في جميع أحوالكم إليه ﴿ وإن تتولوا ﴾ عطف على ﴿ وإن تؤمنوا وتتقوا ﴾ ﴿ يستبدل قوماً غيركم ﴾ أي : يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى ﴿ ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ في التولي عنه والزهد في الإيمان كقوله تعالى ﴿ ويأت بخلق جديد ﴾ [ إبراهيم : ١٩ ] قيل : هم الملائكة. وقيل الأنصار وعن ابن عباس : كندة والنخع وعن الحسن : العجم وعن عكرمة : فارس والروم «وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال : هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس » رواه الترمذي والحاكم وصححاه.