ﰡ
(١) - الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، وبآيَاتِهِ، وبِكُتُبِه، وَرُسُلِهِ، وَعَبَدُوا غَيْرَهُ، وَصَدُّوا النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ في دِينِ الإِسْلاَمِ، أَبْطَلَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ، وَأهْلَكَها وَجَعَلَها تَسِيرُ عَلَى غَيْرِ هُدًى.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هذِه الآيةَ نَزَلَتْ في المُطْعِمِينَ مِنْ قُرَيشٍ بِبَدرٍ وهُم اثْنا عَشَرَ رَجُلاً).
أضَلَّ أَعْمَالَهُمْ - أبْطَلَها وَأحْبَطَها.
(٢) - والذِينَ آمَنُوا باللهِ، وَبِكُتُبهِ، وَرُسُلِهِ، وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ ربِّهم، وَصَدَّقُوا بالقُرآنِ الذي أنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحمَّدٍ ﷺ، وَهوَ الحَقُّ مِنَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّّئَاتِهِم، وَغَفَرَ لَهُم ذُنُوبَهُمْ، وأصْلَحَ حَالَهم في الدُّنيا، بتوفيقِهم إلى طَريقِ الخير والسَّعَادَةِ والفَلاَحِ. وَيُصْلحُ حَالَهم في الآخِرة بأنْ يُورْثَهُمُ الجَنَّةَ لِيَبْقَوْا فِيها خَالِدينَ أبداً.
كَفَّرَ عَنهُمْ - أزالَ وَمَحَا عَنْهُمْ.
أصْلَحَ بَالَهُمْ - أَصْلَحَ حَالَهُمْ وَشَأنَهُمْ.
(٣) - وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ تَعَالى أعْمَالَ الكُفَّارِ، وَتَجَاوزَ عَنْ سَيِّئَاتِ المُؤْمِنينَ الأبرَارِ، وأصْلَحَ لَهمُ حَالَهُمْ، لأنَّ الذِينَ كَفَرُوا اخْتَارُوا اتِّبَاعَ البَاطِلِ عَلى اتِّبَاعِ الحَقِّ، ولأنَّ المُؤْمِنِينَ اتَّبَعُوا الحَقَّ الذِي جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهم فَهَدَاهُم رَبُّهم إِلى سَبيلِ الرَّشَادِ.
وَكَما بَيَّنَ اللهُ تَعَالى أفْعَالِ الكُفَّار والفُجَّارِ، وَحَالَ المُؤْمِنينَ الأَبْرَارِ، وَمَا سَيَفْعَلُهُ بِكُلِّ فَريقٍ، فَإِنَّهُ يَضْرِبُ الأمثَالَ للنّاسِ، وَيُشبِّهُ لهُمُ الأشْياءَ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مآلَ أعْمالِهم وَمَا يَصِيرُونَ إليهِ لِيَتَفكَّرُوا وَيَتَّعِظُوا.
(٤) - يُرشِدُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ إلى وُجُوب قِتَالِ المُشْرِكِينَ الذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبيلهِ حَتَّى يَنْخَذِلَ الشِّرْكُ وَأهْلُهُ، وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الأَسْلُوبَ الذِي يَعْتَمِدُونَهُ في قِتَالِهِمْ فَيَقُولُ تَعَالى: إذا لَقِيتُمُ المُشْرِكِين في سَاحَةِ الحَرب فَاحْصُدُوهُم حَصْداً بالسيُّوفِ، حَتَّى إذا تَمَّتْ لَكُمُ الغَلَبَةُ عَلَيهِم، وَقَهَرْتُم مَنْ تَبَقَّى مِنْهُمْ حَيّاً، وَصَارُوا أسْرى في أيدِيكم، شُدُّوا وِثَاقَهُمُ لِكَيلاَ يَعْمَدُوا إِلى الهَرَبِ، أوِ العَوْدةِ إِلى القِتَالِ، وَبَعْدَ انتِهَاءِ الحَرْبِ فأنْتُم بِالخيارِ بَيْنَ المَنِّ عَلَيهِم وإِطْلاقِ سَرَاحِهِمْ بِدُونِ فِدَاء، وَبَيَنُ مُفَادَاتِهِمْ. وَقَدْ تَكُونُ المُفَادَاةُ بِمالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ لإِضْعَافِ شَوْكَتِهْم، وَقَدْ تَكُونُ بأسْرى مِنَ المُسْلِمينَ. وهذهِ هيَ السُّنَّةُ في قِتَالِ المُشْرِكِينَ والكُفَّارِ حَتَى تَنْتَهِيَ الحَرْبُ وَتَضَعَ أوْزَارَها، وَلَوْ شَاءَ الله أَنْ يَنْتَقِمَ منهُمْ بِعُقُوبةٍ عَاجِلَةٍ لَفَعَلَ، وَلَكَفَاكُمْ أَمْرَهُمْ، وَلكِنَّهُ شَرَعَ الجِهَادَ، وَقتَالَ الأعداءِ، لِخْتَبِرَ المُؤمِنينَ وَصَبْرَهُمْ عَلَى القِتَالِ، وَيخْتَبِرَ المُشرِكِينَ، فَيُعَاقِبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بأيدِي المُؤْمِنينَ، وَيَتَّعِظَ مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ وَيَرْجِعَ إِلى الحَقِّ. واللهُ يَجْزِي الشَّهَداءَ الذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِهِ تَعَالى، وَيَتَجَاوزُ عَنْ سَيَّئَاتِهِمْ، وَيُثَمِّرُ لَهُمْ أعْمالَهُمْ وَيُنَمِّيها لَهُمْ.
فَضَرْبَ الرِّقاب - فَاضرِبُوا الرِّقابَ ضَرْباً.
أثْخَنْتُمُوهُمْ - أوْسَعْتُمُوهُمْ قَتْلاً وَجَرْحاً وَأسْراً.
شُدُّوا الوَثَاقَ - أحْكِمُوا وَثَاقَ الأسْرَى.
حَتَّى تَضَعَ الحَربُ أوْزَارَها - حَتّى تَنْتَهِيَ الحَرْبُ.
مَنّاً - إطلاقَ سَراحِ الأسْرى بِغَيْرِ فِداءٍ.
فِدَاءً - أوْ إطلاقَ سََرَاحِهِمْ مَعَ المُفَاداةِ بِمَالٍ أوْ بِأسْرى مِنَ المُسْلِمينَ.
(وَجَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: " لأَحَدُكُمْ بِمَنْزِلِهِ في الجَنَّةِ أعْرَفُ مِنْهُ بِمَنْزَلِهِ في الدُّنيا "). (رَوَاهُ البُخَارِيُّ).
(٧) - يَحُثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلَى الجِهَادِ، وَيُعْلِمُهُمْ بَأنَّه يَنْصُرُهُمْ إذا أخْلَصُوا النيَّةَ في قِتَالِ أعدائِهِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: إنَّهُمْ إذا نَصَرُوا دِينَ اللهِ نَصَرَهُمُ اللهُ عَلَى أعْدائِهِمْ، وثَّبتَ أقْدَامَهُمْ في الحَرْبِ وَفي الدِّينِ.
(٨) - وَالذِينَ كَفَرُوا باللهِ فَخِزْياً لَهُمْ وَشَقَاءً، وَأَبْطَلَ اللهُ أعْمَالَهُمْ، وَجَعَلَهَا عَلَى غَيرِ هُدىً واستِقَامةٍ لأنَّها عُمِلَتْ لِلشَّيْطَانِ فَتَعْساً لَهُمْ - فَعِثَاراً أوْ شَقَاءً لَهُمْ.
(٩) - وَقَدْ أتْعَسَ اللهُ الكَافِرِينَ وَأخْزَاهُمْ وَأضَلَّ أعْمَالَهُمْ، لأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ قُرآنٍ وَأحْكَامٍ وَشَرْعٍ وَتَكَالِيفَ.
أَحْبَطَ أعْمَالَهم - أبْطلَهَا.
(١٠) - أفَلَم يَسِرْ هَؤُلاءِ المُكَذِّبونَ في الأَرْضِ لِيَرَوا كَيْفَ عَاقَبَ اللهُ المُكَذِّبينَ مِنَ الأمَمِ السَّالِفَةِ، لَقَدْ دَمَّرَ قُراهُمْ وَبُيُوتَهُمْ، وأهْلَكَ أولادَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ، أفَلا يَعْتَبِرُ هَؤُلاءِ بِما نَزَلَ بِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ المُكَذِّبينَ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالغَيِّ والضِّلاَلَةِ؟
وَكَما أهْلَكَ اللهُ المُكَذِّبينَ السَّابِقِينَ، وَنجَّى المُؤْمِنينَ مِنْ بَيْنِ أظْهُرِهِمْ، كَذلِكَ يَفْعَلُ اللهُ بالكَافِرينَ، السَّائِرينَ سِيرَتَهُمْ.
دَمَّرَ عَلَيهِمْ - أطْبَقَ الهَلاكَ عَلَيهِمْ.
(١١) - وَقَدْ دَمَّرَ اللهُ عَلَى الكَافِرينَ، وَنَجَّى المُؤْمِنينَ وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى الكَافِرينَ، لأنَّ اللهَ مَوْلى الذِينَ آمَنُوا وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ وأطَاعُوهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُمْ وَحَافِظُهُمْ، وَلأنَّ الكَافِرينَ لاَ ناصِرَ لَهُمْ فَيَدْفَعُ عَنْهُمُ العُقًُوبَةَ وَالعَذَابَ.
(١٢) - وَفي يَوْمِ القِيَامةِ يُدخِلُ اللهُ تَعَالى الذِينَ آمَنُوا بهِ، وَبِكُتَبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَعَمِلُوا الأعْمَالَ الصَّالِحَاتِ، جَنَّاتٍ تَجرِي في أرْضِها الأنهَارُ جَزاءً لَهُم عَلَى إيمَانِهِمْ. أمَّا الكَافِرُونَ الذِين كَفَرُوا باللهِ وبِكُتُبهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، فَإِنَّهُم يَتَمَتَّعُونَ بما في هذهِ الدُّنيا مِنْ مَتَاعٍ زَائِلٍ، وَيَأكُلُونَ فِيها كَالأنعَامِ، غَيرَ مُفَكِّرِينَ في عَواقِب أمُورِهِمْ، وَلا مُعْتَبِرِينَ بِما أقَامَهُ اللهُ لِلْعِبَادِ منَ الأدِلَّةِ على وُجُودِهِ ووَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالى، وَسَيَصِيرُونَ في الآخِرَةِ إلى جَهَنَّمَ فَتَكُونُ مَسْكَنَهُمْ وَمَأوَاهُمْ.
مَثْوىً - مَوضِعُ ثَواءٍ وَإِقَامَةٍ لَهُمْ.
(١٣) - وَكَثيرٌ مِنَ البَلادِ السَّالِفَةِ كَانَ أهْلُها أشَدَّ بَأساً مِنْ أهْلِ مَكَّةَ الذِينَ أخْرَجُوكَ مِنْ بَيْنِ أظْهُرِهِم، وَأكْثرَ قُوَّةً، فأَهْلَكَهُمُ اللهُ، وَدَمِّرَ قُراهُم، فَلَمْ يِجِدوا لَهُمْ نَاصِراً يَنْصرُهُمْ مِنَ اللهِ، وَلا مُعِيناً يَدْفَعُ عَنْهمَ بأسَهُ وعَذابَه، فَاصْبِرْ يا مُحَمَّدُ كَما صِبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّ العَاقِبةَ سَتَكُونُ لَكَ وَللمُؤْمِنينَ.
كَأيٍّ مِنْ قَريَةٍ - كَثيرٌ منَ القُرَى.
(١٥) - يَصِفُ اللهُ تَعَالى الجَنَّةَ التي وَعَدَ المُتَّقينَ بإدخَالِهم إليها، فَيَقُولُ تَعَالى: إنَّها جَنَّةٌ تَجري فيها أنْهَارٌ مِنْ مِيَاهٍ غَيرِ مَتَغَيِّرةِ الطَعْمِ واللَّوِنِ والرَّائِحَةِ، لطُولِ مُكْثِها وَرُكُودِها، وَفيها أنْهَارٌ مِنْ لَبنٍ لم يَتَغيّرْ طَعْمُهُ وَلَمْ يَفْسُدْ، وَفِيها أنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذِيذَةِ الطَّعْمِ وَالمَذَاقِ لِشَاربيها، لاَ تَغْتَالُ العُقُولَ، وَلا يُنْكِرُهَا الشَّارِبُون، وَفِيها أَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ قَدْ صُفِّي مِنَ الشَّمْعِ والفَضَلاتِ. ولِلْمُتَّقِينَ فِي الجَنَّةِ مِنْ جَميعِ الفَوَاكهِ المُخْتَلِفَةِ الأَنْواعِ والطُّعُومِ وَالمَذَاقِ والرَّائِحَةِ. وَلَهُمْ فَوْقَ ذلكَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالى، فَهُو يَتَقَّبَلُ مَا قَدَّمُوه مِنْ عَمَلٍ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ هَفَواتِهِمِ التِي اقْتَرَفُوهَا في الدُّنيا.
فَهَلْ يَتَسَاوى هَؤُلاءِ المُتَّقُونَ النَّاعِمُونَ في رِضْوانِ اللهِ، وَجَنَّاتِهِ، مَعَ الأشقِياءِ الذِين أدْخَلَهُمُ اللهُ النَّارَ لِيَبْقَوا فِيها خَالِدِينَ أبَداً، جَزاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِم وتكْذِيبهِمُ رُسُلَ رَبِّهم، وَأعْمَالِهم السَّيِّئَةِ؟ إِنَّهُمْ لاَ يَتَسَاوَوْنَ أبَداً. وَإذا طَلَبَ هَؤُلاءِ الأشقِيَاءُ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ في نَارِ جَهَنَّمَ، الماءَ لِيُطْفِئُوا ظَمَأهُم فَإنَّهُم يُسْقَوْنَ مَاءً شَدِيدَ الحَرَارةِ إذا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أمْعَاءَهُمْ.
مَثَلُ الجَنَّةِ - وَصْفُها.
غَيرِ أسِنٍ - غَيْرِ مُنْتِنٍ وَلا مُتَغَيِّرِ الطَّعْمِ.
مَاءً حَميماً - بَالِغاً الغَايَةَ في الحَرَارَةِ.
(١٦) - وَمِنَ النَّاسِ مُنَافِقُونَ يَسْتَمِعُونَ إلى الرَّسُولِ فَلا يَعُونَ مَا يَقُولُ، وَلا يَفْهَمُونَ مَا يَتْلُو عَلَيهِمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَإِذا خَرَجُوا من عِنْدهِ قَالُوا لِمَنْ حَضَرَ المَجْلِسَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِكِتابِ اللهِ: مَاذَا قَالَ مُحمَّدٌ قَبْلَ أَنْ نُغَادِرَ المَجْلِسَ؟ وَهُمْ بِذَلِكَ يَسْتَهْزِئُونَ، وَيَسْتَخِفُّونَ بِما يَقُولُهُ رَسُولُ اللهِ، وَكأنَّ ما يَقُولُهُ لَيْسَ ممَّا يُؤبَهُ بهِ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الذينَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَلا يَهتَدُونَ إلى الحَقِّ الذي جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ، واتَّبْعُوا شَهَواتِهِمْ وَأهْوَاءَهُمْ، فَلا يَرْجِعُونَ إلى حُجَّةٍ وَلا بُرْهَانٍ.
آنِفاً - الآنَ أوِ السَّاعةَ أوْ مُنْذُ قَليلٍ.
(١٧) - وَالذِينَ قَصَدُوا الاهْتِداءَ بِمَا جَاءَ بهِ الرَّسُولُ، وَالانِتْفَاعَ بِمَا جَاءَ في القُرآنِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى يُوفِّقُهم إِلى ذلِكَ، وَيُثِيبُهُمْ عَليه، وَيَشْرَحُ صُدُورَهُم لَهُ، وَيُلْهِمُهُمْ رُشْدَهُمْ، وَيُعيِنُهُمْ عَلَى تَقْواهُ.
(١٨) - وَبَعْدَ أنْ قَامَتِ الدَّلائلُ عَلَى وُجُودِ اللهِ تَعَالى، وَوحْدَانِيَّتِهِ، وَصِدْقِ نُبُوَّةِ رَسُولِهِ، وأنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ العِبَادَ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ القِيَامِةِ لِيُحَاسِبَهُم عَلَى أعْمَالِهم، فَماذا يَنْتَظِرُ هَؤُلاءِ المُكَذِّبُونَ لِيَعْتَبُروا وَيُؤمِنُوا؟ وَهَلْ سَيَظَلُّونَ عَلَى كُفْرِهم وَتَردُّدِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعةُ وَتْفجَأهُمْ، وَهُمْ لاَهُونَ، لِيتَأكَّدُوا أنَّ مَا جَاءَهُمْ بهِ الرَّسُولُ من عِنْدِ رَبِّهم حَقٌّ، وَحِينَئِذٍ يُؤمِنُونَ وَيُصَدِّقُونَ، وَقَدْ ظَهَرتْ عَلامَاتُ قِيامِ السَّاعةِ، وأمَاراتُ اقتِرابِها. وَحِينَما تَقُومُ السَّاعةُ فَمِنْ أيْنَ لِلْكَافِرين التَّذَكُّرُ، وَقَدْ فَاتَ أوَانُهُ، وَهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، ولا تُقبَلُ مِنْهُمُ التَّوْبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الدُّنيا.
جَاءَ أشْراطُهَا - عَلاَمَاتُ حُلُولِها وَوُقُوعِها.
فَأنَّى لَهُمُ - فَكَيفَ لَهُمْ وَمِنْ أينَ لَهُمْ.
ذِكْرِاهُمْ - تَذَكُّرُهُمْ مَا فَرَّطُوا في جَنْبِ اللهِ.
(١٩) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى رَسُولَهُ الكَريمَ ﷺ بالثَّبَاتِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيهِ مِنَ الإِيمَانِ بأنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَمن دَوامِ الاسْتِغفَارِ لِنَفسِهِ وَللْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، واللهُ يَعْلَمُ تَصَرُّفَ العِبَادِ في نَهَارِهِمْ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهُمْ في لَيلِهِمْ، فَعَلَيهمْ أَنْ يَتَّقُوهُ وَيَسْتَغْفِرُوهُ
(والأحادِيثُ كَثِيرةٌ في فَضْلِ الاسْتِغْفارِ).
يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ - مُتَصَرَّفَكُمْ في حَيَاتِكُمْ.
وَمثْواكُم - مُقَامَكُم وَمَكَانَ ثَوائِكُمْ.
(٢٠) - كَانَ المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ يَشْتَاقُونَ إِلى الوَحْي، وَيَتَمَنَّوْنَ أنْ تَنْزِلَ آيَاتٌ تَحُثُّ المُؤْمِنينَ عَلَى الجِهَادِ، وَيَقُولُون: هَلاَّ نَزَلَتْ سُورَةٌ تَأمُرنَا بِهِ. فَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ وَاضِحَةُ الدَّلالةِ في الحَثِّ عَلَى الجِهَادِ، وهيَ لا تَحْتَمِلُ تَأويلاً آخَرَ غَيْرَ وُجُوبِهِ، فَرِحَ بِها المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُنَافِقِينَ الذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَشَخَصَتْ أبْصَارُهُمْ مِنْ فَزَعِهِم وَجَزَعِهمْ مِنْ لِقاءِ الأعداءِ، وَنَظَرُوا نِظْرَةَ الشَّاخِصِ بِبَصَرِهِ عِنْدَ المَوتِ خَوْفاً مِنَ الموتِ، وَكُرْهاً لهُ، وكَانَ الأوْلَى بِهؤُلاءِ المُنَافِقِينَ مِنْ هذا الهَلَعِ وَالجَزَعِ أنْ يَسْتَمِعُوا وَيُطِيعُوا.
مُحَكَمَةٌ - وَاضِحَةٌ وَلاَ تَحْتَمِلُ تَأْوِيلاً آخَرَ.
المَغْشِيِّ عَلَيهِ - مَنْ أصَابَتْهُ الغَشْيَةُ والسَّكْرَةُ.
فَأوْلَى لهَمُ - فَالعِقَابُ وَالهَلاكُ أحَقُّ بِهِمْ وَأوْلَى لَهُمْ.
طَاعةٌ - لَوْ أَطَاعُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ.
عَزَمَ الأمرُ - جَدَّ الجِدُّ وَحَضَرَ الجِهَادُ.
(وَقَدْ يَكُونُ المَعْنى: فَلَعَلَّكُم إنْ تَوَلَّيتُمُ الحُكْمَ وَأمُورَ الأمَّةِ تَعْمَدُونَ إلى الإِفسَادِ في الأَرْضِ وَتَقْطِيعِ الأرْحَامِ).
فَهَلْ عَسَيْتُمْ - فَهَلْ يُتَوقَّعُ مِنْكُم أوْ لَعَلَّكُمْ.
تَوَلَّيتُمْ - إذا تَرَكْتُمُ الجِهَادَ - أوْ تَوَلَّيتُمُ الحُكْمَ.
(٢٣) - وَالذِينَ يَبْلُغُ بِهِم الأمْرُ حَدَّ التَّوَلِّي عَنِ الجِهَادِ، وَعَنِ الإِيمان، وَحَدَّ الإِقْدَامِ عَلَى الإِفسَادِ في الأَرْضِ وَقَطْعِ الأرْحَامِ، هُمُ الذِينَ طَرَدَهُمُ اللهُ مِنْ رَحَمْتِهِ، فأصَمَّهُمْ عَنِ الانْتِفَاعِ بِما يَسْمَعُونَ، وَأعْمَى أبْصَارَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ مَا نَصَبَ اللهُ في الكَوْنِ مِنْ آياتٍ، وَعَنِ الاعْتِبَارِ بِها.
(٢٤) - أفَلاَ يَتَدبَّرُ المُنَافِقُونَ مَا في القُرآنِ مِنْ مَواعِظَ وَعِبرٍ لِيَعْلَمُوا خَطأ مَا هُمْ مُقِيمُونَ عَلَيهِ، أمْ أنَّ قُلُوبَهمَ وَضَعَ اللهُ عَليهَا أقفالاً فَهِي تَحوُلُ بَيْنَك وَبَينَ فَهْمِ القُرآنِ وَتَدَبُّرِ عِظَاتِهِ؟
أقْفَالُهَا - مَغَالِيقُها.
(٢٥) - إنَّ الذِينَ ارتَدُّوا عَنِ الإِيمانِ، وَرَجَعُوا إلى مَا كَانُوا عليهِ من الكُفْرِ، مِنْ بَعْدِ ما تَبَينَّ لَهُمُ الحَقُّ، والهُدَى، والإِيمانُ، الشَّيطَانُ هو الذي زيَّن لَهُم ذَلِكَ، وَحَسَّنَه في أعْيُنِهم، وَمَدَّ لَهُمْ في الآمَالِ الكَاذِبةِ، وَوَسْوَسَ لَهُم أنَّ الحَيَاةَ لَذِيذَةٌ حُلْوةٌ يَسْتَطِيعُونَ التَّمَتَّعَ بِها، ثُمَ يتُوبُونَ وَيَعُودُونَ إلى التَّقْوى وَالإِخلاصِ في الإِيمانِ.
سَوَّلَ لَهُمْ - زَيَّنَ لَهُم وَحَسَّنَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ.
أمْلَى لَهُمْ - مَدَّ لَهُمْ في الأمَانِي البَاطِلَةِ.
يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمُ - إخْفَاءَهُمْ مَا يُسِرُّونَ في أنْفُسِهِمْ.
(٢٧) - فَكيفَ يَكُونُ حَالُهُم غَداً حِينَما تَأتي مَلائِكَةُ الرَّحْمَنِ لِقَبْضِ أرْواحِهِمْ، وَهُمْ عَلَى فِراشِ المَوْتِ، وَتَضْرِبُ وُجُوُهَهُمْ وأدْبَارَهُمْ لاسْتِخْرَاجِ أرْواحِهم، وَلاَ يَجِدُونَ، وَهُمْ في تِلْكَ الحَالِ لاَ حَوْلَ لَهُمْ فِيهَا وَلا قوةَ، مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنْ بَأسِ اللهِ، وَلاَ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّدَّةِ وَالكَرْبِ وَالعَذَابِ.
(٢٨) - وَقَدْ صَارُوا إلى هَذا المَصِير السَّيِّئِ لأنَّهُم عَمَدُوا إِلى مَا يُسْخِطُ الله مِنْ نِفَاقٍ وَمَعْصِيَةٍ وَتَآمرٍ مَعَ اليَهُودِ أعدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأعْدَاءِ الإِسْلامِ، فَاتَّبَعُوهُ. وَهُمُ الذِينَ كَرِهُوا رِضوَانَ اللهِ، فَلَم يَعْمَلُوا لَهُ، بَلْ عَمِلُوا مَا يُسْخِطُ اللهَ وَيُغْضِبُهُ، فَأبْطَلَ مَا عَمِلُوا مِنْ أعْمالِ البِرِّ وَالخير، التي كَانُوا يُعْجَبُونَ بِها، وَيَتَفَاخَرُونَ بِعَمَلِها، لِينَالُوا بِها حُسْنَ السُّمْعَةِ عِنْدَ النَّاسِ.
أحْبَط - أبْطَلَ وأهْلَكَ.
(٢٩) - أيَحْسَبُ هَؤُلاءِ المُنَافِقُونَ، الذِينَ في قُلُوبِهمْ مَرَضٌ وَشَكٌّ وَرِيبَةٌ مِنْ أمْرِ الرَّسُولِ والإِسْلامِ، أنَّ اللهَ لَنْ يَكْشِفَ للرَّسُولِ وَالمُؤْمِنينَ مَا في أنْفُسِهمْ مِنْ حِقْدٍ عَظيمٍ كَامنٍ، وَلَنْ يَفْضَحَهُم وَيَهْتكَ أسْتَارَهُمْ؟
أضْغَانَهُمْ - أحْقَادَهُمُ الكَامِنَةَ.
(٣٠) - وَيَهُدِّدُ اللهُ تَعَالى بِكَشْفِ أمْرِ هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ لِلرَّسُولِ فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ الكَريمِ ﷺ: إنَّهُ لَوْ شَاءَ تَعَالَى لَكَشَفَ لَهُ عَنْ أشْخَاصِهِم، حَتَّى إنَّهُ لَيَرى أحَدَهُم فَيَعرفُهُ مِنْ مَلامِحِهِ (سِيماهُمْ)، وإنَّ لَهْجَتَهُمْ وَنَبَرَاتِ أصْواتِهِمْ، وَإمَالَتَهُمْ في لَفْظِ الكَلِماتِ، وانحِرَافَ مَنْطِقهِم في خِطَابِ الرَّسُولِ، سَيَدُلُّه كُلَّ ذَلِكَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ أعمَالَ العِبَادِ، وَسَوفَ يُجَازِيهِمْ بِها.
بِسِيماهُمْ - بِعَلاَماتٍ يَسِمُهُمْ بِها.
فِي لَحْنِ القَوْلِ - بِطَرِيقَةِ كَلاَمِهِمِ المُلْتَوِيَةِ.
(٣١) - أمَرَ اللهُ تَعَالى العِبَادَ بالإِيمَانِ وَبالجِهَادِ، وَبالأخْذِ بِمَا أمَرَهُمْ بِهِ، وَبالانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ، لِيَخْتَبِرَهُمْ وَيَكْشِفَ حَقِيقَتَهُم، فَيَظْهَرَ المُجَاهِدُونَ، الصَّابِرُونَ، وَالمُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ، والمُسْتَسْلِمُونَ للهِ وَأمْرِهِ وَقَدَرِهِ، وَيَظْهَرَ المُتَشَكِّكُونَ النَّاكِلُونَ عَنِ الجِهَادِ، وَعَنِ القِيَامِ بِمَا أمَرَ اللهُ بهِ.
لَنَبْلُوكُمْ - لَنْخْتَبِرنُكُمْ بِالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ.
نَبْلُو أخْبَارَكُمْ - نُظْهِرُهَا وَنَكْشِفُها.
(٣٢) - إنَّ الذِينَ كَفَرُوا باللهِ، وَارتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَم وَخَالَفُوا الرَّسُولَ، وَوَقَفُوا في وَجْهِ الحَقِّ أنْ يَبْلغَ النَّاسَ، وَصَدُّوا النَّاسَ عنِ الدُّخُولِ في الإِسْلامِ بالقُّوَّةِ وبِالمَالِ وَبالخِدَاعِ، وَشَاقُّوا الرَّسُولَ بِمُحَارَبتِهِ في حَيَاتِهِ، وَبِمُحَارَبةِ دِينِهِ أَوْ شَرِيعَتِهِ بَعْدَ مَماتِهِ.
إنَّ الذِينَ يُقْدِمُونَ عَلَى شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَعْدَ أنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ هُوَ الحَقُّ، فَإنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيئاً، لأنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، وَنَاصِرُ رَسُولِهِ وَمُظْهِرُ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّه، وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ، وَسَيُحْبِطُ اللهُ أعْمَالَهَم، فَتَنْتَهِي إلى الخَيْبَةِ والدَّمَارِ.
(٣٣) - يَأمُرُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ بإطِاعَةِ اللهِ، وَإطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيما يأمُرانِهِمْ بِهِ، وَفيما يَنْهَيانِهِمْ عَنْهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ إبْطَالِ أَعْمَالِهِم الحَسَنةِ، بارِتكَابِ المَعَاصِي، وَفِعْلِ الكَبَائِرِ والنِّفَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأعْمَالِ التي تُبْطِلُ الحَسَناتِ وَتُذْهِبُها.
(٣٥) - فَلا تَضْعُفُوا يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ عَنِ الجِهَادِ، وَقِتَالِ الكُفَّارِ وَالمُشْرِكِينَ، وَلا تَدْعُوا إلى المُهَادَنةِ وَالمُسَالَمةِ وَوَضْعِ القِتَالِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ الغَالِبُونَ بِقُوَّةِ الإِيمَانِ، وَاللهُ مَعَكُمْ يَنْصُرُكُمْ عَلَيهِم، وَلاَ يَظْلِمُكُمْ شَيْئاً مِنْ ثوابِ أعْمَالِكُمْ.
فَلاَ تَهْنُوا - فَلاَ تَضْعُفُوا عَنْ مُقَاتَلَةِ الكُفَّارِ.
السَّلْمِ - الصُّلْحِ وَالمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ القِتَالِ.
يَتَرَكُم أعْمَالَكُم - يُنْقِصَكُم أجُورَهَا.
(٣٦) - يَحُضُّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى الجِهَادِ، وَعَلَى بَذْلِ الأَرْوَاحِ وَالأمْوَالِ في سَبِيلِ اللهِ، وَفي سَبِيلِ نَصْرِ دِينِهِ. وَيُصَغِّرُ لهُمْ شَأنَ الدُّنيا، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ الحَيَاةَ الدُّنيا لهوٌ وَلعبٌ لا يَلْبَثُ أنْ يَضْمَحِلَّ حِينَ لا يكُونَ وَرَاءَها غايَةٌ أكْرَمُ وأبقَى، فَلا يَنْبَغي لِعَاقِلٍ أنْ تَصْرِفَهُ لَذَائِذُ هذِهِ الحِيَاةِ الفَانِيةِ عَنِ العَمَلِ فيما يُرْضي اللهَ تَعالى، وَيُوصِلُهُ إِلى الفَوزِ بنعيمِ الآخرِةِ. وإنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَتَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ فَتَقُومُوا بما أمَركُم بِهِ، وَتَنْتَهُوا عَمَّا نَهاكُمْ عَنْهُ فإنَّهُ يُثِيبُكُمْ عَلَى أعمالِكُم، وَلا يبخسُكمْ مِنْها شيئاً.
وإذا كَانَ اللهُ تَعَالى قَدْ أمَرَكُم بإخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وبالإِنفَاقِ في وُجُوهِ الطَّاعَاتِ فَما ذَلِكَ إلاّ لِمُواسَاةِ إخوانِكم الفُقَرَاءِ، وَهُوَ تَعالى غَنيٌّ عَنْكُم وعَنْ أمْوالِكم، ثُمّ إنَّهُ لا يَأمُرُكُم بإنِفاقِ أموالِكم جَميعِها، وَإنما يأمْرِكُم بِإِخْراجِ القَليلِ منها، وَهُو تَعَالى لا يُريدُ أن يشُقَّ عَلَى العِبادِ في فَرَائِضِهِ وَتَكاليفهِ لأنَّهُ يَعْلَمُ مَا فُطِرَت عَليهِ النُّفُوسُ مِنْ شُحٍ وَحِرْصٍ.
(٣٧) - فَإنَهُ تَعالى إذا أمرَ المُؤْمِنينَ بإخراجِ أمْوالِهم كُلِّها، وَألَحَّ عَلَيْهِمْ في طَلَبِ ذَلِكَ مِنْهُمُ فَإِنَّهُ يحْرِجُهُمْ بِذَلِكَ، وَيُظْهِرُ شُحَّ نُفُوسِهِمْ، وَتَعَلًّقَهُمُ الشَّديدَ بالمالِ، فَتَخْرُجُ أحْقَادُهُمْ.
يُحْفِكُمْ - يُجْهِدْكُمْ في طَلَبِها.
وَيُقَالُ أحفَاهُ بالمسْألَةِ إذا أكثْرَ الإِلْحَاحَ فيها.
أضْغَانَكُمْ - أحْقَادَكُمْ عَلى الإِسْلامِ.
(٣٨) - إنَّكُمْ يَا أيُّها المُسْلِمُونَ تُدعونَ إلى الإِنْفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ، وَفي سَبيلِ مُجَاهَدَةِ أعْدَائِهِ، وَفي سَبِيلِ نَصْرِ دِينِهِ. وَمَنَ المُؤمِنينَ مَنْ يَبْخلُ بالإِنْفَاقِ في هذا السَّبِيلِ، وَمَنْ يَبْخلْ فَإِنَّما يضُرُّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، لأنَّهُ يحرمُها ثَوابَ اللهِ، وَيَحْرِمُها مِنْ رِضْوَانِ اللهِ، وَاللهُ غَنِيٌّ عَنِ العِبَادِ، وَعَنْ أمْوالِهِم وَعَنْ جَهَادِهِمْ، وَهُمُ الفُقَراءُ إلى فَضْلِهِ وإحْسَانِهِ، وَإنما حَثَّهُمْ عَلَى الجِهادِ وَالبَذْلِ لِيَنَالوا الأجْرَ وَالمثَوْبةَ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالى لَهُم: إنَّهُم إنْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَعَنِ اتِّبَاعِ شَرْعِهِ فإنه قادِرٌ عَلى إهْلاَكِهِمْ، وَعَلى الإِتْيَانِ بقَومٍ آخرِينَ يُؤمِنُونَ باللهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لأوامِرِهِ، وَيَعْمَلُونَ بشَرائِعِهِ، وَلاَ يَكُونُونَ أمْثَالَ مَنْ أهْلَكَهُمْ في البَخْلِ وَالتَّبَاطُؤِ عَنِ الجِهَادِ.