تفسير سورة محمد

زاد المسير
تفسير سورة سورة محمد من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة محمد صلى الله عليه وسلم
وفيها قولان :
أحدهما : أنها مدنية، قاله الأكثرون، منهم مجاهد، ومقاتل وحُكي عن ابن عباس وقتادة أنها مدنية، إلا آية منها نزلت عليه بعد حجة حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت، وهي قوله :﴿ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِي أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ ﴾ [ محمد : ١٣ ].
والثاني : أنها مكية، قاله الضحاك، والسدي.

سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الأكثرون، منهم مجاهد، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس وقتادة أنها مدنيّة، إلّا آية منها نزلت عليه بعد حجّه حين خرج من مكّة وجعل ينظر إلى البيت، وهي قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ «١». والثاني: أنّها مكّيّة، قاله الضّحّاك، والسّدّيّ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦)
قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا أي: بتوحيد الله وَصَدُّوا الناس عن الإِيمان به، وهم مشركو قريش، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: أبطلها، ولم يجعل لها ثواباً، فكأنَّها لم تكن، وقد كانوا يُطْعِمُون الطَّعامَ، ويَصِلون الأرحام، ويتصدّقون، ويفعلون ما يعتقدونه قُرْبَةً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني أصحاب محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وقرأ ابن مسعود: «نَزَّلَ» بفتح النون والزَّاي وتشديدها. وقرأ أبيّ بن كعب ومعاذ القارئ: «أُنْزِلَ» بهمزة مضمومة مكسورة الزَّاي. وقرأ أبو رزين وأبو الجوزاء وأبو عمران: «نَزَلَ» بفتح النون والزاي وتخفيفها، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي غفرها لهم وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالَهم، قاله قتادة، والمبرِّد.
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: معناه: الأمرُ ذلك، وجائز أن يكون: ذلك الإِضلال، لاتِّباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفّارات باتِّباع المؤمنين الحقَّ، كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي:
كذلك يبيِّن أمثال حسنات المؤمنين وسيِّئات الكافرين كهذا البيان. قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إغراء،
(١) محمد: ١٣.
115
والمعنى: فاقتُلوهم «١»، لأن الأغلب في موضع القتل ضربُ العُنق حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي: أكثرتُم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ يعني في الأسر وإِنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل. و «الوَثاق» اسم من الإِيثاق تقول: أوثقتُه إِيثاقاً ووَثاقاً، إِذا شددتَ أسره لئلا يُفْلِت فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ قال أبو عبيدة: إِمّا أن تُمنُّوا، وإِمّا أن تفادوا، ومثلُه: سَقْياً، ورَعْياً، وإِنما هو سُقِيتَ ورُعِيتَ. وقال الزجاج: إِمَّا منَنَتُم عليهم بعد أن تأسِروهم مَنّاً، وإِمّا أطلقتُموهم بِفِداء.

فصل:


وهذه الآية محكَمة عند عامَّة العلماء. وممَّن ذهب إِلى أنَّ حُكم المَنِّ والفداء باقٍ لم يُنْسَخ ابنُ عمر، ومجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ سيرين، وأحمدُ، والشافعيُّ. وذهب قوم إلى نسخ المَنِّ والفداء بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «٢»، وممن ذهب إلى هذا ابن جريح، والسدي، وأبو حنيفة وقد أشرنا إِلى القولين في براءة.
قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين. وقال مجاهد: حتى لا يكون دِينُ إِلاّ دين الإِسلام. وقال سعيد بن جبير: حتى يخرُج المسيح. وقال الفراء:
حتى لا يبقى إلاّ مُسْلِم أو مُسالِم. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: حتى يضعَ أهلُ الحرب سلاحَهم قال الأعشى:
وَأًَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا:... رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراَ
وأصل «الوِزْرِ» ما حملته، فسمّى السلاح «أوزاراً» لأنه يُحْمل، هذا قول ابن قتيبة.
والثاني: حتى تضعَ حربُكم وقتالكم أوزارَ المشركين وقبائح أعمالهم بأن يُسْلِموا ولا يعبُدوا إِلاَّ الله، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذَكَرْنا وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ بإهلاكهم أو تعذيبهم بما شاء وَلكِنْ أمركم بالحرب لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فيُثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب. قوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم: «قٌتِلُوا» بضم القاف وكسر التاء والباقون: «قاتَلُوا» بألف. قوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها:
(١) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٣١: اعلموا وفقكم الله أن هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها، أمر الله سبحانه فيها بالقتال، وبين كيفيته كما في قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ فإذا تمكّن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه، وإذا تمكن من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه ويتناول قتال غيره فعل ذلك به، فإن لم يتمكن إلا ضرب فرسه التي يتوصل بها إلى مراده فيصير حينئذ راجلا مثله أو دونه، والمآل إعلاء كلمة الله تعالى، وذلك لأن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولا، وعلم أن ستبلغ إلى الإثخان والغلبة بيّن سبحانه حكم الغلبة بشدّ الوثاق، فيتخير حينئذ المسلمون بين المن والفداء وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إنما لهم القتل والاسترقاق، وهذه الآية عنده منسوخة. والصحيح إحكامها، فإن شروط النسخ معدومة فيها من المعارضة، وتحصيل المتقدم من المتأخر. وقد عضدت السنة ذلك كله، فروى مسلم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها ناسا من المسلمين، وقد هبط على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة قوم، فأخذهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومنّ عليهم. وقال الحسن وعطاء: المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وليس للإمام أن يقتل الأسير.
(٢) التوبة: ٥.
116
يَهديهم إِلى أرشد الأمور، قاله ابن عباس. والثاني: يحقق لهم الهداية، قاله الحسن. والثالث: إِلى مُحاجَّة منكَر ونكير. والرابع: إِلى طريق الجنة، حكاهما الماوردي. وفي قوله: عَرَّفَها لَهُمْ قولان:
أحدهما: عرَّفهم منازلهم فيها فلا يستدِلُّون عليها ولا يُخطِئونها، هذا قول الجمهور، منهم مجاهد وقتادة واختاره الفراء، وأبو عبيدة. والثاني: طيَّبها لهم، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: وهو قول أصحاب اللغة، يقال: طعامٌ معرَّف، أي مطيَّب. وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء وابن محيصن: «عَرَفَها لهم» بتخفيف الراء.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٧ الى ١٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
قوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي: تنصُروا دينه ورسوله يَنْصُرْكُمْ على عدوِّكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ عند القتال. وروى المفضل عن عاصم: «ويُثْبِتْ» بالتخفيف. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ قال الفراء:
المعنى: فأتْعَسَهم اللهُ، والدُّعاء قد يجري مَجرى الأمر والنهي. قال ابن قتيبة: هو من قولك: تَعَسْتُ، أي: عَثَرْتُ وسَقَطْتُ. وقال الزجاج: التَّعْسُ في اللغة: الانحطاط والعُثُور. وما بعد هذا قد سبق بيانه «١» إلى قوله: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: أهلكهم اللهُ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها أي: أمثالُ تلك العاقبة. ذلِكَ الذي فعله بالمؤمنين من النصر، وبالكافرين من الدَّمار بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي: ولِيُّهم. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ أي: إِن الأنعام تأكُل وتشرب، ولا تَدري ما في غدٍ، فكذلك الكفار لا يلتفتون إِلى الآخرة. و «المثوى» : المَنْزِل. وَكَأَيِّنْ مشروح في آل عمران «٢».
والمراد بقريته: مكة وأضاف القوة والإخراج إِليها، والمراد أهلُها ولذلك قال: أَهْلَكْناهُمْ. قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فيه قولان: أحدهما: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله أبو العالية.
والثاني: أنه المؤمن، قاله الحسن. وفي «البيِّنة» قولان: أحدهما: القرآن، قاله ابن زيد. والثاني:
الدِّين، قاله ابن السائب. كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ يعني عبادة الأوثان، وهو الكافر وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بعبادتها.
(١) الكهف: ١٠٥، يوسف: ١٠٩.
(٢) آل عمران: ١٤٦.

[سورة محمد (٤٧) : آية ١٥]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي: صِفَتُها، وقد شرحناه في الرعد «١». و «المتَّقون» عند المفسرين: الذين يَتَّقون الشِّرك. و «الآسِن» المتغيِّر الرِّيح، قاله أبو عبيدة، والزجاج. وقال ابن قتيبة:
هو المتغير الرِّيح والطَّعم، و «الآجِن» نحوه. وقرأ ابن كثير: «غيرِ أسِنٍ» بغير مد. وقد شرحنا قوله:
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ في الصافات «٢» : قوله تعالى: مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى أي: من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا. قوله تعالى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ قال الفراء: أراد: مَنْ كان في هذا النعيم، كمن هو خالد في النار؟!. قوله تعالى: ماءً حَمِيماً أي: حارا شديد الحرارة. و «الأمعاء» جميع ما في البطن من الحوايا.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني المنافقين. وفيما يستمعون قولان: أحدهما: أنه سماع خطبة رسول صلّى الله عليه وسلّم يومَ الجمعة. والثاني: سماع قوله على عموم الأوقات. فأمّا الذين أُوتُوا الْعِلْمَ، فالمراد بهم: علماء الصحابة.
قوله تعالى: ماذا قالَ آنِفاً قال الزجاج: أي: ماذا قال الساعة، وهو من قولك: استأنفتُ الشيء: إذا ابتدأتَه، وروضة أنف: لم تُرْعَ، أي: لها أوَّل يُرْعى فالمعنى: ماذا قال في أوَّل وقت يَقْرُبُ مِنّا. وحُدِّثْنا عن أبي عمر غلامِ ثعلب أنه قال: «آنفاً» مُذْ ساعة. وقرأ ابن كثير، في بعض الروايات عنه:
«أَنِفاً» بالقصر، وهذه قراءة عكرمة، وحميد، وابن محيصن. قال أبو علي: يجوز أن يكون ابن كثير توهَّم، مثل حاذِر وحَذِر، وفاكِه وفَكِه. وفي استفهامهم قولان: أحدهما: لأنهم لم يَعْقِلوا ما يقول، ويدُلُّ عليه باقي الآية. والثاني: أنهم قالوه استهزاءً.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا فيهم قولان: أحدهما: أنهم المسلمون، قاله الجمهور. والثاني:
قومٌ من أهل الكتاب كانوا على الإِيمان بأنبيائهم وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا بعث محمّد صلّى الله عليه وسلّم آمَنوا به، قاله عكرمة. وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله عزّ وجلّ. والثاني: قول الرسول. والثالث:
استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هُدىً، ذكرهن الزجاج. وفي معنى الهُدى قولان: أحدهما: أنه العِلْم.
والثاني: البصيرة. وفي قوله: وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي. والثاني: اتِّقاء المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. والثالث: أعطاهم التقوى مع الهُدى، فاتَّقَوْا معصيته خوفاً من عقوبته، قاله أبو سليمان الدّمشقي. ويَنْظُرُونَ بمعنى ينتظِرون، أَنْ تَأْتِيَهُمْ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الأشهب، وحميد: «إِنْ تَأْتِهم» بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء. والأشراط:
العلامات قال أبو عبيدة: الأشراط: الأعلام، وإِنما سمِّي الشُّرط- فيما تَرى- لأنهم أعلموا أنفُسهم.
قال المفسّرون: ظهور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أشراط الساعة، وانشقاقُ القمر والدخانُ وغير ذلك. فَأَنَّى لَهُمْ
(١) الرعد: ٣٥. [.....]
(٢) الصافات: ٤٦.
أي: فمِن أين لهم إِذا جاءَتْهُمْ الساعة ذِكْراهُمْ؟! قال قتادة: أنَّى لهم أن يَذَّكَّروا ويتوبوا إذا جاءت؟!
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٩ الى ٢١]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١)
قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ قال بعضهم: اثْبُتْ على عِلْمك، وقال قوم: المراد بهذا الخطاب غيره وقد شرحنا هذا في فاتحة الأحزاب. وقيل: إِنه كان يَضيق صدرُه بما يقولون، فقيل له:
اعْلَمْ أنه لا كاشفِ لما بِكَ إِلاّ اللهُ.
فأمّا قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فإنه كان يَستغفر في اليوم مائة مرة، وأُمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات إِكراماً لهم لأنه شفيعٌ مُجابٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
مُتقلَّبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني: مُتقلَّبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء، ومقامكم في القبور، قاله عكرمة. والثالث: «مُتقلَّبكم» بالنهار و «مثواكم» أي: مأواكم بالليل، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ قال المفسرون: سألوا ربَّهم أن يُنزل سُورةً فيها ثواب القتال في سبيل الله، اشتياقاً منهم إلى الوحي وحِرصاً على الجهاد، فقالوا: «لولا» أي: هلا وكان أبو مالك الأشجعي يقول: «لا» هاهنا صلة، فالمعنى: لو أُنزلتْ سورة، شوقاً منهم إِلى الزيادة في العِلْم، ورغبةً في الثواب والأجر بالاستكثار من الفرائض. وفي معنى «مُحكَمة» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها التي يُذْكَر فيها القتال، قاله قتادة. والثاني: أنها التي يُذْكَر فيها الحلال والحرام. والثالث:
التي لا منسوخ فيها، حكاهما أبو سليمان الدمشقي. ومعنى قوله: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي: فُرِضَ فيها الجهاد. وفي المراد بالمرض قولان: أحدهما: النفاق، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور. والثاني: الشكّ، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي: يَشْخَصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظراً شديداً كما ينظُر الشاخص ببصره عند الموت، لأنهم يكرهون القتال، ويخافون إِن قعدوا أن يتبيَّن نفاقُهم.
فَأَوْلى لَهُمْ قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد: «أَوْلَى لكَ» أي: وَلِيَكَ وقارَبَك ما تَكْره.
وقال ابن قتيبة: هذا وَعِيدُ وتهديد، تقولُ للرجُل- إذا أردتَ به سوءاً، فَفَاتَكَ- أوْلَى لكَ، ثم ابتدأ، فقال: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ.... وقال سيبويه والخليل: المعنى: طاعةُ وقولٌ معروفٌ أمثل. وقال الفراء: الطاعةُ معروفةٌ في كلام العرب، إِذا قيل لهم: افعلوا كذلك، قالوا: سَمعٌ وطاعةٌ، فوصف اللهُ قولَهم قبل أن تنزل السُّورة أنهم يقولون: سمعٌ وطاعة، فإذا نزل الأمر كرهوا. وأخبرني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: فَأَوْلى، ثم قال: لَهُمْ أي: للذين آمنوا منهم (طاعةٌ)، فصارت «أَوْلَى» وعيداً لِمَن كَرِهها، واستأنف الطاعة ب «لهم» والأول عندنا كلام
العرب، وهذا غير مردود، يعني حديث أبي صالح. وذكر بعض المفسرين أن الكلام متصل بما قبله والمعنى: فأَوْلَى لهم أن يُطيعوا وأن يقولوا معروفاً بالإِجابة. قوله تعالى: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ قال الحسن: جَدَّ الأمْرُ. وقال غيره: جدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابُه في الجهاد، ولَزِمَ فرضُ القتال، وصار الأمر معروفاً عليه. وجواب «إذا» محذوف، تقديره: فإذا عَزَمَ الأمْرُ نَكَلُوا يدُلُّ على المحذوف فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ أي: في إِيمانهم وجهادهم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من المعصية والكراهة.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٨]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦)
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)
قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ في المخاطَب بهذا أربعة أقوال: أحدها: المنافقون، وهو الظاهر. والثاني: منافقو اليهود، قاله مقاتل. والثالث: الخوارج، قاله بكر بن عبد الله المزني. والرابع:
قريش، حكاه جماعة منهم الماوردي. وفي قوله: تَوَلَّيْتُمْ قولان «١» : أحدهما: أنه بمعنى الإِعراض. فالمعنى: إِن أعرضتم عن الإِسلام أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بأن تعودوا إِلى الجاهلية يقتل بعضكم بعضاً، ويُغِير بعضكم على بعض، ذكره جماعة من المفسرين. والثاني: أنه من الوِلاية لأُمور الناس، قاله القرظي. فعلى هذا يكون معنى «أن تُفْسِدوا في الأرض» : بالجَوْر والظُّلم. وقرأ يعقوب:
«وتَقْطَعوا» بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف، ثم ذَمَّ من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه. وما بعد هذا قد سبق «٢» إِلى قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «أَمْ» بمعنى «بَلْ»، وذِكْر الأقفال استعارة، والمراد أن القَلْب يكون كالبيت المُقفَل لا يَصِلُ إِليه الهُدى. قال مجاهد: الرّان أيسرُ من الطَّبْع، والطَّبْع أيسرُ من الإِقفال، والإِقفال أشَدُّ ذلك كلّه. وقال خالد بن معدان: ما من آدميٍّ إِلاّ وله أربعُ أعيُنٍ، عَيْنان في رأسه لدُنياه وما يُصْلِحه من معيشته، وعَيْنان في قَلْبه لِدِينه وما وَعَد اللهُ من الغَيْب، فإذا أراد اللهُ بعبد خيراً أبصرتْ عيناه اللتان في قلبه، وإِذا أراد به غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله: «أَمْ على قُلوب أقفالُها».
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي: رجَعوا كُفّاراً وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المنافقون، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة، ومقاتل مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى أي: مِنْ بَعْدِ ما وَضَحَ لهم الحقُّ. ومن قال: هم اليهود، قال: مِنْ بعد أن تبيّن لهم
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٢١١: وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قل أمر تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام.
(٢) النساء: ٨٢.
وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونعته في كتابهم. وسَوَّلَ بمعنى زيَّن. وَأَمْلى لَهُمْ قرأ أبو عمرو، وزيد عن يعقوب: «وأُمْلِيَ لهم» بضم الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء مفتوحة. وقرأ يعقوب إِلاّ زيداً، وأبان عن عاصم كذلك، إِلاّ أنهما أسكنا الياء. وقرأ الباقون بفتح الهمزة واللام. وقد سبق معنى الإملاء «١».
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: المعنى: الأَمْرُ ذلك، أي: ذلك الإِضلال بقولهم: لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ وفي الكارهِين قولان: أحدهما: أنهم المنافقون، فعلى هذا في معنى قوله:
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ثلاثة أقوال: أحدها: في القعود عن نصرة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله السدي.
والثاني: في المَيْل إِليكم والمظاهرة على محمّد صلّى الله عليه وسلّم والثالث: في الارتداد بعد الإِيمان، حكاهما الماوردي. والثاني: أنهم اليهود، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان: أحدهما: في أن لا يصدّقوا شيئا من مقالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله الضحاك. والثاني: في كَتْم ما عَلِموه من نُبوَّته، قاله ابن جريج.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، والوليد عن يعقوب: بكسر الألف على أنه مصدر أسْرَرْتُ: وقرأ الباقون: بفتحها على أنه جمع سِرٍّ، والمعنى أنه يَعْلَم ما بين اليهود والمنافقين من السِّرِّ.
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؟ أي: فكيف يكون حالُهم حينئذ؟ وقد بيَّنّا في الأنفال «٢» معنى قوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ.
قوله تعالى: وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ أي: كَرِهوا ما فيه الرِّضوان، وهو الإيمان والطّاعة.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٤]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤)
قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: نفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ قال الفراء: أي لن يُبْدِيَ اللهُ عداوتهم وبغضهم لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقال الزجاج: أي: لن يُبْدِيَ عداوتَهم لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ويُظْهِرَهُ على نفاقهم. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي: لعرَّفْناكهم، تقول: قد أرَيْتُكَ هذا الأمر، أي: قد عرَّفْتُك إيّاه، المعنى: لو نشاء لجَعَلْنا على المنافقين علامة، وهي السّيماء فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أي: بتلك العلامة وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي: في فحوى القَوْل، فدلَّ بهذا على أن قول القائل وفعله يدُلُّ على نِيَّته. وقولُ الناس: قد لَحَنَ فلانٌ، تأويله: قد أَخذ في ناحية عن الصواب، وَعدَلَ عن الصواب إِليها. وقول الشاعر:
مَنْطِقٌ صائِبٌ وتَلْحَنُ أحيانا ، وخير الحديث ما كان لحنا «٣»
(١) آل عمران: ١٧٨، والأعراف: ١٨٣.
(٢) الأنفال: ٥٠.
(٣) البيت لمالك بن أسماء بن خارجة الفزازي وهو في «اللسان» - لحن- قال في «اللسان» : ومعنى صائب: قاصد الصواب وإن لم يصب، وتلحن أحيانا أي تصيب وتفطن قال: فصار تفسير اللحن في البيت على ثلاثة أوجه:
الفطنة والفهم، والتعرض، والخطأ في الإعراب.
تأويله: خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا يعرفه كلُّ أحد، إِنما يُعْرََفُ قولها في أنحاء قولها.
قال المفسرون: وَلتَعْرِفَنَّهم في فحوى الكلام ومعناه ومقْصَده، فإنهم يتعرَّضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين. قال ابن جرير: ثم عرَّفه اللهُ إيّاهم.
قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: وَلنُعامِلَنَّكم معامَلةَ المُخْتَبِر بأن نأمرَكم بالجهاد حَتَّى نَعْلَمَ العِلْم الذي هو عِلْم وجود، وبه يقع الجزاء وقد شرحنا هذا في العنكبوت «١».
قوله تعالى: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي: نُظْهِرها وَنكْشِفها باباء من يأبى القتال ولا يَصْبِر على الجهاد.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: «وَليَبْلُوَنَّكم» بالياء «حتى يَعْلَمَ» بالياء «ويبلو» بالياء فيهنّ. وقرأ معاذ القارئ، وأيوب السختياني: «أخياركم» بالياء جمع «خير».
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا... الآية، اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها في المُطْعِمِين يومَ بدر، قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في الحارث بن سويد، ووحوح الأنصاري، أسلما ثم ارتدّا، فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبى صاحبه أن يَرْجِع حتى مات، قاله السدي «٢». والثالث: أنها في اليهود، قاله مقاتل. والرابع: أنها في قريظة والنضير، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ اختلفوا في مُبْطِلها على أربعة أقوال: أحدها: المعاصي والكبائر، قاله الحسن. والثاني: الشَّكّ والنِّفاق، قاله عطاء. والثالث: الرِّياء والسُّمعة، قاله ابن السائب. والرابع: بالمَنّ.
(١٢٧٣) وذلك أن قوماً من الأعراب قَدِموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أتيناك طائعين، فلنا عليك حق، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «٣»، هذا قول مقاتل. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدُلُّ على أن كُلُّ مَنْ دخل في قُرْبَة لم يَجُزْ له الخُروج منها قبل إِتمامها، وهذا على ظاهره في الحج، فأما في الصلاة والصيام، فهو على سبيل الاستحباب «٤».
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٨]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم بالكذب.
__________
(١) العنكبوت: ٣.
(٢) عزاه المصنف للسدي، وهذا مرسل، فهو واه.
(٣) الحجرات: ١٧.
(٤) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» ٤/ ١٣٣: اختلف العلماء فيمن افتتح نافلة من صوم أو صلاة، ثم أراد تركها، قال الشافعي: له ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: ليس له ذلك لأنه إبطال لعمله الذي انعقد له، وقال الشافعي هو تطوّع فإلزامه إياه يخرجه عن الطواعية. قلنا: إنما يكون ذلك قبل الشروع في الفعل، فإذا شرع لزمه كالشروع في المعاملات. ولا تكون عبادة ببعض ركعة ولا ببعض يوم في صوم، فإذا قطع في بعض الركعة أو في بعض اليوم إن قال: إنه يعتد به فقد ناقض الإجماع، وإن قال: إنه ليس بشيء فقد نقض الإلزام.
وذلك مستقصى في مسائل الخلاف.
122
قوله تعالى: فَلا تَهِنُوا أي: فلا تَضْعُفوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إِلى السَّلْم» بفتح السين وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر السين، والمعنى: لا تدعوا الكفّار إلى الصّلح ابتداء. وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصّلح من المشركين، ودلالة على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يدخل مكة صلحاً، لأنه نهاه عن الصُّلح. قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي: أنتم أعزُّ منهم، والحُجَّة لكم، وآخِرُ الأمر لكم وإِن غَلَبوكم في بعض الأوقات وَاللَّهُ مَعَكُمْ بالعَوْن والنُّصرة وَلَنْ يَتِرَكُمْ قال ابن قتيبة: أي لن يَنْقُصَكم ولن يَظْلِمَكم، يقال: وتَرْتَني حَقِّي، أي: بَخسْتَنِيه. قال المفسرون: المعنى: لن يَنْقُصَكم من ثواب أعمالكم شيئا.
قوله تعالى: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي: لن يَسألَكُموها كُلَّها.
قوله تعالى: فَيُحْفِكُمْ قال الفراء: يُجْهِدكم. وقال ابن قتيبة: يُلِحّ عليكم بما يوجبه في أموالكم تَبْخَلُوا، يقال: أحْفاني بالمسألة وألحْف: إِذا ألحَّ. وقال السدي: إِن يسألْكم جميعَ ما في أيديكم تبخلوا. وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن يعمر: «ويُخْرَج» بياء مرفوعه وفتح الراء «أضغانُكم» بالرفع. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رزين، وعكرمة، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: «وتَخْرُج» بتاء مفتوحة ورفع الراء «أضغانُكم» بالرفع. وقرأ ابن مسعود، والوليد عن يعقوب: «ونُخْرِج» بنون مرفوعة وكسر الراء «أضغانَكم» بنصب النون، أي: يُظهر بُغضَكم وعداوتَكم لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم ولكنه فرض عليكم يسيراً. وفيمن يضاف إِليه هذا الإخراج وجهان:
أحدهما: إلى الله عزّ وجلّ. والثاني: البخل، حكاهما الفراء. وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وليس بصحيح لأنّا قد بيَّنّا أن معنى الآية: إن يسألْكم جميعَ أموالكم، والزكاة لا تنافي ذلك.
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني ما فرض عليكم في أموالكم فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بما فُرض عليه من الزكاة وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي: على نفسه بما ينفعٌها في الآخرة وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عنكم وعن أموالكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إليه وإلى ما عنده من الخير والرحمة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن طاعته يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أطوعُ له منكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بل خيراً منكم. وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال:
أحدها: أنهم العجم، قاله الحسن، وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال:
(١٢٧٤) لمّا نزلت: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ كان سلمان إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
عجزه صحيح، وتأويل الآية بأهل فارس لا يصح، فهو حديث ضعيف، فيه مسلم بن خالد الزنجي ضعيف أخرجه البغوي في «شرح السنة» ٣٨٩٥. وأخرجه الطبري ٣١٤٤٣ وابن حبان ٧١٢٣ وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» ١/ ٣ من طرق عن ابن وهب ثنا مسلم بن خالد به. وأخرجه الطبري ٣١٤٤٢ و ٣١٤٤ وأبو نعيم ١/ ٢ و ٣ من طرق عن مسلم بن خالد به. وأخرجه الترمذي ٣٢٦١ وأبو نعيم ١/ ٣ والواحدي ٤/ ١٣١ من
123
فقالوا: يا رسول الله، مَنْ هؤلاء الذين إذا تولَّينا استُبْدِِلوا بنا؟ فضرب رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يدَه على مَنْكِب سلمان، فقال: «هذا وقومُه، والذي نفسي بيده! لو أن الدِّين معلَّق بالثُّريَّا لتناوله رجال من فارس».
والثاني: فارس والروم، قاله عكرمة. والثالث: من يشاء من جميع الناس، قاله مجاهد. والرابع:
يأتي بخلق جديد غيركم. وهو معنى قول قتادة. والخامس: كندة والنخع، قاله ابن السائب. والسادس:
أهل اليمن، قاله راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، وشريح بن عبيد. والسابع: الأنصار، قاله مقاتل. والثامن: أنهم الملائكة، حكاه الزجاج وقال: فيه بُعْدٌ لأنه لا يقال للملائكة «قَوْمٌ» إِنما يقال ذلك للآدميين، قال: وقد قيل: إن تولَّى أهلُ مكَّة استَبْدَلَ اللهُ بهم أهلَ المدينة، وهذا معنى ما ذكَرْنا عن مقاتل.
طريقين عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن جعفر بن نجيع عن العلاء به وعبد الله بن جعفر، ضعيف متروك. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» ٦/ ٣٣٤ من طريق أبي الربيع سليمان بن داود الزهراني عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء به، والظاهر أنه منقطع بين إسماعيل وسليمان بدليل الواسطة بينهما. وأخرجه الترمذي ٣٢٦٠ من طريق عبد الرزاق عن شيخ من أهل المدينة عن العلاء به. قال الترمذي: هذا حديث غريب في إسناده مقال. قلت: هو ضعيف فيه من لم يسم، ولعل المراد إبراهيم المدني الآتي ذكره. وأخرجه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» ١/ ٣- ٤ من طريق عبد الله بن جعفر ومن طريق إبراهيم بن محمد المدني كلاهما عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وعبد الله بن جعفر ضعيف، والمدني أظنه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي ذاك المتروك المتهم. وعجزه دون ذكر الآية. أخرجه مسلم ٢٥٤٦ ح ٢٣٠ وأحمد ٢/ ٣٠٩ وأبو نعيم ١/ ٤ من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. ويشهد لعجزه حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري ٤٧٩٨ ومسلم ٢٥٤٦ ح ٢٣١ والنسائي في «فضائل الصحابة» ١٧٣ وأحمد ٢/ ٤١٧ وابن حبان ٧٣٠٨ من طرق عن عبد العزيز الدارودي به. ورواية البخاري لعبد العزيز إنما هي متابعة، فقد تابعه سليمان بن بلال، وأخرجه البخاري ٤٨٩٧ والترمذي ٣٣١٠ و ٣٩٣٣ من طريق ثور بن يزيد به. وأخرجه الترمذي ٣٢٦١ وابن حبان ٧١٢٣ والبيهقي في «الدلائل» ٦/ ٣٣٤ من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به.
ولفظ البخاري في الرواية ٤٨٩٨ «لناله رجال من هؤلاء». ولفظ البخاري في الرواية ٤٨٩٧ «عن أبي هريرة رضي عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزلت عليه سورة الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهم قال:
قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال- أو رجل- من هؤلاء»
. وانظر «فتح القدير» ٢٢٨١ بتخريجنا.
124
Icon