تفسير سورة الغاشية

زاد المسير
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الغاشية وهي مكية كلها بإجماعهم.

سورة الغاشية
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧)
قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ أي: قد أتاك، قال قطرب. وقال الزّجّاج: المعنى: هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك.
وفي «الغاشية» قولان: أحدهما: أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال، قاله ابن عباس، والضحاك، وابن قتيبة. والثاني: أنها النار تغشى وجوه الكفار، قاله سعيد بن جبير، والقرظي، ومقاتل.
قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ أي: ذليلة وفيها قولان: أحدهما: أنها وجوه اليهود والنصارى، قاله ابن عباس. والثاني: أنه جميع الكفار، قاله يحيى بن سلام.
قوله عزّ وجلّ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام، كعبدة الأوثان، وكفَّار أهل الكتاب، مثل الرهبان وغيرهم، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنهم الرهبان، وأصحاب الصوامع، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم. والثالث: عاملة ناصبة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال، لأنها لم تعمل لله في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار، وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن. وقال قتادة: تكبَّرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب. قال الضحاك: يُكلِّفون ارتقاء جبل من حديد في النار. وقال ابن السائب: يَخِرُّون على وجوههم. وقال مقاتل: عاملة في النار تأكل من النار، ناصبة للعذاب. والرابع: عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة، قاله عكرمة والسدي. والكلام هاهنا على الوجوه، والمراد أصحابها. وقد بينا معنى «النصب» في قوله عزّ وجلّ: لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ «١».
قوله عزّ وجلّ: تَصْلى ناراً حامِيَةً قرأ أهل البصرة وعاصم إلّا حفصا «تصلى» بضمّ التاء. والباقون
(١) الحجر: ٤٨.
بفتحها. قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي: متناهية في الحرارة. قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا.
قوله عزّ وجلّ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ فيه ستة أقوال: أحدها: أنه نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، وتسميه قريش «الشِّبْرِق» فإذا هاج سموه: ضريعاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة. والثاني: أنه شجر من نار، رواه الوالبي عن ابن عباس. والثالث: أنها الحجارة، قاله ابن جبير. والرابع: أنه السَّلَم، قاله أبو الجوزاء. والخامس: أنه في الدنيا: الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار، قاله ابن زيد. والسادس: أنه طعام يضرعون إلى الله تعالى منه، قاله ابن كيسان.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله تعالى: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وكُذِّبوا، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً، وحينئذ يسمَّى شِبْرِقاً، لا ضريعاً، فإذا يبس وسمّي ضريعاً لم يأكله شيء.
فإن قيل: إنه قد أخبر في هذه الآية: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وفي مكان آخر وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ «١» فكيف الجمع بينهما؟
فالجواب: أن النار دركات، وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طَعامُهُ الزَّقُّوم، ومنهم مَنْ طعامه غِسْلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم مَنْ شَرَابُهُ الصَّديد. قاله ابن قتيبة.
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ٨ الى ٢٦]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢)
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧)
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)
إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)
قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي: في نعمة وكرامة لِسَعْيِها في الدنيا راضِيَةٌ والمعنى: رضيت بثواب عملها فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قد فسرناه في «الحاقّة» «٢» لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورويس «لا يُسمع» بياء مضمومة. «لاغيةُ» بالرفع. وقرأ نافع كذلك إلا أنه بتاءٍ مضمومة، والباقون بتاءٍ مفتوحة، ونصب «لاغيةً» لا تسمع فيها كلمة لغو فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكلَّلة بالزبرجد، والدر، والياقوت، مرتفعة ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ عندهم. وقد ذكرنا «الأكواب» في الزخرف «٣» وَنَمارِقُ وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون.
قال الفراء: وسمعت بعض كلب تقول: نِمرِقة، بكسر النون والراء مَصْفُوفَةٌ بعضها إلى جنب بعض، والزرابي: الطنافس التي لها خمل رقيق مَبْثُوثَةٌ كثيرة. وقال ابن قتيبة: مبثوثة كثيرة مفرّقة. قال
(١) الحاقة: ٣٦.
(٢) الحاقة: ٢٢.
(٣) الزخرف: ٧١.
435
المفسّرون: لمّا نعت الله سبحانه وتعالى ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الكفر، فذكّرهم صنعه، فقال عزّ وجلّ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ.
(١٥٢٨) وقال قتادة: ذكر الله ارتفاع سُرُرِ الجنة، وفرشها، فقالوا: كيف نصعدها، فنزلت هذه الآية. قال العلماء: وإنما خص الإبل من غيرها لأن العرب لم يَرَوْا بهيمة قَطُّ أعظمَ منها، ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم، ولأنها كانت أَنْفَسَ أموالهم وأكثرها، لا تفارقهم ولا يفارقونها، فيلاحظون فيها العِبَر الدَّالةَ على قدرة الخالق، من إخراج لبنها من بين فرث ودم وعجيب خَلْقِها، وهي على عِظَمها مُذلَّلة للحمل الثقيل، وتنقاد للصبي الصغير، وليس في ذوات الأربع ما يحمل عليه وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها. وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، والأصمعي عن أبي عمرو «الإبْل» بإسكان الباء وتخفيف اللام. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو المتوكل، والجحدري، وابن السميفع، ويونس بن حبيب وهارون كلاهما عن أبي عمرو «الإبِلِّ» بكسر الباء، وتشديد اللام. قال هارون: قال أبو عمرو «الإبِلُّ» بتشديد اللام: السّحاب الذي يحمل الماء.
قوله عزّ وجلّ: كَيْفَ خُلِقَتْ وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو عمران، وابن أبي عبلة «خَلَقْتُ» بفتح الخاء، وضم التاء. وكذلك قرءوا: «رفعت» و «نصبت» و «سطحت».
قوله عزّ وجلّ: وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ من الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عَمَدٍ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ على الأرض لا تزول ولا تتغير وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أي: بُسِطَتْ. والسطح: بسط الشيء، وكل ذلك يدل على خالقه فَذَكِّرْ أي: فعظ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي: واعظ، ولم يكن حينئذ أمر بغير التذكير، ويدل عليه قوله عزّ وجلّ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي: بمسلِّط، فتقتلهم وتكرههم على الإيمان. ثم نسختها آية السيف. وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة والحلواني عن ابن عامر «بمسيطر» بالسين. وقد سبق بيان «المسيطر» في قوله عزّ وجلّ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ «١».
قوله عزّ وجلّ: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى هذا استثناء منقطع معناه: لكن من تولى وَكَفَرَ بعد التذكير.
وقرأ ابن عباس، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وأبو مجلز، وقتادة، وسعيد بن جبير «ألا من تولّى» بفتح الهمزة وتخفيف اللام فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو أن يدخله جهنم، وذلك أنهم قد عُذِّبوا في الدنيا بالجوع، والقتل، والأسر، فكان عذاب جهنم هو الأكبر إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعائشة، وعبد الرحمن، وأبو جعفر «إيَّابهم» بتشديد الياء، أي: رجوعهم ومصيرهم بعد الموت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ قال مقاتل: أي: جزاءهم.
أخرجه الطبري ٣٧٠٤٣ عن قتادة قوله، فهو ضعيف.
__________
(١) الطور: ٣٧.
436
Icon