هي ست وعشرون آية، وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الغاشية بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وقد تقدم حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يقرأ ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾، والغاشية في صلاة العيد، ويوم الجمعة ».
ﰡ
هي ست وعشرون آية، وهي مكية بلا خلاف، أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْغَاشِيَةِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَقْرَأُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالْغَاشِيَةَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١ الى ٢٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى نَارًا حامِيَةً (٤)تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤)
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)
قَوْلُهُ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَلْ هُنَا بِمَعْنَى قَدْ، وَبِهِ قَالَ قُطْرُبٌ، أَيْ: قَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وَهِيَ الْقِيَامَةُ لِأَنَّهَا تَغْشَى الْخَلَائِقَ بِأَهْوَالِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ بَقَاءَ هَلْ هُنَا عَلَى مَعْنَاهَا الِاسْتِفْهَامِيِّ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّعْجِيبِ مِمَّا فِي خَبَرِهِ، وَالتَّشْوِيقِ إِلَى اسْتِمَاعِهِ أَوْلَى. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَاشِيَةِ هُنَا الْقِيَامَةُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْغَاشِيَةُ: النَّارُ تَغْشَى وُجُوهَ الْكُفَّارِ كَمَا في قوله: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ «١». وَقِيلَ: الْغَاشِيَةُ أَهْلُ النَّارِ لِأَنَّهُمْ يَغْشُونَهَا وَيَقْتَحِمُونَهَا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى إِنْ لَمْ يَكُنْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، فَقَدْ أَتَاكَ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هُوَ؟ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا نَحْوِيًّا لِبَيَانِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ كَوْنٍ ثُمَّ وُجُوهٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُتَّصِفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَوُجُوهٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً لِوُقُوعِهِ فِي مَقَامِ التَّفْصِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ، وَفِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ. وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: يَوْمَ غَشَيَانِ الْغَاشِيَةِ، وَالْخَاشِعَةُ: الذَّلِيلَةُ الْخَاضِعَةُ، وَكُلُّ مُتَضَائِلٍ سَاكِنٍ يُقَالُ لَهُ خَاشِعٌ، يُقَالُ: خَشَعَ الصَّوْتُ إِذَا خَفِيَ، وَخَشَعَ فِي صِلَاتِهِ إِذَا تَذَلَّلَ وَنَكَّسَ رَأْسَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ هنا أصحابها.
قَدْ عَمِلَ يَعْمَلُ عَمَلًا. قِيلَ: وَهَذَا الْعَمَلُ هُوَ جَرُّ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالْخَوْضُ فِي النَّارِ. ناصِبَةٌ أَيْ:
تَعِبَةٌ، يُقَالُ: نَصِبَ بِالْكَسْرِ يَنْصَبُ نَصَبًا إِذَا تَعِبَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ تَعِبَةٌ لِمَا تُلَاقِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: عامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا إِذْ لَا عَمَلَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: تَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَتَنْصَبُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا نَاصِبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ قَتَادَةُ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَكَبَّرَتْ فِي الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَأَعْمَلَهَا اللَّهُ، وَأَنْصَبَهَا فِي النَّارِ بِجَرِّ السَّلَاسِلِ الثِّقَالِ وَحَمْلِ الْأَغْلَالِ وَالْوُقُوفِ حُفَاةً عُرَاةً فِي الْعَرَصَاتِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «١» قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمْ تَعْمَلْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ تَنْصَبْ فَأَعْمَلَهَا وَأَنْصَبَهَا فِي جَهَنَّمَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ. وَقَالَ أَيْضًا:
يُكَلَّفُونَ ارْتِقَاءَ جَبَلٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي جَهَنَّمَ، فَيَنْصَبُونَ فِيهَا أَشَدَّ مَا يَكُونُ مِنَ النَّصَبِ بِمُعَالَجَةِ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ والخوض في النار كما تخوض فِي الْوَحْلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ آخَرَانِ لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، وَهُمَا خَبَرَانِ لَهُ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصَنٍ وَعِيسَى وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِنَصْبِهِمَا عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى الذَّمِّ. وَقَوْلُهُ: تَصْلى نَارًا حامِيَةً خَبَرٌ آخَرُ لِلْمُبْتَدَأِ، أَيْ: تَدْخُلُ نَارًا مُتَنَاهِيَةً فِي الْحَرِّ، يُقَالُ: حَمِيَ النَّهَارُ وَحَمِيَ التَّنُّورُ، أَيِ: اشْتَدَّ حَرُّهُمَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ: اشْتَدَّ حَمْيُ النَّهَارِ وَحَمْوُهُ بِمَعْنًى.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَصْلَى» بِفَتْحِ التَّاءِ مبنيا للفاعل. وقرأ أبو عمرة ويعقوب وأبو بكر بضمها مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْوُجُوهِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ، وَالْمُرَادُ أَصْحَابُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَكَذَا الضَّمِيرُ تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ وَالْمُرَادُ بِالْعَيْنِ الْآنِيَةِ: الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الْحَرِّ، وَالْآنِيُّ: الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، مِنَ الْإِينَاءِ «٢» بِمَعْنَى التَّأَخُّرِ، يُقَالُ: آنَاهُ يُؤْنِيهَ إِينَاءً، أَيْ: أَخَّرَهُ وَحَبَسَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «٣» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَوْ وَقَعَتْ مِنْهَا نقطة عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شَرَابَهُمْ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ طَعَامِهِمْ فَقَالَ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ
هُوَ نَوْعٌ مِنَ الشَّوْكِ يُقَالُ لَهُ الشِّبْرِقُ فِي لِسَانِ قُرَيْشٍ إِذَا كَانَ رَطْبًا، فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ الضَّرِيعُ. كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قِيلَ: وَهُوَ سُمٌّ قَاتِلٌ، وَإِذَا يَبِسَ لَا تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ وَلَا تَرْعَاهُ، وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ يَرْمِي بِهِ الْبَحْرُ يُسَمَّى الضَّرِيعَ مِنْ أَقْوَاتِ الْأَنْعَامِ، لَا مِنْ أَقْوَاتِ النَّاسِ، فَإِذَا رَعَتْ مِنْهُ الْإِبِلُ لَمْ تَشْبَعْ وَهَلَكَتْ هُزَالًا.
قَالَ الْخَلِيلُ: الضَّرِيعُ نَبَاتٌ أَخْضَرُ مُنْتِنُ الرِّيحِ يَرْمِي بِهِ الْبَحْرُ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالُوا: بالأوّل،
(٢). الصواب أن يقول: من: أنى يأني، كرمى يرمي. وليس من الإيناء مصدر آنى بمعنى آخر.
(٣). الرّحمن: ٤٤.
رَعَى الشِّبْرَقَ الرَّيَّانَ حَتَّى إِذَا ذَوَى | وَعَادَ ضَرِيعًا بَانَ عَنْهُ النّحائص «١» |
وحبسن في هزم الضّريع فكلّها | حدباء دامية اليدين حرود «٢» |
هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ- وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ «٣» وَالْغِسْلِينُ غَيْرُ الضَّرِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِأَنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الضَّرِيعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الْغِسْلِينُ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ الضَّرِيعَ فَقَالَ: لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أَيْ: لَا يُسْمِنُ الضَّرِيعُ آكِلَهُ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ مَا بِهِ مِنَ الْجُوعِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ إِبِلَنَا تَسْمَنُ مِنَ الضَّرِيعِ، فَنَزَلَتْ: لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَكَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ هَذَا، فَإِنَّ الْإِبِلَ لَا تَأْكُلُ الضَّرِيعَ وَلَا تَقْرَبُهُ. وَقِيلَ: اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ فَظَنُّوهُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّبَاتِ النَّافِعِ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ بَيَانِ حَالِ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أَيْ: ذَاتُ نِعْمَةٍ وَبَهْجَةٍ، وَهِيَ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ صَارَتْ وُجُوهُهُمْ نَاعِمَةً لِمَا شَاهَدُوا مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يَفُوقُ الْوَصْفَ، وَمِثْلُهُ قوله: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «٤» ثُمَّ قَالَ: لِسَعْيِها راضِيَةٌ أَيْ: لِعَمَلِهَا الَّذِي عَمِلَتْهُ فِي الدُّنْيَا رَاضِيَةٌ لِأَنَّهَا قَدْ أُعْطِيَتْ مِنَ الْأَجْرِ مَا أَرْضَاهَا وَقَرَّتْ بِهِ عُيُونُهَا، وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ هُنَا أَصْحَابُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أَيْ عَالِيَةِ الْمَكَانِ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى غيرها من الأمكنة، أو عالية لِأَنَّ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَسْمَعُ بِفَتْحٍ الْفَوْقِيَّةِ وَنَصْبِ لَاغِيَةً، أَيْ: لَا تَسْمَعُ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ، أَوْ لَا تَسْمَعُ تِلْكَ الْوُجُوهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ لَاغِيَةٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِالْفَوْقِيَّةِ مَضْمُومَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ لَاغِيَةٍ. وَقَرَأَ الْفَضْلُ وَالْجَحْدَرِيُّ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ لَاغِيَةٍ، وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ السَّاقِطُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: أَيْ لَا تَسْمَعُ فِيهَا كَلِمَةَ لَغْوٍ.
(٢). «هزيم الضريع» : ما تكسر منه. «الحدباء» : الناقة التي بدت حراقفها وعظم ظهرها. «الحرود» : التي لا تكاد تدرّ.
(٣). الحاقة: ٣٥- ٣٦.
(٤). المطففين: ٢٤.
وَإِنَّا لَنُجْرِي الْكَأْسَ بَيْنَ شَرُوبِنَا | وَبَيْنَ أَبِي قَابُوسَ فَوْقَ النَّمَارِقِ |
كُهُولٌ وَشُبَّانٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ | عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَنَمَارِقِ |
كَثِيرَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْبَثِّ: التَّفَرُّقُ مَعَ كَثْرَةٍ، وَمِنْهُ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ «٢». أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِمَّا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهَا، وَكَيْفَ مَنْصُوبَةٌ بِمَا بَعْدَهَا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْمَعْنَى: أَيُنْكِرُونَ أَمْرَ الْبَعْثِ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ الَّتِي هِيَ غَالِبُ مَوَاشِيهِمْ وَأَكْبَرُ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَيْفَ خُلِقَتْ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ مِنْ عِظَمِ جُثَّتِهَا وَمَزِيدِ قُوَّتِهَا وَبَدِيعِ أَوْصَافِهَا. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: إِنَّمَا خَصَّ الْإِبِلَ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ تَبْرَكُ فَتُحْمَلُ عَلَيْهَا الْحُمُولَةُ، وَغَيْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ: قال الزّجّاج:
(٢). البقرة: ١٦٤.
وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ لَهُ: الْفِيلُ أَعْظَمُ فِي الْأُعْجُوبَةِ، فَقَالَ: أَمَّا الْفِيلُ فَالْعَرَبُ بَعِيدَةُ الْعَهْدِ بِهِ، ثُمَّ هُوَ خِنْزِيرٌ لَا يُرْكَبُ ظَهْرُهُ وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَا يُحْلَبُ دَرُّهُ، وَالْإِبِلُ مِنْ أَعَزِّ مَالِ الْعَرَبِ وَأَنْفَسِهِ، تَأْكُلُ النَّوَى وَالْقَتَّ، وَتُخْرِجُ اللَّبَنَ، وَيَأْخُذُ الصَّبِيُّ بِزِمَامِهَا فَيَذْهَبُ بِهَا حَيْثُ شَاءَ مَعَ عِظَمِهَا فِي نَفْسِهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ:
الْإِبِلُ هُنَا هِيَ الْقِطَعُ الْعَظِيمَةُ مِنَ السَّحَابِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَ خُلِقَتْ بِالتَّخْفِيفِ عَنَى بِهِ الْبَعِيرَ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ عَنَى بِهِ السَّحَابَ. وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ أَيْ: رُفِعَتْ فَوْقَ الْأَرْضِ بِلَا عَمَدٍ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنَالُهُ الْفَهْمُ وَلَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ، وَقِيلَ: رُفِعَتْ فَلَا يَنَالُهَا شَيْءٌ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ عَلَى الْأَرْضِ مُرْسَاةً رَاسِخَةً لَا تميد وَلَا تَزُولُ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أَيْ: بُسِطَتْ، وَالسَّطْحُ: بَسْطُ الشَّيْءِ، يُقَالُ: لِظَهْرِ الْبَيْتِ إِذَا كَانَ مُسْتَوِيًا: سَطْحٌ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: سُطِحَتْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ عليّ بن أبي طالب وابن السّميقع وَأَبُو الْعَالِيَةِ: خَلَقْتُ وَرَفَعْتُ وَنَصَبْتُ وَسَطَحْتُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَضَمِّ التَّاءِ فِيهَا كُلِّهَا. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّذْكِيرِ فَقَالَ: فَذَكِّرْ وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: فَعِظْهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَخَوِّفْهُمْ، ثُمَّ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّذْكِيرِ فَقَالَ: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا ذَلِكَ، ولَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ الْمُصَيْطِرُ وَالْمُسَيْطِرُ بِالسِّينِ وَالصَّادِ: الْمُسَلَّطُ عَلَى الشَّيْءِ لِيُشْرِفَ عَلَيْهِ وَيَتَعَهَّدَ أَحْوَالَهُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، أَيْ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ حَتَّى تُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ:
بِمُصَيْطِرٍ بِالصَّادِ، وَقَرَأَ هِشَامٌ وَقُنْبُلٌ فِي رِوَايَةٍ بِالسِّينِ. وَقَرَأَ خَلَفٌ بِإِشْمَامِ الصَّادِ زَايًا. وَقَرَأَ هَارُونُ الْأَعْوَرُ بِفَتْحِ الطَّاءِ اسْمَ مَفْعُولٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ الدَّائِمُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَذَكِّرْ أَيْ: فَذَكِّرْ كُلَّ أَحَدٍ إِلَّا مَنِ انْقَطَعَ طَمَعُكَ عَنْ إِيمَانِهِ وَتَوَلَّى فَاسْتَحَقَّ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَإِنَّمَا قَالَ:
الْأَكْبَرَ لِأَنَّهُمْ قَدْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «فَإِنَّهُ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: «أَلَا مَنْ تَوَلَّى» عَلَى أَنَّهَا أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ وَالِاسْتِفْتَاحِ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أَيْ: رُجُوعَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، يُقَالُ آبَ يَؤُوبُ: إِذَا رَجَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عبيد بن الأبرص:
وكلّ ذي غيبة يؤوب... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَؤُوبُ
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِيابَهُمْ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ التَّشْدِيدُ وَلَوْ جَازَ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَمَّا إِيابَهُمْ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ فَإِنَّهُ شَاذٌّ لَمْ يُجِزْهُ أَحَدٌ غَيْرُ الزَّجَّاجِ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ يَعْنِي جَزَاءَهُمْ بعد رجوعهم إلى الله بالبعث، و «ثم» لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ لِبُعْدِ مَنْزِلَةِ الْحِسَابِ فِي الشِّدَّةِ عَنْ مَنْزِلَةِ الْإِيَابِ.
يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَخْشَعُ وَلَا يَنْفَعُهَا عَمَلُهَا تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ قَالَ: قَدْ أَنَى غَلَيَانُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: تَصْلى نَارًا حامِيَةً
قَالَ: حَارَّةٌ، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ قَالَ: انْتَهَى حَرُّهَا لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ يَقُولُ: مِنْ شَجَرٍ مِنْ نَارٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قَالَ: الشِّبْرِقُ الْيَابِسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً يقول: لا تسمع أذى ولا باطل وَفِي قَوْلِهِ: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ قَالَ: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَنَمارِقُ قَالَ: مَجَالِسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَنَمارِقُ قَالَ: الْمَرَافِقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ قَالَ: جَبَّارٌ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ قَالَ:
حِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنْهُ أَيْضًا لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «١». وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ قال: مرجعهم
رعى الشبرق الرّيان حتى إذا ذوى | وعاد ضريعاً بان عنه التحايص |
وحبسن في هرم الضريع وكلها | قرناء دامية اليدين جرود |
وإنا لنجري الكأس بين شروبنا | وبين أبي قابوس فوق النمارق |
كهول وشبان حسان وجوههم | على سرر مصفوفة ونمارق |
وكلّ ذي غيبة يتوب *** وغائب الموت لا يؤوب
قرأ الجمهور ﴿ إِيَابَهُمْ ﴾ بالتخفيف. وقرأ أبو جعفر وشيبة بالتشديد. قال أبو حاتم : لا يجوز التشديد ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام. وقيل : هما لغتان بمعنى. قال الواحدي : وأما «إيابهم » بتشديد الياء فإنه شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج.