تفسير سورة محمد

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة محمد من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- ١ - الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
- ٢ - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
- ٣ - ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أَيْ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴿وَصَدُّواْ﴾ غَيْرَهُمْ ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أَيْ أبطلها وأذهبها، ولم يجعل لها ثواباً ولا جزاء، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً منثوراً﴾، ثم قال جلَّ وعلا ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وسرائرهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم وبواطنهم، ﴿وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ حَسَنَةٌ، ولهذا قال جلَّ جلاله: ﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ أَمْرَهُمْ؛ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَأْنَهُمْ، وَقَالَ قتادة: حالهم، والكل متقارب، وفي حَدِيثِ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ «يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ»، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ﴾ أَيْ إِنَّمَا أَبْطَلْنَا أَعْمَالَ الْكُفَّارِ، وَتَجَاوَزْنَا عَنْ سَيِّئَاتِ الأبرار، وأصلحنا شؤونهم؛ لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ، أَيِ اخْتَارُوا الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾ أَيْ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَآلَ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا يصيرون إليه في معادهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
- ٤ - فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
- ٥ - سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
- ٦ - وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
- ٧ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
329
آمَنُوا إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
- ٨ - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
- ٩ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
يَقُولُ تَعَالَى مُرْشِدًا لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حُرُوبِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ أَيْ إِذَا وَاجَهْتُمُوهُمْ فَاحْصُدُوهُمْ حصداً بالسيوف، ﴿حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ﴾ أي أهلكتموهم قتلاً، ﴿فَشُدُّواْ الوثاق﴾ الْأُسَارَى الَّذِينَ تَأْسِرُونَهُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ المعركة مخيرون في أمرهم، إن شئتم منتم عَلَيْهِمْ فَأَطْلَقْتُمْ أُسَارَاهُمْ مَجَّانًا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ بمال تأخذونه منهم، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بدر، فإن الله سبحانه وتعالى عَاتَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْأُسَارَى يومئذٍ ليأخذوا منهم الفداء فَقَالَ: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض﴾، ثُمَّ قد ادعى بعض العلماء أن الآية مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ الآية، روي عن ابن عباس والضحاك والسدي. وقال الأكثرون: ليست بمنسوخة، والإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته، وله أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ شَاءَ لِحَدِيثِ قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ) و (عقبة بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ) مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَالَ الشافعي رحمه الله: الْإِمَامُ مخيَّر بَيْنَ قَتْلِهِ أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ أو مفادته أو استرقاقه، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال». وَهَذَا يُقَوِّي الْقَوْلَ بِعَدَمِ النَّسْخِ، كَأَنَّهُ شَرَّعَ هذا الحكم في الحرب إلى أن يبقى لا حَرْبٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا أَيْ أَوْزَارَ الْمُحَارِبِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِأَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقِيلَ: أَوْزَارُ أَهْلِهَا بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ﴾ أَيْ هَذَا وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَانْتَقَمَ مِنَ الْكَافِرِينَ بعقوبة ونكال من عنده ﴿ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ أَيْ وَلَكِنْ شَرَعَ لَكُمُ الْجِهَادَ وَقِتَالَ الْأَعْدَاءِ، لِيَخْتَبِرَكُمْ وَيَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ، كَمَا ذَكَرَ حكمته في شرعية الجهاد في قوله تَعَالَى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مؤمنين﴾، ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْقِتَالِ أَنْ يُقْتَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أَيْ لَنْ يُذْهِبَهَا بَلْ يُكَثِّرُهَا وَيُنَمِّيهَا وَيُضَاعِفُهَا، وَمِنْهُمْ من يجري عليه عمله طول برزخه، كما ورد بذلك الحديث عن المقدام بن معد يكرب الكِنْدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتَّ خِصَالٍ: أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أول دفقة مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارَ عذاب القبر، ويأمن الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ مرصع بالدر والياقوت، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ويزوج اثنتين وسبعين مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا من أقاربه" (أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
330
بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ شيء إلا الدين» (أخرجه مسلم في صحيحه). وفي الصحيح: «يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» (أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء مرفوعاً)، وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الشَّهِيدِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ تبارك وتعالى: ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾ أي إلى الجنة ﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ أَيْ أَمْرَهُمْ وَحَالَهُمْ، ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ أَيْ عَرَّفَهُمْ بِهَا وَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَهْتَدِي أَهْلُهَا إِلَى بُيُوتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، وَحَيْثُ قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْهَا، لَا يُخْطِئُونَ كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يَعْرِفُونَ بُيُوتَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ كَمَا تَعْرِفُونَ بُيُوتَكُمْ إِذَا انْصَرَفْتُمْ من الجمعة، وقال مقاتل: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي كَانَ وُكِّلَ بِحِفْظِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْجَنَّةِ، وَيَتْبَعُهُ ابْنُ آدَمَ حَتَّى يَأْتِيَ أَقْصَى مَنْزِلٍ هُوَ
لَهُ فَيُعَرِّفُهُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَاهُ الله تعالى فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَقْصَى مَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ دَخَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَانْصَرَفَ الملك عنه، وقد ورد في الحديث الصحيح بذلك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن رسول الله ﷺ قَالَ: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاضون مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا ذهبوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَهْدَى مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا» (أخرجه البخاري في صحيحه)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، كَقَوْلِهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن ينصره﴾ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: ﴿وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ بَلَّغَ ذَا سُلْطَانٍ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبلاغها، ثبَّت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة»، ثم قال تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ﴾ عَكْسُ تَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ للمؤمنين. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ القطيفة، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ» أَيْ فلا شفاه الله عزَّ وجلَّ، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أَيْ أَحْبَطَهَا وَأَبْطَلَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ أَيْ لَا يُرِيدُونَهُ وَلَا يُحِبُّونَهُ ﴿فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾.
331
- ١٠ - أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
- ١١ - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ
- ١٢ - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ
- ١٣ - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ﴾ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْمُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ ﴿فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ أي عاقبتهم بِتَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ أَيْ ونَّجى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِ أظهرهم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ﴾، ولهذا لما قال
331
أبو سفيان رئيس المشركين يوم أُحُد: اعلُ هُبَل، اعلُ هُبَل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا تجيبوه؟» فقالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا: «اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ»، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تُجِيبُوهُ؟»، قَالُوا: وَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ"، ثُمَّ قَالَ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾ أَيْ فِي دُنْيَاهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا وَيَأْكُلُونَ منها كأكل الأنعام، خضماً وقضماً ليس لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعَى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»، ثُمَّ قَالَ تعالى: ﴿وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ أَيْ يَوْمَ جَزَائِهِمْ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾ يَعْنِي مَكَّةَ ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ﴾، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، فِي تَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ الرسل وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ قد أهلك الذين كذبوا الرسل قبله، فما ظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الدنيا والأُخرى؟ وقوله تعالى: ﴿مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾ أَيِ الَّذِينَ أَخْرَجُوكَ من بين أظهرهم، روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مكة إلى الغار وأتاه، فالتفت إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ: «أَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَيَّ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك» (أخرجه ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما). فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى فِي حَرَمِهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قتل بذُحول الجاهلية، فأنزل اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ﴾.
332
- ١٤ - أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
- ١٥ - مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أمعاءهم
يقول تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ أَيْ عَلَى بَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَدِينِهِ، بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، وَبِمَا جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، ﴿كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾
؟ أي ليس هذا كهذا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى﴾؟ ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ قَالَ عِكْرِمَةُ ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ أَيْ نَعْتُهَا، ﴿فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ يعني غير متغير، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَسِنَ الماءُ إِذَا تَغَيَّرَ رِيحُهُ، وفي حديث مرفوع ﴿غَيْرِ آسِنٍ﴾ يَعْنِي الصَّافِي الَّذِي لَا كَدَرَ فيه، وقال عبد الله رضي الله عنه: أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تُفَجَّرُ مِنْ جَبَلٍ مِنْ مِسْكٍ ﴿وَأَنْهَارٌ مِّن لبن لم يتغير طَعْمُهُ﴾ بَلْ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالْحَلَاوَةِ وَالدُّسُومَةِ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: «لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ضُرُوعِ الْمَاشِيَةِ»، ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ أَيْ لَيْسَتْ كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة، ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ ﴿لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ولا ينزفون﴾، وفي حديث مرفوع: «لم يعصرها الرجال بأقدامهم» ﴿وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ أَيْ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصَّفَاءِ وَحُسْنِ اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرِّيحِ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: «لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ». روى الإمام
332
أحمد عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ اللَّبَنِ وَبَحْرُ الْمَاءِ، وَبَحْرُ الْعَسَلِ وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الْأَنْهَارُ منها بعد» (أخرجه أحمد، ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح). وفي الصحيح: «إذا سألتم الله تعالى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ»، وقال الحافظ الطبراني عن عاصم أن لقيط ابن عَامِرٍ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله فعلى ما نطلع من الجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «على أنهار من عَسَلٍ مُصَفًّى، وَأَنْهَارٍ مِنْ خَمْرٍ مَا بِهَا صداع ولا ندامة، زأنهار مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَفَاكِهَةٍ لَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَعْلَمُونَ، وَخَيْرٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَأَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أوَ لنا فِيهَا أَزْوَاجٌ مُصْلِحَاتٌ؟ قَالَ: «الصَّالِحَاتُ لِلصَّالِحِينَ تَلَذُّونَهُنَّ مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير أن لا توالد». وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي أُخْدُودٍ فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَتَجْرِي سَائِحَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حَافَّاتُهَا قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ، وَطِينُهَا المسك الأذفر (أخرجه ابن أبي الدنيا موقوفاً، ورواه ابن مردويه مرفوعاً).
وقوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات﴾ كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يدعون فيها بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ أَيْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿كَمَنْ هُوَ خالد فِي النار؟﴾ أي هؤلاء الَّذِينَ ذَكَرْنَا مَنْزِلَتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، كَمَنْ هُوَ خالد في النار؟ ليس هؤلاء كهؤلاء، وليس مَنْ هُوَ فِي الدَّرَجَاتِ كَمَنْ هُوَ فِي الدَّرَكَاتِ، ﴿وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً﴾ أَيْ حَارًّا شَدِيدَ الْحَرِّ لَا يُسْتَطَاعُ، ﴿فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ﴾ أَيْ قَطَّعَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الْأَمْعَاءِ وَالْأَحْشَاءِ، عِيَاذًا بالله تعالى من ذلك.
333
- ١٦ - وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
- ١٧ - وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
- ١٨ - فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ
- ١٩ - فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي بَلَادَتِهِمْ وَقِلَّةِ فَهْمِهِمْ، حَيْثُ كَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ويستمعون كلامه فلا يَفْهَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ ﴿قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم﴾ مِن الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ ﴿مَاذَا قَالَ آنِفاً﴾؟ أَيِ السَّاعَةَ لَا يَعْقِلُونَ ما قال، وَلَا يَكْتَرِثُونَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ أَيْ فَلَا فَهْمٌ صَحِيحٌ وَلَا قَصْدٌ صَحِيحٌ، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ أَيْ وَالَّذِينَ قَصَدُوا الهداية، وفقهم الله تعالى لَهَا، فَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا وَثَبَّتَهُمْ عَلَيْهَا وَزَادَهُمْ مِنْهَا، ﴿وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ أي ألهمهم رشدهم. وقوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾؟ أَيْ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْهَا ﴿فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا﴾ أي أمارات اقترابها، كقوله تعالى: ﴿أزفت الأزفة﴾، وكقوله جلت عظمته: {اقتربت الساعة
333
وانشق القمر}، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾. فَبِعْثَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لِأَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ، الَّذِي أكمل الله تعالى بِهِ الدِّينَ، وَأَقَامَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وقد أُخبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمارات الساعة وأشراطها وهو عليه السلام الحاشر الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَالْعَاقِبُ الَّذِي ليس بعده نبي، روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بِأُصْبُعَيْهِ - هَكَذَا بِالْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا - «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ». ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾؟ أَيْ فَكَيْفَ لِلْكَافِرِينَ بِالتَّذَكُّرِ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْقِيَامَةُ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذكرى﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فاعلم أَنَّهُ لاَ إلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ هَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَا إله إلا الله، ولهذا عطف عليه قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمْ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي»، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمْ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»، وعنه ﷺ أنه قال: "وعليكم بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثِرُوا مِنْهُمَا، فإن إبليس قال: إنما أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ، وَأَهْلَكُونِي بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْأَهْوَاءِ، فهم يحسبون أنهم مهتدون" (أخرجه الحافظ أبو يعلى)، وَفِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ: "قَالَ إِبْلِيسُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي"، وَالْأَحَادِيثُ فِي فضل الاستغفار كثيرة جداً، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ أَيْ يَعْلَمُ تَصَرُّفَكُمْ في نهاركم، ومستقركم في ليلكم، كقوله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار﴾، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مبين﴾ وهذا القول هو اختيار ابن جرير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿متقلبكم﴾ في الدنيا و ﴿مثواكم﴾ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَمَثْوَاكُمْ فِي قُبُورِكُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أعلم.
334
- ٢٠ - وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ
- ٢١ - طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
- ٢٢ - فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
- ٢٣ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا شَرْعِيَّةَ الْجِهَادِ، فَلَمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ وَأَمَرَ بِهِ، نَكَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كقوله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
334
وَقَالُواْ ربنا لما كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}؟ قال عزَّ وجلَّ ههنا: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ﴾ أَيْ مشتملة على القتال ﴿فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ أَيْ مِنْ فَزَعِهِمْ وَرُعْبِهِمْ وَجُبْنِهِمْ مِنْ لِقَاءِ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ قال مشجعاًلهم: ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾ أَيْ وَكَانَ لهم الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا، أَيْ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾ أَيْ جَدَّ الْحَالُ، وَحَضَرَ الْقِتَالُ ﴿فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ﴾ أَيْ أَخْلَصُوا لَهُ النِّيَّةَ ﴿لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أَيْ عَنِ الْجِهَادِ وَنَكَلْتُمْ عَنْهُ ﴿أَن تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾؟ أَيْ تَعُودُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ، تَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَتُقَطِّعُونَ الْأَرْحَامَ، ولهذا قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ عُمُومًا، وعن قطع الأرحام خصوصاً، بل أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ وَصِلَةِ الأرحام، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، روى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خلق الله تعالى الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بحقوي الرَّحْمَنِ عزَّ وجلَّ، فَقَالَ: مَهْ، فَقَالَتْ: هَذَا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: إِلاَّ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكَ، وَأَقْطَعَ من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاك لك" قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ﴾. وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أحرى أن يعجل الله تعالى عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة). وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ذَوِي أَرْحَامٍ: أَصِلُ وَيَقْطَعُونَ، وَأَعْفُو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفأكافئهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لَا، إِذَنْ تُتْرَكُونَ جَمِيعًا، ولكنْ جُدْ بِالْفَضْلِ وَصِلْهُمْ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ ظَهِيرٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ مَا كُنْتَ عَلَى ذَلِكَ» (أخرجه الإمام أحمد). وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، وَلَيْسَ الواصل بالمكافىء، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» (أخرجه البخاري والإمام أحمد)، وفي الحديث القدسي: «قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أَنَا الرَّحْمَنُ خلقتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ يَصِلْهَا أَصِلْهُ، وَمَنْ يَقْطَعْهَا أقطعه فأبُّته» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وما تناكر منها اختلف» وفي الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ وَخُزِّنَ الْعَمَلُ وَائْتَلَفَتِ الْأَلْسِنَةُ وَتَبَاغَضَتِ الْقُلُوبُ، وَقَطَعَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ رَحِمَهُ، فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم» (أخرجه الإمام أحمد)، والأحاديث في هذا كثيرة، والله أعلم.
335
- ٢٤ - أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا
- ٢٥ - إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
335
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
- ٢٦ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ
- ٢٧ - فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
- ٢٨ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
يقول تعالى آمراً بتدبير الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ، وَنَاهِيًا عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ فَقَالَ: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ أَيْ بَلْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، فَهِيَ مُطْبَقَةٌ لا يخلص إليها شيء من معانيه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ﴾ أَيْ فَارَقُوا الْإِيمَانَ وَرَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾ أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وحسَّنه ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ أي أغرهم وَخَدَعَهُمْ، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ﴾ أَيْ مالأوهم وناصحوهم عَلَى الْبَاطِلِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ أي مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُخْفُونَ، اللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، عالم به، كقوله تبارك وتعالى: ﴿والله يَكْتُبُ مَا يبيتون﴾، ثم قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ أَيْ كَيْفَ حَالُهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِقَبْضِ أرواحهم، وتعاصت الْأَرْوَاحُ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَاسْتَخْرَجَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْعُنْفِ وَالْقَهْرِ والضرب، كما قال سُبْحَانَهُ وتعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ الآية، وقال تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ بِالضَّرْبِ ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تستكبرون﴾، ولهذا قال ههنا: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾.
336
- ٢٩ - أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
- ٣٠ - وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
- ٣١ - وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ والصابرين ونبلوا أَخْبَارَكُمْ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾؟ أي أيعتقد الْمُنَافِقُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْشِفُ أَمْرَهُمْ لِعِبَادِهِ المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمه ذوو البصائر، وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة فبين فيها فضائحهم، ولهذا كَانَتْ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ، وَالْأَضْغَانُ جَمْعُ ضِغْنٍ وَهُوَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ لِلْإِسْلَامِ وأهله والقائمين بنصره، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم﴾، يقول الله عزَّ وجلَّ: وَلَوْ نَشَاءُ يَا مُحَمَّدُ لَأَرَيْنَاكَ أَشْخَاصَهُمْ فَعَرَفْتَهُمْ عِيَانًا، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ تَعَالَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، سِتْرًا مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَحَمْلًا للأمور على ظاهر السلامة، ورداً للسرئر إِلَى عَالِمِهَا ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ أَيْ فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامِهِمُ الدَّالِّ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ، يَفْهَمُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَيِّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ بِمَعَانِي كَلَامِهِ وَفَحْوَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَحْنِ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ
336
وَجْهِهِ، وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا أَسَرَّ أحد سريرة إلا كساه الله تعالى جِلْبَابَهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ»، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ تَعْيِينُ جَمَاعَةٍ مِنَ المنافقين، قال عقبة بن عمرو رضي الله عنه: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة فحمد الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مِنْكُمْ مُنَافِقِينَ فَمَنْ سَمَّيْتُ فَلْيَقُمْ - ثُمَّ قَالَ - قُمْ يَا فُلَانُ، قُمْ يَا فُلَانُ، قُمْ يَا فُلَانُ، حَتَّى سَمَّى سِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا. ثُمَّ قَالَ: - إن فيكم أو منكم - منافقين فاتقوا الله"، قال فمرّ عمر رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنع كَانَ يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَحَدَّثَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: بعداً لك سائر اليوم (أخرجه الإمام أحمد). وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ أي لنختبرنكم بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ﴾، وَلَيْسَ فِي تَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بما هو كائن شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ، فَالْمُرَادُ حَتَّى نَعْلَمَ وُقُوعَهُ، وَلِهَذَا يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مِثْلِ هَذَا: إلاّ نعلم، أي لنرى.
337
- ٣٢ - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ
- ٣٣ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ
- ٣٤ - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
- ٣٥ - فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ كَفَرَ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ، وَخَالَفَ الرَّسُولَ وَشَاقَّهُ، وَارْتَدَّ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، أَنَّهُ لَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَيَخْسَرُهَا يَوْمَ مَعَادِهَا، وَسَيُحْبِطُ اللَّهُ عَمَلَهُ، فَلَا يُثِيبُهُ عَلَى سَالِفِ مَا تقدم من عمله مِثْقَالَ بَعُوضَةٍ مِنْ خَيْرٍ، بَلْ يُحْبِطُهُ وَيَمْحَقُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ قال أبو العالية: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يرون أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ذَنْبٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ فَنَزَلَتْ: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ فَخَافُوا أَنْ يُبْطِلَ الذَّنْبُ الْعَمَلَ (أخرجه الإمام أحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة)، وعن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ إِلَّا مَقْبُولٌ، حَتَّى نَزَلَتْ: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ فَقُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ الموجبات الفواحش، حتى نزل قوله تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَفَفْنَا عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، فَكُنَّا نَخَافُ عَلَى مَنْ أَصَابَ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، ونرجو لمن لم يصبها، ثم أمر تبارك وتعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، الَّتِي هِيَ سَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِارْتِدَادِ الذي هو مبطل للأعمال، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ أَيْ بِالرِّدَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ الْآيَةَ، ثم قال جلَّ وعلا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: ﴿فَلاَ تَهِنُوا﴾ أَيْ لَا تَضْعُفُوا
337
عَنِ الْأَعْدَاءِ، ﴿وَتَدْعُوا
إِلَى السَّلْمِ﴾
أَيِ الْمُهَادَنَةِ وَالْمُسَالَمَةِ وَوَضْعِ الْقِتَالِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فِي حال قوتكم، ولهذا قال: ﴿وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ أَيْ فِي حَالِ عُلُوِّكُمْ عَلَى عَدُّوِكُمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ فِيهِمْ قُوَّةٌ وَكَثْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَرَأَى الْإِمَامُ في المهادنة والمعاهدة مَصْلَحَةً، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، كَمَا فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين صَدَّهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنْ مَكَّةَ وَدَعَوْهُ إِلَى الصُّلْحِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَشْرَ سِنِينَ، فأجابهم ﷺ إلى ذلك، وقوله جلت عظمته: ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ فِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ على الأعداء، ﴿وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ أي لن يُحْبِطَهَا وَيُبْطِلَهَا وَيَسْلُبَكُمْ إِيَّاهَا، بَلْ يُوَفِّيكُمْ ثَوَابَهَا ولا ينقصكم منها شيئاً، والله أعلم.
338
- ٣٦ - أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ
- ٣٧ - إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
- ٣٨ - هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَنْ يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم
يَقُولُ تَعَالَى تَحْقِيرًا لِأَمْرِ الدُّنْيَا وَتَهْوِينًا لِشَأْنِهَا ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لعبٌ وَلَهْوٌ﴾ أَيْ حَاصِلُهَا ذَلِكَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، ولهذا قال تعالى: ﴿وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ أي هوغني عَنْكُمْ لَا يَطْلُبُ مِنْكُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا فَرَضَ عَلَيْكُمُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ، مُوَاسَاةً لِإِخْوَانِكُمْ الْفُقَرَاءِ، لِيَعُودَ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، وَيَرْجِعَ ثَوَابُهُ إِلَيْكُمْ، ثم قال جلَّ جلاله: ﴿إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ﴾ أَيْ يُحْرِجُكُمْ تَبْخَلُوا ﴿وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تعالى أَنَّ فِي إِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ إِخْرَاجُ الْأَضْغَانِ، وَصَدَقَ قَتَادَةُ، فَإِنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ وَلَا يُصْرَفُ إِلَّا فِيمَا هُوَ أَحَبُّ إليَّ الشَّخْصِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ﴾ أَيْ لَا يُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ، ﴿وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾ أَيْ إِنَّمَا نَقَصَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ﴾ أَيْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إليه دائماً، ﴿وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ أَيْ بِالذَّاتِ إِلَيْهِ، فَوَصْفُهُ بِالْغِنَى وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ، وَوَصْفُ الْخَلْقِ بِالْفَقْرِ وَصْفٌ لازم لهم لا ينفكون عنه، وقوله تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ﴾ أَيْ عَنْ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ، ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ أَيْ وَلَكِنْ يَكُونُونَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ لَهُ وَلِأَوَامِرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أن رسول الله ﷺ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتَبْدَلَ بِنَا ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَنَا؟ قَالَ: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» (أخرجه مسلم وابن أبي حاتم وابن جرير).
338
- ٤٨ - سورة الفتح
339
روى الإمام أحمد عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرِهِ (سُورَةَ الْفَتْحِ) عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَرَجَّعَ فِيهَا، قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَجْتَمِعَ الناس علينا لحكيت قراءته (أخرجه الإمام أحمد).
339

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

339
Icon