ﰡ
- ١ - حم
- ٢ - وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ
- ٣ - إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ
- ٤ - فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
- ٥ - أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
- ٦ - رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم
- ٧ - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ
- ٨ - لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، إِنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ وَهِيَ ليلة القدر، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا قال تبارك وتعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ أَيْ مُعَلِّمِينَ النَّاسَ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ شَرْعًا لِتَقُومَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٌ﴾ أَيْ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يُفْصَلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْكَتَبَةِ أَمْرُ السَّنَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْآجَالِ وَالْأَرْزَاقِ وَمَا يَكُونُ فِيهَا إلى آخرها، وقوله جلَّ وعلا: ﴿حَكِيمٌ﴾ أَيْ مُحْكَمٌ لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ، ولهذا قال جلَّ جلاله ﴿أَمْراً مِّنْ عِندِنَا﴾ أَيْ جَمِيعَ مَا يَكُونُ وَيُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا يُوحِيهِ فَبِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ وَعِلْمِهِ ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ أَيْ إِلَى النَّاسِ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ، فَإِنَّ الحاجة كانت ماسة إليه، ولهذا قال تعالى: ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي الذي أنزل القرآن هو رَبُّ السماوات وَالْأَرْضِ وَخَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، ﴿إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ﴾ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُتَحَقِّقِينَ، ثُمَّ قَالَ تعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ الآية.
- ١٠ - فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ
- ١١ - يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
- ١٢ - رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ
- ١٣ - أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ
- ١٤ - ثُمَّ تَوَلَّوْاْ
- ١٥ - إنا كاشفوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ
- ١٦ - يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أَيْ قَدْ جَاءَهُمُ الحق الْيَقِينُ، وَهُمْ يَشُكُّونَ فِيهِ وَيَمْتَرُونَ وَلَا يُصَدِّقُونَ به، ثم قال عزَّ وجلَّ متوعداً لهم ومهدداً: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾ قَالَ مسروق: دخلنا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُصُّ عَلَى أَصْحَابِهِ ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾ تَدْرُونَ مَا ذَلِكَ الدُّخَانُ؟ ذَلِكَ دُخَانٌ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ شِبْهُ الزُّكَامِ، قال: فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه فذكرنا ذلك له، وكان مضطجعاً ففزع منه فَقَعَدَ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَالَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾، إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، سَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَأَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَعْصَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ، حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ، وَجَعَلُوا يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا الدُّخَانَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ من الجهد، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، فَأُتي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فإنها قد هلكت، فاستسقى ﷺ لهم، فسقوا، فنزلت: ﴿إنا كاشفوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ﴾، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أفيكشف عنهم العذاب يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَلَمَّا أَصَابَهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حالهم، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾ قَالَ: يعني يوم بدر. قال ابن مسعود رضي الله عنه، فَقَدْ مَضَى خَمْسَةٌ: الدُّخَانُ وَالرُّومُ وَالْقَمَرُ وَالْبَطْشَةُ واللزام (الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه أحمد والترمذي والنسائي). وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَمْضِ الدُّخَانُ بَعْدُ، بَلْ هُوَ مِنْ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حديث حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عرفة، وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ السَّاعَةَ، فَقَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَخُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تَسُوقُ النَّاسَ - أَوْ تَحْشُرُ النَّاسَ - تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ حيث قالوا" (أخرجه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لابن صياد: «إِنِّي خَبَأْتُ لَكَ خَبَأً»، قَالَ: هُوَ الدُّخ (الدُّخ والدَّخ: الدخان)، فقال ﷺ لَهُ: «اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ» قَالَ: وَخَبَأَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾. وعن أبي مالك الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ رَبَّكُمْ أَنْذَرَكُمْ ثَلَاثًا: الدُّخَانَ يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَالزُّكْمَةِ، وَيَأْخُذُ الْكَافِرَ، فَيَنْتَفِخُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ كُلِّ مَسْمَعٍ منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال" (أخرجه ابن جرير ورواه الطبراني، وإسناده جيد).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ﴾ يَحْتَمِلُ معنيين: (أحدهما): أنه يقول تَعَالَى: وَلَوْ كَشَفْنَا عَنْكُمُ الْعَذَابَ وَرَجَعْنَاكُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، لَعُدْتُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ من الكفر والتكذيب، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رودوا لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾. (وَالثَّانِي): أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: إِنَّا مُؤَخِّرُو الْعَذَابِ عَنْكُمْ قَلِيلًا بَعْدَ انْعِقَادِ أَسْبَابِهِ وَوُصُولِهِ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ مُسْتَمِرُّونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالضَّلَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْكَشْفِ عَنْهُمْ أَنْ يَكُونَ بَاشَرَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حين﴾ وَلَمْ يَكُنِ الْعَذَابُ بَاشَرَهُمْ وَاتَّصَلَ بِهِمْ بَلْ كان قد انعقد سببه عَلَيْهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَقْلَعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ ثُمَّ عَادُوا إِلَيْهِ، قَالَ الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ قَالُوا: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قال أو لو كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله منها﴾، وَشُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ عَلَى مِلَّتِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ إِلَى عذاب الله. وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾: فَسَّرَ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ
- ١٨ - أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أمين
- ١٩ - وَأَن لاَّ تَعْلُواْ على اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ
- ٢٠ - وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ
- ٢١ - وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ
- ٢٢ - فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ
- ٢٣ - فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ
- ٢٤ - وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ
- ٢٥ - كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- ٢٦ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
- ٢٧ - وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ
- ٢٨ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ
- ٢٩ - فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ
- ٣٠ - وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ
- ٣١ - مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ
- ٣٢ - وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ
- ٣٣ - وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدِ اخْتَبَرْنَا قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ قوم وَهُمْ قِبْطُ مِصْرَ، ﴿وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ يَعْنِي موسى الكليم عليه الصلاة والسلام ﴿أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله﴾، كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إن أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ ولا تعذبهم﴾ الآية، وقوله جلَّ وعلا: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ أَيْ مَأْمُونٌ عَلَى ما أبلغكموه، وقوله تعالى: ﴿وَإِن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ﴾ أَيْ لَا تَسْتَكْبِرُوا عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ وَالِانْقِيَادِ لِحُجَجِهِ وَالْإِيمَانِ ببراهينه، كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين﴾، ﴿إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أَيْ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والأدلة القاطعات، ﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن ترجمونِ﴾ قَالَ ابن عباس: هُوَ الرَّجْمُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الشَّتْمُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ أَيْ أَعُوذُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَكُمْ مِنْ أَنْ تَصِلُوا إِلَيَّ بِسُوءٍ مِنْ قولٍ أَوْ فِعْلٍ، ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلونِ﴾ أي فلا تعترضوا لي ودعوا الأمر مُسَالِمَةً إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَنَا، فَلَمَّا طال مقامه ﷺ بين أظهرهم، وأقام حجج الله تعالى عَلَيْهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ وَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كُفْرًا وَعِنَادًا، دَعَا رَبَّهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَةً نَفَذَتْ فيهم، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأليم * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما﴾، وهكذا قال ههنا ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ﴾ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَمْرِ فرعون ومشاورته واستئذانه، ولهذا قال جلَّ جلاله: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً دَرَكاً وَلاَ تخشى﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ﴾، وَذَلِكَ أن موسى عليه الصلاة والسلام لَمَّا جَاوَزَ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ أَرَادَ موسى أن
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾ أَيْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تَصْعَدُ فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَتَبْكِي عَلَى فَقْدِهِمْ، وَلَا لَهُمْ فِي الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا يُنْظَرُوا وَلَا يُؤَخَّرُوا لِكُفْرِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ، روى الحافظ الموصلي، عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَانِ: بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقُهُ، وَبَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ عَمَلُهُ وَكَلَامُهُ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدَاهُ وَبَكَيَا عَلَيْهِ"، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض﴾ (أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، ورواه ابن أبي حاتم أيضاً بنحوه) وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى الْأَرْضِ عَمَلًا صَالِحًا يَبْكِي عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَصْعَدْ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَا مِنْ عَمَلِهِمْ كَلَامٌ طَيِّبٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ فَتَفْقِدَهُمْ فَتَبْكِيَ عليهم، وروى ابن أبي حاتم، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ تَبْكِي السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عَلَى أَحَدٍ؟ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مُصَلًّى فِي الْأَرْضِ وَمَصْعَدُ عَمَلِهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا عَمَلٌ يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾. وقال ابن جرير، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَتَى ابنَ عباس رضي الله عنهما فقال: يا أبا العباس، أرأيتِ قول الله تعالى ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾ فَهَلْ تَبْكِي السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عَلَى أَحَدٍ؟ قال رضي الله عنه: نَعَمْ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ إِلَّا وَلَهُ بَابٌ فِي السَّمَاءِ مِنْهُ يَنْزِلُ رِزْقُهُ، وَفِيهِ يَصْعَدُ عَمَلُهُ، فَإِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ فَأُغْلِقَ بَابُهُ مِنَ السَّمَاءِ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ فِيهِ عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه، وإذا فقده مُصَلَّاهُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا ويذكر الله عزَّ وجلَّ فِيهَا بَكَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ آثَارٌ صَالِحَةٌ، وَلَمْ يصعد إلى الله عزَّ وجلَّ مِنْهُمْ خَيْرٌ، فَلَمْ تَبْكِ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً). وقال سفيان الثوري: تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً، وقال مجاهد: مَا مَاتَ مُؤْمِنٌ إِلَّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ والأرض أربعين صباحاً، فَقُلْتُ لَهُ: أَتَبْكِي الْأَرْضُ؟ فَقَالَ: أَتَعْجَبُ؟ وَمَا لِلْأَرْضِ لَا تَبْكِي عَلَى عَبْدٍ كَانَ يُعَمِّرُهَا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ وَمَا لِلسَّمَاءِ لَا تَبْكِي عَلَى عَبْدٍ كَانَ لِتَكْبِيرِهِ وَتَسْبِيحِهِ فِيهَا دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ من أن تبكي عليهم السماء والأرض.
- ٣٥ - إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ
- ٣٦ - فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- ٣٧ - أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَلَا حَيَاةَ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَلَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ، وَيَحْتَجُّونَ بِآبَائِهِمُ الْمَاضِينَ الَّذِينَ ذَهَبُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَإِنْ كَانَ الْبَعْثُ حَقًّا ﴿فَأْتُواْ بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ وَهَذِهِ حُجَّةٌ باطلة وشبه فَاسِدَةٌ، فَإِنَّ الْمَعَادَ إِنَّمَا هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا في الدار الدنيا، بَلْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا وَذَهَابِهَا وَفَرَاغِهَا يُعِيدُ اللَّهُ الْعَالَمِينَ خَلْقًا جَدِيدًا، وَيَجْعَلُ الظَّالِمِينَ لِنَارِ جَهَنَّمَ وقوداً، ثم قال تعالى متهدداً وَمُتَوَعِّدًا وَمُنْذِرًا لَهُمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث، كقوم تُبَّع وهم (سبأ) حيث أهلكهم الله عزَّ وجلَّ وَخَرَّبَ بِلَادَهُمْ، وَشَرَّدَهُمْ فِي الْبِلَادِ وَفَرَّقَهُمْ شَذَرَ مَذَرَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ.
- ٣٩ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
- ٤٠ - إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ
- ٤١ - يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ
- ٤٢ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ وَتَنْزِيهِهِ نَفْسَهُ عن اللعب والعبث والباطل ﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ كقوله جلَّ وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من النار﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ ترجعون﴾؟ ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فِيهِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، فَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ وَيُثِيبُ الْمُؤْمِنِينَ، وقوله عزَّ وجلَّ ﴿مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أَيْ يَجْمَعُهُمْ كُلَّهُمْ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ ﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً﴾ أي لا ينفع قريب قريباً كقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يتسألون﴾، وكقوله جلتَّ عظمته: ﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ﴾، أَيْ لَا يسأل أخ أَخًا لَهُ عَنْ حَالِهِ وَهُوَ يَرَاهُ عِيَانًا، وقوله جلَّ وعلا:
- ٤٤ - طَعَامُ الْأَثِيمِ
- ٤٥ - كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ
- ٤٦ - كَغَلْيِ الْحَمِيمِ
- ٤٧ - خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ
- ٤٨ - ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ
- ٤٩ - ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ
- ٥٠ - إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ
يَقُولُ تعالى مخبراً عما يعذب بع الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ لِلِقَائِهِ ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثيم﴾ و ﴿الأثيم﴾ أَيْ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَهُوَ الْكَافِرُ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ (أَبُو جَهْلٍ)، وَلَا شَكَّ فِي دُخُولِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ خاصة به، قال هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنْ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يُقْرِئُ رَجُلًا: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ﴾ فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْفَاجِرِ، أَيْ لَيْسَ له طعام من غيرها (أخرجه ابن جرير)، قال مجاهد: ولو وقعت قطرة منها فِي الْأَرْضِ لَأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَايِشَهُمْ (تقدم نحو هذا مرفوعاً)، وقوله ﴿كالمهل﴾ كَعَكَرِ الزَّيْتِ ﴿يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾ أي من حرارتها ورداءتها، وقوله تعالى ﴿خُذُوهُ﴾ أي الْكَافِرَ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَالَ للزبانية ﴿خذوه﴾ ابتدره سبعون ألفاً منهم، وقوله ﴿فَاعْتِلُوهُ﴾ أَيْ سُوقُوهُ سَحْبًا وَدَفْعًا فِي ظَهْرِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ ﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ﴾ أَيْ خُذُوهُ فَادْفَعُوهُ، ﴿إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ﴾ أَيْ وَسَطِهَا ﴿ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ﴾ كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾. وتقدم أن الملك يضر به بمقمعة من حديد متفتح دِمَاغَهُ، ثُمَّ يُصَبُّ الْحَمِيمُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَنْزِلُ فِي بَدَنِهِ، فَيَسْلِتُ مَا فِي بَطْنِهِ مِنْ أَمْعَائِهِ حَتَّى تَمْرُقَ مِنْ كَعْبَيْهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ تعالى من ذلك، وقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ أَيْ قُولُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ وَالتَّوْبِيخِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ لَسْتَ بِعَزِيزٍ وَلَا كَرِيمٍ، وَقَدْ قَالَ الْأُمَوِيُّ فِي مُغَازِيهِ، حدثنا أسباط بن محمد، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ لَكَ: «أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى»، قَالَ، فَنَزَعَ ثَوْبَهُ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: مَا تَسْتَطِيعُ لِي أَنْتَ وَلَا صَاحِبُكَ مِنْ شَيْءٍ، وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي أَمْنَعُ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ، وَأَنَا الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. قَالَ: فَقَتَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ وَأَذَلَّهُ، وعَّيره بِكَلِمَتِهِ، وَأَنْزَلَ: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾. وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾ كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ﴾؟
- ٥٢ - فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- ٥٣ - يَلْبَسُونَ مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ
- ٥٤ - كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
- ٥٥ - يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ
- ٥٦ - لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ
- ٥٧ - فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
- ٥٨ - فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
- ٥٩ - فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ عَطَفَ بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْقُرْآنُ مَثَانِيَ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا ﴿فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ أي في الآخرة، وهو الجنة وقد أَمِنُوا فِيهَا مِنَ الْمَوْتِ وَالْخُرُوجِ، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ وَحُزْنٍ وَجَزَعٍ وَتَعَبٍ وَنَصَبٍ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ وَسَائِرِ الْآفَاتِ وَالْمَصَائِبِ ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا أُولَئِكَ فِيهِ مِنْ شجرة الزَّقُّومِ وَشُرْبِ الْحَمِيمِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ﴾ وَهُوَ رَفِيعُ الْحَرِيرِ، كَالْقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا، ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ وَهُوَ ما فيه بريق ولمعان، وذلك كالريش وما يلبس على عالي الْقُمَاشِ ﴿مُّتَقَابِلِينَ﴾ أَيْ عَلَى السُّرُرِ لَا يَجْلِسُ أحد منهم وظهره إلى غيره، وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾ أَيْ هَذَا الْعَطَاءُ مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللَّاتِي ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ﴾ ﴿كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان﴾ روى ابن أبي حاتم، عن أَنس رضي الله عنه رفعه قَالَ: لَوْ أَنَّ حَوْرَاءَ بَزَقَتْ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ لعذب ذلم الماء لعذوبة ريقها. وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ أَيْ مَهْمَا طَلَبُوا مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ أُحْضِرَ لَهُمْ، وَهُمْ آمِنُونَ مِنِ انْقِطَاعِهِ وَامْتِنَاعِهِ بَلْ يَحْضُرُ إِلَيْهِمْ كلما أرادوا، وقوله: ﴿لا يذقون فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ يؤكد النفي، ومعناه أنهم لا يذقون فِيهَا الْمَوْتَ أَبَدًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٌ أَمْلَحُ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أهل النار خلود فلا موت" (أخرجاه في الصحيحين، وقد تقدم في سورة مريم). وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَعِيشُوا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تشبوا فلا تهرموا أبداً» (أخرجه مسلم في صحيحه).
وقوله تعالى: ﴿وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ أَيْ مَعَ هَذَا النَّعِيمِ العظيم المقيم، قد وقاهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم، في دركات الجحيم، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: ﴿فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ أَيْ إِنَّمَا كَانَ هَذَا بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا لَنْ يُدْخِلَهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ منه وفضل»، وقوله تبارك وتعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ إِنَّمَا يَسَّرْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ سَهْلًا وَاضِحًا بَيِّنًا جَلِيًّا بِلِسَانِكَ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَجْلَاهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ يَتَفَهَّمُونَ ويعملون، ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان، مِنَ النَّاسِ مَنْ كَفَرَ وَخَالَفَ وَعَانَدَ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَلِّيًا لَهُ وَوَاعِدًا لَهُ بِالنَّصْرِ، وَمُتَوَعِّدًا لِمَنْ كذبه بالعطف وَالْهَلَاكِ ﴿فَارْتَقِبْ﴾ أَيِ انْتَظِرْ ﴿إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ﴾ أَيْ فسيعلمون لمن تكون النصرة وَالظَّفَرُ، وَعُلُوُّ الْكَلِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَلِإِخْوَانِكَ