تفسير سورة الدّخان

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الدخان
مكية، تسع وخمسون آية، ثلاثمائة وست وأربعون كلمة، ألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) يجوز أن يكون المراد بالكتاب هاهنا الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، وأن يكون المراد به اللوح المحفوظ، وأن يكون المراد به القرآن، وهذا يدل على غاية تعظيم القرآن. إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قال الأكثرون: إنها ليلة القدر. وقال عكرمة، وطائفة آخرون: إنها ليلة البراءة، وهي ليلة النصف من شعبان، ونقل محمد بن جرير الطبري عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لثنتي عشرة مضت منه، والإنجيل لثمان عشرة مضت منه، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان، والليلة المباركة هي ليلة القدر، وقد قيل: إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة مباركة، ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف، وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل، والصواعق، والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل صاحب سماء الدنيا، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) أي مخوفين بالقرآن فِيها أي ليلة مباركة يُفْرَقُ أي يظهر للملائكة الموكلين بالتصرف في العالم كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أي مبرم لا يحصل فيه تغيير ولا نقص، بل لا بد من وقوعه في تلك السنة، وقال الرازي: معنى الحكيم ذو حكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر، والرزق، والأجل، والسعادة، والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى فلما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة.
وقرئ «يفرق» بالتشديد، وقرئ «يفرق» على البناء للفاعل، ونصب «كل» والفارق هو الله تعالى، وقرأ زيد بن علي «نفرق» بالنون أَمْراً مِنْ عِنْدِنا حال من فاعل «أنزلنا» أو من مفعوله. أي في حال كون القرآن أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل، أو من أمر حكيم، أو مفعول له
391
وناصبه إما «أنزلناه» وإما «منذرين» وإما «يفرق» أي أو مصدر من معنى «يفرق» أي فرقا كائنا من عندنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) أي أنّا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنا كنا مرسلين الأنبياء رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول له أي لأجل إفاضة رحمتنا على العباد، والمعنى: إنا أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم، أو بدل من «أمرا» فيجيء في «رحمة» ما تقدم من الأوجه في «أمرا». إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦)، فإن المحتاجين للرحمة إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم وإما أن لا يذكروها، فإن ذكروها فإنه تعالى سميع لكلامهم، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بحاجاتهم، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالجر بدل من ربك أو بيان عليه، والباقون بالرفع عطف بيان على قوله:
«السميع العليم»، أو خبر آخر، أو استئناف على إضمار مبتدأ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) أي إن كنتم تريدون اليقين فاعرفوا أن الأمر كما قلنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وهذا تنبيه على تمام دلائل التوحيد رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بالرفع بدل، أو بيان، أو النعت ل «ربّ» السموات».
وقرأ ابن محيصن، وابن أبي اسحق، وأبو حيوة، والحسن بالجر على البدل، أو البيان، أو النعت ل «رب» السموات» وقرأ الأنطاكي بالنصب على المدح، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ أي ليسوا على يقين في إقرارهم بأن للسموات والأرض ربا وخالقا هو الله تعالى وإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم فهم في شك يَلْعَبُونَ (٩) في دينهم بما يظهر لهم من غير حجة، فَارْتَقِبْ أي انتظر يا أكرم الرسل عذابهم يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) وهو ما أصابهم من شدة الجوع، فإنهم لظلمة أبصارهم كأنهم يرون دخانا بين السماء والأرض، فالمراد بالدخان هنا- ما قاله ابن عباس في بعض الروايات، وابن مسعود، ومقاتل، ومجاهد واختاره الفراء، والزجاج- هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما كذبه قومه بمكة دعا عليهم،
فقال: «اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف» «١» فارتفع المطر، وأجدبت الأرض، وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام، والكلاب، والجيف فكان الرجل يرى بينه وبين السماء كالدخان لما به الجوع.
ونقل عن علي، وابن عباس، وابن عمرو، وأبي هريرة، وزيد بن علي، والحسن أن المراد بالدخان هنا دخان يظهر في العالم في آخر الزمان يكون علامة على قرب الساعة يملأ ما بين المشرق والمغرب وما بين السماء والأرض. يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه
(١) رواه أحمد في (م ٢/ ص ٤٧٠)، وابن حجر في فتح الباري (٢: ٤٩٢)، والسيوطي في الدر المنثور (٢: ٧١)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (١: ٩٦).
392
كالزكام، وأما الكافر فيصير كالسكران فيملأ جوفه ويخرج من منخريه وأذنيه ودبره وتكون الأرض كلها كبيت أوقدت فيه النار، وقال عبد الرحمن الأعرج أن المراد بالدخان هو الغبار الذي ظهر يوم فتح مكة من ازدحام جنود الإسلام حتى حجب الأبصار عن رؤية السماء
يَغْشَى النَّاسَ أي يشملهم وهو محل جر صفة لدخان. هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) فإن قلنا التقدير يقولون هذا عذاب أليم رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ، فالعذاب هو: القحط الشديد، وإن قلنا التقدير:
يقولون ربنا اكشف عنّا العذاب، فالعذاب: هو الدخان المهلك الذي يدخل في أسماع الكفرة حتى يصير رأسهم كالرأس الحنيذ «١». إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) بمحمد وبالقرآن، والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) أي كيف يتعظون بهذه الحالة، والحال أنهم قد شاهدوا ما ظهر على رسول الله من المعجزات القاهرة وهي أعظم موجبات الاتعاظ، ثم لم يلتفتوا إليه، وقالوا: إن محمدا يتعلم هذه الكلمات من جبر- غلام عامر بن الحضري، وهو قين نصراني، أو غلام لحويطب بن عبد العزى قد أسلم- وقالوا: إن الجن يلقون على محمد هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي، وما مثلهم إلّا كمثل الكلب إذا جاع ضغا وإذا شبع طغى إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) أي إنا نكشف العذاب عنكم كشفا قليلا أو زمانا قليلا، بدعاء محمد صلّى الله عليه وسلّم فإنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك والمعنى: أنهم لا يفون بعهدهم وانهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف. يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) و «يوم» منصوب بما دل عليه «منتقمون» لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيها قبلها أي يوم نأخذ بشدة أخذا قويا بإيصال الآلام المتتابعة ننتقم «إنا منتقمون» وهو يوم بدر كما قاله ابن مسعود، ومجاهد، ومقاتل، وأبو العالية.
وروي عكرمة عن ابن عباس هو يوم القيامة، وقرأ الحسن البصري، وأبو جعفر المدني نبطش بضم النون فإن الله أمر الملائكة بأن يعاقبهم العقوبة العظمى وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي ولقد عاملنا قوم فرعون قبل هؤلاء العرب معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) على ربه، وهو موسى عليه السلام إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي بأن الحديث أرسلوا بني إسرائيل إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله أَمِينٌ (١٨) أي قد ائتمنني الله تعالى على وحيه ورسالته وصدقني بالمعجزات القاهرة وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي وبأن الشأن لا تتكبروا على الله بإهانة وحيه ورسوله. إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) أي آتيكم
(١) الحنيذ: الشاة يحنذها حنذا أي شواها وجعل فوقها حجارة محمّاة لتنضجها فهي حنيذ.
[القاموس المحيط، مادة: حنذ].
من جهة الله تعالى بحجة واضحة يعترف بصحتها كل عاقل، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) أي وإني اعتصمت بربي وربكم من أن تقتلون. قيل: لما قال موسى: «وأن لا تعلوا على الله» توعدوه بالقتل
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة فخلوا سبيلي لا لي ولا علي فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) أي أنهم كفروا ولم يؤمنوا، فدعا موسى ربه بأن هؤلاء مشركون اكتسبوا الهلاك على أنفسهم فافعل بهم يا رب ما يليق بهم.
وقرأ ابن أبي اسحق، وعيسى، والحسن بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء دعا مجرى القول عند الكوفيين (ف) قال ربه: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي سر ليلا ببني إسرائيل قرأ نافع، وابن كثير بالوصل، والباقون بالقطع. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) أي يتبعكم فرعون وجنوده بعد ما علموا بخروجكم ويصير ذلك سببا لهلاكهم، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي اجعل البحر طرقا واسعة حتى يدخله القبط فيغرقوا كما قال تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) في البحر.
وقرئ بفتح الهمزة أي لأنهم وإنما أخبره الله تعالى بذلك حتى يبقى فارغ القلب عن شرهم كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ بفتح النون فأغرقهم الله وتركوا أمورا كثيرة من بساتين ومياه ظاهرة في البساتين، وحروث، ومنازل محسنة، ومجالس مزينة، وأمور يتمتعون بها كالملابس، والمراكب كانُوا فِيها أي في هذه الأشياء فَكِهِينَ (٢٧) بالألف أي طيبين الأنفس معجبين.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء «فكهين» بدون الألف أي مستهزئين بنعمة الله تعالى كَذلِكَ أي مثل ذلك السلب سلبنا هذه الأشياء منهم وَأَوْرَثْناها أي تلك الأشياء قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) أي جعلناها من بعدهم ميراثا لبني إسرائيل فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ
روى أنس بن مالك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من عبد إلّا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه»
. وروي في الأخبار أن المؤمن ليبكي عليه مصلاه، ومحل عبادته، ومصعد عمله، ومهبط رزقه أي ولم تبك السماء والأرض على فرعون وقومه لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا، ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب، ولا عمل صالح وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك تقصير،
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ أي من العذاب الشديد الصادر من فرعون، وهو قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة.
وقرئ «من عذاب المهين» أي وهو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين، وقرأ ابن عباس «من فرعون» بمعنى الاستفهام والمعنى: هل تعرفونه من هو في عتوة وشيطنته؟ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين، أو يقال: إنه متكبرا مسرفا
394
فإنه مع حقارته ادعى الإلهية فقوله: «من المسرفين» حال من الضمير في عاليا، أو خبر ثان لكان.
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) أي ولقد اخترنا بني إسرائيل على العالمين جميعا عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم لكثرة الأنبياء فيهم، ويقال: «ولقد اخترناهم على عالمي زمانهم» مع علمنا بأنهم قد يزيغون في بعض الأوقات، ويصدر عنهم الفرطات «١» في بعض الأحوال وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) أي وأعطينا بني إسرائيل ما فيه نعمة ظاهرة من الآيات التي لم يظهر الله مثلها أحد سواهم مثل فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن، والسلوى وغيرها، فإنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو بالنعمة أيضا اختبارا ظاهرا ليتميز الصديق عن الزنديق. إِنَّ هؤُلاءِ أي إن كفار قريش لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما نهاية الأمر إلّا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) أي بمحيون بعد الموت فَأْتُوا بِآبائِنا أي فعجلوا لنا- أيها القائلون بأننا نبعث بعد الموت أحياء- من مات من آبائنا بأن تسألوا ربكم ذلك حتى يصير دليلا عندنا على صدق دعواكم في البعث إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) فيما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى ليظهر أنه حق. قال تعالى مقتصرا على الوعيد: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل قوم «تبع» كمدين، وأصحاب الأيكة، والرس، وثمود، وعاد وسمي تبعا لكثرة تبعه واسمه أسعد بن ملكيكرب وكنيته أبو كرب، وهو نبي كما قاله ابن عباس، أو رجل صالح كما قالته عائشة، وكان قومه كافرين وأراد خراب المدينة فلما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد انصرف عنها وقال شعرا أودعه عند أهلها وكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم فدفعوه إليه وكان من اليوم الذي مات فيه «تبع» إلى اليوم الّذي بعث فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص ويقال كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد وفيه:
شهدت على أحمد أنه... رسول من الله بارى النسم
فلو مد عمري إلى عمره... لكنت وزيرا له وابن عم
أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) ف «أهلكناهم» مستأنف لبيان عاقبة أمرهم و «إنهم» تعليل لإهلاكهم أي إن أولئك الكفار أهلكوا بسبب إجرامهم مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء، أفلا يخافون من هلاكهم وهم شركاء لأولئك في الإجرام؟! وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) أي لاهين ولو لم يحصل البعث والجزاء لكان
هذا الخلق عبثا لأن الله تعالى خلق نوع الإنسان ثم كلّفهم بالإيمان والطاعة، فاقتضى ذلك أن يتميز المطيع من العاصي فيتعلق فضله
(١) رواه القرطبي في التفسير (١٦: ١٥٤)، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (٢: ٣٨)، وابن الجوزي في الموضوعات (٣: ٢٥٤).
395
تعالى للمطيع، ويتعلق عدله، وعقابه للعاصي. فلا بد من البعث لتجزى كل نفس بما كسبت.
وقرأ عمرو بن عبيد و «ما بينهن» وقرأ الجمهور «بينهما» باعتبار النوعين ما خَلَقْناهُما وما بينهما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسبب الحق الّذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (٣٩) انا خلقنا الخلق بسبب إقامة الحق عليهم إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) أي أن يوم تمييز المحق من المبطل وقت موعد الناس أجمعين. وقرئ «ميقاتهم» بالنصب على إنه اسم و «يوم» خبرها أي إن ميعادهم جزاؤهم البر والفاجر في يوم فصل الله بين عباده
يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً أي لا ينفع قريب عن قريب شيئا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) أي يمنعون من العذاب إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي إلا المؤمنين فإنهم يمنعون من العذاب أو فإنهم يؤذون لهم في الشفاعة فيشفعون في بعضهم وتشفع لهم الملائكة والأنبياء إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) أي أن الله هو الغالب بتعذيب الكافرين الرحيم بالمؤمنين إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) أي الكثير الآثام وهو الكافر كَالْمُهْلِ وهو دردى الزيت، وعكر القطران، ومذاب النحاس، وسائر الفلزات يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦). وقرأ حفص وابن كثير «يغلي» بالياء التحتية فهو حال من طعام، أو الزقوم، والباقون بالتاء الفوقية فهو خبر ثالث لأن أي «تغلي» الشجرة في البطون غليانا كغلي الماء الشديد الحرارة. يقول الله للزبانية: خُذُوهُ أي الأثيم فَاعْتِلُوهُ أي جروه بعنف وقوده إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) أي إلى وسط النار العظيمة. وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، بضم التاء، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) أي صبوا على رأسه عذابا شديدا يشبه الماء الحار بعد ما يضرب رأسه بمقامع الحديد، فقد شبه العذاب، ثم خيّل له بالصب، ويقال له على سبيل الاستهزاء: ذُقْ يا أبا جهل إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩). وقرأ الكسائي «أنك» بفتح الهمزة على معنى العلة أي لأنك، أو على تقدير مضاف أي «ذق» عذابا إنك أنت المتعزز في قومك المتكرم عليهم. روي ان أبا جهل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بين جبليها أي مكة أعز ولا أكرم مني فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا إِنَّ هذا العذاب ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) أي تشكون في الدنيا.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) أي مكان مأمون من الزوال والآفات، وقرأ نافع، وابن عامر «مقام» بضم الميم أي موضع الإقامةي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
(٥٢) أي أنهار الخمر، والماء، واللبن، والعسل يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ والسندس ما رق من الحرير، والإستبرق ما ثخن منه مُتَقابِلِينَ (٥٣) في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض كَذلِكَ أي أتيناهم مثل ذلك، أو هكذا مقام المؤمنين في الجنة وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) أي قرناهم في الجنة بجوار بيض حسان الوجوه.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز وعهن أبي قرصافة سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور
396
العين»
«١»،
وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كنس المساجد مهور الحور العين»
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ أي يأمرون الخدم في الجنة بإحضار ما يشتهونه ويتناولون فيها بألوان كل فاكهة آمِنِينَ (٥٥) من التخم والأمراض لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى أي لا يذوقون في الجنة الموت إلّا الذوق الحاصل بسبب تذكر الموتة التي في الدنيا بعد حياتهم فيها، أو يقال: لكن الموتة الأولى قد ذاقوها وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) أي وقى الله المتقين في أول الأمر من عذاب الجحيم، ورفع الله العذاب عن عصاة المؤمنين بعد دخولهم النار، وقرئ «ووقاهم» بتشديد القاف فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي تفضل ربك بذلك الثواب تفضلا، وقرئ «فضل» بالرفع أي ذلك فضل ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فإن الفضل أعلى من درجات الثواب المستحق فإن الملك العظيم إذا أعطى الأجير ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالا من إعطاء تلك الأجرة فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي إنما أنزلنا الكتاب المبين بلغتك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) أي لكي يتعظوا به فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩) أي فانتظر هلاكهم إنهم منتظرون هلاكك.
(١) رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (٧: ٧١).
397
Icon