ﰡ
مكية إلا قوله: ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا﴾ الآية، وآيها: تسمع وخمسون آية، وحروفها: ألف وأربع مئة وأحد وثلاثون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وست وأربعون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿حم (١)﴾.[١] ﴿حم﴾ تقدم الكلام في معناه ومذاهب القراء فيه أول سورة غافر، وتقدم إعرابه في أول الزخرف.
...
﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢)﴾.
[٢] ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ تقدم تفسيره، وهو قَسَم أقسم الله به.
...
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣)﴾.
[٣] وجواب القسم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ أي: الكتابَ، وهو القرآن ﴿فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ هي ليلة القدر على المشهور، ويأتي الكلام عليها في سورة القدر،
روي عن النبي -عليه السلام-: أنه قال: "ينزل الله - جل ثناؤه - ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لكل نفس، إلا إنسانًا في قلبه شيء" (١)؛ أي: شركًا بالله.
وعنه - ﷺ -: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له، ولقد أخرج اسمه في الموتى" (٢).
﴿إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾ للكافر بالعذاب.
...
﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)﴾.
[٤] ﴿فِيهَا﴾ في الليلة المباركة ﴿يُفْرَقُ﴾ يفصل (٣) ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ محكم من خير وشر، وأجل ورزق، وكل ما هو كائن من السنة إلى السنة.
(٢) رواه البيهقي في "شُعب الإيمان" (٣٨٣٩) عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، مرسلًا.
(٣) "يفصل" زيادة من "ت.".
[٥] ﴿أَمْرًا﴾ أي: أنزلناه أمرًا.
﴿مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ محمدًا - ﷺ - إلى عبادنا.
...
﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦)﴾.
[٦] ﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ قال ابن عباس: "رأفة مني بخلقي، ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل" (١).
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوال العباد ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأحوالهم.
...
﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧)﴾.
[٧] ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ إن الله رب السموات والأرض. قرأ الكوفيون: (رَبِّ السَّمَوَاتِ) بالخفض ردًّا على قوله: (مِنْ رَبِّكَ)، والباقون: بالرفع ردًّا على قوله: (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وإن شئت على الابتداء (٢).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٨)، و "تفسير البغوي" (٤/ ١١٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٣٦).
[٨] ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ لا شريك له ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ بقدرته.
﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ فأيقِنوا أن القرآن تنزيله، وأن محمدًا رسوله.
...
﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)﴾.
[٩] ﴿بَلْ﴾ إضراب قبله نفي مقدر؛ كأنه يقول: ليس هؤلاء ممن يؤمن، بل.
﴿هُمْ فِي شَكٍّ﴾ من الساعة والقرآن ﴿يَلْعَبُونَ﴾ استهزاء بك يا محمد.
...
﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿فَارْتَقِبْ﴾ فانتظر ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ ظاهر، وذلك لما دعا النبي - ﷺ - على قريش فقال: "اللهم أَعِنِّي عليهم بسبعٍ كسبعِ يوسفَ"، فأخذتهم سَنَةٌ حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فكان الجائع يرى بينه وبين السماء دخانًا من شدة الجوع، فجاء أبو سفيان النبيَّ - ﷺ -، وقال: يا محمد! تأمر بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادعُ لهم؛ فإنهم لك مطيعون، فقرأ: ﴿فَارْتَقِبْ﴾ إلى ﴿عَائِدُونَ﴾ (١).
[١١] ﴿يَغْشَى النَّاسَ﴾ يحيط بهم، فإذا غشيهم، قالوا: ﴿هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
...
﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)﴾.
[١٢] ويقولون: ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾ مصدقون بنبينا.
...
﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣)﴾.
[١٣] وعلم الله تعالى قولهم في حال الشدة: (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) إنما هو عن حقيقة منهم، فدل على ذلك بقوله: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى﴾ كيف يتذكرون الإيمان عند نزول العذاب.
﴿وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ﴾ يبين لهم أحكام الدين؛ يعني: محمدًا - ﷺ -.
[١٤] ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا ﴿عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ﴾ أي: عُلِّم ما جاء به، وليس من عند الله، يقول هذا بعضُهم، وبعضهم يقول: إنه ﴿مَجْنُونٌ﴾.
...
﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥)﴾.
[١٥] قال تعالى: ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا﴾ أي: زمانًا يسيرًا، وإن كشفناه عنكم.
﴿إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ إلى كفركم، فرفع عنهم القحط بدعاء النبي - ﷺ -، فعادوا إلى الشرك.
...
﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿يَوْمَ﴾ المعنى: ننتقم منكم إن عدتم إلى كفركم يوم.
﴿نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى﴾ وهو يوم بدر.
﴿إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ قرأ أبو جعفر: (نَبْطُشُ) بضم الطاء، والباقون: بكسرها (١)، والكسائي يميل الشين حيث وقف على هاء التأنيث.
...
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا﴾ بَلَونا ﴿قَبْلَهُمْ﴾ قبلَ قريش.
﴿وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ على الله، وهو موسى بن عمران عليه السلام.
...
﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨)﴾.
[١٨] فقال لهم: ﴿أَنْ أَدُّوا﴾ سَلِّموا ﴿إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ﴾ بني إسرائيل؛ لأذهب بهم إلى الشام ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ على الوحي.
...
﴿وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَأَنْ لَا تَعْلُوا﴾ تَطْغَوا ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ فتعصوه ﴿إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ حجة ظاهرة، ودليل واضح على رسالتي. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
...
﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠)﴾.
[٢٠] فلما قال ذلك، توعدوه بالقتل، فقال:
﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ﴾ أي: تقتلون. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب بخلاف عن أبي جعفر: (عُذْتُ)
...
﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾ فاعتزلوا أذاي باليد واللسان. واختلاف القراء في (فَاعْتَزِلُونِي) كاختلافهم في (تَرْجُمُونِ)، وورش بفتح الياء من (لِيَ)، والباقون يسكنونها.
...
﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢)﴾.
[٢٢] فلم يؤمنوا ﴿فَدَعَا رَبَّهُ﴾ عليهم ﴿أَنَّ﴾ أي: بأن.
﴿هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ﴾ مشركون.
...
﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] فقال الله تعالى: ﴿فَأَسْرِ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير:
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٣٨).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٣٨ - ١٣٩).
﴿بِعِبَادِي﴾ بني إسرائيل ﴿لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ يتبعكم فرعون وقومه ليقتلكم.
...
﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا﴾ ساكنًا بعد أن انفرق؛ لأن موسى لما قطع البحر، عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم؛ خوفًا أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: اترك البحر كحاله حتى يدخله القبط.
﴿إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ أخبر موسى بإغراقهم؛ ليطمئن قلبه في ترك البحر كما جاوزه.
...
﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥)﴾.
[٢٥] ثم ذكر ما تركوه بمصر، فقال: ﴿كَمْ تَرَكُوا﴾ (كَمْ) خبر للتكثير.
﴿مِنْ جَنَّاتٍ﴾ بساتين ﴿وَعُيُونٍ﴾ روي أنها كانت متصلة من رشيد إلى أسوان، وقدر المسافة بينهما أكثر من عشرين يومًا. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر: (وَعِيُونٍ) بكسر العين، والباقون: بضمها (٢).
(٢) المصدران السابقان.
[٢٦] ﴿وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ مجلس حسن، وسمي كريمًا؛ لأنه مجلس الملوك.
...
﴿وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَنَعْمَةٍ﴾ -بفتح النون-: الترفُّه، وبالكسر: الإنعام، و-بالضم-: المسرة، والتلاوة بالأول ﴿كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾ قرأ أبو جعفر: (فَكِهِينَ) بغير ألف بعد الفاء؛ أي: بَطِرين، وقرأ الباقون: بالألف (١)؛ أي: ناعمين.
...
﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: أفعل بمن عصاني ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا﴾ أي: أموالَ القبط.
﴿قَوْمًا آخَرِينَ﴾ من بني إسرائيل.
...
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾ ذلك أن المؤمن إذا مات، تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحًا، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده، ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي
﴿وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ مؤخَّرين عند نزول العذاب (١).
...
﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ قتلِ الأبناء، واستحياءِ النساء، والتعبِ من العمل.
...
﴿مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)﴾.
[٣١] وتبدل من العذاب ﴿مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا﴾ متكبرًا (٢).
﴿مِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ في العتو.
...
﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ﴾ أي: بني إسرائيل ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ مِنَّا بحالهم.
﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي: عالَمي زمانهم.
...
﴿وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ﴾ كفرق البحر، والمن والسلوى، وغيرها.
(٢) "متكبرًا" زيادة من "ت".
...
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ يعني: مشركي مكة ﴿لَيَقُولُونَ﴾ حين قيل لهم: إنكم تموتون ثم تحيون:
...
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى﴾ التي في الدنيا ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ﴾ بمبعوثين.
...
﴿فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿فَأْتُوا بِآبَائِنَا﴾ الذين ماتوا ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنا نُبعث أحياء بعد الموت.
...
﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ثم خوَّفهم مثلَ عذاب الأمم الخالية، فقال: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ﴾ في القوة والمنعة.
﴿أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾ هو الحِمْيَرِيُّ ملك اليمن، سمي بذلك؛ لكثرة أتباعه، وكل واحد منهم يسمى تُبَّعًا؛ لأنه يتبع صاحبه، وكان هذا يعبد النار، فأسلم
وعنه - ﷺ - أنه قال: "لا تسُبُّوا تبُّعًا؛ فإنه كان قد أسلم" (٥).
﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم الكافرة ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ بالكفر.
...
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي: بين الجنسين ﴿لَاعِبِينَ﴾ لاهِين.
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٢٢/ ٤٠)، وذكره البغوي في "تفسيره" (٤/ ١١٨).
(٣) "أسعد" زيادة من "ت".
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١١٨)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ١٤٦).
(٥) رواه أحمد في "المسند" (٥/ ٣٤٠)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٦٠١٣)، من حديث سهل بن سعد الساعدي، ورواه الطبراني أيضًا في "المعجم الكبير" (١١٧٩٠) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال ابن حجر في "الفتح" (٨/ ٥٧١) رواه أحمد من حديث سهل، ورواه الطبراني من حديث ابن عباس مثله، وإسناده أصلح من إسناد سهل.
[٣٩] ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ بالواجب المقتضي للخيرات.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لقلة نظرهم.
﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ بين الخلائق، وهو يوم القيامة.
﴿مِيقَاتُهُمْ﴾ وقتُ اجتماع الخلائق.
﴿أَجْمَعِينَ﴾ يوافي الأولون والآخرون.
﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١)﴾.
[٤١] وتبدَلُ من ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى﴾ من قرابة، وغيرها من موالي العتق والصدقة ﴿عَنْ﴾ أيِّ ﴿مَوْلًى﴾ كان ﴿شَيْئًا﴾ من العذاب ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ يُمنعون من العذاب.
﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ﴾ من المؤمنين؛ فإنه يُشفع له، ويُشَفَّع، استثناء متصل.
﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيز﴾ الذي لا يُنصر منه من أراد تعذيبَه.
﴿الرَّحِيمُ﴾ لمن أراد أن يرحمه.
[٤٣] ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ﴾ تقدم ذكرها في سورة الصافات. وقف ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب على (شَجَرَةَ) بالهاء (١).
...
﴿طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿طَعَامُ الْأَثِيمِ﴾ أي: كثير الإثم، وهو أبو جهل وأصحابه.
روي عن أبي الدرداء: "أنه أقرأ إنسانًا ﴿طَعَامُ الْأَثِيمِ﴾، فقال: طَعَامُ اليتيمِ، مرارًا، فقال: قُلْ: طعامُ الفاجرِ يا هَذا" (٢)، وفي هذا دليل لمن يجوِّزُ إبدالَ كلمة بكلمة إذا أَدَّت معناها، وتقدم في الفصل الرابع أول التفسير ذكر الخلاف في جواز القراءة بالفارسية.
...
﴿كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿كَالْمُهْلِ﴾ وهو دُرْدِيُّ الزيت ﴿يَغْلِي فِي الْبُطُونِ﴾ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (يَغْلِي) بالياء على التذكير؛ يعني: المهل، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث (٣)؛ يعني: الشجرة.
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٢٢/ ٤٣)، والحاكم في "المستدرك" (٣٦٨٤).
وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٧/ ٤١٨).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١١٩)، و "النشر في =
[٤٦] ﴿كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾ كالماء الحار إذا اشتد غليانه.
...
﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٤٧)﴾.
[٤٧] فيؤمر بإلقاء الكافر في النار، فيقال للزبانية: ﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ﴾ قرأ
نافع، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: (فَاعْتُلُوهُ) بضم التاء، والباقون:
بكسرها، وهما لغتان (١)؛ أي: سوقوه بعنف ﴿إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ وسطه.
...
﴿ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ﴾.
...
﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾.
[٤٩] ثم يقال لأبي جهل: ﴿ذُقْ إِنَّكَ﴾ قرأ الكسائي: (أَنَّكَ) بفتح الهمزة؛ أي: لأنك ﴿أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ على سبيل التهكم، وقرأ الباقون: بكسرها على الابتداء (٢).
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٢٠)، وباقي المصادر في التعليق السابق.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٣)، و "التيسير" للداني (ص: ١٩٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٤٢ - ١٤٣).
[٥٠] وذلك أن أبا جهل كان يقول للنبي - ﷺ -: أنا أعز أهل الوادي، وأكرمُهم، فوالله لن تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا (١)، فثَمَّ يقال له:
﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي: الأمر الذي أنتم فيه ﴿مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾ تشكُّون.
...
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (مُقَامٍ) بضم الميم على المصدر؛ أي؛ في إقامة، وقرأ الباقون: بالنصب (٢)؛ أي: مجلس ﴿أَمِينٍ﴾ من الفتن والمحن.
...
﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ بدل من مقام ﴿وَعُيُونٍ﴾ تقدم اختلاف القراء في كسر العين وضمها من (عُيُونٍ) في الحرف المتقدم [الآية: ٢٥].
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٨)، و "تفسير البغوي" (٤/ ١٢٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٤٣).
[٥٣] ﴿يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ﴾ وهو ما رَقَّ من الديباج ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ وهو ما غَلُظ منه ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾ لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض؛ لدوران الأسرة بهم.
...
﴿كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: والأمر كذلك ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ﴾ قَرَنَّاهم.
﴿بِحُورٍ عِينٍ﴾ عِظامِ العيون حسانها، نقيات البياض؛ أي: جعلناهم اثنين اثنين، ذكرًا وأنثى، ليس من عقد التزويج.
...
﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿يَدْعُونَ فِيهَا﴾ يطلبون في الجنة أن يجاؤوا ﴿بِكُلِّ فَاكِهَةٍ﴾ اشتهوها ﴿آمِنِينَ﴾ من انقطاعها ومضرتها، ومن كل مخوف.
...
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ التي في الدنيا.
﴿وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾.
[٥٧] ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: أُعطوا ذلك تفضلًا منه ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
...
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ﴾ أي: القرآن ﴿بِلِسَانِكَ﴾ بلغتك؛ لتفهمه العرب عنك ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ يتعظون فيؤمنون.
...
﴿فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿فَارْتَقِبْ﴾ فانتظر نصرَنا لك ﴿إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ﴾ فيما يظنون الدوائرَ عليك، وفي هذه الآية وعد له - ﷺ -، ووعيد لهم، وفيه متاركة لهم، وهذا وما جرى مجراه منسوخ بآية السيف، والله أعلم.