تفسير سورة الدّخان

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * حمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ ﴾.
هذه السورة مكية قيل إلا قوله: انا كاشفوا العذاب ومناسبة هذه السورة أنه ذكر في أواخر ما قبلها فذرهم يخوضوا ويلعبوا فذكر تعالى يوماً غير معين ولا موصوف فبين في أوائل هذه السورة ذلك اليوم بوصف وصفه فقال فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين وإن العذاب يأتيهم من قبلك.﴿ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ ﴾ هو القرآن أقسم به تعالى والضمير في أنزلناه يكون عائداً عليه والليلة المباركة ليلة القدر قالوا: كتب الله كلها إنما أنزلت في رمضان.﴿ مُنذِرِينَ ﴾ أي مخوفين.﴿ فِيهَا ﴾ أي في الليلة المباركة.﴿ يُفْرَقُ ﴾ يفصل من غيره ويخلص ووصف أمر بحكيم أي أمر ذي حكمة وقد أبهم تعالى هذا الأمر فقال ابن عباس: في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والأرزاق. والآجال وغير ذلك ويكتب لهم ذلك إلى مثلها من العام المقبل وأمراً مفعول بمنذرين.﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ مفعول من أجله والعامل فيه مرسلين.﴿ فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ﴾ قال ابن مسعود وغيره هو الدخان الذي رأته قريش قيل لعبد الله ان قاصاً عند أبواب كندة يقول انه دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الناس فقال من علم علماً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم به وسأحدثكم" ان قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر "ما جعلها عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز والعلهز هو الصوف يقع فيه الفراد فيشوى الصوف بدم القراد ويؤكل وأكلوا العظام أيضاً وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان الرجل يحدّث الرجل فيسمع الكلام ولا يرى المتكلم من الدخان فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه فناشدوه الله والرحم وواعدوه ان دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم وفيه فرحمهم النبي صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم بصدقة ومال وفيه فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالتهم فأنزل الله تعالى.﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ﴾ يعني يوم بدر وقال عبد الرحمٰن: خمس قد مضين الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم.﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ ﴾ هذا كالمثال لقريش ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه السلام فكذبوه فأهلكهم الله تعالى.﴿ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ﴾ أي كريم عند الله تعالى وعند المؤمنين.﴿ أَنْ أَدُّوۤاْ ﴾ يحتمل أن تكون ان تفسيرية لأنه تقدم ما يدل على معنى القول وهو رسول كريم وان تكون مخففة من الثقيلة والناصبة للمضارع فإِنها توصل بالأمر طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل. و ﴿ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ أي بحجة واضحة في نفسها.﴿ وَإِنِّي عُذْتُ ﴾ أي استجرت.﴿ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ﴾ كانوا قد توعدوه بالقتل فاستعاذ من ذلك.﴿ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي ﴾ أي تصدقوا.﴿ فَٱعْتَزِلُونِ ﴾ أي كونوا بمعزل مني وهذه متاركة حسنة.﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ ﴾ إن هؤلاء لفظ تحقير لهم.﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِي ﴾ في الكلام حذف أي فانتقم منهم فقال له الله تعالى: أسر بعبادي هم بنو إسرائيل ومن آمن من القبط.﴿ إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ﴾ أي يتبعكم فرعون وجنوده فتنجون ويغرق المتبعون.﴿ وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً ﴾ قال ابن عباس: ساكناً كما جزته.﴿ قَوْماً آخَرِينَ ﴾ هم بنو إسرائيل.﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ ﴾ إستعارة لتحقير أمرهم وانه لم يتغير عن هلاكهم شىء.﴿ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ ﴾ أي مؤخرين عن العذاب.
﴿ مِن فِرْعَوْنَ ﴾ بدل من قوله من العذاب المهين أعيد معه حرف الجر كما أعيد في قوله منها من غم.﴿ وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ ﴾ أي اصطفيناهم وشرفناهم.﴿ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي عالمي زمانهم.﴿ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ ﴾ يعني قريشاً وأشار بهؤلاء إلى تحقيرهم كانوا يقولون ليس لنا إلا موتة واحدة ولا ننشر بعدها لحساب.﴿ فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا ﴾ خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الذين كانوا يعدونهم بالبعث أي إن صدقتم فيما تعدوننا فأحيوا لنا من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم حين يكون ذلك دليلاً على البعث في الآخرة.﴿ أَهُمْ ﴾ أي قريش.﴿ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ﴾ وتبع تقدم الكلام عليه.﴿ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ أي من الجنسين.﴿ لَـٰعِبِينَ ﴾ أي عابثين.﴿ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي بالعدل يجازي المحسن والمسيء بما أراد تعالى من ثواب وعقاب.﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أنه تعالى خلق ذلك لذلك فهم لا يخافون عقاباً ولا يرجون ثواباً.﴿ كَٱلْمُهْلِ ﴾ دردي الزيت وقيل غير ذلك.﴿ خُذُوهُ ﴾ يقال للزبانية خذوه.﴿ فَٱعْتِلُوهُ ﴾ أي سوقوه بعنف وجذب.﴿ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ ﴾ أي وسطه.﴿ ثُمَّ صُبُّواْ ﴾ المصبوب في الحقيقة هو الحميم فتارة اعتبرت الحقيقة وتارة اعتبرت الاستعارة لأنه إذا صب الحميم فقد صب ما تولد عنه من الألم والعذاب فعبر بالمسبب عن السبب لأن العذاب هو المسبب عن الحميم ولفظة العذاب أهول وأهيب.﴿ ذُقْ ﴾ أي العذاب.﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ ﴾ وهذا على سبيل التهكم بهم والهزء بمن كان يتعزز ويتكرم على قومه.﴿ إِنَّ هَـٰذَا ﴾ أي الأمر.﴿ مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ﴾ أي تشكون ولما ذكر حال الكفار أعقب بحال المؤمنين فقال:﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ الآية.﴿ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ ﴾ إستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى ذاقوها في الدنيا وفي ذلك تنبيه على ما أنعم به عليهم من الخلود السرمدي وتذكير لهم بمفارقة الدنيا الفانية إلى هذه الدار الباقية والضمير في يسرناه عائد على القرآن.﴿ بِلِسَانِكَ ﴾ أي بلغتك وهي لغة العرب.﴿ فَٱرْتَقِبْ ﴾ أي انتصر الذي وعدناك.﴿ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ﴾ فيما يظنون الدوائر عليها وفيها وعدٌ له صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم ومتاركة منسوخة بآية السيف.
Icon