مكية١
قال الحسن :( من قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة غفر له )٢.
ومن رواية ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ يس وحم الدخان في ليلة جمعة٣ إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " ٤.
وقال صلى الله عليه وسلم : " من قرأهما في يوم في أول نهاره لم٥ يدركه ذنب إلا الشرك بالله سبحانه " ٦.
٢ انظر إعراب النحاس ٤/١٢٥ حيث ورد بلفظه. وذكره ابن كثير في تفسيره رواية عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا. م قال ابن كثير: غريب لا نعرفه، والحسن لا يسمع من أبي هريرة ٤/١٣٨..
٣ (ح): (الجمعة)..
٤ لم أقف على نص هذا الحديث متصلا، بل وقفت على روايات تفرد سورة يس وحدها، وأخرى تخص سورة الدخان وحدها.
فما أفرد سورة يس الحديث الذي أخرجه التبريزي في مشكاة المصابيح ج ١/٦٧٠ ح ٢١٨٨، والسيوطي في الجامع الصغير ج ٢/١٧٨ كلاهما عن معقل بن يسار، ورمز السيوطي لهذا الحديث بالصحة، وحكم له الألباني بالضعف في ضعيف الجامع الصغير ج ٥/٢٣٨ ح ٥٧٩٧.
ومما خص سورة الدخان الحديث الذي أخرجه الترمذي في فضائل القرآن باب ما جاء في حم الدخان عن أبي هريرة والدارمي ٢/٤٥٧ في كتاب فضائل القرآن عن عبد الله بن عيسى وذكر السيوطي حديث الدارمي في كتابه اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ١/٢٣٦ ولم يصدر فيه أي حكم. [قلت: حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي في جامعه برقم (٢٨٨٩) وقال: هذا في حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهشام أبو المقدام يضَّف، ولم يسمع الحسن من أبي هريرة. المدقق]..
٥ ساقط من (ح)..
٦ لم أقف عليه..
ﰡ
قال تعالى: ﴿حم* والكتاب المبين﴾ - إلى قوله -: ﴿إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ﴾، قد تقدم ذكر حم.
وقوله: ﴿والكتاب المبين﴾ معناه، وحق الكتاب الظاهر، يعني: القرآن.
وجواب القسم في وقوله: ﴿والكتاب المبين﴾ قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾. وقيل: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ﴾.
وقيل: لا يجوز أن يكون الجواب ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ﴾ لأنه صفة للمقسم به. ولا يكون صفة المقسم به جواباً للقسم.
قال قتادة: الليلة المباركة: ليلة القدر.
ونزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، (ونزلت التوارة لست ليالٍ مضين من رمضان، ونزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان)، ونزل الإنجيل الثماني عشرة ليلة مضت من رمضان، ونزل القرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان.
وقيل المعنى: إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر.
وقوله: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾. قال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان فيها يبرم أمر السنة.
وظاهر التلاوة يدل على أنها ليلة قد تفرق فيها الأرزاق وتقضي الآجال إلى مثلها من قابل.
قال أبو العالية: ليلة القدر بركة كلها، لا يوافقها عبد مؤمن يعمل إحساناً إلا غفر له ما مضى من ذنوبه.
قال عكرمة: يكتب في ليلة النصف من شعبان حاج بيت الله الحرام فلا يغادر منهم أحداً ولا يزاد فيهم أحد.
وقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾، أي: منذرين خلقنا بهذا القرآن الذي أنزلناه في ليلة القدر أن يجل بهم العذاب بكفرهم.
ثم قال تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، أي في تلك الليلة المباركة يقضى كل أمر محكم، وهو أمر السنة كلها، من يموت ومن يولد، ومن يُعَزُّ ومن يُذَلُّ، وغير ذلك. سئل الحسن: هل ليلة القدر في كل رمضان؟ فقال: أي، والله إنها لفي كل رمضان، سئل الحسن: هل ليلة القدر في كل رمضان؟ فقال: أي، والله إنها لفي كل رمضان، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل أجل وأمل ورزق إلى مثلها، وهو قول مجاهد وقتادة، وقاله ابن عباس وغيره.
وقيل معنى " يفرق ": يفصل بين المؤمن والكافر والمنافق فيقال للملائكة هذا فيعرفونه.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " (تُقْطَعُ الآجَالُ) مِنْ شَعبَانَ إِلى شَعْبَانَ حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ وَلَقَدْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي المَوْتَى "، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّهَا لَيْلَةُ
ثم قال تعالى: ﴿أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ﴾، أي: قضاء قضيناه، أي: أمراً نأمر به تلك الليلة.
وانتصب أمراً على أنه مصدر في موضع الحال عند الأخفش، أي: إنا أنزلناه آمرين أمراً وراحمين رحمةً.
وقال المبرد: نصبه نصب المصدر على معنى: أنزلناه إنزالاً فالأمر يشتمل على الإخبار.
وقال الجرمي: هو حال من نكرة، وأجاز هذا رجلٌ مُقْبِلاً.
وقيل: إن " يفرق " يدل على " يؤمر " فانتصب " أمراً " على المصدر وعمل فيه المعنى.
وقوله: ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾.
انتصب الرحمة على الحال - عند الأخفش -، ونصبه الفراء على أنه مفعول ل " مرسلين "، وجعل " الرحمة " هي النبي ﷺ وأجاز الزجاج أن تنصبه على أنه
وقيل: نصبها على المصدر. والمعنى: إنا كنا مرسلين رسولا وهو الرحمة. إن الله هو السميع لما يقول المشركون في رسوله، العليم بما ينطق (في علمه) ضمائرهم وغير ذلك من أمورهم. " وإنا أنزلناه جواب القسم.
ثم قال تعالى: ﴿رَبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾، أي: الذي أنزل الكتاب على محمد ﷺ وهو رب السماوات والأرض وما بينهما، أي: هو مالك ذلك كله ومبتدعه ومدبره.
﴿إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾، أي: إن كنتم توقنون بحقيقة ما أخبرتكم به من أن ربكم رب السماوات والأرض.
وقوله: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾، أي: هو مالككم ومالك من مضى قبلكم من آبائكم الأولين.
ثم قال تعالى: ﴿فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي: فانتظر يا محمد) النقمة منهم وقت يحول بينهم وبين السماء دخان من شدة الجوع.
بلغ بهم الجوع إلى أن كانوا يأكلون الغلهز، والغلهز أن يفقأ القُراد في الصوف. ويشوى ذلك الصوف بدم القراد ويؤكل. والقُراد: الحلم. فرحمهم النبي ﷺ وبعث إليهم بصدقة ومال.
ومفعول: " فارتقب " محذوف، وهو النقكة وشبهها.
وقيل: التقدير هذا عذاب أليم فارتقبه يوم تأتي، وفيه بُعْدٌ لحذف الهاء من غير صلة ولا صفة، ولأنه رفع " العذاب " مع حذف الهاء، وذلك لا يحسن إلا في الشعر.
" وقد حَلَّ (بقريش ذلك كله)، إذ دعا عليهم النبي ﷺ فقال: " اللَّهُمَّ سِنِينَ
فأُخِذُوا بالجوع. فكان الرجل يحول بينه وبين النظر إلى السماء دخان من شدة الجوع، فيصير كهيئة الدخان، هذا قول ابن مسعود وغيره من المفسرين.
وقيل: الدخان آية من آيات الله يرسله الله تعالى على عباده قبل مجيء الساعة فيدخل في أسماع أهل الكفر ويعتري أهل الإيمان كهيئة الزكام، روي ذلك عن ابن عمرو والحسن.
وروى حذيفة بن اليمان أن النبي ﷺ قال: " أَوَّلُ الآياتِ الدُّخَانُ، وَنُزُولُ عِيسَى، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنُ أبين تَسُوقُ النَّاس إِلَى المَحْشَرِ تَقِيلُ مَعَهُمْ إِذا
وقيل: إن الدخان هو ما ينتظر بهم يوم القيامة من العذاب، قاله زيد بن علي.
ثم قال: ﴿يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أي: يغشى ذلك الدخان الناس يقولون هذا عذاب أليم.
ثم قال: ﴿رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ﴾، أي: يقولون ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
ثم قال تعالى: ﴿أنى لَهُمُ الذكرى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ﴾، أي: من أي وجه لهم
﴿وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ﴾، أي: علم هذا الذي جاءنا به ليس هو من عند الله.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً﴾، أي: إنا نكشف عنكم العذاب الذي نزل بكم بالخصب والرخاء وقتاً قليلاً، إنكم عائدون إلى كفركم إذا كشفناه عنكم، (وتنقضون ما عهدتم) به أنكم تؤمنون إذا كشف عنكم.
وقيل معناه: إنكم عائدون في عذاب الله (في الآخرة) إن لم تؤمنوا.
وقيل معناه: عائدون إلى الشرك.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى﴾ - إلى قوله - ﴿وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾، أي: ننتقم منكم إن عدتم إلى كفركم عند كشفنا عنكم ما أنتم فيه من الجهد يوم نبطش البطشة الكبرى، وهو يوم بدر عند أكثر المفسرين، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك وابن زيد وأبو العالية، وهو قول وهو قول أُبي بن كعب، أمكن الله تعالى منهم المؤمنين يوم بدر فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين.
وقيل: العامل فيه فعل مضمر، تقديره: اذكر يا محمد يوم نبطش. وهو الأحسن، لأن الظرف لا يعمل فيه ما بعد أن عند البصريين.
وقيل: التقدير: ننتقم يوم نبطش، ودل عليه " منتقمون ".
وفيه أيضاً بُعْدٌ لأن ما بعد " إنَّ " لا يفسر ما قبلها كما لا يفعل (ما بعدها) فيه.
فإضمار " اذكر " أحسن الوجوه، وذلك أن الله جا ذكره كشف عنهم ما كانوا فيه من الجهد فعادوا إلى كفرهم فأهلكهم قتلا بالسيف يوم بدر. فيكون العامل في " يوم نبطش " فعلاً مضمراً يفسره " إنا منتقمون ".
ولا يحسن أن يعمل فيه " منتقمون "، لأن ما بعد " أن " لا يعمل فيما قبلها. ويجوز أن يكون العامل " اذكر " مضمرة.
وقال عكرمة: البطشة الكبرى هي بطشة الله تعالى بأعدائه يوم القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾، أي اختبرناهم وابتليناهم قبل مشركي قومك يا محمد.
﴿وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ يعني موسى ﷺ أي " كريم عند ربه تعالى. وقيل كريم من قومه. وقيل: الفتنة في هذا العذاب.
وفي الكلام تقدير وتأخير، والتقدير، ولقد جاء قوم فرعون رسول كريم.
وفتناهم، أي: عذبناهم بالغرق، لأن العذاب - وهو الغرق - كان بعد مجيء موسى إليهم وإنذاره إياهم وكفرهم
. ثم قال تعالى: ﴿أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾.
قال ابن عباس معناه: (أن اتبعوني) إلى ما أدعوكم إليه يا عباد الله فيكون " عباد ": نصب على النداء المضاف على هذا القول.
وقيل التقدير: وجاءهم رسول أمين يقول لهم: أدوا إِليَّ عباد الله أي: خلوا
ثم قال: ﴿وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾، أي: وجاءكم رسول كريم بأن أدوا إلي عباد الله وبألا تعلوا على الله، أي: لا تطغوا على ربكم فتكفروا به.
﴿إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾، أي: بحجة ظاهرة تدل على صحة ما جئتكم به.
ثم قال: ﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون﴾، أي: قال لهم موسى ": وإني اعتصمت واستعذت بربي وربكم من أن تشتمون بألسنتكم، قاله ابن عباس والضحاك.
وقال أبو صالح: أن ترجمون معناه: أن تقولوا لي شاعر (أو كاهن) أو ساحر.
وقال الفراء: " الرجم - هنا - القتل ". استجار بالله تعالى واعتصم به سبحانه من أن يقتلوه.
ثم قال لهم: ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون﴾، أي: أذا أنتم لم تصدقون فيما أقول لكم فخلوا سبيلي (ولا تؤذون).
وقيل معناه: فدعوني كفافاً، لا عَلَيَّ ولا لي.
قال: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ﴾، أي: فدعا موسى ربه إذ كذبوه ولم يؤمنوا وهموا بقتله. وفي الكلام حذف تتصل الفاء به. والتقدير: فكفروا فدعا ربه ولو لم يكن هذا الإضمار لم تتصل الفاء بشيء ومثله في قوله: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي﴾.
قوله: ﴿أَنَّ هؤلاء﴾، أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء قوم مجرمون لا يؤمنون بما
ثم قال تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾.
في هذا الكلام حذف. والتقدير: فأجابه ربه تعالى بأن قال له: فأسر بعبادي ليلاً، يعني: بني إسرائيل، أي: فأسر بعبادي الذين صدقوك وآمنوا بك ليلاً إنهم متبعون، أي: إن فرعون وجنوده من القبط يتبعونكم إذا سريتم من عندهم.
ثم قال: ﴿واترك البحر رَهْواً﴾، أي: إذا قطعت البحر (أنت وأصحابك) فاتركه ساكناً على حاله حين دخلته. هذا لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر.
لم يكن في (وسع موسى) ترك ذلك، ولم يكن الله تعالى ليأمره بما لا يقدر عليه، فهو وعد من الله تعالى لموسى أن يفعله له، وكأنه قال: ويبقى البحر على حاله ساكنا حتى يدخله فرعون وجنوده فيغرقون.
قال ابن عباس، معناه: واتركه طريقاً. وقال الضحاك: سهلاً.
وقال مجاهد معناه: واتركه ساكناً لا يرجع إلى ما كان عليه حتى يحصل فيه
قال: فمعنى رهواً: ساكناً، حتى يحصلوا فيه وهو ساكن فلا (ينفروا منه).
وقيل الرهو: المتفرق ويقال: جاء القوم رهواً، أي: على نظام واحد.
وروي أن الله جل ذكره قال هذا لموسى بعد أن قطع البحر بنو إسرائيل.
فعلى / هذا القول يكون في الكرم حذف.
والتقدير: فسرى موسى بعبادي
قال قتادة: لما خرج آخر بني إسرائيل أراد نبي الله موسى عليه السلام أن يضرب بالبحر بعصاه حتى يعود كما كان مخافة أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: اتركه اكناً على حاله إنهم جند مغرقون، فغرقهم الله تعالى في البحر.
ثم قال تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ﴾، أي: كم ترك آل فرعون - يعني: القبط المغرقين - من بساتين وينابيع ماء تتفجر في بساتينهم وزروع قائمة.
﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾، يعني: مقام الملوك والأمراء، كانوا يعظمونه ويشرفونه، يعني به المنابر، (قاله ابن عباس وقيل: هي المنازل الحسنة. ومعنى
ثم قال: ﴿وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ﴾، أي: وأخرجوا من نعمة كانوا فيها متفكهين. قال قتادة: فاكهين: ناعمين. وعن ابن عباس: فاكهين: فرحين والنعمة - بالفتح - التنعم.
وقرأ أبو رجاء العطاردي والحسن " فَكِهينَ " بغير ألف، على معنى: كانوا فيها بطرين أشرين.
ثم قال: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾، أي: هكذا فعلنا بهم أيها الناس، وأورثنا ما تركوا مما تقدم وصفه قوماً آخرين يعني: بني إسرائيل.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض﴾، أي: ما بكى عليهم حين هلكوا بالغرق أهل السماء، ولا أهل الأرض. ثم حذف.
وقيل: إن بكاء السماء حمرة أطرافها.
وقيل: معنى ذلك أن المؤمن إذا مات بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فأعلمنا الله أنهم لم يكونوا مؤمنين فتبكي عليهم السماء والأرض.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " بَدَأَ الإسْلاَمُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً،
ومن قال أن السماء والأرض تبكيان على المؤمن ولا تبكيان على الكافر، علي بن أبي طالب (Bهـ) وابن عباس والحسن والضحاك وقتادة.
قال ابن عباس: ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء (ينزل منه) رزقه
وقوله: ﴿وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾، معناه: لم يكونوا مؤخرين حين أتاهم العذاب وتم الأجل.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ﴾ - إلى قوله - ﴿هُوَ العزيز الرحيم﴾، أي: ولقد نجى الله تعالى بني إسرائيل من العذاب المذل والإهانة التي كان فرعون وقومه يعذبونهم بها. قال قتادة: عذابهم لبني إسرائيل هو قتلهم أبناؤهم واستحياء نساءهم.
ثم قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين﴾ أي: إن فرعون كان جباراً مستكبراً على ربه سبحانه مسرفاً متجاوزاً إلى غير ما يحب له من الكفر والطغيان.
قال ابن عباس: من المسرفين: من المشركين. وقال الضحاك:
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين﴾، أي: ولقد اخترنا بني إسرائيل على علم منا بهم على عالم زمانهم وقيل معناه: اخترناهم للرسالة والتشريف على علم منا بهم فذكر تعالى أنه أختارهم لكثرة الأنبياء منهم.
قال قتادة ومجاهد معناه: اخترناهم على أهل زمانهم ذلك ولكل زمان عالم.
ثم قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ﴾، أي: وأعطيناهم من العبر والعظات ما فيه اختبار يبين لمن تأمله أنه اختبار اختبرهم الله تعالى به.
روي أن الله تعالى أنزل ببيت المقدس سلسلة معلقة من السماء فكانوا يتحاكمون في حقوقهم وخصوماتهم ودعاويهم إلى السلسلة. فمن كان محقاً أدرك بيده مس السلسلة، ومن كان مبطلاً لم يدرك بيده مسها، فلم يزالوا كذلك حتى مكروا / فرقعت، وذلك فيما روي أن رجلاً منهم أودع رجلاً مالاً فجحده المودع عنده، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي جحد الوديعة إلى كلخ فقأ داخله، ثم أدخل فيه الوديعة. فلما أتيا إلى السلسلة قال الجاحد للوديعة لرب المال: أمسك لي هذه الكلخة (في يدك) حتى أمس السلسة، فأمسكها رب المال وهو لا يعلم بما فيهاغ. ثم تقدم الجاحد بحضرة الناس، وقال: اللهم إن كنت تعلم أني قد وضعت ماله في يده وقبضه مني فأسألك ألا تفضحني ومَدَّ يده فأدرك السلسة فأقبل صاحب المال يقول: والله يا بني إسرائيل (إن هذه السلسلة لباطل وزور، فرفع الله السلسلة من ذلك الوقت.
ويروى أنه كان لهم عمودان، فإذا أتهم أحد بزنى فَأَقَرَّ رُجِمَ، وإن جحد
وكان الرجل منهم يعمل الذنب لا يعلم به أحد فيصبح ويجده مكتوباً على بابه.
قال قتادة: البلاء هو أنه (تعالى نجاهم) من عدوهم، ثم أقطعهم البحر وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى. فيكون البلاء هنا على قول قتادة، النعمة.
وقال ابن زيد: ابتلاهم بالخير والشر، يختبرهم فيما آتاهم من الآيات، من يؤمن بها ومن يكفر.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾، أي:
ثم قال: ﴿فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، أي: قالوا لمحمد عليه السلام ومن آمنوا به فأتوا بآبائنا، أي: فأحيهم لنا لنسألهم عن صدقكم إن كنتم صادقين.
ثم قال تعالى: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾، أي: أهؤلاء المشركون يا محمد خير أم قوم تبع الحميري.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان " تبع " رجلاً صالحاً، فذم الله قومه ولم يذمه.
قال كعب: كان " تبع " ملكاً من الملوك، وكان قومه كهَّاناً، وكان معه قوم من أهل الكتاب [فكان قومه يكذبون على أهل الكتاب عنده.
فقال لهم جميعاً: قربوا قرباناً فَقَرَبُوا. فتقبل قربان أهل الكتاب] ولم يتقبل
قال أبو عبيدة: " تبع " اسم ملك من ملوك اليمن، سمي بذلك لأنه يتبع صاحبه.
وروي سهل بن سعد الساعدي أن النبي ﷺ قال: " لاَ تَلْعَنُوا تُبَّعاً فَإِنَّهُ (قَدْ كَانَ) " أَسْلَمَ ".
وقوله: ﴿والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾، أي: من قبل قوم تُبَّع من الأمم الكافرة
وقوله: ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾، أي: أهلكنا قوم تبع والذين من قبلهم من الأمم الكافرة إنهم كانوا قوماً مجرمين. فإذا انتقمنا من الأفضل لكفره فما ظنك بالأدون.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاعبين﴾، أي: لم نخلق ذلك لعبا، بل خلقناه لإقامة العمل والحق الذي لا يصلح التدبير إلا به.
ينبه جل ذكره وخلقه على صحة كون البعث والثواب والعقاب، وأنه لم يخلق الخلق عبثاً، بل خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً وأقبل للطاعة، فيجازي المحسن بالإحسان والمسيء بما أراد، وهو قوله: ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق﴾، أي للحق والعدل.
﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون أن الله خلق (ذلك لذلك) فهم لا يخافون عقاباً (ولا يرجعون لتكذيبهم) بالمعاد والثواب والعقاب.
(ثم قال: ﴿إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، أي: إن يوم فصل الله بين خلقه وقت لجميع الخلق يجتمعون فيه للفصل بينهم).
ثم قال تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً﴾. " يوم " بدل من " يوم " الأول. ومعناه إن يوم لا يغني ولي عن ولي شيئاً وقت لجميع الخلق يجتمعون فيه للفصل بينهم، أي: يوم لا يدفع ابن عم عن ابن عم، ولا صاحب عن صاحب شيئاً من العذاب.
قال قتادة: " انقطت الأسباب يومئذ يا ابن آدم، وصار الناس يومئذ إلى أعمالهم، فمن أصاب يومئذ / خيراً سَعِدَ به، ومن أصاب يومئذ شراً شقي به ".
والمولى والولي في اللغة: الناصر.
وقول النبي ﷺ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ " في تفسيره ثلاثة أقوال:
- أحدهما: إن معناه: من كنت أتولاه فعلي يتولاه.
- والثاني: من كان (يتولاني، يتولاه) علي.
- والثالث: إنه كان قوله ذلك في سبب، وذلك أن أسامة بن
ثم قال تعالى: ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم﴾ " من " عند الأخفش في موضع رفع على البدل على المعنى كأن التقدير: (ولا ينصر) أحد إلا من رحم الله.
وأجاز أن تكون في موضع رفع على الابتداء. كأنه في التقدير: إلا من رحم الله فيغني عن غيره، أي: يشفع لغيره ممن أراد الله تعالى له الشفاعة كما قال: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾ [الأنبياء: ٢٨].
وقيل: " من " رفع لفعلها، أي لا يغني إلا من رحم الله (" فمن " على هذا القول بدل من " مولى " أي: لا يشفع إلا من رحم الله).
فإن جعلت " من " بدلاً أو استثناء منقطعاً لم تقف على ينصرون.
وروى أنس عن النبي ﷺ أنه قال: " إِنَّ الرَّجُلَ مِنَ المُؤْمِنينَ يُقَامُ في صَفِّ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَرَى رَجُلاً مِنَ المُوَحِّدِينَ قَائِماً (فِي صَفِّ) أَهْلِ النَّارِ (قدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ) في
وقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم﴾، أي: العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه وأهل طاعته.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم﴾ - إلى آخر السورة أي: إن شجرة الزقوم التي أخبر تعالى أنها تنبت في أصل الجحيم هي طعام الكافر في جهنم، والأثيم: الآثم وهو في هذا أبو جهل ومن كان مثله.
ولما نزلت هذه الآية دعا أبو جهل بزبد ودعا أًحابه (فقال: تَعَالَوْا، تَزَقَّمُوا)، فهذا الذي يَعِدُنَا به محمد أنه طعامنا في الجحيم.
والعجوة صنف من التمر طيب.
ورُوي أن أبا الدرداء كان يُقْرِئُ رَجُلاً ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم﴾ فكان الرجل يقول: طعام اليتيم. فلما أكثر عليه أبو الدرداء ولم يفهم الرجل، قال له: إن شجرة الزقوم طعام) الفاجر.
فهذه قراءة على التفسير لا يحسن أن يُقْرَأَ بها.
قال: ﴿كالمهل يَغْلِي فِي البطون﴾، أي: شجرة الزقوم - التي جعلنا ثمرها طعام الكافر في جهنم - كالرصاص أو الفضة المذابة إذا ما تناهت حرارتها.
وقال ابن عباس: " كالمهل: كُدْردِيِّ الزيت ".
(وروي عنه أنه رأى فضة قد أذيبت فقال: هذا
وقوله: ﴿كَغَلْيِ الحميم﴾، أي: (يغلي) ذلك في بطون الكفار كغلي الماء المحموم، وهو الذي قد أوقد عليه حتى تناهت شدة حره، والحميم بمعنى: (محموم، كقتيل) بمعنى: مقتول.
ثم قال تعالى: ﴿خُذُوهُ فاعتلوه﴾: يعني الأثيم، وهو الكافر، يقال للملائكة: خذوا الكافر فاعتلوه، أي: (فادفعوه وسوقوه) على عنف.
يقال عتله: إذا ساقه بالدفع والجذب.
ثم قال: ﴿ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم﴾، أي: صبوا على رأس هذا الأثيم - وهو الكافر - من عذاب الجحيم.
ثم قال: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾، أي: يقال له ذق هذا العذاب إنك أنت كنت العزيز في قومك.
قال قتادة: " نزلت هذه الآية في أبي جهل عدو الله لقي النبي ﷺ فأخذ النبي ﷺ فَهَزَّهُ، ثم قال: " أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا جَهْلٍ، ثُمَّ أَوْلَى لَك فَأَوْلَى " فقال أبو جهلٍ أيوعدني محمد، لأنا أعز من يمشي بين جبليها. فنزلت ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ أي: المدعي ذلك "
، وفيه نزلت: ﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْءَاثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٢٤] /، وفيه نزلت: ﴿كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب﴾ [العلق: ١٩].
وقوله " ذق " عند من كسر " إن " واقع على محذوف وهو العذاب. فأما من فتح " أن " فمعناه مثل ذلك: ذق العذاب لأنك وبأنك كنت تقول: أنا العزيز الكريم.
وهذا كلام معناه التقريع والتوبيخ وليس بمدح له، إنما هو على طريق الحكاية لما كان يدعي في الدنيا من العزة والكرم، إذ كان يقول: أنا العزيز الكريم، فقرع به عند حلول العذاب به إذ صار في ذلة وهوان. فكأنه قيل له: ذق هذا العذاب إنك كنت تقول: أنا العزيز الكريم، فأنت الآن الذليل المهان. فأين ما كنت تقول في الدنيا. وذلك أشد لنكا له وحسرته.
" وروي أن النبي ﷺ لقي أبا جهل فقال له: " إِنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ لَكَ
ثم قال: ﴿إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾، أي: يقال لهم إن هذا العذاب الذي كنتم تَشْكُّونَ.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾، أي: إن الذين اتقوا الله تعالى فأدوا طاعته (واجتنبوا معصيته) في موضع إقامة آمنين فيه من السوء كله. وكل من (تقبل الله) له عملاً وإن قل فهو من المتقين بدلالة قوله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾ [المائدة: ٢٧].
قال علي (بن أبي طالب) رضي الله عنهـ: مَا قَلَّ عَمَلٌ مع تقوى وكيف يَقِلُّ ما يتقبل.
ووصف المقام " بأمين " لأنه يؤمن فيه.
والمقام - بالفتح - اسم المكان من قام، وبالضم اسم المكان (من أقام).
ثم بين تعالى ذكره ذلك المقام قال: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾، أي: في بساتين وعيون من الماء متطرداً في أصول أشجار الجنات.
ثم قال تعالى: ﴿يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾.
السندس: مَا رَقَّ من الديباج. والإستبرق: ما غَلُظَ منه: وقيل: السندس: الخِزُّ المُوَشَّى.
ثم قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾، أي: كما أدخلناهم الجنات، وألبسناهم السندس والإستبرق، كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم أيضاً فيها بحور عين، وهن النقيات (البياض، والواحدة) حوراء.
وقال مجاهد: ﴿وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾، أي: " أنكحناهم حوراً. والحور التي يحار فيهن الطرف، بادٍ مُخُّ سوقهن من (وراء ثيابهن). يرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون ".
والحَوَرُ في اللغة: البياض، كما قيل للدقيق الصافي البياض الحُوَّارَى وفي حرف ابن مسعود: " زوجناهم بعيسى عين "، والعيس جمع عيساء وهي البيضاء من الإبل. والعين جمع عيناء وهي العظيمة العينين من النساء.
ثم قال: ﴿فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾، أي: يدعو هؤلاء المتقون من في الجنة بكل نوع من الفاكهة اشتهوه آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم، ونفاده، وغائلة (أذاه) (ومن كل) سوء يذحر في الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾، أي: بعد الموتة الأولى، أي: لا يذوقون فيها موتاً بعد موتهم في الدنيا. ف " إلا " هاهنا قريبة المعنى من " بعد ".
وطُعِنَ في هذا القول، لأن القائل لو قال (لا أذوق) اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم بمعنى " سوى "، لجاز أن يريد أن عنده طعاماً من نوع الطعام الذي ذاق بالأمس، وإنه ذائقه اليوم دون سائر الأطعمة.
فيحتمل معنى الآية إذا كانت " إلا " بمعنى " سوى " أن يكون ثم موت من جنس الموت الأول (يحل بهم) / وهذا محال.
وقال النحاس: المعنى لا يذوقون فيها الموت البتة. ثم قال: ﴿إِلاَّ الموتة الأولى﴾ على الاستثناء المنقطع.
(والأحسن أن يكون " إلا " بمعنى " غير "، أي: لا يذوقون فيها موتاً غير الموتة الأولى التي كانت في الدنيا).
ثم قال: ﴿وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم﴾، أي: نجاهم منه.
ثم قال: ﴿فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ﴾، أي: تفضلاً منه. وهو مصدر والعامل فيه فعل مضمر.
وقيل العامل: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾.
(وقيل العامل: ﴿إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾).
وقيل: الكلام كله الذي قبله عامل فيه، لأنه تفضل منه عليهم إذ وفقهم في الدنيا إلى أعمال يدخلون بها الجنة. وقيل: سماه " تفضلاً " لأنه غفر لهم صغائرهم لو أخذهم بها لم يدخلوا الجنة.
وقيل: إنما سماه " تفضلاً " لأن نعمه عليهم في الدنيا تستغرق حسناتهم فأدخلهم الجنة بفضله ورحمته لا بأعمالهم.
روي عن النبي ﷺ أنه قال: " مَا اَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةِ بِعَمَلِهِ.
قِيلَ: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟! قَالَ: (وَلاَ اَنَا) إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِهِ ".
ثم قال تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ﴾ أي أنزلنا القرآن بلسان العرب لعلهم يفهمون (فيتذكرون ويتعظون).
ثم قال تعالى: ﴿فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ﴾، أي: فانتظر أن يحكم الله بينك وبينهم، إنهم منتظرون بك ريب الحدثان. وقيل المعنى: فانتظر الفتح والنصر فإنهم منتظرون عند أنفسهم قهرك وغلبتك.