تفسير سورة المؤمنون

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ المؤمنُونَ
مكية وآيها: مئة وثماني عشرة آية، وحروفها: أربعة آلاف وثماني مئة وحرفان، وكلمها: ألف وثماني مئة وأربعون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)﴾.
[١] ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي: سعد المصدقون ونالوا البقاء في الجنة، والفلاح: هو النجاح والبقاء، و (قَدْ) تُثبت المتوقع، كما أن (لما) تنفيه، ولما كان المؤمنون متوقعين ذلك، صدرت بها بشارتهم.
وقد روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "لقد أُنزل علي عشر آيات، من قام بهن، دخل الجنة، ثم قرأ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى عشر آيات" (١). قرأ ورش عن نافع: (قَدَ أَفْلَحَ) بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وهو الدال، وحذفها، وحمزة له النقل إذا وقف بخلاف عنه، والوجهان من
(١) رواه الترمذي (٣١٧٣)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المؤمنون، والنسائي في "السنن الكبرى" (١٤٣٩)، والإمام أحمد في "المسند" (١/ ٣٤)، والحاكم في "المستدرك" (١٩٦١)، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وإسناده ضعيف، انظر: "الضعفاء" للعقيلي (٤/ ٤٦٠).
النقل والتحقيق عن حمزة صحيحان معمول بهما (١). وقرأ أبو عمرو، وورش، وأبو جعفر (٢): (الْمُومِنُونَ) حيث وقع بواو ساكنة بغير همز، والباقون: يهمزونه (٣).
...
﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢)﴾.
[٢] ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ مُخبتون أذلاء، ملزمون أبصارَهم مساجدَهم، وهو المسنون عند الأئمة الثلاثة، وقال مالك: ينظر أمام قبلته، وليس عليه أن ينظر إلى حيث يسجد، ولا إلى موضع معين، والخشوع قريب من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والخشوع في البدن والبصر والصوت، قال الله تعالى: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾ [طه: ١٠٨]، وأضيفت الصلاة إلى المؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بها.
روي أن سبب نزولها: أن المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم (٤) يمنة ويسرة، فنزلت الآية (٥)، وأمروا أن يكون بصر المصلي حذاء قبلته، أو بين يديه، وفي الحرم إلى الكعبة.
...
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠١).
(٢) "أبو جعفر" زيادة من "ت".
(٣) سلفت في عند تفسير الآية (٣) من سورة البقرة.
(٤) في "ش": "صلواتهم".
(٥) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٦/ ٨٣).
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ﴾ وهو كل ما لا يجمل في الشرع من قول وفعل ﴿مُعْرِضُونَ﴾.
...
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤)﴾.
[٤] ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ﴾ المفروضة (١) ﴿فَاعِلُونَ﴾ أي: مؤدُّون.
...
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ بالتعفف عن الحرام، والفرج: اسم يجمع سوءة الرجل والمرأة.
...
﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)﴾.
[٦] ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ﴾ أي: زوجاتهم، والآية في الرجال خاصة؛ بدليل قوله:
﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ من السراري.
﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ على إتيانهن في المآتي.
...
(١) "المفروضة" زيادة من "ت".
﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧)﴾.
[٧] ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ﴾ أي: طلب سوى الزوجات والسراري.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ المعتدون، استدل بذلك بعض العلماء على أن الاستمناء باليد حرام، وهو مذهب الثلاثة، ومذهب أحمد: يُباح إذا لم يجد طَوْلًا لحرة، ولا ثمنَ أمة، وخاف الزنا، فإن فعله لغير حاجة، عُزر لفعله محرمًا، وحكم المرأة عنده كالرجل، فتستعمل شيئًا مثل الذكر عند الخوف من الزنا.
...
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ﴾ جمع أمانة، وهي كل ما يؤتمن عليه؛ كأموال وحرم وأسرار. قرأ ابن كثير: (لِأمَانَتِهِمْ) بغير ألف بعد النون على التوحيد؛ لقوله: (وَعَهْدِهِمْ)، وقرأ الباقون: بالألف على الجمع، لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ (١) [النساء: ٥٩].
﴿وَعَهْدِهِمْ﴾ لمن عاهدهم أو عاهدوه ﴿رَاعُونَ﴾ حافظون.
...
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف:
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠٢).
(صَلاَتِهِمْ) على التوحيد، والباقون: (صَلَوَاتِهِمْ) على الجمع (١) والتوحيد، اسم جنس، فهو في معنى الجمع.
﴿يُحَافِظُونَ﴾ يداومون، وكررت الصلاة؛ لأنها أعظم العبادات.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿أُولَئِكَ﴾ أهل هذه الصفة ﴿هُمُ الْوَارِثُونَ﴾ يوم القيامة منازلَ الكفار من الجنة؛ لأن لكل واحد منزلين: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالمؤمن يرث منزل الكافر من الجنة، والكافر يرث منزل المؤمن من النار.
﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)﴾.
[١١] ﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ﴾ هو أعلى الجنة.
﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يموتون ولا يخرجون، وقد ورد "أن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي وجلالي! لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث" (٢).
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَلَقَدْ﴾ ابتداء كلام، والواو في أوله عاطفة جملة الكلام على
(١) المصادر السابقة.
(٢) رواه أبو الشيخ في "العظمة" (٥/ ١٥٥٥)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (٢/ ٢٣٥)، عن عبد الله بن الحارث -رضي الله عنه-.
جملة وإن تباينت في المعاني ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ هو آدم عليه السلام.
﴿مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ أي: من طينة مستلة، والسلالة: خلاصة الشيء، والعرب تسمي النطفة: سلالة، والولد: سليلًا؛ لأنهما مسلولان من الرجل.
...
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ﴾ أي: ابن آدم ﴿نُطْفَةً﴾ من مني.
﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ الرحم.
...
﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ وتقدم تفسيرها في سورة الحج، والنطفة تقع في اللغة على قليل الماء وعلى كثيره، وهي ها هنا مني ابن آدم.
﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾ و (خلقنا) في الثلاثة المواضع بمعنى: صيرنا.
﴿فَكَسَوْنَا﴾ أي: ألبسنا ﴿الْعِظَامَ لَحْمًا﴾ قرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (عَظْمًا) (فَكَسَوْنَا الْعَظْمَ) بفتح العين وإسكان الظاء من غير ألف
460
على التوحيد فيهما، وقرأهما الباقون: بكسر العين وفتح الظاء وألف بعدها على الجمع (١).
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ بنفخ الروح فيه، وقيل: هو تغير أحواله من ولادة إلى رضاع إلى قعود إلى قيام إلى مشي إلى أكل وشرب إلى تقلب في البلاد.
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ﴾ أي: تعالى وتقدس، وتبدل منه.
﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ المقدِّرين، والخلق في اللغة: التقدير.
روي أن ابن أبي السرح كان يكتبها لدى النبي - ﷺ -، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال - ﷺ -: "اكتبها، فهكذا أنزلت"، فارتد وقال: إن كان محمد يوحى إليه، فأنا يوحى إلي، ثم أسلم يوم الفتح (٢).
قال (٣) الكواشي: وليس لأحد بهذه الحكاية طعن في القرآن، ولا في إعجازه؛ لأن الكلمة والكلمتين قد تتفق لمن لم يتقدم له قدم في قرآن ولا كلام ولا شعر، ولا يحصل بالكلمة والكلمتين إعجاز، وأقل ما يحصل الإعجاز بالسورة الواحدة، قال ابن جريج: إنما جمع الخالقين؛ لأن عيسى كان يخلق.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٤١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٨)، و "معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠٣).
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٧/ ٢٧٣)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٤/ ١٣٤٧)، عن السدي. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (١/ ٤٤٤).
(٣) في "ت": "فقال".
461
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ بعد تمام خلقكم.
﴿لَمَيِّتُونَ﴾ عند انقضاء آجالكم، والميت: من مات، والمائت: من سيموت.
...
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ للمحاسبة والمجازاة.
...
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ﴾ أي: سموات، جمع طريقة، سميت بذلك؛ لتطارق بعضها فوق بعض ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ فنسقط السماء عليهم.
...
﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ بمقدار ما علمنا من كفايتهم.
﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾ فجعلناه ثابتًا مستقرًا، ثم أخرجنا منه ينابيع، وكل ماء في الأرض من السماء، ثم امتن عليهم بإبقاء الماء فقال:
﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ﴾ أي: على إزالته.
﴿لَقَادِرُونَ﴾ فتموتون عطشًا، وتهلك مواشيكم، وتخرب أراضيكم.
وفي الخبر: "أن الله تعالى أنزل أربعة أنهار من الجنة: سيحان، وجيحان، ودجلة، والفرات" (١).
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: "خمسة أنهار" فزاد بعد الأربعة: "والنيل" (٢).
...
﴿فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ﴾ أي: بالماء ﴿جَنَّاتٍ﴾ بساتين (٣).
﴿مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا﴾ في الجنات ﴿فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ تتفكهون بها ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ تغذيًا، وخص النخل والأعناب بالذكر؛ لأنها أكثر فواكه العرب بالحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما؛ ولأنهما أشرف الثمار، وذكرها مثالًا؛ تشريفًا لها، وتنبيهًا عليها.
...
(١) رواه ابن أبي الدنيا عن ابن عطاف، كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (٦/ ٩٥).
(٢) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (٦/ ٣١٥)، وابن حبان في "المجروحين" (٣/ ٣٤)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (١/ ٥٧). وقد روى مسلم (٢٨٣٩)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ما في الدنيا من أنهار الجنة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - ﷺ - "سيحان وجيحان، والفرات والنيل، كلٌّ من أنهار الجنة".
(٣) "بساتين" زيادة من "ت".
﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَشَجَرَةً﴾ عطف على ﴿تَخْرُجُ﴾ أي: وأنشأنا لكم شجرة هي الزيتون.
﴿مِنْ طُورِ﴾ أي: جبل ﴿سَيْنَاءَ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: بكسر السين، والباقون: بفتحها (١)، ومعناهما: البركة؛ أي: من جبل مبارك.
﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (تُنْبِتُ) بضم التاء وكسر الباء؛ من أنبت، فالباء زائدة، وفائدة زيادتها دلالتها على ملازمة الإنبات للدهن؛ أي: تخرج الدهن، وقرأ الباقون: بفتح التاء وضم الباء؛ من نبت (٢)؛ أي: تنبت بثمرة الدهن، وهو الزيتون، وقيل: تنبت ومعها الدهن؛ كما تقول: خرج زيد بسلاحه، فملخص الاختلاف بين القراء: أن قراءة ابن كثير، وأبي عمرو (سِينَاءَ) بكسر السين (تُنْبِتُ) بضم التاء وكسر الباء، وقراءة نافع، وأبي جعفر: بكسر السين، و (تَنْبُتُ) بفتح التاء وضم الباء، وقراءة الكوفيين، وابن عامر، وروح: بفتح السين، و (تَنْبُتُ) بفتح التاء وضم الباء، وقراءة رويس: بفتح السين وضم التاء وكسر الباء.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٤٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠٤).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٤٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠٥).
﴿وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ﴾ والصبغ: هو الإدام، معطوف على الدهن؛ أي: تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنًا يدهن به ويسرج منه، وكونه إدامًا يصبغ فيه الخبز؛ أي: يُغمس فنيه للائتدام.
...
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ آية تعتبرون بها.
﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا﴾ من الألبان. قرأ أبو جعفر (تسقِيكُمْ) بالتاء مفتوحة؛ أي: تسقيكم الأنعامُ، وقرأ الباقون: بالنون؛ أي: نحن، وفتح النونَ: نافع، وابن عامر، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم، وضمها الباقون (١).
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ﴾ في ظهورها وأصوافها وشعورها.
﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ فتنتفعون بأعيانها.
...
﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَعَلَيْهَا﴾ أي: الإبل في البر.
﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾ في البحر ﴿تُحْمَلُونَ﴾.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٣٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٤٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠٦).
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وحدوه ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ معبود سواه. قرأ أبو جعفر، والكسائي: (غَيْرِهِ) بكسر الراء على نعت الإله حيث وقع، والباقون: بالرفع على التقديم (١)؛ أي: ما لكم غيره من إله.
﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ أفلا تخافون أن يهلككم إذا عبدتم غيره؟!
...
﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾ الملأ: الأشراف.
﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: يعلوكم؛ بأن يصير متبوعًا، وأنتم له تبع.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ ألَّا يعبد سواه ﴿لأَنْزَلَ مَلَائِكَةً﴾ بإبلاغ الوحي.
﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا﴾ الذي يدعونا إليه نوح.
﴿فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ وفي قول هؤلاء استبعاد بعثة البشر، وهم مقرون بالملائكة.
(١) انظر: "التيسير" للداني (صى: ١١٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠٧).
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أي: جنون.
﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ﴾ فاحتملوه وانتظروا.
﴿حَتَّى حِينٍ﴾ أي: إلى أن يموت.
...
﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿قَالَ﴾ بعدما أيس من إيمانهم: ﴿رَبِّ انْصُرْنِي﴾ بإهلاكهم ﴿بِمَا كَذَّبُونِ﴾ أي: بسبب تكذيبهم إياي. قرأ يعقوب: (كَذَّبُوني) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (١).
...
﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ بحفظنا؛ أي: محفوظة؛ لأنه كان يعمل السفينة، ولا يخطئ في عملها ﴿وَوَحْيِنَا﴾ أمرنا.
﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ بالركوب. واختلاف القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَمْرُنَا) كاختلافهم فيهما من ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ في سورة الحج [الآية: ٦٥].
﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ روي أنه قيل لنوح: إذا فار الماء من التنور، اركب
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢١١).
أنت ومن معك، فلما نبع الماء منه، أخبرته امرأته، فركب، وهو تنور الخبز في قول الأكثر، ومحله الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وقيل: عين وردة من الشام، وقيل غير ذلك.
﴿فَاسْلُكْ﴾ فأدخل ﴿فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ﴾ صنفين من الحيوان.
﴿اثْنَيْنِ﴾ ذكرًا وأنثى، وقيل لهما زوجان؛ لأن كل واحد منهما يقال له زوج؛ لأنه لا بد لأحدهما من الآخر. قرأ حفص: (مِنْ كُلٍّ) بالتنوين؛ أي: من كل صنف زوجين اثنين، ذكره تأكيدًا، والباقون: بغير التنوين على الإضافة (١)، على معنى: احمل اثنين من كل زوجين، والقراءتان ترجعان إلى معنًى واحد، وتقدم ذكر القصة مستوفًى في سورة هود.
﴿وَأَهْلَكَ﴾ أي: واحمل أهلك من النسب ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ أي: سبق عليه الحكم بالهلاك، وهو كنعان، وامرأتك واعلة مستثنى من الأهل.
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي: أشركوا؛ بالدعاء لهم بالإنجاء ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ لا محالة.
...
﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ﴾ استقررت.
﴿أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾ راكبًا فيها عاليًا فوقها.
﴿فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الكافرين.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠٨).
﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم: (مَنْزِلًا) بفتح الميم وكسر الزاي؛ أي: مكانًا، والمراد: بطن السفينة، وقرأ الباقون: بضم الميم وفتح الزاي، مصدر بمعنى: الإنزال (١)، وبركة السفينة: النجاة فيها ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ ثناء مطابق لدعائه.
...
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ فيما فعل بنوح وقومه ﴿لَآيَاتٍ﴾ دلالات على قدرتنا.
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ لمصيبين ببلاء، ومختبرين اختبارًا يؤدي إلى ذلك، و (إِنْ) عند سيبويه مخففة من الثقيلة، واللام لام تأكيد.
...
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ من بعد إهلاك قوم نوح.
﴿قَرْنًا آخَرِينَ﴾ يعني: قوم عاد.
...
﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ يعني: هودًا.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٤٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠٨).
﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أي: قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله.
﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ فتؤمنون.
وقيل: إن القرن هم ثمود، ورسولهم صالح، قال البغوي: الأول أظهر (١).
...
﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ﴾ أي: بالمصير إليها ﴿وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ نعمناهم، ووسعنا عليهم.
﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ منه.
...
﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ لمغبونون؛ حيث أذللتم أنفسكم.
...
﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ﴾ قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف عن عاصم: (مِتُّمْ) بكسر الميم، والباقون: بضمها (٢).
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٤٦).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠٩).
﴿وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ﴾ من قبوركم، استفهام بمعنى التوقيف على جهة الاستبعاد، وبمعنى الهزء بهذا الوعد، و (أَنَّكمْ) الثانية بدل من الأولى، وفيها معنى تأكيد الأول، وكررت لطول الكلام.
...
﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ﴾ كناية عن البعد، التقدير: بَعْدَ الوجود.
﴿لِمَا تُوعَدُونَ﴾ قرأ أبو جعفر: بكسر التاء منهما بغير تنوين، والباقون بفتحها فيهما، ووقف بالهاء: البزي، والكسائي، وروح، والباقون: يقفون عليهما بالتاء، وهو المختار (١).
...
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ أرادوا: أنه لا وجود غير هذا الوجود ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ أي: يموت بعض، ويولد بعض ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ بعد الموت كما تزعم.
...
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿إِنْ هُوَ﴾ يعنون: الرسول.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٦٠)، و"الكشف" لمكي (١/ ١٣١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٤٦)، و"النشر في القراءات العشر"لابن الجزري (٢/ ١٣١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠٩ - ٢١١).
﴿إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾ بمصدقين بالبعث.
...
﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ بسبب تكذيبهم إياي. قرأ يعقوب: (كَذَّبُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (١).
...
﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ﴾ عن زمان قليل و (ما) صلة لتوكيد معنى القلة ﴿لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ على تكذيبهم إذا عاينوا العذاب.
...
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ﴾ بما استحقوا من أفعالهم، وبما حق منا في عقوبتهم، صاح عليهم جبريل عليه السلام، فدمرهم.
﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً﴾ هلكى كغثاء السيل لا ينتفع به، وهو ما يحمله الماء على وجهه من الزبد والبالي من النبات.
﴿فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ يحتمل الإخبار والدعاء.
...
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢١١).
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا﴾ أقوامًا.
﴿آخَرِينَ﴾ كقوم صالح ولوط وشعيب.
...
﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا﴾ المكتوبَ لها ﴿وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عنه.
...
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ مترادفين واحدًا بعد واحد. قرأ أبو عمرو: (رُسْلَنَا) بإسكان السين حيث وقع، والباقون: بضمها، وقرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (تَتْرًى) بالتنوين، ويقفون بالألف، وهي ألف إلحاق، وقرأ الباقون: بغير تنوين، ونصبها على القراءتين حال، وأمال فتحة الراء: ورش، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو عمرو في الوقف بخلاف عنه (١) ﴿كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾ أضاف الرسول مع الإرسال إلى المرسِل، ومع المجيء إلى المرسَل إليهم؛ لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه، والمجيء الذي هو منتهاه إليهم. قرأ نافع، وأبو عمرو،
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢١٢).
وابن كثير، وأبو جعفر، ورويس: (جَاءَ أُمَّةً) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية (١)، وهي أن تجعل بين بين، وقرأ الباقون، وهم: الكوفيون، وابن عامر، وروح: بتحقيق الهمزتين، ولم يقع في القرآن همزة مضمومة بعد همزة مفتوحة من كلمتين سوى هذا الحرف فقط (٢).
﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا﴾ أهلكنا بعضهم في إثر بعض.
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ يُتمثل بهم في الشر ﴿فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بالله.
...
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ حجة ظاهرة؛ كاليد والعصا وغيرهما.
...
﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا﴾ عن الإيمان.
﴿وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ﴾ متكبرين بالظلم.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٤٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢١٢).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢١٣).
﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿فَقَالُوا﴾ يعني: فرعون وقومه ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ يعنون: موسى وهارون ﴿وَقَوْمُهُمَا﴾ يعني: بني إسرائيل ﴿لَنَا عَابِدُونَ﴾ خاضعون متذللون كالعباد.
...
﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾ بالغرق في بحر قلزم، وتقدم ذكره في سورة البقرة.
...
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة.
﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ يعني: قوم موسى.
...
﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ﴾ عيسى عليه السلام ﴿وَأُمَّهُ آيَةً﴾ ولم يقل: آيتين؛ لأن المراد جعلنا قصتهما آية، وهي آيات مع التفصيل ﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ﴾ أي: مكان مرتفع، وهو بيت المقدس، وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلًا، وقيل: دمشق، وقيل: رملة فلسطين.
قال ابن عطية: ويترجح أن الربوة هي بيت لحم من بيت المقدس؛ لأن
ولادة عيسى هنالك كانت، وحينئذ كان الإيواء، وقيل: الربوة بأرض مصر (١). قرأ ابن كثير، وعاصم: (رَبْوَةٍ) بفتح الراء، والباقون: بضمها (٢) ﴿ذَاتِ قَرَارٍ﴾ مستوية يستقر عليها ساكنوها ﴿وَمَعِينٍ﴾ ماء جار ظاهر؛ من المعن: الإسراع والإبعاد.
...
﴿يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ﴾ هو خطاب لمحمد - ﷺ -، والمراد به: أن الله تعالى أخبر أنه قد قال لجميع الرسل قبله: ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ الحلالات.
﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ والصلاح: هو الاستقامة على ما توجبه الشريعة.
﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ فأجازيكم عليه.
...
﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ﴾ أي: ملتكم التي أنتم عليها ﴿أُمَّةً﴾ شريعة ﴿وَاحِدَةً﴾ وهي الإسلام. قرأ الكوفيون: (وَإِنَّ) بكسر الهمزة على الابتداء، والباقون: بفتحها، وانفرد ابن عامر بتخفيف النون، وجعل (أن) صلة، مجازه: وهذه أمتكم، والباقون: بتشديد [النون (٣)؛ على معنى: وبأن هذه.
(١) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ١٤٥).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢١٣).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٩)، و"النشر في القراءات =
﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ فاحذرون. قرأ يعقوب: (فَاتّقُونِي) بإثبات] (١) الياء.
...
﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿فَتَقَطَّعُوا﴾ أي: الأتباع ﴿أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ تفرقوا دينهم.
﴿زُبُرًا﴾ جمع زبور، وهو الفرقة والطائفة، فصاروا فرقًا يهودًا ونصارى ومجوسًا، وتحزبوا في دينهم أحزابًا.
﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ﴾ بما عندهم من الباطل.
﴿فَرِحُونَ﴾ بما ابتدعوه، معتقدون أن دينهم حق.
...
﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤)﴾.
[٥٤] ثم قال تهديدًا لهم وتسلية له - ﷺ -: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ جهالتهم.
﴿حَتَّى حِينٍ﴾ إلى حين إتيان العذاب، ونُسخت بآية السيف.
...
﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ﴾ أي: ما نعطيهم ونجعله مددًا لهم.
﴿مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ﴾ في الدنيا.
...
= العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٨)، و"معجم القراءات القرانية" (٤/ ٢١٤ - ٢١٥).
(١) ما بين معكوفتين سقط من "ش".
﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ أي: لا يتوهمون أن تعجيلنا (١) لرضانا عنهم. قرأ الدوري عن الكسائي: (نُسَارِعُ) و (يُسَارِعُونَ) بالإمالة (٢).
﴿بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أن ذلك استدراج لهم.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ثم أخبر عن المسارعين إلى الخيرات فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ خائفون من عقابه.
...
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ يصدقون.
...
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ شركًا جليًّا ولا خفيًّا.
...
﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا﴾ يؤدون ما أدوا من زكاة وغيرها.
(١) "أن تعجلينا" ساقطة من "ش".
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢١٦ - ٢١٧).
﴿وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ خائفة ألَّا تقبل منهم ﴿أَنَّهُمْ﴾ أي: لأنهم ﴿إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ فحذفت اللام؛ أي: لأنهم يوقنون أن مرجعهم إلى الله، فيكون قوله ﴿أَنَّهُمْ﴾ علة لقوله: ﴿وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾.
...
﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بهذه الصفات ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ يبادرون إلى الأعمال الصالحة.
﴿وَهُمْ لَهَا﴾ أي: من أجلها ﴿سَابِقُونَ﴾ إلى رضوان الله تعالى.
...
﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ طاقتَها، فمن لم يستطع القيام، فليصلِّ قاعدًا، أو من لم يستطع الصوم، فليفطر.
﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ﴾ وهو اللوح المحفوظ ﴿يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ بما سُطر فيه.
﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ لا يُنقص من حسناتهم، ولا يزاد على سيئاتهم.
...
﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ثم ذكر الكفار فقال: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ﴾ في غفلة.
﴿مِنْ هَذَا﴾ القرآن.
﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾ أي: دون الشرك، وهي سعايات فساد.
﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ فيعذبون بها.
...
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿حَتَّى﴾ هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية، وهي:
﴿إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ﴾ أي: أغنياءهم ﴿بِالْعَذَابِ﴾ وهو قتلهم يوم بدر.
﴿إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ يرفعون أصواتهم بالدعاء.
...
﴿لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ﴾ لا تَضِجُّوا.
﴿إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ﴾ لا تُمنعون، المعنى: استغاثتكم لا تمنعكم من عذابنا.
...
﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ﴾ ترجعون القهقرى عن الإيمان.
...
﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ متعظمين بالبيت الحرام، كانوا يقولون:
لا يظهر علينا أحد؛ لأنا أهل الحرم.
﴿سَامِرًا﴾ أي: سمَّارًا؛ أي: متحدثين، ونصبه على الحال.
﴿تَهْجُرُونَ﴾ قرأ نافع: بضم التاء وكسر الجيم؛ من الإهجار، وهو الإفحاش؛ أي: تفحشون، وقرأ الباقون: بفتح التاء وضم (١) الجيم؛ من هجر، وهو الهذيان؛ من قولهم: هجر الرجل في منامه: إذا هذى (٢).
...
﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ ألم يعتبر المشركون القرآن، فيعلموا حال من تقدمهم، فيؤمنوا ﴿أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ جاءتهم براءة من العذاب لم تأت آباءهم.
...
﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾ محمدًا - ﷺ -.
﴿فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ جاحدون، وهو استفهام توبيخ وإنكار عليهم؛ لإعراضهم عنه بعد معرفتهم إياه بالصدق والأمانة.
...
(١) في "ت": "وكسر" وهو خطأ.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٥٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢١٨).
﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ جنون، وليس كذلك.
﴿بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ بالقرآن وما فيه من شرائع الإسلام.
﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾؛ لأنه يخالف شهواتهم.
...
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ﴾ في جعل شريك له، والحق هو الله.
﴿لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ لما سبق تقريره في سورة الأنبياء في قوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الآية: ٢٢].
﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ بما يذكرهم، وهو القرآن.
﴿فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ لا يلتفتون إليه.
...
﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ﴾ على ما جئتهم به.
﴿خَرْجًا﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (خَرَاجًا) بفتح الراء وألف بعدها، والباقون: بإسكان الراء من غير ألف، وتقدم تفسيره في سورة الكهف عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا﴾ [الآية: ٩٤].
﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ أي: رزقه وثوابه. قرأ ابن عامر: (فَخَرْجُ رَبِّكَ) بإسكان الراء من غير ألف، والباقون: بفتح الراء وألف بعدها (١).
﴿وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ أفضل المعطين.
...
﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وهو الإسلام.
...
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾ لعادلون عن الطريق.
...
﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ولما أراد النبي - ﷺ - الدعاء برفع القحط عن قريش، نزل: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ﴾ قحط وجوع.
﴿لَلَجُّوا﴾ لتمادَوْا ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ وكفرهم بمحمد - ﷺ -.
﴿يَعْمَهُونَ﴾ عن الهدى.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٥ و ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٥٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٠).
روي أن أهل مكة قحطوا حتى أكلوا العِلْهَز، وهو وَبَر الجمال، وذلك حين دعا رسول الله - ﷺ - بقوله: "اللهمَّ سَبْعًا كسني يوسف" الحديث، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله - ﷺ -، فقال: أنشدك الله والرحِمَ ألست تزعم أنك بُعثت رحمة للعالمين؟! فقال: "بلى"، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف، والأبناءَ بالجوع، فادع الله يكشف عنا هذا القحط، فنزلت الآية (١). قرأ الدوري عن الكسائي: (طُغْيَانِهِمْ) بالإمالة حيث وقع (٢).
...
﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ﴾ يعني: القتل والجوع.
﴿فَمَا اسْتَكَانُوا﴾ فما خضعوا.
﴿لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ أي: لم يتضرعوا، بل مضوا على تمردهم.
...
﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ هو القتل يوم بدر.
﴿إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ آيسون من كل خير.
(١) انظر: "تفسير الطبري" (١٨/ ٤٥)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٧٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٥٣)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٦/ ١١١)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٢/ ٤٠٥)، و"لباب النقول" للسيوطي أيضًا (ص: ١٥٢).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٠).
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ القلوب.
﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ أي: لم تشكروا قليلًا ولا كثيرًا.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ﴾ خلقكم ﴿فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ تبعثون.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أي: القدرة التي عنها ذلك، والاختلاف هنا: التعاقب.
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ فتستدلون بالصنعة على صانعها فتؤمنون؟!
...
﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ﴾ وقوله: (بَلْ) إضراب، والجحد قبله مقدر؛ كأنه قال: ليس لهم نظر في هذه الآيات، أو نحو هذا، و (الأَوَّلُونِ) يشير به إلى الأمم الكافرة؛ كعاد وثمود.
...
﴿قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ محشورون،
485
قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب. واختلف القراء في (أَئِذَا) (أَئِنَّا) في الإخبار بالأول منهما، والاستفهام بالثاني، وعكسه، والاستفهام فيهما، وفي ضم الميم وكسرها من (متنا)، فقرأ ابن عامر، وأبو جعفر: (إذا) بالإخبار، (مُتْنَا): بضم الميم، (أَئِنَّا): بالاستفهام، فابن عامر يحقق الهمزتين، وأبو جعفر يسهل الثانية، ويفصل بينهما بألف، واختلف عن هشام راوي ابن عامر في الفصل مع تحقيق الهمزتين، وقرأ نافع: (أَئِذَا): بالاستفهام وتسهيل الهمزة الثانية، (مِتْنَا): بكسر الميم و (إِنَّا): بالإخبار، ووافقه رويس عن يعقوب في حكم الهمزتين، وخالفه في الميم، فقرأها: بالضم، وقرأ الكسائي: (أَئِذَا): بالاستفهام، ويحقق الهمزتين، (مِتْنَا): بكسر الميم، و (إِنَّا): بالإخبار، ووافقه روح عن يعقوب في حكم الهمزتين، وقرأ: (مُتْنَا) بضم الميم؛ كرويس، وقرأ الباقون: (أَئِذَا) (أَئِنَّا): بالاستفهام فيهما، فابن كثير، وأبو عمرو يسهلان الهمزة الثانية منهما، وأبو عمرو يفصل بينهما بألف، واتفقا على ضم الميم من (مُتْنَا)، وعاصم، وحمزة، وخلف: يحققون الهمزتين منهما، ويكسر حمزة وخلف الميم، واختلف عن عاصم، فقرأ أبو بكر عنه: بالضم، وحفص: بالكسر، فمن قرأ بالاستفهامين، فذلك للتأكيد، ومن استفهم في الأول فقط، فإنما يقصد بالاستفهام الموضع الثاني (١)، تقديره: أنبعث ونحشر إذا، ومن استفهم في الثاني فقط، فمعناه: إذا كنا ترابًا، أنبعث؟
...
(١) سلفت عند تفسير الآية (٥) من سورة رعد.
486
﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ﴾ هذا الوعد ﴿وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي: وعدهُ آباءَنا قومٌ ذكروا أنهم رسل الله، فلم نر له حقيقة.
﴿إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أكاذيبهم التي كتبوها، جمع أسطورة.
...
﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿قُلْ﴾ يا محمد مجيبًا لأهل مكة:
﴿لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا﴾ من الخلق.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ خالقها؟
...
﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥)﴾.
[٨٥] فإنهم ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ فثم.
﴿قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ الأدلة الدالة على الصانع، فتؤمنون؟
...
﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾.
***
﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧)﴾.
[٨٧] ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ الله تعالى.
...
﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الملكوت: الملك، والتاء فيه للمبالغة.
﴿وَهُوَ يُجِيرُ﴾ يمنع من (١) السوء ﴿وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ ولا يمنع (٢) منه من أراده بسوء ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ قيل: معناه: أجيبوا إن كنتم تعلمون.
...
﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ فكيف تخدعون عن طاعته؟ المعنى: كيف يخيل لكم الحق باطلًا؟ اختلف القراء في (سَيَقُولُونَ لِلهِ) في الحرفين الأخيرين، فقرأ أبو عمرو، ويعقوب: بإثبات ألف الوصل قبل اللام فيهما، ورفع الهاء من الجلالتين جوابًا على اللفظ؛ لأنك تقول: من رب هذا؟ فالجواب: فلان؛ لأنه جواب (من) لفظًا، وكذلك رسمًا في المصاحف البصرية، وقرأ الباقون: (لِلهِ) بغير ألف فيهما، وخفض الهاء،
(١) في "ش": "عن".
(٢) "ولا يمنع" ساقطة من "ش".
وكذلك رسمًا في مصاحف الحجاز والشام والعراق (١)، فجعلوا الجواب على المعنى؛ يقول القائل للرجل: من مولاك؟ فيقول: لفلان؛ أي: أنا لفلان، وهو مولاي، واتفقوا على الحرف الأول أنه (لِلهِ)؛ لأن قبله: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا﴾، فجاء الجواب على لفظ السؤال، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَذْكُرُونَ) بتخفيف الذال، والباقون: بالتشديد (٢)، وقرأ رويس عن يعقوب: (بِيَدِهِ) باختلاس كسرة الهاء، والباقون: بالإشباع (٣).
...
﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ﴾ بالصدق.
﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في ادعائهم الشريك، وتكذيب الرسل.
...
﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١)﴾.
[٩١] ثم أكد تكذيبهم بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٥٤ - ٢٥٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢١).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢١).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٢).
﴿إِلَهٍ﴾ أي: شريك، فالتقدير: ولو كان معه آلهة.
﴿إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾ لانفرد به، ولم يرض بإضافة خلقه.
إلى غيره ﴿وَلَعَلَا﴾ ارتفع ﴿بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ مغالبة وتكبرًا؛ لأن كل إله يطلب انفراده بألوهيته وخلقه ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾ أي: تعظَّم ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ له من الشريك والولد.
...
﴿عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)﴾.
[٩٢] ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (عَالِمُ) برفع الميم على الابتداء، واختلف عن رويس حالة الابتداء، وقرأ الباقون: بجرها على نعت الله في (سُبْحَانَ اللهِ) (١).
﴿فَتَعَالَى﴾ الله (٢) ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ به من الأصنام وغيرها.
...
﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣)﴾.
[٩٣] ﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي﴾ أي: إن أريتني.
﴿مَا يُوعَدُونَ﴾ من القتل والعذاب.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٧)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٥٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٢).
(٢) لفظ الجلالة "الله" لم يرد في "ت".
﴿رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤)﴾.
[٩٤] ﴿رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي: فاجعلني خارجًا منهم إذا نزل بهم العذاب.
...
﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥)﴾.
[٩٥] ثم أومأ إلى حلول العذاب بهم فقال: ﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب ﴿لَقَادِرُونَ﴾ وقد أراه عذاب المشركين ببدر وغيرها.
...
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦)﴾.
[٩٦] ثم أمره بالعفو عنهم فقال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي﴾ أي: بالخلة التي.
﴿هِيَ أَحْسَنُ﴾ وهي الصفح ومكارم الأخلاق ﴿السَّيِّئَةَ﴾ الصادرةَ منهم إليك (١)، ونسخت بآية السيف، ثم تهددهم بقوله:
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ من الشريك.
...
﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ﴾ أمتنعُ وأعتصم بك ﴿مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ وساوسِهم ونزغاتهم، وأصل الهمزة: شدة الدفع.
...
(١) "إليك" ساقطة من "ش".
﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)﴾.
[٩٨] ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ عند الموت، ويحوموا حولي في شيء من الأحوال؛ لأن الشيطان إذا حضره يوسوسه.
...
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩)﴾.
[٩٩] ثم أخبره أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت، فقال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ جمع الضمير تعظيمًا لله تعالى؛ أي: ردوني إلى الدنيا. قرأ يعقوب: (يَحْضُرُونِي) (ارْجِعُونِي) بإثبات الياء فيهما، وحذفها الباقون (١)، واختلافهم في الهمزتين من (جَاءَ أَحَدَهُمُ) كاختلافهم فيهما من: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ﴾ في سورة الحج [الآية: ٦٥].
...
﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا﴾ بأن أقول: لا إله إلا الله. قرأ الكوفيون، ويعقوب: (لَعَلِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
﴿فِيمَا تَرَكْتُ﴾ ضَيَّعْت من عمري.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٣).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٣).
﴿كَلَّا﴾ ردع عن طلب الرجعة، واستبعاد لذلك ﴿إِنَّهَا﴾ يعني: سؤاله الرجعة ﴿كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ ولا ينالها.
﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ﴾ أي: أمامهم ﴿بَرْزَخٌ﴾ أي: حاجز، وهو القبر.
﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ فلا يرجعون أبدًا؛ لأنه لا رجوع بعد البعث.
...
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١)﴾.
[١٠١] ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ وهو القرن، وهذا عند النفخة الأولى، وقيل: عند النفخة الثانية إذا بعث الناس ﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ﴾ يفتخرون بها ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ في الآخرة؛ كما يفتخرون في الدنيا ﴿وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ كما يتساءلون في الدنيا؛ لاشتغال كلٍّ بنفسه. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (فَلاَ أَنْسَاب بَّيْنَهُمْ) بإدغام الباء الأولى في الثانية (١).
...
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ بالحسنات.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزون بالنجاة والدرجات.
...
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣)﴾.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٤).
[١٠٣] ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ بالسيئات.
﴿فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ غبنوها، فهم.
﴿فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ وجمع الموازين من حيث الموزون جمع، وهي أعمال، ومعنى الوزن: إقامة الحجة على الناس بالمحسوس على عادتهم وعرفهم.
...
﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ﴿تَلْفَحُ﴾ تحرق ﴿وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ عابسون، بادية أسنانهم؛ لتشمير شفاههم منها؛ لشدة ما يلقون.
وفي الحديث: "إن النار لتشويه، وتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته" (١).
...
﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿أَلَمْ﴾ أي: يقال لهم: ألم.
﴿تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ يعني: القرآن.
﴿فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ تذكيرًا لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله.
...
(١) رواه الترمذي (٢٥٨٧)، كتاب: صفة جهنم، باب: ما جاء في صفة أهل النار، وقال: حسن صحيح غريب، والإمام أحمد في "المسند" (٣/ ٨٨)، والحاكم في "المستدرك" (٣٤٩٠)، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦)﴾.
[١٠٦] ﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ أي: غلبنا الشقاء الذي كتب علينا فلم نهتد. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (شَقَاوَتنُا) بفتح الشين والقاف وألف بعدها، وقرأ الباقون: بكسر الشين وإسكان القاف من غير ألف، وهما لغتان (١).
﴿وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ﴾ عن الهداية.
...
﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] فعند دخولهم النار يقولون:
﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا﴾ خالفناك.
﴿فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ لأنفسنا.
...
﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] ﴿قَالَ﴾ الله لهم مجيبًا بعد ألف سنة ﴿اخْسَئُوا فِيهَا﴾ ابعدوا في جهنم أذلاء؛ من خسأت الكلب: إذا زجرته.
﴿وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ في رفع العذاب عنكم، فلا سبيل إليه. قرأ يعقوب: (تُكَلِّمُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (٢)، فعند ذلك أيس الكفار من
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٥٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٤).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٠)، و"معجم القراءات =
الفرج، وهو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلمون بعده إلا بالشهيق والزفير، ويصير لهم عواء كعواء الكلب، لا يَفْهَمون ولا يُفْهَمون.
...
﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي﴾ وهم المؤمنون.
﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾.
...
﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)﴾.
[١١٠] ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا﴾ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (١)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (سُخْرِيًّا) بضم السين؛ من التسخير، وهو العمل بلا أجر، وقرأ الباقون: بالكسر؛ من الهزء والسخرية (٢).
= القرآنية" (٤/ ٢٢٥).
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ١٥ - ١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٥).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٥٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ١٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٦).
﴿حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ من فرط انشغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم.
﴿وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ نزلت في بلال وصهيب وعمار وسلمان، كان المشركون يسخرون بهم وبالإسلام، ويؤذونهم (١).
...
﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١)﴾.
[١١١] ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ﴾ النعيم المقيم.
﴿بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ بمطلوبهم. قرأ حمزة، والكسائي: (إِنَّهُمْ) بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون: بفتحها (٢)؛ أي: لأنهم.
...
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢)﴾.
[١١٢] ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: في الدنيا أحياء.
﴿عَدَدَ سِنِينَ﴾ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: (قُلْ كَمْ) بضم القاف بلا ألف بعدها، أمر لمالك أن يسألهم، وقرأ الباقون: بفتح القاف وألف بعدها (٣)، إخبار عن الله تعالى أنه هو الذي (٤) يسألهم، وقرأ نافع، وابن
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٥٩).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٦).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٤٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٦٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٦٠)، و "معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٦ - ٢٢٧).
(٤) "الذي" ساقطة من "ش".
كثير، وعاصم، ويعقوب، وخلف: (لَبِثْتُمْ) بإظهار الثاء عند التاء حيث وقع، والباقون: بالإدغام (١)، وقرأ أبو عمرو: (عَدَد سِّنِينَ) بإدغام الدال في السين في هذا الحرف لا غير (٢).
...
﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣)﴾.
[١١٣] ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ استقصروا مدة لبثهم، وشَكُّوا فيها؛ لعلم ما هم بصدده من العذاب.
﴿فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾ الحاسبين، وهم الملائكة الذين يحصون أعمال الخلق وأعمارهم. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (فَسَلْ) بالنقل، والباقون: بالهمز (٣).
...
﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)﴾.
[١١٤] ﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ﴾ في الدنيا.
﴿إِلَّا﴾ لبثًا ﴿قَلِيلًا﴾ لأن أيام السرور قليلة.
﴿لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ مدة لبثكم، لما أجبتم بهذا الجواب. قرأ
(١) انظر: "الكشف" لمكي (٢/ ١٣٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٧).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٧).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٧).
حمزة، والكسائي: (قُلْ إَنْ) على الأمر، والباقون: (قال) (١) على الخبر، كما تقدم في ﴿قَالَ كَمْ﴾ [الآية: ١١٢].
...
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)﴾.
[١١٥] ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ لا لغرض صحيح، ونصبه على الحال، وهو توبيخ على تغافلهم.
﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ في الآخرة، فنجازيكم. قرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (٢).
...
﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)﴾.
[١١٦] ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ الذي يحق له الملك مطلقًا؛ أي: تنزه عن مقالتهم في جهته من الصاحبة والولد، ومن حسابهم أنهم لا يرجعون إليه، وغير ذلك.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ الحسن العظيم.
...
(١) "قال" ساقطة من "ت" و"ش".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٦٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٠٨ - ٢٠٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٨).
﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧)﴾.
[١١٧] ثم توعد تعالى عبدة الأصنام بقوله: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ يعبده.
﴿لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ أي: في برهان له به، أي: لا حجة له عليه، ولا فيما يفعل من عبادة غير الله.
﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ أي: مكافأته عند الله، فهو يجازيه بما يستحقه.
﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ لا يبلغون أمنياتهم، ولا ينجح سعيهم، وجعل فاتحة هذه السورة ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وخاتمتها ﴿لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.
...
﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)﴾.
[١١٨] ثم أمر رسوله - ﷺ - أن يستغفر للمؤمنين، ويسأل لهم الرحمة، فقال: ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ لأن كل راحم يتصرف على إرادة الله تعالى وتوفيقه، وتقديره لمقدار هذه الرحمة، ورحمته تعالى لا مشاركة له فيها، والله أعلم.
Icon