تفسير سورة المؤمنون

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢)
ظفر بالبغية وفاز بالطّلبة من آمن بالله.
و «الفلاح» : الفوز بالمطلوب والظّفر بالمقصود.
والإيمان انتسام الحقّ فى السريرة، ومخامرة التصديق خلاصة القلب، واستمكان التحقيق من تأمور الفؤاد «١».
والخشوع فى الصلاة إطراق السّرّ على بساط النّجوى باستكمال نعت الهيبة، والذوبان تحت سلطان الكشف، والامتحاء عند غلبات التّجلّي.
ويقال أدرك ثمرات القرب وفاز بكمال الأنس من وقف على بساط النجوى بنعت الهيبة، ومراعاة آداب الحضرة. ولا يكمل الأنس بلقاء المحبوب إلا عند فقد الرقيب.
وأشدّ الرقباء وأكثرهم تنغيصا لأوان القرب النّفس فلا راحة للمصلّى مع حضور نفسه، (فإذا خنس عن نفسه) «٢» وشاهده عدم إحساسه بآفات نفسه، وطاب له العيش، وتمّت له النّعمى، وتجلّت له البشرى، ووجد لذّة الحياة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٣]
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)
ما يشغل عن الله فهو سهو، وما ليس لله فهو حشو، وما ليس بمسموع من الله أو بمعقول مع الله فهو لغو، (وما هو غير الحق سبحانه فهو كفر، والتعريج على شىء من هذا بعد وهجر) «٣».
ويقال ما ليس بتقريظ الله ومدحه من كلام خلقه فكل ذلك لغو.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٤]
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
(١) يقال اجعل هذا الأمر فى تأمورك أي داخل قلبك (الوسيط: مادة أم ر).
(٢) ما بين القوسين موجود فى م وغير موجود فى ص. [.....]
(٣) موجود فى م وغير موجود فى ص.
الزكاة النّماء، ومن عمله للنماء فأمارة ذلك أن يكون بنقصانه فى نفسه عن شواهده ولا يبلغ العبد إلى كمال الوصف فى العبودية إلا بذوبانه عن شاهده.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥ الى ٦]
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)
لفروجهم حافظون ابتغاء نسل يقوم بحقّ الله، ويقال ذلك إذا كان مقصوده التعفف والتصاون عن مخالفات الإثم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧]
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧)
أي من جاوز قصد إيثار الحقوق، وجنح إلى جانب استيفاء الحظوظ.. فقد تعدّى محلّ الأكابر، وخالف طريقتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٨]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨)
الأمانات مختلفة، وعند كلّ أحد أمانة أخرى، فقوم عندهم الوظائف بظواهرهم، وآخرون عندهم اللطائف فى سرائرهم، ولقوم معاملاتهم، ولآخرين منازلاتهم، ولآخرين مواصلاتهم.
وكذلك عهودهم متفاوتة فمنهم من عاهده ألا يعبد سواه، ومنهم من عاهده ألا يشهد فى الكونين سواه.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٩]
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
لا تصادفهم الأوقات، وهم غير مستعدين، ولا يدعوهم المنادى وهم ليسوا بالباب، فهم فى الصف الأول بظواهرهم، وكذلك فى الصف الأول بسرائرهم قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠ الى ١١]
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
الإرث على حسب النّسب، وفى استحقاق الفردوس بوصف الإرث لنسب الإيمان فى الأصل، ثم الطاعات فى الفضل.
وكما فى استحقاق الإرث تفاوت فى مقدار السهمان: بالفرض أو بالتعصيب- فكذلك فى الطاعات فمنهم من هم فى الفردوس بنفوسهم، وفى الأحوال اللطيفة بقلوبهم، ثم هم خالدون بنفوسهم وقلوبهم جميعا لا يبرحون عن منال نفوسهم ولا (... ) «١» عن حالات قلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٢]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)
عرّفهم أصلهم لئلا يعجبوا بفعلهم.
ويقال نسبهم لئلا يخرجوا عن حدّهم، ولا يغلطوا فى نفوسهم.
ويقال خلقهم من سلالة سلّت من كل بقعه فمنهم من طينته من جردة «٢» أو من سبخة «٣» أو من سهل، أو من وعر.. ولذلك اختلفت أخلاقهم.
ويقال بسط عذرهم عند الكافة فإنّ المخلوق من سلالة من طين... ما الذي ينتظر منه؟! ويقال خلقهم من سلالة من طين، والقدر للتربية لا للتربة.
ويقال خلقهم من سلالة ولكنّ معدن المعرفة ومرتع المحبة، ومتعلق العناية منه لهم قال تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ».
ويقال خلقهم، ثم من حال إلى حال نقلّهم، يغيّر بهم ما شاء تغييره.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٣ الى ١٤]
ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
(١) مشتبهة فى ص، م وربما كانت (ولا ينفكون).
(٢) الأرض الجردة التي لا نبات فيها.
(٣) السّبخة التي فيها ملح ونزّ ولا تكاد تنبت.
569
قطرة أجزاؤها متماثلة، ونطفة أبعاضها متشاكلة، ثم جعل بعضها لحما وبعضها عظما، وبعضها شعرا، وبعضها ظفرا، وبعضها عصبا، وبعضها جلدا، وبعضها مخّا، وبعضها عرقا. ثم خصّ كلّ عضو بهيئة مخصوصة، وكلّ جزء بكيفية معلومة. ثم الصفات التي للإنسان خلقها متفاوتة، من السّمع والبصر والفكر والغضب والقدرة والعلم والإرادة والشجاعة والحقد والجود والأوصاف التي يتقاصر عنها الحصر والعدّ.
قوله جل ذكره: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فى التفاسير أنه صورة الوجه، ويحتمل ما تركب فيه من الحياة، واختصّ به من السّمع والبصر والعقل والتمييز، وما تفرّد به بعض منهم بمزايا فى الإلهام العام للعقل وسائر الإدراكات.
ويقال «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» : وهو أن هيّأهم لأحوال عزيزة يظهرها عليهم بعد بلوغهم، إذا حصل لهم كمال التمييز من فنون الأحوال فلقوم تخصيص بزينة العبودية، ولقوم تحرّر من رقّ البشرية، ولآخرين تحقق بالصفات الصمدية بامتحائهم عن الإحساس بما هم عليه وبه من الأحوال التي هى أوصاف البشرية.
قوله جل ذكره: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ خلق السماوات والأرضين بجملتها، والعرش والكرسىّ، مع المخلوقات من الجنة والنار بكليتها- ثم لمّا أخبر بذلك لم يعقبه بهذا التمدح الذي ذكره بعد نعت خلقه بنى آدم تخصيصا لهم وتمييزا، وإفرادا لهم من بين المخلوقات.
ويقال إن لم يقل لك إنّك أحسن المخلوقات فى هذه الآية فلقد قال فى آية أخرى:
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» «١».
(١) الآية ٤ سورة التين.
570
ويقال إن لم تكن أنت أحسن المخلوقات وأحسن المخلوقين- ولم يثن عليك بذلك فلقد أثنى على نفسه بقوله: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ»، وثناؤه على نفسه وتمدحه بذلك أعزّ وأجلّ من أن يثنى عليك.
ويقال لما ذكر نعتك، وتارات حالك فى ابتداء خلقك، ولم يكن منك لسان شكر ينطق، ولا بيان مدح ينطلق.. ناب عنك فى الثناء على نفسه، فقال: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٥]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥)
أنشدوا:
آخر الأمر ما ترى... القبر واللحد والثرى
وأنشدوا:
حياتنا عندنا قروض... ونحن بعد الموت فى التقاضي
لا بدّ من ردّ ما اقترضنا... كلّ غريم بذاك راضى
ويقال نعاك إلى نفسك بقوله: «ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ» وكلّ ما هو آت فقريب.
ويقال كسر على أهل الغفلة سطوة غفلتهم، وفلّ دونهم سيف صولتهم بقوله: ثم إنكم بعد ذلك لميتون، وللجماد مضاهون، وعن المكنة والمقدرة والاستطاعة والقوة لمبعدون، وفى عداد ما لا خطر له من الأموات معدودون.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٦]
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
فعند ذلك يتصل الحساب والعقاب، والسؤال والعقاب، ويتبين المقبول من المردود، والموصول من المهجور.
ويوم القيامة يوم خوّف به العالم حتى لو قيل للقيامة: ممن تخافين؟ لقالت من القيامة.
وفى القيامة ترى الناس سكارى حيارى لا يعرفون أحوالهم ولا يتحققون بما تؤول إليه أمورهم، إلى أن يتبيّن لكلّ واحد أمره خيره وشرّه: فيثقل بالخيرات ميزانه، أو يخف
عن الطاعات أو يخلو ديوانه. وما بين الموت والقيامة: فإمّا راحات متّصلة، أو آلام وآفات غير منفصلة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)
الحقّ- سبحانه- لا يستتر عن رؤيته مدرك، ولا تخفى عليه- من مخلوقاته- خافية. وإنما الحجب على أبصار الخلق وبصائرهم فالعادة جارية بأنه لا يخلق لنا الإدراك لما وراء الحجب. وكذلك إذا حلّت الغفلة القلوب استولى عليها الذهول، وانسدّت بصائرها، وانتفت فهومها وفوقنا حجب ظاهرة وباطنة ففى الظاهر السماوات حجب تحول بيننا وبين المنازل العالية، وعلى القلوب أغشية وأغطية كالمنية والشهوة، والإرادات الشاغلة، والغفلات المتراكمة.
أمّا المريدون فإذا أظلّتهم سحائب الفترة، وسكن هيجان إرادتهم فذلك من الطرائق التي عليهم.
وأما الزاهدون فإذا تحرّك بهم عرق الرغبة انفلّت «١» قوة زهدهم، وضعفت دعائم صبرهم، فيترخّصون بالجنوح إلى بعض التأويلات، فتعود رغباتهم قليلا قليلا، وتختلّ رتبة عزوفهم، وتنهدّ دعائم زهدهم، وبداية ذلك من الطرائق التي خلق فوقهم.
وأما العارفون فربما تظلّهم فى بعض أحايينهم وقفة فى تصاعد سرّهم إلى ساحات الحقائق.
فيصيرون موقفين ريثما يتفضّل الحقّ- سبحانه- عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذا، ويرفع عنهم ما عاقهم من الطرائق.
وفى جميع هذا فإنّ الحقّ سبحانه غير غافل عن الخلق، ولا تارك للعباد.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٨]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨).
(١) انفلّ السيف- انثلم حدّه، وانفلّ القوم- انهزموا.
أنزل من السماء ماء المطر الذي هو سبب حياة الأرضين، وذلك بقدر معلوم. ثم..
البلاد مختلفة فى السّقى: فبعضها خصب، وبعضها جدب، وسنة يزيد وسنة ينقص، سنة يفيض وسنة يغيض.
كذلك أنزلنا من السماء ماء الرحمة فيحيى القلوب، وهى مختلفة فى الشّرب: فمن موسّع عليه رزقه منه، ومن مضيّق مقتّر عليه. ومن وقت هو وقت سحّ، ومن وقت هو وقت حبس.
ويقال ماء هو صوب الرحمة يزيل به درن العصاة وآثار زلّتهم وأوضار عثرتهم، وماء هو سقى قلوبهم يزيل به عطش تحيرهم، ويحيى به موات أحوالهم فتنبت فى رياض قلوبهم فنون أزهار البسط، وصنوف أنوار الروح. وماء هو شراب المحبة فيخص به قلوبا بساحات القرب، فيزيل عنها به حشمة الوصف، ويسكن به قلوبا فيعطلها عن التمييز، ويحملها على التجاسر ببذل الرّوح فإذا شربوا طربوا، وإذا طربوا لم يبالوا بما وهبوا «١».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٩]
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩)
كما يحيى بماء السماء الغياض والرياض، ويصنّف فيها الأزهار والأنوار، وتثمر الأشجار وتجرى الأنهار.. فكذلك يسقى القلوب بماء العرفان فتورق وتثمر بعد ما تزهر، وتؤتى أكلها: من طيب عيش، وكمال بسط، ثم وفور هيبة ثم روح أنس، ونتائج تجلّ، وعوائد قرب.. إلى ما تتقاصر العبارات عن شرحه، ولا تطمع الإشارات فى حصره.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٢١]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)
الإشارات منه أنّ الكدورات الهاجمة لا عبرة بها، ولا مبالاة فإنّ اللّبن الخالص السائغ يخرج من أخلاف الأنعام من بين ما تنطوى حواياها عليه من الوحشة، لكنه صاف لم يؤثر
(١) حتى لو كان ما وهبوه أرواحهم.
فيه منها بحكم الجوار، وكذلك الصفاء يوجد أكثره من عين الكدورة إذ الحقيقة لا يتعلق بها حقّ ولا باطل. ومن أشرف على (سرّ) «١» التوحيد تحقّق بأنّ ظهور جميع الحدثان من التقدير، فتسقط عنه كلفة التمييز، فالأسرار عند ذلك تصفو، والوقت لصاحبه لا يجفو.
«وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ» : لازمة لكم، ومتعدية منكم إلى كلّ متصل بكم:
إنّي- على جفواتها- بربّها... وبكلّ متّصل بها متوسّل
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٢٢]
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
يحفظهم فى السفينة فى بحار القطرة، ويحفظهم فى سفينة السلامة والعصمة فى بحار القدرة، وإنّ بحار القدرة تتلاطم أمواجها، والناس فيها غرقى إلا من يحفظه الحقّ- سبحانه- فى سفينة العناية.
وصفة أهل الفلك إذا مستهم شدّة خوف الغرق ما ذكر الله فى قوله: «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «٢» » كذلك من شاهد نفسه على شفا الهلاك والغرق، والتجأ إلى صدق الاستعانة ودوام الاستغاثة فعند ذلك يحميه الحقّ- سبحانه- من مخلوقات التقدير. ويقال إنّ وجه الأرض بحار الغفلة، وما عليه الناس من أسباب التفرقة بحار مهلكة والناس فيها غرقى، وكما قال بعضهم:
الناس بحر عميق... والبعد عنهم سفينة
وقد نصحتك فانظر... لنفسك المسكينة
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٢٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣).
(١) موجودة فى م وغير موجودة فى ص.
(٢) آية ٦٥ سورة العنكبوت.
574
كرّر قصة نوح لما فيها من عظيم الآيات من طول مقامه فى قومه، وشدة مقاساة البلاء منهم، وتمام صبره على ما استقبله فى طول عمره، ثم إهلاك الله جميع من أصرّ على كفرانه، ثم إهلاك الله جميع من أصرّ على كفرانه، ثم لم يغادر منهم أحدا، ولم يبال- سبحانه- بأن أهلك جملتهم. ولقد ذكر فى القصص أن امرأة من قومه لما أخذهم الطوفان كان لها مولود، فحملته وقامت حاملة له ترفعه عن الطوفان، فلمّا بلغ الماء إلى يدها رفعته إلى ما فوق رأسها- قدر ما أمكنها- إبقاء على ولدها، وإشفاقا عليه من الهلاك، إلى أن غلبها الماء وتلفت وولدها. فأوحى الله إلى نوح- عليه السلام- لو أنى كنت أرحم واحدا منهم لرحمت تلك المرأة وولدها.
وفى الخبر أن نوحا كان اسمه يشكر ولكثرة ما كان يبكى أوحى الله إليه: يا نوح..
إلى كم تنوح؟ فسمّاه نوحا. ويقال إنّ ذنبه أنه مرّ يوما بكلب فقال: ما أوحشه! فأوحى الله إليه: اخلق أنت أحسن من هذا! فكان يبكى معتذرا عن قالته تلك.
وكان قومه يلاحظونه بعين الجنون، وما زاد لهم دعوة إلا ازدادوا عن إجابته نبوة، وما زاد لهم صفوة إلا ازدادوا على طول المدة قسوة على قسوة.
ولما عمل السفينة ظهر الطوفان، وأدخل فى السفينة أهله، تعرّض له إبليس- كما جاء فى القصة- وقال: احملنى معك فى السفينة، فأبى نوح وقال: يا شقّى.. تطمع فى حملى إياك وأنت رأس الكفرة؟! فقال إبليس: أما علمت- يا نوح- أنّ الله أنظرنى إلى يوم القيامة، وليس ينجو اليوم أحد إلّا فى هذه السفينة؟
فأوحى الله إلى نوح أن احمله فكان إبليس مع نوح فى السفينة، ولم يكن لابنه معه مكان فى السفينة. (وفى هذا ظهور عين التوحيد وأن الحكم من الله غير معلول) «١» لأنه إن كان المعنى فى أن ابنه لم يكن معه له مكان لكفره فبإبليس يشكل.. ولكنها أحكام غير معلولة، وجاز له- سبحانه- أن يفعل ما يريد: يصل «٢» من شاء ويردّ من شاء
(١) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود فى ص.
(٢) وردت فى م (يضل) بالضاد ونحن نجد (يصل) أكثر انسجاما مع المعنى لتقابل (يرد)
575
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٢٩]
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)
الإنزال المبارك أن يكون بالله ولله، وعلى شهود الله من غير غفلة عن الله، ولا مخالفا لأمر الله ويقال الإنزال المبارك الاستيعاب بشهود الوصف عنك، ثم الاستغراق باستيلاء سلطان القرب عليك، ثم الاستهلاك بإحداق أنوار التجلّى حتى لا تبقى عين ولا أثر، فإذا تمّ هذا ودام هذا فهو نزول بساحات الحقيقة مبارك لأنك بلا أنت.. بكليتك من غير بقية أو أثر عنك.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٣١]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١)
تتابعت القرون على طريقة واحدة فى التكذيب، وغرّهم طول الامهال، وما مكنّهم من رفه العيش وخفض الدّعة، فلم يقيسوا إلا على أنفسهم، ولم يسم لهم طرف إلى من فوقهم فى الحال والمنزلة، فقالوا: أنؤمن بمن يتردد فى الأسواق، وينتفع مثلنا بوجوه الأرفاق؟
ولئن أطعنا بشرا مثلنا لسلكنا سبيل الغىّ، وتنكبنا سنّة الرّشد. فأجراهم الله فى الإهانة وإحلال العقوبة بهم مجرى واحدا، وأذاقهم عذاب الخزي. وأعظم ما داخلهم من الشّبهة والاستبعاد أمر الحشر والنشر، ولم يرتقوا للعلم بأنّ الإعادة كالابتداء فى الجواز وعدم الاستحالة، والله يهدى من يشاء ويغوى من يريد.
ثم إن الله فى هذه السورة ذكر قصة موسى عليه السلام، ثم بعده قصة عيسى عليه السلام، وخصّ كلّ واحد منهم بآياته الباهرة ومعجزاته الظاهرة «١».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥١]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١)
كلوا من الطيبات مما أحلّ لكم وأباح، وما هو محكوم بأنه طيب- على شريطة مطابقة
(١) نلاحظ هنا أن القشيري قد اختصر الكلام فقفز إلى الآية ٥٠ دون تمهل أمام كل آية كما تعودنا منه
رخصة الشريعة- مما كان حلالا فى وقتهم، مطلقا مأذونا لهم فيه. وكذلك أعمالهم الصالحة ما كان موافقا لأمر الله فى زمانهم بفنون طاعاتهم فى أفعالهم وعقائدهم وأحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٢]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)
معبودكم واحد، ونبيّكم واحد، وشرعكم واحد فأنتم فى الأصول شرع سواء، فلا تسلكوا ثنيات الطرق «١» فتطيحوا فى أودية الضلالة. وعليكم باتباع سلّفكم، واحذروا موافقة ابتداع خلفكم.
«وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» خافوا مخالفة أمرى، واعرفوا عظيم قدرى، واحفظوا فى جريان التقدير سرّى، واستديموا بقلوبكم ذكرى، تجدوا فى مآلكم غفرى، وتحظوا بجميل برّى.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٣]
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)
فمستقيم على حقّه، وتائه فى غيّه، ومصرّ على عصيانه وفسقه، ومقيم على إحسانه وصدقه، كلّ مربوط بحدّه، موقوف بما قسم له فى البداية من شأنه، كلّ ينتحل طريقته ويدّعى بحسن طريقته حقيقة، وعند صحو سماء قلوب أرباب التوحيد لا غبار فى الطريق وهم على يقين معارفهم فلا ريب يتخالجهم ولا شبهة.
وأهل الباطل فى عمى جهلهم، وغبار جحدهم، وظلمة تقليدهم، ومحنة شكهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٤]
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤)
إنّ مدة أخذهم لقريبة، والعقوبة عليهم- إذا أخذوا- لشديدة، ولسوف يتبين لهم خطؤهم من صوابهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦).
(١) ثنية الطريق- منعطفه.
هذا فى شأن أصحاب الاستدراج من مكر الحقّ بهم بتلبيس المنهاج رأو سرابا فظنوه شرابا، ودس لهم فى شهدهم صابا فتوهموه عذابا «١»، وحين لقوا عذابا علموا أنهم لم يفعلوا صوابا.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٧]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧)
أمارة الإشفاق من الخشية إطراق السريرة فى حال الوقوف بين يدى الله بشواهد الأدب، ومحاذرة بغتات الطّرد، لا يستقر بهم قرار لما داخلهم من الرّعب، واستولى عليهم من سلطان الهيبة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٨]
وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)
تلك الآيات مختلفة فمنها ما يكاشفون به فى الأقطار من اختلاف الأدوار، وما فيه الناس من فنون الهمم وصنوف المنى والإرادات، فإذا آمن العبد بها، واعتبر بها اقتنع بما يرى نفسه مطالبا به.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٩]
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩)
يذرون جلّى الشّرك وخفيّه والشّرك الخفىّ ملاحظة الخلق فى أوان الطاعات، والاستبشار بمدح الخلق وقبولهم، والانكسار والذبول عند انقطاع رؤية الخلق.
ويقال الشّرك الخفىّ إحالة النادر من الحالات- فى المسارّ والمضارّ- على الأسباب كقول القائل. «لولا دعاء أبيك لهلكت» و «لولا همّة فلان لما أفلحت»... وأمثال هذا قال الله تعالى «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «٢».
وكذلك توّهم حصول الشّفاء من شرب الدواء.
فاذا أيقن العبد بسرّه ألا شىء من الحدثان، ولم يتوهم ذلك، وأيقن ألّا شىء إلّا من التقدير فعند ذلك يبقى عن الشّرك «٣».
(١) العذاب جمع عذب وهو السائغ من الطعام والشراب ونحوهما (الوسيط). [.....]
(٢) آيه ١٠٦ سورة يوسف.
(٣) أي أن القشيري لا ينكر الأسباب ولكن يعنى على من يتوهم أن من الحدثان شيئا.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٠]
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)
يخلصون فى الطاعات من غير إلمام بتقصير، أو تعريح فى أوطان الكسل، أو جنوح إلى الاسترواح بالرّخص. ثم يخافون كأنهم ألمّوا بالفواحش، ويلاحظون أحوالهم بعين الاستصغار، والاستحقار، ويخافون بغتات التقدير، وقضايا السخط، وكما قيل:
يتجنّب الآثام ثم يخافها فكأنّما حسناته آثام
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦١]
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
«١» مسارع بقدمه من حيث الطاعات، ومسارع بهممه من حيث المواصلات، ومسارع بندمه من حيث تجرّع الحسرات، والكلّ مصيب، وللكلّ من إقباله- على ما يليق بحاله- نصيب.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٢]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)
المطالبات فى الشريعة مضمّنة بالسهولة، وأمّا مطالبات الحقيقة فكما قالوا: ليس إلّا بذل الروح، ولهذا فهم لا تشغلهم الترّهات «٢». قال لأهل الرخص والمستضعفين فى الحال:
«وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «٣»، وأمّا أرباب الحقائق فقال: «وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» «٤» وقال: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» «٥»، وقال: «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ «٦» ».
(١) في س أخطأ الناسخ إذ زاد (لهم) بعد يسارعون.
(٢) الترهات جمع ترهة وهى القول الباطل الذي لا نفع فيه، أو الطريق الصغيرة المتشعبة عن الطريق الأعظم.
(٣) آية ٧٨ سورة الحج.
(٤) آية ٢٨٤ سورة البقرة.
(٥) آية ١٥ سورة النور.
(٦) آية ٧٨ سورة الحج.
قوله: «وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» : لولا غفلتهم عن مواضع الحقيقة لما خوّفهم بكتابة الملك، ولكن غفلوا عن شهود الحق فخوّفهم باطلاع الملائكة، وكتابتهم عليهم أعمالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٣]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
لا يصلح لهذا الشأن «١» إلا من كان فارغا من جميع الأعمال، لا شغل له فى الدنيا والآخرة، فأمّا من له شغل بدنياه، أو على قلبه حديث عقباه، فليس له نصيب من حديث مولاه، وفى الخبر «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ».
ويقال أصحاب الدنيا مشغولون بدنياهم، وأرباب العقبى مشغولون بعقباهم، وأهل النار مشغولون بما ينالهم من بلواهم وإن الذي له فى الدنيا والآخرة غير مولاه- حين الفراغ- عزيز قال تعالى: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ» «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٤]
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤)
إنه- سبحانه- يمهل ولكنّه لا يهمل فإذا أخذ فبطشه شديد، قال تعالى:
«إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» «٣»... فإذا أخذ أصحاب الكبائر- حين يحل بهم الانتقام- فى الجواب ردّوا في الهوان، ويقال لهم:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٥]
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥)
فإذا انفصل من الغيب حكم فلا مردّ لتقديره.
(١) (هذا الشأن) يقصد به طريق رباب الأحوال
(٢) آية ٥٥ سورة يس.
(٣) آية ١٢ سورة البروج.
ويقال للجنابة سراية فإذا أمسك الجاني عن الجناية فلا ينفعه ذلك ما لم يمض حكم السراية.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
ذكر هذا من باب إملاء العذر، وإلزام الحجة، والقطع بألا ينفع- الآن- الجزع ولا يسمع العذر والملوك إذا أبرموا حكما، فالاستغاثة غير مؤثّرة فى الحاصل منهم، قال قائلهم:
إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكد... إليه بوجه- آخر الدهر- تقبل
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٨]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
يعنى أنهم لو أنعموا النظر، وسلطوا على أحوالهم صائب الفكر لاستبصروا فى الحال، ولا نتفى عن قلوبهم الاستعجام والإشكال، ولكنهم استوطنوا مركب الكسل، وعرّجوا فى أوطان التغافل، فتعودوا الجهل، وأيسوا من الاستبصار.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٩]
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩)
ذهلوا عن التحقيق فتطوّحوا فى أودية المغاليط، وترجّمت بهم الظنون الخاطئة، وملكتهم كواذب التقديرات «١»، فأخبر الله (الرسول) «٢» عن أحوالهم فمرة قابلوه بالتكذيب، ومرة رموه بالسّحر، ومرة عابوه بتعاطيه أفعال العادة بما عليه الناس من المآكل والمشارب، ومرة قدحوا فيه بما هو فيه من الفقر وقلّة ذات اليد... فأخبر الله عن تشتّت أحوالهم، وتقسّم أفكارهم
(١) هكذا فى م أما في ص فهى (التقدير) ونحن نرجه الأولى حتى يقتصر إطلاق (التقدير) بالمفرد على الفعل الإلهى أما هنا فهى (التقديرات الإنسانية) أي الظنون.
(٢) السياق يتطلب وجود كلمة (الرسول) وهى غير موجودة فى التسخين فوضعناها من عندنا لينسجم الأسلوب.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧١]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
وذلك لتضادّ مناهم وأهوائهم إذ هم متشاكسون فى السؤال والمراد، وتحصيل ذلك محال تقديره فى الوجود. فبيّن الله- سبحانه- أنه لو أجرى حكمه على وفق مرادهم لاختلّ أمر السماوات والأرض، ولخرج عن حدّ الإحكام والإتقان.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٢]
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
أي إنّك لا تطالبهم على تبليغ الرسالة بأجر، ولا بإعطاء عوض حتى تكون بموضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة. أم لعلّك تريد أن يعقدوا لك الرياسة. ثم قال: والذي لك من الله سبحانه من جزيل الثواب وحسن المآب يغنيك عن التصدّى لنيل ما يكون فى حصوله منهم مطمع. وهذا كان سنّة الأنبياء والمرسلين عملوا لله ولم يطلبوا أجرا من غير الله.
والعلماء ورثة الأنبياء فسبيلهم التوقّى عن التّدنّس بالأطماع، والأكل بالدّين فإنه رياء مضرّ بالإيمان فإذا كان العمل لله فالأجر منتظر من الله، وهو موعود من قبل الله «١».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
الصراط المستقيم شهود الربّ بنعت الانفراد فى جميع الأشياء، وفى الإيجاد، والاستسلام لقضايا الإلزام بمواطأة القلب من غير استكراه الحكم.
قوله جل ذكره: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ.
(١) القشيري هنا يغمز بانحراف كثير من الوعاظ المحترفين الذين امتلأ بهم عصره، ومنذ عهد الحسن البصري- الذي طالما نبه إلى خطورة هذا الأمر- ونحن نسمع هذه الصيحة ناعية ما آل إليه أمر المحترفين إلى التهافت والتهالك على أطماع الدنيا الزائلة. [.....]
زاغوا عن الحجة المثلى بقلوبهم فوقعوا فى جحيم الفرقة، وستميل وتزل أقدامهم غدا عن الصراط، فيقعون فى نار الحرقة فهم ناكبون فى دنياهم وعقباهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٥]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)
أخبر عن صادق علمه بهم، وذلك صادر عن سابق حكمه فيهم، فقال: لو كشفنا عنهم فى الحال لم يفوا بما يعدون من أنفسهم من الإيمان فى المآل، ولقد علم أنهم سيكفرون، وحكم عليهم بأنهم يكفرون إذ لا يجوز أن يكون حكمه فيهم بخلاف علمه بهم «١» قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٦]
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
أذقناهم مقدمات العذاب دون شدائده.. تنبيها لهم، فما انتبهوا وما انزجروا، ولو أنهم إذ رأوا العذاب فزعوا إلى التضرع والابتهال لأسرع الله زواله عنهم، ولكنهم أصرّوا على باطلهم، ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٧]
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
لما أجللنا بهم أشدّ العقوبات ضعفوا عن تحمّلها، وأخذوا بغتة، ولم ينفعهم ما قدّموا من الابتهال، فيئسوا عن الإجابة، وعرّجوا فى أوطان القنوط.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨)
ذكر عظيم منّته عليهم بأن خلق لهم هذه الأعضاء، وطالبهم بالشكر عليها.
وشكرهم عليها استعمالها فى طاعته فشكر السّمع ألا تسمع إلا بالله ولله، وشكر البصر ألا تنظر إلا بالله لله، وشكر القلب ألّا تشهد غير الله، وألّا تحبّ به غير الله.
(١) هذا التمييز بين الحكم والعلم له أهميته الكبيرة فى قضية القدر.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٩]
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩)
الابتداء للحادثات من الله بدعا، والانتهاء إليه عودا، والتوحيد ينتظم هذه المعاني فتعرف أنّ الحادثات بالله ظهورا، ولله ملكا، ومن الله ابتداء، وإلى الله انتهاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٨٠]
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠)
يحيى النفوس ويميتها والمعنى فى ذلك معلوم، وكذلك يحيى القلوب ويميتها فموت القلب بالكفر والجحد، وحياة القلب بالإيمان والتوحيد، وكما أنّ للقلوب حياة وموتا فكذلك للأوقات موت وحياة، فحياة الأوقات بيمن إقباله، وموت الأوقات بمحنة إعراضه، وفى معناه أنشدوا:
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا فكم أحيا عليك وكم أموت
قوله: «وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» فليس كلّ اختلافها فى ضيائها وظلمتها، وطولها وقصرها، بل ليالى المحبين تختلف فى الطول والقصر، وفى الروح والنوح فمن الليالى ما هو أضوأ من اللآلى، ومن النهار ما هو أشدّ من الحنادس، يقول قائلهم: ليالىّ بعد الظاعنين شكول.
ويقول قائلهم:
وكم لظلام الليل عندى من تخبّر أنّ المانوية تكذّب
وقريب من هذا المعنى قالوا:
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨١ الى ٨٣]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
سلكوا فى التكذيب مسلك سلفهم، وأسرفوا فى العناد مثل سرفهم، فأصابهم ما أصاب الأولين من هلاكهم وتلفهم.
قوله: «لَقَدْ وُعِدْنا... » لمّا طال عليهم وقت الحشر، وما توعدهم به من العذاب بعد البعث والنّشر زاد ذلك فى ارتيابهم، وجعلوا ذلك حجّة فى لبسهم واضطرابهم، فقالوا: لقد وعدنا مثل هذا نحن وآباؤنا، ثم لم يكن لذلك تحقيق، فما نحن إلّا أمثالهم.
فاحتجّ الله عليهم فى جواز الحشر بما أقروا به من ابتداء الخلق:
فقال جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٩]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
أمره- عليه السلام- أن يلوّن عليهم الأسئلة، وعقّب كلّ واحد من ذلك- مخبرا عنهم- أنهم سيقولون: لله، ثم لم يكتف منهم بقالتهم تلك، بل عاتبهم على
تجرّد قولهم عن التّذكّر والفهم والعلم وتنبيها على أن القول- وإن كان فى نفسه صدقا- فلم تكن فيه غنية إذ لم يصدر عن علم ويقين.
ثم نبّههم على كمال قدرته، وأنّ القدرة القديمة إذا تعلّقت بمقدور له ضدّ تعلّقت بضدّه، ويتعلق بمثل متعلقه.
والعجب من اعترافهم بكمال أوصاف جلاله، ثم تجويزهم عبادة الأصنام التي هى جمادات لا تحيا، ولا تضرّ ولا تنفع.
ويقال أولا قال: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ»، ثم قال بعده: «أَفَلا تَتَّقُونَ»، فقدّم التذكر على التقوى لأنهم بتذكرهم يصلون إلى المغفرة، ثم بعد أن يعرفوه فإنهم يجب عليهم اتقاء مخالفته.
ثم بعد ذلك قال: «فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» أي بعد وضوح الحجة فأىّ شكّ بقي حتى تنسبوه إلى السّحر؟
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٩٠]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠)
بيّن أنهم أصرّوا على جحودهم، وأقاموا على عتوّهم ونبوّهم، وبعد أن أزيحت العلل فلات حين عذر، وليس لتجويز المساهلة موجب بتا.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
اتخاذ الأولاد لا يصحّ كاتخاذ الشريك، والأمران جميعا داخلان فى حدّ الاستحالة، لأن الولد أو الشريك يوجب المساواة فى القدر، والصمدية تتقدّس عن جواز أن يكون له مثل أو جنس.
قوله جل ذكره: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ
كلّ أمر نيط باثنين فقد انتفى عنه النظام وصحة الترتيب، وأدلة التمانع مذكور فى مسائل الأصول.
«سُبْحانَ اللَّهِ» تقديسا له، وتنزيها عما وصفوه به. «عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» : تنزّه عن أوهام من أشرك، وظنون من أفك.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٩٣]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣)
يقول إن عجلت لهم ما تتوعدهم به فلا تجعلنى فى جملتهم، ولا توصل إلىّ سوءا مثلما توصل إليهم من عقوبتهم. وفى هذا دليل على أنّ للحقّ أن يفعل ما يريد، ولو عذّب البريء لم يكن ذلك منه ظلما ولا قبيحا «١».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٩٥]
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥)
تدل على صحة قدرته على خلاف ما علم فإنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك، فصحّت القدرة على خلاف المعلوم «٢» قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٩٦]
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦)
الهمزة فى «أَحْسَنُ» يجوز ألا تكون للمبالغة ويكون المعنى ادفع بالحسن السيئة.
أو أن تكون للمبالغة فتكون المكافأة جائزة والعفو عنها- فى الحسن- أشدّ مبالغة.
ويقال ادفع الجفاء بالوفاء، وجرم أهل العصيان بحكم الإحسان.
ويقال ادفع ما هو حظك إذا حصل ما هو حق له.
ويقال اسلك مسلك الكرم، ولا تجنح إلى طريق المكافأة.
(١) لأن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض، إذ لا يعود عليه سبحانه من هذا أو ذاك مصلحة.
(٢) فى هذا ردّ ضمنى على المعتزلة القائلين بإنكار الصفات، إذ يتضح أن صفة العلم متميزة عن صفة القدرة. فالأشاعرة- ومنهم القشيري- حين يثبتون الصفات إنما يثبتون المعاني اللاثقة بذاته، وهى معان وإن تنوعت فليست طوارئ على الذات، وإنما الذات قائمة بها.
ويقال الأحسن ما أشار إليه القلب، والسيئة ما تدعو إليه النّفس.
ويقال الأحسن ما كان بإشارة الحقيقة، والسيئة ما كان بوساوس الشيطان.
ويقال الأحسن نور الحقائق، والسيئة ظلمة الخلائق.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
الاستعاذة- على الحقيقة- تكون بالله من الله كما قال صلى الله عليه وسلم:
«أعوذ بك منك» «١»، ولكنه- سبحانه- أراد أن نعبده بالاستعاذة به من الشيطان، بل من كلّ ما هو مسلّط علينا، والحقّ عندئذ يوصل إلينا مضرتنا يجرى العادة.
وإلّا.. فلو كان بالشيطان من إغواء الخلق شىء لكان يمسك على الهداية نفسه! فمن عجز عن أن يحفظ نفسه كان عن إغواء غيره أشدّ عجزا، وأنشدوا:
جحودى فيك تلبيس... وعقلى فيك تهويس
فمن آدم إلّاك... ومن فى (... ) «٢» إبليس
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠).
(١) من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك».
مسلم، ومالك، وأبو داود، والنسائي، والترمذي.
(٢) فى م (ألين) وفي ص (اللبن)، والبيتان للحلاج فى الطواسين ص ٤٣ وفى ديوانه (المقطعة الثامنة والعشرون) جاءت البين، والمعنى أن آدم الذي خلقته من طين هو سبب بلائي فسجودى له سجود لغيرك.
وفى البيتين بعض الغموض والشطح، ولهذا نعجب من استشهاد القشيري بهما. ونحن نلاحظ أنه بينما لم يكتب القشيري فى رسالته شيئا عن سيرة الحسين بن منصور الحلاج إلا أنه طالما يستشهد بأقواله شعرا ونثرا..
وقد عللنا لذلك في كتابنا «الإمام القشيرى وتصوفه» ط مؤسسة الحلبي.
إذا أخذ البلاء بخناقهم، واستمكن الضّرّ من أحوالهم، وعلموا ألّا محيص ولا محيد أخذوا فى التضرّع والاستكانة، ودون ما يرومون خرط القتاد! ويقال لهم هلّا كان عشر عشر هذا قبل هذا؟ ولقد قيل:
قلت للنفس: إن أردت رجوعا... فارجعى قبل أن يسدّ الطريق
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٠١]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١)
يومئذ لا تنفع الأنساب وتنقطع الأسباب، ولا ينفع النّدم، وسيلقى كلّ غبّ ما اجترم فمن ثقلت بالخيرات موازينه لاح عليه تزيينه. ومن ظهر ما يشينه فله من البلاء فنونه تلفح وجوههم النار، وتلمح من شواهدهم الآثار، ويتوجه عليهم الحجاج، فلا جواب لهم يسمع، ولا عذر منهم يقبل، ولا عذاب عنهم يرفع، ولا عقاب عنهم يقطع.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٠٦]
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦)
نطقوا بالحقّ... ولكن فى يوم لا ينفع فيه الإقرار، ولا يقبل الاعتذار، ثم يقولون:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٠٧]
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧)
والحقّ يقول: لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه. علم أنّ ردّهم إلى الدنيا لا يكون، ولكنه علم أنّه لو كان فكيف كان يكون.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٠٨]
قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)
عند ذلك يتمّ عليهم البلاء، ويشتدّ عليهم العناء، لأنهم ما داموا يذكرون الله لم يحصل الفراق بالكلية، فإذا حيل بينهم وبين ذكره تتم لهم المحنة، وهو أحد ما قيل فى قوله.
«لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» «١».
(١) آية ١٠٣ سورة الأنبياء.
وفى الخبر: أنهم ينصرفون بعد ذلك فإذا لهم عواء كعواء الذئب. وبعض الناس تغار من أحوالهم لأن الحق يقول لهم: «اخْسَؤُا فِيها»، فيقولون: يا ليتنا يقول لنا! أليس هو يخاطبنا بذلك؟! وهؤلاء يقولون: قدح الأحباب ألذّ من مدح الأجانب، وينشدون فى هذا المعنى:
ليالى وصال قد مضين كأنّها لآلى عقود فى نحور الكواعب
وأيام هجر أعقبتها كأنّها بياض مشيب فى سواد الذوائب
أتانى عنك سبّك لى.. فسبىّ أليس جرى بفيك اسمى؟ فحسبى
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)
الحقّ- سبحانه- ينتقم من أعدائه بما يطيّب به قلوب أوليائه، وتلك خصومة الحق، فيقول:
قد كان قوم من أوليائى يفصحون بمدحى وثنائى، ويتصفون بمدحى واطرائى، فاتخذتموهم سخريا فأنا اليوم أجازيهم، وأنتقم ممن كان يناويهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٤]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)
عدد سنين الأشياء- وإن كانت كثيرة- فقد تقصر أو تقل بالإضافة إلى ما يوفى ويربى عليها، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض إن كانوا فى الراحة فقد تقل بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها فى القيامة، وإن كانت شدائد فتتلاشى في جنب ما يرونه ذلك اليوم من أليم تلك العقوبات المتوالية.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١١٥]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)
العبث اللهو، واللّعب والاشتغال بما يلهى عن الحقّ، والله لم يأمر العباد بذلك، ولم يدعهم إلى ذلك، ولم يندبهم إليه.
والعابث فى فعله من فعله على غير حدّ الاستقامة، ويكون هازلا مستجلبا بفعله أحكام اللهو إلى نفسه، متماديا فى سهوه، مستلذّ التفرقة فى قصده. وكلّ هذا من صفات ذوى البشرية، والحقّ- سبحانه- منزّه النّعت عن هذه الجملة، فلا هو بفعل شىء عابث، ولا بشىء من العبث آمر.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١١٦]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
الحقّ- بنعوت جلاله- متوحّد، وفى عزّ آزاله وعلّو أوصافه متفرّد، فذاته حقّ، وصفاته حقّ، وقوله صدق، ولا يتوجّه لمخلوق عليه حق، وما يفعله من إحسان بعباده فليس شىء منها بمستحق «١».
«لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» : ما تجمّل بالعرش، ولكن تعزّز العرش بأنّه أضافه إلى نفسه إضافة خصوصية.
والكريم الحسن، والكرم نفى الدناءة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١١٧]
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧)
حسابه على الله فى آجله. وعذابه من الله له فى عاجله، وهو الجهل الذي أودع قلبه حتى رضى بأن يعبد معه غيره. وقولهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» كلام
(١) معنى هذه العبارة أنه لا يجب على الله شىء فى إحسانه لعباده، فهو إذا أحسن إليهم فهذا من فضله، وليس نتيجة وجوب على الله أو حق للعبد.
Icon