تفسير سورة القصص

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة القصص من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة القصص
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله اسم عزيز من تعرض لجدواه يسّر له في دنياه وعقباه، اسم عزيز من اشتاق إلى لقياه استعذب فيه ما يلقاه من بلواه. ومن طلب غيره مؤنسا في دنياه أو عقباه «ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ».
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١)
«الطاء» تشير إلى طهارة نفوس العابدين عن عبادة غير الله، وطهارة قلوب العارفين عن تعظيم غير الله، وطهارة أرواح الواجدين عن محبة غير الله، وطهارة أسرار الموحّدين عن شهود غير الله. «والسين» تشير إلى سرّ الله مع العاصين بالنجاة، ومع المطيعين بالدرجات، ومع المحبين بدوام المناجاة. «والميم» تشير إلى منّته على كافة المؤمنين بكفاية الأوقات والثبات فى سبيل الخيرات.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٣]
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣)
سماع قصة الحبيب من الحبيب يوجب سلوة القلب، وذهاب الكرب، وبهجة السّرّ، وثلج الفؤاد. وقد كرّر الحقّ ذكر قصة موسى تفخيما لشأنه وتعظيما لقدره، ثم زيادة في البيان لبلاغة القرآن، ثم إفادة لزوائد في المذكور قوله في كل موضع يتكرر فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤]
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)
تكبّر فرعون بغير حقّ فأقماه بحقّ، وتجبّر بغير استحقاق فأذلّه الله باستحقاق واستيجاب، وجعل أهلها شيعا يذبّح أبناءهم «١» بعد ما استضعفهم، ويستحى نساءهم، وأفنى منهم من كان (... ) «٢»، وبالفساد حكم فيهم، والله لم يرض بترك إتلافهم.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥ الى ٦]
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
نريد أن نمنّ على المستضعفين بالخلاص من أيديهم، وأن نجعلهم أئمة، بهم يهتدى الخلق، ومنهم يتعلم الناس سلوك طريق الصدق، ونبارك في أعمارهم، فيصيرون وارثين لأعمار من يناويهم، وتصير إليهم مساكنهم ومنازلهم فهم هداة وأعلام، وسادة وقادة بهم يقتدى وبنورهم يهتدى.
«وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» : نزيل عنهم الخوف، ونرزقهم البسطة والاقتدار، ونمد لهم فى الأجل. ونرى فرعون وهامان وقومهما ما كانوا يحذرون من زوال ملكهم على أيديهم وأنّ الحقّ يعطى- وإن كان عند الخلق أنّه يبطى.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧).
(١) كان سبب سلوكه هذا السبيل مع بنى إسرائيل أن الكهنة قالوا له ان مولودا يولد في بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه، أو قال له المنجمون ذلك، أو رأى رؤيا فعبرت كذلك. قال الزجاج: العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل. [.....]
(٢) مشتبهة.
أي ألقينا في قلبها، وأوحينا إليها وحي إلهام، فاتّخذت خاطرها في ذلك، وجرى منها ذلك وهي مختارة باختيار أدخل عليها.
لمّا وضعت أم موسى موسى كانت تخاف قتله، فإن فرعون قتل في ذلك اليوم كثيرا من الولدان المولودة لبنى إسرائيل، رجاء أن يقتل من رأى في النوم ما عبّر له أن ذهاب ملكه على يدى إسرائيلى.. فألقى الله في قلبها أن تفعل ذلك.
ثم إنه ربّاه في حجره ذلك اليوم- ليعلم أنّ الأقدار لا تغالب.
جعلت أم موسى موسى في تابوت، وألقته في نيل مصر، فجاء الماء به إلى بركة كان فرعون جالسا على حافتها، فأخذوه وحملوه إليه، وفتحوا رأس التابوت. فلمّا رآه فرعون أخذت رؤيته بمجامع قلبه، وكذلك تمكّن حبّه من قلب امرأة فرعون قال تعالى:
«وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» :«١» حيث خلق الله ملاحة في عينى موسى فكان من يقع عليه بصره لا يتمالك من حبّه.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨ الى ١٠]
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠)
أخبر الله تعالى أنه كان عدوا لهم، وقالت امرأة فرعون:
«قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ».
فلم يكن لهما ولد، وهم لا يشعرون إلى ماذا يئول أمره.
«وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».
(١) آية ٣٩ سورة طه.
لمّا ألقته في الماء سكّن الله قلبها، وربط عليه، وألهمها الصبر، وأصبح فؤادها فارغا إن كادت لتبدى به من حيث ضعف «١» البشرية، ولكن الله ربط على قلبها.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ١١]
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
أمرت أمّ موسى أخته أن تتبع أثره، وتنظر إلى ماذا يئول أمره، فلمّا وجدوه واستمكن حبّه من قلوبهم طلبوا من يرضعه:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
أبى موسى قبول ثدى واحدة ممن عرض عليهن.. فمن بالغداة كانوا في اهتمام كيف يقتلونه أمسوا- وهم في جهدهم- كيف يغذّونه «٢» ! فلمّا أعياهم أمره، قالت لهم أخته: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ؟» فقبلوا نصيحتها شفقة منهم عليه، وقالوا: نعم، فردّوه إلى أمّه «٣»، فلمّا وضعت ثديها في فمه ارتضعها موسى فسرّوا بذلك، وكانوا يدعون أمّه حاضنة ومرضعة.. ولم يضرها، وكانوا يقولون عن فوعون: إنه أبوه.. ولم ينفعه ذلك «٤» !
(١) هكذا في م، وقد أخطأ الناسخ في ص حين أضاف لفظة (الله) بعد (ضعف).
(٢) هكذا في م، وفي ص (يعذبونه) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح.
(٣) هكذا في م، وفي ص (آمره) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح.
(٤) يقصد القشيري إلى شىء بعيد هو أن أحكام الناس ليست بالضرورة صائبة، وأن للأمور حقائق وجواهر وبواطن خافية، وأن أسماء الأشياء وظواهرها لا عبرة بها.
ولمّا أخذته أمّه علمت بتصديق الله ظنها، وسكن عن الانزعاج قلبها، وجرى من قصة فرعون ما جرى.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ١٤]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)
لمّا كملت سنّة وتمّ عقله، واستوى كمال خصاله «آتَيْناهُ حُكْماً» : أي أتممنا له التحصيل، ووفّرنا له العلم، وبذلك جرت سنّتنا مع الأكابر والأنبياء.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ١٥]
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥)
الآية.
قيل: دخل المدينة في وقت الهاجرة، وتفرّق الناس، فوجد فيها رجلين يتخاصمان: أحدهما إسرائيليّ من شيعة موسى وعلى دينه، والآخر قبطيّ مخالف لهما، فاستغاث الإسرائيليّ بموسى على القبطي، فوكزه موسى ليدفعه عن الإسرائيلى، فمات الرجل بذلك الوكز، ولم يكن موسى يقصد قتله، فقال موسى: - «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ».
فقد تمنّى موسى أن لو دفعه عنه بأيسر مما دفعه، ولم ينسب القتل إلى الشيطان «١»، ولكنّ دفعه عنه بالغلظة نسبه إلى الشيطان بأن حمله على تلك الحدّة.
وهكذا.. إذا أراد الله أمرا أجرى أسبابا ليحصل بها مراده، ولولا أنه أراد فتنة موسى لما قبض روح الرجل بمثل تلك الوكزة، فقد يضرب الرجل الكثير من الضّرب والسياط ثم لا يموت فموت القبطي بوكزة اجراء لما قضاه وأراده.
(١) يتصل ذلك برأى القشيري: أن الشيطان ليس بيده شىء لأنه لو كان بيده شىء لأمسك على الهداية نفسه، وكل عمل الشيطان أنه يوسوس في صدور الناس.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ١٦]
قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦)
تاب موسى عمّا جرى على يده، واستغفر ربّه، وأخبر الله أنه غفر له، ولا عتاب «١» بعد المغفرة.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ١٧]
قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)
قال موسى ربّ بما أنعمت عليّ من توفيقك لى بالتوبة «٢» فلن أعود بعد ذلك إلى مثل ما سلف منى.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٨ الى ١٩]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
أصبح في المدينة خائفا على نفسه من فرعون لأنه كان يدّعى أنه يحكم بالعدل، وخاف موسى أن ينسبه في قتل القبطيّ إلى العمد والقصد. فهو «يَتَرَقَّبُ» علم فرعون وأن يخبر بذلك في وقته.
(١) هكذا في النسختين ولا نستبعد أن تكون (عقاب) بالقاف فالسياق يحتملها أيضا وإن كانت (عتاب) أليق بمقام النبوة.
(٢) حقيقة التوبة أن يتوب الله عليك أولا، ويهيىء لك أسباب التوفيق لذلك، فإذا شكرت فاشكر له، فعملك لا يكفى ولا يغنى عن فضل الله.
وقيل «خائِفاً» من الله مما جرى منه. ويقال «خائِفاً» على قومه حلول العذاب بهم.
وقيل «يَتَرَقَّبُ» نصرة الله إياه. ويقال «يَتَرَقَّبُ» مؤنسا يأنس به.
فإذا الذي استنصره بالأمس يخاصم إنسانا آخر، ويستعين به ليعينه، فهمّ موسى بأن يعين صاحبه، فقال الذي يخاصمه: «يا مُوسى، أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟» :
قيل لم يعلم ذلك الرجل أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، ولكن لمّا قصد منعه عن صاحبه استدلّ على أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أنّ موسى هو الذي قتل القبطيّ بالأمس، فأمسك موسى عن هذا الرجل.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)
جاء اسرائيليّ من معارف موسى يسعى، وقال إن القوم يريدون قتلك، وأنا واقف على تدبيرهم وقد أرادوا إعلام فرعون.. فاخرج من هذا البلد، إنى لك من الناصحين.
«فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» خرج «١» من مصر «خائِفاً» أن يقتفوا أثره، «يَتَرَقَّبُ» أن يدركه الطلب، وقيل «يَتَرَقَّبُ» الكفاية والنصرة من الله، ودعا الله فقال: «نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٢٢]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢).
(١) ربما يذكرنا موقف موسى بقضية هامة في الطريق الصوفي هى «السفر» : وضرورته أو عدمها، وقد اختلف المشايخ في أمره (الرسالة ص ١٤٣)، ويرى القشيري ضرورة السفر. إن نبا المكان واشتد البلاء.
(الرسالة ص ٢٠٢) وهو نفسه غادر بلاده عند إطباق المحنة عليه.
توجّه بنفسه تلقاء مدين من غير قصد إلى مدين أو غيره، بل خرج على الفتوح «١»، وتوجّه بقلبه إلى ربّه ينتظر أن يهديه ربّه إلى النحو الذي هو خير له، فقال: عسى ربى أن يهدينى إلى أرشد سبيل لى.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)
لمّا وافى مدين شعيب كان وقت الهاجرة، وكانت لهم بئر يستقون منها، فيصبون الماء فى الحياض، ويسقون أغنامهم، وكانوا أهل ماشية.
وكان شعيب النبيّ عليه السلام قد كفّ بصره لكثرة بكائه ففى القصة أنه بكى فذهب بصره، ثم ردّ الله عليه بصره فبكى، فردّ الله بصره فبكى حتى ذهب بصره، فأوحى الله إليه:
لم تبكى يا شعيب.. ؟ إن كان بكاؤك لخوف النار فقد أمنتك، وإن كان لأجل الجنة فقد أتحتها لك.
فقال: ربّ.. إنما أبكى شوقا إليك. فأوحى الله إليه لأجل ذلك أخدمتك نبيّى وكليمى عشر حجج.
وكانت لشعيب أغنام، ولم يكن لديه أجير، فكانت بنتاه تسوقان الغنم مكان الرعاة، ولم يكن لهما قدرة «٢» على استقاء الماء من البئر، وكان الرعاة يستقون، فإذا انقضوا «٣» فإن بقيت في الحوض بقية من الماء استقت بنات شعيب.
(١) وهكذا سفر الأكابر.
(٢) هكذا في ص وهي في م (قوة).
(٣) من الجائز أن تكون في الأصل (انفضوا) بالفاء فالسياق يحتملها بدليل قوله فيما بعد (فلما انصرف الرعاة)
60
فلمّا وافى موسى ذلك اليوم وشاهد ذلك ورآهما يمنعان غنمهما عن الماء رقّ قلبه لهما وقال:
ما خطبكما؟ فقالتا: «لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» وليس لدينا أجير.
فلمّا انصرف الرعاة سقى لهما، ثم تولّى إلى ظلّ جدار بعد ذلك. كان الجوع قد أصابه خلال سفره، ولم يكن قد تعوّد قط الرحلة والغربة، ولم يكن معه مال، فدعا الله:
«فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ».
قيل طلب قوة تزيل جوعه، وقيل طلب حالا يستقلّ بها. والأحسن أن يقال جاع فطلب كسرة يسدّ بها رمقه- والمعرفة توجب سؤال ما تحتاج إليه من الله قليلا أو كثيرا «١». فلمّا انصرفت ابنتا شعيب خرج شعيب إلى ظاهر الصحراء على طريق الماشية لميسّها بيديه فوجد أثر الزيادة في تلك الكرّة، فسألهما فذكرتا له القصة، وما سمعتا منه حين قال: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فقال شعيب: إذا هو جائع. وبعث إحداهما لتدعوه: - «فجاءته إحداهما تمشى على استحياء قالت إنّ أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فلمّا جاءه وقصّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين» قيل إنما استحيت لأنها كانت تخاطب من لم يكن لها محرما «٢».
وقيل لمّا دعته للضيافة تكلمت مستحيية- فالكريم يستحى من الضيافة.
ويقال لم تطب نفس شعيب لمّا أحسن موسى إليه وأنه «٣» لم يكافئه- وإن كان موسى
(١) لاحظ كيف طبق القشيري (أدب السؤال) ومتى يجب؟ وكيف يجب؟ على موقف موسى الغريب المسافر الجائع المتعب، وهذه الإشارة موجهة من بعين إلى أرباب الطريق. [.....]
(٢) المحرم من الرجال والنساء الذي يحرم التزوج به لرحمه وقرابته.
(٣) الضمير فى (وأنه) يعود على شعيب كما هو واضح من السياق.
61
لم يرد مكافأة منهم «فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ» : لم يقل: فلما جاءه قدّم السّفرة «١» بل قال: وقصّ عليه القصص.. وهذا طرف من قصته.
ويقال: ورد بظاهره ماء مدين، وورد بقلبه موارد الأنس والرّوح. والموارد مختلفة فموارد القلب رياض البسط بكشوفات المحاضرة فيطربون بأنواع الملاطفة، وموارد الأرواح مشاهد الأرواح فيكاشفون بأنوار المشاهدة، فيغيبون عن كل إحساس بالنّفس، وموارد الأسرار ساحات التوحيد.. وعند ذلك الولاية لله فلا نفس ولا حسّ، ولا قلب ولا أنس..
استهلاك في الصمدية وفناء بالكلية!.
ويقال كانت الأجنبية والبعد عن المحرميّة يوجبان إمساكه عن مخاطبتهما، والإعراض والسكون عن سؤالهما.. ولكن الذي بينهما من المشاكلة والموافقة بالسّرّ استنطقه حتى سألهما عن قصتهما، كما قيل:
أجارتنا إنّا غريبان هاهنا وكلّ غريب للغريب نسيب
ويقال: لمّا سألهما وأخبرتا عن ضعفهما لزمه القيام بأمرهما ليعلم أنّ من تفقّد أمر الضعفاء ووقف على موضع فاقتهم لزمه إشكاؤهم.
ويقال من كمال البلاء على موسى أنّه وافى الناس وكان جائعا، وكان مقتضى الرّفق أن يطعموه، ولكنه قبض القلوب عنه، واستقبله من موجبات حكم الوقت أن يعمل عمل أربعين رجلا لأن الصخرة التي نحّاها عن رأس البئر- وحده- كان ينقلها أربعون رجلا، فلمّا عمل عمل أربعين رجلا، تولّى إلى الظّلّ، وقال: إن رأيت أن تطعمنى بعد مقاساة اللتيا والتي.. فذلك فضلك!.
قال ذلك بلسان الانبساط، ولا لسان أحلى من ذلك. وسنّة الشكوى أن تكون إليه لا منك.. بل منه إليه «٢».
(١) السفرة طعام يصنع للمسافر، أو مائدة وما عليها من طعام.
(٢) لأنك بلا أنت، فبالضرورة ليس منك شكوى، فعل الحقيقة لا وجود إلا له، فاتركه ممسكا بعنانك، واستسلم لما يختار، ولن يكون إلا الخير.
62
ويقال: تولّى إلى ظلّ الأنس وروح البسط واستقلال السّرّ بحقيقة الوجود.
ويقال قال: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» : فزدنى فقرا فإنّ فقرى إليك يوجب استعانتى بك «١».
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٢٦]
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦)
كان شعيب عليه السلام يحتاج إلى أجير، ولكن لا يسكن قلبه إلى أحد، فلمّا رأى موسى، وسمع من ابنته وصفه بالقوة والأمانة سأل:
عرفت قوّته.. فكيف عرفت أمانته؟
فقالت: كنت أمشى قدّامه فأخّرنى عنه في الطريق قائلا: سيرى ورائي واهدينى، لئلا يقع بصره عليّ.. فقال شعيب:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٢٧]
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
فرغب موسى وتزوجها على صداق أن يعمل عشر حجج لشعيب.
وفي القصة أن شعيبا قال لموسى: ادخل هذا البيت وأخرج مما فيه من العصيّ عصا، وكان البيت مظلما، فدخل وأخرج العصا، تلك التي أظهر الله فيها معجزاته، ويقال: إنها كانت لآدم عليه السلام، ووقعت لشعيب من نبيّ إلى نبيّ. إذ يقال: إنه لما هبط آدم إلى الأرض صال عليه ما على وجهها من السّباع، فأنزل عليه الله عصا، وأمره جبريل أن يردّ السباع عن نفسه بتلك العصا.
(١) إظهار الضعف آية العبودية فالدعاء هنا ليس من قبيل الشكوى، ولكنه تعبير عن ضعف العبد أمام عظمة الربوبية، فكأنه نوع من التعبد (راجع قصة أيوب إذ نادى ربه....)
وتوارث الأنبياء واحدا بعد الآخر تلك العصا، فلمّا أخرج موسى تلك العصا، قال شعيب:
ردّها إلى البيت، واطرحها فيه، وأخرج عصا أخرى، ففعل غير مرة، ولم تحصل كلّ مرة فى يده إلا تلك العصا، فلمّا تكرّر ذلك علم شعيب أنّ له شأنا فأعطاه إياها، وفي القصة: أنه في اليوم الأول ساق غنمه، وقال له شعيب: إنّ طريقك يتشعب شعبين:
على أحدهما كلا كثير.. فلا تسلكه في الرعي فإنّ فيه ثعبانا، واسلك الشّعب الآخر.
فلمّا بلغ موسى مفرق الطريقين، تفرّقت أغنامه ولم تطاوعه، وسامت في الشّعب الكثير الكلأ، فتبعها، ووقع عليه النوم، فلمّا انتبه رأى الثعبان مقتولا، فإن العصا قتلته، ولمّا انصرف أخبر شعيبا بذلك فسرّ به. وهكذا كان يرى موسى في عصاه آيات كثيرة، ولذا قال: «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى».
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٢٩]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)
مضت عشر حجج، وأراد موسى الخروج إلى مصر، فحمل ابنه شعيب، وسار بأهله متوجّها إلى مصر. فكان أهله في تسييره وكان هو في تسيير الحقّ، ولمّا ظهر ما ظهر بامرأته من أمر الطّلق استصعب عليه الوقت، وبينا هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا- أي أبصر ورأى- فكأنه يشير إلى رؤية فيها نوع أنس: وإنّ الله إذا أراد أمرا أجرى ما يليق به، ولو لم تقع تلك الحالة لم يخرج موسى عندها بإيناس النار، وقد توهّم- أول الأمر- أنّ ما يستقبله في ذلك الوقت من جملة البلايا، ولكنه كان في الحقيقة سبب تحقيق النبوة. فلولا أسرار التقدير- التي لا يهتدى إليها الخلق- لما قال لأهله:
«امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ».
ويقال: ألاح له نارا ثم لوّح له نورا، ثم بدا ما بدا، ولا كان المقصود النّار ولا النور وإنما سماع نداء: «إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ».
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٣٠]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠)
الآية أخفى تعيين قدم موسى على الظنون بهذا الخطاب حيث قال: «مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ»، ثم قال: «فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» ثم قال «مِنَ الشَّجَرَةِ».
وأخلق بأن تكون تلك البقعة مباركة، فعندها سمع خطاب مولاه بلا واسطة وأعزّ الأماكن في العالم مشهد الأحباب:
وإنى لأهوى الدار ما يستعزنى لها الود إلا أنها من دياركا
ويقال: كم قدم وطئت لك البقعة، ولكن لم يسمع أصحابها بها شيئا!. وكم ليلة جنّت تلك البقعة ولم يظهر من تلك النار فيها شعلة!.
ويقال: شتّان بين شجرة وشجرة شجرة آدم عندها ظهور محنته وفتنته، وشجرة موسى وعندها افتتاح نبوّته ورسالته!.
ويقال: لم يأت بالتفصيل نوع تلك الشجرة «١»، ولا يدرى ما الذي كانت تثمره، بل هي شجرة الوصلة وثمرتها القربة، وأصلها في أرض المحبة وفرعها باسق في سماء الصفوة، وأوراقها الزلفة، وأزهارها تنفتق عن نسيم الرّوح والبهجة:
فلمّا سمع «٢» موسى تغيّر عليه الحال ففى القصة: أنه غشى عليه، وأرسل الله إليه الملائكة ليروّحوه بمراوح الأنس، وهذا كان في ابتداء الأمر، والمبتدئ مرفوق به. وفي المرة الأخرى خرّ موسى صعقا، وكان يفيق والملائكة تقول له: يا ابن الحيض. أمثلك من يسأل الرؤية؟!
(١) قيل هي شجرة العليق وقيل العوسج والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد (القرطبي).
(٢) معروف أن السماع عند الصوفية يصحبه- وخصوصا لدى المبتدئين- تأثيرات عضوية ونفسية حادة
وكذا الحديث والقصة «١» فى البداية لطف وفي النهاية عنف، فى الأول ختل وفي الآخر قتل، كما قيل:
فلمّا دارت الصهباء «٢»... دعا بالنّطع والسيف
كذا من يشرب الراح... مع التّنّين في الصيف «٣»
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٣١]
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١)
يا موسى.. اخلع نعليك والق عصاك، وأقم عندنا هذه الليلة، فلقد تعبت في الطريق- وذلك إن لم يكن في النقل والآثار فهو مما يليق بتلك الحال.
يا موسى.. كيف كنت في الطريق؟ كيف صعّدت وكيف صوّبت «٤» وكيف شرّقت وكيف غرّبت؟ ما كنت في الطريق وحدك يا موسى! أحصينا خطاك- فقد أحصينا كلّ شىء عددا. يا موسى.. تعبت فاسترح، وبعد ما جئت فلا تبرح- كذلك العبد غدا إذا قطع المسافة في القيامة، وتبوّأ منزله من الجنة فأقوام إذا دخلوها رجعوا إلى منازلهم تم يوم اللقاء يستحضرون، وآخرون يمضون من الطريق إلى بساط الزلفة، وكذا العبد أو الخادم إذا دخل بلد سلطانه. يبتدئ أولا بخدمة السّدّة العليّة ثم بعدها ينصرف إلى منزله.
وكذلك اليوم أمرنا «٥» إذا أصبحنا كلّ يوم: ألا نشتغل بشىء حتى نفتتح النهار بالخطاب مع الحقّ قبل أن نخاطب المخلوق، نحضر بساط الخدمة- أي الصلاة- بل نحضر بساط الدنوّ والقربة، قال تعالى: «وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» «٦» : فالمصلّى مناج ربّه. ولو علم المصلّى من
(١) يقصد حديث الحب وقصته
(٢) الرواية الصحيحة «فلما دارت الكأس».
(٣) البيتان من المقطعة التي أنشدها الحلاج وهو يواجه مصرعه، وأولها:
نديمى غير منسوب... إلى شىء من الخوف
(طبقات الشعراني ح ١ ص ١٢٠)
(٤) هكذا في م وهى في ص (ضربت)، وضرب في الأرض أي جال وسار، وقد أثبتنا (صوّبت) لتتلاءم مع الأفعال المضعفة طبقا لما نعرف من حرص القشيري على الموسيقى اللفظية.
(٥) من هذا نفهم أن القشيري يكتب كتابه أو يمليه من أجل الصوفية، فضمير المتكلمين يدل على نوع من التخصيص.
(٦) آية ١٩ سورة العلق.
يناجى ما التفت أي لم يخرج عن صلاته ولم يلتفت يمينا وشمالا في التسليم الذي هو التحليل «١».
قوله جل ذكره: «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ».
عند ما انقلبت العصا حيّة ولّى موسى مدبرا ولم يعقب، وكان موضع ذلك أن يقول:
حديث أوّله تسليط ثعبان! من ذا يطيق أوّله؟!.
فقيل له: لا تخف يا موسى إن الذي يقدر أن يقلب العصا حية يقدر أن يخلق لك منها السلامة: «يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» : ليس المقصود من هذا أنت، إنما أثبت هذا لأسلطه على عدوّك، فهذه معجزتك إلى قومك، وآيتك على عدوّك.
ويقال: شتان بين نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- وبين موسى عليه السلام رجع من سماع الخطاب وأتى بثعبان سلّطه على عدوّه، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- رجع بعد ما أسرى به إلى السماء، وأوحى إليه ما أوحى- ليوافى أمّته بالصلاة التي هي المناجاة، وقيل له:
السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين».
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٣٢]
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢)
قيل له: اسلك يدك في جيبك لأنّ المدرعة التي كانت عليه لم يكن لها كم.
وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغى على المرء للوصول إلى مراده ومقصوده أن يتشمّر، وأن يجدّ،
(١) التحليل: الإباحة، والمقصود هنا أنه عقيب التسليم يحل له أن يخاطب الخلق وأن يشتغل بشىء بعد ما تمت مناجاته مع الحق، تلك المناجاة التي يؤثر القشيري دوامها واستمرارها. ومعلوم أن الصوفية إذا أنهوا صلاتهم يستمرون في الذكر والتأمل دون حدود. [.....]
وأن يخرج يده من كمّه. وإنه قال لموسى: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء، وألق عصاك نجعلها ثعبانا، بلا ضربك بها، وبلا استعمالك لها يا موسى: الأمر بنا لا بك، وأنا لا أنت.
«وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ» : يا موسى، فى وصف خضوعك تجدنى، وبتبرّيك عن حولك وقوّتك تصل إليّ.
قوله جل ذكره
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٣ الى ٣٧]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)
: تعلّل بكلّ وجه رجاء أن يعافى من مشقة التبليغ ومقاساة البلاء لأنه علم أنّ النبوة فيها مشقة، فلم يجد الرّخصة والإعفاء ممّا كلّف، وأجاب سؤله في أخيه حيث سأله أن يجعل له ردءا، وضمن لهما النصرة.
ثم إنهما لمّا أتيا فرعون قابلهما بالتكذيب والجحد «١»، ورماهما بالخطأ والكذب والسحر «٢»، وجاوباه «٣» بالحجة، ودعواه إلى سواء المحجّة، فأبى إلّا الجحد.
قوله جل ذكره
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠)
ادّعى الانفراد بالإلهية فزاد في ضلاله على عبدة الأصنام الذين جعلوا أصنامهم شركاء، ثم قال لهامان: «فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى» وكان هذا من زيادة ضلاله،
(١) (والجحد) موجودة في م وغير موجودة في ص.
(٢) (والسحر) موجودة في ص وغير موجودة في م.
(٣) هكذا في م وهي في ص (وحارباه).
حيث توهّم أن المعبود من جهة فوق، وأنه يمكن الوصول إليه. ولعمرى لو كان في جهة لأمكن تقدير الوصول إليه وتجويزه!.
«وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» أبى إلا أن يدوم جحوده، وعنوده، فأغرقه الله في البحر، كما أغرق قلبه في بحر الكفر.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤١]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١)
لا لشرفهم جعلهم أئمة ولكن لسبب تلفهم قدّمهم في الخزي والهوان على كلّ أمة، ولكن لم يرشدوا إلّا إلى الضلال. ولم يدلّوا الخلق إلّا على المحال، وما حصلوا إلا على سوء الحال، وما ذاقوا إلا خزى الوبال. أفاضوا على متّبعيهم من ظلمات قلوبهم فافتضحوا فى خسّة «١» مطلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٢]
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
كانوا في الدنيا مبعدين عن معرفته، وفي الآخرة مبعدين عن مغفرته، فانقلبوا من طرد إلى طرد، ومن هجر إلى بعد، ومن فراق إلى احتراق.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
(١) هكذا في م وهي في ص (خيبة)
إنما تطيب المنازل إذا خلت من الأجانب، وأطيب المساكن ما كانت زينتها بفقد الرّقباء وغيبتهم، فلمّا أهلك الله فرعون وقومه، وأورث بنى إسرائيل أموالهم وديارهم، ومحا عن جميعها آثارهم- طاب لهم العيش وطلعت عليهم شموس السعادة.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٤]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤)
لم تكن حاضرا فتعرف ذلك مشاهدة، ولكنهم رأوا أنّ إخبارك عنهم بحيث لا يكذبك كتابهم. وبالضرورة عرفوا حالك، وكيف أنّك لم تعلم هذا من أحد، ولا قرأته من كتاب، لأنّك أمّيّ لا تحسن القراءة، وإذا فليس إخبارك إلا بتعريفنا إياك، واطلاعنا لك على ذلك.
ويقال: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ» : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى، وكلّمناه، وخاطبناه في بابك وباب أمّتك، ولم تقدح غيبتكم في الحال، وكونى لكم خير من كونكم لكم.
ويقال: لمّا خاطب موسى وكلّمه سأله موسى: إنّى أرى في التوراة أمّة صفتهم كذا وكذا.. من هم؟ وسأل عن أوصاف كثيرة، وعن الجميع كان يجاب بأنّها أمة أحمد «١»، فاشتاق موسى إلى لقائنا، فقال له: إنه ليس اليوم وقت ظهورهم، فإن شئت أسمعتك كلامهم، فأراد أن يسمع كلامنا، فنادانا وقال: يا أمة أحمد.. ، فأجاب الكلّ من أصلاب آبائهم، فسمع موسى كلامهم ولم يدركهم «٢». والغنيّ إذا سأله فقير وأجابه لا يرضى بأن
(١) هكذا في ص وهي في م (أمة محمد)، ونحسب أن الأرجح أن تكون أحمد طبقا للآية «ومبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد»
(٢) تنسب هذه الرواية إلى وهب (القرطبي ح ١٣ ص ٢٩٢).
يردّه من غير إحسان إليه. (وفي رواية عن ابن عباس) «١» أن الله قال: «يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعونى وأعطيتكم قبل أن تسألونى، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى، ورحمتكم قبل أن تسترحمونى».
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٥]
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥)
«٢» ومما كان موسى عليه السلام يتلوه عليهم من الآيات ذكر نبيّنا ﷺ بالجميل.
وذكر أمته بحسن الثناء عليهم، فنحن في الوجود محدث مخلوق وفي ذكره متعلق لا باستفتاح.
ولم نكن في العدم أعيانا، ولا أشياء، ولكنا كنا في متعلق القدرة ومتناول العلم والمشيئة.
وذكرنا في الخطاب الأزليّ والكلام الصمديّ والقول الأبديّ.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٦]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
ما طلبه موسى لأمته جعلناه لأمتك، وكما نادينا موسى- وهو في الوجود والظهور- ناديناكم وأنتم في كتم العدم، أنشدوا:
كن لى كما كنت... فى حال لم أكن
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨)
(١) أضفنا ما بين قوسين من عندنا لنكتب الرواية بكاملها فهى ناقصة في المتن.
(٢) ثاويا «مقيما.. قال المجاج: فبات حيث يدخل الثوى: أي الضيف المقيم»
تمنوا في زمان الفترة أن يبعث الله إليهم رسولا ليهتدوا به، ووعدوا من أنفسهم الإيمان والإجابة، فلمّا أتاهم الرسول كذّبوه، وقالوا: هلّا خصّ بمثل معجزات موسى في الظهور، وكان ذلك منهم خطأ، واقتراحا في غير موضع الحاجة، وتحكّما بعد إزاحة العلّة:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ملّ الوصال وقال كان وكانا
ثم قال: أفلا تذكرون كيف كفروا بموسى وأخيه ورموهما بالسحر؟.
وقال: إن ارتبتم أنّ هذا الكتاب من عند الله فأتوا بكتاب مثله، واستعينوا بشركائكم. ومن وقته إلى يومنا هذا لم يأت أحد بسورة مثله، وإلى القيامة لا يأتون بكتاب مثله.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥١]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
أتبعنا رسولا بعد رسول، وأردفنا كتابا بعد كتاب، فما ازدادوا إلا كفرا وثبورا، وجحدا وعتوا.. فلا إلى الحقّ رجعوا، ولا إلى الاستقامة جنحوا.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٢]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
من أكحلنا بصيرتهم بنور الهداية صدّقوا بمقتضى مساعدة العناية، ومن أعميناه عن شهود التحقيق ولم تساعده لطائف التوفيق انتكس في غوايته، وانهمك في ضلالته.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)
إذا سمعوا دعوتنا قابلوها بالتصديق، وانقادوا بحسن الاستسلام، فلا جرم يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا على الأوامر وصبروا على المحارم في عاجلهم وآجلهم، مرة في الآخرة وهي المثوبة وأخرى في الدنيا وهي لطائف القربة.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٥]
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
«اللَّغْوَ» : ما يلهى عن الله. ويقال «اللَّغْوَ» ما لا يوجب وسيلة عند الله، ويقال ما لا يكون بالحقّ للحقّ، ويقال هو ما صدر عن قلب غافل، ويقال هو ما يوجب سماعه السّهو.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٦]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)
«١» الهداية في الحقيقة إمالة القلب من الباطل إلى الحقّ، وذلك من خصائص قدرة الحقّ- سبحانه- وتطلق الهداية بمعنى الدعاء إلى الحق- توسّعا، وذلك جائز بل واجب فى صفته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: «وإنك تهدى إلى صراط مستقيم».
ويقال: لك شرف النبوّة، ومنزلة الرسالة، وجمال السفارة، والمقام المحمود، والحوض المورود، (وأنت سيد ولد آدم.. ولكنك لا تهدى من أحببت فخصائص الربوبية لا تصلح) «٢» لمن وصفه البشرية.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٧]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
(١) قال ابو إسحاق الزجاج: أجمع المفسرون أن هذه الآية نزلت في أبى طالب حين أبى أن ينطق الشهادة وقال: أنا على ملة عبد المطلب فقال الرسول (ص) : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك (أسباب النزول للواحدى ص ٢٢٨)
(٢) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.
قالوا نخاف الأعراب على أنفسنا إن صدّقناك، وآمنّا بك، (لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم) «١» فقال الله تعالى: وكيف تخافونهم وترون الله أظفركم على عدوّكم، وحكمنا بتعظيم بيتكم، وجعلنا مكة تجبى إليها ثمرات كل شىء من أقطار الدنيا؟
ويقال من قام بحقّ الله- سبحانه- سخّر له الكون بجملته، ومن اشتغل برعاية سرّه لله، وقام بحقّ الله، واستفرغ أوقاته في عبادة الله مكّن من التصرّف بهمته في مملكة الله فالخلق مسخّر له، والوقت طوع أمره، والحقّ- سبحانه- متول «٢» أيامه وأعماله يحقّق ظنّه، ولا يضيّع حقّه.
أمّا الذي لا يطيعه فيهلك في أودية ضلاله، ويتيه «٣» فى مفازات خزيه، ويبوء بوزر هواه.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٨]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨)
لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أحوالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوههم، فخرّوا في أودية الصغار على أذقانهم، وأذاقهم الله من كاسات الهوان ما كسر خمار بطرهم فأماكنهم منهم خالية، وسقوفها عليهم خاوية، وغربان الدمار فيها ناعية.
(١) ما بين القوسين غير موجود في النص، ولكنها تتمه لسبب نزول الآية كما أورده الواحدي، حيث ذكر أن الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن عبد مناف الذي قال النبي (ص) : إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن يمنعنا من اتباعك أنا نخاف.... إلخ (أسباب النزول الواحدي ص ٢٢٨).
(٢) ومن هذا المنطلق يصدر القشيري رأيه فى (الولاية) وما يتصل بها من (الكرامة).
(٣) هكذا في الأصل وهي تحمل معنيين: التكبّر، والضلال في الأرض.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٩]
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩)
«وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا» : بالتكليف يأمرهم. ويأمر التكوين- على ما يريد- يقفهم. وهو- سبحانه- يبعث الرسل إنذارا ويعمى السّبل عليهم اقتدارا يوضّح الحجة بحيث لا شبهة، ولكنه لا يهدى إلا من سبقت له السعادة بحكم القسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦٠]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠)
الدنيا حلوة خضرة، ولكنها في التحقيق مرّة مذرة «١»، فبشرها يوهم أنها صفو ولكن من وراء صفوها حسو «٢»، وما عند الله خير وأبقى.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦١]
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
«٣» الدنيا سموم حنظلها تتلو طعوم عسلها، وتلف ما يحصل من شربها يغلب لطف ما يظهر
(١) مذرت البيضة مذرا فسدت، فهى مذرة، ومذرت معدته أي خبثت وفسدت (الوسيط). [.....]
(٢) يقال يوم كحسو الطائر أي قصير جدا، ونوم كحسو الطائر أي قليل متقطع.
(٣) عن مجاهد أن هذه الآية نزلت في على وحمزة وأبى جهل.
وقال السدى: نزلت في عمار والوليد بن المغيرة وقيل نزلت في النبي (ص) وأبى جهل.
من أربها، وليس من أكرم بوجدان نعيم عقباه كمن منى بالوقوع في جحيم دنياه قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣)
إنما يكون ذلك على جهة التهويل وإبطال كيد أهل التضليل.. وإلّا فمن أين لهم الجواب فضلا عن الصواب! والذي يسألهم هو الذي على ما شاء جعلهم فما ورد فعل إلا على فعله، وما صدر ما صدر إلا من أصله. وإذ تبرّأ بعضهم من بعض بيّن أنه لم يكن للأصنام استحقاق العبودية، ولا لأحد من النفي والإثبات بالإيجاد والإحداث ذرّة أو منه شظيّة..
كلا بل هو الواحد القهار.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦٥]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥)
يسألهم سؤال هيبة فلا يبقى لهم تمييز، ولا قوة عقل، ولا مكنة جواب، قال جلّ ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦٦]
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦)
إذ استولت عليهم الحيرة، واستمكن منهم الدهش فلا نطق ولا عقل ولا تمييز ولا فهم.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)
يختار ما يشاء ومن يشاء من جملة ما يخلق. ومن ليس إليه شىء من الخلق.
فما له والاختيار؟! الاختيار للحقّ استحقاق عزّ يوجب أن يكون ذلك له، لأنّه لو لم ينفّذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العزّ، فمن بقي عن مراده لا يكون إلّا ذليلا فالاختيار للحقّ نعت عزّ، والاختيار للخلق صفة نقص ونعت بلاء وقصور فاختيار العبد غير مبارك عليه لأنّه صفة هو غير مستحقّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح في نفسه، قال قائلهم:
ومعال إذا ادّعاها سواه لزمته جناية السّرّاق
والطينة إذا ادّعت ما هو صفة الحقّ أظهرت رعونتها، فما للإنسان والاختيار؟! وما للمملوك والملك؟! وما للعبيد والتصدّر في دست «١» الملوك؟! قال تعالى: «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» «٢» قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦٩]
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩)
ولم لا وقد قال: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ؟ فالعلم- الذي لا يعزب عنه معلوم- نعت من لم يزل، والإبداع من العدم إلى الوجود يتفرّد بالقدرة عليه لم يزل.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٠]
وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
«لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» : توحّد بعزّ هيبته، وتفرّد بجلال ربوبيته، لا شبيه يساويه،
(١) هكذا في م وهي الصواب، أما في ص فقد وردت (درس) وهي خطأ في النسخ.
(٢) واضح من مذهب القشيري شىء هام جدا أنه يقف عند (ويختار) وتكون (ما) فى هذه الحالة نافية، وهو بهذا ينسجم مع مذهب أهل السنة في أن الله خالق كل شىء حتى أكساب العباد.
أما الزمخشري فيرى (ما كان لهم الخيرة) بيانا لقوله (ويختار) ولهذا لم يدخل العاطف. ويرفض الطبري أن تكون (ما) نافية لئلا يكون المعنى إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، ويرد عليه بأن (ما) تصلح لنفى الحال والاستقبال.
ولا نظير يضاهيه. «لَهُ الْحَمْدُ» استحقاقا على عطيّته، وله الشكر استيجابا على نعمته ففى الدنيا المحمود الله، وفي العقبى المشكور الله فالإحسان من الله لأن السلطان لله، والنعمة من الله لأنّ الرحمة لله، والنصرة من الله لأنّ القدرة لله.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧١]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١)
إن دامت ليالى الفترة فمن الذي يأتى بنهار التوبة غير الله؟
وإن دامت ليالى الطّلب فمن الذي يأتى بصبح الوجود غير الله؟
وإن دامت ليالى القبض فمن الذي يأتى بصبح البسط غير الله؟
وإن دام ليل الفراق فمن الذي يأتى بصبح الوصال غير الله؟
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٢]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)
إن دام في الوصلة نهاركم فأيّ سبيل للواشين إلى تنغيص سروركم؟
وإن دام نهار معاشكم ووقت اشتغالكم بحظوظكم فمن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه إلى الله إلا الله، وتستريحون من أشغالكم بالخلوة مع الله إلا الله «١».
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٣]
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)
(١) منذ أشرقت على القشيري آية: «وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ..»
ولفظ الجلالة لا يكاد بغيب عنا في إشاراته، مما يدل- والله أعلم- على أن الرجل ذاكر أخذته حالة انمحاء فى المذكور.. وقد حرصنا أن نلفت نظر القارئ إلى هذا الملحظ ليشعر بالفرق بين المفسر التقليدى والمفسر الإشارى.. إن الكلمات هنا أشبه بالتسابيح الوافدة من عالم بعيد!
الأوقات ظروف لما يحصل فيها من الأفعال والأحوال فالظروف من الزمان متجانسة، وإنما الاختلاف راجع إلى أعيان ما يحصل فيها فليالى أهل الوصال سادات الليالى، وليالى أهل الفراق أسوأ الليالى فأهل القرب لياليهم قصار وكذلك أيامهم، وأرباب الفراق لياليهم طوال وكذلك جميع أوقاتهم في ليلهم ونهارهم، يقول قائلهم:
والليالى إذا نأيت طوال وأراها إذا دنوت قصار
وقال آخر:
والليل أطول وقت حين أفقدها والليل أقصر وقت حين ألقاها
وقال ثالث:
يطول اليوم لا ألقاك فيه وحول نلتقى فيه- قصير
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
كلا.. لا حجّة لهم، ولا جواب يعذرهم، ولا شفيع يرحمهم، ولا ناصر يعينهم.
اشتهرت ضلالتهم، واتضحت للكافة جهالتهم فدام بهم عذاب الأبد، وحاق بهم وبال السّرمد.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٦]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦)
جاء في القصص أنه كان ابن عمّ موسى، وكان من أعبد بنى إسرائيل، وكان قد اعتزل الناس، وانفرد في صومعته يتعبّد، فتصوّر له إبليس في صورة بشر، وأخذ في الظاهر يتعبّد معه في صومعته حتى تعجّب قارون من كثرة عبادته، فقال له يوما: لسنا في شىء عيوننا
79
على أيدى الناس حتى يدفعوا إلينا شيئا هو ضرورتنا، ولا بدّ لنا من أخذه، فقال له قارون:
وكيف يجب أن نفعله؟
فقال له: أن ندخل في الأسبوع يوما السوق، ونكتسب، وننفق ذلك القدر في الأسبوع، فأجابه إليه. فكانا يحضران السوق في الأسبوع يوما، ثم قال له: لست أنا وأنت فى شىء، فقال: وما الذي يجب أن نعمله؟
فقال له: نكتسب في الأسبوع يوما لأنفسنا، ويوما نكتسب ونتصدّق به، فأجابه إليه.
ثم قال له يوما آخر: لسنا في شىء، فقال: وما ذاك؟
قال: إن مرضنا أو وقع لنا شغل لا نملك قوت يوم، فقال: وما نفعل؟
قال: نكتسب في الأسبوع ثلاثة أيام يوما للنفقة ويوما للصدقة ويوما للادخار، فأجابه إليه.. فلمّا علم أن حبّ الدنيا استمكن من قلبه ودّعه، وقال:
إنّى مفارقك.. فدم على ما أنت عليه، فصار من أمره وماله ما صار، وحمله حبّ الدنيا على جمعها، وحمله جمعها على حبّها، وحمله حبّها على البنى عليهم، وصارت كثرة ماله سبب هلاكه، وكم وعظ بترك الفرح بوجود الدنيا، وبترك الاستمتاع بها! وكان لا يأبى إلّا ضلالا.
ويقال خسف الله به الأرض بدعاء موسى عليه السلام، فقد كان موسى يقول:
يا أرض خذيه.. وبينما كانت الأرض تخسف به كان يستعين بموسى بحقّ القرابة، ولكن موسى كان يقول: يا أرض خذيه.
وفيما أوحى الله إلى موسى: لقد ناداك بحقّ القرابة وأنت تقول: يا أرض خذيه! وأنا أقول: يا عبد، نادنى فأنا أقرب منه إليك، ولكنه لم يقل.
وفي القصة أنه كان يخسف به كل يوم بزيادة معلومة، فلمّا حبس الله يونس في بطن الحوت أمر الحوت أن يطوف به في البحار لئلا يضيق قلب يونس، حتى انتهى إلى قارون، فسأله قارون عن موسى وحاله، فأوحى الله إلى الملك:
80
لا تزد في خسفه لحرمة أنه سأل عن ابن عمه، ووصل به رحمه «١» قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٧]
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)
وعظ من حرم القبول كمثل البذر في الأرض السّبخة ولذا لم ينفعه نصحهم إياه، ولم يكن للقبول فيه مساغ.
«وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» : ليس النصيب من الدنيا جمعها ولا منعها، إنما النصيب منها ما تكون فيه فائدة بحيث لا يعقب ندما، ولا يوجب في الآخرة عقوبة ويقال النصيب من الدنيا ما يحمل على طاعته بالنّفس، وعلى معرفته بالقلب، وعلى ذكره باللسان، وعلى مشاهدته بالسّرّ.
«وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» : إنما كان يكون منه حسنة لو آمن بالله لأنّ الكافر لا حسنة له. والآية تدل على أن لله على الكافر نعما دنيوية.
والإحسان الذي أمر به إنفاق النعمة في وجوه الطاعة والخدمة، ومقابلته بالشكران لا بالكفران.
ويقال الإحسان رؤية الفضل دون توهّم الاستحقاق.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٨]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
ما لا حظ أحد نفسه إلا هلك بإعجابه.
ويقال السّمّ القاتل، والذي يطفئ السراج المضيء النظر إلى النّفس بعين الإثبات،
(١) الواقع أن القصص والأخبار والروايات التي تدور حول موضوعات سورة القصص كثيرة جدا، خصوصا عند ابن عباس ومدرسته، ولكن الملاحظ أن القشيري يختار منها- فى ظلال القرآن- عينات خاصة تحقق مقاصده البعيدة من أجل إبراز الموضوعات الصوفية سواء من ناحية الرياضات أو المجاهدات أو من ناحية الأذواق والأحوال.
وتوهّم أنّ منك شيئا من النفي أو الإثبات «١».
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢)
تمنّى من رآه ممّن كان في حبّ الدنيا ساواه أن يعطيه الله مثل ما أعطاه.
أمّا من كان صاحيا عن خمار غفلته، متيقّظا بنور بصيرته فكان موقفهم: - «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» وبعد أن كان ما كان، وخسفنا به وبداره الأرض قال هؤلاء:
«لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» منّ الله علينا فلم ننجرف في نهجه، ولم ننخرط في سلكه، وإذا لوقع بنا الهلاك.
أمّا المتمنّون مكانه فقد ندموا، وأمّا الراضون بقسمته- سبحانه- فقد سلموا سلموا في العاجل إلى أن تظهر سعادتهم في الآجل.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٣]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣)
قيل «العلو في الدنيا» أن تتوهّم أنّ على البسيطة أحدا هو شرّ منك.
و «الفساد» أن تتحرك لحظّ نفسك ونصيبك ولو بنفس أو خطوة.. وهذا للأكابر،
(١) هذه نظرة عامة نجدها عند جميع الصوفية ولكنها أصل هام في تعاليم أهل الملامة تترتب عليه مناهج فى السلوك.
فأمّا للأصاغر والعوام فتلك الدار الآخرة «نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ» كعلوّ فرعون «وَلا فَساداً» كفساد قارون «١».
ويقال الزهاد لا يريدون في الأرض علوّا، والعارفون لا يريدون في الآخرة والجنة علوّا.
ويقال «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ» للعبّاد والزّهاد، وهذه الرحمة الحاضرة لأرباب الافتقار والانكسار.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٤]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
ثواب الحسنة في التضعيف، وأمر السيئة بناؤه على التخفيف.
والمؤمن- وإن كان صاحب كبائر- فسيئاته تقصر في جنب حسناته التي هي إيمانه ومعرفته.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٥]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥)
«لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» : فى الظاهر إلى مكة.. وكان يقول كثيرا: «الوطن الوطن» «٢»، فحقّق الله سؤله. وأمّا في السّرّ والإشارة فإنه «فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» أي يسّر لك قراءة القرآن، والمعاد هو الوصف الذي كانت عليه روحك قبل حلول شجّك «٣» من ملادغات القرب ومطالعات الحقّ.
(١) أحسن القشيري إذ جعل وظيفة هذه الآية التعقيب على القصتين السابقتين فأبان تماسك الأسلوب القرآنى.
(٢) ولهذا يرى ابن عباس أن هذه الآية لا مكية ولا مدنية وإنما نزلت في الجحفة.
(٣) هكذا في النسختين، فإن صحت في النقل من الأصل فربما كان المقصود (ما أصابك من جراحات الحب)، ويتأيد فهمنا بما يلى ذلك وربما كانت (شجنك) أي لوعة حبك- والله أعلم.
وقيل الذي ينصبك بأوصاف التفرقة بالتبليغ وبسط الشريعة لرادّك إلى عين الجمع بالتحقّق بالحقّ والفناء عن الخلق.
ويقال إن الذي أقامك بشواهد العبودية فيما أثبتك به لرادّك إلى الفناء عنك بمحقك في وجود الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٦]
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦)
ما كنت تؤمّل محلّ النبوة وشرف الرسالة وتأهيل مخاطبتنا إليك، ولا ما أظهرنا عليك من أحوال الوجد وحقائق التوحيد.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٧]
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧)
لا يصدنّك بعد إذ أنزلت إليك الآيات ما وجدته بحكم الذّوب والشهود، والإدراك والوجود. لا تتداخلنّك تهمة التجويز وسؤالات العلماء بما يدّعون من أحكام العقول فما يدرك في شعاع الشمس لا يحكم ببطلانه خفاؤه في نور السراج.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٨]
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
كلّ عمل باطل إلا ما كان لوجه الله وللتقرب به إلى الله.
كلّ حيّ ميت إلا هو، قال تعالى: «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ» : أي مات فكلّ شىء معدّ لجواز الهلاك والعدم، ولا يبقى إلا «وَجْهَهُ» : ووجهه صفة من صفاته لا تستقل إلا به،
84
فإذا يقى وجهه فمن شرط بقاء وجهه بقاء ذاته لأن الصفة لا تقوم إلا بموجود، ولا يكون هو باقيا إلا بوجود أوصافه الذاتية الواجبة له ففى بقاء وجهه بقاء ذاته وبقاء صفاته.
وفائدة تخصيص الوجه بالذكر هنا أنه لا يعرف وجوب وجهه إلا بالخبر والنقل دون «١» العقل فخصّ الوجه بالذكر لأنّ في بقاء الوجه بقاء الحقّ بصفاته.
(١) هكذا في م أما في ص فهى (نور)، وتأويل الوجه على أنه صفة فيه رد على المشبهة.
85
Icon