تفسير سورة القصص

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة القصص من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم... ﴾ الآية [ القصص : ٧ ]، هي من معجزات الإيجاز، لاشتمالها على أمرين، ونهيين، وخبرين، متضمنين بشارتين، في أسهل نظم، وأسلس لفظ، وأوجز عبارة( ١ ).
فإن قلتَ : ما فائدة وحي الله تعالى إلى ( أم موسى ) بإرضاعه، مع أنها ترضعه طبعا، وإن لم تُؤمر بذلك ؟
قلتُ : أمرها بإرضاعه ليألف لبنها، فلا يقبل ثدي غيرها، بعد وقوعه في يد فرعون، فلو لم يأمرها به، ربما كانت تسترضع له مرضعة، فيفوت المقصود( ٢ ).
قوله تعالى :﴿ فإذا خفت عليه فألفيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني... ﴾ [ القصص : ٧ ].
إن قلتَ : جواب الشرط لا يجامعه، وجوابه هنا : الإلقاء وعدم الخوف، فكلّ منهما يجامعه، فيصدق بقوله : فإذا خفت عليه فلا تخافي عليه، وذلك تناقض ؟
قلتُ : معناه فإذا خفت عليه القتل، فألقيه في اليمّ، ولا تخافي عليه الغرق، فلا تناقض.
فإن قلتَ : ما الفرق بين الخوف والحزن، حتى عُطف أحدهما على الآخر في الآية ؟
قلتُ : الخوف غمّ يصيب الإنسان، لأمر يتوقعه في المستقبل، والحزن : غمّ يصيبه لأمر وقع ومضى.
١ - حثكي أن الأصمعيّ سمع جارية تنشد بعض أبيات، فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك !! فقالت: ويْحك أوَ يُعدّ هذا فصاحة بعد قول الله عز وجل: ﴿وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ، ولا تخافي ولا تحزني، إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين﴾ فقد جمعت هذه الآية بين (أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين) قال: فأُعجبت بفهمها فوق ما أُعجبت بفصاحتها..
٢ - في مخطوطة الجامعة (ما كانت تسترضع له) وهو خطأ وصوابه (ربما كانت) كما هو في مخطوطة مكتبة الحرم الشريف..
قوله تعالى :﴿ فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضل مبين ﴾ [ القصص : ١٥ ].
إن قلتَ : كيف جعل موسى قتله القبطيّ الكافر من عمل الشيطان، وسمّاه ظلما لنفسه واستغفر منه ؟
قلتُ : أما جعلُه ذلك من عمل الشيطان، فلكونه كان الأولى له تأخير قتله إلى زمن آخر، فلمّا تعجّل ترك المندوب، جعله من عمل الشيطان( ١ ).
وأما تسميته ظلما، فمن حيث إنه حرم نفسه الثواب بترك المندوب، أو من حيث إنه قال ذلك على سبيل الانقطاع إلى الله، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه، وإن لم يكن ثمة ذنب، وأما استغفاره من ذلك، فمعناه : اغفر لي ترك ذلك المندوب.
١ - لم يكن قصد موسى عليه السلام قتل القبطي، إنما كان يريد دفع أذاه عن الإسرائيلي، بدليل أنه لم يضربه بشيء يقتل، وإنما ضربه بجُمْع يده، بلكمة كانت هي القاضية، فلذلك ندم على فعله واستغفر ربه، لأن في قتل القبطي فتنة، والشيطان تفرحه الفتنة، فلذلك نسب العمل إلى الشيطان..
قوله تعالى :﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى... ﴾ الآية [ القصص : ٢٠ ]. قاله هنا : بتقديم " رجل " على ﴿ من أقصا المدينة ﴾ وعكس في يس( ١ ).
قيل : موافقة هنا لقوله قبل ﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان ﴾ [ المائدة : ٢٣ ] واهتماما ثَمَّ بتقديم ﴿ من أقصى المدينة ﴾ لما رُوي أن الرجل " حزقيل " وقيل " حبيب " كان يعبد الله في جبل، فلما سمع خبر الرُّسل، سعى مستعجلا.
١ - في يس ﴿وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين﴾..
قوله تعالى :﴿ فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ﴾ [ القصص : ٢٥ ].
إن قلت : موسى لم يَسْقِ لابنتي شعيب طلبا للأجر، فكيف أجاب دعوة شعيب في قول ابنته له ﴿ إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ﴾ [ القصص : ٢٥ ] ؟   !
قلتُ : يجوز أن يكون أجاب دعوته لوجه الله تعالى، على وجه البِرّ والمعروف، لا طلبا للأجر( ١ ) وإن سُمِّي في الدعوة أجرا.
١ - إنما قالت: ﴿إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا﴾ لئلا يُوهم كلامُها الريبة، وهذا من تمام حيائها، وعفّتها، وصيانتها، فأجابها موسى عليه السلام، من شدّة ما به من الجوع والضعف، ولم يذهب معها لينال الأجر..
قوله تعالى :﴿ وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ﴾ [ القصص : ٢٧ ].
قاله هنا بلفظ " الصالحين " وفي الصافات( ١ ) بلفظ " الصّابرين " لأنّ ما هنا من كلام " شعيب " وهو المناسب للمعنى هنا، إذ المعنى ستجدني من الصالحين في حسن العِشرة، والوفاء بالعهد.
وما هناك من كلام " إسماعيل " وهو المناسب للمعنى ثَمّ، إذِ المعنى ستجدني من الصابرين على الذبح.
١ - في الصافات ﴿قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين﴾ آية (١٠٢)..
قوله تعالى :﴿ فأرسله معي رِدْءا يصدّقني إني أخاف أن يكذبون ﴾ [ القصص : ٣٤ ] أي يوضّح حججي، ويؤيّدها بما رزقه الله من فصاحة اللسان.
قوله تعالى :﴿ وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده... ﴾ الآية [ القصص : ٣٧ ].
قاله هنا بزيادة الباء، وبعدُ بدونها، تقوية للعامل هنا بحسب الظاهر، لضعفه عن العمل، وحذفه( ١ ) بعدُ اكتفاءً بدلالة الأول عليه.
١ - أشار المصنف إلى قوله تعالى في آخر السورة ﴿قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين﴾..
قوله تعالى :﴿ فاجعل لي صرحا لعلي أطّلع إلى إله موسى... ﴾ الآية [ القصص : ٣٨ ].
قاله هنا بحذف ﴿ أبلغ الأسباب أسباب السموات ﴾ وقال في غافر( ١ ) بذكره، لأن ما هنا تقدّمه ﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ [ القصص : ٣٨ ] من غير ذكر أرض وغيرها، فناسبه الحذف، وما هناك تقدّمه ﴿ إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ﴾ [ غافر : ٢٦ ] فناسبه مقابلته بالسماء في قوله :﴿ لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات ﴾ [ غافر : ٣٦، ٣٧ ].
قوله تعالى :﴿ وإني لأظنه من الكاذبين ﴾ [ القصص : ٣٨ ].
قال ذلك هنا، وقال في غافر ﴿ وإني لأظنه كاذبا ﴾ [ غافر : ٣٧ ] موافقة للرويّ هنا، وعلى الأصل بلا معارض ثَمَّ.
١ - في غافر ﴿وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السموات فأطّلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا﴾ آية (٣٧)..
قوله تعالى :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر... ﴾ الآية [ القصص : ٤٤ ].
إن قلتَ : أوّلها يُغني عن قوله :﴿ وما كنت من الشاهدين ﴾ [ القصص : ٤٤ ] ؟
قلتُ : لا، إذ معنى أوّلها : ما كانت يا محمد حاضرا، حين أحكمنا إلى موسى الوحي، ومعنى ﴿ وما كنت من الشاهدين ﴾ أي الحاضرين قصته مع شعيب عليهم السلام فاختلفت القصتان.
قوله تعالى :﴿ وما أُوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها... ﴾ [ القصص : ٦٠ ].
قاله هنا بالواو، وفي الشورى( ١ ) بالفاء، لأن ما هنا لم يتعلّق بما قبله كبير تعلق، فناسب الإتيان به بالواو، المقتضية لمطلق الجمع، وما هناك متعلّق بما قبله أشدّ تعلّق، لأنه عقّب ما لهم من المخافة، بما لهم من الأمنة، فناسب الإتيان به بالفاء، المقتضية للتعقيب.
قوله تعالى :﴿ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها ﴾ [ القصص : ٦٠ ].
قال هنا بزيادة " وزينتها " وفي الشورى بحذفه، لأن ما هنا لسبقه، قُصد فيه ذكر جميع ما بُسط، من رزق أعراض الدنيا، فذكر " وزينتها " مع المتاع، ليستوعب جميع ذلك، إذِ المتاع ما لا بدّ منه في الحياة، من مأكول، ومشروب، وملبوس، ومسكن، ومنكوح، والزينة ما يتجمل به الإنسان، وحذفه في الشورى اختصاراً.
١ - في الشورى ﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى﴾ آية (٣٦)..
قوله تعالى :﴿ فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ﴾ [ القصص : ٦٤ ]، جوابه محذوف تقديره : لما رأوا العذاب( ١ )، ولا يصحّ أن يكون جوابها ما قبلها، لأن من يرى العذاب، يكون ضالا لا مهتديا.
١ - قال الطبري معناه: ودّوا حين رأو العذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحق..
قوله تعالى :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة... ﴾ [ القصص : ٧٢ ].
ختم آية الليل بقوله :﴿ أفلا تسمعون ﴾ [ القصص : ٧١ ] ؟ وآية النهار بقوله :﴿ أفلا تبصرون ﴾ [ القصص : ٧٢ ] ؟ لمناسبة الليل المظلم الساكن للسّماع، ومناسبة النهار النيِّر للإبصار.
وإنما قُدّم الليل على النهار، ليستريح الإنسان فيه، فيقوم إلى تحصيل ما هو مضطر إليه، من عبادة وغيرها بنشاط وخفّة، ألا ترى أن الجنة نهارُها دائم، إذ لا تعب فيها يحتاج إلى ليل، يستريح أهلُها فيه ؟
قوله تعالى :﴿ ويكأن الله يبسط الرزق ويكأنه لا يفلح الكافرون ﴾ [ القصص : ٨٢ ]. " ويكأن " أعاده بعد لاتصال كل منهما، بما لم يتّصل به الآخر، و " وَيْ " ( ١ ) قال سيبويه كغيره : إنها صلة، وهي كلمة تدلّ على الندم، وقال الأخفش : أصلها " ويك " و " أنْ " بعده منصوب بإضمار إعلم أي إعلم أن الله، فعلى الأول يوقف على " وي " وبه قرأ الكسائي، وعلى الثاني يوقف على " ويك " وبه قرأ أبو عمرو، والجمهور يقفون على " ويكأن " تبعا للرّسم، ويجوّزون الوقف عليه بهاء السكت.
١ - قال الجوهري: "وَيْ" كلمة تعجب، وقد تدخل على "كأنّ" فتقول: ويكأن، وقيل: إنها كلمة تستعمل عند التنبه للخطأ، وإظهار الندم، وهو قول الخليل، والله أعلم..
Icon