تفسير سورة القصص

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة القصص من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة القصص
هذه السورة مكية على الأصح، ولذا تراها تعلم المسلمين وقت أن كانوا يسامون الخسف والعذاب من المشركين: أن النصر من عند الله، وأن الأمن في جوار الله، وأن الكفار مهما كانوا على جانب من القوة والجاه والعلم والمال فمآلهم الخسف من الله والإبادة ولذلك ضرب مثلا لهذا بفرعون ذي البطش وبقارون ذي العلم وكيف كان مآلهما.. ووسط ذلك ساق البراهين المادية على قدرته وصدق رسله. مع ذكر بعض المواقف يوم القيامة.
افتتاح السورة والكلام على قصة فرعون [سورة القصص (٢٨) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
813
المفردات:
طسم تقرأ هكذا طا. سين. ميم بمد في السين والميم مع إدغامه النون في الميم نَبَإِ النبأ: الخبر المهم عَلا استكبر وتجبر شِيَعاً فرقا وأصنافا وَيَسْتَحْيِي يترك نساءهم أحياء أَنْ نَمُنَّ نتفضل عليهم وننعم أَئِمَّةً ولاة وملوكا يَحْذَرُونَ يخافون.
هذا افتتاح لسورة القصص، وقد ذكر فيها شيئا عن قصة فرعون وقصة موسى ثم قصة قارون، وفي كل قصة عظة، وشاهد صدق على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وهي سورة مكية افتتحت كأخواتها بحروف المعجم، والكلام على القرآن.
المعنى:
طسم (وفيها ما مضى في أخواتها). تلك الآيات- والإشارة إلى آيات السورة- من آيات الكتاب المبين الذي بين الحلال والحرام، وبين بما فيه أنه من عند الله، وأن محمدا صادق في دعواه، وبين كل شيء لأن الله لم يفرط في ذكر الأصول العامة فيها ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام الآية ٣٨].
نتلو عليك، بواسطة الروح الأمين جبريل الذي كان مكلفا بتلاوته على النبي، نتلو عليك شيئا من خبر موسى وفرعون وهو الجزء المهم من قصتهما سيق للعبرة والعظة، إذ ليس القرآن كتاب تاريخ وقصص، ونتلوه حالة كوننا محقين في أخبارنا ليس فيها مبالغة ولا مجافاة للحقيقة، أخبار وقصص ذكرت بالحق، وسيقت لأجل الحق وخدمة له، ولا ينتفع بها، ولا يؤمن إلا القوم المتقون، وإن كانت ذكرت للناس جميعا.
إن فرعون- ملك مصر- علا في الأرض، واستكبر وطغى فيها، وتجبر على الخلق وأفسد فيها، وجعل أعزة أهلها أذلة، وجعل أبناء مصر شيعا وأحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون، أفسد ما بينهما، وقرب هذا وأبعد ذاك ليكون بأسهم بينهم شديدا فيظل الكل خاضعا له مستضعفا عنده، وقيل في المعنى: وجعل أهل مصر شيعا متفرقين يتشيعون لرأيه، ويدافعون عنه حقا كان أو باطلا، وهذا صنف من الناس مرذول،
814
يصفق لكل خطيب، ويسير مع كل داع، ويخضع لكل رئيس فما باله مع الملك، إن كفر كفروا، وإن قال خيرا أو شرا، أو حقا أو باطلا أمنوا عليه فهم حزب (موافقون) وإن لم يعرفوا الكلام في أى موضوع.
ويظهر أن في طبيعة بعض الأمم الشرقية هذا الداء الوبيل الذي يصيب الحاكم والمحكومين، فترى الحاكم أول أمره يتظاهر بالتقى والإيمان والإخلاص للمبادئ الفاضلة والمثل العليا ثم لا يلبث أن يجرفه تيار المادة، وأن يصيبه داء الملك فيصبح فرعون مصر، يتعالى ويتغطرس ويتجبر ويتكبر، ويؤذى ويفسد، ويسجن ويعتقل، ويتنكر لكل صديق وحبيب، وتكون الطامة الكبرى إذا أصبح حيوانا في الناحية الجنسية، أو عبدا للمال إذا جمع المال من كل طريق.
أما المحكومون فلا يلبث أن يصيب بعضهم داء الخضوع والذل، والحقارة والضعة حتى يصبح معه متشيعا للرئيس يوافقه ولو قال: إنى أنا ربكم الأعلى.
والعلاج الوحيد لذلك كله أن نضع الدين والقرآن نصب أعيننا، وأن نغرس في نفوسنا تقوى الله والتوكل عليه حقّا حتى لا نغتر بدنيا ولا جاه ولا نخشى إلا الله فلا نقول إلا ما يرضى ربنا، ويوافق ديننا.
وبعد فلنرجع إلى فرعون الذي علا في أرض مصر، وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم الذكور خوفا على ملكه ودنياه، ويترك نساءهم لأن الأنبياء التي سبقت موسى كانت تبشر به وبمولده، وبأنه سيرفع أمر الله، ويمنع الظلم عن الناس وبخاصة بنى إسرائيل، ويزيل الملك القائم على أساس الظلم والجبروت، إن فرعون كان من المفسدين.
يقول الله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً «١» وقادة وولاة وحكاما، ونجعلهم الوارثين الذين يرثون ملك فرعون وأرض مصر بعد أن كانوا يسامون سوء العذاب.
ونريد أن نمكن لهم في الأرض، ونرى فرعون الطاغية وهامان وأمثاله من وزراء الملك وحاشيته، وجنودهما ما كانوا يحذرون ويخافون.
وقد حقق الله هذا كله بأن أرسل موسى وأنزل معه التوراة.
(١) سورة القصص الآية ٥.
815
فهل لنا أن نلتفت إلى هذا؟ ونفهم أن الذي أنقذ بنى إسرائيل من الذل، وجعلهم ملوكا وحكاما ومكن لهم في الأرض إنما هو الكتاب المنزل والشريعة المقدسة فإذا ما خرجوا منها، وابتعدوا عنها ضربت عليهم الذلة والمسكنة!! وإنما يتذكر بذلك أولو الألباب.
قصة موسى
قصة موسى كما ذكرنا سابقا تشتمل على عدة عناصر، وقد ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن، ويلاحظ أنه ذكر في هذه السورة بإسهاب الجزء الأول من حياة موسى، ويتلخص ذلك في العناصر الآتية.
ولادته وإرضاعه.... ، تربيته في بيت فرعون، سبب خروجه من أرض مصر.
أرض مدين ونزوله بها، ومصاهرته للشيخ، قضاء موسى مدة استئجاره. موسى بالوادي المقدس. محاجة موسى لهم. وعناد فرعون. وعاقبتهم.
ولادته وإرضاعه [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧ الى ١٤]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)
816
المفردات:
- وَأَوْحَيْنا ألهمنا وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي الخوف ألم نفسي لما يتوقع حصوله في المستقبل، والحزن ألم يصيب الشخص لأمر واقع في الماضي خاطِئِينَ متعمدين للخطيئة من خطىء إذا تعمد، أما أخطأ فمعناه لم يصب ولكن بغير تعمد قُرَّتُ عَيْنٍ المراد أنه مصدر سرور وارتياح، واشتقاق الكلمة من القرار فإن العين تقر على ما تسر به أى تسكن، أو من القر أى البرد، وبرد العين كناية عن سرور صاحبها فارِغاً خاليا من كل ما عدا موسى لَتُبْدِي بِهِ لتظهر أمره رَبَطْنا المراد ثبتناها قُصِّيهِ القص اقتفاء الأثر وتتبع الخبر عَنْ جُنُبٍ عن مكان بعيد يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ يقومون بأمره أَشُدَّهُ غاية نموه، وهو مفرد جاء على وزن الجمع.
817
المعنى:
وأخيرا ولدت أم موسى (قيل اسمها يوكابد وقيل غيره وهذا لا يهمنا في شيء) ولدت موسى في وقت شديد على بنى إسرائيل، كان يقتل فيه فرعون ذكورهم ويبقى نساءهم فماذا تفعل تلك الأم المسكينة؟! إن ابنها سيكون له شأن، وهو النبي الذي ينقذ بنى إسرائيل، ويرسل إليهم، وتنزل عليه التوراة، وفيها هدى ونور، فمن المعقول أن يرعاه ربه ويحفظه حتى يؤدى رسالته، وقد كان ما أراد الله، وصنعه على عينه، فلما ولدته أمه خبأته من عيون فرعون، فمكث عندها زمنا فلما خافت عليه وخافت من انكشاف سرها المكتوم فيقضى على فلذة كبدها، وموضع أملها لما حصل هذا أوحى الله إليها وألهمها- وهو القادر على كل شيء- أن تصنع له تابوتا ثم تضعه فيه، وتلقيه في البحر.
وهنا نقف لحظة أمام قوله تعالى فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي «١» إذ كيف يكون الإلقاء في البحر نتيجة الخوف؟ وهل من المعقول أنى إذا خفت على ابني مكروها ألقيه من النافذة؟! ولكنها عناية الله ورعايته تحوط بأنبيائه ورسله، وهم في المهد بل وفي ظهور آبائهم
«خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح»
عناية الله ورعايته بهم هكذا تكون لهم إرهاصا بنبوتهم، ودليلا على أنهم ليسوا بشرا عاديين، فحينما تلقى أم موسى به في البحر الذي يغرق الرجال والشبان، ثم يحفظه الله لها، بل ويرده إليها كما وعدها. تعلم علما أكيدا أن وعد الله حق، وأنه القادر المقتدر لا تخفى عليه خافية، ويكون في هذا دليل على صدق موسى فيما يدعيه مستقبلا إذا خفت عليه من فرعون فألقيه في البحر، ولا تخافي عليه من الغرق فعين الله ترعاه.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهنّ أمان
أليس في هذا عبرة وعظة للمسلمين في مكة قبل الهجرة.
ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين.
وكان من أمرها أنها ألقته بتابوته في البحر فالتقطه آل فرعون، وهم أعداء له ولربه، ولكن الله ألقى عليه المحبة؟ فأحبته امرأة فرعون وحافظت عليه. وأبقته قرة عينها وعين
(١) سورة القصص الآية ٧.
818
زوجها فرعون، راجية أن ينفعهما أو يتخذاه ولدا لهما إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي
[سورة طه آية ٣٩].
التقطه آل فرعون لتكون العاقبة والنهاية أن موسى يصير لهم عدوّا مبينا ومصدر حزن وتعب لهم جميعا، إن فرعون وهامان وزيره وجنودهما كانوا مجرمين ومذنبين، إذ لا يستوي الخبيث والطيب...
فلما وصل إلى بيت فرعون قالت امرأته عند ما وقع نظرها عليه- وقد ألقى الله عليه محبتها- قالت هذا الطفل ألمح فيه أنه سيكون لنا سلوى، به تقر عيوننا، وتسكن نفوسنا، فلا تقتلوه، يا فرعون عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا نتبناه، قالوا هذا وهم لا يشعرون ما يضمره الغيب لهم بسبب ذلك الطفل.
ولما حصل هذا ألقت أم موسى به في البحر. وهو ابنها فلذة كبدها أصبح فؤادها فارغا من كل شيء إلا من موسى وخبره، وانتابتها الهواجس والظنون، واعتراها ما يعترى البشر من الهلع والجزع عند فقد الحبيب، إنها أوشكت أن تخبر أن الذي وجدتموه هو ابني، وفي رواية كادت تقول: وا ابناه!! من شدة وجدها عليه، كادت تفعل ذلك لولا أن ربطنا على قلبها وألهمناها الصبر، كما يربط على الشيء ليسكن ويستقر لأمر الله، ولتكون من المؤمنين حقّا بقضاء الله وقدره، المصدقين بوعده.
وكان من أمرها أنها أمرت أخته أن تقتفى أثره، وتقف على خبره، فأبصرته من مكان بعيد، وهو في بيت فرعون تعرض عليه المرضعات فيأبى أن يرضع من إحداهن لأن الله حرم عليه المراضع، فقالت أخته: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم، ويقومون بخدمته وإرضاعه والعناية به ونظافته؟ ولا شك أن هذا عمل يقوم به أهل بيت لا امرأة واحدة، وأهل هذا البيت لفرعون وعرشه ناصحون فلا تخشون منهم سوءا، وكان ما أشارت به أخته.
وانظر إلى تدبير الله- جل جلاله-، الرحمن الرحيم بخلقه، وخاصة أولياءه وأحبابه، حيث أعاد لأم موسى ابنها ترضعه وتربيه، وتكون ظئرا له، وتتقاضى على ذلك كله أجرا، وهي آمنة من كيد الكائدين، وسعى الساعين.
819
والله الذي أخرج اللبن من بين الفرث والدم لبنا خالصا سائغا للشاربين، أخرج موسى من بين فرعون وهامان وجنوده، ولا حرج على فضل الله.
فرددناه إلى أمه كي تقر عينها، وتسكن نفسها، ولا تحزن عليه، ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون...
وبعد فطامه عاد إلى بيت فرعون، وتربى فيه أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [سورة الشعراء آية ١٨].
ولما بلغ مبلغ الرجال، واستكمل قواه العقلية والجسمية وهذا معنى قوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتيناه حكمة وحكما، ونبوة وعلما، ومثل ذلك نجزى المحسنين..
سبب خروجه من أرض مصر [سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٥ الى ٢١]
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)
820
المفردات:
شِيعَتِهِ أى: حزبه وجماعته، وهم الإسرائيليون لأنهم تشيعوا لموسى ولمذهبه فَاسْتَغاثَهُ طلب منه الغوث والنصرة فَوَكَزَهُ مُوسى الوكز واللكز: الضرب بجمع الكف ظَهِيراً معينا وناصرا يَتَرَقَّبُ ينتظر ما ينال من جهة القتيل يَسْتَصْرِخُهُ يستغيث به صارخا لَغَوِيٌّ لضال من غوى يغوى أى: ضل يَبْطِشَ البطش الأخذ بعنف مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ من أبعد جهاتها الْمَلَأَ الأشراف الذين يملؤون العين مهابة يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون فيك، وسميت المشاورة ائتمارا لأن كل من المستشارين يأمر الآخر.
المعنى:
نشأ موسى في بيت فرعون وتربى فيه. ولكنه إسرائيلى يجمعه معهم صلة القربى واللغة والعادة والدين، وكان الإسرائيليون مضطهدين من فرعون وآله يسومونهم سوء العذاب. لهذا وذاك كان موسى ساخطا على معاملة القبط لبنى جنسه، وكان يدافع عنهم بشدة حتى عرف عنه ذلك، وأصبحوا يتشيعون له.
دخل موسى يوما المدينة التي يسكنها فرعون- العاصمة- على حين غفلة من أهلها لأنهم كانوا في القيلولة، فوجد رجلا مصريا يأخذ بتلابيب رجل إسرائيلى، يقال لهما:
هذا من شيعته، وهذا من عدوه، فاستغاث العبراني بموسى ليخلصه من ظلم المصرى
821
فجاءه موسى، وهو مغضب، ووكز القبطي وكزة كانت القاضية، وواراه التراب ولم يعلم بذلك أحد إلا الرجل العبراني الذي نصره موسى.
ولما سكنت نفس موسى وهدأ غضبه، ندم على ما فعل، وقال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، إذ كان الأولى أن تكون النصرة بغير الضرب المفضى إلى الموت، وقال موسى: رب إنى ظلمت نفسي بهذا العمل فإن فيه قسوة وشدة، وإن كان عمل المصريين يخرج المرء عن صوابه، يا رب إنى ظلمت نفسي، فأنا أتوب إليك، وأندم على فعلى هذا فاغفر لي مغفرة من عندك، فتقبل الله منه توبته النصوح، وغفر له، إنه هو الغفور الرحيم قال: رب بما أنعمت على من فيض نعمك التي لا تحصى، وبسبب هذا فلن أكون ظهيرا للمجرمين، يا رب فلا تجعلني معينا وناصرا لأهل الشر أبدا.
ولما كان اليوم الثاني وموسى يخاف افتضاح فعلته التي فعلها، وينتظر ماذا يكون من أمره؟، إذ بالإسرائيلى يتقاتل مع قبطى آخر، فاستغاثه الإسرائيلى- وهو من شيعته- على الفرعوني- الذي هو عدوه- ولكن موسى ندم على فعلته السابقة وكره مثل هذا الفعل فمد يده، وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، وفي الوقت ذاته قال للإسرائيلى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ وهو مغضب ثائر، فظن العبراني أن موسى أراده بسوء فقال:
أتريد يا موسى أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟!.
وقيل إن الذي قال هذا هو القبطي يلوم موسى ويقول أيضا ما تريد يا موسى إلا أن تكون جبارا شديد البطش كثير الإيذاء في الأرض، وما تريد أن تكون من المصلحين الذين يفضون النزاع بين الناس، ولما كان أحد الخصوم ذوى قربى شاع خبر قتل موسى للمصرى أى القبطي- أو الفرعوني- تلك ألقاب ثلاثة لسكان مصر في ذلك الوقت- حتى بلغ فرعون وجنده فطلبوا موسى لقتله كما قتل... في ذلك الوقت جاء رجل مؤمن من أقصى المدينة يسعى ليخبر موسى بما أراده القوم من سوء له. وقال: يا موسى: إن الملأ قد بيتوا العزم وصمموا على قتلك، فاخرج من تلك الديار، إنى لك من الناصحين.
فخرج موسى من مصر خائفا يترقب، وفي وسط هذه المحنة الشديدة، قال: رب نجنى من القوم الظالمين، وقد نجاه الله ووصل إلى مدين وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [سورة طه آية ٤٠].
822
أرض مدين ونزوله بها ومصاهرته للشيخ [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٨]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦)
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)
823
المفردات:
تِلْقاءَ تجاه وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ بلغ ماء مدين، ولفظ ورد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه فقط وإن لم يدخل كما هنا أُمَّةً لهذه الكلمة عدة معان منها الجمع الكثير كما هنا تَذُودانِ تحبسان وتطردان وتمنعان ما خَطْبُكُما ما شأنكما؟ يُصْدِرَ الرِّعاءُ حتى ينصرف الرعاة: يقال صدر عن الماء مقابل ورد.
انصرف عنه، ويقال: أصدره يصدره صرفه عنه، والرعاء جمع راع كصحاب جمع صاحب قَصَّ روى له القصة تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ جمع حجة وهي السنة فَلا عُدْوانَ فلا مجاوزة للحد.
المعنى:
انتهى أمر موسى- عليه السلام- إلى الخروج من أرض مصر فارّا بنفسه خائفا من المصريين الذين قتل منهم واحدا، ومن المعقول أن موسى خرج بلا زاد ولا راحلة! فإلى أى الجهات يقصد؟ لقد قصد أرض مدين للنسب الذي بين الإسرائيليين وبينهم لأن مدين من ولد إبراهيم، والإسرائيليون من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم السلام- جميعا.
ولما توجه جهة مدين، وهو على هذا الوضع الشديد قال متضرعا إلى ربه: عسى أن يهديني سواء السبيل، ويوفقني إلى الطريق المستقيم حتى أصل إلى ما أقصد.
ولما وصل أرض مدين- وهي بلاد واقعة حول خليج العقبة من جهة الشمال قريبا من شمال الحجاز وجنوب فلسطين- رأى على الماء جماعات كثيرة من الناس يسقون ماشيتهم، ووجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما عن ورود الماء. وتمنعانها عن الحوض انتظارا حتى يسقى أولو القوة من الرعاة، ويصدرون ماشيتهم، فإذا فرغوا من سقيهم جاءتا واستقتا لماشيتهما، وهذا شأن الضعيف مع القوى، يشرب القوى أولا من الماء الصافي، ويشرب الضعيف البقية الباقية من الماء الكدر.
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
موسى رجل جد عمل، وإباء وبطولة، لم يعجبه أن يبتعد النسوة عن الماء
824
لضعفهن، ويتقدم للورود الرجال لقوتهم، وكيف يقبل هذا؟ وهو رجل ثار على الظلم، ولم يعجبه جبروت فرعون وطغيانه!!.
فسأل المرأتين عن شأنهما، ولماذا يحبسان ماشيتهما عن الورود؟ فقالتا لا نسقى حتى يسقى هؤلاء الرعاة ماشيتهم، فهم أولو قوة ونحن ضعيفات كما ترى، وأبونا شيخ كبير مسن، لا يقدر على مزاولة أمر الرعي والسقي فثار موسى، وتحركت فيه عوامل الشهامة والرجولة، وسقى لهما، وأدلى بدلوه بين دلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما.
ثم تولى إلى ظل الشجرة ليستريح من وعثاء الطريق، ومشقته، وهو رجل دائم الصلة بربه يذكره ويتضرع إليه، فلا ينساه أبدا، وبخاصة في هذا الوقت الشديد، فقال:
يا رب أعطنى من فضلك، وأسبغ على من نعمك، فإنى لما أنزلته إلى من خير فقير- والخير هو المال هنا- وهل ينساه ربه؟ كلا! فمن يتوكل على الله فهو حسبه، ونعم الوكيل.
عادت المرأتان إلى أبيهما الشيخ فسألهما عن السر في حضورهما بسرعة على خلاف شأنهما كل يوم، فأخبرتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، وسهل لهما العودة مبكرتين، فأرسل إحداهما إليه فوافته بمكان قريب من الماء يستظل تحت شجرة، وقالت له في حياء وخفر إن أبى يدعوك ليعطيك أجر ما سقيت لنا.
رأى موسى الفرج في ذلك، وأن الله قد استجاب دعاءه بسرعة، وهل ينساه ربه! كلا! فإن ذلك لا يكون.
تبع موسى المرأة إلى منزل أبيها، وطلب منها أن تكون خلفه حتى لا يراها، وأن توجهه إلى الطريق وهي خلفه، لا غرابة في هذا، فهذا أدب النبوة العالي.
جاء موسى إلى ذلك الشيخ- وهو شعيب على القول الصحيح- فرحب به وأكرم وفادته، وأحله أهلا بمكان سهل، وقص موسى على شعيب قصته كلها من ولادته إلى ذلك الوقت. وأخبره بأخبار بنى إسرائيل في مصر فطمأنه شعيب، وقال له:
لا تخف ولا تحزن لقد نجاك الله من القوم الظالمين الطغاة المتجبرين.
مصاهرة موسى لشعيب: لما جاء موسى إليه وكلمه، وطمأنه، وأزال عنه الخوف، قالت إحدى بناته: يا أبت استأجره يرعى غنمنا فهو الرجل القوى الأمين، وهما
825
الصفتان الممدوحتان في العامل، ولقد رأت قوته في سقيه لهما، وأمانته في طلبه لها أن تسير خلفه، وتنعت له الطريق، قبل شعيب رأى ابنته، واقتنع بأن موسى نعم الرجل القوى الأمين، وطلب إلى موسى أن يخدمه برعي غنمه ثماني سنين فإن أتمها عشرا فمن عنده ولا حرج عليه، وهذا في نظير أن يزوجه إحدى بناته وأشار شعيب لها. قبل موسى ذلك على أنه بالخيار في أى الأجلين، وتمت الصفقة بينهما على ذلك.
قضى موسى الأجل، وسار بالوادي المقدس [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٩ الى ٣٥]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣)
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥)
826
المفردات:
الْأَجَلَ الميعاد المحدد آنَسْتُ أبصرت الطُّورِ اسم للجبل الذي في سيناء جَذْوَةٍ الجذوة الجمرة الملتهبة، وقيل هي القطعة الغليظة من الخشب سواء كان في طرفها نار أو لم يكن تَصْطَلُونَ تستدفئون شاطِئِ الْوادِ جانبه جَانٌّ أى حية صغيرة سريعة الحركة مُدْبِراً هاربا يُعَقِّبْ يرجع من عقب الفارس أى كر اسْلُكْ أدخل جَيْبِكَ جيب القميص طوقه جَناحَكَ قيل المراد بالجناح اليد لأنها تشبهه الرَّهْبِ الخوف رِدْءاً معينا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ نقويك سُلْطاناً حجة قوية متسلّطة.
المعنى:
وأخيرا كان ما كان، وقضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما وأكملهما، وسار إلى ما يريد مع أهله أى: زوجته ومن معهما، فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله، آنس من جانب الطور نارا موقدة، فلما أبصرها، وكان في ليلة شاتية باردة، قد حاول أن يوقد نارا بزنده فلم يفلح، فلما أبصر تلك النار قال لأهله امكثوا هنا ولا تبرحوا ذلك المكان، فإنى سآتيكم من عندها بخبر يهدينا إلى الطريق، أو جذوة من النار لعلكم تستدفئون.
فلما أتاها نودي من الشاطئ الأيمن للوادي من الشجرة، نودي: يا موسى: إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى، يا موسى إنى أنا الله رب العالمين، وأن ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا فاهتزت فلما رآها كأنها جان في سرعة حركتها، وكثرة تقلبها ولى مدبرا وصار خائفا مضطربا، ولم يعقب، قيل له إزاء هذا:
827
يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنه لا يخاف لدى المرسلون إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ يا موسى اسلك يدك في جيب قميصك، أى أدخلها فيه تخرج منه بيضاء ناصعة من غير سوء ولا برص، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ أى يدك المبسوطة كالجناح لتتقى بها الحية، كأنك خائف فزع منها، أى اضمم إليك يدك وأدخلها تحت عضدك بدل أن تتقى بها الحية، ثم أخرجها بيضاء لئلا يرى أحد أنك خائف، ولتظهر معجزة أخرى هي إخراج اليد بيضاء، وقد كان موسى رجلا طوالا آدم- أسم- وعلى هذا فيكون المعنى قد عبر عنه بعبارات اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ:
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ. وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [سورة القصص آية ٣٢، النمل ١٢، طه ٢٢].
ويجوز أن يراد بقوله تعالى «واضمم إليك جناحك». التجلد وضبط النفس والثبات عند انقلاب العصاحية، مستعار من فعل الطائر لأنه إن خاف نشر جناحيه وأرخاهما، وعند الأمان يضم جناحيه.
فذانك أى العصا التي قلبت حية، واليد التي خرجت بيضاء من غير سوء، برهانان من ربك، وحجتان قويتان إليك وإلى فرعون وملئه. إنهم كانوا قوما فاسقين وخارجين عن حدود الشرع والعقل.
فهم موسى أنه مكلف بالرسالة إلى فرعون وملئه ليخرج بنى إسرائيل من عذابهم وأحس بثقل التبعة الملقاة على عاتقه فقال. رب إنى قتلت منهم نفسا، فأخاف أن يقتلون، وأخى هارون هو أفصح منى لسانا وأقوى بيانا، وأدرى منى بلهجة المصريين لأنه لم يترك بلادهم، فأرسله معى معينا، واجعله وزيرا ألتجئ إليه، ويحمل معى عبء هذه الرسالة إنى أخاف أن يكذبوني.
قال الله له: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ، ونقويك به، ونجعل لكما سلطانا وحجة قوية تدل على صدقكما، وأنكما رسولا رب العالمين اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي والله معكما ناصركما، وعاصمكما من الناس فلا يصلون إليكما بسوء أبدا، بل أنتما ومن اتبعكما الغالبون، لأنكم حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون.
828
هذا الموضوع كرر في سورة طه. والنمل. والقصص كما ذكرنا في الجزء (التاسع عشر) ويلاحظ أن موسى نودي، وهو في الشاطئ الأيمن من الشجرة: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ كما نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين. فترى أن العبارة مختلفة، والمعنى يكاد يكون واحدا فهو بدء الإيحاء والرسالة بعبارة تدل عليه، والله- سبحانه- ذكر الكل، وقد حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء.
وشبيه بهذا ما مضى في قوله. اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ في أنه معنى واحد صيغ في عبارات متعددة، ثم هنا سؤال قد جعل الجناح وهو اليد تارة مضموما، وتارة مضموما إليه اليد، والجواب أن المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى وبالمضموم إليه هو اليد اليسرى، وكل واحد من اليدين جناح. وسؤال آخر ما الفائدة في قلب العصا حية وإدخال اليد وإخراجها بيضاء عند نداء الله لموسى؟ والجواب أن ذلك لتمرين موسى على إبراز المعجزات، وليقوى على ملاقاتها حتى لا يخاف عند مشاهدتها كما حصل في أول مرة.
محاجته لهم. وعناد فرعون وآله وعاقبتهم [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٦ الى ٤٣]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
829
المفردات:
مُفْتَرىً مختلق هامانُ وزيره فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فاصنع لي آجرا أى: طوبا صَرْحاً قصرا أَطَّلِعُ أصعد فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم الْمَقْبُوحِينَ المطرودين المبعدين.
المعنى:
أمر موسى بأن يذهب هو أخوه إلى فرعون وملئه، وبأن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى، وأخذا يجادلانه في الله الذي يجب أن يعبد، وهو رب السموات والأرض وما بينهما، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء، وأنزل منها ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى.
830
ولقد جاءهم موسى بالآيات الشاهدة على صدقه، الدالة على أنه رسول رب العالمين ولكنهم قالوا له: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر قد افتريته من عندك ونسبته لربك وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه، في آبائنا الأولين، حاجهم موسى بالعقل والمنطق، وساق لهم الآيات الشاهدة مصدقة، فكان الجواب والرد الذي يدل على الحماقة ما هذا إلا سحر، وما سمعنا به قديما، وما سمعنا عن دعوتك في آبائنا الأولين.
وقال موسى ردا عليهم: ربي الذي خلق كل شيء، ويعلم الغيب في السموات والأرض أعلم منكم بمن جاء بالهدى والنور من عنده، وهو أعلم بمن تكون له العاقبة الحسنى، والجزاء الأوفى يوم القيامة، ولا يفلح عنده الظالمون أبدا في الدنيا والآخرة.
ولو كنت كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا على الله لما أعطانى الآيات، ولما هداني إلى الحق والخير الذي أدعو إليه لأنه غنى حكيم، لا يرسل الكاذبين، ولا الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون، وهو القاهر فوق عباده، الخبير بخلقه، لا تخفى عليه خافية وهذا تهديد لهم، وتثبيت لغيرهم.
ولما ألح موسى على فرعون بالدعوة إلى الإيمان بالله، وهو في ملأ من قومه، وهذا يحط من شأنه، ويضيع من هيبته، وهو حريص على ذلك جدا، أخذ يقول تارة:
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «١»، ويقول مرة أخرى: إنه سيتخذ الوسيلة للصعود إلى إله موسى ليصفى الحساب معه، ولعله فهم من قول موسى. رب السماء والأرض أنه يجلس في السماء لا في الأرض.
انظر إليه يخاطب القوم، ويقول: يا أيها الملأ- الأشراف ووجوه القوم ما علمت لكم من إله غيرى، يقصد بذلك نفى وجود إليه غيره.
وإذا كان يعتقد أنه هو الإله، ولا إله غيره أبدا فكيف يقول: يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى، وإنى لأظنه من الكاذبين؟! ولعله يقول ذلك من باب التسليم للخصم.
ومن الناس من يدعى رأيا ويقول به، وهو عالم أنه مخطئ فيه، ولكن لأن رأيه على غير أساس، لا يلبث أن يشك فيه ويرجع عنه طمعا، في أنه ربما يصادف شيئا.
(١) سورة الشعراء الآية ٢٧.
831
هذا فرعون يدعى أنه إله، وأن موسى كاذب في أن للكون إلها، ثم بعد لحظة يأمر وزيره أن يوقد النار، ويخرج الآجر ليبنى له صرحا، وبناء فخما يصعد به إلى السماء لعله يصعد إلى إله موسى ليصفى حسابه معه، ثم يختم آثامه وأقواله التي تدل على الارتباك والتخبط بأنه يشك في صدق موسى، ولكن احتياطا فعل هذا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ.
[غافر ٣٧] كل هذا يحصل، ولم يجد فرعون من قومه وملئه من يقول الحق، أو يهدى إلى الخير أو يمنع الظلم بل كانوا يؤمنون على قوله، وينفذون رغبته، وكان عاقبة أمره وأمرهم خسرا.
استكبر فرعون في الأرض، وطغى وتجبر، وعلا علوّا كبيرا هو وجنوده، كان من أثره ركوب ذلك الشطط، وفعل تلك الخبائث، وكان مبعث ذلك كله أنهم ظنوا بل تيقنوا أنهم إلى الله لا يرجعون.
وانظر إلى الحق- جل جلاله-، وهو يسجل عليهم نهايتهم بعبارة فخمة ضخمة فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «١» نعم كانوا في قبضة الله الذي يقول للشيء كن فيكون كحصيات يجمعها الشخص في الطريق ثم يلقيها في البحر، فانظر أيها الناظر إلى الدنيا بعقلك، المتفكر فيها بقلبك كيف كان عاقبة الظالمين؟!! وصيرناهم أئمة ورؤساء يدعون إلى النار، فيطاعون، وكأنهم بإصرارهم على الكفر وتماديهم في الباطل يدعون أتباعهم إلى النار لأنهم يأتمرون بهم ويقتدون، ويوم القيامة لا ينصرون أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ «٢» وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة وطردا، وبعدا عن رحمة الله، ويوم القيامة هم من المقبوحين المطرودين الممقوتين وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [سورة هود آية ٩٩].
ولقد آتينا موسى التوراة التي هي نور البصائر، وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون،
روى أبو سعيد الخدري قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم «ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمّة ولا أهل قرية بعذاب من السّماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التّوراة على موسى غير القرية الّتى مسخت قردة»
ألم تر إلى قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى «٣» ولعل إيتاء التوراة بعد إهلاك الأمم الماضية للإشعار بمسيس الحاجة الداعية إليها، فإن إهلاك القرون الأولى دليل على اندراس معالم شرائعها،
(١) سورة القصص الآية ٤٠.
(٢) سورة محمد الآية ١٣.
(٣) سورة القصص الآية ٤٣.
832
وحاجة الناس إلى ما ينقذهم من تشريع جديد، ورسالة سماوية تلتقي مع حاجتهم وأحوالهم.
الحاجة إلى إرسال الرسل مع سوق بعض الأدلة على صدقهم [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٤ الى ٥١]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
833
المفردات:
الشَّاهِدِينَ الحاضرين قُرُوناً أمما فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أى طال عمرهم ثاوِياً مقيما يقال ثوى بالمكان يثوى به أقام فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ المراد فإن لم يفعلوا تَظاهَرا تعاونا وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ليتصل التذكير.
وهذا لون من العبرة بقصة موسى، ونتيجة عامة لسوقها، إذ هي من الأدلة على صدق الرسول حيث قص أخبارا صادقة عن قوم لم يشهدهم ولم يكن معهم، ولم ترو له أخبارهم، فلم يبق إلا الوحى مصدرا لهذا كله، وفي ذلك عبرة وعظة، ودليل على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم.
وهذا أيضا شروع في بيان أن إنزال القرآن الكريم جاء في زمن، الحاجة فيه ماسة وداعية إليه.
المعنى:
وما كنت يا محمد بجانب المكان أو الجبل الغربي وقت أن قضينا إلى موسى الأمر، وألزمناه العهد، وأنزلنا عليه الحكم، وما كنت من الحاضرين لذلك فتعلمه وتخبر به، ولكنا أوحيناه إليك وأعلمناك بخبره ليكون معجزة لك، وشاهد صدق على نبوتك، وكانت الحاجة القصوى داعية إلى ذلك حيث طال العهد فقست قلوب الناس، وانتشر الفساد والظلم حتى عم العالم أجمع، وأصبح في ضلالة وجاهلية يتردى فيها، نعم تطاول على الناس العمر حتى نسوا ذكر الله، وقست قلوبهم فأرسل محمد صلّى الله عليه وسلّم مجددا العهد الإلهى، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى
834
فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[سورة المائدة آية ٢٢].
وما كنت مقيما في أهل مدين مع شعيب تتلو عليهم آياتنا حتى تقص خبرهم أحسن القصص على أهل مكة، ولكنا (أى: الله جل جلاله) كنا مرسلين لك، وموحين إليك بأخبارهم حجة قوية على صدقك.
وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى وقلنا له: خذ الكتاب أى: التوراة بقوة وما كنت معه حتى تشاهد ما حصل له ثم تخبر الناس به، ولكن أرسلناك رحمة من ربك للعالمين، ولتنذر قوما هم العرب، ما أتاهم من نذير قبلك، رجاء أن يتذكروا ويؤمنوا بالله العزيز الحميد، والعرب على الصحيح لم يأت لهم نذير بعد إسماعيل- عليه السلام- بناء على أن موسى وعيسى كانت رسالتهما لبنى إسرائيل فقط، ومن هنا ندرك الحاجة القصوى لإرساله صلّى الله عليه وسلّم للعرب ولولا أن الناس وبخاصة العرب يقولون: هلا أرسلت إلينا يا رب رسولا من عندك يبشرنا وينذرنا، ويهدينا بالكتاب الذي معه إلى الصراط المستقيم، فنتبع آياتك ونؤمن برسلك، ونكون من عبادك المؤمنين الصادقين غير المغضوب عليهم ولا الضالين.. لولا قولهم هذا عند إصابة العقوبة لهم بسبب ما جنته أيديهم ما أرسلناك للناس رسولا، ولكن لما كان قولهم هذا محققا لا محيد عنه أرسلناك قطعا لأعذارهم بالكلية رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء آية ١٦٥]. أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ.. [سورة الأنعام الآيتان ١٥٦، ١٥٧].
وهذا من أسباب إرسال الرسل، وبيان للحاجة الداعية إليهم.
فلما جاء أهل مكة الحق من عندنا، والنور الذي أنزل على رسولنا، قالوا: لولا أوتى مثل ما أوتى موسى من قبل كالعصا واليد وغير ذلك من الآيات التي أنزلت معجزة لموسى... عجبا لهؤلاء المشركين! أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل ولم يؤمنوا به، وقيل المعنى: فلما جاء أهل الكتاب الحق والقول الصدق على يد محمد، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقالوا لولا أوتى
835
مثل ما أوتى موسى، عجبا لهم! أو لم يكفروا بموسى ومن معه، ويقولون ساحران أى: موسى وهارون تظاهرا وتعاونا، وإنا بكل كافرون. وإن أرجعنا القول إلى الكفار من العرب والآية تحتمل هذا وذاك- كان المراد بقوله: ساحران أى: موسى ومحمد ونحن بكل منهما كافرون.
قل لهم يا محمد: إذا كان الأمر كذلك فأتوا بكتاب من عند الله هو أكثر هداية، وأقوى تأثيرا، وأحكم آيات إن كنتم صادقين، وهذا الأمر أى «فأتوا» يشبه قولك «اصعد إلى السماء» حيث يكون الصعود محالا فهو من باب التعجيز والسخرية فإن لم يفعلوا ذلك، ولن يفعلوه أبدا، فاعلم أنهم يتبعون في عقائدهم الباطلة أهواءهم، وليس هناك أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين.
ولقد وصلنا لهم القول وفصلناه وبيناه، وأتبعنا بعضه بعضا، وبعثنا رسولا بعد رسول كل يلائم وقته وعصره، وكان هذا القول هو مسك الختام لأن صاحبه خير الرسل وخاتمهم وإمامهم، وشرعه صالح لكل زمان ومكان، وها هي الآيات تترا مؤيدة ذلك، لعل الناس يتذكرون ويتعظون.
المؤمنون من أهل الكتاب [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٥]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
المفردات:
وَيَدْرَؤُنَ يدفعون، يقال درأ عنه كذا أى: دفع اللَّغْوَ هو ما لا يعتد به من القول أو ما كان فيه أذى من شتم أو سب لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم.
المعنى:
وهذا هو الصنف الذي في قلبه ميل إلى الخير، وفي نفسه استعداد لقبول الطيب من الدعوات، وهم جماعة من أهل الكتاب الذين آمنوا بنبيهم، ولم يحرفوا الكلم وبشارة كتبهم بالنبي العربي فهم قد آمنوا به أولا بظهر الغيب ثم آمنوا به ثانيا إيمان مشاهدة وإقرار بما سبق، وإذا يتلى على هؤلاء القرآن قالوا: آمنا به وصدقناه وصدقنا من جاء على لسانه، وكأن سائلا سأل وقال لهم هذا؟ فأجابوا إنه الحق من ربنا، نعم إنه كلامه الحق الذي لا شك فيه، ونحن أدرى به من غيرنا، إنا كنا من قبل نزوله مسلمين ومنقادين.
أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا مرة لإيمانهم بكتابهم ونبيهم، ومرة لإيمانهم بالقرآن والنبي، وصبرهم على ذلك كله، وهم يدرءون بالحسنة السيئة، ويدفعون الشر بالخير، وينفقون مما رزقناهم في سبيل الله.
وإذا سمعوا لغوا من قول المشركين أو أصابهم أذى منهم، أعرضوا عنهم، وقالوا لنا أعمالنا، ولكم أعمالكم، سلام عليكم، سلام ترك موادعة، ونحن لا نبتغى الجاهلين، ولا نطلب مصاحبتهم.
رد على بعض مزاعم المشركين [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٦ الى ٦١]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠)
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
837
المفردات:
نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ننتزع منها بسرعة أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً نجعل مكانهم حرما ذا أمن بَطِرَتْ مَعِيشَتَها البطر الأشر وقلة احتمال النعمة والطغيان بها، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة والمراد طغت وتمردت في زمن معيشتها أُمِّها عاصمتها.
المعنى:
ما مضى كان في بيان فريقين من الناس، فريق طغى وبغى وكفر بالله ورسله، وفريق آمن واهتدى واستجاب لداعي الحق، واتبع رسول الله، ومن هؤلاء وأولئك خلق كثير فقيل للنبي صلّى الله عليه وسلم:
838
إنك لا تهدى من أحببت من الناس، ولا تدخلهم في حظيرة الإيمان، إنما عليك فقط البلاغ والدعوة إلى الله وبيان الشريعة الغراء، ولكن الله- سبحانه- يهدى من يشاء ويوفقه ويشرح صدره للإسلام أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ. لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ نعم الله يهدى من يشاء، وله الحكمة البالغة، والعلم الكامل بخفيات القلوب وبذات الصدور، وهو أعلم بمن عنده الاستعداد للهداية والخير، فيهديه ويوفقه، وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبى طالب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والكل يعلم أنه كان يحوط النبي ويرعاه، ويحبه حبا شديدا ويتولاه، فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان والدخول في الإسلام فسبق القدر فيه، ولم يرد الله به خيرا، فاستمر على ما كان عليه من الكفر، ولله الحكمة البالغة.
وقال بعض المشركين معتذرا بأعذار واهية: إننا إن اتبعنا الهدى الذي جئتنا به، والنور الذي أنزل معك نخشى إن فعلنا ذلك أن يقصدنا المشركون وأحياء العرب من كل جانب بالأذى والحرب ويأخذونا بسرعة وشدة لا قبل لنا بها، ألم تر إليهم وقد خافوا المخلوق الضعيف وأمنوا مكر الخالق الكبير ذي البطش الشديد الفعال لما يريد؟! عجبا لهؤلاء أنسوا ولم يعلموا أن الله مكن لهم في الأرض، وأنزلهم بلادا جعلها حرما آمنا، يقدسه العرب جميعا، وتحج إليه، وتحترم سكانه وأهله وتدين لهم بالإمارة والسيادة عليهم، فيه أسواقهم واجتماعاتهم، وفي بلادهم يأمن الخائف، ويطمئن القاتل وتسكن نفس المعتدى، فالعرب كانت تحرم الاعتداء في الحرم، وفي الأشهر الحرم، وكل هذا بتوفيق الله، وهو الذي جعل في قلوب الناس شوقا إليه وحنينا لزيارته وحجه فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ فكانت فيه الثمرات من كل جهة رخيصة كثيرة، جعلها الله من لدنه رزقا لأهله، أظن هذا العذر الواهي لا يكون مقبولا بعد هذا كله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وهذا رد آخر لقولهم:
إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا إذ هم قد اعتقدوا خطأ أنهم ماداموا على شركهم فإنهم في أمن ودعة، وإن اتبعوا الرسول نزل بهم البلاء، فبين الله لهم أن الأمر بالعكس، وأنهم إن تركوا الشرك وأسلموا لله رب العالمين أمنوا من عذاب الدنيا والآخرة، وكانوا عند الله من المقربين، وإن ظلوا على دينهم وتمسكوا بباطلهم
839
حق بهم العذاب من كل جانب، واستحقوا عذاب الدراين بدليل أن الله- سبحانه- أهلك كثيرا من أهل القرى بأنواع العذاب الشديد المبيد المهلك لكفرهم، وقد كانوا يمرحون في النعيم، ويعيشون في بلهنية من رغد العيش فمن الخير لكم يا كفار مكة أن تخشوا بأس الله، ولا تغتروا بالأمن الذي أنتم فيه، فكثير من أهل القرى كانت مثلكم فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف جزاء لما كانوا يعملون، وها هي ذي مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، وكان ربك خير الوارثين، تلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، وليعلم الكل أنه هو الحكم العدل، صاحب الموازين القسط، فلا تظلم نفس شيئا، وما كان ربك مهلك القرى والجماعات حتى يبعث رسولا يدعوهم إلى الهدى، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم، فإن اتبعوه وآمنوا به نجوا جميعا، وإن خالفوه وكفروا به ضلوا وحاق بهم سوء العذاب فما ثبت في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى حتى يبعث في عاصمتها رسولا يتلو عليهم الآيات لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وكان هلاكه للظالمين فقط، الكافرين بالله ورسوله، وها أنتم أولاء جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص على إيمانكم، بالمؤمنين رءوف رحيم، فاحذروا العذاب إن بطش ربك لشديد...
وهذا رد آخر على من يشترى الضلالة بالهدى. ويبيع الباقية بالفانية والآخرة بالدنيا، وما أوتيتم من شيء من الدنيا ونعيمها فهو متاع الحياة فقط وزينتها، والآخرة خير وأبقى، وما عند الله من ثواب وجزاء خير من الدنيا وما فيها، إذ متاع الحياة الدنيا متاع زائل ينقصه ذكر الموت، وفناء الخلق، أفلا تعقلون؟ وتتعظون وتؤثرون الدين على الهوى والغرض!!.
أفمن وعدناه وعدا حسنا على العمل الصالح فهو لاقيه حتما ومصيبه في الجنة بلا شك، أفمن وعدناه هذا كمن متعناه المتاع الفاني، والغرض الزائل، ثم هو يوم القيامة من المحضرين؟!! الأول هو المؤمن والثاني هو الكافر، ولا يعقل التساوي بينهما! فمن العقل والحكمة أن نكون من الصنف الأول الذي يجمع بين الوعد الحسن في الآخرة، والعمل الصالح في الدنيا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..
وفي هذه الآيات رد على مزاعم المشركين، وشحذ لعزائم المسلمين في وقت هم في أشد الحاجة إلى ذلك، ثم بعد ذلك تعرض القرآن لحال الكفار يوم القيامة.
840
بعض مواقف المشركين يوم القيامة [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٧]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)
المفردات:
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ثبت ووجب يقال: حق يحق ويحق ثبت أَغْوَيْنا أى أضللنا يقال. غوى يغوى ضل فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ أى: صارت كالعمى لا تهتدى إليهم وأصل التركيب فعموا عن الأنباء ثم حصل قلب، وهذا مألوف في اللغة العربية.
المعنى:
واذكر لهؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وضلوا سبيلهم، وأضلوا غيرهم، اذكر لهم يوم يناديهم الحق- تبارك وتعالى- فيقول لهم سائلا سؤال تبكيت وتأنيب وتوبيخ حيث لم تنفعهم معبوداتهم في هذا الوقت العصيب، يقول لهم أين شركائى الذين كنتم
841
تزعمون؟ أين الذين عبدتموهم من دوني، وأثبتم لهم شركة في استحقاق العبادة؟! ولن يجيبوا عن هذا السؤال لأنه سؤال تقريع فلا جواب له.
وكأن سائلا سأل وقال: ماذا حصل منهم عند هذا السؤال؟ والجواب أنه حصل منهم التنازع والتخاصم بين الرؤساء والمتبوعين، وبين العوام والتابعين، وقد حصل منهم كلما اشتد بهم الأمر مثل هذا الخصام ألا ترى إلى قوله- تعالى- في سورة إبراهيم وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. الآية ٢١.
وهنا قال الذين حق عليهم القول، والمراد قال الذين ثبت عليهم مقتضاه، وتحقق فيهم مؤداه، وهذا القول قاله تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة آية ١٣، ص ٨٥].
هؤلاء الذين حق عليهم القول وثبت هم رؤساء الضلالة، وقادة الشرك الذين اتبعهم وقلدهم الناس، قالوا اعتذارا أو ردا لقول العوام إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالوا: هؤلاء- الإشارة إلى الأتباع والعوام- أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان كما اثرنا نحن فلا فرق بيننا وبينهم، ونحن وإن كنا دعوناهم إلى الكفر فقد كان ذلك في مقابلة دعاء الله- تعالى- لهم إلى الإيمان. بما غرس فيهم من تفكير وأوجد فيهم من قوى عاقلة، وبما أرسل إليهم من رسل، وأنزل عليهم من كتب مشحونة بالوعد والوعيد والوعظ والزجر، وناهيك بذلك صارفا عن دعائنا لو كانوا ممن شرح الله صدرهم للإسلام. فهؤلاء الذين أغوينا أغويناهم فغووا كما غوينا.
فالخلاصة: أننا جميعا سواء في استحقاق ما نحن فيه من عذاب، ونحن نتبرأ إليك منهم، ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم، ويطيعون شياطينهم.
وقيل لهم أيضا: ادعوا شركاءكم ينصرونكم من دون الله، ويمنعون عنكم من عذابه شيئا فدعوهم وألحوا في دعائهم فلم يستجيبوا لهم، وكيف يستجيبون يوم القيامة؟
وقد كانوا في الدنيا صمّا بكما وعميا، بل هم جماد وأحجار:
ورأى المشركون النار، وذاقوا العذاب وأبصروه، فيا ليتهم كانوا مهتدين في الدنيا.
واذكر يوم يناديهم تقريعا وتوبيخا لهم فيقول: ماذا أجبتم المرسلين؟
842
روى أنه إذا مات الميت سئل عن ربه، وعن نبيه وعن دينه، أما المسلم فيقول:
ربي الله، ونبيي محمد صلّى الله عليه وسلم، وديني الإسلام دين الفطرة، والتوحيد الخالص البريء، وأما الكافر والمشرك فلا يجيب بشيء، بل يسكت، إذ من كان في هذا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيل، ولهذا قال الله: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ بل يسكتون.
وانظر إلى قوله: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ وما فيها من بلاغة!!.
فأما من تاب إلى الله وآمن بالله، وصدق رسول الله، وعمل عملا صالحا لوجه الله فعسى أن يكون من المفلحين الفائزين، وعسى في كلام صاحب الملك والملكوت للتحقيق..
وهكذا يضرب الله الأمثال، ويبين للمؤمنين والكافرين الأحوال، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فاعتبروا بذلك يا أولى الأبصار.
الله سبحانه وتعالى متصف بصفات الجلال والكمال [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٨ الى ٧٥]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
843
المفردات:
الْخِيَرَةُ أى الاختيار تُكِنُّ تخفى سَرْمَداً دائما مأخوذ من السرد وهو المتابعة تَسْكُنُونَ فِيهِ تهدءون فيه وتستريحون وَنَزَعْنا أخرجنا وَضَلَّ عَنْهُمْ تاه.
المعنى:
وربك يا محمد صاحب الجلالة، إليه الأمر كله، وهو المنزه عن كل نقص، الموصوف بكل حمد، الرحمن الرحيم، صاحب الفضل العميم، يخلق ما يشاء لا معقب عليه، ولا راد له، ويختار ما يشاء من الأفعال والأحكام، ومن يشاء من الخلق لما يشاء من الأمر، وهذا متصل بذكر الشركاء لله والشفعاء له، وقيل هو رد لكلام الوليد بن المغيرة حين قال: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعنى بذلك نفسه وعروة بن مسعود الثقفي شيخ الطائف.
وهذا عجب وأى عجب؟! أهم يقسمون رحمة ربك؟ أهم أوصياء على فاطر السموات والأرض، أليس الله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعلم بخلقه وأحوالهم واستعدادهم أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ سبحان الله وتعالى عما يشركون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وتخفيها، وما تبديها وتعلنها إذ هو العليم بذات
844
الصدور، وهو الله جل جلاله؟ لا إله إلا هو، ولا معبود في الوجود بحق إلا هو، له الحمد في الدنيا والآخرة، وفي الأولى والثانية، وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله، وإليه وحده ترجع الخلائق يوم القيامة. هذه حقائق تشهد بها آيات الله الكونية، وآياته القرآنية.
قل لهم يا محمد أخبرونى: إن جعل الله عليكم الليل دائما بلا نهار إلى يوم القيامة! هل هناك إله غير الله يأتيكم بضياء تتمتعون به؟ أفلا تسمعون ذلك سماع تفهم وتدبر؟!! قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار دائما إلى يوم القيامة، هل هناك إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه وتهدءون؟ أفلا تبصرون هذه الحقائق فتعرفون لصاحبها- جل جلاله- حقه الكامل، وتصفونه بصفات الجلال والكمال، وتنزهونه عن صفات الحوادث والمخلوقات.
ومن رحمته بخلقه جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، والنهار لتبصروا فيه منافعكم وتحصلوا أمور معاشكم، ولتشكروا فيه ربكم على ما أسدى لكم من نعمة. وما حباكم به من فضل.
وإن من يذهب إلى البلاد الشمالية الواقعة جهة القطب الشمالي مثلا ويرى انعدام الحياة فيها لأن النهار قد يمكث ستة أشهر، والليل كذلك أو قريبا منه يدرك السر في اختلاف الليل والنهار، وتعاقبهما، وما في ذلك من النعم التي لا تحصى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [سورة الفرقان آية ٦٢].
يا عجبا! هذه آيات ناطقة بأنه القادر وحده على كل شيء، الواحد ذاتا وصفة وفعلا وله الأمر، ومع هذا فبعض الخلائق تدعى له شركاء لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب!!.
واذكر يوم يناديهم فيقول لهم: أين شركائى الذين كنتم تزعمون؟! ولعل النداء كرر لاختلاف الحالتين ينادون مرة- كما سبق- فيدعون الأصنام فلا يستجيبون فتظهر حيرتهم، ثم ينادون مرة أخرى- كما هنا- فيسكتون ولا يجدون جوابا، وهذا توبيخ لهم وتأنيب، ويقول القرطبي رحمه الله. والمناداة هنا ليست من الله لأنه تعالى لا يكلم الكفار لقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكتهم،
845
ويقيم الحجة عليهم في مقام الحساب، وقيل: يحتمل أن يكون من الله ويكون قوله:
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ محمولا على بعض الأحوال حين يقال لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون آية ١٠٨].
ونزعنا من كل أمة شهيدا يشهد عليهم بأعمالهم في الدنيا، وهو رسولهم الذي أرسل لهم، ثم يأتى محمد صلّى الله عليه وسلّم ويشهد على الأنبياء جميعا فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء آية ٤١] فقلنا: هاتوا برهانكم وحجتكم، فعلموا حينئذ أن الحق لله، وأن ما جاءت به الأنبياء حق وصدق، وضل عنهم ما كانوا يفترون.
وفي كتب التفسير عند تفسير قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ يحسن بمن يريد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا أن يستخير الله بأن يصلى ركعتين بنبيه صلاة الاستخارة، يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ الآية، وفي الركعة الثانية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ثم يدعو بعد السلام بهذا الدعاء، وهو ما
رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله، قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل. اللهم إنى أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمرى أو قال في عاجل أمرى وآجله. فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياى ومعاشي وعاقبة أمرى، أو قال في عاجل أمرى وآجله، فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به»
. قال:
ويسمى حاجته.
قصة المال والعلم وتأثيرهما في النفس الإنسانية [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٨٤]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
846
المفردات:
فَبَغى عَلَيْهِمْ تكبر عليهم أو ظلمهم الْكُنُوزِ كنز المال: جمعه وادخره، والكنز: المال المدفون وجمعه كنوز لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ لتثقل يقال ناء به الحمل ثقل عليه، والعصبة الجماعة من الناس وَابْتَغِ اطلب عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أوتيته على معرفة عندي وَيْلَكُمْ الويل: الهلاك أو العذاب، فخسفنا المراد جعلنا عاليها سافلها وَيْكَأَنَّهُ كلمة وى بمعنى أتعجب، وكأن للتشبيه وَيَقْدِرُ أى: يضيق ويقتر عُلُوًّا تكبرا وغلبة.
وهذه هي قصة المال والغرور بالعلم وكيف كان مآلهما بعد قصة الملك والسلطان وكيف كانت نهايتهما.
المعنى:
- إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم مع أنه منهم، وعاش معهم ولكنه لم يرع لذلك كله حرمة أو جوارا، وبغى عليهم حتى جمع ذلك المال الوفير، وبغى عليهم بتكبره وطغيانه وظلمه لهم.
وآتاه الله من الأموال المنقولة والثابتة ما إن علمه والإحاطة به والمحافظة عليه لتنوء به العصبة من أولى العلم والقوة وبعضهم يرى أن المعنى. وآتيناه من الكنوز والأموال ما إن مفاتيح خزائنه لتنوء بحملها العصبة من الرجال أولى القوة، ومنشأ هذا الخلاف في الرأى أن المفاتيح قد يراد بها العلوم والمعارف نظرا إلى قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [سورة الأنعام آية ٥٩] وقد يراد بها مفاتيح الخزائن المعروفة.
كان قارون من قوم موسى، وكان ذا مال وفير، والمقصود المهم من القصة هو ما يأتى:
اذكر وقت أن قال له قومه على جهة الوعظ والإرشاد.
848
لا تفرح وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض.
وهذه خمسة أصول مهمة، ومن تمسك بها وعمل بمقتضاها نجا من الدنيا وما فيها.
١- قالوا له: لا تفرح بدنياك فرحا مصحوبا بالبطر والأشر، والفتنة والغرور فالدنيا عرض زائل، وعارية مستردة يربح فيها من عرفها، ويخسر من اغتربها لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ.
ب- وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ نعم فالدنيا طريق الآخرة، هي المزرعة للباقية من زرع فيها الخير حصد، ومن أضاع عمره فيما لا يرضى ربه ندم والعاقل من طلب بدنياه آخرته، ومن ابتغى فيما آتاه الله الدار الآخرة والله- سبحانه- لا يطالبك بأن تعطى مالك كله، بل إن تنفق القليل طلبا لرضا الرب الجليل، ترجع بالخير الكثير والجزاء الجزيل.
ج- وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا نعم فهذا هو الطريق الوسط والرأى الرشد، أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وتعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، فليس من الدين الزهد في الدنيا حتى تتركها وتعيش عالة على غيرك، بل الدين يطالبك بالعمل والجد والغنى من طريق الحلال، فإذا جمعت المال فأعط حق الله فيه، ولا تنس نصيبك من الدنيا، أى: تمتع ببعضه بلا إسراف ولا تقتير، انظر إلى هذا النظام المحكم الدقيق الذي وضعه الحكيم البصير! د- وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ والإحسان هو الإتقان في العمل، وهو يقتضى إعطاء كل ذي حق حقه.
هـ- وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بالظلم أو العسف أو الكبر أو الإضرار بالناس فكل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها، إن الله لا يحب المفسدين بأى شكل كان.
انظر إلى قارون وقد أبى أن يقبل هذا النصح- لأنه غير موفق- بل زاد عليه بقوله: قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي!! بمعنى أنه أوتى هذا المال لفضل علمه وكمال استحقاقه له، أو المعنى أنه أوتيه على علم عنده بوجوه الكسب وطرق
849
الزيادة، وإنماء المال، كأنه قال إنما أوتيت هذا المال لفضل علمي وتمام مجهودي وتجاربي، فليس لأحد حق له في هذا المال، وكأنه ينكر إنعام الله عليه بتلك الأموال لاستحقاقه لها عن جدارة فهو حر التصرف.
ولقد رد الله عليه أبلغ رد حيث بين له حقيقة الأمر.
أعنده مثل هذا العلم الذي افتخر به وتعاظم، ورأى نفسه مستوجبة لكل نعمة، ولم يعمل به حتى يقي به نفسه مصارع السوء التي أهلك الله بها الطغاة المتجبرين الذين هم أشد منه قوة، وأكثر مالا وعددا، ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون، وهكذا يجب على الإنسان ألا يغتر بماله، وأولاده وجموعه مهما كانت، فإن الله إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، وليعلم المسلم أن الأيام دول، وأن الدهر قلب، وليعتبر بما حصل في الماضي، وليحصن ماله بالإنفاق.
هذا حال قارون مع ماله، وموقفه ممن وعظه، وغروره بنفسه واستمع إلى الناس، وقد انقسموا إلى فريقين: فريق ينظر نظرة سطحية، فتعميه الدنيا وزخارفها عن الوضع السليم والطريق المستقيم وآخر قد نور الله بصيرته فهو ينظر إلى الدنيا بعين العبرة والعظة، عين الرجل الفاهم للحقائق الذي لا تخدعه المظاهر الخلابة.
أما الفريق الأول فيقول، وقد خرج قارون في أكمل زينته وتمام أبهته: يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون، وإنه لذو حظ عظيم، نظر هؤلاء إلى من فوقهم فتمنوا أن يكونوا مثل قارون في غناه وأبهته، ونسوا أن لله في خلقه شئونا، وأن السعادة والخير ليس في المال الكثير، والجاه العريض، وإنما الخير والسعادة شيء وراء ذلك كله، ما دام العبد موصولا بربه، راضيا مرضيّا، ولقد عالج القرآن هذا الداء علاجا حاسما لأن الحق- تبارك وتعالى- يعلم خطره، إذ من يمد عينيه إلى مال غيره ويتمناه، يعود وقد امتلأ قلبه حسدا وحقدا، وناهيك بهذه الأخطار التي ينشأ عنها معظم الجرائم: اقرأ معى قوله- تعالى- لنبيه الكريم وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه ١٣٢].
أما الفريق الثاني فيقول ناصحا لأصحابه: ويلكم [هذه كلمة زجر] ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا فالسعادة فيه، والخير لصاحبه إذ هو دائم، لا تعب معه
850
ولا ضرر فيه، وهذا المال مصدر تعب وشقاء لصاحبه في الواقع ونفس الأمر كما نشاهد ذلك عند أغلب الأغنياء.
ولا يلقّاها إلّا الصابرون، أى: ولا يلقى هذه الحقائق ويعمل بها إلا الصابرون، ولا شك أن هذه الحقائق هي الإيمان والعمل الصالح، وإدراك ما يوصل إلى خيرى الدنيا والآخرة.
وقد جاءت نهاية قارون مؤيدة لما ذهب إليه أهل العلم والبصر بالدنيا والآخرة فخسف الله بقارون وبداره وبماله وبجموعه الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، ويمنعون عنه بأس الله وبطشه، حيث لم يعمل عملا صالحا يقربه إلى ربه، ولم يحصن ماله بالصدقة والزكاة، ولم يتقرب إلى الله وإلى الناس بترك الكبر والغرور والغطرسة، ولهذا كله كانت النتيجة أن ضاعت دنياه، وخسف الله به الأرض، والله على كل شيء قدير، وبعباده خبير بصير، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون:
وى [كلمة تفيد معنى التعجب] كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، نعم، الله وحده هو الذي يعطى ويمنع ويبسط الرزق لمن يشاء ويقتر، فلم يعط إنسانا لعقله وعلمه، ولم يحرم آخر لجهله وسوء رأيه، بل الأمر كله لله، وإذا كان كذلك فالواجب هو امتثال أمر الله، ومخالفة النفس الأمارة بالسوء، وترك الغرور والكبر فإن الأمر كله بيد الله، وهو صاحب الأمر، لولا أن من الله علينا لأصابنا ما أصاب قارون، وى كأنه لم يفلح الكافرون حقيقة، وما هم فيه في الدنيا فهو استدراج لهم، وفتنة لغيرهم، تلك الدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم دائم لا تعب ولا مشقة معه يجعلها ربك للذين لا يريدون علوّا في الأرض على غيرهم، ولا يريدون فسادا والعاقبة للمتقين، وانظر إلى قوله تعالى: لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً حيث علق الوعد بترك إرادة العلو والفساد وميل القلب إليهما، لا بفعلهما مبالغة في تحذير المؤمنين وإبعادهم عن هذه الأمراض الخطيرة التي تبيد الأمم، وتهلك الأفراد والجماعات.
ولا غرابة في ذلك كله فإن هناك قانونا وسنة لا تتخلف هي: من جاء بالحسنة فله خير منها، أى: ثواب خير منها وهو عشر أمثالها. والله يضاعف لمن يشاء، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها فقط جزاء لعمله، وربك ذو فضل عظيم، إذ لا يجزى بالسيئة إلا مثلها، ويجزى بالحسنة عشر أمثالها، إن ربك واسع المغفرة.
851
البشرى بالعودة إلى مكة [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٥ الى ٨٨]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
المفردات:
فَرَضَ أنزله عليك مَعادٍ قيل: هو المقام المحمود الذي وعد أن يبعث فيه وقيل: هو مكة إذ معاد الرجل بلده لأنه ينصرف منها ثم يعود إليها ظَهِيراً معينا وناصرا يقول الفخر الرازي في تفسيره: ثم إنه- سبحانه وتعالى- لما شرح لرسوله أمر يوم القيامة واستقصى في ذلك. شرح له ما يتصل بأحواله فقال: إن الذي فرض عليك القرآن...
المعنى:
يقول الله- سبحانه وتعالى- إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ وأنزله عليك إنزالا له أثره ومغزاه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وهو المقام المحمود الذي وعد أن يبعث فيه بعد الموت، وقيل المعنى: إن الذي أنزل عليك القرآن لرادك إلى مكة بلدك الحبيب الذي انصرفت منه وستعود إليه فاتحا منتصرا بعد خروجك منه مهاجرا، وتكون الآية نزلت على النبي وهو بمكة متحملا لأذى قومه صابرا على آلامهم، وعلى هذا فهي
852
من باب المغيبات، وهذا الرأى هو الأصح، لأنه دليل على النبوة من حيث صدق خبره.
قل لهؤلاء المشركين: ربي هو العالم البصير الذي يعلم الغيب والشهادة، وهو أعلم بمن جاء بالهدى من عنده، ومن هو في ضلال بين ظاهر، فينصر الأول ويعصمه من الناس ويؤيده، وأما من هو في الضلال والكفر فهو المخذول، وستكون الدائرة عليه، وسيعاقبه على ضلاله عقابا صارما شديدا.
وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب، ولا تأمل إنزال هذا القرآن المحكم البين الكامل في كل شيء، لكن رحمة من ربك وفضلا وإحسانا ألقى إليك هذا الكتاب الذي لا ريب فيه، وهو هدى للناس وآيات للمتقين.
وإذا كان الأمر كذلك فها هي ذي تكاليف خمسة يجب عليك أن تحرص عليها إذ هي دعائم الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة.
١- فلا تكونن ظهيرا ومعينا للكفار بحال من الأحوال بل كن ظهيرا للمسلمين ومعينا لهم، والله معك وعاصمك من النّاس جميعا وحافظك.
٢- ولا يمنعك عن تبليغ آيات الله كلها بعد إذ أنزلت عليك مانع أبدا مهما كان يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة آية ٦٧].
٣- وادع إلى ربك وإلى دينه بكافة الطرق، متشددا في ذلك أو متساهلا تبعا للظروف ولا يهمك أمرهم.
٤- ولا تكونن من المشركين لأن من رضى عن طريقتهم أو مال إليها كان منهم.
٥- ولا تدع مع الله إلها آخر في أى عمل من الأعمال، ومعلوم أن النبي صلّى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفعل شيئا من ذلك حتى ينهى عنه، والجواب أن هذا من باب [إياك أعنى واسمعي يا جارة] فالكلام مع النبي والمراد غيره، وإنما كان ذلك كذلك تعظيما لأمر هذه الأشياء.
وكيف تدعو مع الله إلها آخر؟ وهو الله لا إله إلا هو، كل شيء غيره في العالم هالك لأن وجوده ليس لذاته بل مستند إلى واجب الوجود، فكل شيء سوى الله
853
Icon