تفسير سورة القصص

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة القصص من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ الْقَصَصِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ تَعَالَى: (طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣)).
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَتْلُوا عَلَيْكَ) : مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِفَتُهُ، وَتَقْدِيرُهُ: شَيْئًا مِنْ نَبَأِ مُوسَى. وَعَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ «مِنْ» زَائِدَةٌ.
وَ (بِالْحَقِّ) : حَالٌ مِنَ النَّبَأِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْتَضْعِفُ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِشِيَعًا، وَ «يُذَبِّحُ» تَفْسِيرٌ لَهُ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ «يَسْتَضْعِفُ» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مُسْتَأْنَفَيْنِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْهُمْ) : يَتَعَلَّقُ بِـ «نُرِيَ» وَلَا يَتَعَلَّقُ بِـ «يَحْذَرُونَ» ؛ لِأَنَّ الصِّلَةَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْصُولِ.
وَ (أَنْ أَرْضِعِيهِ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «أَنْ» مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ.
قَالَ تَعَالَى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَكُونَ لَهُمْ) : اللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ لَا لَامُ الْغَرَضِ.
وَالْحُزْنُ وَالْحَزَنُ لُغَتَانِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُرَّةُ عَيْنٍ) : أَيْ هُوَ قُرَّةُ عَيْنٍ.
وَ (لِي وَلَكَ) : صِفَتَانِ لِقُرَّةٍ؛ وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى «لَا» وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: تَقْتُلُونَهُ؛ أَيْ أَتَقْتُلُونَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَلَا جَازِمَ عَلَى هَذَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَارِغًا) : أَيْ مِنَ الْخَوْفِ.
وَيُقْرَأُ: «فِرْغًا» بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ؛ كَقَوْلِهِمْ: ذَهَبَ دَمُهُ فِرْغًا؛ أَيْ بَاطِلًا؛ أَيْ أَصْبَحَ حَزْنُ فُؤَادِهَا بَاطِلًا. وَيُقْرَأُ: «فَرِعًا» وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَيُقْرَأُ: «فَرِغًا» أَيْ خَالِيًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرِغَ الْفِنَاءُ، إِذَا خَلَا.
وَإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى مَا، وَقَدْ ذُكِرَتْ نَظَائِرُهُ.
وَجَوَاب لَوْلَا مَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ إِن كَادَت
و ﴿لتَكون﴾ اللَّام مُتَعَلقَة بربطنا
قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَنْ جُنُبٍ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ إِمَّا مِنَ الْهَاءِ فِي «بِهِ» أَيْ بَعِيدًا، أَوْ مِنَ الْفَاعِلِ فِي «بَصُرَتْ» أَيْ مُسْتَخْفِيَةً.
وَيُقْرَأُ: عَنْ جُنُبٍ، وَعَنْ جَانِبٍ وَالْمَعْنَى: مُتَقَارِبٌ.
وَ (الْمَرَاضِعَ) : جَمْعُ مُرْضِعَةٍ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مُرْضِعٍ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ.
وَ (لَا تَحْزَنْ) : مَعْطُوفٌ عَلَى «تَقَرَّ».
وَ (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ) : حَالٌ مِنَ الْمَدِينَةِ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ؛ أَيْ مُخْتَلِسًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) : الْجُمْلَتَانِ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ صِفَةٍ لِرَجُلَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) أَيْ مِنْ تَحْسِينِهِ، أَوْ مِنْ تَزْيِينِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِمَا أَنْعَمْتَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ.
وَ (فَلَنْ أَكُونَ) : تَفْسِيرٌ لَهُ؛ أَيْ لَأَتُوبَنَّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْطَافًا؛ أَيْ كَمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَاعْصِمْنِي فَلَنْ أَكُونَ.
وَ (يَتَرَقَّبُ) : حَالٌ مُبْدَلةٌ مِنَ الْحَالِ الْأُولَى، أَوْ تَأْكِيدًا لَهَا، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «خَائِفًا».
وَ (إِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ، وَمَا بَعْدَهَا مُبْتَدَأٌ، وَ «يَسْتَصْرِخُهُ» الْخَبَرُ، أَوْ حَالٌ؛ وَالْخَبَرُ «إِذَا».
قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُصْدِرَ) : يُقْرَأُ بِصَادٍ خَالِصَةٍ، وَبِزَايٍ خَالِصَةٍ لِتُجَانِسَ الدَّالَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَصْلِهَا؛ وَهَذَا إِذَا سَكَنَتِ الصَّادُ، وَمَنْ ضَمَّ الْيَاءَ حَذَفَ الْمَفْعُولَ؛ أَيْ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ مَاشِيَتَهُمْ.
وَالرِّعَاءُ بِالْكَسْرِ: جَمْعُ رَاعٍ، كَقَائِمٍ وَقِيَامٍ. وَبِضَمِّ الرَّاءِ؛ وَهُوَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ، كَالتُّؤَامِ وَالرُّخَالِ. وَ «عَلَى اسْتِحْيَاءٍ» : حَالٌ.
وَ (مَا سَقَيْتَ لَنَا) : أَيْ سَقْيِكَ فَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ.
وَ (هَاتَيْنِ) : صِفَةٌ، وَالتَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ قَدْ ذُكِرَ فِي النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاللَّذَانِ).
وَ (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، كَقَوْلِكَ: أَنْكَحْتُكَ عَلَى مِائَةٍ؛ أَيْ مَشْرُوطًا عَلَيْكَ، أَوْ وَاجِبًا عَلَيْكَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ.
وَ (ثَمَانِيَ) : ظَرْفٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمِنْ عِنْدِكَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ فَالتَّمَامُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ أَيْ فَقَدْ أَفْضَلْتَ مِنْ عِنْدِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ) : مُبْتَدَأٌ. وَ «بَيْنِي وَبَيْنَكَ» : الْخَبَرُ. وَالتَّقْدِيرُ: بَيْنَنَا.
وَ (أَيَّمَا) : نُصِبَ بِـ «قَضَيْتُ» وَمَا زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: نَكِرَةٌ، وَ «الْأَجَلَيْنِ» : بَدَلٌ مِنْهَا، وَهِيَ شَرْطِيَّةٌ؛ وَ «فَلَا عُدْوَانَ» جَوَابُهَا.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)).
وَالْجَذْوَةُ - بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَالضَّمِّ لُغَاتٌ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِنَّ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ يَامُوسَى) : أَنْ مُفَسِّرَةٌ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ قَوْلٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيْ يَا مُوسَى.
وَقِيلَ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: بِأَنْ يَا مُوسَى.
قَالَ تَعَالَى: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٣٢) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنَ الرَّهْبِ) :«مِنْ» مُتَعَلِّقَةٌ بِوَلَّى؛ أَيْ هَرَبَ مِنَ الْفَزَعِ. وَقِيلَ: بِـ «مُدْبِرًا».
وَقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ؛ أَيْ يَسْكُنُ مِنَ الرَّهْبِ. وَقِيلَ: بِاضْمُمْ، أَيْ مِنْ أَجْلِ الرَّهْبِ. وَالرَّهْبُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ، وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ، وَبِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ لُغَاتٌ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِنَّ.
(فَذَانِكَ) : بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا؛ وَقَدْ بَيَّنَ فِي (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا) [النِّسَاءِ: ١٦]. وَقُرِئَ شَاذًّا «فَذَانِيكَ» بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا، قِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنْ إِحْدَى النُّونَيْنِ. وَقِيلَ: نَشَأَتْ عَنِ الْإِشْبَاعِ. وَ (إِلَى) : مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ؛ أَيْ مُرْسَلًا إِلَى
فِرْعَوْنَ. وَ (رِدْءًا) : حَالٌ. وَيُقْرَأُ بِإِلْقَاءِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى الرَّاءِ وَحَذْفِهَا. وَ (يُصَدِّقُنِي) : بِالْجَزْمِ عَلَى الْجَوَابِ، وَبِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِرِدْءًا، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِيهِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِآيَاتِنَا) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيَصِلُونَ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ «الْغَالِبُونَ».
وَ (تَكُونُ) : بِالتَّاءِ: عَلَى تَأْنِيثِ الْعَاقِبَةِ، وَبِالْيَاءِ؛ لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى «مَنْ».
وَ (لَهُ عَاقِبَةُ...) : جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ. أَوْ تَكُونُ تَامَّةً، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) الثَّانِيَةُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ «فِي هَذِهِ» ؛ أَيْ وَأَتْبَعْنَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ؛ أَيْ وَأَتْبَعْنَاهُمْ لَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِـ «الْمَقْبُوحِينَ» عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ، لَا بِمَعْنَى الَّذِي. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّبْيِينِ؛ أَيْ وَقُبِّحُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ فُسِّرَ بِالصِّلَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَصَائِرَ) : حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ؛ وَكَذَلِكَ «هَدًى وَرَحْمَةً».
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ) : أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً؛ أَيْ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ؛ وَلَكِنْ حُوِّلَ عَنْ ذَلِكَ وَجُعِلَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ؛ إِذْ كَانَتْ هِيَ الْمَوْصُوفَ فِي الْمَعْنَى، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ خَطَأٌ؛ وَالتَّقْدِيرُ: جَانِبُ الْمَكَانِ الْغَرْبِيِّ.
وَ (إِذْ) : مَعْمُولُهُ لِلْجَارِّ، أَوْ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
(وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) : أَيْ إِذْ قَضَيْنَا.
وَ (تَتْلُو) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ خَبَرًا ثَانِيًا، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي ثَاوِيًا.
وَ (لَكِنْ رَحْمَةً) أَيْ أَعْلَمْنَاكَ ذَلِكَ لِلرَّحْمَةِ، أَوْ أَرْسَلْنَاكَ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (٤٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالُوا سِحْرَانِ) : هُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا. وَسَاحِرَانِ بِالْأَلِفِ: أَيْ مُوسَى وَهَارُونُ.
وَقِيلَ: مُوسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا.
وَسِحْرَانِ - بِغَيْرِ أَلِفٍ؛ أَيِ الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)).
وَ (مَنْ أَضَلُّ) : اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ؛ أَيْ لَا أَحَدَ أَضَلُّ.
وَ (وَصَّلْنَا) : بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى.
وَ (الَّذِينَ) : مُبْتَدَأٌ، وَ «هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» : خَبَرُهُ.
وَ (مَرَّتَيْنِ) : فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا) : عَدَّاهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ نُمَكِّنْ: نَجْعَلْ؛ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا) [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٧].
وَ (آمِنًا) ؛ أَيْ مِنَ الْخَسْفِ، وَقَصَدَ الْجَبَابِرَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يُؤْمَنُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، أَوْ ذَا أَمْنٍ.
وَ (رِزْقًا) : مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى يُجْبَى.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨)).
وَ (كَمْ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «أَهْلَكْنَا».
وَ (مَعِيشَتَهَا) : نُصِبَ بِبَطِرَتْ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: كَفَرَتْ نِعْمَتَهَا، أَوْ جَهِلَتْ شُكْرَ مَعِيشَتِهَا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فِي مَعِيشَتِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ فِي: (سَفِهَ نَفْسَهُ) [الْبَقَرَةِ: ١٣٠].
وَ (لَمْ تُسْكَنْ) : حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْإِشَارَةُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) [هُودٍ: ٧٢].
وَ (إِلَّا قَلِيلًا) : أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ فَالْمُؤْتَى مَتَاعٌ.
قَالَ تَعَالَى: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ هُوَ) : مَنْ أَسْكَنَ الْهَاءَ شَبَّهَ «ثُمَّ» بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَؤُلَاءِ) : فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَ «الَّذِينَ أَغْوَيْنَا» صِفَةٌ لِخَبَرِ «هَؤُلَاءِ» الْمَحْذُوفِ؛ أَيْ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا.
وَ (أَغْوَيْنَاهُمْ) : مُسْتَأْنَفٌ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ فِي التَّذْكِرَةِ؛ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «أَغْوَيْنَاهُمْ» خَبَرًا، وَ «الَّذِينَ أَغْوَيْنَا» صِفَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي صِفَةِ الْمُبْتَدَأِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «كَمَا غَوَيْنَا» وَفِيهِ زِيَادَةٌ؟.
قِيلَ: الزِّيَادَةُ بِالظَّرْفِ لَا تُصَيِّرُهُ أَصْلًا فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الظُّرُوفَ فَضَلَاتٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ «هَؤُلَاءِ» مُبْتَدَأً، وَ «الَّذِينَ» صِفَةً. وَ «أَغْوَيْنَاهُمْ» الْخَبَرَ مِنْ أَجْلِ مَا اتَّصَلَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَرْفًا؛ لِأَنَّ الْفَضَلَاتِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَلْزَمُ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ عَمْرٌو فِي دَارِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) :«مَا» نَافِيَةٌ. وَقِيلَ: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ أَيْ مِنْ عِبَادَتِهِمْ إِيَّانَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) :«مَا» هَاهُنَا: نَفِيٌ أَيْضًا.
وَقِيلَ: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ؛ أَيْ يَخْتَارُ اخْتِيَارَهُمْ، بِمَعْنَى مُخْتَارِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَرْمَدًا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ اللَّيْلِ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِجَعَلَ.
وَ (إِلَى) : يَتَعَلَّقُ بِسَرْمَدًا، أَوْ بِجَعَلَ، أَوْ يَكُونُ صِفَةً لِسَرْمَدًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) : التَّقْدِيرُ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَارَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنْ مَزَجَ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى.
وَ (هَاتُوا) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ) :«مَا» بِمَعْنَى الَّذِي فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِآيَاتِنَا؛ وَإِنَّ وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا صِلَةُ الَّذِي، وَلِهَذَا كُسِرَتْ «إِنَّ».
وَ (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) : أَيْ تُنِيءُ الْعُصْبَةَ، فَالْبَاءُ مُعَدِّيَةٌ مُعَاقِبَةٌ لِلْهَمْزَةِ فِي أَنَأْتُهُ؛ يُقَالُ: أَنَأْتُهُ، وَنُؤْتُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: تُثْقَلُ الْعُصْبَةُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْقَلْبِ؛ أَيْ لَتَنُوءُ بِهِ الْعُصْبَةُ.
وَ (مِنَ الْكُنُوزِ) : يَتَعَلَّقُ بِآتَيْنَاهُ. وَ (إِذْ قَالَ لَهُ) : ظَرْفٌ لِآتَيْنَاهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ؛ أَيْ بَغَى إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيمَا آتَاكَ) :«مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ؛ أَيْ وَابْتَغِ مُنْقَلَبًا فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ أَجْرَ الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِابْتَغِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى عِلْمٍ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَ (عِنْدِي) : صِفَةٌ لِعِلْمٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِأُوتِيتُهُ؛ أَيْ أُوتِيتُهُ فِيمَا أَعْتَقِدُ عَلَى عِلْمٍ.
وَ (مِنْ قَبْلِهِ) : ظَرْفٌ لِأَهْلَكَ، وَ «مِنْ» : مَفْعُولُ أَهْلَكَ.
وَ (مِنَ الْقُرُونِ) : فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَهْلَكَ، وَتَكُونُ «مِنَ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «مَنْ» كَقَوْلِكَ: أَهْلَكَ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ زَيْدًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يُسْأَلُ) : يُقْرَأُ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَبِتَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ؛ وَ «الْمُجْرِمُونَ» : الْفَاعِلُ؛ أَيْ لَا يَسْأَلُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ عُقُوبَةِ ذُنُوبِهِمْ لِاعْتِرَافِهِمْ بِهَا.
وَيُقْرَأُ «الْمُجْرِمِينَ» أَيْ لَا يَسْأَلُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي زِينَتِهِ) : هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي خَرَجَ.
وَ (وَيْلَكُمْ) : مَفْعُولُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ أَلْزَمَكُمُ اللَّهُ وَيْلَكُمْ.
وَ (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ) : مِثْلُ قَوْلِهِ: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٨]. وَقَدْ ذُكِرَ.
(وَلَا يُلَقَّاهَا) : الضَّمِيرُ لِلْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا الْعُلَمَاءُ، أَوْ لِلْإِنَابَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الثَّوَابِ. أَوْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢) وَ (بِالْأَمْسِ) : ظَرْفٌ لِتَمَنَّوْا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «مَكَانَهُ» لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكَانِ هُنَا الْحَالَةُ وَالْمَنْزِلَةُ، وَذَلِكَ مَصْدَرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ) :«وَيْ» عِنْد الْبَصرِيين مُنْفَصِلَة عَن الْكَاف وَالْكَاف مُتَّصِلَة بِأَن وَمعنى وي تَعَجّب، وَكَأَنَّ الْقَوْمَ نُبِّهُوا فَانْتَبَهُوا، فَقَالُوا: وَيْ كَأَنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَكَذَا؛ وَلِذَلِكَ فُتِحَتِ الْهَمْزَةُ مِنْ «أَنَّ».
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَافُ مَوْصُولَةٌ بِوَيْ؛ أَيْ وَيْكَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى الْخِطَابِ هُنَا بَعِيدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ «وَيِ اعْلَمْ» لَا نَظِيرَ لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ سَائِغٍ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
(لَخَسَفَ) : عَلَى التَّسْمِيَةِ وَتَرْكِهَا، وَبِالْإِدْغَامِ وَالْإِظْهَارِ.
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ عَلَى التَّخْفِيفِ؛ وَالْإِدْغَامُ عَلَى هَذَا مُمْتَنِعٌ.
قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الدَّارُ) :«تِلْكَ» مُبْتَدَأٌ، وَ «الدَّارُ» نَعْتٌ، وَنَجْعَلُهَا الْخَبَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ) :«مَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) [الْأَنْعَامِ: ١١٧] فِي الْأَنْعَامِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (٨٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا رَحْمَةً) : أَيْ وَلَكِنْ أُلْقِيَ رَحْمَةً، أَيْ لِلرَّحْمَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا وَجْهَهُ) : اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ؛ أَيْ إِلَّا إِيَّاهُ، أَوْ مَا عُمِلَ لِوَجْهِهِ سُبْحَانَهُ.
Icon