تفسير سورة القصص

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة القصص من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
سورة القصص مكية
وآياتها ثمان وثمانون
كلماتها : ١٤٤١- حروفها ٥٨٠٠

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ طسم١ تلك آيات الكتاب المبين ٢ ﴾.
ربما تكون الطاء من ﴿ طسم ﴾ إشارة إلى اسم الله( لطيف )والسين إلى اسمه الكريم )سميع ) والميم إلى الاسم الجليل( مجيب(، أو سيقت للتحدي- كما سبق وأسلفنا- أو هي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، هذه الآيات المحكمات والسور المباركات والكلمات الصادقات التامات، آيات الكتاب الذي لا يعادله كتاب، الواضح، المظهر لحقائق الأمور، والمبدأ والمصير، المبين للحق من الباطل، المفصل لما نؤمن به، وما يقرب من رضوان الله عز وجل، [ هذه آيات الكتاب الذي أنزلته إليك يا محمد، المبين أنه من عند الله، وأنك لم تتقوله ولم تتخرصه، وكان قتادة فيما ذكر عنه يقول :... مبين والله بركته ورشده وهداه ]١.
١ مما أورد صاحب جامع البيان..
﴿ نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون٣ ﴾
يقرأ عليك أمين وحينا جبريل عليه السلام بأمرنا بعض أخبار عظيمة عن حال موسى كليمنا- عليه صلاتنا وسلامنا- إذا أرسلناه إلى فرعون بالصدق الذي لا ريب فيه، لقوم يصدقون، [ نتلو شيئا من نبئهما ملتبسا بالحق.. وقوله تعالى :﴿ لقوم يؤمنون ﴾ متعلق ب﴿ نتلو ﴾، واللام للتعليل، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الدعوة والبيان لأنهم المنتفعون به، وقد تقدم الكلام في شمول﴿ يؤمنون ﴾ للمؤمنين حالا واستقبالا ]١.
١ ما بين العلامتين[ ] أورده صاحب روح المعاني..
﴿ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين٤ ﴾
استكبر فرعون وتأله وتجبر في أرض مصر، وجعل ساكنيها فرقا وطوائف، ففرقة : تتابعه على الباطل )فاستخف قومه فأطاعوه( ١ وفرقة تملي له في الغي وتمده :)... أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك.. ( ٢، وطائفة يستخدمها ويقهرها، وهم- والله أعلم- بنو إسرائيل، يقتل ولدانهم أطفالا صغارا، ويسترق نساءهم ويتركهن أحياء، إنه كان من الممعنين في الفساد، المتجبرين على العباد.
١ سورة الزخرف. من الآية ٥٤..
٢ سورة الأعراف. من الآية ١٢٧..
﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين٥ ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون٦ ﴾
أراد فرعون بعتوه وعلوه أن يستديم تسلطه وقهره وتملكه، وأردنا أن نتفضل على من استضعفهم فرعون وأذلهم وذبح أبناءهم، نتفضل على من قهروا فنجعلهم قادة وملوكا يتسع سلطانهم حتى تصبح الأرض التي يحكمها فرعون ميراثا لهم، بعد أن نهلك الطاغية وكبار أعوانه وعامة جنده على أيدي الإسرائيليين الذين كانوا يحذرونهم أن يزيلوا ملكهم، وكان القبط- أهل مصر يومئذ- قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام حين ورد الديار المصرية وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخذها جارية فصانها الله منه، ومنعه منها بقدرته وسلطانه، فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك ملك مصر على يديه، فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون، فاحترز فرعون من ذلك، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر، لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ولكل أجل كتاب-١ [ أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل.. قال قتادة : كان حازيا لفرعون- والحازي : المنجم- قال إنه سيولد في هذه السنة مولود يذهب بملكك، فأمر فرعون بقتل الولدان في تلك السنة ]٢.
١ مما نقل ابن كثير..
٢ مما نقل القرطبي..
﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين٧ ﴾
ألهم الله تعالى أم موسى إذا وضعته أن ترضعه، فإذا خشيت عليه من هلاك يتهدده فلتقذف به في النهر- نهر النيل- ولا تخافي عليه البحر ولا تحزني لفراقه إنا سنعيده إليك عما قليل، وبعد حين نجعله رسولا، وفعل الله ذلك بها وبه عليه السلام.
أورد الطبري أقوالا في وقت إلقائه، وهل أمرت أن تلقيه في اليم بعد ولادتها إياه ثم إرضاعه ؟ أم كان بعد مدة انقضت بين ولادته وبين صنع الصندوق قد تكون أربعة أشهر، ثم قال : وأولى قول- قيل في ذلك- بالصواب أن يقال : إن الله- تعالى ذكره- أمر أم موسى أن ترضعه فإذا خافت عليه من عدو الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليم، فجائز أن تكون خافتهم عليه بعد ولادتها وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادتها إياه، وأي ذلك كان فقد فعلت ما أوحى الله إليها فيه، ولا خبر قامت به حجة، ولا في فطرة العقل بيان أي ذلك كان من أي، فأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال جل ثناؤه.. اه.
يقول اللغويون : جمع الله تعالى في هذه الآية بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين...
جاء في[ الجامع لأحكام القرآن ] : واختلف في هذا الوحي إلى أم موسى، فقالت فرقة : كان قولا في منامها، وقال قتادة : كان إلهاما، وقالت فرقة : كان بملك.. وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية... قال مجاهد : وكان الوحي بالرضاع قبل الولادة، وقال غيره : بعدها اه.
وسبحان القوي القادر الذي لا يعجزه شيء ولا يفوت مراده، أرأيت إلى إنجاء طفل رضيع رهين صندوق ملقى في نهر جار ؟ ! فاعتبروا يا أولي الأبصار ! :)إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى. أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني( ١.
وإنها لذكرى لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أن تأتي البشرى بأنعم الله على موسى وأمه، وعلى المصريين والإسرائيليين بأن ربنا أراد أن يعز المستذلين ويسود المستعبدين، ويهلك الظالمين، وأن تقرن البشرى بمجيء موسى الذي يتحقق ببعثه مراد الله في إزهاق الباطل وتدمير المبطلين.
وليستبشر أهل الحق إلى يوم الدين، فإن سنة مولانا البر الرحيم تمضي في الآخرين كما مضت في الأولين :)... ولا تجد لسنتنا تحويلا( ٢.
١ سورة طه. الآيتان: ٣٨، ٣٩..
٢ سورة الإسراء. من الآية ٧٧..
﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين٨ ﴾
بتقدير العزيز العليم رسا الصندوق الذي بداخله موسى على ساحل أمام دار فرعون، وحبب إليهم أن يلتقطوه، فلما رأوه راعوه وصانوه، ومكر الله بهم، فسخرهم للحفاظ على من سيطوح بسلطانهم جزاء لتجبرهم وبغيهم، فاللام في ﴿ ليكون ﴾ للعاقبة وليست للتعليل، إذ ما التقطوه لأجل معاداتهم وحزنهم، وإنما أعقبهم الله ذلك بجورهم وعدوانهم.
وفي الآية تحذير من التعاون على الإثم، وبيان أن مشير فرعون﴿ هامان ﴾ وقوتهما الضاربة﴿ جنودهما ﴾ شركاء في الطغيان، فلا جرم يقاسمونه الهزيمة والخسران.
يقول الألوسي : والفاء في قوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ﴾ فصيحة- أي فاء للإفصاح- والتقدير : ففعلت ما أمرت به من إرضاعه وإلقائه في اليم لما خافت عليه، وحذف ما حذف تعويلا على دلالة الحال، وإيذانا بكمال سرعة الامتثال. اه.
﴿ وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون٩ ﴾
كأنما توجهت نفس فرعون إلى ذبح الوليد الصبوح، فناشدته امرأته أن يبقيه أملا في نفع ينالهم بسببه أو أن يتبنوه، وأخبرت زوجها بأن عينها تقر لمشهد هذا الغلام، وما نظن إلا أن زوجها كذلك.
وإنه لصنع الله الذي أتقن كل شيء أن يجعل لموسى هذا الود في القلوب، وينجيه وقد أحاطت به المهالك والخطوب، وبذلك يمتن عليه الولي الحميد سبحانه ).. يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني( ١، وما علموا أن المنتقم الجبار سيتبر به بنيانهم.
١ سورة طه. من الآية ٣٩..
﴿ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين١٠ ﴾
بعد أن قذفت أم موسى وليدها داخل صندوق في النهر، وذهب به الماء إلى حيث لا تعلم، أو إلى حيث لا تأمن، لم يبق في قلبها شيء إلا هم موسى، وملك الإشفاق عليه لبها حتى أوشكت أن تذيع خبره وتعلن أمره، لولا أن أفاض الله عليها صبرا لتبقى على يقينها في وعد الله أن يرده إليها.
﴿ وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون١١ ﴾
أمرت ابنتها- وكان اسمها مريم- أن تتبع أثره، وتتلمس مستقره، فعلمت ما كان من شأن التقاطه ونجاته، وكأنما لاحقت السعي حتى نظرت إليه من حيث لم يعلموا صلتها به.
﴿ *وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون١٢ ﴾
حرمنا عليه- تحريم منع لا تحريم شرع- أن يمتص لبنا من ثدي مرضع غير أمه، فكان كلما قرب من ثدي لفظه، حتى قالت لهم أخته : ألا أعرفكم مرضعا يقبلها وليدكم هذا، ويعنون برعايته ؟ لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرة الملك ! قالوا : هاتي.
﴿ فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون١٣ ﴾.
فلما علموا أنه قبل ذلك الثدي رضوا أن يتركوه إلى صاحبته، وهكذا أعاده الله تعالى إلى أمه لتطمئن عليه وتهنأ بالا ولا تغتم، ولتستيقن بأن تحقق موعود الله واقع لا محالة- علمت من قبل علم اليقين، ثم عاينت فعلمت عين اليقين- ولكن أكثر الفرعونيين شأن كل الضالين غفلوا عن حكيم تدبير ذي القوة المتين.
نقل صاحب غرائب القرآن : وجوز في الكشاف أن يتعلق الاستدراك بقوله :﴿ ولتعلم ﴾ المقصود أن الرد به إنما كان لهذا الغرض الديني، وهو العلم بصدق وعد الله﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أن هذا هو الغرض الأصلي الذي ما سواه تبع له، من قرة العين وذهاب الحزن.
ويقول صاحب تفسير القرآن العظيم :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أي حكم الله في أفعاله، وعواقبها المحمودة التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة، فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الأمر، كما قال تعالى :)... وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم... ( ١ وقال تعالى :)... فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا( ٢. اه
١ سورة البقرة. من الآية ٢١٦..
٢ سورة النساء. من الآية ١٩..
﴿ ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين١٤ ﴾
ولما اكتملت لموسى قواه البدنية والعقلية أعطيناه الحكمة العملية والحكمة النظرية، والله الولي الحميد يجزي من أحسن في عبادته وصبر على بليته الجزاء الأوفى.
عن ابن عباس : الأشد : ما بين الثمانية عشر إلى ثلاثين، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين.
وعن مجاهد :﴿ آتيناه حكما وعلما ﴾ قال : الفقه والعمل قبل النبوة.
ونقل : آتيناه سيرة الحكماء والعلماء قبل البعث فكان لا يفعل فعلا يستجهل به.
أورد صاحب غرائب القرآن :... عن الكشاف ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ فيه تنبيه على أنه كان محسنا في عمله، متقيا في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه، واعترض عليه : بأن النبوة غير مكتسبة، والحق أن الكل بفضل الله ورحمته، ولكن للوسائط والمعدات مدخل عظيم في كل ما يصل إلى الإنسان من الفيوض والآثار، فالأنوار السابقة تصير سببا للأضواء اللاحقة، وهلم جرا، عن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في كهالته. اه
أقول : والقرآن يشهد أن النقاء والصفاء يهيآن للمزيد من فيض السماء، وصدق المولى العلي الحكيم :).. الله أعلم حيث يجعل رسالته.. ( ١ ).. فأما الذين آمنوا فزادهم إيمانا.. ( ٢ )ويزيد الله الذين اهتدوا هدى.. ( ٣(.. وما يذكر إلا أولوا الألباب( ٤.
وجاء في جامع البيان : وقوله :﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ يقول تعالى ذكره : وكما جزينا موسى على طاعته إيانا وإحسانه بصبره على أمرنا، كذلك نجزي كل من أحسن من رسلنا وعبادنا فصبر على أمرنا، وأطاعنا، وانتهى عما نهيناه عنه. اه
١ سورة الأنعام. من الآية ١٢٤..
٢ سورة التوبة. من الآية ١٢٤..
٣ سورة مريم. من الآية ٧٦..
٤ سورة البقرة. من الآية ٢٦٩..
﴿ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين١٥ ﴾
كأن موسى عليه السلام كان مطاردا ومطلوبا من قبل فرعون وملئه- ربما لفعلته التي شوهت وجه فرعون إذ باغته فغير مظهره، أو هوى بالعصا على رأسه، وربما لأنه ضاق بباطلهم فأنكر عليهم وعاب دينهم فتربصوا به وبيتوا له الشر، فتخفى منهم، وبقي لا يغشى مدنهم ولا مجامعهم إلا فلتة أو بغتة- فدخل يوما إلى المدينة التي فيها فرعون، والجمهور على أنها عن فرسخين من مصر- يومذاك- وقال الضحاك : هي عين شمس، وأهلها في غفلة عنه لا يشعرون به، وحين دخل أبصر تضاربا بين إسرائيلي وقبطي، فطلب الإسرائيلي معونة موسى، فدفع موسى بالقبطي فسقط ميتا، فسارع موسى إلى الندم على ما حدث، وأن الشيطان حين يثير في النفس الغضب يورد الغاضب موارد الضلال، فعل العدو المظهر عداوته.
مما روى مسلم في صحيحه عن سالم بن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال الله عز وجل :).. وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا( ١ ".
١ سورة طه. من الآية. ٤..
﴿ قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له- إنه هو الغفور الرحيم١٦ ﴾
توجه موسى إلى ربه ضارعا أن يستر عليه خطيئته إذ خالف الأولى فقتل دون أن يؤمر، وقبل أن يؤذن له- وإن كان المقتول كافرا- فتقبل الله توبة موسى، وتجاوز عن مخالفته تلك، فإن المولى سبحانه واسع المغفرة والعفو والصفح والرحمة.
﴿ قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهير للمجرمين١٧ ﴾
كأنما ذلك عهد عاهد به موسى ربه، بحق ما أنعم به عليه من الهداية والولاية -إذ النبوة لم تكن قد جاءته بعد – رب فلن أعين كافرا على كافر.
وسياق الآيات في موضع آخر يبين أن موسى لم يوح إليه إلا بعد ذلك، يقول الله سبحانه- حكاية على لسان موسى مخاطبا فرعون- :)ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين( ١ والفاء تفيد الترتيب بين ما قبلها وما بعدها، فالفرار من طلبهم له متقدم، والرسالة جاءت من بعد.
كما أن الآيات التي سنعرض لتفسيرها-إن شاء الله – من هذه السورة بينت أن الخروج من المدينة فالتوجه إلى مدين فقضاء السنين هناك فالعودة بالأهل جاء على أثرها النداء الإلهي :﴿ .. يا موسى إني أنا الله رب العالمين ﴾٢.
قال الكسائي والفراء : إنه خبر ومعناه الدعاء، كأنه قال : فلا تجعلني ظهيرا.. وفي الآية دلالة على عدم جواز إعانة الظلمة٣.
١ سورة الشعراء. الآية ٢١..
٢ سورة القصص. من الآية ٣٠.
٣ أورد الألوسي: وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة.. قال: قال رجل لعامر: يا أبا عمرو إني رجل كاتب أكتب ما يدخل وما يخرج آخذ رزقا أستغني به أنا وعيالي، قال: فلعلك تكتب في دم يسفك، قال لا: قال: فلعلك تكتب في مال يؤخذ، قال: لا، قال: فلعلك تكتب في دار تهدم، قال: لا، قال: أسمعت بما قال موسى عليه السلام:﴿رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾ قال: أبلغت إلي يا أبا عمرو، والله- عز وجل – لا أخط لهم بقلم أبدا، قال: والله تعالى لا يدعك بغير رزق أبدا. ج ٢٠ص ٥٦.
وأورد القرطبي: قال عطاء: فلا يحل لأحد أن يعين ظالما ولا يكتب ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين، وفي الحديث: "ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم "... فالمشي مع الظالم لا يكون جرما إلا إذا مشى معه ليعينه، لأنه ارتكب نهي الله في قوله:).. ولا تعاونوا على الإثم والعدوان..(. ج ١٣ص، ٢٦٤. ٢٦٣
.

﴿ فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين ١٨ ﴾
في اليوم التالي أو عقب مقتل القطبي الذي وكزه موسى غدا ابن عمران عليه السلام يتوجس ويستعلم عما هم صانعون به من أجل قتيله، وينتظر مكروها قد يحل به، فإذا الإسرائيلي الذي قتل القبطي بسببه يستغيث بموسى عليه السلام ويصيح طالبا عونه، فقال له موسى إنك لضال ظاهر الشطط، تسببت في قتل رجل بالأمس، واليوم تقاتل آخر، أو إنك الخائب مشاد من لا تطيق دفع شره عنك.
يقول صاحب الجامع لأحكام القرآن :.. الخوف لا ينافي المعرفة بالله والتوكل عليه، والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه مع معرفتهم به وثقتهم.. ومنه : حفر النبي الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحد، ثم كان من أصحابه مالا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم، وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر- لما قال لها سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم- : كذبت١ يا عمر، كلا والله ! كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار- أو أرض- البعداء البغضاء٢ في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ! ونحن كنا نؤذى ونخاف – الحديث بطوله أخرجه مسلم. اه
١ كذبت هنا بمعنى أخطأت، وهو استعمال معروف عند اللغوين، يقول: وفي حديث صلاة الوتر كذب أبو محمد أي أخطأ، سماه كذبا، لأنه يشبهه في كونه ضد الصواب. وأبو محمد صحابي واسمه مسعود بن زيد.. وقد أنشدوا بيت الأخطل، ومنه:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
.

٢ البعداء: أي في النسب، البغضاء: أي في الدين..
﴿ فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين١٩ ﴾
بعد أن وصف موسى المتقاتل الإسرائيلي بأنه غاو أو مغوهم بتخليصه من الفرعوني الذي يشاكسه، ومعلوم أن الفرعونيين القبط كانوا يسخرون الإسرائيليين ويستبدون بهم، على طريقة ملكهم التي أشير إليها في الآية الكريمة :﴿ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ﴾ وبهذا غدا كل فرعوني عدوا لكل إسرائيلي، وهكذا يمكن أن نفهم القول الكريم﴿ عدو لهما ﴾ أي لموسى والذي﴿ من شيعته ﴾ من قومه وعشيرته، وليس بلازم أن تعني﴿ شيعته ﴾ أتباعه، وأنه وقتئذ كان قد نبئ، وكان هذا أحد المؤمنين به.
ظن الإسرائيلي – وقد عنفه موسى- أنه لن يدفع عنه الفرعوني، وخاف أن تدركه وكزة قاضية، فقال : يا موسى ! أعزمت على قتلي مثلما قتلت واحدا قبل يومنا هذا ؟ في اليوم الذي مضى ؟ ! ما يطيب لك إلا أن توالي سفك الدماء، فتتبع القتيل بقتيل ؟ ! وما تحب أن تكون مصلحا !
﴿ وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين٢٠ ﴾
كان جماعة من أهل القتيل قد ذهبوا- كما رووا- إلى فرعون، وطلبوا إليه أن يأخذ بحقهم من القاتل، لكنهم لم يكونوا قد عرفوه، فلما كان الغد وهاب الإسرائيلي غضبة موسى حين بدأ يستنقذه من عدوه، وقال : قتلت بالأمس رجلا وهممت اليوم بآخر، عندئذ تلقف القبطي الكلمة : وانصرف عن الإسرائيلي، وذهب بالخبر إلى باب فرعون، وانتهى ذلك إليه، فاشتد في طلب موسى، فلما أمر بقتله سبق رجل بالخبر وجاء من أبعد مسافات المدينة إليه، يجد السعي ويعجل، وأخبر موسى أن رؤساء قوم فرعون يتآمرون بك، ويتشاورون في قتلك بالقبطي الذي قتلته بالأمس، فارتحل عن مدينة فرعون هذه قبل أن يدركك الطلب، إني في إشارتي عليك بالخروج منها لناصح لك، و﴿ من ﴾ في قوله سبحانه :﴿ من الناصحين ﴾ بيانية.
﴿ فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ٢١ ﴾
فمضى موسى تاركا مدينة فرعون، وجلا أن يباغته الذباحون الذين استنفرهم فرعون للظفر به، ونادى موسى ربه سائلا النجاة والسلامة من فرعون وملائه.
يقول صاحب غرائب القرآن : وفيه دليل على أن قتله القبطي لم يكن ذنبا وإلا لم يكونوا ظالمين بطلب القصاص. ا ه
﴿ ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ٢٢ ﴾
ولما غادر موسى أرض الفراعنة جعل وجهه ناحية مدين، وهو ماض إليها و﴿ تلقاء ﴾بمعنى : قبل، يقال : دار تلقاء دار فلان إذا كانت تحاذيها وتقابلها.
مما أورد صاحب جامع البيان : ولم يصرف اسم ﴿ مدين ﴾لأنها اسم بلدة معروفة، كذلك تفعل العرب بأسماء البلاد المعروفة.. اه
وسفره- عليه السلام- منفردا فارا من طلب الأعداء بلاء شديد.
عن ابن اسحق :.. فخرج من مصر بلا زاد ولا حذاء ولا ظهر ولا درهم ولا رغيف.. اه
وقلة الدراية بالدروب والمسالك تقطع الرجاء إلا من ربنا وهداه، وموسى- عليه السلام- يتضرع إلى مولاه، آملا أن يبصره أعدل طريق وأقومه.
﴿ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ٢٣ ﴾
تابع موسى رحلته تاركا مصر، قاصدا مدين- وكان ملكها لغير فرعون – فلما بلغ ماء تلك المحلة رأى جمعا كبيرا من الناس يسقون أنعامهم وبهائمهم، ورأى على مقربة من تلك الآبار امرأتين تمنعان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس، فسأل المرأتين عن سبب تخلفهما عن سقي دوابهما، فأخبرتاه أنهما ضعيفتان لا تقدران على ورود الحوض لسقي الغنم فإنا لا نطيق أن نسقي، وإنما مواشينا ما أفضلت مواشي الرعاء في الحوض، وليس لنا أن نزاحم الرجال ونختلط بهم، فلهذا نتأخر في السقي إلى أن يفرغوا، و﴿ يصدر ﴾ بمعنى يرجع، أي حتى يرجع الناس مواشيهم عن الماء، و﴿ الرعاء ﴾جمع راع، كصحاب جمع صاحب.
قال ابن عطية : وكأن استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر، فكأنه بالجملة في الشر.. اه
وأخبرتا موسى أن أباهما أضعفه المشيب، وأوهنته الشيخوخة، فهو لضعفه لا يقدر أن يباشر سقي ماشيته، وما لهما من رجل يتولى عنهما ذلك الأمر.
﴿ فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ٢٤ ﴾
رفع موسى عن بئر حجرا كان يغطيها فسقى لهما [.. رق لهما موسى فعمد إلى بئر كانت مغطاة، والناس يسقون من غيرها، وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة، قاله ابن زيد ] أروى لهما بهائهما ثم آوى إلى ظل جلس فيه، فسارع داعيا ربه أن يرزقه القوت، وشكا إليه افتقاره إلى الطعام، وكأنه استعمل الفعل الماضي- وهو لما يزل يترقب ما يدنيه الله تعالى منه ويسوقه منه إليه- ثقة في أن هذا واقع بفضل الله كالمتحقق فعلا، إذ المعنى : رب ! ما أشد احتياجي وافتقاري إلى ما تنزل إلي من زاد ومدد.
روى صاحب الجامع لأحكام القرآن : وكان لم يذق طعاما سبعة أيام، وقد لصق بطنه بظهره، فعرض بالدعاء ولم يصرح بسؤال ١، هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله ٢، فالخير يكون بمعنى الطعام كما في هذه الآية، ويكون بمعنى المال كما قال :)... إن ترك خيرا... )٣.
وقوله :)وإنه لحب الخير لشديد( ٤، ويكون بمعنى القوة كما قال :)أهم خير أم قوم تبع( ٥ ويكون بمعنى العبادة، كقوله :)وأوحينا إليهم فعل الخيرات.. ( ٦. اه
١ لم يسأل مخلوقا، وإنما سأل الله تعالى داعيا إياه، ،وأسمع المرأتين، يقول ابن جرير: قال هذا القول وهو بجهد شديد، وعرض ذلك للمرأتين تعريضا لهما أن يطعماه لما به من شدة الجوع..
٢ نقل أبا جعفر الطبري عن مجاهد وابن زيد: ما سأل ربه إلا الطعام، كما نقل عن ابن عباس وابن جبير:﴿.. إني لما أنزلت إلي من خير فقير﴾ شبعه يومئذ.
.

٣ سورة البقرة. من الآية ١٨٠..
٤ سورة العاديات. الآية ٨..
٥ سورة الدخان. من الآية ٣٧..
٦ سورة الأنبياء. من الآية ٧٣..
﴿ فجاءته إحداهما تمشي عن استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين٢٥ ﴾
فلما ذهبت المرأتان إلى أبيهما قبل موعدهما الذي اعتادتا العودة فيه، وحدثتاه بما كان من أمر الرجل الذي سقى لهما، أمر واحدة منهما أن تدعوه له، فأتت إلى موسى، وقدمت مستورة.
روى صاحب جامع البيان :.. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :﴿ فجاءته إحداهما تمشي على استحياء.. ﴾ قال : لم تكن سلفعا١ من النساء خراجة ولاجة٢، جاءته قائلة٣ بيدها على وجهها.. اه.
وبلغت موسى طلب أبيها إياه، والسبب الذي من أجله استدعاه. يقول ابن كثير : وهذا تأدب في العبارة، لم تطلبه طلبا مطلقا لئلا يوهم ريبة.. اه.
وعرف موسى أنه مستدعي ليكافأ على سقيه غنم المرأتين- رحمة بهما- ويؤجر جزاء عودة الغنم مرتوية قبل سائر الرعاء، ولبى موسى الدعوة، ووصفت له داعيته الطريق حتى وصل إلى بيت أبيها، فلما لقيه وكرمه أنس إليه وأخبره، فطمأنه هذا الأب إلى أنه نزل منزلا لا يضام فيه، ولا سلطان للظالمين عليه.
١ السلفع: المرأة الجريئة على الرجال..
٢ الخراجة الولاجة: كثيرة التردد على المجالس..
٣ مغطية وجهها بيدها، أوبكم ثوبها..
﴿ قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين٢٦ ﴾.
قالت واحدة من المرأتين لأبيها- وأكثر علماء القرآن على أنه شعيب عليه السلام- استأجر يا أبت هذا الرجل فأنت في حاجة إلى من يلي لك الزرع والضرع، ونقل ابن جرير عن السدي أنها هي الجارية التي دعته، وإن أفضل من يرعى ويقوم على حفظ ما شيتك وما يصلحها الكيس الدين، الكفء الأمين.
روى صاحب جامع البيان عن ابن زيد في قوله :﴿ قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ﴾ فقال لها : وما علمك بقوته وأمانته ؟ فقالت : أما قوته فإنه كشف الصخرة التي على بئر آل فلان، وكان لا يكشفها دون سبعة نفر، وأما أمانته فإني لما جئت أدعوه قال : كوني خلف ظهري وأشيري لي إلى منزلك، فعرفت أن ذلك منه أمنة.
﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين٢٧ ﴾
عرض صالح مدين على موسى أن يزوجه بواحدة من ابنتيه هاتين- وربما كانت له بنات غيرهما- واشترط عليه لقاء تزويجه أن يعمل لديه مدة ثمان سنين.
مما أورد القرطبي في هذا الشأن : فمن الحسن عرض الرجل وليته، والمرأة نفسها على الرجل الصالح اقتداء بالسلف الصالح، قال ابن عمر : لما تأيمت١ حفصة قال عمر لعثمان : إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر، الحديث انفرد بإخراجه البخاري.. قوله تعالى :﴿ إحدى ابنتي هاتين ﴾ يدل على أنه عرض لا عقد، لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له، لأن العلماء وإن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال : بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا، فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح لأنه خيار، وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح.. وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وهو أمر قد قرره شرعنا، وجرى في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن، رواه الأئمة، وفي بعض طرقه : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما تحفظ من القرآن " ؟ فقال : سورة البقرة والتي تليها، قال :" فعلمها عشرين آية وهي امرأتك " اه.
واشترط شعيب عليه السلام على موسى أن يعمل ثمانية أعوام، وزيادتها إلى عشرة موكولة إلى اختيار موسى عليه السلام وتطوعه- إن تطوع- فعلمه فيما بين السنة الثامنة والعاشرة تفضل وتبرع، وما أرغب ولا أحب أن ألزمك الوقت الأطول، ولا أن أكلفك من الأمر ما أجهد أو أثقل، ستجد تعاملي معك- بتيسير الله ومشيئته- على منهاج أهل الصلاح، فلن تكون مني مشاحة، ولكن دأبي المياسرة والسماح.
نقل عن أهل الاشتقاق : حقيقة قولهم : شققت عليه، وشق عليه الأمر : أنه إذا صعب الأمر فكأنه شق عليه ظنه باثنين، يقول تارة أطيقه، وتارة لا أطيقه.
١ أصبحت دون زوج..
﴿ قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل٢٨ ﴾
رد موسى على ما عرضه شعيب من أنه سيزوجه إحدى ابنتيه على أن يستأجره ١ ثماني سنين فقال هذا عهد بيني وبينك، على كل واحد منا الوفاء بما أوجب على نفسه، فإن قضيت القدر الواجب فلا أطالب بزيادة، وإذا أردفته بما تطوعت به لأكملها عشرا فداك مني تبرع، وأيهما أمضيت فلا أكون متعديا، وربنا شهيد على ميثاقنا، وحفيظ على عقدنا وعهدنا.
١ أورد المفسرون أحاديث في أجرة موسى- عليه السلام- وأي الأجلين قضى وأطالوا في ذلك، لكن أكثرها واه.
ومع ما قرروه أولا من أنه- سلام الله عليه- أجر نفسه على عفة بطنه وفرجه عادوا آخر الأمر يفيضون فيما لم يرد فيه نص صريح صحيح. يراجع من شاء تفسير.

﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون٢٩ ﴾
بعد تواثق موسى وشعيب على ما تواثقا عليه، أقام وزوجته مع ختنه وصهره يعمل في رعاية غنمه وما يحتاج إليه منه، حتى أتم موسى أكمل الأجلين وأوفاهما، وكأنه تشوق إلى زيارة أهله الذين تركهم بمصر منذ عشر سنين مضت، فلما ارتحل ومضى بزوجه وغنمه في الطريق إلى عشيرته، أحس في ليلة شاتية مظلمة أنه ربما تغير به الدرب، وحاول أن يوقد ما يستدفئ به وزوجه فما تيسر له إيقاد- وهكذا إذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه- فأبصر نارا تتوهج من بعيد على يمين المتجه نحو جبل الطور فتكون صوب الغرب، قال موسى لأهله : تمهلوا وانتظروا فقد أبصرت نارا، وابقوا هنا حتى أذهب إليها، وإني لراج أن أسأل من عند النار هذه عن الطريق فيدلنا، أو أعود إليكم بقطعة منها تستدفئون وتسخنون بها.
﴿ جذوة ﴾ قبسة من النار، وقطعة من الجمر، أو عود غليظ يؤخذ فيه نار، أو أحد رأسيه جمرة.
﴿ تصطلون ﴾ تسخنون صلاكم وجلدكم، أي تدفئون بدنكم، وتتخذون منها وقودا.
﴿ فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين٣٠ ﴾.
فلما وصل موسى إلى تلك النار التي أبصرها وحدث أهله بأن عسى أن يجيء منها بخبر أو يقتبس منها قبسة، نودي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب، وما أبركه من مكان :)هل أتاك حديث موسى. إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى( ١ وفي شأنه يقول الله تعالى مخاطبا نبيه محمدا :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر.. ﴾٢﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا.. ﴾٣.
نقل الحسن النيسابوري :﴿ من ﴾ الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية، أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة، فالثانية بدل من الأولى بدل الاشتمال، لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، ووصفت البقعة بالمباركة لأن فيها ابتداء الرسالة والتكليم. أه.
﴿ أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ﴾ نادى الله تعالى عبده موسى : إن الذي يخاطبك ويكلمك هو المعبود بحق رب العالمين، لا إله غيره ولا رب سواه، تنزه سبحانه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله.
١ سورة النازعات. الآيتان ١٥. ١٦..
٢ سورة القصص. من الآية ٤٤..
٣ سورة القصص. من الآية ٤٦..
﴿ وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين٣١ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين٣٢ ﴾
ونادى الله تعالى موسى وأمره أن يلقي العصا التي كانت بيده، فألقاها فإذا هي حية تنطلق وتتلوى مسرعة كالجان، فأدار موسى ظهره وفر منها ممعنا في الهرب لا يلتفت، فأمر من لدن ربنا العلي الأعلى أن يعود إلى حيث كان، وألا يخشى مهلكة، فإن مولاه قد أمنه من كل محذور ومخوف
﴿ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ﴾ أدخل يدك في فتحة قميصك ثم أخرجها فسنمنحها بياضا ناصعا، صافيا متلألئا، في غير علة ولا برص، يقول صاحب تفسير القرآن العظيم : إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج كأنها قطعة قمر في لمعان البرق. اه، ﴿ واضمم إليك جناحك من الرهب ﴾ وضم ذراعك إلى صدرك يذهب عنك خوفك وفزعك، ﴿ فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ﴾ فهذان الحدثان والأمران المعجزان اللذان أجريتهما على يديك- من تحول العصا حية، ويدك وهي سمراء إلى لون أبيض لامع من غير برص- هاتان آيتان وحجتان لك على فرعون، وعلى كبراء ورؤساء وعامة قومه، إن فرعون وجمعه قوم خارجون على أمرنا، فليكن ما أريتك، وما صنعت لك حجة عليهم، ودليلا على حقيقة وصدق نبوتك ورسالتك.
[ والفاء في قوله تعالى :﴿ فلما رآها تهتز ﴾ فصيحة مفصحة عن جمل حذفت، تعويلا على دلالة الحال عليها، وإشعارا بغاية سرعة تحقق مدلولاتها، أي فألقاها، فصارت حية، فاهتزت، فلما رآها تهتز وتتحرك.. والبرهان : الحجة النيرة.. وقال بعضهم : هو فعلان من البره بمعنى القطع، فيفسر بالحجة القاطعة.. و﴿ من ﴾ في قوله تعالى :﴿ من ربك ﴾ متعلق بمحذوف هو صفة لبرهان، أي كائنان من ربك، و﴿ إلى ﴾ في قوله سبحانه :﴿ إلى فرعون وملئه ﴾ متعلق بمحذوف أيضا.. صفة بعد صفة أي واصلان إليهم، وعلى ما يقتضيه ظاهر كلام آخرين حال منه، أي مرسل أنت بهما إليهم ]١.
١ مما أورد الألوسي..
﴿ قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون٣٣ وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون٣٤ قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون٣٥ ﴾
لما علم موسى أن الله أرسله إلى فرعون وقومه شكا إلى ربه- وهو به وبكل الخلق عليم- وناجى مولاه بأنه مبعوث إلى قوم جبارين موتورين، ففرعون وهامان وجنودهما أكثروا في الأرض الفساد، فكيف إذا هم ظفروا بموسى وقد فر بعد أن قتل منهم واحدا ؟ ! مما جاء في روح المعاني : ومراده عليه السلام بهذا استدفاع البلية خوف فوات مصلحة الرسالة وانتشار أمرها، كما هو اللائق بمقام أولي العزم من الرسل عليهم السلام، فإنهم يتوقون لذلك، كما كان يفعل- صلى الله عليه وسلم- حتى نزل :).. والله يعصمك من الناس.. ( ١، ولعل الحق أن قصد حفظ النفس معه لا ينافي مقامهم. اه[ ودل على أن الخوف قد يصحب الأنبياء والفضلاء والأولياء مع معرفتهم بالله. - تعالى- وأن لا فاعل إلا هو، إذ قد يسلط من شاء على من شاء ]٢، وأتمم نعمتك علي، ونبئ أخي، وابعثه معي، حتى يشاركني في حمل أمانات الرسالة، ويؤازرني على الوفاء بعهدها، رب ! وفي لساني عقدة قد لا أستطيع معها الإبانة عن كل ما أريد من قول، وإني أخاف حين يسارعون إلى تكذيبي ورد ما أدعوهم إليه، أن يشتد همي، ويضيق صدري، فينعقد لساني، لاغتمام قلبي، وأخي هارون أحسن مني بيانا، فإذا قضت حكمتك أن تجعله لي وزيرا ومعينا يذب ويجادل عني، فاجعله اللهم لي نصيرا ومؤازرا، وفي سورة طه بينت آيات كريمات ضراعة موسى إلى مولاه في طلب شد الأزر :)قال رب اشرح لي صدري. ويسر لي أمري. واحلل عقدة من لساني. يفقهوا قولي. واجعل لي وزيرا من أهلي. هارون أخي. اشدد به أزري. وأشركه في أمري. كي نسبحك كثيرا. ونذكرك كثيرا. إنك كنت بنا بصيرا( ٣
١ سورة المائدة. من الآية ٦٧..
٢ مما جاء في الجامع لأحكام القرآن..
٣ سورة طه. الآيات من: ٢٥ إلى ٣٥..
﴿ قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ﴾ بشر الله تعالى موسى بأنه أجاب سؤله :)قال قد أوتيت سؤلك يا موسى( ١، سنقويك ونشد ساعدك بأخيك، فتزداد به عونا، كاليد تقوى بصلابة العضد، ﴿ ونجعل لكما سلطانا ﴾ نجعل لكما حجة، وتسلطا عظيما وغلبة، فلا يصل إليكم الفرعونيون بسوء ولا بمحاجة ولا باستيلاء، ﴿ بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ﴾﴿ بآياتنا ﴾- متعلق بمحذوف قد صرح به في مواضع أخر، أي اذهبا بآياتنا، أو :[ بنجعل ]، أي نسلطكما بآياتنا، أو[ بسلطانا ]، لما فيه من معنى التسلط.. -٢ بشرى من الله الحق لموسى وهارون وأتباعهما بحسن العاقبة، والنصر على العدو، وكأن التركيب هكذا : أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا، وصدق الله العظيم، فإن حزب الله هم الغالبون، وإن جند الله هم المنصورون، ولقد تمت كلمة ربنا الحسنى على المؤمنين بما صبروا.
١ سورة طه. الآية ٣٢..
٢ ما بين العارضتين مما جاء في روح المعاني..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:﴿ قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ﴾ بشر الله تعالى موسى بأنه أجاب سؤله :)قال قد أوتيت سؤلك يا موسى( ١، سنقويك ونشد ساعدك بأخيك، فتزداد به عونا، كاليد تقوى بصلابة العضد، ﴿ ونجعل لكما سلطانا ﴾ نجعل لكما حجة، وتسلطا عظيما وغلبة، فلا يصل إليكم الفرعونيون بسوء ولا بمحاجة ولا باستيلاء، ﴿ بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ﴾﴿ بآياتنا ﴾- متعلق بمحذوف قد صرح به في مواضع أخر، أي اذهبا بآياتنا، أو :[ بنجعل ]، أي نسلطكما بآياتنا، أو[ بسلطانا ]، لما فيه من معنى التسلط.. -٢ بشرى من الله الحق لموسى وهارون وأتباعهما بحسن العاقبة، والنصر على العدو، وكأن التركيب هكذا : أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا، وصدق الله العظيم، فإن حزب الله هم الغالبون، وإن جند الله هم المنصورون، ولقد تمت كلمة ربنا الحسنى على المؤمنين بما صبروا.
١ سورة طه. الآية ٣٢..
٢ ما بين العارضتين مما جاء في روح المعاني..

﴿ فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين٣٦ وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون٣٧ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين٣٨ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون٣٩ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين٤٠ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون٤١ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين٤٢ ﴾
فلما ذهب موسى وهارون بما آتاهما الله تعالى من حجة إلى فرعون ورؤساء قومه وعامتهم سارعوا بإنكار ما دعوا إليه من الإيمان بالله دون سواه، ووصفوا الدلالة على الحق، والرجوع عن الشرك بأنه باطل مكذوب، وأن ما أراهم موسى من حجج ربنا وسلطانه- كالعصا واليد- قاوموا هذه الآيات ووصفوها- زورا وافتراء- بأنها سحر مختلق، وأنكروا أن يكون من أسلافهم وآبائهم من قد آمن بالإله الذي يدعو إليه موسى وهارون، فلم يرد موسى على سفههم، ورميهم إياه بالتمويه والاختلاق، ووصف ما جاءهم به بالسحر والافتراء، ولم يرد على هذا إلا بأن يذكرهم بجلال الله العلي الأعلى، وأنه الولي لمن اتقى، وعاقبة المؤمنين الحسنى، وقد خاب من حمل ظلما، ولا يربح من أفرط وطغى، هكذا كان جواب موسى للذي عتا وعلا وبغى، لأن المولى الحكيم قد أمر بهذا فقال تبارك اسمه :)اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري. اذهبا إلى فرعون إنه طغى، . فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى( ١، فعلى الداعين إلى الله أن يتذكروا ويعتبروا، ويؤثروا الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والقول اللين، ومن قبل ذلك أن تمتلئ القلوب باليقين والخشية، ويترطب اللسان بالذكر والشكر، وتستقيم الجوارح على العبادة وفعل الخير والبر، ليكونوا دعاة إلى الرشد بأعمالهم وأخلاقهم، قبل أن يكونوا دعاة بألسنتهم وأقوالهم، وبدلا من أن نعلن الظلام نضيء شمعة، بل نحن على الحقيقة ندعوا إلى النور والحياة، والعلم والتزكية، والعدل والإحسان، لكن بالقول الطيب، واليقين الصادق، والنهج السوي، ولقد أمر الله تعالى نبيه موسى عليه السلام في آيات كريمات أخر أن يعرض الحق والرشد على الطاغية المتأله فرعون في لين ورفق على الرغم من عتو هذا المستكبر، يقول ربنا تبارك اسمه :)اذهب إلى فرعون إنه طغى. فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى( ٢
١ سورة طه. الآيات: ٤٢، ٤٣، ٤٤..
٢ سورة النازعات. الآيات: ١٧- ١٨-١٩..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:﴿ فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين٣٦ وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون٣٧ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين٣٨ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون٣٩ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين٤٠ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون٤١ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين٤٢ ﴾
فلما ذهب موسى وهارون بما آتاهما الله تعالى من حجة إلى فرعون ورؤساء قومه وعامتهم سارعوا بإنكار ما دعوا إليه من الإيمان بالله دون سواه، ووصفوا الدلالة على الحق، والرجوع عن الشرك بأنه باطل مكذوب، وأن ما أراهم موسى من حجج ربنا وسلطانه- كالعصا واليد- قاوموا هذه الآيات ووصفوها- زورا وافتراء- بأنها سحر مختلق، وأنكروا أن يكون من أسلافهم وآبائهم من قد آمن بالإله الذي يدعو إليه موسى وهارون، فلم يرد موسى على سفههم، ورميهم إياه بالتمويه والاختلاق، ووصف ما جاءهم به بالسحر والافتراء، ولم يرد على هذا إلا بأن يذكرهم بجلال الله العلي الأعلى، وأنه الولي لمن اتقى، وعاقبة المؤمنين الحسنى، وقد خاب من حمل ظلما، ولا يربح من أفرط وطغى، هكذا كان جواب موسى للذي عتا وعلا وبغى، لأن المولى الحكيم قد أمر بهذا فقال تبارك اسمه :)اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري. اذهبا إلى فرعون إنه طغى،. فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى( ١، فعلى الداعين إلى الله أن يتذكروا ويعتبروا، ويؤثروا الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والقول اللين، ومن قبل ذلك أن تمتلئ القلوب باليقين والخشية، ويترطب اللسان بالذكر والشكر، وتستقيم الجوارح على العبادة وفعل الخير والبر، ليكونوا دعاة إلى الرشد بأعمالهم وأخلاقهم، قبل أن يكونوا دعاة بألسنتهم وأقوالهم، وبدلا من أن نعلن الظلام نضيء شمعة، بل نحن على الحقيقة ندعوا إلى النور والحياة، والعلم والتزكية، والعدل والإحسان، لكن بالقول الطيب، واليقين الصادق، والنهج السوي، ولقد أمر الله تعالى نبيه موسى عليه السلام في آيات كريمات أخر أن يعرض الحق والرشد على الطاغية المتأله فرعون في لين ورفق على الرغم من عتو هذا المستكبر، يقول ربنا تبارك اسمه :)اذهب إلى فرعون إنه طغى. فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى( ٢
١ سورة طه. الآيات: ٤٢، ٤٣، ٤٤..
٢ سورة النازعات. الآيات: ١٧- ١٨-١٩..

﴿ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ كأنه أحس بنفاذ دعوة الرسولين الكريمين إلى القلوب، وأن الإيمان بإله واحد له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، هذا الإيمان يلمس الفطرة الإنسانية وتسكن إليه الجوانح، فسارع اللعين يذكر بفتونه وجنونه، ولكن في اضطراب من القول، فبينما كان يقول لهم ما حكاه القرآن عنه :).. أنا ربكم الأعلى( ١ عاد يقول :).. ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد( ٢(.. يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين( ٣، ﴿ فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين ﴾ فأعد ياهامان لبنات ثم أوقد عليها لتصبح آجرا- والطوب اللبن يصنع من الطين، فإذا أحرق واحمر لونه صار آجرّا- ثم ابن بهذا الطين المحترق- الآجر- بناء عاليا ظاهرا متضحا- من صرح الشيء إذ ظهر- لأصعد عليه لعلي أرى الإله الذي يذكر موسى أنه إلهه وإله العالمين، وذلك ما جاء بيانه في آيات أخرى كريمة :)وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السماوات فأطلع إلى موسى وإني لأظنه كاذبا... )٤ ؛ يعني أنه سيحاول الصعود والإطلاع ليس ليقينه في وجود إله العالمين، ولا لتصديقه دعوة موسى وهارون، [ والظاهر أنه أراد حقيقة ما يدل عليه كلامه وهو نفي علمه بإله غيره دون وجوده، فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه، ولم يجزم بالعدم بأن يقول : ليس لكم إله غيري، مع أن كلا من هذا وما قاله كذب، لأن ظاهر قول موسى عليه السلام له :).. لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر.. ( ٥ يقتضي أنه كان عالما بأن إلههم غيره... فكأنه قال : ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى، والأمر محتمل وسأحقق لكم ذلك... والأمر بجعل الصرح وبنائه لا يدل على أنه بني، وقد اختلف في ذلك، فقيل : بناه... وقيل لم يبن، وعلى هذا يكون قوله ذلك وأمره للتلبيس على قومه وإيهامه إياهم أنه بصدد تحقيق الأمر... وأيا ما كان فالقوم كانوا في غاية الغباوة والجهل وإفراط العماية والبلادة، وإلا لما نفق عليهم مثل هذا الهذيان... ولا يبعد أن يقال : كان فيهم من ذوي العقول من يعلم تمويهه وتلبيسه، ويعتقد هذيانه فيما يقول، إلا أنه نظم نفسه في سلك الجهال، ولم يظهر خلافا لما عليه اللعين بحال من الأحوال، وذلك إما للرغبة فيما لديه، أو للرهبة من سطوته واعتدائه عليه، وكم رأينا عاقلا، وعالما فاضلا، يوافق لذلك الظلمة الجبابرة، ويصدقهم فيما يقولون وإن كان مستحيلا أو كفرا بالآخرة ]٦.
١ سورة النازعات. من الآية ٢٤..
٢ سورة غافر. من الآية ٢٩..
٣ سورة الزخرف. من الآية ٥١ والآيتان ٥٢، ٥٣..
٤ سورة غافر. الآية ٣٦، ومن الآية ٣٧..
٥ سورة الإسراء. من الآية ١٠٢..
٦ ما بين العلامتين[ ] مقتبس من روح المعاني..
﴿ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ﴾ تبين لهم أن الهدي ليس في تأليه طاغيتهم، وأن نداء رسوليهم إلى الرشد حقيق أن يستجيبوا له بدلا من ضلالهم، لكن جادلوا بالباطل بعد ما تبين لهم الهدى، وازدادوا عمى بعد أن رأوا نفرا قد آمن واهتدى :) فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم.. ( ١( وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد( ٢ )وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون( ٣، فهل بعد هذا يكون الغرور والاستكبار شيئا إذا قورن بما تمادى فيه هذا الطاغية الجبار ؟ ! واستخف قومه فتابعوه، واستعدى جنده فأطاعوه، وأشاعوا القتل والسفك في المؤمنين، واستمرءوا الأذى والتنكيل بالمسلمين، ونسوا بطش الله تعالى بالباغين، في هذه الحياة الدنيا ويوم الدين، فعاجلهم القوي المتين ببأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فأغرقهم أجمعين، وأخزى التابعين والمتبوعين، ويوم القيامة يصيرون إلى دركات الجحيم، بل وهم بعد غرقهم يذوقون العذاب الأليم، مصداقا لقول ربنا الحكيم :)النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب( ٤
١ سورة غافر. من الآية ٢٥..
٢ سورة غافر. الآية ٢٦..
٣ سورة الأعراف. الآية ١٢٧..
٤ سورة غافر. الآية ٤٦..
[ ﴿ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ﴾ أي ألقيناهم وأغرقناهم فيه... والظاهر أن الفاء الأولى سببية وليست لمجرد التعقيب، وأما الثانية فللتعقيب... أما إذا أريد به الإهلاك فهي للتفسير كما في :)فاستجبنا له فنجيناه.. ( ١... ﴿ فانظر ﴾ يا محمد﴿ كيف كان عاقبة الظالمين ﴾ وبينها للناس ليعتبروا بها
١ سورة الأنبياء. من الآية ٧٦..
﴿ وجعلناهم ﴾ أي خلقناهم﴿ أئمة ﴾ قدوة للضلال بسبب حملهم لهم على الضلال.. وعن أبي مسلم أن المراد : صيرناهم بتعجيل العذاب لهم﴿ أئمة ﴾ أي متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار.. ﴿ ويوم القيامة لا ينصرون ﴾ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه
﴿ وأتبعناهم في هذه الدنيا ﴾ التي فتنتهم﴿ لعنة ﴾ طردا وإبعادا.... ﴿ ويوم القيامة هم من المقبوحين ﴾ من المطرودين المبعدين... من المهلكين ]١.
مما جاء في الجامع لأحكام القرآن :﴿ فنبذناهم في اليم ﴾ أي طرحناهم في البحر المالح، قال قتادة : بحر من وراء مصر.. وقال وهب والسدي : المكان الذي أغرقهم الله فيه بناحية القلزم يقال له بطن مريرة، وهو إلى اليوم غضبان- أي ثائر عالي الموج-اه
١ مقتبس من روح المعاني..
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون٤٣ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين٤٤ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين٤٥ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون٤٦ ﴾
أعطى الله تعالى موسى التوراة بعد ما أهلك فرعون وجنده وملأه وخسف بقارون، أو من بعد إهلاك قوم نوح، وعاد وثمود، وأودع الحكيم العليم كتابه هذا تفصيل الحلال من الحرام، وتبصرة١ للناس الذين طمست بصائرهم الأهواء، ودلالة على الهداية، ورحمة للمستمسكين بشرعته ليتذكروا، ولقد بين القرآن المجيد ما أودع الله التوراة٢ من نور وعلم وحكم :)ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء.. ( ٣ )ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين. الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون )٤ ).. وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون( ٥، ثم وجه الخطاب إلى خاتم النبيين محمد عليه وعليهم الصلوات والتسليم، فشهد سبحانه أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن بالجانب الغربي من جيل الطور حيث نبئ موسى، وكلمه ربه عز وجل، ولا هو ممن شهد الوحي إلى كليم الله- عليه السلام-، ولكن خلف من بعد موسى خلف طال عليهم الأمد، وبعد ما بينهم وبين زمان نزول الوحي فقست قلوبهم، ﴿ وما كنت ثاويا ﴾ مقيما في أهل مدين﴿ تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ﴾ لم تصاحب موسى قبل تكليم الله إياه إذ هو في أهل مدين بعيش مع شعيب حيث أهله، كما لم تكن مرافقا لموسى بعد إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، لكنا أرسلناك، وأوحينا إليك من أنباء الرسل، وقصصنا عليك مما كان بينهم وبين أممهم، فعلمتك بهذا مالم تكن تعلم لنثبت به فؤادك، وليكون عبرة لأولي الألباب، ﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ﴾ وكما لم تلق موسى قبل أن يوحى إليه، ولا عاشرته بعد أن قضينا إليه الأمر، لم تكن معه إذ نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة٦، ولكن جاءك الوحي لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون، وتذكرهم فإن الذكرى تنفع المؤمنين ).. إنما يتذكر أولو الألباب( ٧.
قال قتادة :﴿ الكتاب ﴾ التوراة، قيل : آتينا موسى الكتاب وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدا مجددا للدين وداعيا الخلق إليه.
١ البصيرة نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر. ويطلق على نفس العين، ويجمع على أبصار، والأول بجمع على بصائر..
٢ للعلامة ابن حجر عليه الرحمة: يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة، علم تبدلها أوشك فيه،.. ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا..
٣ سورة الأنعام. من الآية ١٥٤..
٤ سورة الأنبياء. الآيتان ٤٨، ٤٩..
٥ سورة الأعراف. من الآية ١٥٤..
٦ جاء في الجامع لأحكام القرآن: كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، كذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين ا هـ..
٧ سورة الزمر. من الآية ٩..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون٤٣ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين٤٤ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين٤٥ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون٤٦ ﴾
أعطى الله تعالى موسى التوراة بعد ما أهلك فرعون وجنده وملأه وخسف بقارون، أو من بعد إهلاك قوم نوح، وعاد وثمود، وأودع الحكيم العليم كتابه هذا تفصيل الحلال من الحرام، وتبصرة١ للناس الذين طمست بصائرهم الأهواء، ودلالة على الهداية، ورحمة للمستمسكين بشرعته ليتذكروا، ولقد بين القرآن المجيد ما أودع الله التوراة٢ من نور وعلم وحكم :)ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء.. ( ٣ )ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين. الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون )٤ ).. وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون( ٥، ثم وجه الخطاب إلى خاتم النبيين محمد عليه وعليهم الصلوات والتسليم، فشهد سبحانه أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن بالجانب الغربي من جيل الطور حيث نبئ موسى، وكلمه ربه عز وجل، ولا هو ممن شهد الوحي إلى كليم الله- عليه السلام-، ولكن خلف من بعد موسى خلف طال عليهم الأمد، وبعد ما بينهم وبين زمان نزول الوحي فقست قلوبهم، ﴿ وما كنت ثاويا ﴾ مقيما في أهل مدين﴿ تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ﴾ لم تصاحب موسى قبل تكليم الله إياه إذ هو في أهل مدين بعيش مع شعيب حيث أهله، كما لم تكن مرافقا لموسى بعد إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، لكنا أرسلناك، وأوحينا إليك من أنباء الرسل، وقصصنا عليك مما كان بينهم وبين أممهم، فعلمتك بهذا مالم تكن تعلم لنثبت به فؤادك، وليكون عبرة لأولي الألباب، ﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ﴾ وكما لم تلق موسى قبل أن يوحى إليه، ولا عاشرته بعد أن قضينا إليه الأمر، لم تكن معه إذ نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة٦، ولكن جاءك الوحي لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون، وتذكرهم فإن الذكرى تنفع المؤمنين ).. إنما يتذكر أولو الألباب( ٧.
قال قتادة :﴿ الكتاب ﴾ التوراة، قيل : آتينا موسى الكتاب وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدا مجددا للدين وداعيا الخلق إليه.
١ البصيرة نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر. ويطلق على نفس العين، ويجمع على أبصار، والأول بجمع على بصائر..
٢ للعلامة ابن حجر عليه الرحمة: يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة، علم تبدلها أوشك فيه،.. ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا..
٣ سورة الأنعام. من الآية ١٥٤..
٤ سورة الأنبياء. الآيتان ٤٨، ٤٩..
٥ سورة الأعراف. من الآية ١٥٤..
٦ جاء في الجامع لأحكام القرآن: كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، كذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين ا هـ..
٧ سورة الزمر. من الآية ٩..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون٤٣ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين٤٤ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين٤٥ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون٤٦ ﴾
أعطى الله تعالى موسى التوراة بعد ما أهلك فرعون وجنده وملأه وخسف بقارون، أو من بعد إهلاك قوم نوح، وعاد وثمود، وأودع الحكيم العليم كتابه هذا تفصيل الحلال من الحرام، وتبصرة١ للناس الذين طمست بصائرهم الأهواء، ودلالة على الهداية، ورحمة للمستمسكين بشرعته ليتذكروا، ولقد بين القرآن المجيد ما أودع الله التوراة٢ من نور وعلم وحكم :)ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء.. ( ٣ )ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين. الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون )٤ ).. وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون( ٥، ثم وجه الخطاب إلى خاتم النبيين محمد عليه وعليهم الصلوات والتسليم، فشهد سبحانه أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن بالجانب الغربي من جيل الطور حيث نبئ موسى، وكلمه ربه عز وجل، ولا هو ممن شهد الوحي إلى كليم الله- عليه السلام-، ولكن خلف من بعد موسى خلف طال عليهم الأمد، وبعد ما بينهم وبين زمان نزول الوحي فقست قلوبهم، ﴿ وما كنت ثاويا ﴾ مقيما في أهل مدين﴿ تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ﴾ لم تصاحب موسى قبل تكليم الله إياه إذ هو في أهل مدين بعيش مع شعيب حيث أهله، كما لم تكن مرافقا لموسى بعد إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، لكنا أرسلناك، وأوحينا إليك من أنباء الرسل، وقصصنا عليك مما كان بينهم وبين أممهم، فعلمتك بهذا مالم تكن تعلم لنثبت به فؤادك، وليكون عبرة لأولي الألباب، ﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ﴾ وكما لم تلق موسى قبل أن يوحى إليه، ولا عاشرته بعد أن قضينا إليه الأمر، لم تكن معه إذ نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة٦، ولكن جاءك الوحي لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون، وتذكرهم فإن الذكرى تنفع المؤمنين ).. إنما يتذكر أولو الألباب( ٧.
قال قتادة :﴿ الكتاب ﴾ التوراة، قيل : آتينا موسى الكتاب وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدا مجددا للدين وداعيا الخلق إليه.
١ البصيرة نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر. ويطلق على نفس العين، ويجمع على أبصار، والأول بجمع على بصائر..
٢ للعلامة ابن حجر عليه الرحمة: يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة، علم تبدلها أوشك فيه،.. ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا..
٣ سورة الأنعام. من الآية ١٥٤..
٤ سورة الأنبياء. الآيتان ٤٨، ٤٩..
٥ سورة الأعراف. من الآية ١٥٤..
٦ جاء في الجامع لأحكام القرآن: كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، كذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين ا هـ..
٧ سورة الزمر. من الآية ٩..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون٤٣ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين٤٤ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين٤٥ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون٤٦ ﴾
أعطى الله تعالى موسى التوراة بعد ما أهلك فرعون وجنده وملأه وخسف بقارون، أو من بعد إهلاك قوم نوح، وعاد وثمود، وأودع الحكيم العليم كتابه هذا تفصيل الحلال من الحرام، وتبصرة١ للناس الذين طمست بصائرهم الأهواء، ودلالة على الهداية، ورحمة للمستمسكين بشرعته ليتذكروا، ولقد بين القرآن المجيد ما أودع الله التوراة٢ من نور وعلم وحكم :)ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء.. ( ٣ )ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين. الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون )٤ ).. وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون( ٥، ثم وجه الخطاب إلى خاتم النبيين محمد عليه وعليهم الصلوات والتسليم، فشهد سبحانه أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن بالجانب الغربي من جيل الطور حيث نبئ موسى، وكلمه ربه عز وجل، ولا هو ممن شهد الوحي إلى كليم الله- عليه السلام-، ولكن خلف من بعد موسى خلف طال عليهم الأمد، وبعد ما بينهم وبين زمان نزول الوحي فقست قلوبهم، ﴿ وما كنت ثاويا ﴾ مقيما في أهل مدين﴿ تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ﴾ لم تصاحب موسى قبل تكليم الله إياه إذ هو في أهل مدين بعيش مع شعيب حيث أهله، كما لم تكن مرافقا لموسى بعد إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، لكنا أرسلناك، وأوحينا إليك من أنباء الرسل، وقصصنا عليك مما كان بينهم وبين أممهم، فعلمتك بهذا مالم تكن تعلم لنثبت به فؤادك، وليكون عبرة لأولي الألباب، ﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ﴾ وكما لم تلق موسى قبل أن يوحى إليه، ولا عاشرته بعد أن قضينا إليه الأمر، لم تكن معه إذ نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة٦، ولكن جاءك الوحي لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون، وتذكرهم فإن الذكرى تنفع المؤمنين ).. إنما يتذكر أولو الألباب( ٧.
قال قتادة :﴿ الكتاب ﴾ التوراة، قيل : آتينا موسى الكتاب وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدا مجددا للدين وداعيا الخلق إليه.
١ البصيرة نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر. ويطلق على نفس العين، ويجمع على أبصار، والأول بجمع على بصائر..
٢ للعلامة ابن حجر عليه الرحمة: يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة، علم تبدلها أوشك فيه،.. ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا..
٣ سورة الأنعام. من الآية ١٥٤..
٤ سورة الأنبياء. الآيتان ٤٨، ٤٩..
٥ سورة الأعراف. من الآية ١٥٤..
٦ جاء في الجامع لأحكام القرآن: كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، كذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين ا هـ..
٧ سورة الزمر. من الآية ٩..

﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين٤٧ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون٤٨ قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين٤٩ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين٥٠ ﴾
ومن رحمتنا أنا حلمنا على المشركين المجرمين، فلو أنا أهلكناهم بعذاب من عندنا جزاء لهم على كفرهم وإجرامهم- وما اقترفوه من أوزار- وإنما خص الأيدي مع إمكان ارتكاب الخطايا بجوارح غيرها لأن أكثر ما يكتسب من آثام يكون بالأيدي- لو بطشنا بهم قبل أن تجيئهم لاعتذروا بأنهم لم يأتهم من يدعوهم إلى الهدى، ويشرع لهم عن ربه ما ينجيهم من الردى، فأرسلتك إليهم بشيرا ونذيرا ).. لئلا يكون للناس على الله حجة.. ( ١، كما بينت هذا آية كريمة أخرى )ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى٢.
١ سورة النساء. من الآية ١٦٥..
٢ سورة طه. الآية ١٣٤..
﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ﴾ فحين بعثتك بالحق إليهم قالوا- تمردا على الله تعالى وتماديا في الغي- هلا أوتي محمد مثل ما أوتي موسى من المعجزات ! ونزول التوراة عليه جملة ! وكان بلغهم ذلك من أمر موسى١عليه السلام، فأخزى الله المجادلين بالباطل، وأخزى معهم من حرضوهم على هذا المراء من اليهود﴿ أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ﴾ هل آمن اليهود بما جاءتهم به رسلهم من البينات ؟ ! هل قدس المشركون ما أنزل على موسى ؟ ! كلا ! بل تمادت اليهود في قتل الأنبياء بغير حق، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ! وقالوا- وقد أمعنوا تحريفا في التوراة وإخفاء لكثير من هداها ).. قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء.. ( ٢، والمشركون عجبوا أن جاءهم منذر منهم وقالوا أبعث الله بشرا رسولا ؟ ! فهم إذن لم يؤمنوا بموسى، ولا أقروا بالرسالة، فلما بهتوا بحجة الله هذه﴿ قالوا ساحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون ﴾ حين بطل ما كانوا يتعللون به آذوا موسى ومحمدا عليهما صلوات الله وسلامه، ووصفوا الكتابين المنزلين عليهما بالسحر، و﴿ ساحران ﴾ خبر لمبتدأ محذوف أي :[ هما ] يعنون : التوراة والقرآن﴿ تظاهرا ﴾ تعاونا وصدق كل منهما الآخر، ثم صرحوا بكفرهم بالكتابين.
١ قال الكلبي: بعثت قريش إلى اليهود وسألتهم عن بعث محمد وشأنه، فقالوا: نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الجواب إليهم قالوا: ساحران تظاهرا، وقال قوم: إن اليهود علموا المشركين وقالوا لمحمد: لولا أوتيت مثلما أوتي موسى فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة، فهذا الاحتجاج وارد على اليهود، ومما قال الفراء: في تفسير﴿بكل كافرون﴾ بالتوراة والقرآن..
٢ سورة الأنعام. من الآية ٩١..
﴿ قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ﴾ أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : فهاتوا كتابا منزلا هو أكثر من التوراة والقرآن هداية لأتبعه، - أي إن تأتوا به أتبعه، فالفعل مجزوم بجواب الأمر ومثل هذا الشرط يأتي به من يدل بوضوح حجته، لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين أمر بيّن الاستحالة، فيوسع دائرة الكلام، للتبكيت والإلزام-١.
١ ما بين العارضتين أورده الألوسي..
﴿ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ فإن لم يأتوا بكتاب أهدى- ولن يأتوا به أبدا- أو : فإن لم يتقبلوا دعوتك إلى الإيمان- بعدما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي جاءهم- فاعلم وليستيقن كل من هو أهل للعلم أنما يطاوعون الأهواء المضلة، فلا أضل منهم أبدا[ إن الله لا يوفق لإصابة الحق وسبيل الرشد القوم الذين خالفوا أمر الله وتركوا طاعته، وكذبوا رسله، وبدلوا عهده، واتبعوا أهواء أنفسهم إيثارا منهم لطاعة الشيطان على طاعة ربهم ]١.
١ ما بين العلامتين[ ] مما أورد صاحب جامع البيان..
﴿ *ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون٥١ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون٥٢ وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين٥٣ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون٥٤ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين٥٥ ﴾
وليتحققوا أنا وصلنا قولنا ووحينا لكل أمة ).. وإن من أمة إلا خلا فيها نذير( ١ فبعثنا رسولا بعد رسول ليتعظوا فيفلحوا، أو أتممنا لهم القول، أو الدلالة على كون هذا القرآن معجزا، نقل عن أهل المعاني : والينا وتابعنا وأنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضا : وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا، ونصائح ومواعظ، والضمير لقريش واليهود، والآية رد على من قال : هلا أوتي محمد القرآن جملة !، [ ﴿ وصلنا لهم القول... ﴾ بأخبار الماضين، والنبأ عما أحللنا بهم من بأسنا إذ كذبوا رسلنا، وعما نحن فاعلون بمن اقتفى آثارهم، واحتذى في الكفر بالله وتكذيب رسله مثالهم، ليتذكروا فيعتبروا ويتعظوا ]٢
١ سورة فاطر. من الآية ٢٤..
٢ ما بين العلامتين [ ] مما أورد صاحب جامع البيان.
٤ سورة فاطر. من الآية ٢٤..

﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ﴾ ولئن كان أهل الشرك وطائفة من بني إسرائيل- وكانوا أكثرهم- لئن كفر هؤلاء وأولئك ومن على شاكلتهم بالقرآن ومن أنزل عليه، فإن فريقا من أهل الكتاب الذين جاءهم من كلام الله تعالى ووحيه ما جاءهم قبل نزول هذا الكتاب الخاتم يؤمنون به ويقدسونه، وحين يتلى عليهم يزدادون يقينا وخشوعا ).. إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا( ١( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين( ٢، ﴿ إنا كنا ﴾ قبل نزول القرآن منقادين لهدى ربنا وما جاءت به رسله
١ سورة الإسراء. من الآية ١٠٧ والآيتان ١٠٨، ١٠٩..
٢ سورة المائدة. الآية ٨٣..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٢:﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ﴾ ولئن كان أهل الشرك وطائفة من بني إسرائيل- وكانوا أكثرهم- لئن كفر هؤلاء وأولئك ومن على شاكلتهم بالقرآن ومن أنزل عليه، فإن فريقا من أهل الكتاب الذين جاءهم من كلام الله تعالى ووحيه ما جاءهم قبل نزول هذا الكتاب الخاتم يؤمنون به ويقدسونه، وحين يتلى عليهم يزدادون يقينا وخشوعا ).. إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا( ١( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين( ٢، ﴿ إنا كنا ﴾ قبل نزول القرآن منقادين لهدى ربنا وما جاءت به رسله
١ سورة الإسراء. من الآية ١٠٧ والآيتان ١٠٨، ١٠٩..
٢ سورة المائدة. الآية ٨٣..


﴿ أولئك يجزون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾ صبروا على أمانات دين سبق فلهم أجرهم، وصبروا على عهد الله تعالى وميثاقه في الملة الخاتمة فلهم أجر ثان، في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها "، ومع الإيمان حسنت أخلاقهم، فلا يقابلون السيئة بالسيئة، ولكن يدفعونها بالتي هي أحسن، ووقاهم الله تعالى شح أنفسهم، فهم يبذلون مما آتاهم ربهم فيما أحل وشرع لهم، وإذا جهل عليهم السفهاء، أو خاض الغافلون في الأحاديث التي لا نفع منها، وإنما هي من لغو القول أعرضوا عن تلك الأقوال وعمن قالوها- متاركة وإنكارا وتعففا عن مضاهاة الساخرين الآثمين
﴿ وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ﴾ لا نحب طريق الجاهلين، ولا نرضى السير فيها، ولا مخالطة سالكيها، مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن : أي لنا ديننا ولكم دينكم، ﴿ سلام عليكم ﴾ أمنا لكم منا فإنا لا نحاوركم ولا نسابكم، وليس من التحية في شيء... ﴿ لا نبتغي الجاهلين ﴾ لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة. اه
﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين٥٦ وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا. أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ؛ ولكن أكثرهم لا يعلمون٥٧. وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين٥٨. وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا. وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون٥٩. وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها ؛ وما عند الله خير وأبقى. أفلا تعقلون٦٠ ﴾
لما كانت الآيات السابقات قد بينت أن بعضا من اليهود والنصارى قد أسلموا وآمنوا ؛ بينما كان حال كثير من قوم الرسول صلى الله عليه وسلم وعشيرته حال الضالين المضلين، مع حرص النبي على استنقاذهم، وأسفه على غوايتهم ؛ ذكّره الله تعالى بما قضاه وأمضاه، وأنه سبحانه هو الهادي دون سواه :﴿ من يضلل الله فلا هادي له ﴾.. ( ١ ).. ﴿ من يهد الله فهو المهتد ﴾( ٢.
أخرج البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم... عن ابن عباس أنه قال :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾... نزلت في أبي طالب ؛ ألح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسلم فأبى ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. أخرج عبد بن حميد ومسلم... عن أبي هريرة قال : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : " ياعماه ؛ قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة " ؛ فقال : لولا أن يعيروني قريش - يقولون : ما حمله عليها إلا جزعه من الموت- لأقررت بها عينك ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ الآية-٣. ومهما حرص النبي وأحب لهم الهداية فلن يهتدي إلا من شاء ربنا الحكيم هدايته :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾( ٤ ﴿ وهو أعلم بالمهتدين ﴾ فيجازيهم بما هم أهل له.
يقول صاحب تفسير القرآن العظيم : وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد كان يحوطه وينصره، ويقوم في صفه، ويحبه حبا شديدا ؛ طبعيا لا شرعيا. فلما حضرت الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، والدخول في الإسلام ؛ فسبق القدر فيه، واختطف من يده ؛ فاستمر على ما كان عليه من الكفر. وعن المسيب بن حزن المخزومي - رضي الله عنه – قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عم ؛ قل لا إله إلا الله ؛ كلمة أحاج لك بها عند الله " ؛ فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ؛ أترغب عن ملة عبد المطلب ! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان له بتلك المقالة، حتى كان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾ ( ٥ وأنزل في أبي طالب :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ أخرجاه من حديث الزهري.. اه
١ سورة الأعراف. من الآية ١٨٦..
٢ سورة الكهف. من الآية ١٧..
٣ أورد الحديثين صاحب روح المعاني..
٤ سورة النحل. من الآية ٣٧..
٥ سورة التوبة. من الآية ١١٣..
﴿ وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ﴾ وقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : نخشى إن اتبعنا الذي جاءك من الرشد وخالفنا من حولنا من العرب المشركين أن يغيروا علينا، ويؤذوننا، ويتخطفوننا، - هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين، وحرم معظم، آمن منذ وضع، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق ؟، وقوله تعالى ﴿ يجبى إليه ثمرات كل شيء ﴾ أي من سائر الثمار... وكذلك المتاجر والأمتعة﴿ رزقا من لدنا ﴾ أي من عندنا-١ ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ لغفلتهم، أو لعدم عملهم بمقتضى علمهم، فما غاب من أحد ممن له إدراك فيهم أن الله تعالى رب هذا البيت هو الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف :)أولم يروا أنا جعلنا حرمنا آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون( ٢
١ مقتبس من تفسير القرآن العظيم..
٢ سورة العنكبوت. الآية ٦٧..
﴿ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ﴾ أي كفرت نعمتها، أو بطرت في معيشتها، كثير من القرى أهلكنا أهلها بكفرهم، )وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون( ١ ) وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا. فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا( ٢ ) وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ( ٣، ﴿ فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ﴾ تمرون على مساكن كثير من المهلكين، مثل قوم صالح- عليه السلام- فهل تجدون من يعمر بيوتهم بعد أن صار أصحابها كهشيم المحتظر ؟ ! لا سكنها إلا مار بالطريق يوما أو ساعة، ﴿ وكنا نحن الوارثين ﴾ عاد ملكها خالصا لنا
١ سورة النحل. الآيتان ١١٢..
٢ سورة الطلاق. الآيتان ٨، ٩..
٣ سورة محمد. الآية ١٣..
﴿ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا ﴾ ما يعذب الرحمن الرحيم قوما بفجورهم إلا بعد حلم منه عليهم وإعذار إليهم ).. وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا( ١ ).. لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.. ( ٢، ويبعث المرسلون في أم مدنهم وعاصمتها وكبراها، يتلون ما أوحى إليهم من ربهم، ويبينون للناس الآيات والعلامات الدالة على صدقهم، ﴿ وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾- أي لم أهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم، وفي هذا بيان لعدله وتقديسه عن الظلم، أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثه الرسل، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين، كما قال عز من قائل :)وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون( ٣ فنص في قوله :)بظلم )على أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما لهم منه وأن حاله في غناه وحكمته منافية للظلم، دل ذلك بحرف النفي مع لامه كما قال تعالى :)وما كان الله ليضيع إيمانكم.. ( ٤-٥
١ سورة الإسراء. من الآية ١٥..
٢ سورة النساء. من الآية ١٦٥..
٣ سورة هود. الآية ١١٧..
٤ سورة البقرة. الآية ١٤٣..
٥ ما بين العارضتين مقتبس من الجامع لأحكام القرآن..
﴿ وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها ﴾ لا تحسبوا معاشر من ضل سعيه- أعاذنا الله تعالى من الضلال- ولا تظنوا أن ما أمدكم به من مال وبنين مسارعة لكم في الخيرات، بل إنما أعطيتكم متاعا دنيويا، وعرضا ظاهريا، لا يلبث أن يفارقكم أو تفارقونه، ومهما كان مزدهرا مزخرفا فإنه عندي لا يساوي شيئا )ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون. ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون. وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين( ١، ﴿ وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ﴾ إن ما ادخر الله البر الرحيم لعباده المؤمنين الصالحين المصلحين هو العز المقيم، والنعيم العظيم، والمقام الكريم، مع ما يعجل لهم في الدنيا من الحياة الطيبة، والفتح والنصر المبين، أفلا أعملتم عقولكم لتدركوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ؟ ومن تكون له عاقبة الدار ؟ !
١ سورة الزخرف. الآيات: ٣٣، ٣٤، ٣٥..
﴿ أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين٦١ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون٦٢ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون٦٣ وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم يهتدون٦٤ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ٦٥ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون٦٦ فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين٦٧ ﴾
أفمن جاءه من الله الوعد الحق بالخلد في دار النعيم والتكريم- وهو ملاق ذلك فربنا لا يخلف الميعاد- كمن نال شيئا من زهرة الدنيا ثم يستحضر في الآخرة للعذاب وشديد العقاب ؟ هل يستويان ؟ كلا ! )لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون( ١
١ سورة الحشر. الآية ٢٠..
﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾ وقبل أن يذهب بهم إلى دار الجحيم يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ).. ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين. قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين. وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا.. ( ١
١ سورة سبأ. من الآية ٣١، والآية ٣٢، ومن الآية ٣٣..
﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا ﴾ فكل من غلبت عليهم الشقوة، ومن اتبعوا الشيطان يحشرون معا مصداقا لوعد الله الذي لا يخلف :)قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا( ١ )إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون( ٢ يقول هؤلاء الأشقياء بشرا وجنا أنهم اشتركوا في الغواية )وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين( ٣، ).. وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض.. ( ٤، ﴿ تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾ فالشيطان يتبرأ من كل من اتبعه ).. فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين. فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها.. ( ٥ والكبراء يتبرءون من الضعفاء
١ سورة الإسراء. الآية ٦٣..
٢ سورة الأنبياء. الآية ٩٨..
٣ سورة فصلت. الآية ٢٩..
٤ سورة الأنعام. من الآية ١٢٨..
٥ سورة الحشر. من الآية ١٦. ومن الآية ١٧..
﴿ وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم.. ﴾ يقال للخاسرين- تهكما- ادعوا واستنصروا من زعمتموهم شركاء الله ليصرفوا عنكم ما أنتم فيه ! فدعوهم، فما أغاثوهم ولا نصروهم، إذ هم لا يقدرون على تخليص أنفسهم مما حل بهم من الخسار والبوار وحر النار، بل يقولون :).. لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل.. ( ١، ﴿ ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ﴾ ويعاينون العذاب الذي أعد لهم، ويصلون العقاب جزاء لهم، ولو كانوا يهتدون في دنياهم إلى سبل السلام والرشد لوقاهم ربهم عذاب الجحيم
١ سورة إبراهيم. من الآية ٢١، ومن الآية ٢٢..
﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾ يحسرهم الحكم سبحانه فيسألهم : هل صدقتم ما جاءتكم به رسلي ؟ ! هل وجدتم ما وعدوكم به من سوء مصير المكذبين حقا ؟ ! فيختم على أفواههم
﴿ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ﴾ فعموا عما سيكون إذ استولت الحيرة عليهم، وأذهب الفزع والهول والبلاء كل ما بقي من مداركهم )ولا يسأل حميم حميما( ١، في موطن آخر حين يتوافدون على النار يتحاجون ويتخاصمون :) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار. قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار. قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار( ٢ ).. حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون( ٣
١ سورة المعارج. الآية ١٠..
٢ سورة ص. الآيات: ٥٩، ٦٠، ٦١..
٣ سورة الأعراف. من الآية ٣٨..
﴿ فأما من تاب ﴾ رجع إلى الحق، ومقتضى العقل والعلم، ﴿ وآمن ﴾ وصدق بالله وكتبه ورسله ولقائه وكل ما أوجب الاستيقان به، ﴿ وعمل صالحا ﴾ فاستقامت على الأعمال الصالحة الجوارح والأركان، كما استنار القلب والوجدان بالإيمان، ﴿ فعسى أن يكون من المفلحين ﴾ فإنه من المنجحين المدركين ما طلبوا، الآمنين مما هربوا، وعسى من الله تعالى واجبة.
﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون٦٨ وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون٦٩ وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون٧٠ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون٧١ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون٧٢ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون٧٣ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون٧٤ ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون٧٥ ﴾
وربك أيها النبي ورب كل قارئ ومتفكر، ومستمع ومتدبر، يخلق ما يشاء خلقه، ويختار ما يشاء ومن يشاء اختياره، فهو يصطفي من يشاء من الملائكة والناس رسلا﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾ توكيد لمعنى الجملة الأولى، ولهذا لم يتوسط بينهما حرف عطف، وتقدير الآية عند الطبري : ويختار لولايته الخيرة من خلقه، لأن المشركين كانوا يختارون خيار أموالهم لآلهتهم، فقال الله تبارك وتعالى﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار ﴾ لهداية من سبقت له السعادة في علمه.. اه. قال الثعلبي :﴿ ما ﴾ نفي، أي ليس لهم الاختيار على الله، قال بعض العلماء : لا ينبغي لأحد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك، بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة، يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة :) قل يا أيها الكافرون )وفي الركعة الثانية :)قل هو الله أحد(، روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول :" إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال في عاجل أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه اللهم وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به " قال : ويسمي حاجته "، ﴿ سبحان الله وتعالى عما يشركون ﴾ تنزه المولى العظيم وتقدس عما افتروا من ادعائهم أن لربنا شركاء، فسبحوا ربكم وأجلوه، وقدسوه ونزهوه عما يصفه به الوثنيون والملحدون والكافرون
﴿ وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ﴾ فهو أقرب إلى كل إنسان من حبل وريده، ويعلم ما توسوس به نفسه، وما انطوت عليه جوانحه وسريرته، وهو جل علاه مع علمه بذات الصدور لا يخفى عليه ما يظهرون )سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار( ١ ).. وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.. ( ٢.
١ سورة الرعد. الآية ١٠..
٢ سورة البقرة. من الآية ٢٨٤..
﴿ وهو الله لا إله إلا هو ﴾ وربكم هو المعبود بحق، اختص باستحقاقها الله دون سواه- قوله سبحانه :﴿ لا إله إلا هو ﴾تقرير لذلك، كقولك : الكعبة القبلة لا قبلة إلا هي-١﴿ له الحمد في الأولى والآخرة ﴾[ جميع المحامد لا تجب إلا له ]٢ فإن كان يحمد من يحمد لعزه ).. فلله العزة جميعا... ( ٣ وإن كان يحمد من يحمد بمعروفه، فكل خير وفضل هو لا غيره الذي أولاه ).. وما بكم من نعمة فمن الله.. ( ٤، والحامدون في الدنيا يقيمون بالحمد صلاتهم، فلا بد في كل ركعة أن يقرءوا :)الحمد لله.. (، كما يضاعفون بالحمد مثوبتهم وأجرهم :" والحمد لله تملأ الميزان " ٥، وفي الآخرة نحمد الله صدقنا وعده وأورثنا الجنة، ونحمد الله الذي نجانا من العذاب وأذهب عنا الحزن، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ﴿ وله الحكم وإليه ترجعون ﴾ الحكم لله العلي الكبير، يقضي فلا يرد قضاؤه، ويحكم فلا معقب لحكمه، ويفصل بين عباده يوم القيامة ).. والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء.. ( ٦، وإلى ربنا الرجعى )إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا. لقد أحصاهم وعدهم عدا. وكلهم آتيه يوم القيامة فردا( ٧
١ ما بين العارضتين أورده الألوسي..
٢ ما بين العلامتين[ ] أورده القرطبي..
٣ سورة فاطر. من الآية ١٠..
٤ من سورة النحل. من الآية٥٣..
٥ من حديث صحيح..
٦ سورة غافر. من الآية ٢٠..
٧ سورة مريم. الآيات: ٩٣، ٩٤، ٩٥..
﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ﴾ سلهم ! : أي معبود مما زعموه من آلهة يقدر على إطلاع الشمس وإسطاع ضوئها وإخراج ضحاها ؟ ! ولو أن الله تبارك وتعالى جعل الليل مستمرا إلى يوم القيامة لعجز المخلوقون جميعا- ومنهم ما اتخذوه من دون الله آلهة- لعجز هؤلاء جميعا عن تبديد ظلمة الليل والإتيان بضوء النهار، والسرمد : الدائم، ونصب على أنه مفعول ثان لجعل، أو على الحال، و﴿ إلى ﴾ متعلق ب﴿ جعل ﴾ أو ﴿ سرمدا ﴾، ﴿ أفلا تسمعون ﴾ أفلا تسمعون لله فاعل ذلك وتطيعون أمر الذي يقلب الليل والنهار الواحد الفاعل المختار ؟ ! )وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا )١ ).. يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار( ٢
١ سورة الفرقان. الآية ٦٢..
٢ سورة الزمر. من الآية ٥..
﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ﴾أخبروني : من يقدر على إذهاب ضوء الشمس، وإحلال ظلام الليل وهجعته، وسكونه وراحته إن قضى الله المعبود بحق أن يجعل النهار مستمرا متصلا إلى يوم القيامة ؟ ! والنهار : مدة ظهور ضوء الشمس من حين تشرق حتى تغرب، وفي الشرع زيادة من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، والليل مدة ذهاب ضوء الشمس، وبنقصان الوقت من طلوع الفجر الصادق إلى الشروق، من حيث الشرع، ﴿ أفلا تبصرون ﴾ أفلا تعملون بصائركم وتدركون مبلغ ضلال المنكرين لوجود الله والمشركين معه غيره ؟ مما أورد ابن جرير الطبري : من معبود غير المعبود الذي له عبادة كل شيء يأتيكم بليل تسكنون به فتستقرون وتهدءون فيه ؟ ! أفلا ترون بأبصاركم اختلاف الليل والنهار عليكم رحمة من الله لكم، وحجة منه عليكم، فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك دون غيره، ولمن له القدرة التي خالف بها بين ذلك. اه، قال جار الله : وإنما لم يقل : بنهار تتصرفون فيه كما قيل :﴿ بليل تسكنون فيه ﴾ لأن الضياء وهو ضوء الشمس تتعلق به المنافع المتكاثرة، وليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة.. اه، وقال أهل البرهان : قدم الليل على النهار لأن ذهاب الليل بطلوع الشمس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل
﴿ ومن رحمته ﴾ من رفق الله تعالى بعباده، ومن ترفقه بكم أيها الناس﴿ جعل لكم الليل والنهار ﴾ أوجد الله الليل مظلما ساكنا هادئا، والنهار مضيئا موقظا، وبحركة الخلق وسعيهم ونفعهم حافلا، ما إن ينشق نوره حتى تنتفض الطيور من أوكارها، ويتهيأ النبات والحيوان لاستقبال الشمس والاستفادة من إشعاعها وضيائها، ﴿ لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ﴾ لتستقروا في الليل وترقدوا وتسكنوا راحة لأبدانكم من عناء ما تكابد وتلاقي، ولتطلبوا في النهار رزقكم الذي قسم الله لكم تفضلا منه وكرما، وكأن التقدير : لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضل الله في النهار، وبهذا جاء القرآن الكريم في آية كريمة أخرى :) الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون( ١، قال صاحب جامع البيان : وفي الهاء التي في قوله :﴿ لتسكنوا فيه ﴾ وجهان : أحدهما- أن تكون من ذكر الليل خاصة، ويضمر للنهار مع الابتغاء هاء أخرى، والثاني- أن تكون من ذكر الليل والنهار، فيكون وجه توحيدها وهي لهما توحيد العرب في قولهم : إقبالك وإدبارك يؤذيني، لأن الإقبال والإدبار فعل، والفعل يوحد كثيره وقليله. اه، ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ أنعم المولى الكريم الوهاب عليكم بهاتين النعمتين بين نعم أخرى لا تحصونها، رفقا بكم ولتشكروه على إنعامه عليكم بذلك، نقل ابن كثير : أن الحمد لله ثناء عليه بأسمائه وصفاته، وأن الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه... وأن الشكر على الصفات المتعدية، لا يقال : شكرته لفروسيته، ولكن تقول : شكرته على كرمه وإحسانه إلي. اه والشكر منهاج النبيين والمؤمنين، فالله سبحانه يثني على نوح عليه الصلاة والسلام بقوله الحكيم :( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا( ٢، كما علمتنا آية كريمة بعض وصية لقمان لابنه وهو يعظه :(... أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير( ٣، ورسول الله سليمان عليه السلام يتوجه إلى ربه ضارعا أن يعينه على شكر النعمة، كما شهد بذلك قول الحق تبارك وتعالى :)فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين( ٤، وربنا عز وجل يأمر موسى صلوات الله عليه أن يظل شاكرا :).. فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين( ٥ كما بين الكتاب المجيد أن الشكر سبيل العفو والقبول :).. قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين. أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيآتهم في أصحاب الجنة.. ( ٦، هذا ! والإعراض عن الشكر يعقب الخسران، ويلحق المعرضين بحزب الشيطان، فإن إبليس لما تأبى عن أمر ربه وغوى، أقسم بين يدي الله- كما يحكي الذكر الحكيم- بأن يضم إليه أكثر ذرية آدم ليكونوا معه من أصحاب السعير، بما يقيمون عليه من الانصراف عن شكر العلي الكبير :)قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ( ٧، فحق على من يبتغي ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة أن يديم شكر المنعم عرفانا بفضله، وإذعانا لأمره، وتعرضا للمزيد من فضله وخيره، فهو سبحانه القائل :).. لئن شكرتم لأزيدنكم.. ( ٨، ولا يبطرن أهل النعيم نعيمهم، ولا يحملنهم على الكفور ترفهم، فكم من موسع لهم ثبتت على الحق قلوبهم، فسليمان الذي سخر الله له الجن والإنس والطير والريح وحقائق العلم، لما نقل إليه عرش المالكين لسبأ ما فتنه هذا الملك الذي لم ينبغ لأحد من بعده، بل هتف مذعنا لله، حذرا من فتن الحياة :).. هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم( ٩، فاشكروا الله بألسنتكم وجوارحكم وقلوبكم، وسلوه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته
١ سورة غافر. الآية ٦١..
٢ سورة الإسراء. الآية ٣..
٣ سورة لقمان. من الآية ١٤..
٤ سورة النمل. الآية ١٩..
٥ سورة الأعراف. من الآية ١٤٤..
٦ سورة الأحقاف. من الآية ١٥ ومن الآية ١٦..
٧ سورة الأعراف. الآيتان ١٦، ١٧..
٨ سورة إبراهيم. من الآية ٧..
٩ سورة النمل. من الآية ٤٠..
﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون. ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ واذكر يوم ينادي الواحد القهار أهل الشرك الفجار أين ما جعلتموه لي شريكا، ).. وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون( ١ يحسرهم سبحانه على ما أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم ( وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من نصير )٢، ويحقرهم الله وما كانوا يعبدون من دونه- تعالى وتقدس- ويثرب عليهم القرآن، كما جاء في آية كريمة سابقة :﴿ وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ﴾
١ سورة الأنعام. من الآية ٩٤..
٢ سورة الشورى. الآية ٤٦..
﴿ ونزعنا ﴾ جئنا دون إهمال﴿ من كل أمة شهيدا ﴾ وأخذنا من كل أمة رسولها ليحضر سؤالها ويشهد عليها بما كانت قد قالت وعملت، كما جاء في قول الحق سبحانه :) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا( ١، أحضرنا رسولهم المبعوث إليهم ).. وجيء بالنبيين والشهداء.. ( ٢ من الملائكة : وصحائف الأعمال، والجوارح، وما شاء الله تعالى من بشر أو خلق من خلقه كالأرض التي عملوا فوقها :)يومئذ تحدث أخبارها( ٣، ﴿ فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله ﴾ فقلنا هاتوا حجتكم إن كانت لكم حجة على صدق مدّعاكم، فعلموا صدق الذي بلغتهم رسل ربهم، ﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ وغاب عنهم – كالضائع- اختلاقهم وكذبهم وافتراؤهم وزعمهم الباطل في الدنيا أن الأصنام شفعاؤهم.
١ سورة النساء. الآية ٤١..
٢ سورة الزمر. من الآية ٦٩..
٣ سورة الزلزلة. الآية ٤..
﴿ فبغى ﴾ فتجاوز الحد.
﴿ أتيناه ﴾ أعطيناه.
﴿ الكنوز ﴾ ما يكتنز ويدخر.
﴿ لتنوء ﴾ لتثقل.
﴿ العصبة ﴾ الجماعة الكثيرة.
﴿ أولي ﴾ أصحاب.
﴿ لا تفرح ﴾ لا تبطر.
﴿ الفرحين ﴾ البطرين.
﴿ *إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين٧٦ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين٧٧ قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون٧٨ فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم٧٩ وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون٨٠ فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين٨١ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون٨٦ ﴾
القرآن العظيم يهدي ويثبت ويبشر، ويعذر ويحذر وينذر، ولقد مضت آيات كريمة في هذه السورة المباركة تذكر وتعظ، وتبين عاقبة المؤمنين، ومصير الطاغين، في العاجلة وفي يوم الدين، ففي فواتح السور :﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ﴾ ومن بعد ذلك جاءت آيات مباركة :﴿ .. بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ﴾﴿ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون. فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾﴿ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ﴾ ثم جاء التذكير بأن تلك سنة الله تعالى ماضية لا تنحصر في مكان، ولا تتخلف في زمان :﴿ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ﴾﴿ فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ﴾، ثم ضرب الله تعالى مثلا للذين طغوا فأهلكوا، ولم تغن عنهم صلتهم بالرسولين الكريمين موسى وهارون، فاصبروا معاشر أهل الحق فإن كفار قريش وفجارها عما قليل مهزومون، واحذروا أهل النعمة أن يفتنكم المتاع ترفا وحيفا فيبطش بكم كما بطش بقارون، فمثلما لم تغن الجنود الكثيرة عن فرعون وهامان ولا عن أنفسها، لم تغن الكنوز الوفيرة عن قارون، وأنتم يا من تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا لن تكونوا أكثر من فرعون جندا وعددا، ولا أوفر من قارون مالا وكنزا، فاستجيبوا لربكم من قبل أن يبطش بكم، فلا تغني عنكم أموالكم ولا أولادكم﴿ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ﴾ ظاهر القرآن الكريم أنه كان من الإسرائيليين، فتجاوز الحد، وتطاول عليهم، بفسوق عن الملة، أو جور عن القصد، أو عدوان على الغير، ﴿ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ﴾ ولقد أعطيناه مالا نبتليه، ولا معقب لما نمضيه، فكانت خزائن الأموال يثقل حملها الرجال- ومن المفسرين من أول المفاتيح بأنها الخزائن- أو : مفاتيح خزائن الأموال يعيا بحملها العدد من أقوياء الرجال- ومعلوم أن المال اسم لكل ما يتمول فليس بلازم أن يكون نقدا-[ ﴿ لتنوء بالعصبة ﴾ أحسن ما قيل فيه : أن المعنى : لتنيء العصبة أي تميلهم بثقلها ]١ مما يقول الألوسي :﴿ وآتيناه من الكنوز ﴾ أي من الأموال المدخرة، فهو مجاز يجعل المدخر كالمدفون إن كان الكنز مخصوصا به، وحكى في البحر أنه سميت أمواله كنوزا لأنها لم تؤد منها الزكاة، وقد أمره موسى عليه السلام بأدائها فأبى وهو من أسباب عداوته إياه.... ﴿ إذ قال له قومه ﴾.... تعلقه بمحذوف والتقدير : أظهر التفاخر والفرح بما أوتي إذ قال له قومه﴿ لا تفرح ﴾ لا تبطر... وعلل سبحانه النهي ههنا بكون الفرح مانعا من محبته عز وجل، فقال تعالى :﴿ إن الله لا يحب الفرحين ﴾ فهو دليل إني على كون الفرح بالدنيا مذموما شرعا. اه،
١ ما بين العلامتين[ ] أورده القرطبي..
﴿ وابتغ ﴾ واطلب.
﴿ ولا تنس ﴾ ولا تترك.
﴿ نصيبك من الدنيا ﴾ ما أحل الله لك في هذه الحياة.
﴿ الفساد ﴾ الشر والأذى، والظلم.
﴿ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ﴾ وقال لقارون قومه : اطلب فيما أعطاك الله تعالى مثوبة الدار الآخرة، فأنفق ما يدخر لك أجره من زكاة وصدقات وقربات، ﴿ ولا تنس نصيبك من الدنيا ﴾ لا تنس أن مالك ما قدمت ومال مورثك ما أخرت، أو لا تترك حظك من هذه الحياة أن تقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لك، أو لا تترك ترك الناس ما أحل الله لك من الزينة المباحة والطيبات من الرزق، فإن ذلك للذين آمنوا حظا خالصا لا يؤاخذون به يوم القيامة، مما نقل عن الحسن وقتادة وابن عطية :.. لا تضيع حظك في دنياك وتمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك، فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح أمره الذي يشتهيه، وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة. اه، ونقل عن ابن عمر قوله : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، وعن الحسن : قدم الفضل وأمسك ما يبلغ. اه، ﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ﴾ مما نقل عن ابن العربي : استعمال نعم الله في طاعة الله، قال مالك : الأكل والشرب من غير سرف، قال ابن العربي : أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء، ويشرب العسل، ويستعمل الشواء، ويشرب الماء البارد. اه
أقول : وكان عليه الصلاة والسلام شديد الحرص على النظافة والطيب، وكان يستعذب له الماء، ويحب من الشاة كتفها وكبدها. اه، ﴿ ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ﴾ لا تتماد في طلب الفساد وفعله، ودع عنك التفاخر والتكاثر، ولا يستخفنك المرح والخيلاء، فتزدري العباد وتطغى على الضعفاء، فإن الله الولي الحميد يمقت كل جبار عنيد، مناع للخير كنود
﴿ من القرون ﴾ من أهل القرون والأزمان السابقة.
﴿ المجرمون ﴾ المرتكبون للجرائم والذنوب والخطايا.
﴿ قال إنما أوتيته على علم عندي ﴾ رد على نصيحة قومه له، وكأنما يريد هذا الكفور المغرور ادعاء أهليته لما بيده، فساق بطريق الحصر أنه ما نال هذا المال إلا لعلة كائنة أنه على علم ١ دقيق لديه، أو أوتيه لعلمه، وما أحمقه ! أيظن أن الله يعطي الدنيا من يحب ؟ كلا فإنه بحكمته قد يعطيها من لا يحب، ولكن لا يعطي الدين إلا من أحبه، ﴿ أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ﴾ لقد جهل أو تجاهل أن المعبود بحق قد عذب وبطش بكثير من أهل القرون الماضية كانوا أشد منه قوة وأكثر منه مالا- فالخلاق الرزاق هو القوي الغني- مما قال الألوسي : تقرير لعلمه ذلك، وتنبيه على خطئه في اغتراره، وعلمه بذلك من التوراة أو من موسى عليه السلام، أو من كتب التاريخ، أو من القصاص، والقوة تحتمل القوة الحسية والمعنوية، والجمع يحتمل جمع المال وجمع الرجال، والمعنى : ألم يقف على ما يفيده العلم... ويحتمل أن تكون الهمزة للإنكار... والمراد : رد ادعائه العلم والتعظم به بنفي هذا العلم عنه، أي أعلم ما ادعاه ولم يعلم هذا حتى يقي نفسه مصارع الهالكين ؟ ! ﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾ولا يستخبر الآثمون الفاجرون ولا تستعلم الملائكة منهم عن ذنوبهم في الآخرة، [ وفاعل السؤال إما الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام، والمراد بالسؤال المنفي هنا، وكذا في قوله تعالى :)فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان( ٢- على ما قيل- سؤال الاستعلام، ونفي ذلك بالنسبة إليه عز وجل ظاهر، وبالنسبة إلى الملائكة عليهم السلام لأنهم مطلعون على صحائفهم أو عارفون إياهم بسيماهم، كما قال سبحانه :)يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام( ٣، والمراد بالسؤال المثبت في قوله عز وجل :)فوربك لنسألنهم أجمعين( ٤ سؤال التوبيخ والتقريع، فلا تناقض بين الآيتين، وجوز أن يكون السؤال في الموضعين بمعنى، والنفي والإثبات باعتبار موضعين أو زمانين، والمواقف يوم القيامة كثيرة واليوم طويل، فلا تناقض أيضا ]٥
١ أورد جمع من المفسرين أنه أوتي علم الكيمياء[هكذا] وأطال بعضهم في ذكر مبادئ، هذا العلم حتى زاد بحث الألوسي في هذا الشأن على ثلاثة آلاف كلمة، تعرض فيها لآراء الحكماء الأقدمين في خصائص المعادن السبعة المنطرقة، وهل هي مختلفات بالفصول فيكون كل منها نوعا.. أو مختلفات بالخواص، ونقل عن ابن ماجة [الصائغ] وأرسطو طبائع الفلزات واختلاف أعراضها، ثم رأى الشيخ أبو علي بن سينا ومن تابعه من المشارقة، ثم ما حكى ابن خلدون عنه، ومضى يوازن بين الآراء، ويتمنى للشيخ لو لم يخض فيما لم يحط بعلمه، وأقول: لعل الكثير من هذه الأقوال لم يبلغ الحقيقة، وإنما هي ظنون، ثم هل لا بد في الحصول على المال الكثير من الكيمياء؟ أليست التجارة والصناعة والزراعة وغيرها مما يجعله الله تعالى إذا شاء من أسباب وفرة المال وعظم الثراء؟!.
٢ سورة الرحمن. الآية ٣٩..
٣ سورة الرحمن. الآية ٤١..
٤ سورة الحجر. الآية ٩٢..
٥ ما بين العلامتين[ ] مما جاء في روح المعاني..
﴿ فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ﴾ فخرج قارون يوما على قومه يرفل في كسوته، أو يختال في مشيته، أو يباهي بثروته، فقال الذين أكبر همهم الحياة العاجلة، ومن زين لهم حب الشهوات : ليتنا في مثل ما فيه قارون من قناطير الأموال، لقد نال الحظ الأوفر والنصيب الأكبر، لكن أهل العلم والبصر بحقيقة الحال، وما ينقلب إليه الناس في المآل، نبهوا هؤلاء الغافلين وحذروا الجهال من الركون إلى العاجلة ونسيان الآجلة، فقالوا :﴿ ويلكم١ ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ﴾
١ دعاء الهلاك بحسب الأصل، ثم شاع استعماله في الزجر عما لا يرتضى..
﴿ ويلكم ﴾ دعاء بالهلاك، ويراد به الزجر، والنهي عن الفعل.
﴿ يلقاها ﴾ يدركها ويفهمها، أو يوفق للعمل بها.
﴿ ويلكم١ ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ﴾ نعيم الله وحسن العاقبة لديه سبحانه أبرك وأكرم وأدوم من ملك الأرض جميعا، والمؤمنون الصالحون المصلحون هم الموعودون بالخلد والعز والتكريم، ولا يوفق لهذه السبيل إلا من صبر على الطاعات، وصبر عن المعاصي، وصبر في السراء والضراء وحين البأس فأولئك هم الفائزون، أما من نازع الله العظيم كبرياءه فإن حقا على الملك المهيمن أن يقصمه، ويأخذه أخذة أليمة شديدة، وليس من جزاء عاجل للمغرور المتكبر إلا أن يهينه العزيز الجبار ويذله، ويجعله عبرة ونكالا
١ دعاء الهلاك بحسب الأصل، ثم شاع استعماله في الزجر عما لا يرتضى..
﴿ فخسفنا به وبداره ﴾ أذهبناهما وغيبناهما فيها.
﴿ فئة ﴾ جماعة.
﴿ فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ﴾ فأمر الكبير المتعال الأرض التي اختال قارون وهو يسير عليها، وتباهى بما اكتنز فيها أمرها الله أن تبتلعه وتبتلع مسكنه، ولئن كان المولى الحكيم قد أهلك قوم صالح وأبقى دورهم خاوية فإنه جلت حكمته قد شاء أن تبتلع الأرض مع قارون بيته، حتى لا يبقى من كنوزه عين ولا أثر، فما أغنى عنه صحب ولا مال، ولا استطاعوا أن يدفعوا عنه بأس ربنا شديد المحال، وأنى له أو للخلق جميعا أن يمتنعوا من مراد ربنا ذي الجلال ؟ !
﴿ وي ﴾ للتعجب أو للتندم.
﴿ يبسط ﴾ يوسع.
﴿ ويقدر ﴾ يضيق، ويرزق بقدر قليل.
﴿ من ﴾ أنعم.
﴿ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ فلما حلت بقارون النازلة أفاق الغافلون، وعجبوا من نافذ مشيئه الله سبحانه، وأنه يوسع الرزق لمن يريد عز ثناؤه أن يوسع له، ويضيقه على من شاء أن يرزقه رزقا ضيقا، ﴿ لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ﴾ لولا أن الله حلم وأمهل، واختار ما هو أدوم لنا وأفضل لولا هذه المنة لخسف بنا كما خسف بقارون الذي تمنينا أن ندرك ما أدركه، عجبا لمن غفل عن مصير الكافرين، وخيبة أمل العاتين المستكبرين ؟
﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين٨٣ من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون٨٤ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين٨٥ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين٨٦ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ٨٧ ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون٨٨ ﴾
تلك الدار التي هي دار القرار، نجعل النعيم فيها والكرامة لأهل الصلاح الأبرار، الذين خلصت نفوسهم من الكبر، وكفوا جوارحهم عن الشر والأوزار، وحسن المصير لا يدركه إلا الأخيار، مما نقل ابن كثير : وقال ابن جريج ﴿ لا يريدون علوا في الأرض ﴾ تعظما وتجبرا، ﴿ ولا فسادا ﴾ عملا بالمعاصي، ... عن علي قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله تعالى :﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ﴾ وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره، فإن ذلك مذموم كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد " وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمل فهذا لا بأس به، فقد ثبت أن رجلا قال : يا رسول الله ! إني أحب أن يكون ردائي حسنا ونعلي حسنة، أفمن الكبر ذلك ؟ فقال :" لا إن الله جميل يحب الجمال ". أه.
﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيآت إلا ما كانوا يعملون ﴾ ولكأن مجرد الانتساب إلى الإيمان والدخول في الإسلام، وترك العلو والفساد ليست مما تدرك به الدرجات في الآخرة دون عمل، بل مع اليقين، والكف عن شدة المرح والسعي في الضرر، فإن على المؤمن أن يحسن العمل، فكل من فعل حسنة يجزى بها جزاء مضاعفا :)من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.. ( ١ إلى سبعمائة مثل :) مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.. ( ٢ إلى أمثال لا تحصى :).. والله يضاعف لمن يشاء.. ( ٣( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة.. ( ٤.
﴿ ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيآت إلا ما كانوا يعملون ﴾ ومن يكسب خطيئة أو إثما فلا يجازى على أوزاره و سيآته إلا بما هو مشاكل لما كان يفعل من غي وشر
﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾ إن الذي أنزل عليك يا محمد وأوجب تلاوة القرآن وتدبره والتزكي به والدعوة إليه وانتهاج سبيله وشرعته وخلقه لمرجعك إلى معاد عظيم، وهل هو اليوم الآخر، والشفاعة العظمى، والمقام المحمود الذي وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ أم العود إلى مكة بعد هجرته منها- كما ثبت عن ابن عباس- كما نقل عن القتيبي : معاد الرجل بلده، لأنه يتصرف في البلاد ثم يعود إليه :﴿ قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ﴾ تعلمنا الآية الكريمة كيف تكون الدعوة حكيمة، والعظة بالغة، والمجادلة لينة تتحاشى الغلظة والفظاظة، كما جاء في آية كريمة أخرى ).. وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين( ٥ فربنا أعلم أي الفريقين أهدى، وهو الشهيد لي بأني جئتكم بالهدي، فما أنا بنعمة ربي من الضالين، ثم توجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه الأمي، الذي ما كان قبل نزول الوحي يعلم أنه قد اختير ليكون آخر نبي، ولا كان يدري أن قرآنا حكيما سيتنزل عليه من لدن ربه ) وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.. ( ٦ لكن رحمة ربك سبقت ومشيئته أن يمنّ عليك وعلى المؤمنين فأنزل عليك الكتاب العظيم، داعيا إلى الصراط المستقيم، فاثبت ومن معك على منهاجه، واصبروا على أمانة تبليغه، واصدع بما جاءك من أمره، ولا تؤخر الإنذار بشيء منه تألفا للمشركين
١ سورة الأنعام. من الآية ١٦٠..
٢ سورة البقرة. من الآية ٢٦١..
٣ سورة البقرة. من الآية٢٦١..
٤ سورة البقرة. من الآية ٢٤٥.
٥ سورة سبأ. من الآية ٢٤..
٦ سورة الشورى. من الآية ٥٢..
﴿ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾ فإن كتمان بعضه ولو كان قليلا فيه عون للضالين المجرمين، فأعرض عنهم وبلغ كل ما أوحي إليك من ربك ).. وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس.. ( ١.
١ سورة المائدة. من الآية ٦٧..
﴿ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ﴾ لقد جاءك الحق من ربك، فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ ! أليسوا قد اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقرآن غير الذي بين يديه ؟ ! وقالوا :).. ائت بقرآن غير هذا أو بدله.. ( ١ فألهمه الله تعالى حجته، وأنزل عليه :).. قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي.. )أليسوا قد عرضوا عليه أن يكف عن سب آلهتهم ويكفوا عن سب إلهه ؟ ! فجاءه وحي ربه :)قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين )ألم يقترحوا أن يسكت عن تلاوة الآيات التي تسفه عقول المشركين وتبطل ضلالهم ؟ ! فتكون بذلك مهادنة لهم، ولربما يخطر في البال أن يكون الإمهال مما يطمع في هدى بعد ضلال ؟ ! فتأتيه الآيات الكريمة تترى )وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا( ٢ ومن قبلها يعلمه ربه :)وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورا( ٣ فهو لا يزيد الظالمين إلا خسارا، بينما يهدي ويعظ ويشفي قلب من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فادع إلى الله وليدع من اتبعك على هدى وبصيرة، فلعل العليم الخبير يهدي بها ذرية هؤلاء المشركين، وبحسبكم أن تظلوا قرآنيين، وعلى الحق تنادون ).. معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون( ٤ وما يرضى عنكم المشركون والكتابيون حتى تتبعوا ملتهم فاحذروا كيدهم ).. قاتلهم الله أنى يؤفكون( ٥ وإذا كان هذا بلاغ الله العظيم إلى نبيه وهو إمام المتقين، فهل يرضى الملك القدوس المهيمن من بعض من ينتسبون إلى الإسلام أن يساوموا على ميثاق رب العالمين ؟ ! حاشا ! فقد أعذر الله تعالى إلى الناس وأنذرهم ونادى المؤمنين وحذرهم :).. لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.. ( ٦ ).. لا تتولوا قوما غضب الله عليهم.. ( ٧ ).. إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين( ٨ ).. إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين( ٩ ).. ومن يتولهم منكم فإنه منهم.. ( ١٠
١ سورة يونس. من الآية ١٥..
٢ سورة الإسراء. الآيات ٧٣، ٧٤، ٧٥..
٣ سورة الإسراء. الآيتان ٤٥، ٤٦..
٤ سورة الأعراف. من الآية ١٦٤..
٥ سورة التوبة. من الآية ٣٠..
٦ سورة الممتحنة. من الآية ١..
٧ سورة الممتحنة. من الآية ١٣..
٨ سورة آل عمران من الآية ١٤٩..
٩ سورة آل عمران. من الآية ١٠٠..
١٠ سورة المائدة. من الآية ٥١..
﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ﴾ مما أورد ابن كثير :.. هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة، .. والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس... ﴿ له الحكم ﴾ أي الملك والتصرف ولا معقب لحكمه﴿ وإليه ترجعون ﴾ أي يوم معادكم، فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. اه [ الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أهل دينه... ﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾... والظاهر أنه أراد بالشيء الموجود المطلق لا الموجود وقت النزول فقط، فيؤول المعنى إلى قولنا : كل موجود في وقت من الأوقات سيهلك بعد وجوده إلا ذاته تعالى..... وقال سفيان الثوري : وجهه تعالى العمل الصالح الذي توجه به إليه عز وجل... وقال أبو عبيدة : المراد بالوجه جاهه تعالى الذي جعله في الناس.. والسلف يقولون : الوجه صفة نثبتها لله تعالى، ولا نشتغل بكيفيتها ولا بتأويلها، بعد تنزيهه عز وجل عن الجارحة..... والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو جل وعلا حسبنا ونعم الوكيل. ]١.
١ مما أورد الألوسي..
Icon