تفسير سورة المؤمنون

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المؤمنون : مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المؤمنون: مكية
قوله تعالى ذكره: ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ إلى قوله: ﴿لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾.
قال مجاهد إن الله تعالى وجلّ ثناؤه غرس جنة عدن بيده، ثم قال حين فرغ، ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون...﴾ الآيات، ثم أغلقت فلم يدخلها إلا من شاء الله، ولا تفتح إلا بالسحَر مرة، ثم قرأ: قد أفلح المؤمنون.
وعن ابن عباس: أنه قال: خلق الله جنة عدن بيده، فتكلمت فقالت: ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ / أي: قد سعد المصدقون وبقوا في الجنة.
فالمعنى: قد بقي الذي صدقوا محمداً وما جاء به في النعيم الدائم، وأصل الفلاح، البقاء في الخير.
ثم قال: ﴿الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.
أي: هم متذللون لربهم إذا قاموا إلى صلاتهم.
4941
قال أنهم خشعت قلوبهم، فلا يعرف أحدهم من عن يمينه ولا من عن شماله، كان يستجب أن لا يجاوز المصلي ببصره موضع سجوده إلا بمكة، فإنه يستحب أن ينظر إلى البيت ولم يوقت مالك في ذلك وكان يقال: نزلت أدباً لقوم كانوا يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء فنهوا عن ذلك.
قال ابن سيرين كان رسول الله ﷺ ينظر إلى السماء في صلاته، فلما أنزل الله هذه الآية، جعل رسول الله وجهه حيث يسجد.
وقال مجاهد والزهري: الخشوع: سكون الأطراف في الصلاة.
وقال الحسن: خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك البصر، وخفضوا به الجناح.
وقال علي بن أبي طالب: خشوع في القلب، لا تلتفت في صَلاتك.
4942
وقال معمر عن الحسن: خاشعون " خائفون.
وعن ابن عباس: خاشعون "، خائفون ساكنون.
وحقيقة الخاشع، المنكسر قلبه إجلالاً لله ورهبة منه.
وقال مالك: الخشوع في الصلاة: الإقبال عليها. السكون فيها.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ﴾.
أي: هم عن الباطل وما يكرهه الله معرضون.
قال ابن عباس: عن الباطل.
وقال الحسن: عن المعاصي.
وقال ابن زيد: هم النبي ﷺ وأصحابه، كانوا عن اللغو [معرضين].
وقال الضحاك: اللغو: الشك.
وقيل: الغناء.
وروى مالك عن محمد بن المنكدر أنه قال: يقول الله جلّ ذكره يوم القيامة أين
4943
الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللغو ومزامير الشيطان، أدخلوهم في رياض المسك، ثم يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وثنائي علي وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وقال الضحاك: اللغو: الشرك بالله.
" واللغو " في اللغة، ما يجب أن يلغى ويطرح ويترك من اللعب والهزل والمعاصي. والمعنى، والذين شغلهم الجد عن اللغو.
ثم قال تعالى: ﴿والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾.
أي: مؤدون زكاة أموالهم، فمدح الله مخرجي الزكاة، وإن لم يخرجوا غيرها، وذم الذين يكنزون الذهب والفضة ولا يزكون.
قوله تعالى ذكره: ﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ إلى قوله: ﴿أَحْسَنُ الخالقين﴾.
أي: والذين يحفظون فروج أنفسهم فلا يستعملونها في شيء إلا في أزواجهم التي أحلها لهم النكاح، أو في ملك أيمانهم، يعني: الإماء، فليس يلامون على ذلك.
ثم قال: ﴿فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون﴾.
أي: فمن التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته أو ملك يمينه، فهم العادون
4944
حد الله، المجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.
قال ابن عباس: الزاني من العادين. وقاله عطاء.
قال ابن زيد: ﴿فأولئك هُمُ العادون﴾ يقول: الذين يعبدون من الحلال إلى الحرام.
وقال الزهري سألت القاسم بن محمد عن المتعة، فقال: هي محرمة في كتاب الله، ثم تلا. ﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ...﴾ إلى قوله: ﴿العادون﴾ أي: فمن طلب سوى أربع نسوة وما ملكت يمينه فهو متعد إلى ما لا يحل له. وهذه الآية عمت تحليل الأزواج وملك اليمين على كل حال، وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين اختلاف، وكذلك الجمع بين المملوكة وعمتها، وبين المملوكة وخالتها، وفيها تخصيص بالتحريم لوطإ الحائض، وتحرم وطئ الأمة إذا زوجت وتحريم وطئ المظاهر منها حتى يكفر.
ثم قال تعالى: ﴿والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾.
أي: يقومون حفظ أماناتهم وعهدهم ويرعون ذلك.
قيل: عنى بالأمانات هنا، الصلاة والطهر من الجنابة وجميع الفرائض.
4945
وقيل: هو عام في كل أمانة.
وأصل الرعي في اللغة القيامة على إصلاح ما يتولاه الراعي لأحواله.
ثم قال: ﴿والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾.
أي: يحافظون على وقتها وأدائها/ بحدودها، لا يفوتهم وقتها.
وقال النخعي: " يحافظون " يداومون على أداء المكتوبة.
ثم قال تعالى: ﴿أولئك هُمُ الوارثون﴾.
أي: أولئك الذين تقدمت صفتهم هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار في الجنة.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " ما منكم أحد إلا له منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله. قال: فذلك قوله: ﴿أولئك هُمُ الوارثون﴾ ".
قال أبو هريرة: يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله.
4946
وقال مجاهد يرث [الذي] من أهل الجنة، أهله وأهل غيره، ومنزل الذي من أهل النار. فهم يرثون أهل النار، فلهم منزلان في الجنة وأهلان، وذلك أن له منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، فأما المؤمن فيبني منزله الذي في الجنة، ويهدم منزله الذي في النار، وأما الكافر فيورث منزله الذي في الجنة، ويبني منزله الذي في النار.
وروى عمر بن الخطاب أن النبي ﷺ قال: " لقد أنزلت عَليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ".
يعني: من قام عليهن ولم يخالف ما فيهن، يعني: ثمان آيات في أول هذه السورة، وآيتين فيهما فرض الصوم والحج.
ثم قال: ﴿الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
أي: يرثون الجنة، مقامهم دائم فيها.
والفردوس عند العرب، البستان ذو الكرم.
وروى قتادة عن أنس أن الفردوس ربوة الجنة، أو وسطها وأفضلها.
وقال كعب: خلق الله جلّ ذكره بيده جنة الفردوس، وغرسها بيده، ثم قال
4947
لها: تكلمي، فقالت: " قد أفلح المؤمنون ".
وقال داود بن بقيع لما خلقها الله قال لها: تزيني، فتزينت.
ثم قال لها: تكلمي، فقالت: طوبى لمن رضيت عنه.
وقال أحمد بن حنبل في كتاب التفسير: إن الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل جبالها المسك الأذفر.
وعن أبي هريرة أنه قال: " الفردوس جبل في الجنة من مسك تفجر من أصله أنهار [أهل] الجنة ".
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ " الجنة مائة درجة، أعلاها وأوسطها الفردوس، ومنها تفجر أنهار الجنة ".
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾.
يعني: آدم استل من الطين والسلالة: القليل منه، وكذلك باب الفعالة، يأتي للتقليل من الشيء، كالقلالة والنخالة، فالسلالة المستلة من كل تربة فكان خلق آدم عليه السلام من تربة أخذت من أديم الأرض، وخلقت حواء من ضلعه.
وقيل: خلقت من فضلة طين آدم.
4948
قال قتادة: استل آدم من الطين، وخلقت ذريته من ماء مهين.
وقيل: معناه، ولقد خلقنا الإنسان، يعني: ولد آدم من سلالة، وهي النطفة استلت من ظهر الرجل " من طين " وهو آدم الذي خلق من طين، وهو قول مجاهد، وهو اختيار الطبري كأنه قال: ولقد خلقنا ولد آدم من سلالة آدم. وآدم: هو الطين، لأنه منه خلق، ودل على صحة هذا المعنى قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾. وآدم لم يكن نطفة، إنما كان ولده نطفة، فدل على أن المراد بالإنسان ولد آدم، دون آدم. فالطين كناية عن آدم، كأنه قال: خلقنا ولد آدم من سلالة والسلالة من طين، أي: من آدم.
والعرب تسمى ولد الرجل ونطفته سليلته وسلالته لأنه مسلول منه.
قال ابن عباس: السلالة، صفوة الماء.
وقوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾.
أي: ثم جعلنا الإنسان الذي خلقناه من سلالة من طين نطفة في قرار مكين، يعني: الرحم، وسمي " مكين " لأنه مكن لذلك، وهيء له ليستقر فيه إلى بلوغ أمره.
4949
ثم قال: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً﴾.
أي: قطعة من دم ﴿فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً﴾، هي القطعة من اللحم، وسميت مضغة لأنها قدر ما تمضغ ﴿فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً﴾.
أي: كل عضو عظم، ﴿فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً﴾ أي: ألبسنا كل عظم لحماً.
ثم قال: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾.
أي: أنشأنا الإنسان خلقاً آخر.
وقيل: المعنى، ثم أنشأنا/ هذا الخلق المتقدم ذكره وانتقاله خلقاً آخر، وهو نفخه الروح فيه، فيصير إنساناً، وكان قبل ذلك صورة، هذا قول: ابن عباس وأبي العالية والشعبي وأبن زيد.
وقال ابن عباس: هو انتقاله في الأحوال بعد الولادة من الطفولة إلى الصبا إلى الكهولة، ونبات الشعر وخروج السن وغير ذلك من الأحوال.
وقال قتادة قيل: هو نبات الشعر وقيل هو نفخ الروح.
4950
وقال مجاهد: هو استواء شبابه.
وقيل: هو خلقه ذكراً أو أنثى.
وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق قال: " إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ".
وروي: أن النطفة تقيم في الرحم أربعين يوماً نطفة، ثم تصير علقة فتقيم أربعين يوماً، ثم تصير مضغة فتقيم أربعين يوماً، ثم تصير عظاماً مكسواً لحماً، وذلك في تمام أربعة أشهر، ثم في العشر الأول من الشهر الخامس يصور وينفخ فيه الروح ويتحرك، ولذلك جعل الله عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، لأنها تعلم في ذلك هل في جوفها حمل أو لا، إذ مدة تحرك المولود في البطن أربعة أشهر وعشر، فإذا تحرك، انتقلت عدتها إلى أن تضع حملها. ط
ثم قال: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ أي: أحسن الصانعين قاله مجاهد.
ويروى: أن هذا مما تكلم به عمر قبل أن ينزل، فنزل على ما قاله عمر
4951
و " تبارك " تفاعل من البركة.
وقال ابن جريج: كان عيسى يخلق بأمر الله تعالى فلذلك قال: ﴿أَحْسَنُ الخالقين﴾.
وقال مجاهد: يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين، وهذا اختيار الطبري. لأن العرب تسمي كل صانع خالقاً. قال الشاعر، وهو زهير:
ولأَنْتَ تَفْرِيَ ما خَلقْتَ وَبَعْ ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَيَفْري.
أي: ما صنعت.
وقيل: معناه، أحسن المقدرين. فالناس يقدرون. ولا يتم ما يريدزون لعجزهم والله يتمم ما يقدر، فهو خير المقدرين.
وقيل المعنى، أن المشركين صنعوا تماثيل ولا ينفخون فيها الروح فخلق الله آدم ونفخ فيه الروح، فهو أحسن الصانعين، إذ لا يطيق أحد نفخ الروح غيره.
ورويَ: أن عمر بن الخطاب لما سمع الآيات إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ قال: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾. فنزلت ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾.
قوله تعالى ذكره: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ﴾. إلى قوله: ﴿في آبَآئِنَا الأولين﴾.
أي: ثم إنكم يا بني آدم بعد إنشاء الله لكم خلقاً آخر تموتون تصيرون رفاتاً ثم
4952
إنكم بعد موتكم وتصييركم رفاتاً تبعثون فتحيون للحساب والجزاء في القيامة.
ثم قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ﴾.
يعني: سماوات بعضها فوق بعض.
والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. فلذلك قيل للسماوات طرائق، إذ بعضها فوق بعض.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ﴾.
أي: لم نغفل عن خلق السماوات أن تسقط عليكم، بل كنا حافظين لهن. وهذا بمنزلة قوله: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء: ٣٢] أي: محفوظاً أن يسقط عليكم.
وقيل: محفوظاً من الشياطين.
وقيل: المعنى، إنا لحفظنا إياكم خلقنا السماوات هذا الخلق، ويجوز أن يكون المعنى: ليس يغفل عن أعمال الخلق، وأحصى أفعالهم مع كون سبع طرائق فوقهم.
ثم قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ﴾، يعني: مياه الأرض كلها أصلها من السماء، أسكنه الله الأرض لينتفع به خلقه.
قال ابن جريج: " ماء الأرض هو ماء السماء ". فماء الآبار والأدوية والعيون، هو من ماء السماء أصله، أسكنه الله الأرض.
4953
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون﴾.
أي: وإنا لقادرون على أن نذهب بالماء الذي أسكناه الأرض فتهلكوا بالعطش وتهلك مواشيكم وهذا مثل قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ/ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠]. فمن نعمة الله على خلقه أن أسكن لهم الماء في الأرض مخزوناً يشربونه ويسقون مواشيهم ويسقون زرعهم وأَجْنُنَهم، ويتطهرون به وغير ذلك من منافعهم به.
وروى ابن عباس أن النبي ﷺ قال: " أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسى أنهار: سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنير وهو نهر مصر أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها، فاستودعها الجبال وأجاراها في الأرض، وجعل فيها معايش للناس في أصناف معايشهم، وذلك قوله تعالى ذكره: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فأسكناه فِي الأرض﴾ وإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، أرسل الله تعالى جبريل ﷺ، فرفع من الأرض القرآن والعلم وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع ذلك إلى السماء، فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون﴾ ".
ثم قال تعالى ذكره: ﴿فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾.
أي: فأحدثنا لكم بالماء بساتين من نخيل وأعناب ﴿لَّكُمْ فِيهَا﴾ أي: من
4954
الجنات فواكه كثيرة، ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾.
أي: ومن الفواكه تأكلون.
وقيل المعنى: ومن الجنات تأكلون.
وقيل المعنى: من النخيل والأعناب تأكلون.
وخص ذكر النخيل والأعناب دون سائر الثمار، لأن القوم الذين نزل عليهم القرآن كان عامة فاكهة بلدهم النخيل والأعناب، فخوطبوا بهما عندهم من الثمار ليذكروا أنعم الله عليهم، فكان النخيل لأهل الحجاز والمدينة، وكانت الأعناب لأهل الطائف.
ثم قال: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن﴾.
أي: وأنشأنا لكم ذلك، يعني شجرة الزيتون تخرج من جبل فلسطين. " وطور سيناء " الجبل الحسن.
فالمعنى وأنشأنا لكم شجرة خارجة من هذا الجبل.
ومن كسر السين من " سيناء " جعله فعلالاً وليس بفعلاْ إذ ليس في الكلام هذا المثال فيه همزة التأنيث، ولم يصرف لأنه اسم للبقعة، ولأنه معرفة.
وقال الأخفش: هو اسم أعجمي.
4955
فأما من فتح السين، فإنه فعلاء، كحمراء، فلم ينصرف للتأنيث وهما لغتان وقال أبو عمرو: الفتح لغة بني تميم.
وقال الفراء: لم يكسر السين إلا بنو كنانة.
وقال مجاهد: معنى سيناء: المبارك.
وقال ابن عباس: هو جبل بالشام مبارك.
وقال قتادة: معنى: " سيناء " و " سينين "، حسن.
وقال ابن عباس أيضاً: سيناء، الجبل الذي نودي منه موسى.
وقال ابن زيد: هو الطور الذي بالشام جبل ببيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة.
وقيل: هو جبل ذو شجر.
والمعنى فيه: أن سيناء اسم معرفة، أضيف إليه الطور فعرف به كما قيل: جبلا طيء، وهو معنى قول ابن عباس: أن سيناء الجبل الذي نودي منه موسى، وهو مع ذلك مبارك.
4956
ويلزم من قال معناه جبل مبارك أو جبل حسن أون ينون طوراً ويجعل سيناء له نعتاً.
وقوله: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ مذهب أبي عبيدة أن الباء زائدة والتقدير، تنبت الدهن.
ومذهب الفراء وأبي إسحاق أن الباء متعلقة بالمصدر الذي دلّ عليه الفعل، فالمصدر في كل الأفعال يحسن دخول الحرف معه على المفعول، وإن كان لا يحسن مع الفعل. ألا ترى أنك تقول: هو ضارب لزيد، فتدخل اللام. وتقول: أعجبني أكل للخبز زيد، ولو قلت: هو ضارب لزيد لم يجز، لأن اسم الفاعل أضعف في العمل من الفعل. فكذلك المصدر، هو أضعف في العمل من الفعل. فجاز دخول حرف الجر معه، وإن كان لا يدخل مع الفعل لقوة الفعل في التعدي.
وتنبُتُ وتنبِتُ لغتان بمعنى كما يقال: مطرت السماء، وأمطرت وسرى وأسرى بمعنى والتقدير في العربية تنبت وفيها دهن أو معها دهن.
وقوله: ﴿وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ﴾ يعني الزيتون.
4957
قال ابن عباس: يصطبغ بالزيت الذي يأكلونه. يعني يأتدمون به/.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا﴾.
أي: وإن لكم أيها الناس في الإبل والبقر والغنم والمعز لعبرة تعتبرون بها فتعرفون نهم الله عندكم، وأنه لا يعجزه شيء أراده فهو يسقيكم من اللبن الخارج من بين الفرث والدم، ولكم فيها أيضاً مع ذلك منافع كثيرة، كالإبل يحمل عليها، وكالبقر يحرث بها ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾.
أي: من لحومها تأكلون.
﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ﴾ أي: وعلى الإبل والسفن يحملون براً وبحراً.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾.
أي: أرسل نوحاً إلى قومه داعياً لهم إلى الإيمان بالله وإلى طاعته. فقال لهم: ﴿ياقوم اعبدوا الله﴾ أي: ذلوا له بالطاعة لا معبود لكم غيره ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي: تخشون بعبادتكم سواه العقوبة أن تحل بكم.
ثم قال تعالى: ﴿فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾.
أي: فقال جماعة أشراف قومه الذين جحدوا توحيج الله وكذبوه لقومهم: يا قوم، ما هذا إلا بشر مثلكم. أي: ما نوح إلا ابن آدم ﴿مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أي يريد أن يكون له الفضل عليكم، فيكون متبوعاً وأنتم له تبع.
﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً﴾.
4958
أي: لو شاء الله ألا نعبد سواه لأرسل إلينا ملائكة تدعونا إلى ذلك.
﴿مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين﴾ أي: قالوا لهم: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه نوح من أنه لا إله لنا غير الله في القرون الماضية، وهم آباؤهم.
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾.
أي: قال أشراف قوم نوح: ما نوح إلا رجل به جنون ﴿فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ﴾ أي: تملهوا به إلى وقت ما.
قال نوح: ﴿رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ﴾ أي: بتكذيبهم إياي. دعا ﷺ واستنصر بالله لما طال عليه أمرهم وأبو إلا تكذيبه.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾.
أي: فقلنا له حين استنصرنا على كفرة قومه: اصنع الفلك بمرأى منا وتعليم لك بما تصنع. ﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ أي: قضاؤنا في قومك بالعذاب والهلاك. ﴿وَفَارَ التنور﴾ قد تقدم في " هود " ومعنى " فار التنور ". وقد قال علي بن أبي طالب: " فار التنور " من مسجد الكوفة.
وعنه أنه قال: " فار التنور " هو تنور الصبح.
قال الضحاك: كان التنور آية فيما بين الله وبين نوح، قال له: إذا رأيت الماء قد
4959
خرج من التنور فاعلم أن الهلاك والغرق قد أتى قومك.
ثم قال: ﴿فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين﴾.
أي: فادخل في الفلك، يقال سلكته في كذا وأسلكته أدخلته.
﴿ن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ﴾ أي: وأدخل أهلك في الفلك يعني ولده ونساءه. ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ﴾ أي: لا تحمل من سبق عليه القول من الله أنه هالك مع أهلك يعني ابنه الذي غرق.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا﴾.
أي: لا تسألني في الذين كذبوك أن أنجيهم، ﴿إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ﴾ أي: قضيت أن أغرق جميعهم.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ﴾.
أي: إذا اعتدلت أنت ومن حملته معك في السفينة، فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ﴿وَقُل﴾ أيضاً يا نوح: ﴿رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً﴾، إذا خرجت من السفينة وسلمك الله ومن معك. قاله مجاهد.
﴿وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين﴾ أي: خير من أنزل عباده المنزل المبارك ومن قرأ " مُنزَلاً "
4960
بضم الميم، جعله مصدراً، لأن مصدر الكلام قد مضى على: أنزل، فصار بمنزلة ﴿أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ [الإسراء: ٨٠] يقال: أنزلته إنزالاً ومنزلاً.
ومن قرأ بفتح الميم جعله اسماً لكل ما نزل فيه، فمعناه: أنزلني مكاناً مباركاً وموضعاً مباركاً. ويجوز في النحو فتح الميم والزاي يجعله مصدر نزل، كالمدخل مصدر دخل.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾.
أي: إن فيما فعلنا بنوح وقومه من إنجائه وإهلاكهم حين كذبوه لَعِبراً لقومك وغيرهم، فيزدجروا عن كفرهم لئلا يحل عليهم مثل ما حل على قوم نوح من العذاب.
وقوله/: ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ أي: وإن كنا لمختبرين لقومك بتذكيرنا إياهم بآياتنا لننظر ما هم عاملونه قبل حلول العقوبة بهم.
وقيل معنى " لمبتلين " لمتعبدين الخلق بالاستدلال على خالقهم بهذه الآيات، فيعرفون شكره ونعمه عليهم، فيخلصون له العبادة.
ثم قال: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾.
أي: ثم أحدثنا من بعد إهلاك قوم نوح قوماً آخرين فأرسلنا فيهم رسولاً منهم
4961
أن يدعوهم إلى الإيمان، فقال لهم: ﴿أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي: ما لكم معبود تجب له العبادة غير الله ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي: أفلا تخافون عقاب الله بعبادتكم الأصنام من دون الله.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ﴾.
أي: قال أشراف قومه المكذبون، الكفار بالبعث، يعني قوم هود عليه السلام.
وقوله تعالى: ﴿وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا﴾.
أي: ونعمناهم في الدنيا بسعة الرزق حتى بطروا وعتوا، فكفروا وكذبوا الرسل.
﴿مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾.
أي: إنسان مثلكم، يأكل مما تأكلون منه ويشرب مثل ما تشربون، وليس بملك فتصدقه.
(ولئن أطعتم بشراً مثلكم، فاتبعتموه) أي: قالوا ذلك لقومهم وسفلتهم.
﴿إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾. أي: لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة باتباعكم إياه.
ثم قال تعالى: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾.
4962
" أنّ " الثانية، بدل من الأولى عند سيبويه. المعنى عنده أنكم مخرجون إذا متم.
وقال الفراء والجرمي " أنَّ الثانية مكررة للتأكيد. وحسن تكريرها لما طال الكلام.
وذهب الأخفش إلى " أنّ " الثانية في موضع رفع بفعل مضمر، دل عليه إذا، ومعناه عنده: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً يحدث إخراجكم. كما تقول: اليوم القتال. المعن عنده اليوم يحدث القتال.
ومعنى الآية أن الأشراف من وقم هود قالوا لقومهم: أيعدكم هود أنكم تبعثون بعد أن تكونوا تراباً وعظاماً فتخرجون من قبوركم.
ثم قالوا: ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾.
مذهب سيبويه والكسائي أن يوقف عليها بالهاء، لأنها واحدة، وفتحت للبناء، وبنيت لأنها لم تشتق من فعل فأشبهت الحروف واختير لها الفتح للألف التي قبلها ولأن هاء التأنيث بمنزلة اسم ضم إلى اسم فصارت بمنزلة عشر في خمسة
4963
عشر، وموضعها رفع. معناها: البعد البعد لما توعدون.
وقال الفراء الوقف عليها بالتاء. فأما من كسر التاء فإنه يقف بالتاء عند الجماعة نُوِّنَ أو لم يُنَوَّنْ، لأنه جمع المؤنث لازم.
وقيل: " هو " في هذا فرق بين المعرفة والنكرة وهي عند سيبويه كناية عن البعد، كما يكنى بقولهم " صه " عن السكوت.
فالتقدير: البعد البعد لما توعدون من البعث بعد الموت يقوله أشراف قوم هود لقومهم.
قال ابن عباس: " هيهات هيهات ": بعيد بعيد.
ودخول اللام مع هيهات وخروجها جائزان تقول هيهات ما تريد وهيهات لما تريد.
فإذا أسقطت اللام رفعت الاسم، كما قال [الشاعر].
فَهَيْهَات هَيْهَات العَقِيقُ وَمَنْ به وَهَيْهَاتَ خِلّ بالعُقِيقِ نُوَاصِلُهُ
كأنه قال: بعيد العقيق ومن به وأهله.
4964
ثم قال تعالى :﴿ فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله ﴾[ ٢٨ ].
أي : إذا اعتدلت١ أنت ومن حملته٢ معك في السفينة، فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين.
١ أي: إذا اعتدلت سقطت من ز..
٢ ز: حملت..
﴿ وقل ﴾ أيضا يا نوح :﴿ رب أنزلني منزلا مباركا ﴾، إذا خرجت من السفينة وسلمك الله ومن معك. قاله مجاهد١.
﴿ وأنت خير المنزلين ﴾ أي : خبر من أنزل عباده المنزل المبارك ومن قرأ ( مُنزَلاً ) بضم الميم، جعله مصدرا، لأن صدر الكلام قد مضى على : أنزل، فصار بمنزلة ﴿ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ﴾٢ يقال : أنزلته إنزالا ومنزلا.
ومن قرأ بفتح الميم جعله اسما لكل ما نزل٣ فيه، فمعناه : أنزلني مكانا مباركا وموضعا مباركا٤. ويجوز في النحو فتح الميم والزاي بجعله مصدر نزل، كالمدخل مصدر دخل.
١ انظر: تفسير القرطبي ١٢/١٢٠..
٢ الإسراء آية ٨٠..
٣ ز: منزل..
٤ قال في الكشف ٢/١٢٨ (منزلا) قرأه أبو بكر بفتح الميم وكسر الزاي وقرأ الباقون بضم الميم وفتح الزاي. انظر: الحجة لابن خالويه: ٢٥٦، ومشكل إعراب القرآن ٢/٥٠٠..
ثم قال تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ﴾[ ٣٠ ].
أي : إن فيما فعلنا بنوح وقومه من إنجائه وإهلاكهم حين كذبوه لَعِبراً لقومك١ وغيرهم، فيزدجروا عن كفرهم لئلا٢ يحل عليهم مثل ما حل على قوم نوح من العذاب.
وقوله :/ ﴿ وإن كنا لمبتلين ﴾ أي : وإن كنا لمختبرين لقومك بتذكيرنا إياهم بآياتنا لننظر ما هم عاملونه قبل حلول العقوبة بهم٣.
وقيل معنى ( لمبتلين ) لمتعبدين الخلق بالاستدلال على خالقهم بهذه الآيات، فيعرفون شكره ونعمه عليهم، فيخلصون له العبادة.
١ ز: لقومهم. (تحريف)..
٢ ز: أي لا. (تحريف)..
٣ ز: لهم. (تحريف)..
ثم قال :﴿ ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ﴾[ ٣١ ].
أي : ثم أحدثنا من بعد إهلاك قوم نوح قوما آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن يدعوهم١ إلى الإيمان، فقال لهم :﴿ أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ أي : ما لكم معبود تجب له العبادة غير الله ﴿ أفلا تتقون ﴾ أي : أفلا٢ تخافون عقاب الله بعبادتكم الأصنام من دون الله.
١ ز: يذكرهم. (تحريف)..
٢ أفلا سقطت من ز..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:ثم قال :﴿ ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ﴾[ ٣١ ].
أي : ثم أحدثنا من بعد إهلاك قوم نوح قوما آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن يدعوهم١ إلى الإيمان، فقال لهم :﴿ أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ أي : ما لكم معبود تجب له العبادة غير الله ﴿ أفلا تتقون ﴾ أي : أفلا٢ تخافون عقاب الله بعبادتكم الأصنام من دون الله.
١ ز: يذكرهم. (تحريف)..
٢ أفلا سقطت من ز..

ثم قال تعالى :﴿ وقال الملأ من قومه الذين كفروا ﴾[ ٣٣ ].
أي : قال أشراف قومه المكذبون، الكفار بالبعث، يعني قوم هود عليه السلام.
وقوله تعالى :﴿ وأترفناهم في الحياة الدنيا ﴾[ ٣٣ ].
أي : ونعمناهم١ في الدنيا بسعة الرزق حتى بطروا٢ وعتوا، فكفروا وكذبوا الرسل.
﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم ﴾[ ٣٣ ].
أي : إنسان مثلكم، يأكل مما٣ تأكلون منه ويشرب مثل٤ ما تشربون، وليس بملك فتصدقه.
١ ز: أنعمناهم..
٢ ز: نظروا. (تصحيف)..
٣ ز: مثل..
٤ ز: مما..
( ولئن أطعتم بشرا مثلكم، فاتبعتموه ) أي : قالوا ذلك لقومهم وسفلتهم١.
﴿ إنكم إذا لخاسرون ﴾[ ٣٤ ]. أي : لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة باتباعكم إياه.
١ ز: سفلهم. (تحريف)..
ثم قال تعالى :﴿ أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ﴾[ ٣٥ ].
( أن ) الثانية، بدل من الأولى عند سيبويه١ والمعنى عنده أنكم مخرجون إذا متم٢.
وقال الفراء والجرمي ( أن ) الثانية مكررة للتأكيد. وحسن تكريرها لما طال الكلام٣.
وذهب الأخفش٤ إلى٥ ( أن ) الثانية في موضع رفع بفعل مضمر، دل عليه إذا، ومعناه عنده : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما يحدث إخراجكم. كما تقول : اليوم القتال. المعنى عنده اليوم يحدث القتال.
ومعنى الآية أن الأشراف من قوم هود قالوا لقومهم : أيعدكم هود أنكم تبعثون بعد أن تكونوا ترابا وعظاما فتخرجون من قبوركم.
١ انظر: الكتاب ١/٤٦٧..
٢ انظر: مشكل إعراب القرآن ٢/٥٠٠..
٣ انظر: معاني الفراء ٢/٢٣٤..
٤ لم أعثر عليه في معانيه ونسبه إليه القرطبي في تفسيره ١٢/١١٢..
٥ إلى أن سقطت من ز..
ثم قالوا :﴿ هيهات هيهات لما توعدون ﴾[ ٣٦ ].
مذهب سيبويه والكسائي١ أن يوقف٢ عليها بالهاء، لأنها واحدة، وفتحت للبناء، وبنيت٣ لأنها لم تشتق من فعل فأشبهت الحروف واختير٤ لها الفتح للألف التي٥ قبلها ولأن هاء التأنيث بمنزلة اسم ضم إلى اسم فصارت بمنزلة عشر في خمسة عشر، وموضعها رفع. معناها : البعد البعد لما توعدون.
وقال الفراء٦ الوقف عليها بالتاء. فأما من كسر التاء٧ فإنه يقف بالتاء عند الجماعة نُوِّنَ أو لم يُنَوَّنْ، لأنه جمع كبيضات واحدها هيهة كبيضة، والتنوين في جمع المؤنث لازم.
وقيل :( هو ) في هذا فرق بين المعرفة والنكرة٨ وهي٩ عند سيبويه كناية عن البعد، كما يكنى بقولهم ( صه ) عن السكوت.
فالتقدير : البعد البعد١٠ لما توعدون من البعث بعد الموت يقوله أشراف قوم هود لقومهم.
قال ابن عباس١١ :( هيهات هيهات ) : بعيد بعيد.
ودخول اللام مع هيهات وخروجها جائزان تقول هيهات ما تريد وهيهات لما تريد. فإذا أسقطت اللام رفعت الاسم، كما قال [ الشاعر ]١٢.
فَهَيْهَات هيهات العقيق ومن به وهيهات خل بالعقيق نواصله.
كأنه قال : بعيد العقيق ومن به وأهله.
وقد قيل١٣ إنها في موضع نصب على المصدر، كأنه قال : بعدا بعدا لما توعدون.
١ انظر: إعراب القرآن للنحاس ٢/٤١٨..
٢ ز: تقف..
٣ وبنيت سقطت من ز..
٤ ز: أخير. (تصحيف)ز.
٥ ز: الذي..
٦ انظر: معاني الفراء ٢/٢٣٦..
٧ كسر التاء قراءة بن عمر بن المحتسب ٢/٩٠ ومختصر ابن خالويه: ٩٩..
٨ انظر: إعراب القرآن للنحاس ٢/٤١٨..
٩ ز: هو..
١٠ البعد سقطت من ز..
١١ انظر: جامع البيان ١٨/٢٠ وتفسير القرطبي ١٢/١٢٢ والدر المنثور..
١٢ زيادة من ز. والبيت لجرير في اللسان (هيه) والطبري ١٨/٢٠..
١٣ انظر: مشكل إعراب القرآن ٢/٥٠٢..
ثم قال :﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ﴾[ ٣٧ ].
أي : قال الإشراف من قوم هود : ما حياتنا إلا حياتنا في الدنيا نموت فلا نرجع، ويحيى آخرون فيولدون أحياء وما نحن بمبعوثين بعد الموت، وهذا مثل قولهم :﴿ هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ﴾١ فتحقيق المعنى أنهم قالوا : نموت نحن ويحيا أولادنا، ولا بعث٢ بعد الموت.
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى : نحيا ونموت فلا نحيا.
وقيل : المعنى : نكون أمواتا نطفا، ثم نحيا في الدنيا.
١ سبأ آية ٧..
٢ بعث سقطت من ز..
وقد قيل إنها في موضع نصب على المصدر،: أنه قال: بعداً بعداً لما توعدون.
ثم قال: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾.
أي: قال الإشراف من قوم هود: ما حياتنا إلا حياتنا في الدنيا نموت فلا نرجع، ويحيى آخرون فيولدون أحياء وما نحن بمبعوثين بعد الموت، وهذا مثل قولهم: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [سبأ: ٧] فتحقيق المعنى أنهم قالوا: نموت نحن ويحيا أولادنا، ولا بعث بعد الموت.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: نحيا ونموت فلا نحيا.
وقيل: المعنى: نكون أمواتاً نطفاً، ثم نحيا في الدنيا.
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً﴾ إلى قوله: ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾.
أي: قالوا: ما هو إلا رجل افترى على الله كذبا في قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ وفي وعده/ إياكم بالخروج بعد موتكم وكونكم تراباً وعظاماً.
﴿وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي: بمصدقين له فيما قال.
﴿قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ﴾.
أي: قال، هود يا رب، انصرني بتكذيبهم إياي، وذلك لما يئس من إيمان قومه، فأجابه الله جلّ ذكره: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ أي: عن وقت قليل ليندمن على تكذيبهم لك وذلك حين ينزل بهم العذاب.
4965
ثم قال تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق﴾.
أي: فانتقمنا منهم ونصرناه عليهم، فأرسلنا الصيحة عليهم، فأخذتهم بالحق. أي: باستحقاقهم لذلك. فمعنى " بالحق " باستحقاقهم للهلاك بكفرهم.
وقيل: معنى " بالحق " بالعدل من الله لهم، لم يظلمهم فيما أنزل عليهم من العذاب.
﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً﴾.
أي: بمنزلة الغثاء، وهو ما ارتفع من السيل ونحوه مما لا ينتفع به في شيء، فهو مثل.
وتقدير الكلام: فأهلكناهم، فجعلناهم كالشيء الذي لا ينتفع به.
قال ابن عباس: جُعِلوا كالشيء البالي من الشجر ".
وقال مجاهد: " كالرميم الهامد الذي يحتمل السيل "، وهم قوم صالح.
روي أن الله جلّ ذكره بعث ملكاً من ملائكته فصاح بهم صيحة هلكوا بأجمعهم.
وروي أنه جبريل ﷺ وعليهم أجمعين.
وقوله تعالى: ﴿فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾.
أي: أبعد الله القوم الكافرين بهلاكهم إذا كفروا بربهم فأبعدهم من كل خير ومنفعة.
4966
وقال مجاهد أولئك ثمود.
وقيل: هم عاد، لأن عاداً كانوا قبل ثمود.
ثم قال: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ أي: ثم خلقنا من بعد هلاك ثمود قروناً آخرين، ما يتقدم هلاك أمة من تلك الأمم قبل مجيء أجلها الذي أجله الله تعالى لهلاكها.
﴿وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عن الهلاك بعد مجيء الأجل الذي أجل لهلاكها وهذا كله وعيد لقريش وإعلام منه أن تأخيره في آجالهم مع كفرهم إنما ذلك ليبلغوا الأجل الذي أجل لهم، فتحل بهم نقمته كسنته فيمن قبلهم من الأمم السابقة وفيه دلالة على رد قول من يقول إن الإنسان يجوز أن يقتل قبل أجله الذي سماه الله له وقدره أجلاً لموته، وهو قول خارج عن مذاهب أهل الحق، بل كل يموت عند انقضاء أجله بموت أو قتل أو غرق أو حرق أو بغير ذلك. لا تموت نفس قبل أجلها الذي كتبه الله لها، ولا تتأخر في البقاء بعد ذلك الأجل.
ثم قال: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا﴾.
أي: ثم أرسلنا إلى الأمم التي أنشأناها بعد ثمود رسلاً يتبع بعضها بعضاً، وبعضها في أثر بعض، قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد.
ثم قال: ﴿كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً﴾ أي: بالهلاك، أهلك
4967
بعضهم في آثار بعض.
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ أي: يتحدث بهم من يأتي بعدهم في الشر. ولا يقال: جعلناهم أحاديث في الخير. والأحاديث جمع أحدوثة وقيل جمع حديث.
ثم قال تعالى: ﴿فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾.
أي: فابعد الله قوماً لا يؤمنون بالله ولا يصدقون رسله.
ثم قال: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا﴾ أي: ثم أرسلنا موسى بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم وأخاه هارون بأدلتنا ﴿وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي: وحجة ظاهرة لمن رآها إنها من عند الله. ﴿إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾، أي وأشراف قومه من القبط، فاستكبروا عن الإيمان بها ﴿وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ﴾، أي: قد علوا على من في ناحيتهم وعلى بني إسرائيل بالظلم وقهروهم.
وقال ابن زيد: ﴿قَوْماً عَالِينَ﴾ أي: علوا على رسلهم وعصوا ربهم.
ثم قال تعالى: ﴿فقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾.
أي: لنا مطيعون متذللون، يأتمرون لأمرهم، ويدينون لهم. يقال لكل من دان لملك: هو عابد له.
ثم قال: ﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين﴾.
4968
أي: فكذب فرعون وملاؤه موسى وهارون فكانوا ممن أهلكهم الله. كما أهلك من قبلهم من الأمم بتكذيبها رسله.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾.
أي: ولقد أعطينا موسى التوراة ليهتدي بها بنو إسرائيل ويعملوا بما فيها، ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ أي: حجة لنا ودلالة على قدرتنا على/ إنشاء الأجسام من غير أصل، كما أنشأنا خلق عيسى من غير أب. وقال آية، لم يقل آيتين، لأن الآية فيهما واحدة.
وقيل في الكلام حذف، مثل والله ورسوله أحق أن يرضوه. تقديره: وجعلنا ابن مريم آية وأمة آية، ثم حذف إحدى الآيتين لدلالة الباقية عليها. فالآية في مريم، ولادتها من غير ذكر، والآية في عسى، إحياؤه الموتى، وإبراؤه الأكمة والأبرص وإخراجه من الطين طيراً يطير وكل بإذن الله جلّ ذكره.
ثم قال: ﴿وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ أي وضممناهما إلى ربوة، أي إلى مكان مرتفع عما حوله.
قال أبو هريرة هي الرملة من فلسطين. " وروي أن النبي ﷺ قال: هي الرملة
4969
" وقال ابن المسيب هي دمشق، وقاله ابن عباس وقال قتادة هي بيت المقدس.
وكان كعب يقول بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً.
وقال وهب بن منبه هي مصر وكذلك قال ابن زيد عن أبيه زيد. قال ابن زيد: الربوة من ربا مصر. وليس الربا إلا بمصر والماء يرسل فتكون الربا عليها القرى ولولا الربا لغرقت تلك القرى.
قال ابن جبير الربوة: النشرز من الأرض.
وقال الضحاك: ما ارتفع من الأرض.
وقال ابن عباس: الربوة المستوى، وكذلك قال مجاهد. وقوله: ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ أي: ذات أرض منبسطة وساحة واسعة وذات ماء طاهر لعين الناظر.
4970
قال ابن عباس " ومعين " هو الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾ ".
وقال الضحاك: " ومعين " الماء الظاهر.
وقال قتادة ذات قرار أي ثمار " ومعين " وماء وهي بيت المقدس.
وقوله: " ومعين " هي فعيل بمعنى مفعول على قول من جعله لما يرى بالعين فالميم زائدة.
وقيل: هو فعيل بمعنى مفعول والميم أصلية.
قال علي بن سليمان: يقال معن الماء إذا جرى وكثر، فهو معهين وممعون.
وحكى ابن الأعرابي: معن الماء يمعن: إذا جرى وسهل وأمعن أيضاً.
وقيل: يجوز أن يكون فعيلاً من المعنى مشتقاً من الماعون والمعنى في اللغة: الشيء القليل، والماعون، فاعول وهو الزكاة، مشتق أيضاً من المعن، سميت الزكا.
4971
ماعوناً، لأنها شيء قليل من المال، إذا هي ربع عشرة في العين.
قوله تعالى ذكره: ﴿يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات﴾ إلى قوله: ﴿إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾.
معناه وكلوا من الحلال الطيب دون الحرام ﴿واعملوا صَالِحاً﴾ أي: بما أمرتكم به.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " إن الله جل ذكره طيب لا يقبل إلا طيباً "، وإن الله أمر الأنبياء بما أمر به المؤمنين فقال: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ وقال: ﴿يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات﴾.
وقد قيل: إن قوله يا أيها الرسل مخاطبة للنبي وحده كما قال: " الذين قال لهم الناس " يعني نعيم بن مسعود وحده.
وقيل: إنما قيل للنبي وحده ﴿يا أيها الرسل﴾ " لتدل بذلك على أن الرسل كلهم أمروا بأكل الطيبات وهو الحلال الذي طيبه الله تعالى لآكله.
وقيل: هو مخاطبة لعيسى، وهو قل الزجاج وهو اختيار الطبري.
4972
روى: أن عيسى كان يأكل من غزل أمه.
ثم قال: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " فتح " إن " في هذا على معنى " ولأن هذه ". هذا قول البصريين.
وقال الكسائي والفراء: هي في موضع خفض عطف على ما قوله: إني بما تعلمون.
وقال الفراء أيضاً: تكون في موضع نصب على إضمار فعل، والتقدير: واعلموا أن هذه أمة: نصب عل الحال.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: " أمة واحدة "، بالرفع على إضمار مبتدأ، أي: هي أمة وعلى البدل من أمتكم، أو على أنها خبر بعد خبر، والمعنى أن الأمة هنا الدين: أي: وأن هذا دينكم دين واحد قاله ابن جريج.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون﴾.
4973
أي فاتقون بطاعتي، تأمنوا عقابي.
ثم قال: ﴿فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً﴾.
أي: فتفرق القوم الذين أمروا بالإيمان/ واتباع عيسى ليجتمعوا على الدين الواحد وزيراً، أي كتباً قد بان كل فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذي بان به الفريق الآخر، كاليهود الذين زعموا أنهم دانوا بحكم التوراة، وكذبوا بحكم الإنجيل والقرآن وكالنصارى الذين دانوا بالإنجيل وكذبوا بحكم القرآن.
قال قتادة: " براً " كتباً.
وقال مجاهد: كتباً لله فرقوها قطعاً.
والزبر: جمع زبور، كعمود وعمد.
وقيل: المعنى، فتفرقوا دينهم بينهم كتباً أحدثوها يحتجون بها لمذابهم.
قال ابن زيد: هو ما اختلفوا فيه من الأديان والكتب، وكل واحد منهم كان له أمر وكتب، وكل قوم يعجبون برأيهم، ليس أهل هوى إلا وهم يعجبون برأيهم وبصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم وقرأ الأعمش " زُبراً " بفتح الباء جعله جمع زبرة، ومعناه: فتفرقوا عن دينهمه بينهم قطعاً كزبر الحديد، فصار بعضهم يهود، وبعضهم
4974
نصارى.
وقوله: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾.
أي: كل فريق من تلك الأمم بما اختاره من الدين لأنفسهم فرحون معجبون به لا يرون أن الحق سواه.
ثم قال: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ﴾.
أي: فذر هؤلاء الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبراً في غمرتهم، أي: في ضلالتهم وغيهم.
قال ابن زيد: الغمرة العمى.
﴿حتى حِينٍ﴾: أي إلى حين ما يأتيهم ما وعدوا به العذاب، وقال مجاهد " حتى حين " حتى الموت.
ثم قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات﴾.
أي: أيحسب هؤلاء الأحزاب الذين تفرقوا في دينهم زبراً أن الذي نعطيهم في عاجل الدنيا من مال وبنين " فسارع لهم " " أي نسابق لهم في خيرات الآخرة ونبادر
4975
فيها ثم أكذبهم فيما يحسبون، فقال: ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ أي: بل لا يعلمون أن امدادنا إياهم ما نمدهم به من ذلك إنما هو إملاء واستدراج لهم.
وقوله: ﴿فِي الخيرات﴾ معه إضمار، أي: نسارع لهم به في الخيرات، قاله الزجاج.
وقال هشام: تقديره: نسارع لهم فيه، ثم أطهر فقال: " في الخيرات " كما قال: ولا أدى الموت سبق الموت بشيء. وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأن الخبر لا بد أن يكون فيه ضمير يعود على اسم " أن ".
وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة: " يُسارع " بالياء رده على الإمداد، فلا يحتاج هذا إلى ضمير محذوف، لأن ما والفعل مصدره ففي " يسارع " ضمير اسم أن، وهو ضمير المصدر.
ومذهب الكسائي أن " إنما " حرف واحد، فلا يحتاج الكلام إلى شيء، من الإضمار والحذف، ويقف على مذهبه على " نبين " ولا يقف عليه على مذهب غيره.
وتقدير الآية أيحسبون الذين نمدهم به من مامل وبنين في الدنيا نسارع لهم به في الخيرات، أي: نجعله لهم ثواباً، فليس الأمر كذلك، إنما هو استدراج ومحنة لهم.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ﴾.
4976
أي: من خوف عذاب ربهم مشفقون، فهم دائمو على طاعته جادون في طلب مرضاته.
ثم قال: ﴿والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾.
أي بكتابه يصدقون ﴿والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ﴾.
أي: يخلصون عبادتهم لربهم، لا يشركون به فيها أحداً.
ثم قال تعالى: ﴿والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾.
أي: يعدون أهل سهمان الصدقة، ما فرض الله لهم من أموالهم فما أتوا معناه: ما أعطوهم إياه من صدقة.
﴿وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أي: خائفة من أنهم إلى ربهم راجعون، فيخافون ألا ينجيهم ذلك من عذابه.
قال الحسن: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وأن المنافق جمع إساءة وأمناً، ثم تلا هذه الآية إلى ﴿إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾.
وقال الحسن: يعملون ما عملوا من أعمال البر وهم خائفون ألا ينجيهم ذلك من عذاب الله.
4977
وقال ابن عباس: مال المؤمن ينفق يتصدق به وقلبه وجل أنه إلى ربه راجع.
وسئلت عائشة: عن هذه الآية فقالت: كانوا يقرأونها، يأتون ما أتوا بألف.
وكذلك روى عنها أنها كانت تقرأه من المجيء، تعني إتياه الذنوب، أي: يأتون الذنوب وهم خائفون.
وقال ابن عمر: " يؤتون ما أتوا ": الزكاة.
وقال مجاهدك المؤمن ينفق ماله وقلبه وجل.
وقال ابن جبير: / يفعلون ما فعلوا وهم يعلمون أنهم صائرون إلى الموت وهي من المبشرات.
وقال قتادة: يعطون ما أعطوا، ويعملون ما عملوا من خير، وقلوبهم وجلة خائفة.
" وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت يا رسول الله.
﴿والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أهم الذين يذنبون وهم مشفقون؟ فقال: لا بل هم الذين يصلون وهم مشفقون، ويصدقون وهم مشفقون، ويوصومون وهم مشفقون ".
4978
وروي عن عائشة أيضاً أنها قالت: قلت للنبي: يا رسول الله،
﴿والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أي، هو الرجل يزني أو يسرق أو يشرب الخمر، قال: لا يا ابنة أبي بكر، أو قال يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يتقبل منه ".
وقرأ ابن عباس: (يأتون ما أتوا من المجيء). وروى ذلك عن عائشة على تقدير: يعملون ما علموا وهم خائفون.
قوله تعالى ذكره: ﴿أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ إلى قوله ﴿سَامِراً تَهْجُرُونَ﴾.
معناه: أولئك يسارعون في الخيرات، أي: الذين [هم] هذه صفتهم " يسارعون " أي: يسابقون في الأعمال الصالحة.
قال ابن زيد: " الخيرات " المخافة، والوجل، والإيمان، والكف عن الشرك بالله.
ثم قال: ﴿وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.
أي: قد سبقت لهم من الله السعادة فذلك سبقهم في الخيرات كل من عنده.
قال ابن عباس: " وهم لها سابقون " سبقت لهم من الله تعالى السعادة.
وقيل: معناه: وهم إليها سابقون.
وقيل المعنى: وهم من أجلها سابقون، أي من أجل اكتسابهم الخيرات يسبقون
4979
إلى رحمة الله.
وقيل المعنى: فهم إلى أوقاتها سابقون، لأن الصلاة في أول الوقت أفضل.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾.
أي: إلا ما تطيق من العبادة. ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق﴾ أي: وعندنا كتاب يبين بالصدق عما عملوا من عمل في الدنيا.
﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾.
أي: لا يزاد على أحد من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وهو الكتاب الذي كتبت فيه أعمال الخلق عند الملائكة تحتفظ به.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا﴾.
أي في عمامية من هذا القرآن.
وقيل: المعنى: بل قلوبهم في غطاء عن المعرفة بأن الذي نمدهم به من مال وبنين، إنما هو استدراج لهم.
وقال قتادة: المعنى، بل قلوبهم في غمرة من وصف أهل البر ببرهم، وهو ما تقدم من صفة المؤمنين.
والغمرة، الغطاء والغفلة.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾.
4980
أي: ولهؤلاء الكفار أعمال من المعاصي والكفر من دون أعمال أهل الإيمان بالله، قاله قتادة.
قال مجاهد: " من دون ذلك " من دون الحق.
وقال الحسن: معناه: ولهم أعمال لم يعملوها، سيعملونها يعني الكفار.
وقيل: معناه، لهؤلاء الكفار أعمال سبقت في اللوح المحفوظ أنهم سيعملونها ويسعلمونها.
وقال مجاهد: لم يعملوها وسيعملونها.
ثم قال تعالى: ﴿حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب﴾.
أي: لكفار قريش أعمال من الشر من دون أعمال أهل البر هم لها عاملون إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم بالعذاب إذا هم يضجون ويستغيثون.
قال ابن زيد: " المترفين " العظماء.
قال مجاهد: " حتى إذا أخذنتا مترفيهم بالعذاب ". قال: بالسيوف يوم بدر.
وقال الربيع بن أنس: ﴿يَجْأَرُونَ﴾ يجزعون.
قال ابن جريج: " بالعذاب " يعني عذاب يوم بدر، ﴿إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ يعني أهل
4981
مكة يعني يضجون ويستغيثون على قتالهم.
قال الضحاك: أهل بدر أخذوا بالعذاب يوم بدر.
ثم قال: ﴿لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ﴾.
أي: لا تضجوا وتستغيثوا قد نزل بكم العذاب، فلا ناصر لكم منه.
وقد قيل: هو عذاب الآخرة.
وعلى القول الأول أكثر الناس.
ثم قالت: ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾.
هنا مخاطبة للمشركين، أي: قد كانت آيات القرآن تتلى عليكم.
قال الضحاك: وذلك قبل أن يعذبوا بالقتل، فكنتم تولون مدبرين/ عنها تكذيباً بها وكراهة أن تسمعوها.
تقول العرب لكل من رجع من حيث جاء، نكص فلان على عقبيه.
قال ابن عباس: يعني بذلك أهل مكة.
ثم قال تعالى: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾.
أي: بالحرم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو مالك.
4982
قال أبو مالك وذلك لأمنهم والناس يتخطفون من حولهم.
وقيل: الهاء عائدة على الكتاب، أي مستكبرين بالكتاب.
أي: يَحْدُثُ لكم بتلاوته عليكم استكبارٌ.
وقوله: ﴿سَامِراً تَهْجُرُونَ﴾.
أي: تسمرون بالليل في الحرم.
يقال لجماعة يجتمعون للحديث " سامر " كما يقال: " باقر " لجماع البقر، " وجامل " لجماعة الجمال.
وأكثر ما يستعمل " سامراً " للذين يسمرون بالليل، وأصله من قولهم لا أكلمه السمر والقمر أي: الليل والنهار.
وقال الثوري: يقال لظل القمر، السمر، ومنه السمرة في اللون وقرأ أبو رجاء: سُمّاراً، جعله جمع سامر.
قال ابن عباس وابن جبير: معناه: يسمرون بالليل حول الكعبة، يقولون المنكر.
4983
وقال الضحاك: يعني سمر الليل.
قال الطبري: إنما وحد " سامر "، وهو في موضع جمع، لأنه وضع موضع الوقت، ومعنى الكلام تهجرون ليلاً، فوضع السامر موضع الليل فوحد لذلك.
ومن قرأ: تُهجرون بالضم في التاء، أخذه من أهجر يهجر، إذ نطق بالفحش.
وقيل: الخنا ومعناه التجاوز ومنه قيل: " الهاجرة، لأنه وقت تجاوز الشمس من الشرق إلى الغرب ".
وأما معناه، فقال ابن عباس فيه: معناه، تسمرون برسول الله ﷺ وتقولون الهجر.
وقال عكرمة: تشركون.
وقال الحسن: تسبون النبي ﷺ.
وقال مجاهد: تقولون القول السيء في القرآن.
ومن قرأ بفتح التاء فهو من هجر المريض إذا هذى، هذا قول الكسائي.
4984
ويقال هجر المحموم، إذا غلب على عقله، فيكون معناه: إنكم كالهاذي في مرضه بما لا ينتفع به، كذلك أنتم تتكلمون في النبي عليه السلام بما لا يضره.
وقيل: معناه: من هَجَرَهُ، إذا لم يكلمه فمعناه على هذا: تهجرون النبي ﷺ وأصحابه.
وقد قال الحسن: تهجرون نبيي وكتابي.
وقال ابن عباس: معناه: تهجرون ذكر الله والحق.
وقال السدي: تهجرون البيت.
وقال ابن جبير: تسمرون بالليل وتخوضون في الباطل.
وقال أهل اللغة: يقال هجر وأهجر في كلامه، إذا أفحش غير أن الأصمعي قال: هجر يهجر، إذا هذى، وأهجر إذا تكلم بالقبيح. " ومستكبرين " وقف عند أبي حاتم ثم تبتدئ: " سامراً تهجرون " أي في البيت.
وقيل: " مستكبرون به " الوقف.
وقيل: تهجرون التمام.
4985
قوله تعالى ذكره: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول أَمْ جَآءَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾.
معنى هذا القول التوقيف والتقبيح كقول العرب: الخير أحب إليك أم الشر. أي: إنك قد اخترت الشر. ومعناه: أفلم يدبر هؤلاء المشركون كلام الله فيعلموا ما فيه من العبر والحجج ﴿أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين﴾ يعني أسلافهم من الأمم المكذبة قبلهم، بل جاءهم محمد ﷺ بمثل ما أتت به الرسل قبله لآبائهم، فواجب عليهم ألا ينكروا ما جاءهم به محمد عليه السلام، لأنه أتى بمثل جاء به غيره من الرسل لآبائهم. وقيل: " أم " هنا بمعنى " بل "، والتقدير: بل جاءهم ما لم يأت أسلافهم فتركوا تكدبره إذ لم يكن عند من سلف لهم مثله ولا أرسل إليهم مثله.
ثم قال: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ﴾.
أي: أم لم يعرفوا صدق محمد وأمانته " فهم له منكرون " أي: فينكروا قوله إذ لم يعرفوه بالصدق فكيف يكذبونه وهم يعرفونه بالصدق والأمانة. ثم قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾.
أي: أيقولون بمحمد مجنون فهو يتكلم بما لا معنى له ولا يفهم.
﴿بَلْ جَآءَهُمْ بالحق﴾.
أي: جاءهم بحق لا تخفى صحته والمجنون لا يتكلم بكلام فيه حكمة ولا يصح له معنى، فكيف يكون مجنوناً من يأتي بالحق والحكمة، وإنما نسبوه إلى الجنون لأن الذي جاءهم به بَعُدَ عندهم قبولهم له كما يقال لمن سأل ما لا يتمكن فعله
4986
هو مجنون أي: لا يسأل مثل هذا السؤال إلا مجنون/.
فلما دعاهم مع شرفهم عند أنفسهم إلى اتباعه والقبول لقوله وذلك عندهم متعذر منهم، نسبوه إلى الجنون.
ثم قال: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ أي: قد علموا أنه محمق فيما جاءهم به، وليس بمجنون، ولكن أكثرهم كاره لا تباع الحق الذي قد صح عندهم وعلموه حسداً منهم له، وبغياً عليه واستكباراً في الأرض.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ﴾.
أي: ولو اتبع الله تعالى أهواء الكفار، قاله السدي.
وتقديره على قوله: ولو اتبع صاحب الحق أهواء المشركين ﴿لَفَسَدَتِ السماوات والأرض﴾ باتباع آرائهم، لأنهم لا يعلمون العواقب، وأهواء أكثرهم على إيثار الباطل على الحق، والسماوات والأرض وما بينهما لم يقمن إلا بالحق.
وقيل: الحق هنا: القرآن، والمعنى: ولو نزل القرآن بما يحبون لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.
وقيل: هو مجاز، والتقدير: ولو وافق الحق أهواءهم، فجعل موافقته اتباعاً، مجازاً ويكون التقدير على هذا، لو كانوا يكفرون بالرسل، ويعصون الله، ولا يجازون على ذلك ويعاقبون لفسدت السماوات والأرض.
وقيل: المعنى: لو كان الحق فيما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله لتعالت بعضها على بعض واضطرب التدبير ففسدت لذلك السماوات والأرض.
4987
ثم قال: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾.
أي: بينا لهم الحق، قاله ابن عباس.
وقيل: معناه: بل آتيناهم بشرفهم إذ نزل القرآن بلغتهم وعلى رجل منهم. ﴿فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي: فاعرضوا عنه فكفروا به، ومثله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤].
وقال قتادة: " بذكرهم ": بالقرآن، وتقديره: بل آتيناهم بذكر ما فيه النجاة لو اتبعوه.
ثم قال: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾.
أي: أم تسألهم يا محمد على ما جئت به أجراً فيعرضوا عما جئتهم به من أجل أخذ منهم الأجر عليه، وهو قوله: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى﴾ [الشورى: ٢٣].
ثم قال: ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾.
أي: لم تسألهم رزقاً على ماجئتهم به. فرزق ربك خير.
قال الأخفش: الخَرْج والخراج واحد، إلا أن اختلاف الكلام أحسن.
وقال أبو حاتم: الخرج: الجعل والخراج: العطاء.
وقال المبرد: الخرج: المصدر، والخراج الاسم.
4988
وأصل الخراج الغلة والضريبة، كخراج العبد والدار وغيرهما.
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾.
أي: الله خير من أعطى عوضاً على عمل ورزق رزقاً.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ﴾.
يخاطب النبي ﷺ ﴿ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وهو دين الإسلام، وسمي مستقيماً لأنه يؤدي إلى الجنة والنجاة من النار.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ﴾.
أي: إن من ينكر البعث والمعاد إلى الآخرة عن محجة الحق وقصد السبيل - وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده - لناكبون أي: لعادلون.
قال السدي: ﴿عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ﴾: عن دين الله لمعرضون.
وقيل: عن صراط جهنم لناكبون في جهنم، وذلك في الآخرة.
وقيل: عن طريق الجنة لعادلون إلى طريق النار.
ثم قال: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ﴾.
أي: لو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، ﴿وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ﴾. أي: ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب، وضر الجوع. ﴿لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي: لتمادوا في عتوهم وجزاءتهم على الله. ﴿يَعْمَهُونَ﴾ أي: يترددون. قال ابن جريج: هو كشف الجوع عنهم.
4989
وقيل: المعنى، لورددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجو في طغيانهم يعمهون.
ثم قال: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب﴾.
يعني أهل مكة أحل بهم الجوع والجدب وقتل سراتهم بالسيف، ﴿فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ﴾ أي: فما/ خضعوا لربهم، فينقادوا لأمره ونهيه: ﴿وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ أي: يتذللون.
ويروى أن هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ حين أخذ الله قريشاً بسني الجدب إذ دعا عليهم رسول الله ﷺ.
قال ابن عباس: " جاء أبو سفيان إلى النبي ﷺ فقال: يا محمد نشدتك الله والرحمن، لقد أكلنا العلهز يعني الوبر بالدم، فأنزل الله ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب﴾. الآية ".
وروى في هذا الحديث " أن أبا سفيان قال للنبي عليه السلام: أليس قد بعثت رحمة للعالمين. قال: نعم قال: فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب...﴾ الآية ".
4990
قال الحسن: إذا أصاب الناس من قبل الشيطان بلا فإنما هي نقمة، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية، ولكن استقبلوها بالاستغفار، واستكينوا وتضرعوا إلى الله، وقرأ هذه الآية ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب﴾... الآية.
قال ابن جريج، هو الجوع والجدب.
ثم قال: ﴿حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾.
قال ابن عباس: هو يوم بدر، وقد مضى، وقاله ابن جريج.
وقال مجاهد: هو الجوع أيضاً مثل الأول.
وقال عكرمة: هو باب آخر من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربع مائة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة، لو يخطر الطائر من منكب أحدهم لطار شهري قبل أن يبلغ نكبه الآخر، حتى إذا انتهوا إليه فتحه الله عليهم فهو قوله: ﴿إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾.
أي: يائسون من الخير.
وقيل: المبلس، الساكت المتحير.
وقيل المعنى: نادمون على ما سلف.
4991
قوله تعالى ذكره: ﴿وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع﴾ إلى قوله: ﴿مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾.
أي: والله الذي أحدث لكم أيها المكذبون السمع لتسمعوا به والأبصار لتنظروا بها، والأفئدة: أي والقلوب لتفهموا بها فكيف يتعذر على من أنشأ ذلك على غير مثال الإعادة، وقد تقدم المثال.
ثم قال تعالى: ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾.
أي: قليلاً شكركم على ما أعطاكم من النفع بهذه الجوارج وغيرها.
ثم قال تعالى: ﴿وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض﴾.
أي: أنشأكم فيها ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي: بعد مماتكم، أي تصيرون إلى حكمه فيكم وعدله، وليس هو حشر وصيرورة إلى قرب مكان، لأن القرب والبعد في الأمكنة إنما يجوز على المحدثين الذين تحويهم الأمكنة، والله لا يجوز عليه ذلك، إنما هو حشر إلى وعده وحكمه فيهم، وكذلك كل ما كان في القرآن من قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ﴾ و ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ كله معناه تصيرون إلى حكمه ووعده ومجازاته ليس هو صيرورة إلى قرب مكان، سبحانه لا تحويه الأمكنة ولا تحيط به المواضع، وليس كمثله شيء. الأمكنة كلها مخلوقة والأزمننة محدثة وهو قديم إلا إله إلا هو، فلا يحوي المحدث إلا محدثاً. فافهم هذا واستعمله في كل ما جاءك منه في كتاب الله، ولا تتوهم فيه قرب كان ولا دنوا من موضع دون موضع ألزم فهمك ونفسك أنه تعالى لا يشبهه شيء ولا مثله شيء.
ثم قال: ﴿وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
أي: والله الذي جعل خلقه أحياء بعد أن كانوا نطقاً أمواتاً فنفخ فيهم الروح، وهو يميتهم بعد إحيائهم.
﴿وَلَهُ اختلاف الليل والنهار﴾.
4992
أي: هو الذي خلق الليل والنهار مختلفين.
ثم قال: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
أي: تفهمون ما وُصف لكم ونُبهتم عليه.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون﴾.
أي: بل قال المكذبون لك يا محمد من قريش مثل ما قال الأولون من الأمم المكذبة بالبعث/. قالوا: أنبعث إذا كنا تراباً وعظاماً. استبعدوا ذلك فأنكروه.
ثم قال: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ﴾.
أي: لقد وعدنا ووعد آباؤنا من قبل بالبعث بعد الموت فلم نر له حقيقة، ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أي: ما سطره الأولون في كتبهم من الأحاديث والأخبار التي لا صحة لها ولا حقيقة.
ثم قال تعالى: ﴿قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين البعث من قومك: لمن ملك الأرض ومن فيها من الخلق إن كنتم تعلمون من مالكها، ثم اعلمه جل ذكره، أنهم سيقولون لله ملكها. فقل لهم إذا جاوبوك ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أي: أفلا تعتبرون أن من خلق ذلك وابتدأه وملكه أنه يقدر على إحيائكم بعد مماتكم وإعادتكم خلقاً كما كنتم.
ثم قال: ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم﴾.
أي: من خالق ذلك ومالكه، سيقولون لك: ذلك كله لله وهو ربه.
فقل لهم أفلا تتقون عقابه على كفركم به، وتكذيبكم رسله.
4993
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
أي: من بيده خزائن كل شيء، قاله مجاهد.
﴿وَهُوَ يُجْيِرُ﴾ من عذابه من خلقه من شاء ﴿وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ﴾.
أي: ولا يجير عليه أحد من خلقه ولا من عذابه، ومعنى:
﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي: من يملك كل شيء. وذكر اليد في هذا إنما يعني به الملكم لا الجارحة تعالى الله عن ذلك. وهذا أتى على لسان العرب. تقول: هذه الدرابيد فلان، أي: ملكه، لا يريدون أن ذلك مستقر في يده يد الجارحة، إنما يريدون أنه مستقر في ملكه.
وقوله: ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
أي تعلمون مَن هذه صفته، فإنهم سيقولون أن ذلك هو الله، وملك ذلك كله لله، فقل لهم: ﴿فأنى تُسْحَرُونَ﴾.
أي: من أي وجه تصرفون عن التصديق بآيات الله والإقرار برسوله. ومن قرأ الثاني والثالث الله الله، جعل السؤال والجواب من جهة واحدة، لأن الله جل
4994
ذكره علم بجوابهم وسؤالهم قبل خلقهم، فأخبر عن جوابهم من جهة السؤال.
ومن قرأ: لله لله، أتى الجواب من عند المسؤول، وهو الأصل.
قال ابن عباس: " تسحرون ": تكيدون.
وحقيقة السحر أنه تخييل الشيء إلى الناظر أنه على خلاف ماهو به من هيئته. فكذلك معنى ﴿فأنى تُسْحَرُونَ﴾ أي: من أي وجه يخيل لكم الكذب حقاً، والفاسد صحيحاً، فتصرفون عن الإقرار بالحق الذي يدعوكم إليه محمد ﷺ وفي هذا الآيات دلالة على جواز محاجة الكفار والمبطلين وإقامة الحجة عليهم، وإظهار إبطال الباطل من قولهم ومذبهم، ووجوب النظر في الحجج على من خالف دين الله وقد أمر الله تعالى نبيه في غير ما موضع بالاحتجاج عليهم وعلمه كيف يحتج عليهم، وكذلك أخبر عن إبراهيم عليه السلام بما احتج به على قومه، وأخبرنا الله تعالى أنها حجة أتاها إبراهيم عليه السلام وعلمه إياها، فاحتج بها عقى قومه وبينا لهم خطأهم فيما يعبدون، وكذلك أخبرنا الله في غير موضع باحتجاج الأنبياء على قومهم، وإقامة حجة الله عليهم، ومناظرتهم لهم، وهو كثير في القرآن، دل على جواز إقامة الحجة على أهل الزيغ الكفر. فأما قوله تعالى: ﴿وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: ٤٦] فقد ذكرنا معناها في موضعها. وليست في هذا الباب، ولها معاني قد بيناها.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
4995
أي: ما الأمر كما يقول هؤلاء المشركون أن الملائكة بنات الله أو أن لهم آله دمن الله، بل أتيناهم بالبقين، وهو ما أتاهم به محمد ﷺ من الإسلام، وأن لا يُعبد شيء سوى الله ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فيما يضيفون إلى الله من الولد والشريك ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ﴾ في القدم حين ابتدع الأشياء.
﴿مِنْ إِلَهٍ﴾ أي: لاعتزل كل إله منهم بما خلق فانفرد به ﴿وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾. أي: ولتغالبوا، فغلب القوي الضعيف، لأن القوي لا يرضى أن يحاده الضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون إلهاً/، لأنه عاجز بضعفه. والعاجز مذولو مغلوب مقهور، وليس هذه من صفات المعبود الخالق، وإنما هي من صفات المخلوق المملوك.
ثم قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾.
أي: عما يصفون به الله.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿عَالِمِ الغيب والشهادة﴾.
أي: يعلم ما غاب عن خلقه من جميع الأشياء. فلم يروه ولم يعلموه وما شاهدوه، فرأوه وعلموه.
والرفع الاختيار عند النحويين البصريين والكوفيين في " عالم الغيب " على إضمار مبتدأ، أو على البعث لله في قوله: ﴿مَا اتخذ الله﴾ عالم الغيب، وحجة البصريين في اختيارهم الرفع أن قبله رأس آية، وقد تم الكلام دون، فاستؤنف على إضمار مبتدأ.
وحجة الكوفيين منهم الفراء أن الرفع أولى به، لأنه لو كان مخفوضاً لقال:
4996
(وتعالى) بالواو. فدخول الفاء بعده يدل على أنه أراد " هو عالم " واحتج في ذلك بأنك لو قلت: مررت بعبد الله المسحن وأحسنت إليه، جئت بالواو، لأنك خفضت ولم تستأنف، تريد: مررت بعدب الله الذي أحسن وأحسنت إليه. قال: ولو قلت: " المحسن " بالرفع، لم يكن إلا بالفاء، تريد: هو المحسن فحسنت إليه، فالفاء عنده تدل على انقطاع الكلام. وقد خالف هو نفسه هذا الأصل في المزمل، فاختار: " ورب المشرق " بالخفض، وبعده " فاتخذه " ومن أصله أن الفاء تدل على الاستئناف.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ﴾.
أي: قل يا محمد: رب أن ترني ما يهلك به هؤلاء المشركين، فلا تهلكني بما تهلكهم به، أي: إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني عنهم ولا تجعلني في القوم الظالمين، ولكن اجعلني فيمن قد رضيت عنه.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾.
أي: إنا نقدر يا محمد أن نريك تعجيل العذاب في هؤلاء المشركين فلا يحزنك كفرهم وتكذيبهم إياك، فإنما نؤخرهم ليبلغ الكتاب أجله فيستوفوا أيامهم وما قدر لهم من رزق.
4997
قوله تعالى ذكره: ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾.
أي: ادفع يا محمد فعل هؤلاء المشركين بالخلة التي هي أحسن، وذلك الإغضاء والصفح عن جهلهم، والصبر على أذاهم، وهذا قبل أن يأمره بحربهم. فهو منسوخ بالأمر بالقتال.
والسيئة هنا هي أذى المشركين إياه، وتكذيبهم له.
قال مجاهد: معناه: أعرض عن أذاهم إياك.
وروي عنه أنه قال: هو السلام يسلم عليهم إذا لقيهم.
ثم قال: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾.
أي: ما يصفون الله به جل ذكره من السوء، وهو مجازيهم عليه.
ثم قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين﴾.
أي: رب استجيرك من وسوسة الشياطين ".
وقال ابن زيد: " همزات الشياطين " خنقهم للناس.
﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾.
أي: يحضرون في شيء من أموري.
4998
وقيل: " همزات الشياطين " الجنون الذي يعرض للناس والصرع وكان النبي ﷺ يتعوذ من الشيطان، ويقول: " من همزة ونفثه ونفخه فقيل: يا رسول الله، وما همزه فذكر هيئة الموتة الذي تأخذ الناس، وهو الجنون والصرع، فقيل له: وما نفثه؟ قال: الشِعر. فقيل له: وما نفخه؟ قال: " الكفر ".
ثم قال: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت﴾.
أي: إذا عاين أحد هؤلاء المشركين الموت ونزل به أمر الله تعالى: ﴿قَالَ﴾ لعظيم ما يعاين من عذاب الله: ﴿رَبِّ ارجعون﴾ إلى الدنيا ﴿لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ قبل اليوم من العمل فضيعته وفرطت فيه. وذلك تندماً منه على ما فات وتلهفاً.
يقول الجبار: ﴿كَلاَّ﴾ أي: لا ترد، وذلك لا ينفعه، لأنه وقت رفع عنه حد التكليف، فلا تنفع فيه توبة، وذلك عند اليقين بالمو، والبشارة بما أعد له من العذاب، والإعلام بما كان عليه من الخطأ في دينه، فإذا عاين ذلك كله، لم ينفعه ندم ولم يتقبل منه توبة ولم يقل من ندامته.
وليست " لعل " في هذا للشك، لم يرد لعلي أعمل أو لا أعمل إنما هي لليقين، أي: إن رددت عملت، وهو لا يرد أبداً.
قال ابن زيد: ذلك حين تنقطع الدنيا، ويعاين الآخرة قبل أن يذوق الموت.
4999
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: إذا حضر الإنسان/ الموت جمع له كل شيء كان يمنعه من ماله من حقه، فجعل بين يديه، فعند ذلك يقول: ﴿رَبِّ ارجعون...﴾ الآية.
وروى ابن جريج " أن النبي ﷺ قال: إذا عاين المؤمنا الملائكة، قالوا: نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، فيقول: بل قدماً إلى الله جل ثناؤه، وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ".
قال الضحاك: يعني به أهل الشرك.
وقوله: ﴿رَبِّ ارجعون﴾، بالتوحيد ثم بالجمع فإنما ذلك لأن الكافر ابتدأ سؤاله إلى الله، ثم رجع إلى خطاب الملائكة الذين يتولون القبض روحه، فأتى بلفظ الجمع لأنهم جماعمة، ووحد أولاً لأن الله واحد.
وقيل: إنه إنما جمع لأن الجبار يخبر عن نفسه بلفظ الجمعة تعظيماً، فإذا خوطب جرى أيضاً على ذلك، فجرى أول الكلام على التوحيد وآخره على لفظ الجمع للتعظيم.
وقيل: إنما جاء " ارجعون " بلفظ الجمع، لأنه بمعنى: ارجع ارجع ففيه معنى التكرير، وكذلك قال المازني في قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤] قال: معناه: الق الق.
5000
ثم قال: ﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا﴾. قال ابن زيد: لابد كل مشرك أن يقولها.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
البرزخ هو مقامهم تحت التراب إلى يوم البعث فهو حاجز بينهم وبين الرجوع.
قال ابن عباس: " برزخ " أجل إلى حين.
وقال ابن جبير: برزخ ما بعد الموت.
وحضر أبو أمامة جنازة، فلما وضعت في اللحد قال: هذا برزخ إلى يوم يُبعثون.
وقال مجاهد: " البرزخ ". ما بين الموت إلى البعث.
وقال الضحاك: " البرزخ " ما بين الدنيا والآخرة.
وحقيقة البرزخ في اللغة أنه كل حاجز بين شيئين.
وقال رجل بحضرة الشعبي رحم الله فلاناً صار من أهل الآخةر فقال: لم يصر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾.
أي: فإذ نفخ إسرافيل في القرن.
5001
وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة، ومعناه: فإذا نفخ في صور الناس الأرواح.
قال ابن مسعود: " الصور ": قرن.
وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: " كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبتهه وأصغى سمعه، ينتظر متى يؤمر ".
ثم قال: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾. وقد قال في موضع آخر: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ فمعنى قول ابن عباس فيه، أنه إذا نفخ في الصور أول نفخة، تقطعت الأرحام، وصعق من في السماوات ومن في الأرض، وشغل بعض الناس عن بعض بأنفسهم، فعند ذلك لا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فإذا نفخت النفخة الثانية قاموا ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فذلك في وقتين مختلفين.
وقيل: معناه: لا تفاخر بينهم بالأنسان في القيامة كما يتفاخرون في الدنيا بالأنساب. ولا يتساءلون في الآخرة كما يتساءلون في الدنيا فيقولون من أي قبيلة الرجل.
وعن ابن عباس: أيضاً أن رجلاً سأله عن الآيتين فقال: أما قوله:
5002
﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ فذلك في النفخة الأولى، لا يبقى على الأرض شيء، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، وأما قوله: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " فإنهم لما دخلوا الجنة، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وبذلك قال السدي.
وعن ابن مسعود أن ذلك في الموقف في النفخة الثانية قال: يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين قال وينادي مناد: هذا فلان بن فلان فمن كان له حق قبلهُ فليأت إلى حقه. قال: فتفرح المرأة يومئذ أن يكون لها حق على أبيها أو على ابنها أو على أخيها أو على زوجها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلونن فيقول الرب تعالى للعبد: اعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: أي: رب، فنبت الدنيا، فمن أين أعطيهم، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة وأعطوا كل إنسان مقدار طلبته، فإن كان له فضل/ مثقال حبة من خردل ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة، ثم تلا ابن مسعود: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها﴾... الآية، وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة: ربنا فنيت حسناه وبقي طالبون كثير، فيقول تعالى: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته، وصكوا له صكاً إلى النار.
وقال ابن جريج في الآية: لا يسأل يومئذ أحد شيئاً، ولا يمت إليهم برحم، ولا يتساءلون.
وقال قتادة: ليس شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه
5003
مخافة أن يدعى عليه شيئاً، ثم قرأ: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ﴾... إلى... ﴿يُغْنِيهِ﴾.
وقال النبي ﷺ: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نادى مناد من تحت العرش. يا أهل المظالم تداركوا مظالمكم وأدخلوا الجنة.
ومعنى: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي: لا يتفاخرون بالأنساب يوم القيامة ولا يتساءلون بها كما كانوا يفعلون في الدنيا.
وقيل: إن يوم القيام مقداره خمسين ألف عام، ففيه أزمنة فأحوالهم تختلف فيه، فمرة يتساءلون، ومرة لا يتساءلون.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون﴾. إلى قوله: ﴿وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾.
أي: فمن ثقلت موازين حسناته، وخفت موازين سيئاته فأولئك هم الباقون في النعيم، ومن خفت موازين حسناته وثقلت موازين سيئاته ﴿فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ﴾، أي: غبنوا أنفسهم حظها من رحمة الله في جهنم، ﴿خَالِدُونَ﴾ أي ماكثون ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار﴾ أي: تنفح وجوههم النار.
ثم قال: ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾.
قال ابن مسعود: " الكالح ": الذي قد بدت أسنانه، وتقلصت شفتاه، كالرأس المشيط بالنار.
5004
وقال ابن عباس: " كالحون " عابسون.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " تشوي أحدهم النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته ".
قال الحسن: لفحتهم النار لفحة، فلم تدع لحماً ولا جلداً إلا ألقتهُ عند العراقيب وبقيت العظام بيضاء تلوح.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾.
أي: يقال لهم: ألم تكن آيات القرآن تتلى عليكم في الدنيا فكنتم بها تكذبون.
ثم قال: ﴿قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾.
أي: غلب علينا ما سبق في سابق علمك وخط لنا في أم الكتاب.
قال مجاهد: شقوتنا التي كتبت علينا.
قال ابن جريج: بلغنا أن أهل النار نادوا خزنة جهنم أن.
﴿ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب﴾ [غافر: ٤٩] فلم يجيوبهم ما شاء الله، فلما أجابوهم بعد حين قالوا: ﴿فادعوا وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ [غافر: ٥٠].
قال: ثم نادوا مالكاً: ﴿يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ قال: فسكت عنهم مالك خازن
5005
جهنم أربعين سنة ثم أجابهم فقال: ﴿إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ﴾ [الزخرف: ٧٧]، ثم نادى الأشقياء ربهم فقالوا: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ﴾ ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾: قال: فسكت عنهم مقدار الدنيا، ثم أجابهم بعد ذلك ﴿اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾.
وروى أن لأهل جهنم أربع دعوات، أولها ما حكى الله جل ذكره في غافر من قولهم: ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾ [غافر: ١١]، والثانية، ما حكى الله عنهم في غافر أيضاً قوله: ﴿وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب﴾ [غافر: ٤٩] فأجابتهم الخزنة: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات﴾، قالوا: " بلى "، قالت لهم الخزنة: ﴿فادعوا وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ [غافر: ٥٠].
والثالثة ما حكى الله تعالى عنهم في الزخرف من قوله: ﴿وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ فأجابهم مالك فقال: ﴿إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ﴾، والرابعة في قد أفلح: قوله:
﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ فيجيبهم الرب اخسئوا فيها ولا تكلمون، فتصير لهم همهمة كنباح الكلاب.
ومعنى: " اخسئوا " ابعدوا من رحمتي وعطفي، يقال: خسأت الكلب، أبعدته، وقال تعالى ذكر، ينقلب إليك البصر خاسئاً " أي مبعداً.
وقال/ محمد بن كعب: بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب، فردوا عليهم ما قال الله جل ذكره، فلما يئسوا نادوا: يا
5006
مالك، وهو عليهم، وله مجلس في وسطها تمر عليه ملائكة العذاب، وهو يرى أقصاها كما يرى أدناها، فقالوا: يا مالك ليقض علينا ربك، سألوا الموت فمكثوا لا يجيبهم ثمانين سنة من سني الآخرة، ثم لفظ إليهم فقال: إنكم ماكثون، فلما سمعوا ذلك قالوا: فاصبروا، فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله قال: فصبروا، فطال صبرهم، فنادوا: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾، أي: منجى، فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال: ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق﴾، إلى قوله: ﴿أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ [إبراهيم: ٢٢]، فلما سمعوا مقالته، مقتوا أنفسهم قال فنودوا: ﴿لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿مِّن سَبِيلٍ﴾... قال فيجيبهم الله جل ذكره فيها: ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ﴾ إلى ﴿الكبير﴾.
قال: فيقولون: ما أيأسنا بعد. قال ثم دعوا مرة أخرى، فيقولون:
﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾... إلى... ﴿مُوقِنُونَ﴾. قال: فيقول الرب:
﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ إلى قوله: ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. قال فيقولون: ما أيأسنا بعد قال: فيدعون مرة أخرى: ﴿رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل﴾. قال: فيقول لهم: ﴿أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ﴾.. الآية. قال: فيقولون: ما أيأسنا بعد ثم قالوا مرة أخرى: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾. قال: فيقول لهم:
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ﴾ من تذكر... ﴿مِن نَّصِيرٍ﴾... قال: ثم مكث عنهم ما شاء الله ثم ناداهم: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾، فلما سمعوا ذلك قالوا: الآن يرحمنا، فقالوا عند ذلك: ربنا غلبت علينا شقوتنا أي: الكتاب الذي تقدم فيه أنا أشقياء، ﴿وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ...﴾ إلى ﴿... ظَالِمُونَ﴾. فقال لهم ذلك: اخسئوا فيها ولا
5007
تكلمون قال: فلا يتكلمون فيها أبداً. قال: فانطقع عند ذلك الدعاء والرجاء منهم، وأقبل بعضهم بنبح في وجه بعض، فأطبقت النار عليهم قال عبد الله بن المبارك: فذلك قوله: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾.
وروي عن زيد بن أسلم أن أهل النار لا يتنفسون.
وقال أبو الدرداء يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ألا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون، فيغاثون بطعام ذي غصة، فيغصون به، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلابيب الحديد، فإذا دنا من وجوههم، شوى وجوههم، فإذا دخل بطونهم، قطع أمعاءهم وما في بطونهم، فيدعون خزنة جنهم، فيقولون لهم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب كالحديث الأول.
وقوله: ﴿وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ﴾.
أي: ظللنا عن سبيل الرشد وقصد الحق.
والشقوة والشقاوة لغتان بمعنى عند الكسائي والفراء.
وقيل: معنى ذلك: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، فسميت اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها، كما قال: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾. فسمى أكل مال
5008
اليتيم ناراً لأنه يؤدي إلى النار. ومعنى: " اخسئوا فيها ": تباعدوا تباعد سخط. يقال: خسأت الكلب، إذا زجرته ليتباعد.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا﴾.
أي: كان جماعة من عبادي، وهم أهل الإيمان بالله.
قال مجاهد: هم صهيب وبلال وخباب وشبههم من ضعفاء المسلمين، كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم، وكانوا يقولون ربنا آمنا. فاغفر لنا ذنوبنا، أي: استرها علينا وارحمنا وأنت خير من رحم أهل البلاء. ﴿فاتخذتموهم سِخْرِيّاً﴾ أي جعلتم تهزءون منهم.
هذا على قراءة من كسر السين/ ومن ضمها فمعناه فجعلتم تسخرونهم.
هذا مذهب أبي عمرو وأبي عبيدة وقطرب.
وهو قول الحسن وقتادة. وهما لغتان عند الكسائي والفراء.
بمعنى الهزء، فإذا كان بمعنى السخرة والتسخير فهو بالضم لاغير، نحو:
5009
﴿لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً﴾ [الزخرف: ٣٢]، ثم قال: ﴿حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾.
أي: لم تزالوا تستهزءون بهم حتى أنساكم ذلك من فعلكم بهم ذكري فألهاكم عنه.
قال ابن زيد: أنساهم الاستهزاء بهم والضحك ذكر الله، وقرأ:
﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ﴾.. إلى قوله.. ﴿لَضَالُّونَ﴾ [المطففين: ٢٩ - ٣٢]. ومثله في إضافة الفعل إلى غير فاعله قوله ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس﴾ [إبراهيم: ٣٦] أي: ضل بهن كثير من الناس لم يكن له صنام فعل يضل به الناس. الناس هم الضالون لعبادتهم الأصنام، فكذلك أنسوكم ذكري، لم ينسيهم المؤمنون ذكر الله بل نسوا ذلك، أي تركوه.
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا﴾. إلى آخر السورة
أي: إني جزيت الذين اتخذهم الكفار سخرياً يصبرهم على دينهم وعلى ما كانوا يلقون في الدنيا من أذى الكفار، الفوز وهو النجاة من النار، والخلود في الجنة.
ثم قال: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ﴾ أي: قال الله لهؤلاء الأشقياء الذين كانوا يظنون أنهم لا يبعثون، وأن الدنيا باقية: كم لبثتم في الأرض من الزمان بعد موتكم، فأجابوا وقالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، فنسوا عظيم ما كانوا فيه من البلاء وطول مكثهم في القبور في العذاب لما حل عليهم من نقم الله في الآخرة حتى ظنوا أنهم لم يلبثوا في البرزخ إلاّ يوماً أو بعض يوم.
5010
وروي أن الله جل ذكره ينسبهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية.
وقوله: ﴿فَسْئَلِ العآدين﴾.
أي: قالوا: فاسأل الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم بني آدم ويحصون عليهم ساعاتهم.
قال مجاهد: العادين الملائكة.
وقال قتادة: هم الحساب.
وعنه: يعني أهل الحساب.
وقوله: " عَدَدَ سنين " منصوب على التفسير.
وقرأ الأعمش: " عدداً " بالتنوين، فيكون " سنين ".
في موضع نصب على التفسير أيضاً، أو على البدل من عدد.
ثم قال: ﴿قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
أي: ما لبثتم على قولكم إذاً في الأرض إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون مقدار لبثكم فيها، وقد كنتم تزعمون أن الدنيا باقية أبداً، لا بعث ولا حشر، ثم قلتم الآن لم نلبث إلا يوماً أو بعض يوم، فقد صار الباقي عندكم يوماً أو بعض يوم. وجعل الله لبثهم قليلاً لفنائه وقلة دوامه، فكل ما يفنى، فبقاؤه قليل وإن تطاول زمانه قال الله
5011
جل ذكره: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ﴾ [النساء: ٧٧] أي ما تستمتع به الخلق من طلول أيام الدنيا قليل، إذ مصيره إلى الفناء والذهاب.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾.
أي: أفحسبتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم لعباً وباطلاً، وإنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا ترجعون فتجزون بأعمالكم في الدنيا.
ثم قال: ﴿فَتَعَالَى الله الملك الحق﴾.
أي: فتعالى الله عما يصفه به هؤلاء المشركون من اتخاذه الولد والشريك.
﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي: لا مبعود ولا رب إلا الله الملك الحق ﴿رَبُّ العرش الكريم﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾.
أي: ومن يعبد مع الله معبوداً آخر، لا حجة له بما صنع وبينة ﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾. أي: حساب عمله السيء عند ربه فيوفيه جزائه إذا قدم عليه.
﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾ أي: لا ينجح ولا يدرك البقاء والخلود في النعيم أهل الكفر بالله. وهذا يدل على أن الحق يثبت بالبرهان والحجة، والباطل يذهب بالبرهان، والحجة على بطلانه. فالتقليد لمن قدر على الحجة والبرهان خطأ منه. ثم قال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم﴾ أي: استر علي ذنوبي بعفوك عنها، وارحمني بقبول توبتي منها، وأنت خير من رحم من أذنب فقبلت توبته.
5012
Icon