ﰡ
مكية، وآيها: ست آيات، وحروفها: أربعة وتسعون حرفًا، وكلمها: ست وعشرون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾.[١] ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ سبب نزولها أن جماعة من المشركين قالوا للنبي - ﷺ -: اعبد آلهتنا سنة، ونعبدُ ربك سنة، فقال: "معاذَ الله أن أشرك به غيره"، قال: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد آلهك، فقال: "حتّى أنظر ما يأتي من ربي"، فأنزل الله السورة، فغدا رسول الله - ﷺ - إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثمّ قرأها عليهم حتّى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك، وآذْوه وأصحابَه (٢).
* * *
(٢) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (٣٠/ ٣٣١)، والطبراني في "المعجم الصغير" (٧٥١)، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
[٢] ومعنى ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ لا أعبد الأصنام الّتي تعبدون.
* * *
﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ هو الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لإشراككم به، واتخاذكم معه الأصنام، فإن زعمتم أنكم تعبدونه، فأنتم كاذبون؛ لأنكم تعبدونه مشركين به.
* * *
﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤)﴾.
[٤] ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ﴾ و (ما) هنا مصدرية، وكذا في الّذي بعده؛ أي: لا أعبد مثل عبادتكم.
* * *
﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ أي: لا تعبدون مثلَ عبادتي الّتي هي توحيد، تلخيصه: أنّه - ﷺ - نفى أن يكون على مثل حالهم، أو يكونوا على مثل حاله، وهذا التّرتيب ليس بتكرار، بل هو بارع الفصاحة، وفيه التأكيد والإبلاغ. قرأ هشام عن ابن عامر: (عَابِدٌ) و (عَابِدُونَ) في الحرفين بالإمالة، والباقون: بالفتح (١).
[٦] ثمّ زاد الأمرَ بيانًا وتبرؤًا منهم بقوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ الشركُ.
﴿وَلِيَ دِينِ﴾ الإسلامُ. قرأ نافع، وهشام، وحفص، والبزي بخلاف عنه: (وَلِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١)، وقرأ يعقوب: (دِينِي) بإثبات الياء في الحالين، والباقون: بحذفها فيهما (٢)، وفي هذه الألفاظ مهادنة ما، وهي منسوخة بآية القتال، والله أعلم.
* * *
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٤٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٢٥٧).
مدنية، وآيها: ثلاث آيات، وحروفها: تسعة وسبعون حرفًا، وكلمها: تسع عشرة كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لما صالح رسول الله - ﷺ - قريشًا عام الحديبية على وضع الحرب على النَّاس عشر سنين كما تقدّم في سورة الفتح، دخل بنو بكر بن عبد مناف في عقد قريش، ودخل بنو خزاعة في عهد رسول الله - ﷺ -، وكانت بينهما حروب في الجاهلية، فعدَتْ بنو بكر على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكّة يقال له: الوتير، وتظاهرت قريش مع بني بكر، وأعانوهم بالرجال والسلاح بعد أن وعدوهم، ووافوهم متنكرين، فبيتوا خزاعة ليلًا، فقتلوا منهم عشرين، ثمّ ندمت قريش على ما فعلوا، وعلموا أن هذا نقض العهد الّذي بينهم وبين رسول الله - ﷺ -، وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في طائفة من قومه، فقدموا على رسول الله - ﷺ - مستعينين به، فوقف عمرو عليه وهو جالس في المسجد، وأنشده أبياتًا يسأله أن ينصره، فقال رسول الله - ﷺ -: "نُصِرْت يا عَمْرَو بنَ سالمِ"، ثمّ قدم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة على النّبيّ - ﷺ -، وأخبره، فقال: "كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشد العقد، ويزيد في المدة"، فكان كذلك، ثمّ قدم أبو سفيان المدينة، فدخلثمّ خرج وأتى النبيَّ - ﷺ -، فكلمه، فلم يردَّ عليه شيئًا، فذهب إلى أبي بكر، ثمّ إلى عمر، ثمّ إلى علي -رضي الله عنهم- على أن يكلموا النّبي - ﷺ - في أمره، وتشفَّع بهم، فلم يفعلوا، فقال لعلي: يا أبا الحسن! إنِّي أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال: والله لا أعلم شيئًا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين النَّاس، والحقْ بأرضك، قال: أو ترى ذلك يغني عني شيئًا؟ قال: لا والله ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها النَّاس! إنِّي قد أجرتُ بين النَّاس، ثمّ ركب بعيره وانطلق.
فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ فقص شأنه، وأنّه قد (١) أجار بين النَّاس، قالوا: فهل أجاز محمّد ذلك؟ قال: لا، قالوا: والله إنَّ زاد الرَّجل على أن لعب بك.
ثمّ أمر رسولُ الله - ﷺ - بالجهاد، وأمر أهله أن يجهزوه، ثمّ أعلم النَّاس أنّه يريد مكّة، وقال: "اللَّهُمَّ خُذِ العيونَ والأخبارَ عن قريش حتّى نَبْغَتَهم في بلادهم"، ثمّ مضى رسول الله - ﷺ - لسفره، واستخلف على المدينة كلثوم بن الحصين الغفاري، فخرج لعشرة مضين من شهر رمضان، ومعه المهاجرون والأنصار، وطوائف من العرب، فكان جيشه عشرة آلاف، فصام وصام
ثمّ حضر أبو سفيان على يدي العباس إلى النّبيّ - ﷺ - بعد أن أستأمن له، فأسلم هو وحكيم وبديل، وممن أسلم يوم الفتح: معاوية بن أبي سفيان، وأخوه يزيد، وأمه هند بنت عتبة، وكان معاوية يقول: إنّه أسلم يوم الحديبية، فكتم إسلامه من أبيه وأمه، وقال العباس: يا رسول الله! إنَّ أبا سفيان يحب الفخر، فاجعل له شيئًا يكون في قومه فقال: "مَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمِن، ومن دخلَ المسجدَ فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمنٌ، ومن دخلَ دارَ حكيمِ بنِ حزام فهو آمنٌ".
ثمّ أمر رسول الله - ﷺ - أن تُركز رايةُ سعد بن عبادة بالحجون لما بلغه أنّه قال: اليومَ يومُ الملحمة، اليومَ تُستحل الكعبة، فقال: "كذبَ سعدٌ، ولكن هذا يوم يعظِّمُ اللهُ فيه الكعبةَ، ويومٌ تُكْسى فيه الكعبة"، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكّة من كداء في بعض النَّاس، وكل هؤلاء الجنود لم يقاتلوا؛ لأنّ النّبيّ - ﷺ - نهى عن القتال؛ إِلَّا أن خالد بن الوليد لقيه جماعة من قريش، فرموه بالنبل، ومنعوه من الدخول، فقاتلهم خالد، فقُتل من المشركين ثمانية وعشرون رجلًا، فلما ظهر النّبيّ - ﷺ - على ذلك، قال: "ألم أَنْهَهُ عن القتال؟ "، فقالوا له: إنَّ خالدًا قوتل فقاتل، وقُتل من المسلمين رجلان، ودخل النّبيّ - ﷺ - من كداء على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يُرَجِّع.
ولما دخل رسول الله - ﷺ - مكّة، كان على الكعبة ثلاث مئة وستون صنمًا، قد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص، فجاء ومعه قضيب، فجعل يومي إلى كلّ صنم منها، فيخرُّ لوجهه، فيقول: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾، حتّى مر عليها كلِّها، وكان على رأسه - ﷺ - عِمامة سوداء، فوقف على باب الكعبة وقال: "لا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدَه، صدقَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه، ألَّا إنَّ كلّ مأثورة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قدميَّ هاتين، إِلَّا سدانةَ الكعبة، وسقايةَ الحاج"، ثمّ قال: "يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟ "، قالوا جميعًا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: "أقول كما قال أخي يوسف: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾ الآية [يوسف: ٩٢]، ثمّ قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فأعتقهم رسول الله - ﷺ -، ثمّ طاف بالبيت سبعًا على راحلته، واستلم الركن بمِحْجَن كان في يده، ودخل الكعبة، ورأى فيها الشخوص على سورة الملائكة، وصورةَ إبراهيم (١) وفي يده الأزلامُ يستقسم بها، فقال: "قاتَلَهُمُ الله! جعلوا شيخنا يستقسِمُ بالأزلام، ما شأنُ إبراهيمَ والأزلام؟! "، ثمّ أمر بتلك الصور فطُمست، وصلَّى في البيت، ثمّ جلس على الصفا، وعمرُ بنُ الخطّاب أسفلَ منه يأخذ على النَّاس، وبات النَّاس على السمع والطاعة لله ورسوله،