تفسير سورة الذاريات

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

الكاملة والأسماء الشاملة المحيط كل منها بعموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد من ذرائر المظاهر والمجالى ان كل مظهر من مظاهر الحق باعتبار ظهور الحق فيه بذاته قابل لان يقسم به ويتيمن منه كما اقسم سبحانه في هذه السورة بما اقسم تنبيها وتعليما لعباده بظهوره في عموم مظاهره فقال بعد ما تيمن باسمه الأعظم الأعلى الذي هو بِسْمِ اللَّهِ المتجلى في الرياح المروحة لنفوس ارباب الطلب والارادة شوقا الى لقائه الرَّحْمنِ لهم يوقظهم عن سنة الغفلة الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى فضاء الوحدة
[الآيات]
وَالذَّارِياتِ اى وحق النسمات الروحانية المهبة من النفسات الرحمانية على وفق العناية الازلية بحيث تذرى وتبعث النفوس الخيرة الموفقة المجبولة على نشأة التوحيد ذَرْواً نوعا من الذرو والبعث المنبعث من محض المودة والمحبة على سبيل الشوق والتحنن نحو المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي
فَالْحامِلاتِ من القوى والآلات الحامل كل منها وِقْراً حملا ثقيلا خطيرا من أعباء الوحى والإلهامات الإلهية المنتشئة من العلوم اللدنية والإدراكات الكشفية المنشعبة من حضرة العلم الحضوري الإلهي ولوح القضاء المحفوظ المتعلق بالمعارف والحقائق الإلهية الفائضة لبعض النفوس الزكية من ارباب العناية
فَالْجارِياتِ اى سفن النفوس الزكية القدسية المشتملة على انواع المدارك والمشاعر الجارية في بحر الوجود يُسْراً سهلا بلا تثاقل وتكاسل أصلا
فَالْمُقَسِّماتِ من الأسماء والصفات الإلهية الموسومات بالملائكة المقسمة لقوابل المظاهر أَمْراً اى عموم امور أرزاقهم ومطلق أجناس حظوظهم وانصبائهم من الفتوحات الصورية والمعنوية الفائضة الموهوبة لهم من قبل الحق حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية
إِنَّما تُوعَدُونَ أنتم ايها المكلفون المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان من البعث والحشر والحساب والجزاء وغير ذلك من المعتقدات الاخروية المترتبة على حضرة العلم المحيط الإلهي وحضرة قدرته الغالبة وارادته الكاملة لَصادِقٌ ثابت محقق وقوعه بلا شك وشبهة
وَإِنَّ الدِّينَ والجزاء المعبر بهما عن الطامة الكبرى الموعود لكم في النشأة الاخرى المتفرع على أعمالكم وأفعالكم التي قد صدرت عنكم في النشأة الاولى لَواقِعٌ محقق وقوعه كائن قيامه وإتيانه بلا تردد وارتياب. ثم لما اقسم سبحانه بما يتعلق بعالم الأمر أراد ان يقسم بما يتعلق بعالم الخلق تتميما للتأكيد والمبالغة بالقسم باعتبار كلا العالمين فقال
وَالسَّماءِ اى وحق السماء الرفيعة البديعة النظم العجيبة التركيب ذاتِ الْحُبُكِ اى الحسن والزينة وكمال الصفاء والبهجة والبهاء مع اشتمالها على الكواكب المضيئة المشيرة الى الطرق الموصلة الى كمال قدرة الصانع القديم ومتانة حكمة الحكيم العليم ان اليوم الموعود لبعثكم وجزائكم لآت البتة
إِنَّكُمْ ايها الشاكون المترددون في شأنه وشأن من اخبر به بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي وفي شأن ما نزل لتبيينه من الكتاب المبين لاعداد الزاد له وطريق النجاة عن أهواله وافزاعه لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ تنكرون له وتكذبون المخبر الصادق وتنسبونه وكتابه الى ما لا يليق بشأنهما من المفتريات الباطلة حيث تقولون انه سحر او من أساطير الأولين او كهانة اختلقها هذا الساحر الشاعر او كلام المجانين يتكلم به هذا المجنون
يُؤْفَكُ ويصرف عَنْهُ صلّى الله عليه وسلّم وعن دينه وكتابه مَنْ أُفِكَ صرف عن الحق وقبوله ومال الى الباطل وسعى نحوه وبسبب إفكهم وذبهم عن طريق الحق والامتثال به قد
قُتِلَ اى طرد ولعن على ألسنة عموم اهل الحق الْخَرَّاصُونَ المنكرون الكذابون المكذبون المسرفون من اصحاب القول المختلف ألا وهم
الَّذِينَ هُمْ من شدة
انصرافهم عن الحق واهله مغمورون فِي غَمْرَةٍ غفلة عظيمة وجهل متناه ساهُونَ عن الله وقدر ألوهيته وحقوق ربوبيته ومن كمال غفلتهم وشدة عمهم وسكرتهم
يَسْئَلُونَ على سبيل التهكم والاستهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ اى متى يوم الجزاء والقيامة يا محمد وفي أى آن يأتينا عذاب الساعة وأهوالها قال الله تعالى سبحانه في جوابهم
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ اى يأتى عليهم العذاب والجزاء في يوم هم يحرقون فيه في النار ويطرحون عليها صاغرين مهانين ويقول لهم الموكلون حين طرحهم فيها توبيخا وتقريعا
ذُوقُوا ايها المجرمون المسرفون فِتْنَتَكُمْ التي أنتم تستعجلون بها في دار الدنيا على سبيل الاستهزاء والمراء وبالجملة هذَا الَّذِي وقعتم فيه وحبستم عليه الآن من العذاب قد كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أنتم في سالف الزمان على سبيل الإنكار والاستكبار. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه
إِنَّ الْمُتَّقِينَ الممتثلين بأوامر الله المجتنبين عن نواهيه الموردة في كتبه الجارية على ألسنة رسله الحافظين لنفوسهم عن الإفراط في الرخص والمباحات وكيف عن تفريط المحظورات والمحرمات المتلذذون باللذات الروحانية متمكنون فِي جَنَّاتٍ العلم والعين والحق وَعُيُونٍ جاريات من الحكم والمعارف اللدنية المستخرجة من ينابيع قلوبهم المترشحة إليها من بحر الوجود على مقتضى الجود الإلهي حسب استعداداتهم الفائضة لهم من لدنه سبحانه
آخِذِينَ ما آتاهُمْ واعطاهم رَبُّهُمْ تفضلا عليهم وتكريما على وجه الرضاء بجميع ما جرى عليهم من مقتضيات القضاء إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ الفضل واللطف في النشأة الاولى مُحْسِنِينَ الأدب مع الله ورسله ومع خلص عباده عاكفين ببابه متوجهين نحو جنابه في عموم أوقاتهم وحالاتهم ومن جملة إحسانهم انهم قد
كانُوا في دار الدنيا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ اى يرقدون قليلا من ساعات الليل وذلك ايضا بسبب ان لا يعرض لهم الكلال العائق من مواظبة الطاعات ومداومة العبادات
وَهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم وخشوعهم بِالْأَسْحارِ المعدة للتوجه والاستغفار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ دائما كأنهم يرون أنفسهم قاصرة عن رعاية حقوق العبودية على ما ينبغي ويليق بجناب الألوهية لذلك يبالغون في الانابة والاستغفار
وَمع ذلك قد كان فِي أَمْوالِهِمْ وأرزاقهم المسوقة لهم من قبل الحق حَقٌّ حظ ونصيب مفروض مفروز مقدر مخرج هم يوجبونه على أنفسهم لِلسَّائِلِ السائر في سبيل الله المتعرض للسؤال مقدار ما يحتاج اليه وَالْمَحْرُومِ المتعفف عن ذل السؤال المتمكن في زاوية التوكل والتفويض. ثم أشار سبحانه الى حيطة وحدته الذاتية وشمولها على عموم ما ظهر وبطن في الآفاق والأنفس بالاستقلال والانفراد والى سر سريان هويته الذاتية على ذرائر الكائنات تنبيها للمريد المستبصر وايقاظا عن سنة الغفلة ونعاس النسيان فقال
وَفِي الْأَرْضِ اى عالم المسببات والقوابل والاستعدادات المعبر عنها بالآفاق المعدة لظهور آثار القدرة الكاملة الإلهية عليها من العجائب والغرائب المتفرعة عن كمال العلم الحضوري الإلهي ووفور الحكمة المتقنة آياتٌ دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على قدرة الصانع الحكيم ووحدة ذاته واختياره في عموم تصرفاته واستقلاله في مطلق حكمه ومصالحه لِلْمُوقِنِينَ المنكشفين باليقين العلمي والعيني والحقي بل
وَفِي أَنْفُسِكُمْ ايضا ايها المستبصرون المستكشفون عن سرائر الألوهية واسرار الربوبية شواهد ظاهرة تشهد على حقية الحق وتوحده في ظهوره ووجوده أَفَلا تُبْصِرُونَ ايها المجبولون على فطرة
الكشف والشهود
وَكذا فِي السَّماءِ اى عالم الأسماء والفواعل والأسباب المعبر عنها بالأعيان الثابتة رِزْقُكُمْ اى أرزاقكم الصورية والمعنوية المبقية لأشباحكم وأرواحكم وَكذا ما تُوعَدُونَ أنتم من الآجال المقدرة والاجزئة المترتبة على الأعمال والأفعال الصادرة عن هوياتكم الباطلة في نشأتكم الاولى والاخرى وحالاتكم الواقعة فيهما بطريق اللف والنشر. ثم اقسم سبحانه تأكيدا لما اومأ فقال
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ اى وبحق موجدهما ومربيهما على هذا النمط البديع والنظم الغريب العجيب إِنَّهُ في عموم ما يستدل بإيجاده وإظهاره على وجوده سبحانه وكمال علمه وقدرته ووفور حكمته ومتانة حكمه لَحَقٌّ ثابت محقق بل هو حق حقيق بالحقية وحيد بالقيومية فريد بالديمومية لا يعرض له زوال ولا يعتريه فترة وكلال وهو سبحانه في حقيته وتحققه مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ اى كما لا شبهة لكم في نطقكم وتلفظكم بالكلمات المنطوقة كذلك لا شبهة في حقية الحق وظهوره بل هو اظهر من كل ظاهر واجلى من كل جلى بل الكل انما يظهر به وبظهوره الا انكم بغيوم تعيناتكم الباطلة وظلام هوياتكم العاطلة تسترون شمس الحق الظاهر في الأنفس والآفاق بكمال الكرامة والاستحقاق. ثم ذكر سبحانه قصة ابراهيم الخليل المتحقق بمقام الكشف والشهود الفائض له من عنده سبحانه كمال المحبة والإخلاص والخلة والاختصاص مع ضيفه من الملائكة المكرمين فقال مستفهما لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل العبرة والتذكير
هَلْ أَتاكَ أو قد وصل إليك يا أكمل الرسل حَدِيثُ ضَيْفِ جدك إِبْراهِيمَ وقصة إلمام الملائكة عليه ونزولهم عنده على صورة الأضياف الْمُكْرَمِينَ لكرامتهم وحسن صورتهم وسيرتهم مع كمال كرامتهم ونجابتهم وحسن أدبهم سلموا وقت
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ وحضروا عنده بلا استيذان منه فَقالُوا سَلاماً ترحيبا وتكريما له اى نسلم سلاما عليكم يا خليل الله قالَ ابراهيم عليه السلام في جوابهم ظاهرا وان أنكر عليهم باطنا بدخولهم بلا استيذان سَلامٌ عليكم عدل الى الرفع لقصد الدوام والثبات ليكون رده أكمل من تسليمهم وهو عليه السلام وان بادر الى رد سلامهم الا انه قد أضمر في نفسه إنكارا عليهم لذلك قال في سره هؤلاء قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لا اعرف نفسهم ولا أمرهم ولا شأنهم
فَراغَ اى عدل ومال عنهم فجاءة إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ إذ كان اغلب مواشيه البقر فذبحه وطبخه
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ نزلا لهم فأبوا عن اكله فعرض عليهم وحثهم على الاكل كما هو عادة ارباب الضيافة حيث قالَ أَلا تَأْكُلُونَ منه فلم يأكلوا بعد العرض والاذن ايضا وبعد ما رأى منهم ابراهيم ما رأى من الآباء عن طعامه
فَأَوْجَسَ وأضمر الخليل في نفسه مِنْهُمْ خِيفَةً خوفا ورغبا ظنا منه انهم انما امتنعوا عن طعامه ليقصدوا له سوأ. ثم لما تحسسوا ما تحسسوا من الرعب المفرط قالُوا له ازالة لرعبه لا تَخَفْ منا ولا تحزن عن امتناعنا من الاكل انا لسنا ببشر بل نحن ملائكة منزهون عن الاكل مرسلون من عند ربك لأمر عظيم قيل مسح جبرئيل العجل المشوى فحيي فقام يدرج ويدب حتى لحق بامه وبعد ما رأى ابراهيم منهم ما رأى وسمع ما سمع أمن منهم وَبعد ما امنوه وأزالوا عنه رعبه بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ إذ لم يكن له ابن مخلف عنه وكانت امرأته عجوزا عقيما عَلِيمٍ في كمال الرشد والفطنة وهو اسحق عليه السلام وبعد ما سمع الخليل منهم البشرى اخبر امرأته ثم لما سمعت استحالت واستبعدت
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة إليهم فِي صَرَّةٍ اى صرير وصيحة فَصَكَّتْ ولطمت
وَجْهَها بأطراف أصابعها على ما هو عادة النسوان في إلمام الخطوب وَقالَتْ مشتكية انا عَجُوزٌ عَقِيمٌ عاقر كيف ألدا بنا بعد انقضاء أوانه وانصرام زمانه ثم لما شاهدوا منها ما شاهدوا
قالُوا لها كَذلِكَ اى مثل الذي نخبرك ونبشرك قالَ رَبُّكِ وما علينا الا البلاغ والأمر بيد الله إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في عموم أفعاله وآثاره الْعَلِيمُ بمطلق تدابيره وتقاديره وبعد ما جرى منهم ما جرى أخذ ابراهيم عليه السلام يسأل عن سبب نزولهم وارسالهم حيت
قالَ فَما خَطْبُكُمْ اى أمركم وشأنكم الذي جئتم لأجله أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أقبح الجرائم وافحش المنكرات يعنون قوم لوط المبالغين في الفعلة الشنيعة والديدنة القبيحة المتناهية في القبح والفحش وانما أرسلنا إليهم
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً متحجرة مِنْ طِينٍ يريد بها السجيل المركب من الحجر المسحوق مع الطين
مُسَوَّمَةً اى معلمة كل منها باسم من رمى بها عِنْدَ رَبِّكَ ليكون جزاء لِلْمُسْرِفِينَ الذين قد أسرفوا في الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية سيما عن الطريق المعتاد لحكمة الإيلاد والاستيلاد ثم لما أردنا رجمهم وإهلاكهم
فَأَخْرَجْنا باذن ربنا مَنْ كانَ فِيها اى في تلك القرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بنبوة لوط ودينه الممتثلين بالأوامر والنواهي الإلهية الجارية على لسانه
فَما وَجَدْنا وصادفنا فِيها اى تلك القرى بعد ما فتشنا وكشفنا عن أهلها غَيْرَ بَيْتٍ اى سوى اهل بيت فقط مِنَ الْمُسْلِمِينَ المتصفين الجامعين بين الايمان والتسليم وهو اهل بيت لوط عليه السلام
وَبالجملة أهلكنا الكل وتَرَكْنا آثار هلاكهم واستئصالهم فِيها اى في الأرض التي تلك القرى فيها آيَةً امارة وعلامة مستمرة الى يوم القيامة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ يعنى للقوم الذين يلونهم ويرون آثار العذاب النازل على اهل الجرائم والآثام فيمتنعون عنها ويعتبرون بها
وَكذا قد تركنا ايضا فِي إهلاك مكذبي مُوسى الكليم آية عظيمة للمتذكرين المعتبرين اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ أَرْسَلْناهُ اى موسى اصالة وأخاه هارون معه تبعا له إِلى فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي المبالغ في العتو والعناد وقد أيدناه وقويناه عناية منابه بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وحجة واضحة ظاهرة وبرهان لائح
فَتَوَلَّى فرعون واعرض عن دعوته الى الايمان مستظهرا بِرُكْنِهِ اى بملائه وجنوده الذين يتقوى بهم ويركن إليهم في الخطوب والملمات وَقالَ في جوابه من كمال بطره وعناده هو ساحِرٌ في عموم ما اتى من الخوارق أَوْ مَجْنُونٌ يعمل له الجن جميع ما يظهر منه من الارهاصات الخارقة للعادات وبالجملة قد كذب وأنكر عليه ونسب معجزاته الى السحر واعمال الجن
َخَذْناهُ
غيرة منا عليه وتقوية وتأييدا لرسولنا جُنُودَهُ
المظاهرين له نَبَذْناهُمْ
وأغرقناهم ي الْيَمِّ وَهُوَ
اى فرعون حينئذلِيمٌ
نفسه بما يلام هو عليه من الكفر والعناد وانواع العتو والفساد نادم عن جميع ما صدر عنه وما ينفعه الندم حينئذ
وَقد تركنا ايضا آية عظيمة للمعتبرين فِي إهلاك قوم عادٍ اذكر وقت إِذْ أَرْسَلْنا وسلطنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ لا يثمر نفعا سوى العقم والهلاك على وجه الاستئصال مع انهم قد أملوا نفعا عظيما فيها إذ
ما تَذَرُ وتترك مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ وهبت عَلَيْهِ من الأنفس والماشي إِلَّا جَعَلَتْهُ وصيرته كَالرَّمِيمِ اى اليابس البالي من النبات وأوراق الأشجار وبالجملة قد صيرتهم هباء منثورا تذروه الرياح حيث شاءت
وَكذا فِي ثَمُودَ وإهلاكهم قد تركنا آية عظيمة
لأهل العبرة والاستبصار اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قِيلَ لَهُمْ على لسان نبيهم حين أردنا أخذهم وإهلاكهم تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ اى تمتعوا وترفهوا ثلاثة ايام فكذبوا المخبر وأنكروا عليه خبره
فَعَتَوْا واستكبروا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وما تندموا وما تضرعوا مع ان المناسب لهم حينئذ هذا فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ الهائلة المهولة صبيحة اليوم الرابع وَهُمْ يَنْظُرُونَ إتيانها عيانا ولا يقدرون على دفعها بل
فَمَا اسْتَطاعُوا وما قدروا مِنْ قِيامٍ ونهوض وحركة عن أمكنتهم التي كانوا متمكنين فيها عند ظهورها وَبالجملة ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين من عذابنا منتقمين منا أصلا
وَمثل ما أهلكنا المذكورين قد أهلكنا ايضا قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ اى قبل إهلاك هؤلاء الهلكى إِنَّهُمْ ايضا أمثال هؤلاء الطغاة البغاة الهالكين في تيه العتو والعناد قد كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضيات الحدود الإلهية بأنواع الكفر والفسوق والعصيان لذلك أهلكناهم بالطوفان وما كانوا منتصرين. ثم قال سبحانه إظهارا لكمال قدرته على انواع الانعام والانتقام
وَالسَّماءَ بَنَيْناها يعنى كيف يسع لهم الآباء والامتناع عن مقتضيات قدرتنا والخروج عن ربقة انقيادنا واطاعتنا ومطلق عبوديتنا مع انا قد بنينا السماء المرفوعة المحفوظة بِأَيْدٍ غالبة وقدرة كاملة وَبالجملة إِنَّا لَمُوسِعُونَ قادرون غالبون بالاستقلال والاختيار على عموم الأفعال بحيث لا يعارض فعلنا ولا ينازع أمرنا وحكمنا مطلقا
وَالْأَرْضَ ايضا قد فَرَشْناها ومهدناها بالاستقلال والاستيلاء التام فَنِعْمَ الْماهِدُونَ الباسطون نحن بلا مشاركة ومظاهرة
وَمثل ما خلقنا العلويات فواعل مؤثرات والسفليات قوابل متأثرات مِنْ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء الظاهرة الكائنة في بقعة الإمكان وعرصة الأزمان والمكان قد خَلَقْنا زَوْجَيْنِ صنفين مزدوجين لَعَلَّكُمْ ايها المجبولون في فطرة المعرفة والتوحيد المؤيدون بالعقل المفاض المنشعب من العقل الكل تَذَكَّرُونَ فتعلمون وتنكشفون ان الكل منا بدا وإلينا يعود ولا شيء سوانا موجود وبعد ما قد ثبت عندكم ايها الموحدون المحققون ان ظهور الكل منه ورجوعه اليه سبحانه
فَفِرُّوا ايها العارفون الموحدون إِلَى اللَّهِ المسقط لعموم الإضافات عن مقتضيات عالم الناسوت وانخلعوا وتجردوا عن لوازم هوياتكم الباطلة وانانياتكم العاطلة وقل لهم يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ سبحانه نَذِيرٌ أنذركم عما يعوقكم من سلوك طريق توحيده مُبِينٌ مظهر لكم آداب الطريقة الموصلة الى مقصد الحقيقة التي هي الوحدة الذاتية الإلهية
وَبالجملة لا تَجْعَلُوا اى لا تتخذوا ولا تعتقدوا مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الكثرة والتعدد مطلقا إِلهاً آخَرَ مستحقا للاطاعة والرجوع مستقلا في الوجود وما يترتب عليه من الآثار إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أنذركم من الوعيدات الهائلة العاجلة والآجلة اللاحقة عليكم بالشرك والإشراك وانواع الفسوق والعصيان
كَذلِكَ اى الأمر والحكم مثل ذلك يا أكمل الرسل انذرهم وبلغهم على وجهه بلا مبالاة باعراضهم واستهزائهم إذ ما أَتَى الضالين المسرفين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ من الرسل الكرام إِلَّا قالُوا لهم وفي حقهم حين دعوتهم الى الايمان والتوحيد ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ مثل ما يقول هؤلاء الحمقى في شأنك يا أكمل الرسل.
ثم قال سبحانه على سبيل التعجب والإنكار
أَتَواصَوْا بِهِ أي أوصى بعضهم بعضا اى أسلافهم لا خلافهم بهذا القول والتكذيب فتواطؤوا عليه جميعا مع انه لا يمكنهم هذه التوصية في الازمنة
الطويلة بَلْ هُمْ اى هؤلاء الأخلاف قَوْمٌ طاغُونَ مشاركون في البغي والطغيان والضلال والعدوان مع أسلافهم في مقتضيات فطرتهم ولوازم جبلتهم لذلك اتصفوا بما اتصفوا لاشتراك أسبابهم وبعد ما قد أصروا على ما هم عليه من العناد ولم ينفعهم الآيات والنذر
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ واعرض يا أكمل الرسل بعد ما بذلت وسعك في هدايتهم وإرشادهم فان لم يهتدوا فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على اعراضك عنهم وانصرافك عن إرشادهم ودعوتهم بعد التبليغ
وَذَكِّرْ للقابلين المستحقين فَإِنَّ الذِّكْرى والعظة تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الموفقين من لدنا على الايمان المجبولين على فطرة اليقين والعرفان
وَاعلم يا أكمل الرسل انى بمقتضى حكمتى ومصلحتي ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وما أظهرت أشباحهم واظلالهم على هذه الهياكل والهويات وما صورتهم على هذه الصور البديعة وما أودعت فيهم ما أودعت من جوهر العقل المفاض إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ويعرفوني ويتحققوا بوحدة ذاتى وكمالات أسمائي وصفاتي وباستقلالى في وجودى وفي عموم تصرفاتي في ملكي وملكوتي وباستحقاقى للاطاعة والعبودية مطلقا بلا شوب شركة ومظاهرة من احد والا
ما أُرِيدُ وما اطلب مِنْهُمْ بخلقهم واظهارهم مِنْ رِزْقٍ اى تحصيل رزق صورى او معنوي ارزق به عبادي إذ خزائن ارزاقى مملوة وذخائر رحمتي متسعة وَما أُرِيدُ ايضا منهم أَنْ يُطْعِمُونِ الأعلى الفقراء الذين هم عيالي طلبا لمرضاتى كما جاء في الحديث صلوات الله على قائله يقول الله سبحانه استطعمتك فلم تطعمني اى لم تطعم عبدى الجائع وكيف يريد منهم سبحانه أمثال هذا
إِنَّ اللَّهَ المتوحد بالالوهية والربوبية هُوَ الرَّزَّاقُ المنحصر المخصوص في ترزيق عموم العباد إذ لا رازق لهم سواه وهو ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ والطول العظيم وهو الحاكم المقتدر الغالب على عموم مراداته ومقدوراته على وجه الاحكام من الانعام والانتقام وبالجملة
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنواع التكذيب والإنكار والاستهزاء والاستحقار ذَنُوباً اى حظا وافرا ونصيبا كاملا من العذاب العاجل والآجل مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ اى مثل نصيب أسلافهم من الكفرة المكذبين للرسل الماضين وسيلحقهم مثل ما لحقهم بل أضعافه وآلافه فَلا يَسْتَعْجِلُونِ لحوقه وحلوله أولئك المنكرون وبالجملة
فَوَيْلٌ عظيم وعذاب شديد هائل نازل لِلَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق واعرضوا عنه وأظهروا الباطل وأصروا عليه عنادا مِنْ يَوْمِهِمُ الفظيع الفجيع الَّذِي قد كانوا يُوعَدُونَ به في النشأة الاولى ألا وهو يوم القيامة والطامة الكبرى المعدة لتعذيب العصاة الغواة وتفضيحهم فيها. جعلنا الله من الآمنين الناجين من عذابه بفضله ولطفه
خاتمة سورة الذاريات
عليك ايها الموحد المجبول على فطرة المعرفة والتوحيد واليقين ان تتفكر في حكمة ظهورك ومصلحة بروزك من كتم العدم وتتدبر في معرفة نفسك في عموم احوالك لينكشف لك من التأمل فيها الاطلاع على موجدها ومظهرها وعلى اتصافه بالأوصاف الكاملة والأسماء الشاملة ثم منها الى توحيده واستقلاله في الوجود وعموم الآثار المترتبة عليه حتى تفوز الى غاية قصواك ونهاية مبتغاك من اليقين والايمان وكمال ما يترتب على ظهورك من التوحيد والعرفان والله المستعان وعليه التكلان
Icon