ﰡ
وهي أربع وخمسون آية مكية
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)
قوله تبارك وتعالى حم اسم السورة. ويقال: حم يعني: قضي ما هو كائن ويقال هو قسم أقسم الله تعالى به. تَنْزِيلٌ أي: نزل بهذا القرآن جبريل، مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تنزيل صار رفعاً بالابتداء، وخبره، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ويقال: صار رفعاً بإضمار فيه. ومعناه:
هذا تنزيل من الرحمن الرحيم، كِتابٌ يعني: القرآن فُصِّلَتْ آياتُهُ يعني: بينت، وفسرت دلائله، وحججه. ويقال: بيّن حلاله، وحرامه، قُرْآناً عَرَبِيًّا صار نصباً على الحال. أي:
بينت آياته في حال جمعه، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي: يصدقون، ويقرون بالرسل. ويقال: يعلمون ما فيه، ويفهمونه. قُرْآناً عَرَبِيًّا أخذ من الجمع، ولو كان غير عربي لم يعلموه.
قوله تعالى: بَشِيراً وَنَذِيراً يعني: بَشِيراً للمؤمنين بالجنة وَنَذِيراً للكافرين بالنار. فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ يعني: أعرض أكثر أهل مكة، فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ يعني:
لا يسمعون سمعاً ينفعهم، لأنهم لا يجيبون، ولا يطيعون.
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ يعني: في غطاء لا نفقه ما تقول، مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد لا يصل إلى قلوبنا، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ يعني: ثقلاً فلا نسمع قولك. يعني: نحن في استماع قولك، كالصم لا نسمع ما تقول، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ أي ستر، وغطاء، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ يعني: اعمل على أمرك، نعمل على أمرنا. ويقال: اعمل لإلهك الذي أرسلك، إننا عاملون لآلهتنا، وهذا قول مقاتل، والأول قول الكلبي. ويقال: اعمل في هلاكنا، إننا عاملون في هلاكك. روى محمد بن كعب القرظي عمن حدثه: أن عتبة بن ربيعة
تالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك؟ قال:
سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني، وخلوا بيني وبين الرجل، وبين ما هو فيه. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. فقال: هذا الرأي لكم، فاصنعوا ما بدا لكم.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٦ الى ١٢]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
يقول الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد، إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعني: آدمياً مثلكم، يُوحى إِلَيَّ ما أبلغكم من الرسالة، أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ يعني: أقروا له
ثم وصف المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: صدقوا بالله، وأدوا الفرائض، لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني: غير منقوص. ويقال: غير مقطوع. عنهم في حال ضعفهم، ومرضهم.
فقال عز وجل: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التهديد والزجر. يعني: أإنكم لتكذبون بالخالق الذي خلق الأرض في يومين، يوم الأحد ويوم الاثنين. فبدأ خلقها في يوم الأحد، وبسطها في يوم الاثنين، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً يعني: تصفون له شركاء من الآلهة، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ يعني: الذي خلق الأرض، فهو رب جميع الخلق، ولو أراد الله أن يخلقها في لحظة واحدة لفعل، وكان قادراً. ولكنه أحب أن يبصر الخلق وجوه الأناة، والقدرة على خَلَقَ السموات والأرض فِي أيام كثيرة، وفي لحظة واحدة سواء، لأن الخلق عاجزون عن مثقال ذرة منها، وكان ابتداء خلق الأرض في يوم الأحد، وإتمام خلقها، وبسطها في يوم الاثنين.
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها يعني: وخلق في الأرض الرواسي. يعني: الجبال الثوابت من فوقها، وَبارَكَ فِيها بالماء، والشجر، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها يعني: قسم فيها الأرزاق. وقال عكرمة: قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها يعني: قدر في كل قرية عملاً لا يصلح في الأخرى، مثل النيسابوري لا يكون إلا بنيسابور، والهروي لا يكون إلا بهراة. وقال قتادة:
وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قال: جبالها، ودوابها، وأنهارها، وثمارها. وقال الحسن وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قال: أرزاقها. وقال مقاتل: يعني: أرزاقها، ومعايشها وروى الأعمش عن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: أول مَا خَلَقَ الله مِن شيء، خلق القلم. فقال له اكتب.
فقال: يا رب وما أكتب؟ فقال: اكتب القدر. فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم القيامة.
ثم خلق النون، ثم رفع بخار الماء، ففتق منه السموات، ثم بسط الأرض على ظهر النون، فاضطرب النون، فتمادت الأرض، فأوتدت بالجبال.
ثم قال: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يعني: من أيام الآخرة. ويقال: من أيام الدنيا، سَواءً لِلسَّائِلِينَ يعني: لمن سأل الرزق ومن لم يسأل. وقال مقاتل: سَواءً لِلسَّائِلِينَ يعني: عدلاً لمن سأل الرزق، كقوله: وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ [ص: ٢٢] يعني: عدلاً. وقال ابن عباس:
سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: «خَلَقَ الأَرْوَاحَ، قَبْلَ الأَجْسَادَ بأَرْبَعِ آلافِ سَنَة»، وهكذا خلق الأرزاق قبل الأرواح بأربع آلاف سنة فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً. قرأ الحسن:
فمن قرأ: بالكسر، جعل سواء صفة للأيام، والمعنى في أربعة أيام، مستويات، تامات للسائلين. ومن قرأ: بالضم، فمعناه في أربعة أيام وقد تم الكلام.
ثم استأنف فقال: سَواءً لِلسَّائِلِينَ ومن قرأ: بالنصب. يعني: قدرها سواء صار نصباً على المصدر. ومعناه: استوت استواءً. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي: صعد أمره إلى السماء، وهو قوله: كُنْ ويقال: عمد إلى خلق السماء وَهِيَ دُخانٌ يعني: بخار الماء كهيئة الدخان. وذلك أنه لما خلق العرش، لم يكن تحت العرش شيء سوى الماء كما قال. وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء، ثم ألقى الحرارة على الماء حتى ظهر منه البخار، فارتفع بخاره كهيئة الدخان، فارتفع البخار، وألقى الريح الزبد على الماء، فزيد الماء، فخلق الأرض من الزبد، وخلق السماء من الدخان وهو البخار.
ثم قال تعالى: وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ يعني: للسماء، والأرض، ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يعني: اعطيا الطاعة، طوعاً أو كرهاً. يعني: ائتيا بالمعرفة لربكما، والذكر له طوعاً، أو كرهاً، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فأعطيا الطاعة بالطوع. ويقال: كانت السماء رتقاً عن المطر، والأرض عن النبات، فقال لهما ائْتِيا يعني: أعطيا، وأخرجا ما فيكما من المطر، والنبات منفعة للخلق إن شئتما طائعين، وإن شئتما كارهين. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ يعني:
أخرجنا ما فينا طائعين غير كارهين. وروي عن مجاهد أنه قال: معناه يا سماء أبرزي شمسك، وقمرك، ونجومك، ويا أرض أخرجي نباتك طوعاً، أو كرهاً. ويقال: هذا على وجه المثل، يعني: أمرهما بإخراج ما فيهما، فأخرجتا طائعتين.
قوله عز وجل: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها يعني:
أمر أهل كل سماء بأمرها. قال السدي: خلق في كل سماء، خلقاً من الملائكة، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ يعني: بالنجوم وَحِفْظاً يعني: من الشياطين أن يسترقوا السمع ذلِكَ أي: الذي ذكر من صنعه تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في ملكه الْعَلِيمِ بخلقه.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٣ الى ١٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
أنذرتكم عذاباً مثل عذاب عاد وثمود، أنه يصيبهم مثل ما أصابهم. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: أخبرني الخليل بن أحمد. قال: حدّثنا علي بن المنذر. قال: حدّثنا ابن فضيل، عن الأجلح، عن ابن حرملة، عن جابر بن عبد الله: أن أبا جهل، والملأ من قريش، بعثوا عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتاه، فقال: له أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا، فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك لواء، وكنت رأساً ما بقيت. وإن كنت تريد الباءة، زوجناك عشرة نسوة تختارهن، من أي حي، من بنات قريش شئت. وإن كنت تريد المال، جمعنا لك من أموالنا، ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك. فلما فرغ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» إلى قوله: «مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» !. فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم أن يكف. ثم رجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم. فقال: أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا وقد صبأ، فأتوه. فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبوت إلى دين محمد، وأعجبك أمره، فغضب عتبة، وأقسم ألا يكلم محمداً أبداً.
وقال: إني أتيته، وقصصت عليه القصة، فأجابني بقوله: «والله ليس فيه سحر ولا شعر، ولا كهانة» فأمسكت على فيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا صلّى الله عليه وسلم إذا قال قولاً، لم يكذب. فخفت أن ينزل بكم العذاب.
ثم قال تعالى: إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني: من قبل عاد وثمود، وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني: من بعد عاد وثمود، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ يعني: ألا تطيعوا في التوحيد غير الله. وهذا قول الرسل لقومهم، فأجابهم قومهم: قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ولم يرسل إلينا آدمياً، فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي: جاحدون.
وقد قيل في قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني: خوفوهم من بين أيديهم من
يقول الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وقواهم، هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً يعني: بطشاً، ولم يعتبروا بذلك. وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعني: جاحدين بما آتاهم هود- عليه السلام-، أنه لا ينزل بهم.
قوله عز وجل: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً يعني: ريحاً بارداً، ذا صوت ودوي تحرق، كما تحرق النار. ويقال: رِيحاً صَرْصَراً أي: شديدة الصوت، فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ. قال مقاتل: يعني: شدائد. وقال الكلبي: يعني: أيام مشؤومات. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ بجزم الحاء، والباقون: بكسر الحاء، ومعناهما واحد. ويقال: يوم نحس، ويوم نحس، وأيام نحسه، ونحسه، والنحسات جمع الجمع.
لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ يعني: العذاب الشديد في الدنيا، قبل عذاب الآخرة. وهذا كقوله: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الروم: ٤١] يعني: ليصيبهم بعض العقوبة في الدنيا. كقوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني: يتوبون.
ثم قال عز وجل: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ يعني: أشد مما كان في الدنيا. وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ يعني: لا يمنعهم أحد من عذاب الله، لا في الدنيا، ولا فى الآخرة. وَأَمَّا ثَمُودُ قرأ الأعمش: ثَمُودُ بالتنوين. وقراءة العامة بغير تنوين.
فَهَدَيْناهُمْ يعني: بيّنا لهم الحق من الباطل، والكفر من الإيمان. وقال مجاهد:
فَهَدَيْناهُمْ أي: دعوناهم. وقال قتادة ومقاتل: بيّنا لهم. وقال القتبي: دعوناهم، ودللناهم، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى يعني: اختاروا الكفر على الإيمان. ويقال: اختاروا طريق الضلالة، على طريق الهدى، فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ والصاعقة هي العذاب الْهُونِ.
يعني: يهانون فيه. ويقال: الهون الشديد. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني: يعملون من الشرك، والمعاصي.
قوله عز وجل: وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يعني: آمنوا بصالح النبي عليه السلام، وَكَانُوا يَتَّقُونَ عقر الناقة، ويتقون الشرك، والفواحش.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
حَتَّى إِذا مَا جاؤُها يعني: إذا جاءوها، ما صلة في الكلام. يعني: جاءوا النار، وعاينوها. قيل لهم: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: ٢٢] فقالوا عند ذلك وَالله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فيختم على أفواههم، وتستنطق جوارحهم، فتنطق بما كتمت الألسن، فذلك قوله:
شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ يعني: آذانهم بما سمعت، وَأَبْصارُهُمْ يعني: أعينهم بما نظرت، ورأت، وَجُلُودُهُمْ يعني: فروجهم، بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني: بجميع أعمالهم.
قوله تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ يعني: لجوارحهم. وقال القتبي: الجلود كناية عن الفروج، لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ يعني: أنطق الدواب، وغيرهم، وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني: أنطقكم في الدنيا، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة.
يقول الله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ يعني: ما كنتم تمتنعون. ويقال: ما كنتم تحسبون، وتستيقنون، أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ من الخير، والشر، وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ يعني: ذلك الظن الذي أهلككم. ويقال: أَرْداكُمْ يعني: أغواكم. ويقال: أهلككم سوء
فَإِنْ يَصْبِرُوا على النار، فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي: مأوى لهم. ويقال: هذا جواب، لقولهم: اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ.
يقول الله تعالى: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي: يسترجعوا من الآخرة، إلى الدنيا، فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي: من المرجوعين إلى الدنيا. ويقال: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا يعني: وإن يطلبوا العذر، فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي: لا يسمع، ولا يقبل منهم عذر.
قوله عز وجل: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ قال القتبي: يعني: ألزمناهم قرناء من الشياطين.
وقال أهل اللغة: قيض يعني: سلط. ويقال: قيض بمعنى قدر. فَزَيَّنُوا لَهُمْ يعني: زينوا لهم التكذيب بالحساب، وقال الحسن: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي: خلينا بينهم، وبين الشياطين بما استحقوا من الخذلان، فَزَيَّنُوا لَهُمْ، مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ قال الضحاك. يعني:
شككوهم في أمر الآخرة، وَمَا خَلْفَهُمْ يعني: رغبوهم في الدنيا. ويقال: زينوا لهم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. يعني: ما كان عليه آباؤهم من أمر الجاهلية، وما خلفهم. يعني: تكذيبهم بالبعث، وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يعني: وجب عليهم العذاب فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: مع أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قبل أهل مكة، مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ بالعقوبة. ويقال:
إنَّهُمْ كَانوا خاسرين مثلهم.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ نزلت الآية في أبي جهل، وأصحابه، فإنه قال: إذا تلى محمد القرآن، فارفعوا أصواتكم، بالأشعار، والكلام في وجوههم، حتى تلبسوا عليهم، فذلك قوله: وَالْغَوْا فِيهِ يعني: الغطوا، واللغط هو الشغب،
عارضوه بكلام لا يفهم، يكون ذلك الكلام لغواً.
يقول الله تعالى: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً يعني: في الدنيا بالقتل، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ في الآخرة أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ يعني: أقبح ما كانوا يعملون، ويقال:
هذا كله من عذاب الآخرة. يعني: فلنذيقن الذين كفروا في الآخرة عذاباً شديداً، ولنجزينهم من العذاب أَسْوَأَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. يعني: بأسوإ أعمالهم، وهو الشرك. ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ يعني: ذلك العذاب الشديد هو جزاء أعداء الله النار. يعني: ذلك العذاب هو النار ويقال: صار رفعاً بالبدل عن الجزاء.
ثم قال: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ يعني: في النار موضع المقام أبداً، جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعني: بالكتاب، والرسل.
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ يعني: الصنفين اللذين أَضَلَّانا يعني: استنا ضلالتنا، مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ويقال: جهلانا حتى نسينا الآخرة.
ثم قال: نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ في النار. ويقال: من الجن.
ويقال: يعني: إبليس هو الذي أضلنا، ومن الإنس يعني: ابن آدم الذي قتل أخاه. ويقال:
يعني: رؤساؤهم في الضلالة. كقوله: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا [الأحزاب: ٦٧] الآية. قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر: أَرِنَا بجزم الراء. والباقون: بالكسر ومعناهما واحد.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٠ الى ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)
وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
ثُمَّ اسْتَقامُوا ولم يروغوا روغان الثعلب على طاعة الله. فقال ابن عباس في رواية القتبي:
ثُمَّ اسْتَقامُوا. وعن أبي العالية أنه قال: ثُمَّ اسْتَقامُوا أي: أخلصوا له الدين، والعمل.
ويقال: وحّدوا الله تعالى، واستقاموا على طاعته، ولزموا سنة نبيه. وقال بعض المتأخرين:
معناه: ثم استقاموا أفعالاً، كما استقاموا أقوالاً. وقد قيل أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا يعني: يقولون الله مانعنا، ومعطينا، وضارنا، ونافعنا، ثُمَّ اسْتَقامُوا على ذلك القول، ولا يرون النفع، ولا يرجون من أحد دون الله تعالى، ولا يخافون أحداً دون الله، فذكر أعمالهم، ثم ذكر ثوابهم.
فقال: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ قال الكلبي يعني: تتنزل عليهم الملائكة عند قبض أرواحهم، ويبشرونهم، ويقولون: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا يعني: لا تخافوا ما أمامكم من العذاب. وَلاَ تَحْزَنُواْ على ما خلفكم من الدنيا. وقال مقاتل: تتنزل عليهم الملائكة يعني:
تتنزل عليهم الحفظة من السماء، يوم القيامة، فتقول له: أتعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا الذي كنت أكتب عملك، وبشره بالجنة، فذلك قوله: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا. وقال زيد بن أسلم البشرى: في ثلاث مواطن، عند الموت، وفي القبر، وفي البعث.
وقال بعض المتأخرين: هذه البشرى للخائف الحزين، لا للآمن المستبشر. يعني: الذي كان خائفاً في الدنيا.
ثم قال عز وجل: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
يعني: تقول لهم الحفظة، نحن كنا أولياؤكم في الحياة الدنيا، ونحن أولياؤكم، وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
يعني: لكم في الجنة ما تحب، وتتمنى قلوبكم، وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
يعني: تسألون.
ثم قال: نُزُلًا أي: رزقاً مِنْ غَفُورٍ للذنوب العظام، رَحِيمٍ بالمؤمنين. حكى الزجاج عن الأخفش: نُزُلًا منصوباً من وجهين، أحدهما على المصدر، فمعناه: أنزلناه نزلاً. ويجوز أن يكون على الحال.
قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً قال بعضهم: الآية نزلت في شأن المؤذنين، يدعون الناس إلى الصلاة. وَعَمِلَ صالِحاً يعني: صلى بين الأذان، والإقامة. ويقال: الأنبياء يدعون الخلق إلى توحيد الله تعالى عَمِلَ صالِحاً يعني:
قوله: وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعني: أكون على دين الإسلام، لأنه لا تقبل طاعة بغير دين الإسلام.
فقال عز وجل: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ قال الزجاج: لا زائدة، مؤكدة، والمعنى: لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ يعني: لا تستوي الطاعة، والمعصية. ولا يستوي الكفر، والإيمان. ويقال: لا يستوي البصير، والأعمى. ويقال: لا يستوي الصبر، والجزع، واحتمال الأذى، والإساءة. وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يؤذيه أبو جهل لعنة الله عليه، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يكره رؤيته بُغْضاً له، فأمره الله تعالى بالعفو، والصفح، فقال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني: ادفع بالكلمة الحسنة، الكلمة القبيحة، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ يعني: إذا فعلت ذلك، يصير الذي بينك وبينه عداوة، بمنزلة القرابة في النسب.
قوله تعالى: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا يعني: الكلمة الحسنة، ودفع السيئة، ما يعطاها إلا الذين صبروا على طاعة الله، وأداء الفرائض، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ يعني: ذو نصيب وافر في الآخرة.
ويقال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني: بقول لا إله إلا الله السيئة. يعني: الشرك. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على كظم الغيظ.
ثم قال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ يعني: يصيبك مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ يعني: وسوسة على الاحتمال، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شره، وامض على احتمالك. وقال مقاتل: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ يعني: يفتتنك مِنَ الشَّيْطَانِ. نَزْغٌ أي: فتنة. وقال الكلبي: الذنب عند دفع السيئة. ويقال:
يَنْزَغَنَّكَ يعني: يغوينك فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ يعني: تعوذ بالله، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ للاستعاذة، الْعَلِيمُ بقول الكفار وعقوبتهم.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
ويقال: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يعني: إن أردتم بعبادتهما عبادة الله تعالى، فاعبدوا الله، وأطيعوه، ولا تسجدوا لغيره. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا يعني: تكبروا عن السجود لله تعالى، وعن توحيده.
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني: الملائكة، يُسَبِّحُونَ لَهُ يعني: يصلون لله تعالى بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ يقال: هو التسبيح بعينه. يعني: يسبحونه، ويذكرونه، وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ يعني: لا يملون من الذكر، والعبادة، والتسبيح.
قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ أي: من علامات وحدانيته، أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً أي: غبراء، يابسة، لا نبت فيها، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ يعني: المطر اهْتَزَّتْ يعني:
تحركت بالنبات، وَرَبَتْ أي: علت يعني: انتفخت الأرض إذا أرادت أن تنبت إِنَّ الَّذِي أَحْياها بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى للبعث في الآخرة، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: من البعث وغيره.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال مقاتل: يعني: يميلون عن الإيمان بالقرآن. وقال الكلبي: يعني: يميلون في آياتنا بالتكذيب. وقال قتادة: الإلحاد التكذيب. وقال الزجاج: أي يجعلون الكلام على غير وجهه. ومن هذا سمي اللحد لحداً، لأنه في جانب القبر. قرأ حمزة: يُلْحِدُونَ بنصب الحاء، والياء. والباقون: بضم الياء، وكسر الحاء، ومعناهما واحد، لحد وألحد بمعنى واحد.
قوله: لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أي: لا يقدرون على أن يهربوا من عذابنا، ولا يستترون منا،
النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ويقال: نزلت في شأن جميع الكفار، وجميع المؤمنين. يعني: من كان مرجعه إلى النار، حاله يكون خيراً أم حال من يدخل الجنة.
ثم قال لكفار مكة: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ لفظه لفظ التخيير والإباحة، والمراد به التوبيخ، والتهديد، لأنه بيّن مغير كل عامل.
ثم قال تعالى: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ من الخير، والشر.
قوله تعالى: بصير أي: عالم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ يعني: جحدوا بالقرآن لما جاءهم، وَإِنَّهُ يعني: القرآن، لَكِتابٌ عَزِيزٌ يعني: كريم عند المؤمنين.
ويقال: كريم على الله، أنزله آخر الكتب. وقال مقاتل: كتاب عزيز يعني: منيع عن الباطل.
ويقال: عزيز لا يوجد مثله في النظم، وكثرة فوائده.
لاَّ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ قال الكلبي ومقاتل: لاَّ يَأْتِيهِ الْباطِلُ أي: لا يأتيه التكذيب من الكتاب الذي قبله، كل يصدق هذا، ولا يجيء من بعده كتاب يكذبه. وقال قتادة: لاَّ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ يعني: لا يستطيع الشيطان أن يبطل منه حقاً، ولا يؤيد فيه باطلاً. قال أبو الليث: حدثنا الخليل بن أحمد. قال: حدثنا الباغندي. قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي البحتري، عن الحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن أمتك ستفترق من بعدك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بَلَى». فقالوا: ما المخرج منها. فقال جبريل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم:
قال: كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. من ابتغى العلم في غيره، أضله الله، ومن حكم بغيره، قصمه الله، وهو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم، فيه خبر من كان قبلكم، وبيان من بعدكم، والحكم فيما بينكم هو الفصل المبين، وهو الفضل، وليس بالهزل، وهو الذي سمعته الجن، فقالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً لا يخلق على طول الدهر، ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه، ثم قال للحارث خذها إليك يا أعور.
ثم قال: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ يعني: القرآن تنزيل من الله تعالى، الحكيم في أمره، المحمود في فعاله. وقال بعضهم: قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، لم يذكر جوابه، وجوابه مضمر. وقال بعضهم: جوابه في قوله: وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ ويقال: جوابه في قوله أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: ٤٤].
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٣ الى ٤٦]
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
ويقال: معناه مَّا يُقالُ لَكَ يعني: لا يؤمر لك. يعني: في الرسالة إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، بأن يعبدوا الله. فيقال لك: أن تعبد الله أيضاً. ويقال: مَّا يُقالُ لَكَ إلا بأن تبلغ الرسالة، إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ بأن يبلغوا الرسالة، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ قال مقاتل: أي ذو تجاوز في تأخير العذاب عنهم إلى أجلهم. وقال الكلبي: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لمن تاب من الشرك، وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لمن لم يتب، ومات على الكفر.
قوله عز وجل: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا يعني: لو أنزلناه بلسان العبرانية، لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ يعني: هلا بيّن بالعربية. ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ويقولون: القرآن أعجمي، والرسول عربي، فكان ذلك أشد لتكذيبهم. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية أبي بكر: بهمزتين بغير مد. والباقون بهمزة واحدة مع المد، ومعناهما واحد ويكون على معنى الاستفهام. وقرأ الحسن أَعْجَمِىٌّ بهمزة واحدة بغير مد. ويكون على غير وجه الاستفهام.
وقرأ بعضهم أَعْجَمِىٌّ بنصب العين، والجيم. يقال: رجل عجمي إذا كان من العجم، وإن كان فصيحاً. ورجل أعجمي إذا كان لا يفصح، وإن كان من العرب.
ثم قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً يعني: القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة، وَشِفاءٌ أي: شفاء لما في الصدور من العمى، وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة، فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ يعني: ثقل، وصم، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى عَمي بالكسر على معنى النعت، وقراءة العامة بالنصب. يعني: القرآن عليهم حجة، وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: يعني: عموا عنه فلا ينظرونه، ولا يفهمونه. وروي عن ابن عباس أنه قرأ: وهو عليهم عم بالكسر على معنى النعت، وقراءة العامة بالنصب، على معنى المصدر. كما أنه قال: هُدىً وَشِفاءٌ على معنى المصدر.
من السماء. وقال مجاهد: يعني: بعيداً من قلوبهم. وقال الضحاك: ينادون يوم القيامة من مكان بعيد، فينادى الرجل بأشنع أسمائه. يعني: يقال له يا فاسق، يا منافق يا، كذا يا كذا.
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: أعطينا موسى التوراة، ويقال: الألواح.
قوله: فَاخْتُلِفَ فِيهِ يعني: صدق بعضهم، وكذب بعضهم، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني: وجبت بتأخير العذاب، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني: لفرغ من أمرهم، ولهلك المكذب. وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ يعني: من العذاب بعد البعث مُرِيبٍ لا يعرفون شكهم. ويقال: مُرِيبٍ أي: ظاهر الشك. ويقال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير العذاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة، لأتاهم العذاب، إذ كذبوه كما فعل بغيرهم.
قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ يعني: ثوابه لنفسه، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها يعني:
العذاب على نفسه، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يعني: لا يعذب أحداً بغير ذنب.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠)
قوله تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ يعني: لا يعلم قيام الساعة أحد إلا الله. يعني: يرد الخلق كلهم علم قيام الساعة إلى ربهم. وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها يعني: من أجوافها. يعني: حين تطلع، وغلاف كل شيء كلمه أي: تخرج من موضعها الذي كانت فيه.
قرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، في إحدى رواية حفص: مِنْ ثَمَراتٍ بلفظ الجمع.
والباقون: مِن ثَمَرَةٍ بلفظ الواحد.
ثم قال: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ يعني: إلا وهو يعلمه، ولا يعلم أحد
يدعوهم، أَيْنَ شُرَكائِي يعني: الذين كنتم تدعون من دون الله، قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ يعني: أعلمناك، وقلنا لك: ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ يعني: يشهد بأن لك شريك تبرؤوا من أن يكون مع الله شريك. وقالوا: ما منا من أحد يشهد لك أنه عبد أحد دونك. وقال القتبي:
هذا قول الآلهة التي كانوا يعبدون في الدنيا. وما منا من شهيد لهم كما قالوا. وادعوه في الدنيا فينا. وَضَلَّ عَنْهُمْ يعني: بطل عنهم، مَّا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ في الدنيا، وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ يعني: علموا، واستيقنوا ما لهم من ملجأ، ولا مفر من النار.
قوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ يعني: لا يمل الكافر. قال الضحاك: نزلت في شأن النضر بن الحارث. مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ يعني: من سؤال الخير. يعني: العافية في الجسد، والسعة في الرزق.
وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ يعني: أصابته الشدة، والبلاء، والفقر، فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ يعني: آيساً من الخير، قانطاً من رحمة الله تعالى. ويقال: لا يمل من دعاء الخير، وإذا نزلت به شدة.
يقول: اللهم عافني، وإذا مسه الشر فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ يعني: آيساً من معبوده.
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا يعني: أصبناه عافية منا، وَغِنًى، مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ يعني:
من بعد شدة أصابته، لَيَقُولَنَّ هذا لِي يعني: أنا أهل لهذا، ومستحق له. ويقال: أنا أحق بهذا. ويقال: هذا بعملي، وأنا محقوق به.
وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً يعني: ما أحسب القيامة كائنة، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي يعني: يوم القيامة، إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى يعني: الجنة ولئن كان يوم القيامة، كما يقول محمد صلّى الله عليه وسلم فلي الجنة.
يقول الله تعالى: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: لنخبرنهم، بِما عَمِلُوا من أعمالهم الخبيثة، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ يعني: لنجزينهم، مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ يعني: عذاب شديد لا يفتر عنهم.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
فقال عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني: إن كان هذا الكتاب من عند الله، ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ يعني: جحدتم أنه ليس من عند الله، ماذا تقولون؟ وماذا تجيبون؟ وماذا تحتالون. إذا نزل لكم العذاب يوم القيامة؟
مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي: في خلاف طويل، بعيد عن الحق.
قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ يعني: عذابنا في البلاد، مثل هلاك عاد، وثمود، وقوم لوط، وهم يرون إذا سافروا، آثارهم، وديارهم. وَفِي أَنْفُسِهِمْ يبتلون بأنفسهم من البلايا. ويقال: من قتل أصحابهم الكفار في الحرب، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ يعني:
إن الذي قلت هو الحق، فيصدقونك. وقال مجاهد: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ يعني: ما يفتح الله عليهم من القرى، وَفِي أَنْفُسِهِمْ قال: فتح مكة. وقال الضحاك: معناه أن أبا جهل قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: ائتنا بعلامة، فانشق القمر نصفين. فقال: أبو جهل للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن كان القمر قد انشق، فهي آية. ثم قال: يا معشر قريش، إن محمداً قد سحر القمر، فوجهوا رسلكم إلى الآفاق. هل عاينوا القمر؟ إنْ كان كذلك، فهي آية وإلا فذلك سحر، فوجهوا. فإذا أهل الآفاق، يتحدثون بانشقاقه. فقال أبو جهل عليه اللعنة: هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِر. يعني: ذاهباً في الدنيا. فنزل سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ وقال بعض المتأخرين. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ ما وضع في العالم من الدلائل، وفي أنفسهم ما وضع فيها من الدلائل، التي تدل على وحدانية الله تعالى، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم صادق ينطق بالوحي فيما يقول. وهذا كما قال: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ.
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ شاهداً أن القرآن من الله تعالى، أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: عالم بأعمالهم، بالبعث وغيره. وقال الكلبي: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ يعني: أنه قد أخبرهم بذلك، وإن لم يسافروا. ويقال: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ ومعنى الكفاية هاهنا، أنه قد بيّن لهم ما فيه كفاية، بالدلالة على توحيده، وتثبيت رسله.