تفسير سورة سبأ

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة سبأ مكية وهي خمسون وأربع آيات.

سورة سبأ
وهي خمسون وأربع آية مكية
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
قول الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلق وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ يعني: يحمده أهل الجنة. ويقال: يحمدونه في ستة مواضع. أحدهما حين نودي وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) [يس: ٥٩] فإذا تميز المؤمنون من الكافرين يقولون:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون: ٢٨] كما قَالَ نوح- عليه السلام- حين أنجاه الله عز وجل من قومه. والثاني حين جازوا الصراط قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
[فاطر: ٣٤]. والثالث لما دنوا إلى باب الجنة، واغتسلوا بماء الحيوان، ونظروا إلى الجنة، وَقَالُواْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: ٤٣]. والرابع لما دخلوا الجنة استقبلتهم الملائكة- عليهم السلام- بالتحية فقالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزمر: ٧٤] الآية. والخامس حين استقروا في منازلهم وَقَالُواْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر: ٣٤، ٣٥]. والسادس كلما فرغوا من الطعام قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) [الفاتحة: ١]. وقال بعضهم: إنها الذي استوجب الحمد في الآخرة كما استوجب الحمد في الدنيا.
ثم قال: وَهُوَ الْحَكِيمُ حين حكم بالبعث الْخَبِيرُ يعني: العليم بهم.
ثم قال عز وجل: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ يعني: ما يدخل في الأرض من المطر والأموات والكنوز وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات والكنوز والأموات وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من مطر أو وحي أو رزق أو مصيبة وَما يَعْرُجُ فِيها يعني: يصعد إلى السماء من الملائكة
وأعمال بني آدم وَهُوَ الرَّحِيمُ بخلقه الْغَفُورُ بستر الذنوب وتأخير العذاب عنهم.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣ الى ٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)
قوله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي قسم أقسم به يعني:
بلى والله.
قوله: لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ قرأ ابن عامر ونافع عالِمِ بالضم، جعله رفعاً بالابتداء.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: عالِمِ الْغَيْبِ بكسر الميم وهو صفة لله تعالى. وهو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ ويقال: ردّه إلى حرف القسم وهو قوله تعالى: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ.
وقرأ حمزة والكسائي علام الغيب وهو على المبالغة في وصف الله عز وجل بالعلم.
ويقال: من قرأ عالِمِ الْغَيْبِ بالضم فهو على المدح ومعناه: هو عالِمِ الْغَيْبِ. ويقال:
هو على الابتداء وخبره لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ قرأ الكسائي: لاَ يَعْزُبُ بكسر الواو. وقرأ الباقون: بالضم، ومعناهما واحد أي: لا يغيب عنه مِثْقالُ ذَرَّةٍ يعني: وزن ذرة صغيرة.
والذرة النملة الصغيرة الحمراء. ويقال: التي ترى في شعاع الشمس فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني: قد بيّن الله عَزَّ وَجَلَّ في اللوح المحفوظ لِيَجْزِيَ يعني: لكي يثيب الَّذِينَ آمَنُوا بأعمالهم في الدنيا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي: ثواب حسن في الجنة.
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا يعني: عملوا في القرآن مُعاجِزِينَ يعني:
متسابقين ليسبق كل واحد منهم بالتكذيب قرأ أبو عمرو وابن كثير مُعاجِزِينَ أي: مثبطين يثبطون الناس عن الإيمان بالقرآن وأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص أَلِيمٌ بضم الميم وكذلك في الجاثية جعلاه من نعت العذاب يعني: عذاب أليم من رجز على معنى التقديم. يعني: عذاب شديد. وقرأ الباقون: بالكسر فيكون صفة للرجز يعني: عذاب من العذاب الأليم.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٦ الى ٩]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
79
ثم قال عز وجل: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني: أي: يعلم الذين أوتوا العلم. وهذا روي في قراءة ابن مسعود: يعني به مؤمني أهل الكتاب يعني: إنهم يعلمون أن الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني: القرآن هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي يعني: يدعو ويدل إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يعني: إلى طريق الرب العزيز بالنقمة لمن لم يجب الرسل الحميد في فعاله.
قوله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: كفار أهل مكة هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعني: قال بعضهم لبعض هل ندلكم على رجل يُنَبِّئُكُمْ يعني: يخبركم إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ يعني: يخبركم أنكم إذا متم وتفرقتم في الأرض، وأكلتكم الأرض كل ممزق، يعني:
وكنتم تُرَابًا إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ يعني: بعد هذا كله صرتم خلقاً جديداً.
قوله عز وجل: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني: قالوا: إن الذي يقول إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ اختلق على الله كذباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ يعني: به جنون.
يقول الله: بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هم كذبوا حين كذبوا بالبعث فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ يعني: هم في العذاب في الآخرة. والخطأ الطويل في الدنيا عن الحق.
ثم خوفهم ليعتبروا فقال عز وجل: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لأن الإنسان حيثما نظر، رأى السماء والأرض. قال قتادة: إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك، أو بين يديك أو من خلفك رأيت السماء والأرض إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ يعني: تغور بهم وتبتلعهم الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ يعني: جانباً من السماء. قرأ حمزة والكسائي: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ أو يسقط الثلاثة كلها بالياء. وقرأ الباقون:
كلها بالنون. فمن قرأ بالياء: فمعناه إن يشأ الله. ومن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه.
ثم قال عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: لعبرة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ يعني: مقبل إلى طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ. ويقال: مخلص القلب بالتوحيد. ويقال: مشتاق إلى ربه. ويقال:
80
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني: أفلم يعلموا أن الله خالقهم، وخالق السموات والأرض، وهو قادر على أن يخسف بهم إن لم يوحدوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي: لعلامة لوحدانيتي.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يعني: أعطيناه النبوة والملك يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ يعني: سبحي مع داود. وأصله في اللغة من الرجوع. وإنما سمي التسبيح إياباً لأن المسبح مرة بعد مرة وقال القتبي: أصله التأويب من السير، وهو أن يسير النهار كله، كأنه أراد أوبي النهار كله بالتسبيح إلى الليل.
ثم قال: وَالطَّيْرَ وقرئ في الشاذ: والطير بالضم. وقراءة العامة بالنصب. فمن قرأ بالضم: فهو على وجهين. أحدهما أن يكون نسقاً على أوبي، والمعنى يا جبال ارجعي بالتسبيح معه أنت والطير. ويجوز أن يكون مرفوعاً على النداء والمعنى أيها الجبال وأيها الطير. ومن قرأ بالنصب فلثلاث معانٍ أحدها لنزع الخافض ومعناه: أوبي معه، ومع الطير.
والثاني أنه عطف على قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا وآتيناه الطير يعني: وسخرنا له الطير. والثالث أن النداء إذا كان على أثره اسم، فكان الأول بغير الألف واللام، والثاني بالألف واللام، فإنه في الثاني بالخيار إن شاء نصبه، وإن شاء رفعه والنصب أكثر كما قال الشاعر:
ألاَ يَا زَيْدُ والضَّحَّاكَ سِيْرَا فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمرَ الطَّرِيقِ
ورفع زيداً لأنه نداء مفرد، ونصب الضحاك بإدخال الألف واللام.
ثم قال عز وجل: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ يعني: جعلنا له الحديد مثل العجين أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ يعني: قلنا له اعمل الدروع الواسعة. وكان قبل ذلك صفائح الحديد مضروبة.
ثم قال: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ قال السدي: السَّرْدِ المسامير التي في خلق الدرع. وقال مجاهد: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي: لا تدق المسامير، فتقلقل في الحلقة، ولا تغلظها فتعصمها، واجعله قدراً بين ذلك. وقال في رواية الكلبي هكذا. وقال بعضهم: هذا لا يصح لأن الدروع التي عملها داود- عليه السلام- وكانت بغير مسامير، لأنها كانت معجزة له. ولو كان محتاجاً إلى المسمار لما كان بينه وبين غيره فرق. وقد يوجد من بقايا تلك الدروع بغير مسامير، ولكن معنى قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي: قدر في نسخها وطولها وعرضها وضيقها وسعتها.
ويقال: قَدِّرْ في تأليفه والسرد في اللغة تقدمة الشيء إلى الشيء. يأتي منسقاً بعضه إلى أثر
بعض، متتابعاً. ويقال: يسرد في الكلام إذا ذكره بالتأليف. ومنه قيل لصانع الدروع: سراد وزراد، تبدل من السين الزاي. وروي عن عائشة أنها قالت إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم أي: لم يتابع في الحديث كتتابعكم.
ثم قال: وَاعْمَلُوا صالِحاً يعني: أدوا فرائضي وقد خاطبه بلفظ الجماعة كما قال:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: ٥١] وأراد به النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة. ويقال: إنه أراد به داود وقومه إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني: عالم
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
قوله عز وجل: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قرأ عاصم في رواية أبي بكر الرِّيحَ بالضم وقرأ الباقون بالنصب. فمن قرأ بالنصب فمعناه: وَسَخَّرْنَا لسليمان الريح كما اتفقوا في سورة الأنبياء وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ مسخرة تكون رفعاً على معنى الخبر.
ثم قال: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ تسير به الريح عند الغداة مسيرة شهر فتحمله مع جنوده من بيت المقدس إلى اصطخر. وَرَواحُها شَهْرٌ يعني: تسير به عند آخر النهار مسيرة شهر من اصطخر إلى بيت المقدس، واصطخر عند بلاد فارس. وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ يعني: أجرينا له عين الصفر المذاب. يقال: تسيل له في كل شهر ثلاثة أيام يعمل بها ما أحب. وروى سفيان عن الأعمش قال: سيلت له كما سيل الماء ويقال جرى له عين النحاس في اليمن. وقال شهر بن حوشب: جرى له عين النحاس من صنعاء وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: وسخرنا لسليمان مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ يعني: بأمر ربه وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا يعني: من يعصِ سليمان فيما أمره نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ قال بعضهم: كان معه ملك، ومعه سوط من عذاب السعير. فإذا خالف سليمان أحد الشياطين ضربه بذلك السوط. وقال مقاتل: يعني: به عذاب الوقود في الآخرة.
82
قوله عز وجل: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ يعني: ما يشاء سليمان مِنْ مَحارِيبَ يعني:
المساجد. ويقال: الغرف. وَتَماثِيلَ يعني: على صور الرجال من الصفر والنحاس لأجل الهيبة في الحرب وغيره. ويقال: ويجعلون صوراً للأنبياء ليستزيد الناس رغبة في الإسلام.
ثم قال: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ يعني: قصاعاً كالحياض الكبيرة. ويجلس على القصعة الواحدة ألف رجل أو أقل أو أكثر. الجابية في اللغة: الحوض الكبير وجماعته جواب. قرأ ابن كثير: كالجوابي بالياء في الوقف والوصل جميعاً. وقرأ أبو عمرو: وبالياء في الوصل والباقون: بغير ياء. فمن قرأ بالياء فلأنه الأصل ومن حذف فلاكتفائه بكسر الياء.
قوله: وَقُدُورٍ راسِياتٍ يعني: ثابتات في الأرض لا تزول من مكانها، وكان يتخذ القدور من الجبال. قال مقاتل: كان ملكه ما بين مصر وبابل. وقال بعضهم: جميع الأرض.
ثم قال: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً يعني: يا آل داود لما أعطيتكم من الفضل. ويقال:
معناه اعملوا عملاً تؤدوا بذلك شكر نعمتي وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ والشكور هو المبالغة في الشكر. وهو من كان عادته الشكر في الأحوال كلها. ومثل هذا في الناس قليل. وهذا معنى قوله: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وروي عن أبي العالية أنه قال هو شكر الشكر يعني:
إذا شكر النعمة يعلم أن ذلك الشكر بتوفيق الله عز وجل. ويشكر لذلك الشكر، وهذا في الناس قليل.
ثم قال عز وجل: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ يعني: على سليمان- عليه الصلاة والسلام- فكان سليمان يبني في بيت المقدس، فرأى أن ذلك لا يتم إلا بالجن. فأمرهم بالعمل وقال لأهله: لا تخبروهم بموتي. فكان قائماً في الصلاة، متكئاً على عصاه، وكان سليمان- عليه الصلاة والسلام- يطول الصلاة. فكان الجن إذا حضروا، رأوه قائماً فرجعوا ويقولون: إنه قائم يصلي فيقبلون على أعمالهم.
وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال: كان سليمان- عليه السلام- إذا مرّ بشجرة يعني: بشيء من نبات الأرض قال لها: ما شأنك؟ فتخبره الشجرة أنها وكذا وكذا، ولمنفعة كذا وكذا، فيدفعها إلى الناس حتى ينتفعوا بها. فمر بشجرة فقال لها: ما اسمك يا شجرة؟ فقالت: أنا خرنوبة. فقال: ما شأنك؟ قالت: أنا لخراب المسجد. فتعصى سليمان منها عصا، فكانت الجن يقولون للإنس: إنا نعلم الغيب. وإن سليمان سأل الله عز وجل أن يخفي موته. فلما قضى الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى سليمان الموت لم تدر الجن ولا الإنس ولا أحد كيف مات، ولم يطلع أحد على موته. والجن تعمل بأشد ما كانوا عليه، حتى خرّ سليمان- عليه السلام- فنظروا كيف مات فلم يدروا، فنظروا إلى العصا فرأوا العصا قد أكلت يعني:
قد أكل منها، وفي العصا أرضة. فنظروا إلى أين أكلت الأرضة من العصا. فجعلوه علماً، ثم
83
ردوا الأرضة فيها فأكلت شهراً، ثم نظروا كم أكلت في ذلك الشهر، ثم قاسوها بما أكلت من قبل. فكان لموته اثنا عشر شهراً. فتبيّن للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. فقالت الجن: إن لها علينا حقاً. يعني: الأرضة فهم يبلغونها الماء فلا يزال لها طينة رطبة فذلك قوله: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ يعني: ما دلّ على موت سليمان إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ يعني: الأرضة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ يعني: عصاه. قرأ نافع وأبو عمرو مِنْسَأَتَهُ بلا همز. وقرأ الباقون بالهمز. فمن قرأ بالهمز فهو من نسأ ينسأ إذا زجر الدابة، ثم تسمى عصاه منسأة لأنه يزجر بها الدَّابَة. ومن قرأ بغير همز فقد حذف الهمزة للتخفيف وكلاهما جائز.
فَلَمَّا خَرَّ يعني: سقط- عليه السلام- تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ علم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. ويقال: تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ يعني: ظهر لهم: أنهم لو علموا الغيب يعني: أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ فتفرقوا عن ذلك. قرأ حمزة: مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ بسكون الياء. وقرأ الباقون: بالنصب وهما لغتان وكلاهما جائز.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ١٧]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧)
قوله عز وجل: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ قرئ بالنصب والكسر. وقد ذكرناه من قبل. فمن قرأ بالكسر والتنوين جعله اسم أب القبيلة ومن قرأ بالنصب جعله أرضاً والأول أشبه. لأنه روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه سئل عن سبأ. فقال: «هُوَ اسمُ رَجُلٍ». ويقال: هو سبأ بن يشخب بن يغرب بن قحطان. وروي عن ابن عباس أنه قال: هي من قرى اليمن بعث عز وجل ثلاثة عشر نبياً- عليهم السلام- إلى ثلاث عشر قرية باليمن اتبع بعضهم بعضاً، حتى اجتمعت الرسل في آل سبأ. وقرية أخرى، فأتوهم فذكروهم نعم الله عز وجل وخوفوهم عقابه. وروى أسباط عن السدي قال: كانت أرضهم أرضاً خصيبة، وكانت المرأة تخرج على رأسها مكتلاً فلا ترجع حتى تملأ مكتلها من أنواع الفاكهة من غير أن تمد يدها، وكان الماء يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يحبس بين جبلين، وكانوا قد ردموا ردماً بين جبلين فحبسوا الماء، وكان يأتيهم من السيول فيسقون بساتينهم وأشجارهم. ويقال: كان لهم وادي. وكان للوادي ثلاث درفات. فإذا كثر الماء فتحوا الدرفة العليا، وإذا انتقص فتحوا الدرفة الوسطى، وإذا قلّ الماء فتحوا الدرفة
84
السفلى. فأخصبوا، وكثرت أموالهم، واتخذوا من الجنان ما شاؤوا. فلما أحبوا ذلك وكذبوا رسلهم، بعث الله عز وجل عليهم جرذاً، فنقب ذلك الردم بجنب بستان رجل منهم يقال له عمران بن عامر وهو أب الأنصار والأزد وغسان وخزاعة ويسمون المنسأة العرم، فدخل البستان فإذا هو ينقب العرم وقد سال فأمر به فسد ثم نظر إلى الجرزة تنقل أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه. وكان كاهناً فقال: ما تنقل هذه الجرزة أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه إلا وقد حضر هلاك هذه البلدة. فدعى ابن أخ له فقال: إذا رأيتني جلست في جماعة قومي فائتني. فقل: أي عم أعطني ميراثي من أبي. فإني سأقول: وهل ترك أبوك شيئاً؟ فأردد علي وكذبني. فإذا كذبتني فإني سألطمك فالطمني. فقال: أي عم ما كنت لأفعل هذا بك؟ قال:
بلى. فلما رأى لعمه في ذلك هوًى. قال: أفعل ما تأمرني، ففعل. فقال عمران بن عامر: لله علي كذا وكذا أن أسكن هذه البلاد من يشتري ما لي. فلما عرفوا منه الجد قال هذا: أعطيك كذا. فنظر إلى أجودهم صفقة. فقال: عجل إليَّ مالي فقد حلفت أن لا أبيت بها، فعجل إليه ماله، وارتحل من يومه حتى شخص عنهم، فاتسع ذلك الخرق حتى انهدم وغرق بلادهم، وتفرقوا في البلدان. فذلك قوله: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ قرأ الكسائي: فِي مَسْكَنِهِمْ بكسر الكاف والنون. وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص: مَسْكَنِهِمْ بنصب الكاف وكسر النون. وقرأ الباقون: مساكنهم بالألف. والمسكن بنصب الكاف وكسره واحد وهما لغتان مثل مطلع ومطلع. والمساكين جمع مسكين.
وقد قيل: المسكن جمع المساكين لقد كان في منازلهم وقرياتهم آيَةٌ أي: علامة ظاهرة لوحدانيتي جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ يعني: بستانان عن يمين الوادي، وعن شماله.
وإنما أراد بالبستان البساتين. ويقال: بساتين عن يمين الطريق، وبساتين عن شماله. فأرسل الله تعالى إليهم الرسل فذكروهم النعم فقيل لهم كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ يعني: من فضل ربكم وَاشْكُرُوا لَهُ فيما رزقكم بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ يعني: هذه بلدة طيبة لينة بلا سبخة وَرَبٌّ غَفُورٌ لمن تاب من الشرك فَأَعْرَضُوا عن الإيمان. وقالوا: من ذا الذي يأخذ منا النعم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ والعرم هو اسم لذلك الوادي. ويقال: اسم للمنشأة. ويقال: هو اسم للفأرة التي قرضت النهر حتى سال عليهم الماء. وجرى في بساتينهم وفي بيوتهم فخربها، وندت أنعامهم، وأخذ كل واحد منهم بيد ولده وامرأته، فصعدوا بهم الجبل فذلك قوله تعالى وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ يعني: أبدلهم الله تعالى مكان الفاكهة ذواتي أكل خمط أي الأراك وَأَثْلٍ يعني: الطرفاء وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ والسدر كانوا يستظلون في ظله، ويأكلون من ثمره. وقرأ أبو عمرو: أُكُلٍ بكسر اللام بغير تنوين. وقرأ الباقون:
بالتنوين فمن قرأ بالتنوين أراد ذَواتَيْ ثمر يؤكل ثم قال: خَمْطٍ بدلاً من أكل. والمعنى:
ذواتي خمط وأكله ثمرة. ومن قرأ: بغير تنوين أضاف الأكل إلى الخمط. والخمط هو الأراك
85
في اللغة المعروفة. وقال بعضهم: كل نبت أخذ طعماً من مرارة، حتى لا يمكن أكله فهو خمط.
ثم قال: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ يعني: ذلك الذي أصابهم عقوبة لهم عاقبناهم بِما كَفَرُوا أي: بكفرهم وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ يعني: وهل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلا الكفور بنعمة الله تعالى. ويقال: الْكَفُورَ الكافر. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص: وَهَلْ نُجازِي بالنون وكسر الزاي إِلَّا الْكَفُورَ بالنصب. وقرأ الباقون يجازي بالياء وفتح الزاي إِلَّا الْكَفُورَ بالضم. فمن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه. والكفور ينصب لوقوع الفعل عليه. ومن قرأ يجازى بالياء فهو على فعل ما لم يسم فاعله. يعني: هل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلا الكفور بنعمة الله تعالى. ويقال: هل يجازي الله. ومعنى الآية: أن المؤمن من يكفر عنه السيئات بالحسنات، وأما الكافر فإنه يحبط عمله كله، فيجازى بكل سوء يعمله كما قال تعالى: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد: ١] أي: أبطل أعمالهم وأحبطها، فلم ينفعهم منها شيء وهذا معنى قوله: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٨ الى ٢١]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
ثم قال عز وجل: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قال في رواية الكلبي:
إنهم قالوا للرسل: إنا قد عرفنا نعمة الله علينا، فو الله لئن يرد الله فيئتنا وجماعتنا، والذي كنا عليه، لنعبدنه عبادة لم يعبدها إياه، قوم قط. فدعت لهم الرسل ربهم فرد الله لهم ما كانوا عليه.
وأتاهم نعمة وجعل لهم من أرضهم إلى أرض الشام قرى متصلة بعضها إلى بعض، فذلك قوله: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ثم عادوا إلى الكفر فأتاهم الرسل فذكروهم نعمة الله فكذبوهم فمزقهم الله كل ممزق. وقال غيره: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها هذا حكاية عما كانوا فيه من قبل أن يرسل عليهم سيل العرم قرى ظاهرة يعني: متصلة على الطريق من حيث يرى بعضها من بعض وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ للمبيت والمعيل من قرية إلى قرية سِيرُوا فِيها يعني: ليسيروا فيها. اللفظ لفظ الأمر، والمراد به
86
الشرط والجزاء. فلم يشكروا ربهم، فسألوا ربهم أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض.
لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وقد كانوا في قراهم آمنين منعّمين فذلك قوله: لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ يعني: أنهم كانوا يسيرون من قرية إلى قرية بالليل والنهار، آمنين من الجوع، والعطش، واللصوص، والسباع. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بَعْدَ بغير ألف وتشديد العين. وقرأ الباقون باعِدْ بالألف وهما لغتان بَعّدَ باعد. وقرأ يعقوب الخضرمي وكان من أهل البصرة رَبَّنا بضم الباء باعِدْ بنصب العين وهو على معنى الخبر.
وروى الكلبي عن أبي صالح أنه قرأ هكذا معناه رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا فلذلك لا ينصب.
ثم قال: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشرك وتكذيب الأنبياء فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يعني:
أهلكهم الله تعالى فصاروا أحاديث للناس يتحدثون في أمرهم وشأنهم لم يبق أحد منهم في تلك القرى وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي: فرقناهم في كل وجه، فألقى الله الأزد بعمان، والأوس والخزرج بالمدينة، وهما أخوان وأهل المدينة كانوا من أولادهما إحدى القبيلتين الخزرج والأخرى الأوس، فسموا باسم أبيهم. وخزاعة بمكة كانوا بنو خزاعة، منهم لخم وجذام بالشام. ويقال كلب وغسان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي: في هلاكهم وتفريقهم لعبرات لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ يعني: للمؤمنين الذين صبروا على طاعة الله تعالى، وشكروا نعمته.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ يعني: على أهل سبأ. ويقال: هذا ابتداء. يعني: جميع الكفار وذلك أن إبليس قد قال: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) [ص: ٨٢- ٨٣] فكان ذلك ظناً منه فصدق ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً يعني: طائفة مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وهم الذين قال الله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢] وقال سعيد بن جبير: كان ظنه أنه قال: أنا ناري وآدم طيني والنار تأكل الطين.
وكذا روي عن ابن عباس- رضي الله عنه- قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: وَلَقَدْ صَدَّقَ بالتخفيف يعني: صدق في ظنه. وقرأ الباقون: صَدَّقَ بالتشديد. يعني: صار ظنه صدقاً.
قوله عز وجل: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ يعني: لم يكن له عليهم ملك فيقهرهم. ويقال: يعني ما سلطناه عليهم إلا لنختبرهم من الذي يطيعنا. وقال الحسن البصري- رحمة الله-: والله ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غروراً وأماني دعاهم إليها فأجابوه. وقال قتادة: والله ما كان ظنه إلا ظناً، فنزل الناس عند ظنه. وقال معمر:
قال لي مقاتل: إن إبليس لما أنزل آدم- عليه السلام- ظن أن في ذريته من سيكون أضعف
87
منه. فصدق عليهم ظنه. فإن قيل في آية أخرى: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [النحل: ١٠٠] وهاهنا يقول: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ قيل له: أراد بالسلطان هناك الحجة يعني: إنما حجته على الذين يتولونه. وهاهنا أراد به الملك والقهر يعني: لم يكن له عليهم ملك يقهرهم به. ويقال: معنى الآيتين واحد. لأن هناك قال: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سلطان على الذين آمنوا. وهاهنا قال: وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان يعني: حجة على فريق من المؤمنين إلا بالتزيين والوسوسة منه.
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ يعني: نميز من يصدق بالبعث ممن هو في شك. يعني: من قيام الساعة. وقال القتبي: علم الله نوعان: أحدهما علم ما يكون من إيمان المؤمنين. وكفر الكافرين من قبل أن يكون. وهذا علم لا يجب به حجة، ولا عقوبة، والآخر علم الأمور الظاهرة. فيحق به القول، ويقع بوقوعها الجزاء. يعني: ما سلطانه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهراً موجوداً، وكفر الكافرين ظاهراً موجوداً. وكذلك قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران: ١٤٢] الآية.
ثم قال عز وجل: وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يعني: عالماً بالشك واليقين. ويقال:
عالم بقولهم. ويقال: عالم بما يكون منهم قبل كونه. ويقال: حفيظ يحفظ أعمالهم ليجازيهم.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
ثم قال عز وجل: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ يعني: قل لكفار مكة ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنهم آلهة فيكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم من الجوع. يعني:
الأصنام. ويقال: الملائكة- عليهم السلام-. لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ يعني: نملة صغيرة فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ يعني: إذا كان حالهم هذا، فمن أين جعلوا لهم الشركة في العبادة.
ثم قال: وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ يعني: في خلق السموات والأرض من عون.
ويقال: ما لهم فيها من نصيب وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ يعني: معين من الملائكة الذين يعبدونهم.
ثم ذكر أن الملائكة لا يملكون شيئاً من الشفاعة فقال عز وجل: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ
88
عِنْدَهُ
يعني: لا تنفع لأحد لا نبياً ولا ملكاً إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أن يشفع لأحد من أهل التوحيد. قرأ نافع وابن كثير وابن عامر في إحدى الروايتين، إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ بالنصب.
يعني: حتى يأذن الله عز وجل له. قرأ الباقون. بالضم على فعل ما لم يسم فاعله. ومعناه:
مثل الأول.
ثم أخبر عن خوف الملائكة أنهم إذا سمعوا الوحي خرّوا سجداً من مخافة الله عز وجل، وكيف يعبدون من هذه حاله وكذلك قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وذلك أن أهل السموات لم يكونوا سمعوا صوت الوحي بين عيسى ومحمد- عليهما السلام-، فسمعوا صوتاً كوقع الحديد على الصفا فخروا سجداً مخافة القيامة وذلك صوت الوحي. ويقال: صوت نزول جبريل- عليه السلام- فخروا سجداً مخافة القيامة فهبط جبريل- عليه السلام- على أهل كل سماء فذلك قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وذكر عن بعض أهل اللغة أنه قال: إذا كانت حتى موصولة بإذا تكون بمعنى لما، تقع موقع الابتداء كقوله عز وجل: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) [الحجر: ١٤] كقوله: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء: ٩٦] حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ: ٢٣] يعني: لما فزع عن قلوبهم. ومعناه:
انجلاء الفزع عن قلوبهم، فقاموا عن السجود، وسأل بعضهم بعضاً قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ يعني: ماذا قال جبريل- عليه السلام- عن ربكم قالُوا الْحَقَّ يعني: الوحي.
قال: حدّثنا الفقيه أبو الليث رحمه الله. قال: حدّثنا الخليل بن أحمد. قال: حدّثنا الدبيلي. قال: حدّثنا أبو عبد الله. قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذَا قَضَى الله فِي السَّمَاءِ أمْراً ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَاناً لِقَوْلِهِ، وَسُمِعَ لذلك صَوْتٌ كَأنَّهَا سلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ الَّذِي قَالَ: فَسِيحي الشَّيَاطِينُ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ. فَإِذَا سَمِعَ الأَعْلَى مِنْهُمُ الْكَلِمَةَ، رَمَى بِهَا إلَى الذي تَحْتَهُ وَرُبَّما أدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أنْ يَنْبِذَهَا وَرُبَّمَا نَبَذَهَا قَبْلَ أنْ تُدْرِكَهُ، فَيَنْبِذَهَا، بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى الأرْضِ، فَتُلْقَى عَلَى لِسَانِ الْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ، فَيُصَدِّقُ فَيَقُولُ، ألَيْسَ قَدْ أخْبَرَ بِكَذَا وَكَذَا، وَكَانَ حَقّاً وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ». قرأ ابن عامر حَتَّى إِذا فُزِّعَ بنصب الفاء والزاي يعني: كشف الله الفزع. وقرأ الباقون: بضم الفاء على معنى ما لم يسم فاعله. وقرأ الحسن حَتَّى إِذا فُزِّعَ بالواو والغين يعني: فرغ الفزع عن قلوبهم. وقراءة العامة بالزاي أي خفف عنها الفزع. وقال مجاهد: معناه حتى إذا كشف عنها الغطاء يوم القيامة ثم قال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ يعني: هو أعلى وأعظم وأجلّ من أن يوصف له شريك.
89

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٤ الى ٣٠]

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٢٨)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
قوله عز وجل: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: المطر والنبات فإن أجابوك وإلا قُلِ اللَّهُ يعني: الله يرزقكم من السموات والأرض وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ يعني: قل لهم أحدنا لَعَلى هُدىً والأخرى على الضلال. يعني: إنا على الهدى وأنتم على الضلالة وهذا كرجل يقول لآخر: أحدنا كاذب وهو يعلم أنه أراد به صاحبه. ويقال: في الآية تقديم يعني: وإنا على الهدى وإياكم أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
ثم قال عز وجل: قُلْ لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا يعني: لا تسألون عن جرم أعمالنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ يعني: لا نسأل عن جرم أعمالكم. ويقال: لا تأخذون بجرمنا، ولا نؤخذ بجرمكم.
قوله عز وجل: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يعني: يوم القيامة نحن وأنتم ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يعني: بالعدل وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ القابض العليم بما يقضي قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أروني آلهتكم الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله، وتزعمون أنها له شركاء. أي:
ماذا خلقوا فِى السموات والأرض من الخلق كَلَّا يعني: ما خلقوا شيئاً بَلْ هُوَ اللَّهُ خالق كل شيء الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في أمره.
قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي: عامة للناس بَشِيراً. وروى خالد الحذاء عن قلابة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أُعْطَيْتُ خَمْساً لَمْ يعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي. بُعِثْتُ إلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ فَلْيْسَ أحَدٌ مِنْ أحْمَرَ وَأسْوَدَ يَدْخُلُ فِي أُمَّتِي إلاَّ كَانَ مِنْهُمْ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ. وَجُعِلْتُ فَاتِحاً وَخَاتِماً. وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، أيْنَمَا أدْرَكَتْنَا الصَّلاةَ صَلَيْنَا، وَإنْ لَمْ نَجِدْ مَاءً تَيَمَّمْنَا وَأُطْعِمْنَا غَنَائِمَنَا وَلَمْ يطْعَمْهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلَنَا كَانَتْ قُرْبَانُهُمْ تَأْكُلُهُ النَّارُ».
ثم قال: بَشِيراً وَنَذِيراً يعني: بشيراً بالجنة لمن أطاعه، ونذيراً بالنار لمن عصاه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: لا يُصدِّقون بالجنة ولا بالنار وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ
يعني: البعث إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني: إن كنت صادقاً. ويقال: إن كنت رسول الله.
قوله عز وجل: قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ يعني: ميقاتاً في العذاب. ويقال: ميعاداً في البعث والعذاب لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ يعني: عن الميعاد والعذاب ساعَةً يعني: قدر ساعة وَلا تَسْتَقْدِمُونَ قبل الأجل. ويقال: معناه أنا قادر اليوم على عذابهم، ولكن أؤخرهم في الوعد الذي كتب لهم في اللوح المحفوظ.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة والإنجيل. يعني: لا نصدق بذلك كله فحكى الله قولهم ثم ذكر عقوبتهم في الآخرة فقال:
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ يعني: لو رأيت يا محمد الظالمين يوم القيامة مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني: محبوسين في الآخرة يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يعني: يرد بعضهم بعضاً الجواب.
ثم أخبر عن قولهم فقال: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم السفلة والأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني: القادة والرؤساء لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ يعني: لولا دعوتكم وتعريفكم إيانا لكنا مصدقين.
قوله عز وجل: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني: القادة لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى يعني: أنحن منعناكم عن الإيمان بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ به الرسول بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ يعني: مشركين.
قوله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يعني: ردت الضعفاء عليهم الجواب. وقالوا:
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يعني: قولكم لنا بالليل والنهار، واحتيالكم بالدعوة إلى الشرك. إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ يعني: نجحد بوحدانية الله وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً يعني:
نقول له شركاء وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ يعني: أخفوا الحسرة. ويقال: أظهروا الندامة والحسرة لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ يعني: نجعل الأغلال يوم القيامة فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا من الرؤساء والسفلة هَلْ يُجْزَوْنَ يعني: هل يثابون في الآخرة إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا.
قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ يعني: من رسول إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها يعني: جبابرتها ورؤساؤها للرسل إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ يعني: جاحدون بالتوحيد.
والمترف المتنعم، وإنما أراد به المتكبرين وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً في الدنيا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ في الآخرة. ومعناه: أن الكفار المتقدمين استخفوا بالفقراء، وآذوا الرسل. كما يفعل بك قومك، وافتخروا بما أعطاهم الله عز وجل من الأموال كما افتخر قومك. وأمره بأن يأمرهم بأن لا يفتخروا بالمال. فإن الله تعالى يعطي المال لمن يشاء.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٦ الى ٤٢]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠)
قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)
92
وهو قوله عز وجل: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي: يوسع المال لمن يشاء وهو مكر منه واستدراج وَيَقْدِرُ يعني: يقتر على من يشاء، وهو نظر له لكي يعطى في الآخرة من الجنة بما قتر عليه في الدنيا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أن التقتير والبسط من الله عَزَّ وَجَلَّ. ويقال: لا يصدقون أن الذين اختاروا الآخرة خير من الذين اختاروا الدنيا ثم أخبر الله تعالى أن أموالهم لا تنفعهم يوم القيامة فقال عز وجل: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى يعني: قربة. ومعناه: وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا ولو كان على سبيل الجمع لقال بالذين يقربونكم، لأن الحكم للآدميين إذا اجتمع معهم غيرهم.
ثم قال: إِلَّا مَنْ آمَنَ يعني: إلا من صدق الله ورسوله وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا يعني: للواحد عشرة إلى سبعمائة وإلى ما لا يحصى. وقال القتبي:
أراد بالضعف التضعيف أي: لهم جزاء وزيادة. قال: ويحتمل جَزاءُ الضِّعْفِ أي: جزاء الأضعاف كقوله: عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف: ٣٨] أي: مضافاً.
وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: إن الغني إذا كان تقياً، يضاعف الله له الأجر مرتين، ثم قرأ هذه الآية. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ إلى قوله: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ يعني: أجره مِثْلَيْ ما يكون لغيره. ويقال: هذا لجميع من عمل صالحاً وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ قرأ حمزة: وَهُمْ فِى الغرفة. وقرأ الباقون: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ والغرفة في اللغة كل بناء يكون علواً فوق سفل، وجمعه غرف وغرفات. ومعناه: وهم في الجنة آمنون من الموت، والهرم، والأمراض، والعدو وغير ذلك من الآفات.
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ والقراءة قد ذكرناها أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ يعني: في النار معذبون قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وقد ذكرناه وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: ما تصدقتم من صدقة فَهُوَ يُخْلِفُهُ يعني: فإن الله يعطي خلفه في الدنيا وثوابه في الآخرة وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ يعني: أقوى المعطين.
وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلا غَرَبَتْ شَمْسٌ إلاَّ بُعِثَ بِجَنْبَيْهَا مَلَكَان يُنَادِيَانِ: اللَّهُمَّ عَجِّلْ لِمُنْفِقٍ مَالَهُ خَلَفاً وَعَجِّلْ لِمُمْسِكٍ مَالَهُ تَلَفاً».
ثم قال عز وجل: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني: الملائكة- عليهم السلام- ومن عبدهم. قرأ بعضهم من أهل البصرة: يَحْشُرُهُمْ بالياء يعني: يحشرهم الله عز وجل. وقراءة العامة بالنون على معنى الحكاية عن نفسه، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ يعني: أنتم أمرتم عبادي أن يعبدوكم، وهذا سؤال توبيخ كقوله لعيسى- عليه السلام-: أَأَنْتَ
93
قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
[المائدة: ١١٦] الآية قالُوا سُبْحانَكَ فنزهت الملائكة ربها عن الشرك وقالوا: سُبْحانَكَ يعني: تنزيهاً لك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ونحن بَرَآءٌ منهم من أن نأمرهم أن يعبدونا بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ يعني: أطاعوا الشياطين في عبادتهم أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ يعني: مصدقين الشياطين مطيعين لها.
يقول الله تعالى: فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً يعني: شفاعة وَلا ضَرًّا يعني: ولا دفع الضر عنهم وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: كفروا في الدنيا. يقال: لهم في الآخرة ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ إنها غير كائنة ثم أخبر عن أفعالهم في الدنيا.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٩]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)
قوله عز وجل: وَإِذا تُتْلى يعني: يقرأ وتعرض عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ بالأمر والنهي والحلال والحرام قالُوا ما نعرف هذا مَا هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ يعني: يصرفكم عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من عبادة الأصنام وَقالُوا مَا هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً يعني: كذباً مختلقاً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ يعني: للقرآن لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: كذب بيّن.
ثم قال عز وجل: وَما آتَيْناهُمْ يعني: ما أعطيناهم مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها يعني: من كتب يقرءونها وفيها حجة لهم بأن مع الله شريكاً وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يعني: من رسول في زمانهم وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: من قبل قومك رسلهم كما كذبك قومك
94
وَما بَلَغُوا أي: ما بلغ قومك مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ يعني: ما بلغ أهل مكة عشر الذي أعطينا الأمم الخالية من الأموال والقوة، فأهلكتهم بالعذاب حين كذبوا رسلي فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ يعني: كيف كان إنكاري وتغييري عليهم وإيش خطر هؤلاء بجنب أولئك فاحذروا مثل عذابهم قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ يعني: بكلمة واحدة ويقال: بخصلة واحدة أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ بالحق مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ يعني: أمركم بالإنصاف أن تتأملوا حق التأمل، وتتفكروا في أنفسكم، هل لهذا الرجل الذي يدعوكم إلى خالقكم وخالق السموات والأرض هل رأيتم به جنوناً.
ثم قال: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ يعني: من جنون. وقال القتبي: تأويله أن المشركين لما قالوا: إنه ساحر ومجنون وكذاب فقال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم قل لهم اعتبروا أمري بواحدة أن تنصحوا لأنفسكم ولا يميل بكم هوى فتقوموا لله في دار يخلو فيها الرجل منكم بصاحبه.
فيقول له: هلمّ فلنتصادق. هل رأينا بهذا الرجل جنة أم جربنا عليه كذباً.
ثم ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه فيتفكر، وينظر. فإن ذلك يدل على أنه نذير. قال:
وكل من تحيّر في أمر قد اشتبه عليه واستبهم، أخرجه من الحيرة أن يسأل ويناظر فيه ثم يتفكر ويعتبر.
ثم قال: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ أي: ما هو إلا مخوف لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي: بين يدي القيامة.
ثم قال عز وجل: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أمر كفار مكة أن لا يؤذوا أقربائه فكفوا عن ذلك فنزل قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى
[الشورى: ٢٣] فكفوا عن ذلك. ثم سمعوا بذكر آلهتهم فقالوا: لا تنظرون إليه ينهانا عن إيذاء أقربائه. وسألناه أن لا يؤذينا في آلهتنا فلا يمتنع فنزل قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إن شئتم آذوهم، وإنْ شئتم امتنعتم. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو الحافظ والناصر وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بأني نذير وما بي جنون.
ثم قال عز وجل: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يعني: يبين الحق من الباطل. ويقال:
يأمر بالحق. ويقال: يتكلم بالحق. يعني: بالوحي عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعني: هو عالم كل غيب.
قوله عز وجل: قُلْ جاءَ الْحَقُّ يعني: ظهر الإسلام وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ يعني: لا يقدر الشيطان أن يخلق أحداً وَما يُعِيدُ يعني: لا يقدر أن يحييه بعد الموت، والله تعالى يفعل ذلك. ويقال: الْباطِلُ أيضاً الصنم. وروى ابن مسعود أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم دخل مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ. قُلْ: جاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِي البَاطِلُ وَمَا يعيد».
95

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٥٠ الى ٥٤]

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
قوله عز وجل: قُلْ يا محمد إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي يعني: وزور الضلال على نفسي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ إلى الحق والهدى فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي يعني: اهتديت بما يُوحَى إِلَىَّ من القرآن إِنَّهُ سَمِيعٌ للدعاء قَرِيبٌ بالإجابة ممن دعاه. وقيل للنابغة حين أسلم: أصبوت؟ يعني: آمنت بمحمد صلّى الله عليه وسلم. قال: بلى. هو غلبني بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل. فأردت أن أقول ثلاثة أبيات من الشعر على قافيتها. فلما سمعت هذه الآيات فعييت فيها ولم أطق، فعلمت أنه ليس من كلام البشر وهي هذه قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.
قوله عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا يعني: خافوا من العذاب فَلا فَوْتَ يعني: فلا نجاة لهم منها وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ. روي عن الكلبي أنه قال: نزلت الآية في قوم يقال لهم: السفيانية يخرجون في آخر الزمان، عددهم ثلاثون ألف رجل إلى أن يبلغوا أرض الحجاز. فافترقوا فرقتين. فتقدمت فرقة إلى موضع يقال له: بيداء، صاح بهم جبريل- عليه السلام- صيحة، فخسف بهم الأرض كلهم إلا واحداً منهم ينجو. فيحول وجهه إلى خلفه.
فيرجع إلى الفرقة الأخرى، فيخبرهم بما أصابهم يعني: ولو ترى يا محمد فزعهم حين صاح بهم جبريل- عليه السلام- فَلا فَوْتَ أي: لا يفوت منهم فائت وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يعني: خسف بهم البيداء بقرب مكة. ويقال: يعني: يوم القيامة. وَلَوْ تَرى يا مُحَمَّدٌ إِذْ فَزِعُوا حين نزل بهم العذاب يوم القيامة فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ كما قال:
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ [النازعات: ٣٦]. وقال الحسن: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا من قبورهم يوم القيامة وقال الضحاك: يعني: يوم بدر.
ثم قال عز وجل: وَقالُوا آمَنَّا بِهِ يعني: العذاب حين رأوه، يقول الله تعالى: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ يعني: من أين لهم التوبة. ويقال: من أين لهم الرجفة. قرأ أبو عمرو وحمزة
96
والكسائي وعاصم في إحدى الروايتين التناؤش بالهمز. وقرأ الباقون بغير همز. فمن قرأ بالهمز فهو من التَّناوُشُ وهو الحركة في إبطاء. والمعنى من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم فيه. ومن قرأ بغير همز فهو من التناول. ويقال: تناول إذا مدّ يده إلى شيء ليصل إليه، وتناوش يده إذا مدّ يده إلى شيء لا يصل إليه.
ثم قال: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يعني: من الآخرة إلى الدنيا. وروي عن ابن عباس أنه قال:
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال: سألوا الرد حين لا رد.
ثم قال عز وجل: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ يعني: كفروا بالله من قبل الموت. ويقال به، يعني: بمحمد صلّى الله عليه وسلم ويقال: بالقرآن وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ يعني: يتكلمون بالظن في الدنيا مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أنه لا جنة ولا نار ولا بعث.
ثم قال: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ يعني: من الرجفة إلى الدنيا ويقال: من التسوية. كيف ينالون التسوية في هذا الوقت وقد كفروا به من قبل كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ يعني: الأقدمون أهل دينهم، الأولون من قبل الأشياع جمع الجمع. يقال: شيعة وشيع وأشياع.
ثم قال: إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ يعني: هم في شكّ مما نزل بهم مريب. يعني:
إنهم لا يعرفون شكهم. وقال القتبي في قوله: فلا فوت يعني: لا مهرب ولا ملجأ وهذا مثل قوله: فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: ٣] أي: نادوا حين لا مهرب والله أعلم.
97
Icon