تفسير سورة سبأ

فتح القدير
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير المعروف بـفتح القدير .
لمؤلفه الشوكاني . المتوفي سنة 1250 هـ
سورة سبإ
هي أربع وخمسون آية وهي مكية. قال القرطبي في قول الجميع إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي قوله :﴿ ويرى الذين أوتوا العلم ﴾ فقالت فرقة هي مكية، وقالت فرقة هي مدنية، وسيأتي الخلاف في معنى هذه الآية إن شاء الله وفيمن نزلت. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة سبأ بمكة.

سُورَةِ سَبَأٍ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً اخْتُلِفَ فِيهَا، وهي قوله: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفِيمَنْ نَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالنَّحَّاسُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ سَبَأٍ بمكة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ تَعْرِيفُ الْحَمْدِ، مَعَ لَامِ الِاخْتِصَاصِ: مُشْعِرَانِ بِاخْتِصَاصِ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْحَمْدِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى النَّعْتِ، أَوِ الْبَدَلِ، أَوِ النَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوِ الرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، وَمَعْنَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَنَّ جَمِيعَ مَا هُوَ فِيهَا فِي مُلْكِهِ، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَى الْعَبْدِ، فَهِيَ مِمَّا خَلَقَهُ لَهُ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِ، فَحَمْدُهُ على ما في السموات والأرض هو حمد له عَلَى النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ لَهُمْ. وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْحَمْدَ الدُّنْيَوِيَّ مِنْ عِبَادِهِ الْحَامِدِينَ لَهُ مُخْتَصٌّ بِهِ بَيَّنَ أَنَّ الْحَمْدَ الْأُخْرَوِيَّ مُخْتَصٌّ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: «لَهُ» مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِ الْحَمْدِ، أَوْ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ خَبَرُ الْحَمْدِ، أَعْنِي:
فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمُتَعَلِّقٍ عَامٍّ هُوَ الِاسْتِقْرَارُ، أَوْ نَحْوُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنْ لَهُ سبحانه على الاختصاص حمد
357
عباده الذين يحمدون فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «١» وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «٢» وَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إلى قوله:
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ «٣» وَقَوْلِهِ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «٤» فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمَحْمُودُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُ الْمَحْمُودُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْمَالِكُ لِلْآخِرَةِ كَمَا أَنَّهُ الْمَالِكُ لِلدُّنْيَا وَهُوَ الْحَكِيمُ الَّذِي أَحْكَمَ أَمْرَ الدَّارَيْنِ الْخَبِيرُ بِأَمْرِ خَلْقِهِ فِيهِمَا، قِيلَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدَيْنِ أَنَّ الْحَمْدَ فِي الدُّنْيَا عِبَادَةٌ، وَفِي الْآخِرَةِ تَلَذُّذٌ وَابْتِهَاجٌ، لِأَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ فِيهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ ما يحيط به من علمه من أمور السموات وَالْأَرْضِ فَقَالَ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أَيْ: مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ مَطَرٍ، أَوْ كَنْزٍ، أَوْ دَفِينٍ وَما يَخْرُجُ مِنْها مِنْ زَرْعٍ، وَنَبَاتٍ، وَحَيَوَانٍ وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مِنَ الْأَمْطَارِ، وَالثُّلُوجِ، وَالْبَرَدِ، وَالصَّوَاعِقِ، وَالْبَرَكَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَنْزِلُ مِنْهَا مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَما يَعْرُجُ فِيها مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَنْزِلُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ مُسْنَدًا إِلَى «مَا» وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالسُّلَمِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَهُوَ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ الْغَفُورُ لِذُنُوبِهِمْ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ جِنْسُ الْكَفَرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ كُفَّارُ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمَعْنَى لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ: أَنَّهَا لَا تَأْتِي بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِوُجُودِهَا لَا لِمُجَرَّدِ إِتْيَانِهَا فِي حَالِ تَكَلُّمِهِمْ أَوْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ مَعَ تَحَقُّقِ وَجُودِهَا فِيمَا بَعْدُ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ وَهَذَا الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْإِتْيَانِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَتَأْتِيَنَّكُمْ» بِالْفَوْقِيَّةِ: أَيِ السَّاعَةُ، وَقَرَأَ طَلْقٌ الْمُعَلِّمُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ السَّاعَةِ بِالْيَوْمِ أَوِ الْوَقْتِ. قَالَ طَلْقٌ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَنَا يَقْرَءُونَ بِالْيَاءِ، يَعْنِي: التَّحْتِيَّةَ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ لَيَأْتِيَنَّكُمُ الْبَعْثُ أَوْ أَمْرُهُ كَمَا قال: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ «عَالِمُ الْغَيْبِ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ لَا يَعْزُبُ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وأبو عمرو بالجرّ على أنه نعت لربّي، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ عَلَّامِ بِالْجَرِّ مَعَ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَى لَا يَعْزُبُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ وَلَا يَسْتَتِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ الْمِثْقَالِ وَلا أَكْبَرُ مِنْهُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ.
وَالْمَعْنَى: إِلَّا وَهُوَ مُثْبَتٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى مَعْلُومَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِنَفْيِ الْعُزُوبِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَعْزُبُ بِضَمِّ الزَّايِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْكَسْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ عَزَبَ يَعْزُبُ بِالضَّمِّ، وَيَعْزِبُ بِالْكَسْرِ إِذَا بَعُدَ وَغَابَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَلَا أَصْغَرُ وَلَا أَكْبَرُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ، أَوْ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مِثْقَالُ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ بِنَصْبِهِمَا عَطْفًا عَلَى ذَرَّةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ لَا: هِيَ: لَا التَّبْرِئَةِ الَّتِي يُبْنَى اسْمُهَا عَلَى الْفَتْحِ، وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لِلتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: لَتَأْتِيَنَّكُمْ أَيْ: إِتْيَانُ السَّاعَةِ فَائِدَتُهُ جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّوَابِ، وَالْكَافِرِينَ بِالْعِقَابِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ، أَيْ: أولئك الذي عملوا الصالحات لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
(١). الزمر: ٧٤.
(٢). الأعراف: ٤٣.
(٣). فاطر: ٣٤ و ٣٥.
(٤). يونس: ١٠.
358
لِذُنُوبِهِمْ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ مَعَ التَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ فَرِيقَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يُعَاقَبُونَ عِنْدَ إِتْيَانِ السَّاعَةِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أَيْ سَعَوْا فِي إِبْطَالِ آيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ، وَقَدَحُوا فِيهَا وَصَدُّوا النَّاسَ عَنْهَا، وَمَعْنَى «مُعَاجِزِينَ» مُسَابِقِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا وَلَا يُدْرَكُونَ، وَذَلِكَ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ، يقال عاجزه أو عجزه: إِذَا غَالَبَهُ وَسَبَقَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مُعاجِزِينَ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عَمْرٍو «مُعَجِّزِينَ» أَيْ: مُثَبِّطِينَ لِلنَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ أُولئِكَ أَيِ: الَّذِينَ سَعَوْا لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ الرجز: هو العذاب، فمن لِلْبَيَانِ، وَقِيلَ: الرِّجْزُ هُوَ أَسْوَأُ الْعَذَابِ وَأَشَدُّهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَلِيمٍ» بِالْجَرِّ صِفَةً لِرِجْزٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالرَّفْعِ صِفَةً لعذاب، وَالْأَلِيمُ: الشَّدِيدُ الْأَلَمِ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي إِبْطَالِ آيَاتِ الله ذكر الذين يؤمنون بها، ومعنى وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَيْ: يَعْلَمُونَ وَهُمُ الصَّحَابَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَوْصُولُ: هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ ليرى، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: الْحَقَّ، وَالضَّمِيرُ: هُوَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ. وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الضَّمِيرِ، وَالْجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَهِيَ لغة تميم، إنهم يرفعون ما بعد ضمير الفصل، وَالْجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وهي لغة تميم، فإنهم يرفعون مَا بَعْدَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ الرَّفْعُ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ وَقَالُوا النَّصْبُ أَكْثَرُ. قِيلَ وَقَوْلُهُ: يَرَى مَعْطُوفٌ عَلَى لِيَجْزِيَ، وَبِهِ قال الزجاج والفراء، واعترض عليهما بِأَنَّ قَوْلَهُ: «لِيَجْزِيَ» مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: «لَتَأْتِيَنَّكُمْ» وَلَا يُقَالُ لَتَأْتِيَنَّكُمُ السَّاعَةُ لِيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِدَفْعِ مَا يَقُولُهُ الَّذِينَ سَعَوْا فِي الْآيَاتِ، أي: إن ذلك السعي مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَقَّ عَطْفَ فِعْلٍ عَلَى اسْمٍ، لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ أَيْ: وَقَابِضَاتٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَادِيًا، وَقِيلَ إِنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى فَاعِلِ أُنْزِلَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ، أَيْ: وَيَهْدِي إِلَى طَرِيقِ الْعَزِيزِ فِي مُلْكِهِ الْحَمِيدِ عِنْدَ خَلْقِهِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَهْدِي إِلَى دِينِ اللَّهِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ كَلَامِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَقَالَ:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ: قَالَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ، يعنون محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَيْ: هَلْ نُرْشِدُكُمْ إِلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ أَيْ: يُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ عَجِيبٍ، وَنَبَّأٍ غَرِيبٍ هُوَ أَنَّكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أَيْ: فُرِّقْتُمْ كُلَّ تَفْرِيقٍ وَقُطِّعْتُمْ كُلَّ تَقْطِيعٍ وَصِرْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ رُفَاتًا وَتُرَابًا إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَيْ:
تُخْلَقُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، وَتُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً، وَتَعُودُونَ إِلَى الصُّوَرِ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا، قَالَ هَذَا الْقَوْلَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اسْتِهْزَاءً بِمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الْبَعْثِ، وَأَخْرَجُوا الْكَلَامَ مَخْرَجَ التَّلَهِّي بِهِ وَالتَّضَاحُكِ مِمَّا يَقُولُهُ مِنْ ذَلِكَ، «وَإِذَا» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِقَوْلِهِ: مُزِّقْتُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا يَنَبِّئُكُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُخْبِرُهُمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا مَا بَعْدَ إِنَّ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فيما قبلها.
359
وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ بُعِثْتُمْ، أَوْ نُبِّئْتُمْ بِأَنَّكُمْ تُبْعَثُونَ إِذَا مُزِّقْتُمْ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مُزِّقْتُمْ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ. وَأَصْلُ الْمَزْقِ: خَرْقُ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: ثَوْبٌ مَزِيقٌ، وَمُمَزَّقٌ، وَمُتَمَزِّقٌ، وَمَمْزُوقٌ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ رَدَّدُوا مَا وَعَدَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَعْثِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَقَالُوا: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أَهُوَ كَاذِبٌ فِيمَا قَالَهُ أَمْ بِهِ جُنُونٌ بِحَيْثُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُهُ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَفْتَرَى هِيَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَحُذِفَتْ لِأَجْلِهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ مَا قَالُوهُ فِي رَسُولِهِ فَقَالَ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، بَلْ هُمُ الَّذِينَ ضَلُّوا عَنِ الْفَهْمِ وَإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، فَكَفَرُوا بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَصَارُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ وَهُمُ الْيَوْمَ فِي الضَّلَالِ الْبَعِيدِ عَنِ الْحَقِّ غَايَةَ الْبُعْدِ. ثُمَّ وبخهم سبحانه بما اجترءوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ إِلَّا لِعَدَمِ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْعَظِيمِ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَبْعَثَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَيُعِيدُهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَمَعْنَى إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا رَأَوُا السَّمَاءَ خَلْفَهُمْ وَقُدَّامَهُمْ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَظَرُوا فِي الْأَرْضِ رَأَوْهَا خَلْفَهُمْ وَقُدَّامَهُمْ، فَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ مُحِيطَتَانِ بِهِمْ فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مَا شَاءَ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِهِ، وَإِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أن هذا الْخَلْقَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ مِنَ الْبَعْثِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ «١». وَالْأَمْرُ الْآخَرُ: التَّهْدِيدُ لَهُمْ بِأَنَّ مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الَّتِي قَدْ أَحَاطَتْ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِمَا قَادِرٌ عَلَى تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كَمَا خَسَفَ بِقَارُونَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً أَيْ: قِطَعًا مِنَ السَّماءِ كَمَا أَسْقَطَهَا عَلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فَكَيْفَ يَأْمَنُونَ ذَلِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنْ نَشَأْ بنون العظمة، وكذا نخسف ونسقط.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ أَيْ: إِنْ يَشَأِ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ بِإِدْغَامِ الْفَاءِ فِي الْبَاءِ فِي نَخْسِفْ بِهِمُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْفَاءَ مِنْ بَاطِنِ الشَّفَةِ السُّفْلَى وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا بِخِلَافِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «كِسْفًا» بِسُكُونِ السِّينِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالسُّلَمِيُّ بِفَتْحِهَا إِنَّ فِي ذلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَةً وَاضِحَةً وَدَلَالَةً بَيِّنَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أَيْ: رَاجِعٍ إِلَى رَبِّهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَخَصَّ الْمُنِيبَ لِأَنَّهُ الْمُنْتَفِعُ بِالتَّفَكُّرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ قَالَ: مِنَ الْمَطَرِ وَما يَخْرُجُ مِنْها قَالَ: مِنَ النَّبَاتِ وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ قَالَ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَما يَعْرُجُ فِيها قَالَ: الْمَلَائِكَةُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قَالَ:
الرِّجْزُ هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ الْمُوجِعُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قال: أصحاب محمّد. وأخرج
(١). يس: ٨١.
360
ثم ذكر سبحانه بعض ما يحيط به علمه من أمور السماوات، والأرض، فقال :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض ﴾ أي ما يدخل فيها من مطر أو كنز أو دفين ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ من زرع ونبات وحيوان ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء ﴾ من الأمطار، والثلوج والبرد والصواعق والبركات، ومن ذلك ما ينزل منها من ملائكته، وكتبه إلى أنبيائه ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ من الملائكة وأعمال العباد. قرأ الجمهور :﴿ ينزل ﴾ بفتح الياء، وتخفيف الزاي مسنداً إلى ﴿ ما ﴾، وقرأ عليّ بن أبي طالب، والسلمي بضم الياء وتشديد الزاي مسنداً إلى الله سبحانه ﴿ وَهُوَ الرحيم ﴾ بعباده ﴿ الغفور ﴾ لذنوبهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض ﴾ قال : من المطر ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ قال : من النبات ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء ﴾ قال : من الملائكة ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ قال : الملائكة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ قال : الرجز هو العذاب الأليم الموجع، وفي قوله :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ قال : أصحاب محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : يعني المؤمنين من أهل الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ ﴾ قال : قال ذلك مشركو قريش ﴿ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً، وتقطعتكم السباع والطير ﴿ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ إنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً به ﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ قال : قالوا إما أن يكون يكذب على الله، وإما أن يكون مجنوناً ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض ﴾ قالوا : إنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك رأيت السماء والأرض ﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض ﴾ كما خسفنا بمن كان قبلهم ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء ﴾ أي قطعاً من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل، وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ قال : تائب مقبل إلى الله.

﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة ﴾ المراد بهؤلاء القائلين جنس الكفرة على الإطلاق، أو كفار مكة على الخصوص، ومعنى ﴿ لا تأتينا الساعة ﴾ : أنها لا تأتي بحال من الأحوال، إنكاراً منهم لوجودها لا لمجرد إتيانها في حال تكلمهم، أو في حال حياتهم مع تحقق وجودها فيما بعد، فردّ الله عليهم، وأمر رسوله أن يقول لهم :﴿ قُلْ بلى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ وهذا القسم لتأكيد الإتيان، قرأ الجمهور :﴿ لتأتينكم ﴾ بالفوقية، أي الساعة، وقرأ طلق المعلم بالتحتية على تأويل الساعة باليوم أو الوقت.
قال طلق : سمعت أشياخنا يقرءون بالياء : يعني التحتية على المعنى، كأنه قال : ليأتينكم البعث، أو أمره كما قال :﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ ﴾ [ النحل : ٣٣ ]. قرأ نافع، وابن عامر :﴿ عالم الغيب ﴾ بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره :﴿ لا يعزب ﴾، أو على تقدير مبتدأ، وقرأ عاصم وابن كثير وأبو عمرو بالجرّ على أنه نعت لربي، وقرأ حمزة والكسائي ( علام ) بالجرّ مع صيغة المبالغة، ومعنى ﴿ لاَ يَعْزُبُ ﴾ لا يغيب عنه، ولا يستتر عليه، ولا يبعد ﴿ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السموات وَلاَ في الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ ﴾ المثقال ﴿ وَلا أَكْبَرَ ﴾ منه ﴿ إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ ﴾، وهو : اللوح المحفوظ. والمعنى : إلاّ وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه، فهو مؤكد لنفي العزوب. قرأ الجمهور :﴿ يعزب ﴾ بضم الزاي، وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها. قال الفراء : والكسر أحبّ إليّ، وهما لغتان، يقال : عزب يعزب بالضم، ويعزب بالكسر إذا بعد وغاب. وقرأ الجمهور :﴿ ولا أصغر ﴾، ولا ﴿ أكبر ﴾ بالرفع على الابتداء، والخبر ﴿ إلاّ في كتاب ﴾، أو على العطف على ﴿ مثقال ﴾، وقرأ قتادة، والأعمش بنصبهما عطفاً على ﴿ ذرّة ﴾، أو على أن لا هي لا التبرئة التي يبنى اسمها على الفتح.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض ﴾ قال : من المطر ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ قال : من النبات ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء ﴾ قال : من الملائكة ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ قال : الملائكة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ قال : الرجز هو العذاب الأليم الموجع، وفي قوله :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ قال : أصحاب محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : يعني المؤمنين من أهل الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ ﴾ قال : قال ذلك مشركو قريش ﴿ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً، وتقطعتكم السباع والطير ﴿ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ إنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً به ﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ قال : قالوا إما أن يكون يكذب على الله، وإما أن يكون مجنوناً ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض ﴾ قالوا : إنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك رأيت السماء والأرض ﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض ﴾ كما خسفنا بمن كان قبلهم ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء ﴾ أي قطعاً من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل، وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ قال : تائب مقبل إلى الله.

واللام في ﴿ لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ للتعليل لقوله :﴿ لتأتينكم ﴾ أي إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب، والكافرين بالعقاب، والإشارة بقوله :﴿ أولئك ﴾ إلى الموصول، أي : أولئك الذين آمنوا، وعملوا الصالحات ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾، وهو الجنة بسبب إيمانهم، وعملهم الصالح مع التفضل عليهم من الله سبحانه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض ﴾ قال : من المطر ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ قال : من النبات ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء ﴾ قال : من الملائكة ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ قال : الملائكة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ قال : الرجز هو العذاب الأليم الموجع، وفي قوله :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ قال : أصحاب محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : يعني المؤمنين من أهل الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ ﴾ قال : قال ذلك مشركو قريش ﴿ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً، وتقطعتكم السباع والطير ﴿ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ إنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً به ﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ قال : قالوا إما أن يكون يكذب على الله، وإما أن يكون مجنوناً ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض ﴾ قالوا : إنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك رأيت السماء والأرض ﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض ﴾ كما خسفنا بمن كان قبلهم ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء ﴾ أي قطعاً من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل، وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ قال : تائب مقبل إلى الله.

ثم ذكر فريق الكافرين الذين يعاقبون عند إتيان الساعة فقال :﴿ والذين سَعَوْاْ في ءاياتنا معاجزين ﴾ أي سعوا في إبطال آياتنا المنزلة على الرسل، وقدحوا فيها، وصدّوا الناس عنها، ومعنى ﴿ معاجزين ﴾ : مسابقين يحسبون، أنهم يفوتوننا، ولا يدركون، وذلك باعتقادهم أنهم لا يبعثون، يقال : عاجزه، وأعجزه : إذا غالبه، وسبقه. قرأ الجمهور ﴿ معاجزين ﴾، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وحميد، ومجاهد، وأبو عمرو :" معجزين " أي مثبطين للناس عن الإيمان بالآيات ﴿ أولئك ﴾ أي الذين سعوا ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ ﴾ الرجز هو العذاب، فمن للبيان، وقيل : الرجز هو : أسوأ العذاب، وأشدّه، والأوّل أولى. ومن ذلك قوله :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السماء ﴾ [ البقرة : ٥٩ ]. قرأ الجمهور :﴿ أَلِيمٌ ﴾ بالجرّ صفة لرجز. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم بالرفع صفة لعذاب، والأليم الشديد الألم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض ﴾ قال : من المطر ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ قال : من النبات ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء ﴾ قال : من الملائكة ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ قال : الملائكة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ قال : الرجز هو العذاب الأليم الموجع، وفي قوله :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ قال : أصحاب محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : يعني المؤمنين من أهل الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ ﴾ قال : قال ذلك مشركو قريش ﴿ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً، وتقطعتكم السباع والطير ﴿ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ إنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً به ﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ قال : قالوا إما أن يكون يكذب على الله، وإما أن يكون مجنوناً ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض ﴾ قالوا : إنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك رأيت السماء والأرض ﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض ﴾ كما خسفنا بمن كان قبلهم ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء ﴾ أي قطعاً من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل، وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ قال : تائب مقبل إلى الله.

﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ هُوَ الحق ﴾ لما ذكر الذين سعوا في إبطال آيات الله ذكر الذين يؤمنون بها، ومعنى ﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ أي يعلمون، وهم الصحابة.
وقال مقاتل : هم : مؤمنو أهل الكتاب. وقيل : جميع المسلمين، والموصول هو المفعول الأوّل ليرى، والمفعول الثاني الحقّ، والضمير هو : ضمير الفصل. وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر الضمير، والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني، وهي لغة تميم، فإنهم يرفعون ما بعد ضمير الفصل، وزعم الفرّاء : أن الاختيار الرفع، وخالفه غيره، وقالوا : النصب أكثر. قيل وقوله :﴿ يرى ﴾ معطوف على ﴿ ليجزي ﴾، وبه قال الزجاج والفراء، واعترض عليهما بأن قوله :﴿ لِيَجْزِىَ ﴾ متعلق بقوله :﴿ لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ ولا يقال : لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، والأولى أنه كلام مستأنف لدفع ما يقوله الذين سعوا في الآيات، أي إن ذلك السعي منهم يدلّ على جهلهم ؛ لأنهم مخالفون لما يعلمه أهل العلم في شأن القرآن ﴿ وَيَهْدِى إلى صِرَاطِ العزيز الحميد ﴾ معطوف على ﴿ الحقّ ﴾ عطف فعل على اسم، لأنه في تأويله كما في قوله :﴿ صافات وَيَقْبِضْنَ ﴾ [ الملك : ١٩ ] أي : وقابضات، كأنه قيل : وهادياً. وقيل إنه مستأنف، وفاعله ضمير يرجع إلى فاعل أنزل، وهو القرآن. والصراط : الطريق، أي : ويهدي إلى طريق ﴿ العزيز ﴾ في ملكه ﴿ الحميد ﴾ عند خلقه، والمراد : أنه يهدي إلى دين الله، وهو : التوحيد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض ﴾ قال : من المطر ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ قال : من النبات ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء ﴾ قال : من الملائكة ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ قال : الملائكة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ قال : الرجز هو العذاب الأليم الموجع، وفي قوله :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ قال : أصحاب محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : يعني المؤمنين من أهل الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ ﴾ قال : قال ذلك مشركو قريش ﴿ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً، وتقطعتكم السباع والطير ﴿ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ إنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً به ﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ قال : قالوا إما أن يكون يكذب على الله، وإما أن يكون مجنوناً ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض ﴾ قالوا : إنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك رأيت السماء والأرض ﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض ﴾ كما خسفنا بمن كان قبلهم ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء ﴾ أي قطعاً من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل، وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ قال : تائب مقبل إلى الله.

ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من كلام منكري البعث، فقال :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي قال بعض لبعض :﴿ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ ﴾. يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم أي هل نرشدكم إلى رجل ﴿ يُنَبّئُكُمْ ﴾ أي يخبركم بأمر عجيب، ونبأ غريب هو أنكم ﴿ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ أي فرقتم كل تفريق، وقطعتم كل تقطيع، وصرتم بعد موتكم رفاتاً وتراباً ﴿ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي تخلقون خلقاً جديداً، وتبعثون من قبوركم أحياء، وتعودون إلى الصور التي كنتم عليها، قال هذا القول بعضهم لبعض استهزاء بما وعدهم الله على لسان رسوله من البعث. وأخرجوا الكلام مخرج التلهي به، والتضاحك مما يقوله من ذلك، و﴿ إذا ﴾ في موضع نصب بقوله ﴿ مزقتم ﴾. قال النحاس : ولا يجوز أن يكون العامل فيها ينبئكم، لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد إنّ ؛ لأنه لا يعمل فيما قبلها. وأجاز الزجاج : أن يكون العامل فيها محذوفاً، والتقدير : إذا مزّقتم كل ممزّق بعثتم، أو نبئتم بأنكم تبعثون إذا مزقتم، وقال المهدوي : لا يجوز أن يعمل فيه مزقتم ؛ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأصل المزق خرق الأشياء، يقال : ثوب مزيق، وممزق، ومتمزق، وممزوق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض ﴾ قال : من المطر ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ قال : من النبات ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء ﴾ قال : من الملائكة ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ قال : الملائكة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ قال : الرجز هو العذاب الأليم الموجع، وفي قوله :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ قال : أصحاب محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : يعني المؤمنين من أهل الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ ﴾ قال : قال ذلك مشركو قريش ﴿ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً، وتقطعتكم السباع والطير ﴿ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ إنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً به ﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ قال : قالوا إما أن يكون يكذب على الله، وإما أن يكون مجنوناً ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض ﴾ قالوا : إنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك رأيت السماء والأرض ﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض ﴾ كما خسفنا بمن كان قبلهم ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء ﴾ أي قطعاً من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل، وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ قال : تائب مقبل إلى الله.

ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار : أنهم ردّدوا ما وعدهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من البعث بين أمرين، فقالوا :﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ أي أهو كاذب فيما قاله أم به جنون بحيث لا يعقل ما يقوله، والهمزة في أفترى هي : همزة الاستفهام، وحذفت لأجلها همزة الوصل كما تقدّم في قوله :﴿ أَطَّلَعَ الغيب ﴾ [ مريم : ٧٨ ]، ثم ردّ عليهم سبحانه ما قالوه في رسوله، فقال :﴿ بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب والضلال البعيد ﴾ أي ليس الأمر كما زعموا، بل هم الذين ضلوا عن الفهم، وإدراك الحقائق، فكفروا بالآخرة، ولم يؤمنوا بما جاءهم به، فصاروا بسبب ذلك في العذاب الدائم في الآخرة، وهم اليوم في الضلال البعيد عن الحق غاية البعد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض ﴾ قال : من المطر ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ قال : من النبات ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء ﴾ قال : من الملائكة ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ قال : الملائكة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ قال : الرجز هو العذاب الأليم الموجع، وفي قوله :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ قال : أصحاب محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : يعني المؤمنين من أهل الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ ﴾ قال : قال ذلك مشركو قريش ﴿ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً، وتقطعتكم السباع والطير ﴿ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ إنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً به ﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ قال : قالوا إما أن يكون يكذب على الله، وإما أن يكون مجنوناً ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض ﴾ قالوا : إنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك رأيت السماء والأرض ﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض ﴾ كما خسفنا بمن كان قبلهم ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء ﴾ أي قطعاً من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل، وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ قال : تائب مقبل إلى الله.

ثم وبخهم سبحانه بما اجترأوا عليه من التكذيب مبيناً لهم أن ذلك لم يصدر منهم إلاّ لعدم التفكر، والتدبر في خلق السماء والأرض، وأن من قدر على هذا الخلق العظيم لا يعجزه أن يبعث من مخلوقاته ما هو دون ذلك، ويعيده إلى ما كان عليه من الذات والصفات، ومعنى ﴿ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ : أنهم إذا نظروا رأوا السماء خلفهم، وقدّامهم، وكذلك إذا نظروا في الأرض رأوها خلفهم وقدّامهم، فالسماء والأرض محيطتان بهم، فهو : القادر على أن ينزل بهم ما شاء من العذاب بسبب كفرهم، وتكذيبهم لرسوله، وإنكارهم للبعث، فهذه الآية اشتملت على أمرين : أحدهما : أن هذا الخلق الذي خلقه الله من السماء، والأرض يدلّ على كمال القدرة على ما هو دونه من البعث كما في قوله :﴿ أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ﴾ [ يس : ٨١ ]. والأمر الآخر : التهديد لهم بأن من خلق السماء، والأرض على هذه الهيئة التي قد أحاطت بجميع المخلوقات فيهما قادر على تعجيل العذاب لهم ﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض ﴾ كما خسف بقارون ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً ﴾ أي قطعاً ﴿ مّنَ السماء ﴾ كما أسقطها على أصحاب الأيكة، فكيف يأمنون ذلك. قرأ الجمهور ﴿ إن نشأ ﴾ بنون العظمة، وكذا ( نخسف )، ( ونسقط ). وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في الأفعال الثلاثة ؛ أي إن يشأ الله. وقرأ الكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء في ﴿ نخسف بهم ﴾. قال أبو علي الفارسي : وذلك غير جائز ؛ لأن الفاء من باطن الشفة السفلى، وأطراف الثنايا العليا بخلاف الباء، وقرأ الجمهور ﴿ كسفا ﴾ بسكون السين. وقرأ حفص، والسلمي بفتحها. ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ ﴾ المذكور من خلق السماء والأرض ﴿ لآيَةً ﴾ واضحة دلالة بينة ﴿ لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ أي راجع إلى ربه بالتوبة، والإخلاص، وخصّ المنيب ؛ لأنه المنتفع بالتفكر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض ﴾ قال : من المطر ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ قال : من النبات ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء ﴾ قال : من الملائكة ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ قال : الملائكة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ قال : الرجز هو العذاب الأليم الموجع، وفي قوله :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم ﴾ قال : أصحاب محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : يعني المؤمنين من أهل الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ ﴾ قال : قال ذلك مشركو قريش ﴿ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً، وتقطعتكم السباع والطير ﴿ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ إنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً به ﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ قال : قالوا إما أن يكون يكذب على الله، وإما أن يكون مجنوناً ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض ﴾ قالوا : إنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك رأيت السماء والأرض ﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض ﴾ كما خسفنا بمن كان قبلهم ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء ﴾ أي قطعاً من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل، وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ قال : تائب مقبل إلى الله.

ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ قَالَ: قَالَ ذَلِكَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ يَقُولُ: إِذَا أَكَلَتْكُمُ الْأَرْضُ وَصِرْتُمْ رُفَاتًا وَعِظَامًا وَتَقَطَّعَتْكُمُ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إِنَّكُمْ سَتَحْيَوْنَ وَتُبْعَثُونَ، قَالُوا ذَلِكَ تَكْذِيبًا بِهِ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ قَالَ: قَالُوا إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قَالُوا: إِنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ ومن بَيْنَ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ رَأَيْتَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كَمَا خَسَفْنَا بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أَيْ: قِطَعًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ يَشَأْ أَنْ يُعَذِّبَ بِسَمَائِهِ فَعَلَ وَإِنْ يَشَأْ أَنْ يُعَذِّبَ بِأَرْضِهِ فَعَلَ وَكُلُّ خَلْقِهِ لَهُ جُنْدٌ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ قال: تائب مقبل إلى الله.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، كَمَا قَالَ فِي دَاوُدَ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ»
وَقَالَ فِي سُلَيْمَانَ: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ «٢» فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أَيْ: آتَيْنَاهُ بِسَبَبِ إِنَابَتِهِ فَضْلًا مِنَّا عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَضْلِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَقِيلَ النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ:
الزَّبُورُ، وَقِيلَ: الْعِلْمُ، وَقِيلَ: الْقُوَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ «٣» وقيل: تسخير الجبال، كما في قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وقيل: التوبة، قيل: الحكم بالعدل، كما في قوله: يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ «٤» وَقِيلَ: هُوَ إِلَانَةُ الْحَدِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وَقِيلَ: حُسْنُ الصَّوْتِ، وَالْأَوْلَى أن يقال: إن هذا الفضل الْمَذْكُورَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بَعْدَهُ مِنْ قوله:
يا جِبالُ إلى آخر الآية، وجملة يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ مُقَدَّرَةٌ بِالْقَوْلِ، أَيْ: قُلْنَا يَا جِبَالُ. وَالتَّأْوِيبُ:
التَّسْبِيحُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ «٥» قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: هُوَ التَّسْبِيحُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَكَانَ إِذَا سَبَّحَ دَاوُدُ سَبَّحَتْ مَعَهُ، وَمَعْنَى تَسْبِيحِ الْجِبَالِ: أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهَا قَادِرَةً عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يَخْلُقُ فِيهَا التَّسْبِيحَ مُعْجِزَةً لِدَاوُدَ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَوِّبِي: سِيرِي مَعَهُ، مِنَ التَّأْوِيبِ الَّذِي هُوَ سَيْرُ النَّهَارِ أَجْمَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابن مقبل:
(١). ص: ٢٤.
(٢). ص: ٣٤.
(٣). ص: ١٧.
(٤). ص: ٢٦. [.....]
(٥). ص: ١٨.
361
لحقنا بحيّ أوّبوا السير بعد ما دَفَعْنَا شُعَاعَ الشَّمْسِ وَالطَّرَفُ مُجْنَحُ
قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوِّبِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، مِنَ التَّأْوِيبِ: وَهُوَ التَّرْجِيعُ، أَوِ التَّسْبِيحُ، أَوِ السَّيْرُ، أَوِ النَّوْحُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَوِّبِي بِضَمِّ الهمزة أمرا من آب يؤوب إِذَا رَجَعَ، أَيِ: ارْجِعِي مَعَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالطَّيْرَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى فَضْلًا عَلَى مَعْنَى: وَسَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ، لِأَنَّ إِيتَاءَهُ إِيَّاهَا تَسْخِيرُهَا لَهُ، أَوْ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ يَا جِبالُ لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ تَقْدِيرًا، إِذِ الْمَعْنَى: نَادَيْنَا الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: انْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ عَلَى مَعْنَى وَسَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ، وَالنَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ كَمَا تَقُولُ: اسْتَوَى الْمَاءُ وَالْخَشَبَةَ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى فَضْلًا لَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: آتَيْنَاهُ فَضْلًا وَتَسْبِيحَ الطَّيْرِ.
وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَالْأَعْرَجُ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو نَوْفَلٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وابن هرمز، ومسلمة ابن عَبْدِ الْمَلِكِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْجِبَالِ، أَوْ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي: أَوِّبِي لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ مَعْطُوفٌ عَلَى آتَيْنَاهُ: أَيْ: جَعَلْنَاهُ لَيِّنًا لِيَعْمَلَ بِهِ مَا شَاءَ. قَالَ الْحَسَنُ: صَارَ الْحَدِيدُ كَالشَّمْعِ يَعْمَلُهُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْحَدِيدُ فِي يَدِهِ كَالطِّينِ الْمَبْلُولِ وَالْعَجِينِ وَالشَّمْعِ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا ضَرْبٍ بِمِطْرَقَةٍ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ، وَكَانَ يَفْرَغُ مِنْ عَمَلِ الدِّرْعِ فِي بَعْضِ يَوْمٍ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ فِي: أَنْ هَذِهِ وَجْهَانِ: أحدهما أنها مصدرية على حذف الْجَرِّ، أَيْ: بِأَنِ اعْمَلْ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْمُفَسِّرَةُ لِقَوْلِهِ: وَأَلَنَّا وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْقَوْلِ أَوْ مَا هُوَ فِي معناه. وقدّر بعضهم فعلا في مَعْنَى الْقَوْلِ، فَقَالَ: التَّقْدِيرُ وَأَمَرْنَاهُ أَنِ اعْمَلْ. وَقَوْلُهُ: سابِغاتٍ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ، وَالسَّابِغَاتُ: الْكَوَامِلُ الْوَاسِعَاتُ، يُقَالُ سَبَغَ الدِّرْعُ وَالثَّوْبُ وَغَيْرُهُمَا: إِذَا غَطَّى كُلَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَفَضَلَ مِنْهُ فَضْلَةٌ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ السَّرْدُ نَسْجُ الدُّرُوعِ، وَيُقَالُ السَّرْدُ وَالزَّرْدُ كَمَا يقال السراد والمراد لِصَانِعِ الدُّرُوعِ، وَالسَّرْدُ أَيْضًا الْخَرْزُ، يُقَالُ سَرَدَ يَسْرُدُ: إِذَا خَرَزَ، وَمِنْهُ سَرَدَ الْكَلَامَ: إِذَا جاء به متواليا، ومنه حَدِيثِ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمِنْهُ سرندى: أي جريء، وَمَعْنَى سَرْدِ الدُّرُوعِ إِحْكَامُهَا، وَأَنْ يَكُونَ نِظَامُ حِلَقِهَا وِلَاءً غَيْرَ مُخْتَلِفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
سَرَدَ الدُّرُوعَ مُضَاعِفًا أَسْرَادَهُ لِيَنَالَ طُولَ الْعَيْشِ غَيْرَ مَرُومِ
وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الدُّرُوعُ قَبْلَ دَاوُدَ ثِقَالًا، فَلِذَلِكَ أُمِرَ هُوَ بِالتَّقْدِيرِ فِيمَا يَجْمَعُ الْخِفَّةَ وَالْحَصَانَةَ، أَيْ:
قَدِّرْ مَا تَأْخُذُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِقِسْطِهِ فَلَا تَقْصِدِ الْحَصَانَةَ فَيَثْقُلَ وَلَا الْخِفَّةَ فَيُزِيلَ الْمَنَعَةَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: التَّقْدِيرُ الذي أمر به فِي قَدْرِ الْحَلْقَةِ، أَيْ: لَا تَعْمَلْهَا صَغِيرَةً فَتَضْعُفَ وَلَا يَقْوَى الدِّرْعُ عَلَى الدِّفَاعِ، وَلَا تَعْمَلْهَا كَبِيرَةً فَتَثْقُلَ عَلَى لَابِسِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ هُوَ فِي الْمِسْمَارِ: أَيْ لَا تَجْعَلْ مسمار الدرع رقيقا فَيَقْلِقَ وَلَا غَلِيظًا
362
فَيَفْصِمَ الْحِلَقَ. ثُمَّ خَاطَبَ دَاوُدَ وَأَهْلَهُ فَقَالَ: وَاعْمَلُوا صالِحاً أَيْ: عَمَلًا صَالِحًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ثُمَّ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّيحَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، أَيْ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ ثَابِتَةٌ أَوْ مُسَخَّرَةٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّيحَ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ «الرِّيَاحَ» بِالْجَمْعِ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أَيْ تَسِيرُ بِالْغَدَاةِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَتَسِيرُ بِالْعَشِيِّ كَذَلِكَ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَسْخِيرِ الرِّيحِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا كَانَتْ تَسِيرُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يَغْدُو مِنْ دِمَشْقَ فَيَقِيلُ بِإِصْطَخْرَ، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْمُسْرِعِ، ثُمَّ يَرُوحُ مِنْ إِصْطَخْرَ فَيَبِيتُ بِكَابُلَ، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ الْقِطْرُ: النُّحَاسُ الذَّائِبُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أُجْرِيَتْ لَهُ عَيْنُ الصُّفْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ كَجَرْيِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ بِمَا أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ، وَالْمَعْنَى: أَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ النُّحَاسِ كَمَا أَلَنَّا الْحَدِيدَ لِدَاوُدَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَسَالَ اللَّهُ لَهُ عَيْنًا يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا يُرِيدُ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ من: مبتدأ، ويعمل: خبره، ومن الْجِنِّ: مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَوْ: مَنْ يَعْمَلُ مَعْطُوفٌ عَلَى الرِّيحِ، ومن الْجِنِّ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: وَسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ مِنَ الْجِنِّ بِإِذْنِ رَبِّهِ، أَيْ: بِأَمْرِهِ. وَالْإِذْنُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُسَخَّرًا أَوْ مُيَسَّرًا بِأَمْرِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا أَيْ: وَمَنْ يَعْدِلْ مِنَ الْجِنِّ عَنْ أَمْرِنَا الَّذِي أَمَرْنَاهُ بِهِ: وَهُوَ طَاعَةُ سُلَيْمَانَ نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا. قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَّلَ اللَّهُ بالجنّ ملكا بيده سوط من نار، فَمَنْ زَاغَ عَنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ ضَرَبَهُ بِذَلِكَ السَّوْطِ ضَرْبَةً فَتَحْرُقَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَعْمَلُهُ الْجِنُّ لِسُلَيْمَانَ فَقَالَ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ مَحارِيبَ لِلْبَيَانِ، وَالْمَحَارِيبُ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ، وَهِيَ الْأَبْنِيَةُ الرَّفِيعَةُ، وَالْقُصُورُ الْعَالِيَةُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَكُونُ الْمِحْرَابُ إِلَّا أَنْ يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِدَرَجٍ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلَّذِي يُصَلَّى فِيهِ: مِحْرَابٌ لِأَنَّهُ يُرْفَعُ وَيُعَظَّمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَحَارِيبُ دُونَ الْقُصُورِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمِحْرَابُ: أَشْرَفُ بُيُوتِ الدَّارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَاذَا عَلَيْهِ إِنْ ذَكَرْتُ أَوَانِسًا كَغِزْلَانِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أَقْيَالِ
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ بِالْمَحَارِيبِ: هُنَا الْمَسَاجِدُ، وَالتَّمَاثِيلُ: جَمْعُ تِمْثَالٍ: وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ مَثَّلْتَهُ بِشَيْءٍ، أَيْ:
صَوَّرْتَهُ بِصُورَتِهِ مِنْ نُحَاسٍ، أَوْ زُجَاجٍ، أَوْ رُخَامٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ التَّمَاثِيلُ صُوَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالصُّلَحَاءِ، وَكَانُوا يُصَوِّرُونَهَا فِي الْمَسَاجِدِ لِيَرَاهَا النَّاسُ، فَيَزْدَادُوا عِبَادَةً وَاجْتِهَادًا.
وَقِيلَ: هِيَ تَمَاثِيلُ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ التَّصْوِيرَ كَانَ مُبَاحًا فِي شَرْعِ سُلَيْمَانَ، وَنُسِخَ ذَلِكَ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَالْجِفَانُ جُمَعُ جَفْنَةٍ: وَهِيَ الْقَصْعَةُ الْكَبِيرَةُ. وَالْجَوَابِ جَمْعُ جَابِيَةٍ: وَهِيَ حَفِيرَةٌ كَالْحَوْضِ، وَقِيلَ: هِيَ الْحَوْضُ الْكَبِيرُ يَجْبِي الْمَاءَ: أَيْ يَجْمَعُهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي
363
قِصَاعًا فِي الْعِظَمِ كَحِيَاضِ الْإِبِلِ، يَجْتَمِعُ عَلَى الْقَصْعَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفُ رَجُلٍ يَأْكُلُونَ مِنْهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: الْأَوْلَى إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِي الْجَوَابِي، وَمَنْ حَذَفَ الْيَاءَ قَالَ سَبِيلُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّكِرَةِ فَلَا تُغَيُّرُهَا عَنْ حَالِهَا، فَلَمَّا كَانَ يُقَالُ جَوَابٍ وَدَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أُقِرَّ عَلَى حَالِهِ فَحَذَفَ الْيَاءَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ جَبَوْتُ الْمَاءَ وَجَبَيْتُهُ فِي الْحَوْضِ: أَيْ جَمَعْتُهُ، وَالْجَابِيَةُ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الْمَاءُ لِلْإِبِلِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَالْجَابِيَةُ، الْقِدْرُ الْعَظِيمَةُ، وَالْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الشَّيْءُ، أَيْ: يُجْمَعُ، وَمِنْهُ جَبَيْتُ الْخَرَاجَ، وَجَبَيْتُ الْجَرَادَ:
جَمَعْتُهُ فِي الْكِسَاءِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ قُدُورُ النُّحَاسِ تَكُونُ بِفَارِسَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ قُدُورٌ تُنْحَتُ مِنَ الْجِبَالِ الصُّمِّ عَمِلَتْهَا لَهُ الشَّيَاطِينُ، وَمَعْنَى رَاسِيَاتٍ: ثَابِتَاتٌ لَا تُحْمَلُ وَلَا تُحَرَّكُ لِعِظَمِهَا. ثُمَّ أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ: سُلَيْمَانَ وَأَهْلَهُ، فَقَالَ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أَيْ:
وَقُلْنَا لَهُمُ اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ يَا آلَ دَاوُدَ! شُكْرًا لَهُ على ما آتاكم، واعملوا عَمَلًا شُكْرًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أو اعملوا لِلشُّكْرِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ حَالٌ، أَيْ: شَاكِرِينَ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ، وَسُمِّيَتِ الطَّاعَةُ شُكْرًا لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِهِ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مِنْ جِنْسِهِ، أَيِ: اشْكُرُوا شُكْرًا. ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِالشُّكْرِ أَنَّ الشَّاكِرِينَ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ لَيْسُوا بِالْكَثِيرِ فَقَالَ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أَيِ: الْعَامِلُ بِطَاعَتِي الشَّاكِرُ لِنِعْمَتِي قَلِيلٌ. وَارْتِفَاعُ قَلِيلٌ عَلَى أنه خبر مقدّم. ومن عِبَادِيَ: صِفَةٌ لَهُ. وَالشَّكُورُ: مُبْتَدَأٌ فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أَيْ: حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِهِ وَأَلْزَمْنَاهُ إِيَّاهُ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ يَعْنِي الْأَرَضَةَ. وَقُرِئَ «الْأَرَضِ» بِفَتْحِ الرَّاءِ: أَيِ الْأَكْلِ، يُقَالُ أَرِضَتِ الْخَشَبَةُ أَرَضًا: إِذَا أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ.
وَمَعْنَى تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ: تَأْكُلُ عَصَاهُ الَّتِي كَانَ مُتَّكِئًا عَلَيْهَا، وَالْمِنْسَأَةُ: الْعَصَا بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، أَوْ هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَسَأْتُ الْغَنَمَ: أَيْ زَجَرْتُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمِنْسَأَةُ الَّتِي يُنْسَأُ بِهَا: أَيْ يُطْرَدُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْسَأَتَهُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ. وَقَرَأَ نافع وأبو عمر بِأَلِفٍ مَحْضَةٍ. قَالَ الْمُبَرِّدُ:
بَعْضُ الْعَرَبِ يُبْدِلُ مِنْ هَمْزَتِهَا أَلِفًا وَأَنْشَدَ:
إِذَا دَبَبْتَ عَلَى الْمِنْسَأَةِ مِنْ كِبَرٍ فَقَدْ تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ
وَمِثْلُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ضَرَبْنَا بِمِنْسَأَةٍ وَجْهَهُ فَصَارَ بِذَاكَ مَهِينًا ذَلِيلَا
وَمِثْلُهُ:
أَمِنْ أَجْلِ حَبْلٍ لَا أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ بِمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلَا
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ قَوْلُ طَرَفَةَ:
أَمُونٍ كَأَلْوَاحِ الْأَرَانِ نَسَأْتُهَا عَلَى لَاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ «١»
(١). الأمون: التي يؤمن عثارها. والإران: تابوت الموتى. واللّاحب: الطريق الواضح. والبرجد: كساء مخطط.
364
فَلَمَّا خَرَّ أَيْ: سَقَطَ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَيْ: ظَهَرَ لَهُمْ، مِنْ تَبَيَّنْتُ الشَّيْءَ إِذَا عَلِمْتَهُ: أَيْ: عَلِمَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أَيْ: لَوْ صَحَّ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِهِ، وَلَمْ يَلْبَثُوا بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ، وَالطَّاعَةِ لَهُ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ مَيِّتٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْعَذَابُ الْمُهِينُ: الشَّقَاءُ وَالنَّصَبُ فِي الْعَمَلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتِ النَّاسَ فِي زَمَانِ سُلَيْمَانَ يَقُولُونَ إِنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَلَمَّا مَكَثَ سُلَيْمَانُ قَائِمًا عَلَى عَصَاهُ حَوْلًا مَيِّتًا، وَالْجِنُّ تَعْمَلُ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ فِي حَيَاةِ سُلَيْمَانَ لَا يَشْعُرُونَ بِمَوْتِهِ حَتَّى أَكَلَتِ الْأَرَضَةُ عَصَاهُ فَخَرَّ مَيِّتًا فَعَلِمُوا بِمَوْتِهِ، وَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا تَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ مِنْ تَبَيَّنَ الشَّيْءُ، لَا مِنْ تَبَيَّنْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: ظَهَرَ وَتَجَلَّى، وَأَنْ وما في حيزها بد اشْتِمَالٍ مِنَ الْجِنِّ مَعَ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ظَهَرَ أَمْرُ الْجِنِّ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، أَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِلَخْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَبَيَّنَتِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ مُسْنَدًا إِلَى الْجِنِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَعْقُوبُ تَبَيَّنَتِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ يُعْرَفُ مِمَّا قَدَّمْنَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
أَوِّبِي مَعَهُ قَالَ: سَبِّحِي مَعَهُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ قَالَ: كَالْعَجِينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ قال: خلق الْحَدِيدِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ قَالَ: لَا تَدُقَّ الْمَسَامِيرَ وَتُوَسِّعَ الْحِلَقَ فَتَسْلَسَ، وَلَا تُغَلِّظَ الْمَسَامِيرَ وَتُضَيِّقِ الْحِلَقَ فَتُقْصَمَ، وَاجْعَلْهُ قَدْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ قَالَ النُّحَاسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْقِطْرُ: النُّحَاسُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ بَعْدَ سُلَيْمَانَ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ النَّاسُ بَعْدَهُ فِيمَا كَانَ أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقِطْرُ: الصُّفْرُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَماثِيلَ قَالَ: اتَّخَذَ سُلَيْمَانُ تَمَاثِيلَ مِنْ نُحَاسٍ فَقَالَ: يَا رَبِّ انْفُخْ فِيهَا الرُّوحَ، فَإِنَّهَا أَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ، فَنَفَخَ اللَّهُ فِيهَا الرُّوحَ، فَكَانَتْ تَخْدِمُهُ، وَكَانَ اسْفِنْدِيَارُ مِنْ بَقَايَاهُمْ، فَقِيلَ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ:
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ كَالْجَوابِ قَالَ: كَالْجَوْبَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ قال: أثافيها منها. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ يَقُولُ: قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الْمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدَهُمْ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَبِثَ سُلَيْمَانُ عَلَى عَصَاهُ حَوْلًا بَعْدَ مَا مَاتَ ثُمَّ خَرَّ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ، فَأَخَذَتِ الْجِنُّ عصى مِثْلَ عَصَاهُ، وَدَابَّةً مِثْلَ دَابَّتِهِ، فَأَرْسَلُوهَا عَلَيْهَا، فَأَكَلَتْهَا فِي سَنَةٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ الْآيَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «وَهُمْ يَدْأَبُونَ لَهُ حَوْلًا». وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ السُّنِّيِّ،
365
﴿ أَنِ اعمل سابغات ﴾ في ﴿ أن ﴾ هذه وجهان : أحدهما : أنها مصدرية على حذف حرف الجرّ، أي بأن اعمل، والثاني أنها المفسرة لقوله :﴿ وَأَلَنَّا ﴾، وفيه نظر ؛ لأنها لا تكون إلاّ بعد القول، أو ما هو في معناه. وقدّر بعضهم فعلاً فيه معنى القول، فقال التقدير : وأمرناه أن اعمل. وقوله :﴿ سابغات ﴾ صفة لموصوف محذوف، أي : دروعاً سابغات، والسابغات الكوامل الواسعات، يقال : سبغ الدرع والثوب وغيرهما : إذا غطى كل ما هو عليه، وفضل منه فضلة. ﴿ وَقَدّرْ في السرد ﴾ السرد نسج الدروع، ويقال : السرد والزرد كما يقال : السراد، والزراد لصانع الدروع، والسرد أيضاً الخرز. يقال : سرد يسرد : إذا خرز، ومنه سرد الكلام : إذا جاء به متوالياً، ومنه حديث عائشة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم. قال سيبويه : ومنه سريد : أي جري، ومعنى سرد الدروع : إحكامها، وأن يكون نظم حلقها ولاء غير مختلف، ومنه قول لبيد :
سرد الدروع مضاعفاً أسراده لينال طول العيش غير مروم
وقول أبي ذؤيب الهذلي :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود إذ صنع السوابغ تبع
قال قتادة : كانت الدروع قبل داود ثقالاً، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع الخفة والحصانة، أي قدّر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه، فلا تقصد الحصانة فيثقل، ولا الخفة فيزيل المنعة، وقال ابن زيد : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فتثقل على لابسها. وقيل : إن التقدير هو في المسمار، أي : لا تجعل مسمار الدرع دقيقاً فيقلق، ولا غليظاً فيفصم الحلق. ثم خاطب داود، وأهله، فقال :﴿ واعملوا صالحا ﴾ أي عملاً صالحاً كما في قوله :﴿ اعملوا ءالَ دَاوُودُ شكرا ﴾، ثم علل الأمر بالعمل الصالح بقوله :﴿ إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ أي لا يخفى عليّ شيء من ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ أَوّبِى مَعَهُ ﴾ قال : سبحي معه، وروي مثله عن أبي ميسرة ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الحديد ﴾ قال : كالعجين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله :﴿ وَقَدّرْ في السرد ﴾ قال : حلق الحديد. وأخرج عبد الرّزّاق والحاكم عنه أيضاً ﴿ وَقَدّرْ في السرد ﴾ قال : لا تدقّ المسامير، وتوسع الحلق فتسلس، ولا تغلظ المسامير، وتضيق الحلق فتقصم، واجعله قدراً. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر ﴾ قال النحاس. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان، وإنما يعمل الناس بعده فيما كان أعطي سليمان. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : القطر الصفر. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله :﴿ وتماثيل ﴾ قال : اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال : يا ربّ انفخ فيها الروح، فإنها أقوى على الخدمة، فنفخ الله فيها الروح، فكانت تخدمه، وكان اسفنديار من بقاياهم، فقيل لداود وسليمان ﴿ اعملوا ءالَ دَاوُودُ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور ﴾. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله :﴿ كالجواب ﴾ قال : كالجوبة من الأرض ﴿ وَقُدُورٍ رسيات ﴾ قال : أثافيها منها. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور ﴾ يقول : قليل من عبادي الموحدين توحيدهم. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً قال : لبث سليمان على عصاه حولاً بعد ما مات، ثم خرّ على رأس الحول، فأخذت الجنّ عصي مثل عصاه، ودابة مثل دابته، فأرسلوها عليها، فأكلتها في سنة، وكان ابن عباس يقرأ ﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن ﴾ الآية، قال سفيان : وفي قراءة ابن مسعود " وهم يدأبون له حولاً ".
وأخرج البزار، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، وابن السني، وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها : ما اسمك ؟ فتقول : كذا، وكذا، فيقول : لما أنت ؟ فتقول : لكذا، وكذا، فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، وصلى ذات يوم، فإذا شجرة نابتة بين يديه، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب ؟ قال : لأيّ شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا البيت، فقال سليمان : اللهم عمّ عن الجنّ موتي حتى يعلم الإنس أن الجنّ لا يعلمون الغيب، فهيأ عصا، فتوكأ عليها، وقبضه الله، وهو متكىء عليها، فمكث حولاً ميتاً، والجنّ تعمل، فأكلتها الأرضة، فسقطت، فعلموا عند ذلك بموته، فتبينت الإنس ﴿ أن ﴾ الجنّ ﴿ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين ﴾» وكان ابن عباس يقرؤها كذلك، فشكرت الجنّ للأرضة، فأينما كانت يأتونها بالماء. وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً، وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعاً يقول الله عزّ وجلّ«إني تفضلت على عبادي بثلاث : ألقيت الدابة على الحبة، ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب، والفضة، وألقيت النتن على الجسد، ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه، واستلبت الحزن، ولولا ذلك لذهب النسل».

﴿ ولسليمان الريح ﴾ قرأ الجمهور ﴿ الريح ﴾ بالنصب على تقدير : وسخرنا لسليمان الريح كما قال الزجاج، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بالرفع على الابتداء، والخبر، أي ولسليمان الريح ثابتة أو مسخرة، وقرأ الجمهور :﴿ الريح ﴾، وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وخالد بن إلياس ( الرياح ) بالجمع. ﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ أي تسير بالغداة مسيرة شهر، وتسير بالعشي كذلك، والجملة إما مستأنفة لبيان تسخير الريح، أو في محل نصب على الحال. والمعنى : أنها كانت تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين. قال الحسن : كان يغدو من دمشق، فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر، فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر ﴾ القطر : النحاس الذائب.
قال الواحدي : قال المفسرون : أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطي سليمان، والمعنى : أسلنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود، وقال قتادة : أسال الله له عيناً يستعملها فيما يريد ﴿ وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ ﴾ من مبتدأ، ويعمل خبره، ومن الجنّ متعلق به، أو بمحذوف على أنه حال، أو من يعمل معطوف على الريح، ومن الجنّ حال، والمعنى : وسخرنا له من يعمل بين يديه حال كونه من الجنّ بإذن ربه، أي : بأمره. والإذن مصدر مضاف إلى فاعله، والجار والمجرور في محل نصب على الحال، أي مسخراً أو ميسراً بأمر ربه ﴿ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ﴾ أي ومن يعدل من الجنّ عن أمرنا الذي أمرناه به : وهو طاعة سليمان ﴿ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير ﴾ قال أكثر المفسرين : وذلك في الآخرة. وقيل : في الدنيا. قال السدّي : وكل الله بالجنّ ملكاً بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة فتحرقه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ أَوّبِى مَعَهُ ﴾ قال : سبحي معه، وروي مثله عن أبي ميسرة ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الحديد ﴾ قال : كالعجين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله :﴿ وَقَدّرْ في السرد ﴾ قال : حلق الحديد. وأخرج عبد الرّزّاق والحاكم عنه أيضاً ﴿ وَقَدّرْ في السرد ﴾ قال : لا تدقّ المسامير، وتوسع الحلق فتسلس، ولا تغلظ المسامير، وتضيق الحلق فتقصم، واجعله قدراً. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر ﴾ قال النحاس. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان، وإنما يعمل الناس بعده فيما كان أعطي سليمان. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : القطر الصفر. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله :﴿ وتماثيل ﴾ قال : اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال : يا ربّ انفخ فيها الروح، فإنها أقوى على الخدمة، فنفخ الله فيها الروح، فكانت تخدمه، وكان اسفنديار من بقاياهم، فقيل لداود وسليمان ﴿ اعملوا ءالَ دَاوُودُ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور ﴾. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله :﴿ كالجواب ﴾ قال : كالجوبة من الأرض ﴿ وَقُدُورٍ رسيات ﴾ قال : أثافيها منها. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور ﴾ يقول : قليل من عبادي الموحدين توحيدهم. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً قال : لبث سليمان على عصاه حولاً بعد ما مات، ثم خرّ على رأس الحول، فأخذت الجنّ عصي مثل عصاه، ودابة مثل دابته، فأرسلوها عليها، فأكلتها في سنة، وكان ابن عباس يقرأ ﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن ﴾ الآية، قال سفيان : وفي قراءة ابن مسعود " وهم يدأبون له حولاً ".
وأخرج البزار، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، وابن السني، وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها : ما اسمك ؟ فتقول : كذا، وكذا، فيقول : لما أنت ؟ فتقول : لكذا، وكذا، فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، وصلى ذات يوم، فإذا شجرة نابتة بين يديه، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب ؟ قال : لأيّ شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا البيت، فقال سليمان : اللهم عمّ عن الجنّ موتي حتى يعلم الإنس أن الجنّ لا يعلمون الغيب، فهيأ عصا، فتوكأ عليها، وقبضه الله، وهو متكىء عليها، فمكث حولاً ميتاً، والجنّ تعمل، فأكلتها الأرضة، فسقطت، فعلموا عند ذلك بموته، فتبينت الإنس ﴿ أن ﴾ الجنّ ﴿ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين ﴾» وكان ابن عباس يقرؤها كذلك، فشكرت الجنّ للأرضة، فأينما كانت يأتونها بالماء. وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً، وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعاً يقول الله عزّ وجلّ«إني تفضلت على عبادي بثلاث : ألقيت الدابة على الحبة، ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب، والفضة، وألقيت النتن على الجسد، ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه، واستلبت الحزن، ولولا ذلك لذهب النسل».

ثم ذكر سبحانه ما يعمله الجنّ لسليمان فقال :﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء ﴾، و﴿ من ﴾ في قوله :﴿ مِن محاريب ﴾ للبيان، والمحاريب في اللغة كل موضع مرتفع، وهي : الأبنية الرفيعة، والقصور العالية. قال المبرد : لا يكون المحراب إلاّ أن يرتقى إليه بدرج، ومنه قيل : للذي يصلي فيه : محراب ؛ لأنه يرفع ويعظم. وقال مجاهد : المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة : المحراب أشرف بيوت الدار، ومنه قول الشاعر :
وماذا عليه إن ذكرت أوانسا كغزلان رمل في محاريب أقيال
وقال الضحاك : المراد بالمحاريب هنا : المساجد، والتماثيل جمع تمثال، وهو كل شيء مثلته بشيء، أي : صوّرته بصورته من نحاس أو زجاج أو رخام أو غير ذلك. قيل : كانت هذه التماثيل صور الأنبياء، والملائكة، والعلماء، والصلحاء، وكانوا يصوّرونها في المساجد ؛ ليراها الناس، فيزدادوا عبادة واجتهاداً. وقيل : هي تماثيل أشياء ليست من الحيوان. وقد استدل بهذا على أن التصوير كان مباحاً في شرع سليمان، ونسخ ذلك بشرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والجفان جمع جفنة، وهي : القصعة الكبيرة. ﴿ الجواب ﴾ جمع جابية، وهي : حفيرة كالحوض. وقيل : هي الحوض الكبير يجبي الماء، أي يجمعه. قال الواحدي : قال المفسرون : يعني قصاعاً في العظم كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها. قال النحاس : الأولى إثبات الياء في الجوابي، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا تغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب، ودخلت الألف واللام أقرّ على حاله، فحذف الياء. قال الكسائي : يقال : جبوت الماء، وجبيته في الحوض، أي جمعته، والجابية الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل.
وقال النحاس : والجابية القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشي، أي يجمع، ومنه جبيت الخراج، وجبيت الجراد : جمعته في الكساء ﴿ وَقُدُورٍ رسيات ﴾ قال قتادة : هي قدور النحاس تكون بفارس، وقال الضحاك : هي قدور تنحت من الجبال الصمّ عملتها له الشياطين. ومعنى ﴿ راسيات ﴾. ثابتات لا تحمل، ولا تحرّك لعظمها. ثم أمرهم سبحانه بالعمل الصالح على العموم، أي سليمان وأهله، فقال :﴿ اعملوا ءالَ دَاوُودُ شكرا ﴾ أي وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكراً له على ما آتاكم، أو اعملوا عملاً شكراً على أنه صفة مصدر محذوف، أو اعملوا للشكر على أنه مفعول له أو حال، أي شاكرين، أو مفعول به، وسميت الطاعة شكراً لأنها من جملة أنواعه، أو منصوب على المصدرية بفعل مقدّر من جنسه، أي اشكروا شكراً. ثم بين بعد أمرهم بالشكر أن الشاكرين له من عباده ليسوا بالكثير، فقال :﴿ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور ﴾ أي العامل بطاعتي الشاكر لنعمتي قليل. وارتفاع ﴿ قليل ﴾ على أنه خبر مقدّم، و﴿ من عبادي ﴾ صفة له، والشكور مبتدأ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ أَوّبِى مَعَهُ ﴾ قال : سبحي معه، وروي مثله عن أبي ميسرة ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الحديد ﴾ قال : كالعجين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله :﴿ وَقَدّرْ في السرد ﴾ قال : حلق الحديد. وأخرج عبد الرّزّاق والحاكم عنه أيضاً ﴿ وَقَدّرْ في السرد ﴾ قال : لا تدقّ المسامير، وتوسع الحلق فتسلس، ولا تغلظ المسامير، وتضيق الحلق فتقصم، واجعله قدراً. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر ﴾ قال النحاس. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان، وإنما يعمل الناس بعده فيما كان أعطي سليمان. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : القطر الصفر. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله :﴿ وتماثيل ﴾ قال : اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال : يا ربّ انفخ فيها الروح، فإنها أقوى على الخدمة، فنفخ الله فيها الروح، فكانت تخدمه، وكان اسفنديار من بقاياهم، فقيل لداود وسليمان ﴿ اعملوا ءالَ دَاوُودُ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور ﴾. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله :﴿ كالجواب ﴾ قال : كالجوبة من الأرض ﴿ وَقُدُورٍ رسيات ﴾ قال : أثافيها منها. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور ﴾ يقول : قليل من عبادي الموحدين توحيدهم. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً قال : لبث سليمان على عصاه حولاً بعد ما مات، ثم خرّ على رأس الحول، فأخذت الجنّ عصي مثل عصاه، ودابة مثل دابته، فأرسلوها عليها، فأكلتها في سنة، وكان ابن عباس يقرأ ﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن ﴾ الآية، قال سفيان : وفي قراءة ابن مسعود " وهم يدأبون له حولاً ".
وأخرج البزار، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، وابن السني، وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها : ما اسمك ؟ فتقول : كذا، وكذا، فيقول : لما أنت ؟ فتقول : لكذا، وكذا، فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، وصلى ذات يوم، فإذا شجرة نابتة بين يديه، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب ؟ قال : لأيّ شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا البيت، فقال سليمان : اللهم عمّ عن الجنّ موتي حتى يعلم الإنس أن الجنّ لا يعلمون الغيب، فهيأ عصا، فتوكأ عليها، وقبضه الله، وهو متكىء عليها، فمكث حولاً ميتاً، والجنّ تعمل، فأكلتها الأرضة، فسقطت، فعلموا عند ذلك بموته، فتبينت الإنس ﴿ أن ﴾ الجنّ ﴿ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين ﴾» وكان ابن عباس يقرؤها كذلك، فشكرت الجنّ للأرضة، فأينما كانت يأتونها بالماء. وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً، وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعاً يقول الله عزّ وجلّ«إني تفضلت على عبادي بثلاث : ألقيت الدابة على الحبة، ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب، والفضة، وألقيت النتن على الجسد، ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه، واستلبت الحزن، ولولا ذلك لذهب النسل».

﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت ﴾ أي حكمنا عليه به، وألزمناه إياه ﴿ مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ ﴾ يعني الأرضة. وقرىء. ( الأرض ) بفتح الراء، أي الأكل، يقال : أرضت الخشبة أرضاً : إذا أكلتها الأرضة. ومعنى ﴿ تأكل منسأته ﴾ تأكل عصاه التي كان متكئاً عليها، والمنسأة : العصا بلغة الحبشة، أو هي مأخوذة من نسأت الغنم، أي : زجرتها. قال الزجاج : المنسأة التي ينسأ بها : أي يطرد. قرأ الجمهور ﴿ منسأته ﴾ بهمزة مفتوحة. وقرأ ابن ذكوان بهمزة ساكنة. وقرأ نافع، وأبو عمرو بألف محضة. قال المبرد : بعض العرب يبدل من همزتها ألفاً، وأنشد :
إذا دببت على المنسأة من كبر *** فقد تباعد عنك اللهو والغزل
ومثل قراءة الجمهور قول الشاعر :
ضربنا بمنسأة وجهه *** فصار بذاك مهيناً ذليلا
ومثله :
أمن أجل حبل لا أباك ضربته *** بمنسأة قد جرّ حبلك أحبلا
ومما يدلّ على قراءة ابن ذكوان قول طرفة :
أمون كألواح الأران نسأتها *** على لاحب كأنه ظهر برجد
﴿ فَلَمَّا خَرَّ ﴾ أي سقط ﴿ تَبَيَّنَتِ الجن ﴾ أي ظهر لهم، من تبينت الشيء : إذا علمته، أي علمت الجن ﴿ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين ﴾ أي لو صح ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب لعلموا بموته، ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العذاب المهين في العمل الذي أمرهم به، والطاعة له، وهو إذ ذاك ميت. قال مقاتل : العذاب المهين : الشقاء والنصب في العمل. قال الواحدي : قال المفسرون : كانت الناس في زمان سليمان يقولون : إن الجنّ تعلم الغيب، فلما مكث سليمان قائماً على عصاه حولاً ميتاً، والجنّ تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعمل في حياة سليمان لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه، فخرّ ميتاً، فعلموا بموته، وعلم الناس : أن الجنّ لا تعلم الغيب، ويجوز : أن يكون تبينت الجنّ من تبين الشيء، لا من تبينت الشيء، أي : ظهر، وتجلى، وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الجنّ مع تقدير محذوف، أي : ظهر أمر الجن للناس أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، أو ظهر أن الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب إلخ.
قرأ الجمهور :﴿ تبينت ﴾ على البناء للفاعل مسنداً إلى الجنّ. وقرأ ابن عباس ويعقوب :﴿ تبينت ﴾ على البناء للمفعول، ومعنى القراءتين يعرف مما قدّمنا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ أَوّبِى مَعَهُ ﴾ قال : سبحي معه، وروي مثله عن أبي ميسرة ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الحديد ﴾ قال : كالعجين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله :﴿ وَقَدّرْ في السرد ﴾ قال : حلق الحديد. وأخرج عبد الرّزّاق والحاكم عنه أيضاً ﴿ وَقَدّرْ في السرد ﴾ قال : لا تدقّ المسامير، وتوسع الحلق فتسلس، ولا تغلظ المسامير، وتضيق الحلق فتقصم، واجعله قدراً. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر ﴾ قال النحاس. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان، وإنما يعمل الناس بعده فيما كان أعطي سليمان. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : القطر الصفر. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله :﴿ وتماثيل ﴾ قال : اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال : يا ربّ انفخ فيها الروح، فإنها أقوى على الخدمة، فنفخ الله فيها الروح، فكانت تخدمه، وكان اسفنديار من بقاياهم، فقيل لداود وسليمان ﴿ اعملوا ءالَ دَاوُودُ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور ﴾. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله :﴿ كالجواب ﴾ قال : كالجوبة من الأرض ﴿ وَقُدُورٍ رسيات ﴾ قال : أثافيها منها. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور ﴾ يقول : قليل من عبادي الموحدين توحيدهم. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً قال : لبث سليمان على عصاه حولاً بعد ما مات، ثم خرّ على رأس الحول، فأخذت الجنّ عصي مثل عصاه، ودابة مثل دابته، فأرسلوها عليها، فأكلتها في سنة، وكان ابن عباس يقرأ ﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن ﴾ الآية، قال سفيان : وفي قراءة ابن مسعود " وهم يدأبون له حولاً ".
وأخرج البزار، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، وابن السني، وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها : ما اسمك ؟ فتقول : كذا، وكذا، فيقول : لما أنت ؟ فتقول : لكذا، وكذا، فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، وصلى ذات يوم، فإذا شجرة نابتة بين يديه، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب ؟ قال : لأيّ شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا البيت، فقال سليمان : اللهم عمّ عن الجنّ موتي حتى يعلم الإنس أن الجنّ لا يعلمون الغيب، فهيأ عصا، فتوكأ عليها، وقبضه الله، وهو متكىء عليها، فمكث حولاً ميتاً، والجنّ تعمل، فأكلتها الأرضة، فسقطت، فعلموا عند ذلك بموته، فتبينت الإنس ﴿ أن ﴾ الجنّ ﴿ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين ﴾» وكان ابن عباس يقرؤها كذلك، فشكرت الجنّ للأرضة، فأينما كانت يأتونها بالماء. وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً، وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعاً يقول الله عزّ وجلّ«إني تفضلت على عبادي بثلاث : ألقيت الدابة على الحبة، ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب، والفضة، وألقيت النتن على الجسد، ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه، واستلبت الحزن، ولولا ذلك لذهب النسل».

وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ لَهَا مَا اسمك؟ فتقول كذا وكذا، فيقول لم أَنْتِ؟ فَتَقُولُ لِكَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غُرِسَتْ، وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ» وَصَلَّى ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا شَجَرَةٌ نَابِتَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتِ الْخَرُّوبَ. قَالَ:
لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَنِ الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى يَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، فَهَيَّأَ عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا، وَقَبَضَهُ اللَّهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْهَا، فَمَكَثَ حَوْلًا مَيِّتًا وَالْجِنُّ تَعْمَلُ، فَأَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ فَسَقَطَتْ، فَعَلِمُوا عِنْدَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ، فَتَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ الْجِنَّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، فَشَكَرَتِ الْجِنُّ لِلْأَرَضَةِ، فأينما كانت يأتونها بِالْمَاءِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنِّي تَفَضَّلْتُ عَلَى عِبَادِي بِثَلَاثٍ: أَلْقَيْتُ الدَّابَّةَ عَلَى الْحَبَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَنَزَهَا الْمُلُوكُ كَمَا يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَأَلْقَيْتُ النَّتْنَ عَلَى الْجَسَدِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَدْفِنْ حَبِيبٌ حَبِيبَهُ، وَاسْتَلَبْتُ الْحُزْنَ وَلَوْلَا ذلك لذهب النّسل».
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ٢١]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ بَعْضِ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ عَقَّبَهُ بحال الْجَاحِدِينَ لَهَا، فَقَالَ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ الْمُرَادُ بِسَبَإٍ الْقَبِيلَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَوْلَادِ سَبَإٍ، وَهُوَ سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ هُودٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ لِسَبَإٍ بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ حَيٍّ، أَيِ: الْحَيُّ الذي هُمْ أَوْلَادُ سَبَأٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لِسَبَإٍ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَيُقَوِّي الْقِرَاءَةَ الْأُولَى قوله: فِي مَسْكَنِهِمْ وَلَوْ كَانَ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ لَقَالَ فِي مساكنها، فمما وَرَدَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهَا جِلْدُ الْجَوَامِيسِ
وَمِمَّا وَرَدَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مِنْ سَبَأَ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبُ إِذْ يبنون من دون سيلها الْعَرِمَا
وَقَرَأَ قُنْبُلٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ لِسَبَإٍ بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ، وَقُرِئَ بِقَلْبِهَا أَلِفًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ
366
فِي مَسْكَنِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَوَجْهُ الِاخْتِيَارِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَمَسَاكِنُ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِالْإِفْرَادِ مَعَ فَتْحِ الْكَافِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْإِفْرَادِ مَعَ كَسْرِهَا، وَبِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ، وَوَجْهُ الْإِفْرَادِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ يَشْمَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، أَوِ اسْمُ مَكَانٍ وَأُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذِهِ الْمَسَاكِنُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْآنَ مَأْرِبٌ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: آيَةٌ أَيْ: عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: جَنَّتانِ وَارْتِفَاعُهُمَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ آيَةٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ وَاخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «جَنَّتَيْنِ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ ثَانٍ وَاسْمُهَا آيَةٌ، وَهَاتَانِ الْجَنَّتَانِ:
كَانَتَا عَنْ يَمِينِ وَادِيهِمْ وَشِمَالِهِ قَدْ أَحَاطَتَا بِهِ مِنْ جِهَتَيْهِ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ فِي الْوَادِي، وَالْآيَةُ هِيَ الْجَنَّتَانِ، كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْشِي فِيهِمَا وَعَلَى رَأْسِهَا الْمِكْتَلُ، فَيَمْتَلِئُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ الَّتِي تَتَسَاقَطُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهَا بِيَدِهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ سبأ في مساكنهم أنه لَمْ يَرَوْا فِيهَا بَعُوضَةً وَلَا ذُبَابًا وَلَا بُرْغُوثًا وَلَا قَمْلَةً وَلَا عَقْرَبًا وَلَا حَيَّةً وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْهَوَامِّ، وَإِذَا جَاءَهُمُ الرَّكْبُ فِي ثِيَابِهِمُ الْقَمْلُ مَاتَتْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِبُيُوتِهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَمْ يُرِدْ جَنَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، بَلْ أَرَادَ مِنِ الْجِهَتَيْنِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فِي كُلِّ جِهَةِ بَسَاتِينُ كَثِيرَةٌ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أَيْ: قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَمْرٌ، وَلَكِنِ الْمُرَادُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ، وَقِيلَ إِنَّهَا قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ: هُوَ ثِمَارُ الْجَنَّتَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ خُوطِبُوا بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا رَزَقَكُمْ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنِبُوا مَعَاصِيَهُ، وَجُمْلَةُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مُوجِبِ الشُّكْرِ. وَالْمَعْنَى: هَذِهِ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ لِكَثْرَةِ أَشْجَارِهَا وَطِيبِ ثِمَارِهَا. وَقِيلَ مَعْنَى كَوْنِهَا طَيِّبَةً: أَنَّهَا غَيْرُ سَبِخَةٍ، وَقِيلَ لَيْسَ فِيهَا هَوَامُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ صَنْعَاءُ. وَمَعْنَى وَرَبٌّ غَفُورٌ أَنَّ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِمْ رَبٌّ غَفُورٌ لِذُنُوبِهِمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى وَرَبُّكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ فيما رَزَقَكُمْ رَبٌّ غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ.
وَقِيلَ إِنَّمَا جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ طِيبِ الْبَلْدَةِ وَالْمَغْفِرَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ حَرَامٌ. وَقَرَأَ ورش بنصب بلدة وربّ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ اسْكُنُوا بَلْدَةً وَاشْكُرُوا رَبًّا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَأَعْرَضُوا عَنِ الشُّكْرِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ قَالَ السُّدِّيُّ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ سَبَأٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا فَكَذَّبُوهُمْ، وَكَذَا قَالَ وَهْبٌ. ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ مِنْهُمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نِقْمَةً سَلَبَ بِهَا مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ يَأْتِي أَرْضَ سَبَأٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الْيَمَنِ، فَرَدَمُوا رَدْمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَحَبَسُوا الْمَاءَ، وَجَعَلُوا فِي ذَلِكَ الرَّدْمِ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَكَانُوا يَسْقُونَ مِنَ الْبَابِ الْأَعْلَى ثُمَّ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي، ثُمَّ مِنَ الثَّالِثِ فَأَخْصَبُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَلَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ بَعَثَ اللَّهُ جُرَذًا، فَفَتَقَتْ ذَلِكَ الرَّدْمَ حَتَّى انْتَقَضَ فَدَخَلَ الْمَاءُ جَنَّتَهُمْ فَغَرَّقَهَا وَدَفَنَ السَّيْلُ بُيُوتَهُمْ، فَهَذَا هو سيل العرم، وهو جمع عرمة: وهي السَّكْرُ «١» الَّتِي تَحْبِسُ الْمَاءَ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وغيره. وقال السدّي:
(١). السكر بالسكون: ما سد به النهر.
367
الْعَرِمُ اسْمٌ لِلسَّدِّ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ السَّدِّ الْعَرِمِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْعَرِمُ اسْمُ الْوَادِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
الْعَرِمُ اسْمُ الْجُرَذِ الَّذِي نَقَبَ السَّدَّ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْخُلْدُ: فَنُسِبَ السَّيْلُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ سَبَبَ جَرَيَانِهِ.
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرِمُ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَأْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: الْعَرِمُ مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فِي السَّدِّ فَشَقَّهُ وَهَدَمَهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْعَرِمَ اسْمُ الْمَطَرِ الشَّدِيدِ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلسَّيْلِ الشَّدِيدِ، وَالْعِرَامَةُ فِي الْأَصْلِ: الشِّدَّةُ وَالشَّرَاسَةُ وَالصُّعُوبَةُ: يُقَالُ عَرَمَ فُلَانٌ: إِذَا تَشَدَّدَ وَتَصَعَّبَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْعَرِمُ السَّيْلُ الَّذِي لَا يُطَاقُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْعَرِمُ كُلُّ شَيْءٍ حَاجِزٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ أَيْ: أَهْلَكْنَا جَنَّتَيْهِمُ اللَّتَيْنِ كَانَتَا مُشْتَمِلَتَيْنِ عَلَى تِلْكَ الْفَوَاكِهِ الطَّيِّبَةِ، وَالْأَنْوَاعِ الْحَسَنَةِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ بَدَلَهُمَا جَنَّتَيْنِ لَا خَيْرَ فِيهِمَا، وَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيمَا هُوَ نَابِتٌ فِيهِمَا وَلِهَذَا قَالَ: ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ أُكُلٍ وَعَدَمِ إِضَافَتِهِ إِلَى خَمْطٍ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْإِضَافَةِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْخَمْطُ الْأَرَاكُ، وَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخَمْطُ كُلُّ شَجَرَةٍ مُرَّةٍ ذَاتِ شَوْكٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَبْتٍ فِيهِ مَرَارَةٌ لَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كُلُّ شَيْءٍ تَغَيَّرَ إِلَى مَا لَا يُشْتَهَى، يُقَالُ لَهُ: خَمْطٌ، وَمِنْهُ: اللَّبَنُ إِذَا تَغَيَّرَ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ أبي عمرو. والخمط: نعت لأكل أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الْأُكُلَ هُوَ الْخَمْطُ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:
الْإِضَافَةُ أَحْسَنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مِثْلُ ثَوْبُ خَزٍّ وَدَارُ آجُرٍّ، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْخَمْطِ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ وَمَنْ مَعَهُ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْخَمْطُ ضَرْبٌ مِنَ الْأَرَاكِ لَهُ حَمْلٌ يُؤْكَلُ، وَتَسْمِيَةُ الْبَدَلِ جَنَّتَيْنِ لِلْمُشَاكَلَةِ أَوِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَالْأَثْلُ هُوَ الشَّجَرُ الْمَعْرُوفُ الشَّبِيهُ بِالطَّرْفَاءِ كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ قَالَ: إِلَّا أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنَ الطَّرْفَاءِ طُولًا، الْوَاحِدَةُ أَثَلَةٌ، والجمع أثلاث. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَثْلُ: الْخَشَبُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ شَجَرُ النُّطَارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَا ثَمَرَ لِلْأَثْلِ. وَالسِّدْرُ: شَجَرٌ مَعْرُوفٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ السَّمُرُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: السِّدْرُ مِنَ الشَّجَرِ سِدْرَانِ:
بَرِّيٌّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِلْغَسُولِ، وَلَهُ ثَمَرٌ عَفِصٌ لَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الضَّالَ. وَالثَّانِي سِدْرٌ يَنْبُتُ عَلَى الْمَاءِ وَثَمَرُهُ النَّبْقُ، وَوَرَقُهُ غَسُولٌ يُشْبِهُ شَجَرَ الْعُنَّابِ. قِيلَ وَوَصَفَ السِّدْرَ بِالْقِلَّةِ لِأَنَّ مِنْهُ نَوْعًا يطيب أكله، وهو النوع الثاني ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ. قَالَ قَتَادَةُ: بَيْنَمَا شَجَرُهُمْ مِنْ خَيْرِ شَجَرٍ إِذْ صَيَّرَهُ اللَّهُ مِنْ شَرِّ الشَّجَرِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَهْلَكَ أَشْجَارَهُمُ الْمُثْمِرَةَ وَأَنْبَتَ بَدَلَهَا الْأَرَاكَ وَالطَّرْفَاءَ وَالسِّدْرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ قَوْلُهُ: قَلِيلٍ إِلَى جَمِيعِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْخَمْطِ وَالْأَثْلِ وَالسِّدْرِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّبْدِيلِ، أَوْ إِلَى مَصْدَرِ جَزَيْناهُمْ وَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ التَّبْدِيلُ، أَوْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ لِلنِّعْمَةِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ شُكْرِهَا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أَيْ: وَهَلْ نُجَازِي هَذَا الْجَزَاءَ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ وَنُزُولِ النِّقْمَةِ إِلَّا الشَّدِيدَ الْكُفْرِ الْمُتَبَالِغَ فِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُجَازَى» بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالْكَفُورُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مَرْفُوعٌ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ مَنْصُوبٌ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قَالَا: لِأَنَّ قَبْلَهُ جَزَيْناهُمْ وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُجَازِي إِلَّا الْكُفُورَ مَعَ كَوْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي يُجَازَوْنَ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُجَازِي هَذَا الْجَزَاءَ، وَهُوَ الِاصْطِلَامُ «١» وَالْإِهْلَاكُ إلا من كفر. وقال مجاهد: إن المؤمن يكفر عنه
(١). قال في القاموس: اصطلمه: استأصله.
368
سَيِّئَاتِهِ، وَالْكَافِرَ يُجَازَى بِكُلِّ عَمَلٍ عَمِلَهُ وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْحِسَابِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يُنَاقَشُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْمَعْنَى إِنَّهُ يُجَازِي الْكَافِرَ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَرَجَّحَ هَذَا الْجَوَابَ النَّحَّاسُ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ أَيْ: وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمْ: أَنَّا جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بِالْمَاءِ وَالشَّجَرِ، وَهِيَ قُرَى الشَّامِ قُرىً ظاهِرَةً أَيْ: مُتَوَاصِلَةً، وَكَانَ مَتْجَرُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمُ الَّتِي هِيَ مَأْرِبٌ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا يَبِيتُونَ بِقَرْيَةٍ، وَيَقِيلُونَ بِأُخْرَى حَتَّى يَرْجِعُوا، وَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زَادٍ يَحْمِلُونَهُ مِنْ أَرْضِهِمْ إِلَى الشَّامِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَايَةِ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ هَذِهِ الْقُرَى هِيَ بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ، قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَسَبْعَمِائَةِ قَرْيَةٍ، وَقِيلَ هِيَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْقُرَى الظَّاهِرَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا ظَاهِرَةٌ لِظُهُورِهَا، إِذَا خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ ظَهَرَتْ لَكَ الْأُخْرَى فَكَانَتْ قُرًى ظَاهِرَةً: أَيْ مَعْرُوفَةً، يُقَالُ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ: أَيْ مَعْرُوفٌ وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أَيْ: جَعَلْنَا السَّيْرَ مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى الْقَرْيَةِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ نِصْفُ يَوْمٍ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ جَعَلْنَا بَيْنَ كُلِّ قَرْيَتَيْنِ نصف يوم حتى يكون فِي قَرْيَةٍ، وَالْمَبِيتُ فِي أُخْرَى إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى الشَّامِ، وَإِنَّمَا يُبَالِغُ الْإِنْسَانُ فِي السير لعدم الزاد والماء والخوف في الطَّرِيقِ، فَإِذَا وُجِدَ الزَّادُ وَالْأَمْنُ لَمْ يُحَمِّلْ نَفْسَهُ الْمَشَقَّةَ، بَلْ يَنْزِلُ أَيْنَمَا أَرَادَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَدَّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ النِّقَمِ، ثُمَّ عَادَ لِتَعْدِيدِ بَقِيَّةِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ بَلَدِهِمْ مِنِ اتِّصَالِ الْقُرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُونَ السَّفَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ تَبْدِيلَهُ بِالْمَفَاوِزِ وَالْبَرَارِي كَمَا سَيَأْتِي وَقَوْلُهُ: سِيرُوا فِيها هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ سِيرُوا فِي تِلْكَ الْقُرَى الْمُتَّصِلَةِ، فَهُوَ أَمْرُ تَمْكِينٍ، أَيْ: ومكناهم من السير فيها متى شاؤوا لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ مِمَّا يَخَافُونَهُ، وَانْتِصَابُ لَيَالِيَ وأياما عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَانْتِصَابُ آمِنِينَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَسِيرُونَ غَيْرَ خَائِفِينَ وَلَا جِيَاعٍ ولا ظمأى، كَانُوا يَسِيرُونَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي أَمَانٍ لَا يُحَرِّكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يُحَرِّكْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ، بَلْ طَلَبُوا التَّعَبَ وَالْكَدَّ فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ بَطَرًا وَطُغْيَانًا لَمَّا سَئِمُوا النِّعْمَةَ وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الْعَافِيَةِ، فَتَمَنَّوْا طُولَ الْأَسْفَارِ وَالتَّبَاعُدَ بَيْنَ الدِّيَارِ، وَسَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ مَكَانَ تِلْكَ الْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ الْكَثِيرَةِ الْمَاءِ وَالشَّجَرِ وَالْأَمْنِ، الْمَفَاوِزَ وَالْقِفَارَ وَالْبَرَارِي الْمُتَبَاعِدَةَ الْأَقْطَارِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ وَخَرَّبَ تِلْكَ الْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةَ، وَذَهَبَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالْمَاءِ وَالشَّجَرِ، فَكَانَتْ دَعْوَتُهُمْ هَذِهِ كَدَعْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَيْثُ قَالُوا فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها «١» الْآيَةَ مَكَانَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَكَقَوْلِ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «٢» الْآيَةَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبَّنا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مُنَادَى مُضَافٌ، وَقَرَءُوا أَيْضًا باعِدْ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ (بَعِّدْ) بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ السميقع: بِضَمِّ الْعَيْنِ فِعْلًا مَاضِيًا، فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّكْوَى مِنْ بُعْدِ الْأَسْفَارِ، وَقَرَأَ أَبُو صالح ومحمّد بن الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ «رَبُّنَا» بِالرَّفْعِ «بَاعَدَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ بَاعَدَ رَبُّنَا بَيْنَ أَسْفَارِنَا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عن
(١). البقرة: ٦١.
(٢). الأنفال: ٣٢.
369
ابن عباس، واختار أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ لِأَنَّهُمْ مَا طَلَبُوا التَّبْعِيدَ إِنَّمَا طَلَبُوا أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ الْقُرْبِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ بِالْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ، بَطَرًا وَأَشَرًا وَكُفْرًا لِلنِّعْمَةِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «رَبُّنَا» بِالرَّفْعِ «بَعَّدَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُشَدَّدَةً، فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّكْوَى بِأَنَّ رَبَّهُمْ بَعَّدَ بَيْنِ أَسْفَارِهِمْ، مَعَ كَوْنِهَا قَرِيبَةً مُتَّصِلَةً بِالْقُرَى وَالشَّجَرِ وَالْمَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ بَطَرِهِمْ، وَقَرَأَ أَخُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ كقراءة ابن السميقع السَّابِقَةِ مَعَ رَفْعِ (بَيْنَ) عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَرَوَى الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ قِرَاءَةً مِثْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَكِنْ مَعَ نَصْبِ بَيْنَ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بَعُدَ سَيْرُنَا بَيْنَ أَسْفَارِنَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ إِذَا اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إِحْدَاهَا أَجْوَدُ مِنَ الْأُخْرَى، كَمَا لَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ إِذَا اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا، وَلَكِنْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ دَعَوْا رَبَّهُمْ أَنْ يُبَعِّدَ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ شَكَوْا وَتَضَرَّرُوا، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبَطَرُوا نِعْمَتَهُ وَتَعَرَّضُوا لِنِقْمَتِهِ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِأَخْبَارِهِمْ. وَالْمَعْنَى: جَعَلْنَاهُمْ ذَوِي أَحَادِيثَ يَتَحَدَّثُ بِهَا مَنْ بعدهم تعجبا من فعلهم واعتبارا لحالهم وَعَاقِبَتِهِمْ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنَ الْبِلَادِ كُلَّ التَّفْرِيقِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِجَعْلِهِمْ أَحَادِيثَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَغْرَقَ مَكَانَهُمْ وَأَذْهَبَ جَنَّتَهُمْ، تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَصَارَتِ الْعَرَبُ تَضْرِبُ بِهِمُ الْأَمْثَالَ، فَتَقُولُ: تَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا. قَالَ الشَّعْبِيُّ:
فَلَحِقَتِ الْأَنْصَارُ بِيَثْرِبَ، وَغَسَّانُ بِالشَّامِ، وَالْأَزْدُ بِعُمَانَ، وَخُزَاعَةُ بِتِهَامَةَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَيْ:
فِيمَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّتِهِمْ وَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ لَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَدَلَالَاتٍ وَاضِحَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَيْ: لِكُلِّ مَنْ هُوَ كَثِيرُ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَخَصَّ الصَّبَّارَ الشَّكُورَ لِأَنَّهُمَا الْمُنْتَفِعَانِ بِالْمَوَاعِظِ وَالْآيَاتِ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ صَدَقَ بِالتَّخْفِيفِ وَرَفْعِ إِبْلِيسُ وَنَصْبِ ظَنَّهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ عَلَى الْمَصْدَرِ:
أَيْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنًّا ظَنَّهُ، أَوْ صَدَقَ فِي ظَنِّهِ، أَوْ عَلَى الظَّرْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُ إِذَا أَغْوَاهُمُ اتَّبَعُوهُ فَوَجَدَهُمْ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وعاصم صَدَّقَ بالتشديد، وظنه بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَيْ صَدَّقَ الظَّنَّ الَّذِي ظَنَّهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: ظَنَّ ظَنًّا فَصَدَّقَ ظَنَّهُ، فَكَانَ كما ظنّ، وقرأ أبو جعفر وأبو الجهجاه وَالزُّهْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «صَدَقَ» بِالتَّخْفِيفِ وَ «إِبْلِيسَ» بِالنَّصْبِ وَ «ظَنُّهُ» بِالرَّفْعِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ عِنْدِي، وَقَدْ أَجَازَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْفَرَّاءُ وَذَكَرَهَا الزَّجَّاجُ، وَجَعَلَ الظَّنَّ: فَاعِلَ صَدَقَ، وَإِبْلِيسَ:
مَفْعُولَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِبْلِيسَ سَوَّلَ لَهُ ظَنُّهُ شَيْئًا فِيهِمْ فَصَدَقَ ظَنُّهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنُّ إِبْلِيسَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ بِرَفْعِهِمَا مَعَ تَخْفِيفِ صَدَقَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ إِبْلِيسَ، قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِأَهْلِ سَبَأٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ، وَقِيلَ هِيَ عَامَّةٌ، أَيْ: صَدَّقَ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إِلَّا من أطاع الله. قال مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ إِنْ أَغْوَاهُمْ أَجَابُوهُ، وَإِنْ أَضَلَّهُمْ أَطَاعُوهُ فَصَدَّقَ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ قَالَ الْحَسَنُ: مَا ضَرَبَهُمْ بِسَوْطٍ ولا بعصا، وإنما ظنّ فكان كما ظنّ بِوَسْوَسَتِهِ، وَانْتِصَابُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الاستثناء، وفيه
370
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُذْنِبُ وَيَنْقَادُ لِإِبْلِيسَ فِي بَعْضِ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ إِلَّا فَرِيقٌ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وقيل المراد بفريقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيَانِيَّةً وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أَيْ: مَا كَانَ لَهُ تُسَلُّطٌ عَلَيْهِمْ: أَيْ لَمْ يَقْهَرْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ منه الدعاء والوسوسة والتزيين، وقيل السلطان: القوّة، وَقِيلَ:
الْحُجَّةُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ لِنَعْلَمَ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، أَيْ: مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ تَسَلُّطٌ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يُؤْمِنُ، وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا أَزَلِيًّا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى إِلَّا لِنَعْلَمَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ، وَقِيلَ إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنْتُمْ، وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاؤُنَا وَالْمَلَائِكَةُ.
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ «إِلَّا لِيُعْلَمَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْعِلْمِ هُنَا عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْإِظْهَارِ كَمَا ذَكَرْنَا وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أَيْ: مُحَافِظٌ عَلَيْهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالشَّكِّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ؟ فَأَذِنَ لِي فِي قِتَالِهِمْ وَأَمَرَنِي، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ أَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّنِي فَقَالَ: ادْعُ الْقَوْمَ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى أُحْدِثَ إِلَيْكَ، وَأُنْزِلَ فِي سَبَأٍ مَا أُنْزِلَ، فَقَالَ رَجُلٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا سَبَأٌ: أَرْضٌ أَمِ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رِجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنَ الْعَرَبِ، فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا: فَلَخْمٌ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا، فَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَحِمْيَرُ وَكِنْدَةُ وَمُذْحِجٌ وَأَنْمَارٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَنْمَارٌ فأزد قَالَ: الَّذِي مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ بِأَخْصَرَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَيْلَ الْعَرِمِ قَالَ: الشَّدِيدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: سَيْلَ الْعَرِمِ وَادٍ كَانَ بِالْيَمَنِ كَانَ يَسِيلُ إِلَى مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أُكُلٍ خَمْطٍ قَالَ:
الْأَرَاكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ قَالَ: تِلْكَ الْمُنَاقَشَةُ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ يَعْنِي: بَيْنَ مَسَاكِنِهِمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها يَعْنِي الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قُرىً ظاهِرَةً يَعْنِي عَامِرَةً مُخْصِبَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ يَعْنِي فِيمَا بَيْنَ مَسَاكِنِهِمْ وَبَيْنَ أَرْضِ الشَّامِ سِيرُوا فِيهَا إِذَا ظَعَنُوا من منازلهم إلى أرض الشام من الأرض الْمُقَدَّسَةِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قَالَ إِبْلِيسُ:
إِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَمِنْ طِينٍ وَمِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ خَلْقًا ضَعِيفًا، وَإِنِّي خُلِقْتُ مِنْ نَارٍ، وَالنَّارُ تُحْرِقُ كُلَّ شَيْءٍ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ فَصَدَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ.
371
ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم، فقال :﴿ فَأَعْرِضُواْ ﴾ عن الشكر، وكفروا بالله، وكذبوا أنبياءهم قال السدّي : بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم، وكذا قال وهب. ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم، فقال :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم ﴾، وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن، فردموا ردماً بين جبلين، وحبسوا الماء. وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الثالث، فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذاً، ففتقت ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء جنتهم فغرقها، ودفن السيل بيوتهم، فهذا هو سيل العرم، وهو جمع عرمة : وهي السكر التي تحبس الماء، وكذا قال قتادة، وغيره. وقال السدّي : العرم اسم للسدّ. والمعنى : أرسلنا عليهم سيل السدّ العرم. وقال عطاء : العرم اسم الوادي. وقال الزجاج : العرم اسم الجرذ الذي نقب السدّ عليهم، وهو الذي يقال له : الخلد : فنسب السيل إليه لكونه سبب جريانه. قال ابن الأعرابي : العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد، وابن أبي نجيح : العرم ماء أحمر أرسله الله في السدّ، فشقه، وهدمه. وقيل : إن العرم اسم المطر الشديد. وقيل : اسم للسيل الشديد، والعرامة في الأصل : الشدّة، والشراسة، والصعوبة. يقال : عرم فلان : إذا تشدّد، وتصعب، وروي عن ابن الأعرابي أنه قال : العرم السيل الذي لا يطاق. وقال المبرّد : العرم كل شيء حاجز بين شيئين.
﴿ وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ ﴾ أي أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة، والأنواع الحسنة، وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما، ولا فائدة لهم فيما هو نابت فيهما، ولهذا قال :﴿ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ قرأ الجمهور بتنوين :﴿ أكل ﴾، وعدم إضافته إلى ﴿ خمط ﴾، وقرأ أبو عمرو بالإضافة. قال الخليل : الخمط الأراك، وكذا قال كثير من المفسرين.
وقال أبو عبيدة : الخمط كل شجرة مرّة ذات شوك. وقال الزجاج : كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. وقال المبرّد : كل شيء تغير إلى ما لا يشتهى يقال له : خمط، ومنه اللبن إذا تغير، وقراءة الجمهور أولى من قراءة أبي عمرو. والخمط نعت لأكل أو بدل منه، لأن الأكل هو : الخمط بعينه. وقال الأخفش : الإضافة أحسن في كلام العرب : مثل ثوب خزّ، ودار آجرّ، والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل ومن معه. قال الجوهري : الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل، وتسمية البدل جنتين للمشاكلة، أو التهكم بهم، والأثل هو : الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره قال : إلاّ أنه أعظم من الطرفاء طولاً، الواحدة أثلة، والجمع أثلاث. وقال الحسن : الأثل الخشب. وقال أبو عبيدة : هو شجر النطار، والأوّل أولى، ولا ثمر للأثل. والسدر شجر معروف. قال الفراء : هو : السمر. قال الأزهري : السدر من الشجر سدران : بريّ لا ينتفع به، ولا يصلح للغسول، وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال. والثاني سدر ينبت على الماء، وثمره النبق، وورقه غسول يشبه شجر العناب، قيل : ووصف السدر بالقلة لأن منه نوعاً يطيب أكله، وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري. قال قتادة : بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره الله من شرّ الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة، وأنبت بدلها الأراك، والطرفاء والسدر. ويحتمل أن يرجع قوله :﴿ قَلِيلٌ ﴾ إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ؟ فأذن لي في قتالهم، وأمرني، فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردّني، فقال :«ادع القوم، فمن أسلم منهم، فاقبل منه، ومن لم يسلم، فلا تعجل حتى أحدث إليك»
وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل يا رسول الله، وما سبأ : أرض أم امرأة ؟ قال :«ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وغسان وعاملة ؛ وأما الذين تيامنوا، فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار» فقال رجل : يا رسول الله، وما أنمار ؟ قال :«الذي منهم خثعم، وبجيلة» وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والطبراني وابن عديّ والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ قال : الشديد. وأخرج ابن جرير عنه قال :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ قال : الأراك. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور ﴾ قال : تلك المناقشة.
وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم ﴾ يعني بين مساكنهم ﴿ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ يعني الأرض المقدّسة ﴿ قُرًى ظاهرة ﴾ يعني عامرة مخصبة ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير ﴾ يعني فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام ﴿ سِيرُواْ فِيهَا ﴾ إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدّسة. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ قال إبليس : إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً، وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء لأحتنكنّ ذرّيته إلاّ قليلاً. قال : فصدّق ظنه عليهم ﴿ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين ﴾ قال : هم المؤمنون كلهم.

والإشارة بقوله :﴿ ذلك ﴾ إلى ما تقدّم من التبديل، أو إلى مصدر ﴿ جزيناهم ﴾ والباء في ﴿ بِمَا كَفَرُواْ ﴾ للسببية، أي ذلك التبديل، أو ذلك الجزاء بسبب كفرهم للنعمة بإعراضهم عن شكرها ﴿ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور ﴾ أي وهل نجازي هذا الجزاء بسلب النعمة، ونزول النقمة إلاّ الشديد الكفر المتبالغ فيه. قرأ الجمهور ( يجازى ) بضم التحتية، وفتح الزاي على البناء للمفعول. وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وحفص بالنون، وكسر الزاي على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه، والكفور على القراءة الأولى مرفوع، وعلى القراءة الثانية منصوب، واختار القراءة الثانية أبو عبيد، وأبو حاتم قالا : لأن قبله ﴿ جزيناهم ﴾، وظاهر الآية : أنه لا يجازى إلاّ الكفور مع كون أهل المعاصي يجازون، وقد قال قوم : إن معنى الآية : أنه لا يجازى هذا الجزاء، وهو الاصطلام والإهلاك إلاّ من كفر. وقال مجاهد : إن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل عمل عمله. وقال طاووس : هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش. وقال الحسن : إن المعنى إنه يجازي الكافر مثلاً بمثل، ورجح هذا الجواب النحاس.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ؟ فأذن لي في قتالهم، وأمرني، فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردّني، فقال :«ادع القوم، فمن أسلم منهم، فاقبل منه، ومن لم يسلم، فلا تعجل حتى أحدث إليك»
وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل يا رسول الله، وما سبأ : أرض أم امرأة ؟ قال :«ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وغسان وعاملة ؛ وأما الذين تيامنوا، فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار» فقال رجل : يا رسول الله، وما أنمار ؟ قال :«الذي منهم خثعم، وبجيلة» وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والطبراني وابن عديّ والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ قال : الشديد. وأخرج ابن جرير عنه قال :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ قال : الأراك. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور ﴾ قال : تلك المناقشة.
وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم ﴾ يعني بين مساكنهم ﴿ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ يعني الأرض المقدّسة ﴿ قُرًى ظاهرة ﴾ يعني عامرة مخصبة ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير ﴾ يعني فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام ﴿ سِيرُواْ فِيهَا ﴾ إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدّسة. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ قال إبليس : إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً، وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء لأحتنكنّ ذرّيته إلاّ قليلاً. قال : فصدّق ظنه عليهم ﴿ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين ﴾ قال : هم المؤمنون كلهم.

﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ هذا معطوف على قوله :﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ ﴾ أي وكان من قصتهم : أنا جعلنا بينهم، وبين القرى التي باركنا فيها بالماء والشجر، وهي قرى الشام ﴿ قُرًى ظاهرة ﴾ أي متواصلة، وكان متجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية، ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد يحملونه من أرضهم إلى الشام، فهذا من جملة الحكاية لما أنعم الله به عليهم.
قال الحسن : إن هذه القرى هي بين اليمن والشام. قيل : إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية. وقيل : هي بين المدينة والشام. وقال المبرّد : القرى الظاهرة هي المعروفة، وإنما قيل لها ظاهرة لظهورها، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة، أي معروفة، يقال هذا أمر ظاهر، أي معروف ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير ﴾ أي جعلنا السير من القرية إلى القرية مقداراً معيناً واحداً، وذلك نصف يوم كما قال المفسرون. قال الفرّاء : أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية، والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام، وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء، ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل نفسه المشقة، بل ينزل أينما أراد. والحاصل : أن الله سبحانه عدّد عليهم النعم، ثم ذكر ما نزل بهم من النقم، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم، وبين ما يريدون السفر إليه، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري كما سيأتي وقوله :﴿ سِيرُواْ فِيهَا ﴾ هو على تقدير القول، أي : وقلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة، فهو أمر تمكين أي : ومكناهم من السير فيها متى شاءوا ﴿ لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ﴾ مما يخافونه، وانتصاب ﴿ ليالي ﴾ و ﴿ أياماً ﴾ على الظرفية. وانتصاب ﴿ آمنين ﴾ على الحال. قال قتادة : كانوا يسيرون غير خائفين، ولا جياع ولا ظمأ، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرّك بعضهم بعضاً، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحرّكه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ؟ فأذن لي في قتالهم، وأمرني، فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردّني، فقال :«ادع القوم، فمن أسلم منهم، فاقبل منه، ومن لم يسلم، فلا تعجل حتى أحدث إليك»
وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل يا رسول الله، وما سبأ : أرض أم امرأة ؟ قال :«ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وغسان وعاملة ؛ وأما الذين تيامنوا، فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار» فقال رجل : يا رسول الله، وما أنمار ؟ قال :«الذي منهم خثعم، وبجيلة» وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والطبراني وابن عديّ والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ قال : الشديد. وأخرج ابن جرير عنه قال :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ قال : الأراك. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور ﴾ قال : تلك المناقشة.
وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم ﴾ يعني بين مساكنهم ﴿ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ يعني الأرض المقدّسة ﴿ قُرًى ظاهرة ﴾ يعني عامرة مخصبة ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير ﴾ يعني فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام ﴿ سِيرُواْ فِيهَا ﴾ إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدّسة. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ قال إبليس : إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً، وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء لأحتنكنّ ذرّيته إلاّ قليلاً. قال : فصدّق ظنه عليهم ﴿ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين ﴾ قال : هم المؤمنون كلهم.

ثم ذكر سبحانه : أنهم لم يشكروا النعمة، بل طلبوا التعب والكد. ﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا ﴾ وكان هذا القول منهم بطراً وطغياناً لما سئموا النعمة، ولم يصبروا على العافية، فتمنوا طول الأسفار، والتباعد بين الديار، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن، والمفاوز والقفار، والبراري المتباعدة الأقطار، فأجابهم الله إلى ذلك، وخرّب تلك القرى المتواصلة، وذهب بما فيها من الخير، والماء والشجر، فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا :﴿ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الارض مِن بَقْلِهَا ﴾ [ البقرة : ٦١ ] الآية مكان المنّ والسلوى، وكقول النضر بن الحارث ﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] الآية. قرأ الجمهور ﴿ ربنا ﴾ بالنصب على أنه منادى مضاف، وقرءوا أيضاً ﴿ باعد ﴾ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن، وهشام عن ابن عامر :( بعد ) بتشديد العين، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلاً ماضياً، فيكون معنى هذه القراءة : الشكوى من بعد الأسفار، وقرأ أبو صالح، ومحمد بن الحنفية، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، ويعقوب ﴿ ربنا ﴾ بالرفع :﴿ باعد ﴾ بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء والخبر.
والمعنى : لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم، قال : لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطراً، وأشراً وكفراً للنعمة. وقرأ يحيى بن يعمر، وعيسى بن عمر :( ربنا ) بالرفع، ( بعد ) بفتح العين مشدّدة، فيكون معنى هذه القراءة : الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء، فيكون هذا من جملة بطرهم، وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله :﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ]. وروى الفرّاء، والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف، والتقدير : بعد سيرنا بين أسفارنا. قال النحاس : وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال : إحداها أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا ا ختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم : أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم، فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرّروا، ولهذا قال سبحانه :﴿ وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ حيث كفروا بالله، وبطروا نعمته، وتعرّضوا لنقمته ﴿ فجعلناهم أَحَادِيثَ ﴾ يتحدّث الناس بأخبارهم. والمعنى : جعلناهم ذوي أحاديث يتحدّث بها من بعدهم تعجباً من فعلهم، واعتباراً بحالهم وعاقبتهم ﴿ ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ أي فرّقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث، وذلك أن الله سبحانه لما أغرق مكانهم، وأذهب جنتهم، تفرّقوا في البلاد، فصارت العرب تضرب بهم الأمثال. فتقول : تفرّقوا أيدي سبا. قال الشعبي : فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَاتٍ ﴾ أي فيما ذكر من قصتهم، وما فعل الله بهم لآيات بينات، ودلالات واضحات ﴿ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ أي لكل من هو كثير الصبر والشكر، وخصّ الصبار الشكور، لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ؟ فأذن لي في قتالهم، وأمرني، فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردّني، فقال :«ادع القوم، فمن أسلم منهم، فاقبل منه، ومن لم يسلم، فلا تعجل حتى أحدث إليك»
وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل يا رسول الله، وما سبأ : أرض أم امرأة ؟ قال :«ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وغسان وعاملة ؛ وأما الذين تيامنوا، فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار» فقال رجل : يا رسول الله، وما أنمار ؟ قال :«الذي منهم خثعم، وبجيلة» وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والطبراني وابن عديّ والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ قال : الشديد. وأخرج ابن جرير عنه قال :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ قال : الأراك. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور ﴾ قال : تلك المناقشة.
وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم ﴾ يعني بين مساكنهم ﴿ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ يعني الأرض المقدّسة ﴿ قُرًى ظاهرة ﴾ يعني عامرة مخصبة ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير ﴾ يعني فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام ﴿ سِيرُواْ فِيهَا ﴾ إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدّسة. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ قال إبليس : إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً، وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء لأحتنكنّ ذرّيته إلاّ قليلاً. قال : فصدّق ظنه عليهم ﴿ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين ﴾ قال : هم المؤمنون كلهم.

﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ قرأ الجمهور :﴿ صدق ﴾ بالتخفيف، ورفع ﴿ إبليس ﴾، ونصب ﴿ ظنه ﴾. قال الزجاج : وهو على المصدر، أي صدق عليهم ظناً ظنه، أو صدق في ظنه، أو على الظرف. والمعنى : أنه ظنّ بهم : أنه إذا أغواهم اتبعوه، فوجدهم كذلك، ويجوز : أن يكون منتصباً على المفعولية، أو بإسقاط الخافض. وقرأ حمزة والكسائي، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وعاصم :﴿ صدق ﴾ بالتشديد، و﴿ ظنه ﴾ بالنصب على أنه مفعول به.
قال أبو عليّ الفارسي : أي صدّق الظنّ الذي ظنه. قال مجاهد : ظنّ ظناً، فصدّق ظنه، فكان كما ظنّ، وقرأ أبو جعفر، وأبو الجهجاء، والزّهري، وزيد بن عليّ :﴿ صدق ﴾ بالتخفيف، و ﴿ إبليس ﴾ بالنصب ﴿ وظنه ﴾ بالرفع، قال أبو حاتم : لا وجه لهذه القراءة عندي، وقد أجاز هذه القراءة الفرّاء، وذكرها الزجاج، وجعل الظنّ فاعل صدّق، وإبليس مفعوله. والمعنى : أن إبليس سوّل له ظنه شيئاً فيهم، فصدّق ظنه، فكأنه قال : ولقد صدّق عليهم ظن إبليس. وروي عن أبي عمرو : أنه قرأ برفعهما مع تخفيف صدق على أن يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس. قيل : وهذه الآية خاصة بأهل سبأ. والمعنى : أنهم غيروا وبدّلوا بعد أن كانوا قد آمنوا بما جاءت به رسلهم. وقيل : هي عامة، أي صدّق إبليس ظنه على الناس كلهم إلاّ من أطاع الله. قاله مجاهد والحسن. قال الكلبي : إنه ظنّ أنه إن أغواهم أجابوه، وإن أضلهم أطاعوه، فصدّق ظنه ﴿ فاتبعوه ﴾ قال الحسن : ما ضربهم بصوت، ولا بعصي، وإنما ظنّ ظناً، فكان كما ظنّ بوسوسته، وانتصاب ﴿ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين ﴾ على الاستثناء، وفيه وجهان : أحدهما : أن يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيراً من المؤمنين يذنب، وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، ولم يسلم منه إلاّ فريق، وهم الذين قال فيهم ﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان ﴾ [ الحجر : ٤٢ ]. وقيل المراد ب﴿ فريقاً من المؤمنين ﴾ المؤمنون كلهم على أن تكون ﴿ من ﴾ بيانية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ؟ فأذن لي في قتالهم، وأمرني، فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردّني، فقال :«ادع القوم، فمن أسلم منهم، فاقبل منه، ومن لم يسلم، فلا تعجل حتى أحدث إليك»
وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل يا رسول الله، وما سبأ : أرض أم امرأة ؟ قال :«ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وغسان وعاملة ؛ وأما الذين تيامنوا، فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار» فقال رجل : يا رسول الله، وما أنمار ؟ قال :«الذي منهم خثعم، وبجيلة» وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والطبراني وابن عديّ والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ قال : الشديد. وأخرج ابن جرير عنه قال :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ قال : الأراك. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور ﴾ قال : تلك المناقشة.
وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم ﴾ يعني بين مساكنهم ﴿ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ يعني الأرض المقدّسة ﴿ قُرًى ظاهرة ﴾ يعني عامرة مخصبة ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير ﴾ يعني فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام ﴿ سِيرُواْ فِيهَا ﴾ إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدّسة. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ قال إبليس : إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً، وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء لأحتنكنّ ذرّيته إلاّ قليلاً. قال : فصدّق ظنه عليهم ﴿ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين ﴾ قال : هم المؤمنون كلهم.

﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان ﴾ أي ما كان له تسلط عليهم، أي لم يقهرهم على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والوسوسة والتزيين. وقيل : السلطان القوّة. وقيل : الحجة، والاستثناء في قوله :﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالأخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا في شَكّ ﴾ منقطع، والمعنى : لا سلطان له عليهم، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم. وقيل : هو متصل مفرّغ من أعم العام : أي ما كان له عليهم تسلط بحال من الأحوال، ولا لعلة من العلل إلاّ ليتميز من يؤمن، ومن لا يؤمن، لأنه سبحانه قد علم ذلك علماً أزلياً. وقال الفرّاء : المعنى إلاّ لنعلم ذلك عندكم. وقيل : إلاّ لتعلموا أنتم، وقيل : ليعلم أولياؤنا والملائكة. وقرأ الزهري. " إلاّ ليعلم " على البناء للمفعول، والأولى حمل العلم هنا على التمييز والإظهار كما ذكرنا ﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْء حَفُيظٌ ﴾ أي محافظ عليه. قال مقاتل : علم كل شيء من الإيمان و الشك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ؟ فأذن لي في قتالهم، وأمرني، فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردّني، فقال :«ادع القوم، فمن أسلم منهم، فاقبل منه، ومن لم يسلم، فلا تعجل حتى أحدث إليك»
وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل يا رسول الله، وما سبأ : أرض أم امرأة ؟ قال :«ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وغسان وعاملة ؛ وأما الذين تيامنوا، فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار» فقال رجل : يا رسول الله، وما أنمار ؟ قال :«الذي منهم خثعم، وبجيلة» وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والطبراني وابن عديّ والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ قال : الشديد. وأخرج ابن جرير عنه قال :﴿ سَيْلَ العرم ﴾ واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ قال : الأراك. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور ﴾ قال : تلك المناقشة.
وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم ﴾ يعني بين مساكنهم ﴿ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ يعني الأرض المقدّسة ﴿ قُرًى ظاهرة ﴾ يعني عامرة مخصبة ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير ﴾ يعني فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام ﴿ سِيرُواْ فِيهَا ﴾ إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدّسة. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ قال إبليس : إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً، وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء لأحتنكنّ ذرّيته إلاّ قليلاً. قال : فصدّق ظنه عليهم ﴿ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين ﴾ قال : هم المؤمنون كلهم.

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٧]

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
قَوْلُهُ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَذَا أَمْرٌ للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ أَوْ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ هَذَا الْقَوْلَ، وَمَفْعُولَا زَعَمْتُمْ مَحْذُوفَانِ، أَيْ: زَعَمْتُمُوهُمْ آلِهَةً لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِمَا. قَالَ مُقَاتِلٌ:
يَقُولُ ادْعُوهُمْ لِيَكْشِفُوا عَنْكُمُ الضُّرَّ الَّذِي نزل بكم في سنّي الْجُوعِ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، وَلَا عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَلَا دَفْعِ ضَرَرٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَكَرَ السموات وَالْأَرْضَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ لِكَوْنِهِمَا ظَرْفًا لِلْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أَيْ: لَيْسَ للآلهة في السموات وَالْأَرْضِ مُشَارَكَةٌ لَا بِالْخَلْقِ وَلَا بِالْمِلْكِ وَلَا بِالتَّصَرُّفِ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أَيْ: وَمَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْآلِهَةِ مِنْ معين يعينه على شيء من أمر السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِمَا وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ أَيْ: شَفَاعَةُ مَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَائِنَةً لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الشَّفَاعَةَ، لَا لِلْكَافِرِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لا تنفع الشفاعة من الشفاء الْمُتَأَهِّلِينَ لَهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَائِنَةً لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَيْ: لِأَجْلِهِ وَفِي شَأْنِهِ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلشَّفَاعَةِ لَهُمْ، لَا مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَاللَّامُ فِي لِمَنْ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ الشَّفَاعَةِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
كَمَا تَقُولُ شَفَعْتُ لَهُ، وَيَجُوزُ أن تتعلق بتنفع، وَالْأَوْلَى أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَحْذُوفِ كَمَا ذَكَرْنَا. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ أَصْلًا إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ النَّفْيَ بِنَفْعِهَا لَا بِوُقُوعِهَا تَصْرِيحًا بِنَفْيِ مَا هُوَ غَرَضُهُمْ مِنْ وُقُوعِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَذِنَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: أَيْ أَذِنَ لَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّ اسْمَهُ سُبْحَانَهُ مَذْكُورٌ قَبْلَ هَذَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْآذِنُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «١» وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «٢» ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ خَوْفِ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ وَالْمَشْفُوعِ لَهُمْ فَقَالَ: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فُزِّعَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ: هُوَ اللَّهُ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ: هُوَ الْجَارُّ والمجرور، وقرأ ابن عامر: فزّع مبنيا لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وكلا القراءتين بتشديد الزاي، وفعّل:
(١). البقرة: ٢٥٥.
(٢). الأنبياء: ٢٨.
372
معناه السلب، فالتقريع إِزَالَةُ الْفَزَعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ مِثْلَ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الزَّايَ. قَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَى فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَزَعِ، وَهُوَ الْخَوْفُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُشِفَ عَنْ قُلُوبِهِمُ الْغِطَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ من دون اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَصْنَامِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَأْذَنُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَنَحْوِهِمْ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَهُمْ عَلَى غَايَةِ الْفَزَعِ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَزِعُوا لِمَا يَقْتَرِنُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ مِنَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ، وَالْخَوْفِ الشَّدِيدِ مِنْ أَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ مِنْ أَقْدَارِ اللَّهِ، فَإِذَا سُرِّيَ عَلَيْهِمْ قالُوا لِلْمَلَائِكَةِ فَوْقَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يُورِدُونَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ بِالْإِذْنِ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ أَيْ: مَاذَا أَمَرَ بِهِ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ قَالَ: الْقَوْلَ الْحَقَّ وَهُوَ قَبُولُ شَفَاعَتِكُمْ لِلْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا دُونَ غَيْرِهِمْ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَيَفْعَلَ مَا يُرِيدُ، وَقِيلَ: هَذَا الْفَزَعُ يَكُونُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَأْمُرُ بِهِ الرَّبُّ. وَالْمَعْنَى: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ فَزِعُونَ الْيَوْمَ مُطِيعُونَ لِلَّهِ، دُونَ الْجَمَادَاتِ وَالشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ هُمُ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ، وَالَّذِينَ أَجَابُوهُمْ: هُمُ الشُّفَعَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَى الْآيَةِ: حَتَّى إِذَا كُشِفَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ:
مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فِي الدُّنْيَا؟ قَالُوا الْحَقَّ، فَأَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ. وَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ وَقَتَادَةُ: فَرَّغَ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْفَرَاغِ. وَالْمَعْنَى: فَرَّغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، أَيْ: كَشَفَ عَنْهَا الْخَوْفَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (افْرُنْقِعَ) بَعْدَ الْفَاءِ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ نُونٌ ثُمَّ قَافٌ ثُمَّ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ مِنَ الِافْرِنْقَاعِ: وَهُوَ التَّفَرُّقُ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُبَكِّتَ الْمُشْرِكِينَ وَيُوَبِّخَهُمْ فَقَالَ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: مَنْ يُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْأَرْزَاقِ الَّتِي تَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَالرِّزْقُ مِنَ السَّمَاءِ: هُوَ الْمَطَرُ وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا: مِنَ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ، وَالرِّزْقُ مِنَ الْأَرْضِ: هُوَ النَّبَاتُ، وَالْمَعَادِنُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى جَوَابِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، وَلَمْ تَقْبَلْ عُقُولُهُمْ نِسْبَةَ هَذَا الرِّزْقِ إِلَى آلِهَتِهِمْ، وَرُبَّمَا يَتَوَقَّفُونَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ مَخَافَةَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ أَيْ:
هُوَ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ من السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْصَافِ فِي الْحُجَّةِ بَعْدَ مَا سَبَقَ تَقْرِيرُ مَنْ هُوَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ هُوَ عَلَى الضَّلَالَةِ، فَقَالَ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الذين يوحدون الله الخالق الرّزاق وَيَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقٍ، وَلَا رِزْقٍ، وَلَا نَفْعٍ، وَلَا ضُرٍّ لَعَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ، وَمَعْلُومٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ مَنْ عَبَدَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيَنْفَعُ وَيَضُرُّ: هُوَ الَّذِي عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ عَبَدَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقٍ وَلَا رِزْقٍ وَلَا نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ: هُوَ الَّذِي عَلَى الضَّلَالَةِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ بَيَانَ فَرِيقِ الْهُدَى، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَفَرِيقِ الضَّلَالَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ مِنَ التَّصْرِيحِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَعْنَى قَوْلِ الْمُتَبَصِّرِ فِي الْحُجَّةِ لِصَاحِبِهِ: أَحَدُنَا كَاذِبٌ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُ الصَّادِقُ الْمُصِيبُ، وَصَاحِبَهُ الكاذب المخطئ. قال: وأو عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى بَابِهَا وَلَيْسَتْ لِلشَّكِّ، لَكِنَّهَا عَلَى مَا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي مِثْلِ هَذَا إذا
373
لَمْ يُرِدِ الْمُخْبِرُ أَنْ يُبَيِّنَ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِنَّا عَلَى هُدًى وَإِيَّاكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أو رياحا عدلت بهم طهيّة والخشابا «١»
أي ثعلبة ورياحا، وَكَذَا قَوْلُ الْآخَرِ:
فَلَمَّا اشْتَدَّ بَأْسُ الْحَرْبِ فينا تأمّلنا رياحا أَوْ رِزَامَا
أَيْ: وَرِزَامًا، وَقَوْلُهُ: أَوْ إِيَّاكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَخَبَرُهَا: هُوَ الْمَذْكُورُ، وَحُذِفَ خَبَرُ الثَّانِي لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَيْ: إِنَّا لَعَلَى هُدًى، أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَإِنَّكُمْ لَعَلَى هُدًى، أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ:
وَهُوَ كَوْنُ الْمَذْكُورِ خَبَرَ الثَّانِي، وَخَبَرِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «٢» ثُمَّ أَرْدَفَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْكَلَامَ الْمُنْصِفَ بِكَلَامٍ أَبْلَغَ مِنْهُ فِي الْإِنْصَافِ، وَأَبْعَدَ مِنَ الْجَدَلِ والمشاغبة فقال: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أَيْ: إِنَّمَا أَدْعُوكُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَنَفْعٌ، وَلَا يَنَالُنِي مِنْ كُفْرِكُمْ وَتَرْكِكُمْ لِإِجَابَتِي ضَرَرٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «٣» وَفِي إِسْنَادِ الْجُرْمِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَنِسْبَةِ مُطْلَقِ الْعَمَلِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، مَعَ كَوْنِ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْبِرِّ الْخَالِصِ وَالطَّاعَةِ الْمَحْضَةِ، وَأَعْمَالِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْبَيِّنَةِ، وَالْإِثْمِ الْوَاضِحِ مِنَ الْإِنْصَافِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ. وَالْمَقْصُودُ: الْمُهَادَنَةُ وَالْمُتَارَكَةُ، وَقَدْ نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمْثَالُهَا بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ فَقَالَ: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أَيْ: يَحْكُمُ وَيَقْضِي بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، فَيُثِيبُ الْمُطِيعَ، وَيُعَاقِبُ الْعَاصِيَ وَهُوَ الْفَتَّاحُ أَيْ: الْحَاكِمُ بِالْحَقِّ الْقَاضِي بِالصَّوَابِ الْعَلِيمُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ. وَهَذِهِ أَيْضًا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً أُخْرَى يُظْهِرُ بِهَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ فَقَالَ: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أَيْ: أَرَوْنِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمُوهُمْ بِاللَّهِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَهِذِهِ الرُّؤْيَةُ: هِيَ الْقَلْبِيَّةُ، فَيَكُونُ شُرَكَاءَ: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّالِثُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ تَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى ثَلَاثَةٍ. الْأَوَّلُ: الْيَاءُ فِي أَرَوْنِيَ، وَالثَّانِي: الْمَوْصُولُ، وَالثَّالِثُ: شُرَكَاءَ، وَعَائِدُ الْمَوْصُولِ:
مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَلْحَقْتُمُوهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْبَصَرِيَّةُ، وَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِالْهَمْزَةِ إِلَى اثْنَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْيَاءُ، وَالثَّانِي: الْمَوْصُولُ، وَيَكُونُ شُرَكَاءَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَأَبْطَلَ ذَلِكَ فَقَالَ:
كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: ارْتَدِعُوا عَنْ دَعْوَى الْمُشَارَكَةِ، بَلِ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، الْحَكِيمُ بِالْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالَ: جُلِّيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَوْحَى الْجَبَّارُ إلى محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دَعَا الرَّسُولَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَبْعَثَهُ بِالْوَحْيِ،
(١). ثعلبة ورياح: ممدوحا جرير، وطهية والخشاب: مهجوا جرير. [ديوان جرير: ٥٨].
(٢). التوبة: ٦٢.
(٣). الكافرون: ٦.
374
﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ ﴾ أي شفاعة من يشفع عنده من الملائكة، وغيرهم، وقوله :﴿ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلاّ كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين، ونحوهم من أهل العلم والعمل، ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلاّ لمن يستحق الشفاعة، لا للكافرين، ويجوز أن يكون المعنى : لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلاّ كائنة لمن أذن له، أي لأجله، وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم، لا من عداهم من غير المستحقين لها، واللام في :﴿ لمن ﴾ يجوز أن تتعلق بنفس الشفاعة. قال أبو البقاء : كما تقول شفعت له، ويجوز أن تتعلق بتنفع، والأولى أنها متعلقة بالمحذوف كما ذكرنا. قيل : والمراد بقوله :﴿ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة ﴾ أنها لا توجد أصلاً إلاّ لمن أذن له، وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحاً بنفي ما هو غرضهم من وقوعها. قرأ الجمهور ﴿ أذن ﴾ بفتح الهمزة، أي أذن له الله سبحانه، لأن اسمه سبحانه مذكور قبل هذا، وقرأ أبو عمرو وحمزة، والكسائي بضمها على البناء للمفعول، والآذن هو الله سبحانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى :﴿ مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ]، وقوله :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ]، ثم أخبر سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء والمشفوع لهم، فقال :﴿ حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ قرأ الجمهور ﴿ فزّع ﴾ مبنياً للمفعول، والفاعل هو الله، والقائم مقام الفاعل هو الجارّ والمجرور، وقرأ ابن عامر :( فزّع ) مبنياً للفاعل، وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه، وكلا القراءتين بتشديد الزاي، وفعل معناه السلب، فالتفزيع إزالة الفزع. وقرأ الحسن مثل قراءة الجمهور إلاّ أنه خفّف الزاي.
قال قطرب : معنى فزّع عن قلوبهم : أخرج ما فيها من الفزع، وهو : الخوف. وقال مجاهد : كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة. والمعنى : أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة، والأنبياء والأصنام، إلاّ أن الله سبحانه يأذن للملائكة والأنبياء، ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها، وهم على غاية النزع من الله كما قال تعالى :﴿ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ]، فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل، والخوف الشديد من أن يحدث شيء من أقدار الله، فإذا سرّي عليهم ﴿ قَالُواْ ﴾ للملائكة فوقهم، وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن ﴿ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ﴾ أي ماذا أمر به، فيقولون لهم : قال : القول ﴿ الحق ﴾ وهو قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم ﴿ وَهُوَ العلى الكبير ﴾ فله أن يحكم في عباده بما يشاء، ويفعل ما يريد. وقيل : هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الربّ. والمعنى : لا تنفع الشفاعة إلاّ من الملائكة الذين هم فزعون اليوم مطيعون لله، دون الجمادات والشياطين. وقيل : إن الذين يقولون : ماذا قال ربكم هم المشفوع لهم، والذين أجابوهم : هم الشفعاء من الملائكة والأنبياء. وقال الحسن وابن زيد ومجاهد : معنى الآية : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة. قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا : الحقّ، فأقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار. وقرأ ابن عمر وقتادة :( فرّغ ) بالراء المهملة، والغين المعجمة من الفراغ. والمعنى : فرغ الله قلوبهم : أي كشف عنها الخوف. وقرأ ابن مسعود :( افرنقع ) بعد الفاء راء مهملة ثم نون، ثم قاف ثم عين مهملة من الافرنقاع، وهو التفرّق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ قال : جلّى. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال : لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة : ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا الحقّ، وعلموا أن الله لا يقول إلاّ حقاً. قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوا خرّوا سجداً، فلما رفعوا رؤوسهم ﴿ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلى الكبير ﴾. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة، فيفزع له جميع أهل السماوات، فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون :﴿ الحق وهو العليّ الكبير ﴾. وأخرج البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : للذي قال الحقّ وهو العليّ الكبير» الحديث، وفي معناه أحاديث. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبِينٍ ﴾ قال : نحن على هدى، وإنكم لفي ضلال مبين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال :﴿ الفتاح ﴾ القاضي.
ثم أمر الله سبحانه رسوله : أن يبكت المشركين، ويوبخهم، فقال :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السموات والأرض ﴾ أي من ينعم عليكم بهذه الأرزاق التي تتمتعون بها، فإن آلهتكم لا يملكون مثقال ذرة، والرّزق من السماء هو المطر، وما ينتفع به منها من الشمس، والقمر، والنجوم، والرّزق من الأرض هو النبات، والمعادن ونحو ذلك، ولما كان الكفار لا يقدرون على جواب هذا الاستفهام، ولم تقبل عقولهم نسبة هذا الرّزق إلى آلهتهم، وربما يتوقفون في نسبته إلى الله مخافة أن تقوم عليهم الحجة، فأمر الله رسوله بأن يجيب عن ذلك، فقال :﴿ قُلِ الله ﴾ أي هو الذي يرزقكم من السماوات والأرض، ثم أمره سبحانه أن يخبرهم بأنهم على ضلالة، لكن على وجه الإنصاف في الحجة بعد ما سبق تقرير من هو على الهدى، ومن هو على الضلالة، فقال :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبِينٍ ﴾ والمعنى : أن أحد الفريقين من الذين يوحدون الله الخالق الرّازق، ويخصونه بالعبادة، والذين يعبدون الجمادات التي لا تقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضرّ لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلالة، ومعلوم لكلّ عاقل أن من عبد الذي يخلق، ويرزق وينفع ويضرّ هو الذي على الهدى، ومن عبد الذي لا يقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضرّ هو الذي على الضلالة، فقد تضمن هذا الكلام بيان فريق الهدى، وهم المسلمون، وفريق الضلالة، وهم المشركون على وجه أبلغ من التصريح.
قال المبرّد : ومعنى هذا الكلام معنى قول المتبصر في الحجة لصاحبه : أحدنا كاذب، وقد عرف : أنه الصادق المصيب، وصاحبه الكاذب المخطىء. قال : و " أو " عند البصريين على بابها، وليست للشكّ، لكنها على ما تستعمله العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين، وهو عالم بالمعنى. وقال أبو عبيدة، والفرّاء : هي بمعنى : الواو، وتقديره : وإنا على هدى، وإياكم لفي ضلال مبين، ومنه قول جرير :
أثعلبة الفوارس أو رباحا عدلت بهم طهية والربابا
أي ثعلبة ورباحاً، وكذا قول الآخر :
فلما اشتد بأس الحرب فينا تأملنا رباحاً أو رزاما
أي : ورزاماً، وقوله :﴿ أو إياكم ﴾ معطوف على اسم إن وخبرها هو المذكور، وحذف خبر الثاني للدلالة عليه، أي إنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، وإنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ويجوز العكس : وهو كون المذكور خبر الثاني، وخبر الأوّل محذوفاً، كما تقدّم في قوله :﴿ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ [ التوبة : ٦٢ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ قال : جلّى. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال : لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة : ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا الحقّ، وعلموا أن الله لا يقول إلاّ حقاً. قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوا خرّوا سجداً، فلما رفعوا رؤوسهم ﴿ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلى الكبير ﴾. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة، فيفزع له جميع أهل السماوات، فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون :﴿ الحق وهو العليّ الكبير ﴾. وأخرج البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : للذي قال الحقّ وهو العليّ الكبير» الحديث، وفي معناه أحاديث. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبِينٍ ﴾ قال : نحن على هدى، وإنكم لفي ضلال مبين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال :﴿ الفتاح ﴾ القاضي.
ثم أردف سبحانه هذا الكلام المنصف بكلام أبلغ منه في الإنصاف، وأبعد من الجدل والمشاغبة، فقال :﴿ قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ أي إنما أدعوكم إلى ما فيه خير لكم ونفع، ولا ينالني من كفركم، وترككم لإجابتي ضرر، وهذا كقوله سبحانه :﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ ﴾ [ الكافرون : ٦ ]، وفي إسناد الجرم إلى المسلمين، ونسبة مطلق العمل إلى المخاطبين، مع كون أعمال المسلمين من البرّ الخالص، والطاعة المحضة، وأعمال الكفار من المعصية البينة، والإثم الواضح من الإنصاف ما لا يقادر قدره. والمقصود : المهادنة والمتاركة، وقد نسخت هذه الآية، وأمثالها بآية السيف.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ قال : جلّى. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال : لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة : ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا الحقّ، وعلموا أن الله لا يقول إلاّ حقاً. قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوا خرّوا سجداً، فلما رفعوا رؤوسهم ﴿ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلى الكبير ﴾. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة، فيفزع له جميع أهل السماوات، فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون :﴿ الحق وهو العليّ الكبير ﴾. وأخرج البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : للذي قال الحقّ وهو العليّ الكبير» الحديث، وفي معناه أحاديث. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبِينٍ ﴾ قال : نحن على هدى، وإنكم لفي ضلال مبين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال :﴿ الفتاح ﴾ القاضي.
ثم أمره سبحانه بأن يهدّدهم بعذاب الآخرة، لكن على وجه لا تصريح فيه، فقال :﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ﴾ أي يوم القيامة ﴿ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق ﴾ أي يحكم، ويقضي بيننا الحقّ، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي ﴿ وَهُوَ الفتاح ﴾ أي الحاكم بالحقّ القاضي بالصواب ﴿ العليم ﴾ بما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح. وهذه أيضاً منسوخة بآية السيف.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ قال : جلّى. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال : لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة : ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا الحقّ، وعلموا أن الله لا يقول إلاّ حقاً. قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوا خرّوا سجداً، فلما رفعوا رؤوسهم ﴿ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلى الكبير ﴾. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة، فيفزع له جميع أهل السماوات، فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون :﴿ الحق وهو العليّ الكبير ﴾. وأخرج البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : للذي قال الحقّ وهو العليّ الكبير» الحديث، وفي معناه أحاديث. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبِينٍ ﴾ قال : نحن على هدى، وإنكم لفي ضلال مبين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال :﴿ الفتاح ﴾ القاضي.
ثم أمره سبحانه : أن يورد عليهم حجة أخرى يظهر بها ما هم عليه من الخطأ، فقال :﴿ قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء ﴾ أي أروني الذين ألحقتموهم بالله شركاء له، وهذه الرؤية هي القلبية، فيكون ﴿ شركاء ﴾ هو المفعول الثالث، لأن الفعل تعدّى بالهمزة إلى ثلاثة. الأوّل : الياء في ﴿ أروني ﴾، والثاني : الموصول، والثالث :﴿ شركاء ﴾، وعائد الموصول محذوف : أي ألحقتموهم، ويجوز أن تكون هي البصرية، وتعدّى الفعل بالهمزة إلى اثنين : الأوّل الياء، والثاني الموصول، ويكون ﴿ شركاء ﴾ منتصباً على الحال. ثم ردّ عليهم ما يدعونه من الشركاء، وأبطل ذلك، فقال :﴿ كَلاَّ بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم ﴾ أي ارتدعوا عن دعوى المشاركة، بل المنفرد بالإلهية، هو الله العزيز بالقهر والغلبة، الحكيم بالحكمة الباهرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ قال : جلّى. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال : لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة : ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا الحقّ، وعلموا أن الله لا يقول إلاّ حقاً. قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوا خرّوا سجداً، فلما رفعوا رؤوسهم ﴿ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلى الكبير ﴾. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة، فيفزع له جميع أهل السماوات، فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون :﴿ الحق وهو العليّ الكبير ﴾. وأخرج البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : للذي قال الحقّ وهو العليّ الكبير» الحديث، وفي معناه أحاديث. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبِينٍ ﴾ قال : نحن على هدى، وإنكم لفي ضلال مبين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال :﴿ الفتاح ﴾ القاضي.
فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ صَوْتَ الْجَبَّارِ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ، فَلَمَّا كشف عن قلوبهم سئلوا عَمَّا قَالَ اللَّهُ، فَقَالُوا الْحَقَّ، وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَوْتُ الْوَحْيِ كَصَوْتِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَا، فلما سمعوا خرّوا سجدا، فلما رفعوا رؤوسهم قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَنْزِلُ الْأَمْرُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَهُ وَقْعَةٌ كَوَقْعَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّخْرَةِ، فَيَفْزَعُ له جميع أهل السموات فَيَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُونَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» الْحَدِيثَ وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ: نَحْنُ عَلَى هُدًى، وَإِنَّكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (الْفَتَّاحُ) الْقَاضِي.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٣]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
فِي انْتِصَابِ كَافَّةً وُجُوهٌ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكَافِ فِي أَرْسَلْناكَ قَالَ الزَّجَّاجُ:
أَيْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا جَامِعًا لِلنَّاسِ بِالْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ، وَالْكَافَّةُ بِمَعْنَى الْجَامِعُ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلَّامَةٍ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: أَمَّا قَوْلُ الزَّجَّاجِ إِنَّ كَافَّةً بِمَعْنَى جَامِعًا، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَفَّ لَيْسَ مَعْنَاهُ جَمَعَ، بَلْ مَعْنَاهُ مَنَعَ. يُقَالُ كَفَّ يكف: مَنَعَ يَمْنَعُ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْهُ الْكَفُّ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ خُرُوجِ مَا فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالْهَاءُ: لِلْمُبَالَغَةِ، كَالْعَاقِبَةِ، وَالْعَافِيَةِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهَا صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِلَّا رِسَالَةً كَافَّةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ حَالَ مِنَ النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ الْحَالَ مِنَ الْمَجْرُورِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَابْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
375
إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ السِّيَادَةُ نَاشِئًا فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عَلَيْهِ عَسِيرُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمْ بَعْدَ بَيْنِكُمْ بِذِكْرَاكُمْ حَتَّى كَأَنَّكُمْ عِنْدِي
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
غَافِلًا تَعْرِضُ الْمُنْيَةُ لِلْمَرْ ءِ فَيُدْعَى وَلَاتَ حِينَ إِبَاءِ
وَمِمَّنْ رَجَّحَ كَوْنَهَا حَالًا مِنَ الْمَجْرُورِ بَعْدَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ: قُدِّمَتْ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّقَوِّي، وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِلَّا ذَا كَافَّةٍ، أَيْ: ذَا مَنْعٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. قِيلَ: وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ بِمَعْنَى: إِلَى، أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَى النَّاسِ إِلَّا جَامِعًا لَهُمْ بِالْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ، أَوْ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَانْتِصَابُ بَشِيراً وَنَذِيراً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُبَشِّرًا لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرًا لَهُمْ مِنَ النَّارِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ما عند الله وما لهم مِنَ النَّفْعِ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ: مَتَى يَكُونُ هَذَا الْوَعْدُ الَّذِي تَعِدُونَا بِهِ وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ أَخْبِرُونَا بِهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ فَقَالَ: قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ أَيْ: مِيقَاتُ يَوْمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: وَقْتُ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: أَرَادَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَيَجُوزُ فِي مِيعَادُ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُرَادًا بِهِ الْوَعْدُ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ زَمَانٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْمِيعَادُ بِمَعْنًى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِتَنْوِينِ مِيعادُ وَرَفْعِهِ، وَنَصْبِ «يَوْمٍ» عَلَى أَنْ يَكُونَ مِيعَادٌ مُبْتَدَأً، وَيَوْمًا ظَرْفٌ، وَالْخَبَرُ لَكُمْ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِرَفْعِ «مِيعَادُ» مَنَوَّنًا، وَنَصْبِ «يَوْمٍ» مُضَافًا إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ. وَأَجَازَ النَّحْوِيُّونَ مِيعادُ يَوْمٍ بِرَفْعِهِمَا مُنَوَّنَيْنِ عَلَى أَنَّ مِيعَادٌ مُبْتَدَأٌ وَيَوْمٌ بَدَلٌ مِنْهُ، وَجُمْلَةُ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ صفة لميعاد، أَيْ: هَذَا الْمِيعَادُ الْمَضْرُوبُ لَكُمْ لَا تَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ وَلَا تَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ وُقُوعَهُ فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ طَرَفًا مِنْ قَبَائِحِ الْكُفَّارِ، وَنَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ فَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَهِيَ: الْكُتُبُ الْقَدِيمَةُ، كالتوراة والإنجيل، والرسل المتقدّمون. وقيل:
المراد بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ الدَّارُ الْآخِرَةُ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَمَعْنَى مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ: مَحْبُوسُونَ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أَيْ: يَتَرَاجَعُونَ الْكَلَامَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِاللَّوْمِ وَالْعِتَابِ بَعْدَ أَنْ كانوا في الدنيا متعاضدين مُتَنَاصِرِينَ مُتَحَابِّينَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْمُرَاجَعَةَ فَقَالَ: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وَهُمُ الْأَتْبَاعُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ الْمَتْبُوعُونَ لَوْلا أَنْتُمْ صَدَدْتُمُونَا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالِاتِّبَاعِ لِرَسُولِهِ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ مُصَدِّقِينَ لِرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا مُجِيبِينَ عَلَيْهِمْ مُسْتَنْكِرِينَ لِمَا قَالُوهُ أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى أَيْ: مَنَعْنَاكُمْ عَنِ الإيمان
376
بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الْهُدَى، قَالُوا هَذَا مُنْكِرِينَ لِمَا ادَّعَوْهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّدِّ لَهُمْ، وَجَاحِدِينَ لِمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنُوا أَنَّهُمُ الصَّادُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ، الْمُمْتَنِعُونَ مِنَ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالُوا: بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أَيْ: مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ، كَثِيرِي الْإِجْرَامِ، عَظِيمِي الْآثَامِ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا رَدًّا لِمَا أَجَابُوا بِهِ عَلَيْهِمْ، وَدَفْعًا لِمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِمْ مِنْ صَدِّهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَصْلُ الْمَكْرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخَدِيعَةُ وَالْحِيلَةُ، يُقَالُ: مَكَرَ بِهِ إِذَا خَدَعَهُ وَاحْتَالَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: بَلْ مَكْرُكُمْ بِنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، وَأُقِيمَ الظَّرْفُ مَقَامَهُ اتِّسَاعًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بَلْ مَكْرُكُمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَدُعَاؤُكُمْ لَنَا إِلَى الْكُفْرِ هُوَ الَّذِي حَمَلَنَا عَلَى هَذَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَلْ عَمَلُكُمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَاكِرَيْنِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. قَالَ الْمَبَرِّدُ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَلَيْلُهُ قَائِمٌ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ جَرِيرٍ:
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى وَنِمْتِ وَمَا ليل المطيّ بنائم
وأنشد سيبويه:
فنام لَيْلِي وَتَجَلِّي هَمِّي وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ بِرَفْعِ «مَكْرٌ» مُنَوَّنًا، وَنَصْبِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ مَكْرٌ كَائِنٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو رَزِينٍ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مُضَافًا بِمَعْنَى الْكُرُورِ، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ إِذَا جَاءَ وَذَهَبَ، وَارْتِفَاعُ مَكْرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ صَدَّنَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ صَدَّنَا مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأَخْفَشِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ رَاشِدٍ كَمَا قَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَلَكِنَّهُ نَصَبَ مَكْرُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: بَلْ تُكَرِّرْنَ الْإِغْوَاءَ مَكْرًا دَائِمًا لَا تَفْتُرُونَ عَنْهُ، وَانْتِصَابُ إِذْ تَأْمُرُونَنا عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْمَكْرِ، أَيْ: بَلْ مَكْرُكُمْ بِنَا وَقْتَ أَمْرِكُمْ لَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أَيْ: أَشْبَاهًا وَأَمْثَالًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ يُقَالُ نِدُّ فُلَانٍ فُلَانٌ:
أَيْ مِثْلُهُ وَأَنْشَدَ:
أَتَيْمًا تَجْعَلُونَ إليّ ندّا وما تيم لذي حَسَبٍ نَدِيدِ
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ رَاجِعٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ: أَضْمَرَ الْفَرِيقَانِ النَّدَامَةَ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْكُفْرِ وَأَخْفَوْهَا عَنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ أَخْفَاهَا كُلٌّ مِنْهُمْ عَنِ الْآخَرِ مَخَافَةَ الشَّمَاتَةِ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِأَسَرُّوا هُنَا أَظْهَرُوا لِأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ يَكُونُ تَارَةً بِمَعْنَى الْإِخْفَاءِ، وَتَارَةً بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍ عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي
وقيل معنى: أسروا الندامة: تَبَيَّنَتِ النَّدَامَةُ فِي أَسِرَّةِ وُجُوهِهِمْ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْأَغْلَالُ جَمْعُ غُلٍّ، يُقَالُ فِي رَقَبَتِهِ غُلٌّ مِنْ حَدِيدٍ، أَيْ: جُعِلَتِ الْأَغْلَالُ مِنَ الْحَدِيدِ فِي أَعْنَاقِ هَؤُلَاءِ
377
﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين ﴾ أي متى يكون هذا الوعد الذي تعدونا به، وهو : قيام الساعة أخبرونا به إن كنتم صادقين. قالوا : هذا على طريقة الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عنهم، فقال :﴿ قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ ﴾ أي ميقات يوم وهو يوم البعث. وقيل : وقت حضور الموت. وقيل : أراد يوم بدر ؛ لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا، وعلى كل تقدير، فهذه الإضافة للبيان، ويجوز في ميعاد : أن يكون مصدراً مراداً به الوعد، وأن يكون اسم زمان. قال أبو عبيدة : الوعد والوعيد والميعاد بمعنى. وقرأ ابن أبي عبلة بتنوين :﴿ ميعاد ﴾ ورفعه، ونصب ﴿ يوم ﴾ على أن يكون ميعاد مبتدأ، ويوماً ظرف، والخبر لكم. وقرأ عيسى بن عمر برفع ﴿ ميعاد ﴾ منوّناً، ونصب ﴿ يوم ﴾ مضافاً إلى الجملة بعده. وأجاز النحويون ﴿ ميعاد يوم ﴾ برفعهما منوّنين على أن ميعاد مبتدأ، ويوم بدل منه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾ قال : إلى الناس جميعاً. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : أرسل الله محمداً إلى العرب، والعجم، فأكرمهم على الله أطوعهم له. وأخرج هؤلاء عنه في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان ﴾ قال : هذا قول مشركي العرب كفروا بالقرآن، وبالذي بين يديه من الكتب، والأنبياء.
وجملة :﴿ لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ ﴾ صفة لميعاد، أي هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه، ولا تتقدّمون عليه، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قد قدّر الله وقوعه فيه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾ قال : إلى الناس جميعاً. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : أرسل الله محمداً إلى العرب، والعجم، فأكرمهم على الله أطوعهم له. وأخرج هؤلاء عنه في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان ﴾ قال : هذا قول مشركي العرب كفروا بالقرآن، وبالذي بين يديه من الكتب، والأنبياء.
ثم ذكر سبحانه طرفاً من قبائح الكفار، ونوعاً من أنواع كفرهم، فقال :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ وهي الكتب القديمة، كالتوراة والإنجيل والرسل المتقدّمون. وقيل : المراد بالذي بين يديه الدار الآخرة. ثم أخبر سبحانه عن حالهم في الآخرة، فقال :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ ﴾ الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، ومعنى ﴿ موقوفون عند ربهم ﴾ : محبوسون في موقف الحساب ﴿ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول ﴾ أي يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب، بعد أن كانوا في الدنيا متعادضين متناصرين متحابين. ثم بيّن سبحانه تلك المراجعة، فقال :﴿ يَقُولُ الذين استضعفوا ﴾ وهم الأتباع ﴿ لِلَّذِينَ استكبروا ﴾ وهم الرؤساء المتبوعون ﴿ لَوْلاَ أَنتُمْ ﴾ صددتمونا عن الإيمان بالله، والاتباع لرسوله ﴿ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ بالله مصدّقين لرسوله وكتابه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾ قال : إلى الناس جميعاً. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : أرسل الله محمداً إلى العرب، والعجم، فأكرمهم على الله أطوعهم له. وأخرج هؤلاء عنه في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان ﴾ قال : هذا قول مشركي العرب كفروا بالقرآن، وبالذي بين يديه من الكتب، والأنبياء.
﴿ قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا ﴾ مجيبين عليهم مستنكرين لما قالوه ﴿ أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى ﴾ أي منعناكم عن الإيمان ﴿ بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ ﴾ الهدى، قالوا هذا منكرين لما ادّعوه عليهم من الصدّ لهم، وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك، ثم بينوا لهم أنهم الصادّون لأنفسهم، الممتنعون من الهدى بعد إذ جاءهم، فقالوا :﴿ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ ﴾ أي مصرّين على الكفر، كثيري الإجرام، عظيمي الآثام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾ قال : إلى الناس جميعاً. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : أرسل الله محمداً إلى العرب، والعجم، فأكرمهم على الله أطوعهم له. وأخرج هؤلاء عنه في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان ﴾ قال : هذا قول مشركي العرب كفروا بالقرآن، وبالذي بين يديه من الكتب، والأنبياء.
﴿ وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا ﴾ ردّاً لما أجابوا به عليهم، ودفعاً لما نسبوه إليهم من صدّهم لأنفسهم ﴿ بَلْ مَكْرُ اليل والنهار ﴾ أصل المكر في كلام العرب : الخديعة والحيلة، يقال : مكر به إذا خدعه واحتال عليه. والمعنى : بل مكركم بنا الليل والنهار، فحذف المضاف إليه، وأقيم الظرف مقامه اتساعاً. وقال الأخفش : هو على تقدير هذا مكر الليل والنهار. قال النحاس : المعنى والله أعلم، بل مكركم في الليل والنهار، ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا. وقال سفيان الثوري : بل عملكم في الليل والنهار، ويجوز أن يجعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرّر في علم المعاني. قال المبرّد كما تقول العرب : نهاره صائم، وليله قائم، وأنشد قول جرير :
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السرى ونمت وما ليل المطيّ بنائم
وأنشد سيبويه :
* قيام ليلي وتجلي همي *
وقرأ قتادة، ويحيى بن يعمر برفع ﴿ مكر ﴾ منوّناً، ونصب ﴿ الليل والنهار ﴾، والتقدير : بل مكر كائن في الليل والنهار. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو رزين بفتح الكاف، وتشديد الراء مضافاً بمعنى : الكرور، من كرّ يكرّ إذا جاء وذهب، وارتفاع ﴿ مكر ﴾ على هذه القراءات على أنه مبتدأ وخبره محذوف، أي : مكر الليل والنهار صدّنا، أو على أنه فاعل لفعل محذوف، أي صدّنا مكر الليل والنهار، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كما تقدّم عن الأخفش.
وقرأ طلحة بن راشد كما قرأ سعيد بن جبير، ولكنه نصب مكر على المصدرية، أي بل تكرّرت الإغواء مكرًّا دائماً لا تفترون عنه، وانتصاب ﴿ إِذْ تَأْمُرُونَنَا ﴾ على أنه ظرف للمكر، أي بل مكركم بنا وقت أمركم لنا ﴿ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾ أي أشباهاً وأمثالاً. قال المبرد : يقال ندّ فلان فلان، أي مثله، وأنشد :
أتيما تجعلون إليّ ندًّا وما تيم بذي حسب نديد
والضمير في قوله :﴿ وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب ﴾ راجع إلى الفريقين : أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر، وأخفوها عن غيرهم، أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة. وقيل : المراد بأسرّوا هنا أظهروا ؛ لأنه من الأضداد يكون، تارة بمعنى الإخفاء، وتارة بمعنى الإظهار، ومنه قول امرؤ القيس :
تجاوزت أحراساً وأهوال معشر عليّ حراص لو يسرون مقتلي
وقيل : معنى ﴿ أسروا الندامة ﴾ تبينت الندامة في أسرّة وجوههم ﴿ وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ ﴾ الأغلال جمل غلّ، يقال : في رقبته غلّ من حديد، أي جعلت الأغلال من الحديد في أعناق هؤلاء في النار، والمراد بالذين كفروا : هم المذكورون سابقاً، والإظهار لمزيد الذمّ، أو للكفار على العموم، فيدخل هؤلاء فيهم دخولاً أوّلياً ﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي إلاّ جزاء ما كانوا يعملونه من الشرك بالله، أو إلاّ بما كانوا يعملون على حذف الخافض.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾ قال : إلى الناس جميعاً. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : أرسل الله محمداً إلى العرب، والعجم، فأكرمهم على الله أطوعهم له. وأخرج هؤلاء عنه في قوله :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان ﴾ قال : هذا قول مشركي العرب كفروا بالقرآن، وبالذي بين يديه من الكتب، والأنبياء.
فِي النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمُ الْمَذْكُورُونَ سَابِقًا، وَالْإِظْهَارُ لِمَزِيدِ الذَّمِّ، أَوْ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: إِلَّا جَزَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، أَوْ إِلَّا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى حَذْفِ الْخَافِضِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ قَالَ: إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ لَهُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ قَالَ: هَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ وبالذي بين يديه من الكتب والأنبياء.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٤٢]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)
لَمَّا قَصَّ سُبْحَانَهُ حَالَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ أَتْبَعَهُ بِمَا فِيهِ التَّسْلِيَةُ لِرَسُولِهِ، وَبَيَانِ أَنَّ كُفْرَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ بِمَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الرُّسُلِ هُوَ كَائِنٌ مُسْتَمِرٌّ فِي الْأَعْصُرِ الْأُوَلِ فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى مِنْ نَذِيرٍ يُنْذِرُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ عِقَابَ اللَّهِ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أَيْ: رُؤَسَاؤُهَا وَأَغْنِيَاؤُهَا وَجَبَابِرَتُهَا وَقَادَةُ الشَّرِّ لِرُسُلِهِمْ إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أَيْ: بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، وَجُمْلَةُ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا افْتَخَرُوا بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَقَاسُوا حَالَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى حَالِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ فَقَالَ: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَنَا عَلَيْكُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يدل على أنه قد رضي ما نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ إِحْسَانِهِ إِلَيْنَا فِي الدُّنْيَا، وَرِضَاهُ عَنَّا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ وَقَالَ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أَنْ يَبْسُطَهُ لَهُ وَيَقْدِرُ أَيْ: يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُضَيِّقَهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ يَرْزُقُ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ اسْتِدْرَاجًا لَهُ، وَقَدْ يَمْتَحِنُ الْمُؤْمِنَ بِالتَّقْتِيرِ تَوْفِيرًا لِأَجْرِهِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ بَسْطِ الرِّزْقِ لمن لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ ورضي عمله، ولا قَبَضَهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَهُ، وَلَا رَضِيَ عَمَلَهُ، فَقِيَاسُ الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى الدَّارِ الْأُولَى فِي مِثْلِ هَذَا مِنَ الْغَلَطِ البين أو المغالطة لواضحة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا، وَمِنْ جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ الْأَكْثَرِ مَنْ قَاسَ أَمْرَ الْآخِرَةِ على الأولى،
378
ثُمَّ زَادَ هَذَا الْجَوَابَ تَأْيِيدًا وَتَأْكِيدًا وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أَيْ: لَيْسُوا بِالْخَصْلَةِ الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا قُرْبَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: الزُّلْفَى: الْقُرْبَى، وَالزُّلْفَةُ: الْقُرْبَةُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: زُلْفَى اسْمُ مَصْدَرٍ كَأَنَّهُ قَالَ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا تَقْرِيبًا فَتَكُونُ زُلْفَى مَنْصُوبَةَ الْمَحَلِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الَّتِي تَكُونُ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ جَمِيعًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْمَعْنَى وَمَا أَمْوَالُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى، وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالشَّيْءِ يُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى، ثُمَّ حُذِفَ خَبَرُ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ وَأَنْشَدَ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفٌ
وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ بِاللَّتَيْنِ وَبِاللَّاتِي وَبِاللَّوَاتِي وَبِالَّذِي لِلْأَوْلَادِ خَاصَّةً أَيْ: لَا تَزِيدُكُمُ الْأَمْوَالُ عِنْدَنَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَا تُقَرِّبُكُمْ تَقْرِيبًا إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ فَيَكُونُ مَحَلَّهُ النَّصْبُ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، أَوْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تُقَرِّبُكُمْ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ، لِأَنَّ الْكَافَ وَالْمِيمَ لِلْمُخَاطَبِ فَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ رَأَيْتُكَ زَيْدًا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَخْفَشَ وَالْكُوفِيِّينَ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ، وقد قال بمثل قول الزجاج الفراء وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنَى مَا هُوَ إِلَّا مَنْ آمَنَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ إِلَى مَنْ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أَيْ: جَزَاءُ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «١».
وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ: جَزَاءُ التَّضْعِيفِ لِلْحَسَنَاتِ، وَقِيلَ: لَهُمْ جَزَاءُ الْإِضْعَافِ لِأَنَّ الضِّعْفَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالْبَاءُ فِي بِما عَمِلُوا لِلسَّبَبِيَّةِ وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ مِنْ جَمِيعِ مَا يَكْرَهُونَ، وَالْمُرَادُ غُرُفَاتُ الْجَنَّةِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ جَزاءُ الضِّعْفِ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَيَعْقُوبُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَقَتَادَةُ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنَّ الضِّعْفِ بَدَلٌ مِنْ جَزَاءُ. وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَرَأَ «جَزَاءً» بِالنَّصْبِ مُنَوَّنًا، وَ «الضعف» بالرفع على تقدير: فَأُولَئِكَ لَهُمُ الضِّعْفُ جَزَاءً، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ جَزَاءً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الْغُرُفاتِ بِالْجَمْعِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «٢» وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ «فِي الْغُرْفَةِ» بِالْإِفْرَادِ لِقَوْلِهِ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ «٣» وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا بِالرَّدِّ لَهَا وَالطَّعْنِ فِيهَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُعاجِزِينَ مُسَابِقِينَ لَنَا زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ مُعَانِدِينَ لَنَا بِكُفْرِهِمْ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أَيْ: فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ تُحْضِرُهُمُ الزَّبَانِيَةُ إِلَيْهَا لَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ مَا تَقَدَّمَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ لِلْحُجَّةِ، وَالدَّفْعِ لِمَا قَالَهُ الْكَفَرَةُ فَقَالَ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أَيْ: يُوَسِّعُهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى سَعَادَةٍ وَلَا شَقَاوَةٍ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أَيْ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ، يُقَالُ أَخْلَفَ لَهُ وَأَخْلَفَ عَلَيْهِ: إِذَا أَعْطَاهُ عِوَضَهُ وَبَدَلَهُ، وَذَلِكَ الْبَدَلُ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فَإِنَّ رِزْقَ الْعِبَادِ لِبَعْضِهِمُ الْبَعْضَ إِنَّمَا هُوَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَلَيْسُوا بِرَازِقِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، كَمَا يقال في الرجل إنه يرزق عياله،
(١). الأنعام: ١٦٠.
(٢). العنكبوت: ٥٨.
(٣). الفرقان: ٧٥. [.....]
379
وفي الأمير إنه يرزق جنده، والرزاق لِلْأَمِيرِ وَالْمَأْمُورِ وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ هُوَ الْخَالِقُ لَهُمْ، وَمَنْ أَخْرَجَ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى غَيْرِهِ شَيْئًا مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِنَّمَا تَصَرَّفَ فِي رزق الله فاستحق بما خرج من الثَّوَابَ عَلَيْهِ الْمُضَاعَفَ لِامْتِثَالِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنْفَاقِهِ فيما أمره الله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ نَحْوِ اذْكُرْ، أو هو متصل بقول: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ أَيْ: وَلَوْ تَرَاهُمْ أَيْضًا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا للحساب العابد والمعبود، والمستكبر والمستضعف، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تَقْرِيعًا لِلْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخًا لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١» وَإِنَّمَا خَصَّصَ الْمَلَائِكَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ قَدْ عَبَدَ غَيْرَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْأَصْنَامِ لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ مَعْبُودَاتِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا أَكْذَبَتْهُمْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَبْكِيتٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَجُمْلَةُ: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ أَنْتَ الَّذِي نَتَوَلَّاهُ وَنُطِيعُهُ وَنَعْبُدُهُ مِنْ دُونِهِمْ، مَا اتَّخَذْنَاهُمْ عَابِدِينَ وَلَا تَوَلَّيْنَاهُمْ وَلَيْسَ لَنَا غَيْرُكَ وَلِيًّا، ثُمَّ صَرَّحُوا بِمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَهُ فَقَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَيِ: الشَّيَاطِينَ وَهُمْ إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، وَأَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقِيلَ: كَانُوا يَدْخُلُونَ أَجْوَافَ الْأَصْنَامِ وَيُخَاطِبُونَهُمْ مِنْهَا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أَيْ: أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ بِالْجِنِّ مُؤْمِنُونَ بِهِمْ مُصَدِّقُونَ لَهُمْ، قِيلَ: وَالْأَكْثَرُ فِي مَعْنَى الْكُلِّ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا يَعْنِي الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْمَعْبُودُونَ لِبَعْضٍ، وَهُمُ الْعَابِدُونَ نَفْعاً أَيْ: شَفَاعَةً وَنَجَاةً وَلا ضَرًّا أَيْ: عذابا وهلاكا، إنما قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ إِظْهَارًا لِعَجْزِهِمْ وَقُصُورِهِمْ وَتَبْكِيتًا لِعَابِدِيهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَلا ضَرًّا هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ دَفْعَ ضَرٍّ، وَقَوْلُهُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَيْ: لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ شَرِيكَيْنِ، خَرَجَ أَحَدُهُمَا إِلَى السَّاحِلِ وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ يَسْأَلُهُ مَا فَعَلَ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا رُذَالَةُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَتَرَكَ تِجَارَتَهُ ثُمَّ أَتَى صَاحِبَهُ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَيْهِ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إلى ما تَدْعُو؟ قَالَ: إِلَى كَذَا وَكَذَا، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟
قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا اتَّبَعَهُ رَذَالَةُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها الْآيَاتِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ تَصْدِيقَ مَا قُلْتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: جَزاءُ الضِّعْفِ قَالَ: تَضْعِيفُ الْحَسَنَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ غَنِيًّا تَقِيًّا آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ قَالَ: تَضْعِيفُ
(١). المائدة:.
380
ثم ذكر ما افتخروا به من الأموال والأولاد، وقاسوا حالهم في الدار الآخرة على حالهم في هذه الدار على تقدير صحة ما أنذرهم به الرسل، فقال :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ والمعنى : أن الله فضلنا عليكم بالأموال والأولاد في الدنيا، وذلك يدلّ على أنه قد رضي ما نحن عليه من الدين، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا، ورضاه عنا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال : دلني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إلى ما تدعو ؟ قال : إلى كذا، وكذا، قال : أشهد أنك رسول الله، قال :«وما علمك بذلك ؟» قال : إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس، ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله قد أنزل تصديق ما قلت» وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية ﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم ﴾ إلى قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ قال : في غير إسراف ولا تقتير، وعن مجاهد مثله. وعن الحسن مثله. وأخرج الدارقطني، والبيهقي في الشعب عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كلما أنفق العبد من نفقة، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان، أو معصية» وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله عزّ وجلّ : أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان ؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً» وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن لكل يوم نحساً، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة» ثم قال : اقرءوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله يقول :«وما أنفقتم من شيء، فهو يخلفه» إذا لم تنفقوا كيف يخلف. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة».

فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم، وقال :﴿ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء ﴾ أن يبسطه له ﴿ وَيَقْدِرُ ﴾ أي يضيق على من يشاء أن يضيقه عليه، فهو سبحانه قد يرزق الكافر، والعاصي استدراجاً له، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير توفيراً لأجره، وليس مجرّد بسط الرزق لمن بسطه له يدل على أنه قد رضي عنه، ورضي عمله، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه، ولا رضي عمله، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين، أو المغالطة الواضحة ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ هذا، ومن جملة هؤلاء الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى، ثم زاد هذا الجواب تأييداً وتأكيداً ﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال : دلني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إلى ما تدعو ؟ قال : إلى كذا، وكذا، قال : أشهد أنك رسول الله، قال :«وما علمك بذلك ؟» قال : إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس، ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله قد أنزل تصديق ما قلت» وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية ﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم ﴾ إلى قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ قال : في غير إسراف ولا تقتير، وعن مجاهد مثله. وعن الحسن مثله. وأخرج الدارقطني، والبيهقي في الشعب عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كلما أنفق العبد من نفقة، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان، أو معصية» وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله عزّ وجلّ : أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان ؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً» وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن لكل يوم نحساً، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة» ثم قال : اقرءوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله يقول :«وما أنفقتم من شيء، فهو يخلفه» إذا لم تنفقوا كيف يخلف. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة».

﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى ﴾ أي ليسوا بالخصلة التي تقرّبكم عندنا قربى. قال مجاهد : الزلفى القربى، والزلفة : القربة. قال الأخفش : زلفى اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريباً، فتكون زلفى منصوبة المحلّ. قال الفرّاء : إن التي تكون للأموال والأولاد جميعاً. وقال الزجاج : إن المعنى وما أموالكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى، ولا أولادكم بالشيء يقرّبكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه، وأنشد :
نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأي مختلف
ويجوز في غير القرآن باللتين، واللاتي، وباللواتي، وبالذي للأولاد خاصة، أي لا تزيدكم الأموال عندنا درجة ورفعة، ولا تقربكم تقريباً ﴿ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ هو استثناء منقطع، فيكون محله النصب، أي لكن من آمن وعمل صالحاً، أو في محل جرّ بدلاً من الضمير في تقرّبكم، كذا قال الزجاج.
قال النحاس : وهذا القول غلط، لأن الكاف والميم للمخاطب، فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز رأيتك زيداً. ويجاب عنه بأن الأخفش والكوفيين يجوّزون ذلك، وقد قال بمثل قول الزجاج الفراء، وأجاز الفراء أن يكون في موضع رفع بمعنى : ما هو إلاّ من آمن، والإشارة بقوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ ﴾ إلى من، والجمع باعتبار معناها، وهو مبتدأ وخبره ﴿ لَهُمْ جَزَاء الضعف ﴾ أي جزاء الزيادة، وهي المرادة بقوله :﴿ مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ]، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي جزاء التضعيف للحسنات. وقيل : لهم جزاء الإضعاف ؛ لأن الضعف في معنى الجمع، والباء في ﴿ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ للسببية ﴿ وَهُمْ في الغرفات ءامِنُونَ ﴾ من جميع ما يكرهون، والمراد غرفات الجنة، قرأ الجمهور :﴿ جزاء الضعف ﴾ بالإضافة، وقرأ الزهري ويعقوب ونصر بن عاصم وقتادة برفعهما على أن الضعف بدل من جزاء. وروي عن يعقوب : أنه قرأ ﴿ جزاء ﴾ بالنصب منوناً، و﴿ الضعف ﴾ بالرفع على تقدير : فأولئك لهم الضعف جزاء، أي حال كونه جزاء. وقرأ الجمهور ﴿ في الغرفات ﴾ بالجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله :﴿ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الجنة غُرَفَاً ﴾ [ العنكبوت : ٥٨ ]. وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، وخلف ( في الغرفة ) بالإفراد لقوله :﴿ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغرفة ﴾ [ الفرقان : ٧٥ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال : دلني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إلى ما تدعو ؟ قال : إلى كذا، وكذا، قال : أشهد أنك رسول الله، قال :«وما علمك بذلك ؟» قال : إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس، ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله قد أنزل تصديق ما قلت» وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية ﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم ﴾ إلى قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ قال : في غير إسراف ولا تقتير، وعن مجاهد مثله. وعن الحسن مثله. وأخرج الدارقطني، والبيهقي في الشعب عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كلما أنفق العبد من نفقة، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان، أو معصية» وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله عزّ وجلّ : أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان ؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً» وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن لكل يوم نحساً، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة» ثم قال : اقرءوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله يقول :«وما أنفقتم من شيء، فهو يخلفه» إذا لم تنفقوا كيف يخلف. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة».

ولما ذكر سبحانه حال المؤمنين ذكر حال الكافرين، فقال :﴿ والذين يَسْعَوْنَ في ءاياتنا ﴾ بالردّ لها والطعن فيها حال كونهم ﴿ معاجزين ﴾ مسابقين لنا زاعمين أنهم يفوتوننا بأنفسهم، أو معاندين لنا بكفرهم ﴿ أُوْلَئِكَ في العذاب مُحْضَرُونَ ﴾ أي في عذاب جهنم تحضرهم الزبانية إليها لا يجدون عنها محيصاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال : دلني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إلى ما تدعو ؟ قال : إلى كذا، وكذا، قال : أشهد أنك رسول الله، قال :«وما علمك بذلك ؟» قال : إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس، ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله قد أنزل تصديق ما قلت» وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية ﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم ﴾ إلى قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ قال : في غير إسراف ولا تقتير، وعن مجاهد مثله. وعن الحسن مثله. وأخرج الدارقطني، والبيهقي في الشعب عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كلما أنفق العبد من نفقة، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان، أو معصية» وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله عزّ وجلّ : أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان ؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً» وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن لكل يوم نحساً، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة» ثم قال : اقرءوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله يقول :«وما أنفقتم من شيء، فهو يخلفه» إذا لم تنفقوا كيف يخلف. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة».

ثم كرّر سبحانه ما تقدّم لقصد التأكيد للحجة، والدفع لما قاله الكفرة، فقال :﴿ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾ أي يوسعه لمن يشاء، ويضيقه على من يشاء، وليس في ذلك دلالة على سعادة ولا شقاوة ﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ أي يخلفه عليكم، يقال أخلف له، وأخلف عليه : إذا أعطاه عوضه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا، وإما في الآخرة ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين ﴾ فإن رزق العباد لبعضهم البعض إنما هو بتيسير الله وتقديره، وليسوا برازقين على الحقيقة بل على طريق المجاز، كما يقال : في الرجل إنه يرزق عياله، وفي الأمير إنه يرزق جنده، والرازق للأمير، والمأمور والكبير والصغير هو الخالق لهم، ومن أخرج من العباد إلى غيره شيئاً مما رزقه الله، فهو إنما تصرّف في رزق الله له، فاستحق بما خرج منه الثواب عليه المضاعف لامتثاله لأمر الله، وإنفاقه فيما أمره الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال : دلني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إلى ما تدعو ؟ قال : إلى كذا، وكذا، قال : أشهد أنك رسول الله، قال :«وما علمك بذلك ؟» قال : إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس، ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله قد أنزل تصديق ما قلت» وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية ﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم ﴾ إلى قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ قال : في غير إسراف ولا تقتير، وعن مجاهد مثله. وعن الحسن مثله. وأخرج الدارقطني، والبيهقي في الشعب عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كلما أنفق العبد من نفقة، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان، أو معصية» وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله عزّ وجلّ : أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان ؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً» وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن لكل يوم نحساً، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة» ثم قال : اقرءوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله يقول :«وما أنفقتم من شيء، فهو يخلفه» إذا لم تنفقوا كيف يخلف. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة».

﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ الظرف منصوب بفعل مقدّر نحو اذكر، أو هو متصل بقوله :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ ﴾ [ سبأ : ٣١ ] أي ولو تراهم أيضاً يوم نحشرهم جميعاً للحساب العابد والمعبود والمستكبر والمستضعف، ﴿ ثُمَّ نَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ تقريعاً للمشركين، وتوبيخاً لمن عبد غير الله عزّ وجلّ كما في قوله لعيسى :﴿ ءأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله ﴾ [ المائدة : ١١٦ ]، وإنما خصص الملائكة بالذكر مع أن بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين والأصنام ؛ لأنهم أشرف معبودات المشركين. قال النحاس : والمعنى أن الملائكة إذا أكذبتهم كان في ذلك تبكيت للمشركين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال : دلني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إلى ما تدعو ؟ قال : إلى كذا، وكذا، قال : أشهد أنك رسول الله، قال :«وما علمك بذلك ؟» قال : إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس، ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله قد أنزل تصديق ما قلت» وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية ﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم ﴾ إلى قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ قال : في غير إسراف ولا تقتير، وعن مجاهد مثله. وعن الحسن مثله. وأخرج الدارقطني، والبيهقي في الشعب عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كلما أنفق العبد من نفقة، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان، أو معصية» وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله عزّ وجلّ : أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان ؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً» وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن لكل يوم نحساً، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة» ثم قال : اقرءوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله يقول :«وما أنفقتم من شيء، فهو يخلفه» إذا لم تنفقوا كيف يخلف. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة».

وجملة ﴿ قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ ﴾ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، أي تنزيهاً لك أنت الذي نتولاه، ونطيعه، ونعبده من دونهم، ما اتخذناهم عابدين، ولا توليناهم وليس لنا غيرك ولياً، ثم صرّحوا بما كان المشركون يعبدونه، فقالوا :﴿ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن ﴾ أي الشياطين، وهم إبليس وجنوده، ويزعمون أنهم يرونهم، وأنهم ملائكة وأنهم بنات الله. وقيل : كانوا يدخلون أجواف الأصنام ويخاطبونهم منها ﴿ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾ أي أكثر المشركين بالجنّ مؤمنون بهم مصدّقون لهم. قيل والأكثر في معنى الكلّ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال : دلني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إلى ما تدعو ؟ قال : إلى كذا، وكذا، قال : أشهد أنك رسول الله، قال :«وما علمك بذلك ؟» قال : إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس، ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله قد أنزل تصديق ما قلت» وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية ﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم ﴾ إلى قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ قال : في غير إسراف ولا تقتير، وعن مجاهد مثله. وعن الحسن مثله. وأخرج الدارقطني، والبيهقي في الشعب عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كلما أنفق العبد من نفقة، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان، أو معصية» وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله عزّ وجلّ : أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان ؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً» وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن لكل يوم نحساً، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة» ثم قال : اقرءوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله يقول :«وما أنفقتم من شيء، فهو يخلفه» إذا لم تنفقوا كيف يخلف. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة».

﴿ فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً ﴾ يعني العابدين والمعبودين لا يملك بعضهم، وهم المعبودون لبعض، وهم العابدون ﴿ نَفْعاً ﴾ أي شفاعة ونجاة ﴿ وَلاَ ضَرّا ﴾ أي عذاباً وهلاكاً، وإنما قيل لهم : هذا القول إظهاراً لعجزهم، وقصورهم، وتبكيتاً لعابديهم، وقولهم :﴿ وَلاَ ضَرّا ﴾ هو على حذف مضاف، أي لا يملكون لهم دفع ضرّ، وقوله :﴿ وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ عطف على قوله :﴿ نَّقُولُ للملائكة ﴾ أي للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله ﴿ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ ﴾ في الدنيا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال : دلني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إلى ما تدعو ؟ قال : إلى كذا، وكذا، قال : أشهد أنك رسول الله، قال :«وما علمك بذلك ؟» قال : إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس، ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله قد أنزل تصديق ما قلت» وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية ﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم ﴾ إلى قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف ﴾ قال : تضعيف الحسنة.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ قال : في غير إسراف ولا تقتير، وعن مجاهد مثله. وعن الحسن مثله. وأخرج الدارقطني، والبيهقي في الشعب عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كلما أنفق العبد من نفقة، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان، أو معصية» وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله عزّ وجلّ : أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان ؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً» وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن لكل يوم نحساً، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة» ثم قال : اقرءوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله يقول :«وما أنفقتم من شيء، فهو يخلفه» إذا لم تنفقوا كيف يخلف. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة».

الْحَسَنَةِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ قَالَ: فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ، وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلَّمَا أَنْفَقَ الْعَبْدُ مِنْ نَفَقَةٍ فَعَلَى اللَّهِ خَلَفُهَا ضَامِنًا إِلَّا نَفَقَةً فِي بنيان أَوْ مَعْصِيَةٍ». وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ نَحْسًا، فَادْفَعُوا نَحْسَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالصَّدَقَةِ» ثُمَّ قَالَ: اقْرَءُوا مَوَاضِعَ الْخَلَفِ، فَإِنِّي سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ إِذَا لَمْ تُنْفِقُوا كَيْفَ يُخْلِفُ.
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَعُونَةَ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ على قدر المؤونة».
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٣ الى ٥٠]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ، فَقَالَ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أَيِ: الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ حَالَ كَوْنِهَا بَيِّناتٍ وَاضِحَاتِ الدَّلَالَاتِ ظَاهِرَاتِ الْمَعَانِي قالُوا مَا هَذَا يَعْنُونَ التَّالِيَ لَهَا، وَهُوَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ أَيْ: أَسْلَافُكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَقالُوا ثَانِيًا مَا هَذَا يَعْنُونَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً أَيْ: كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَالِثًا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ أَيْ: لِأَمْرِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَهَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُمْ خَاصٌّ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَمَّا إِنْكَارُ الْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَةِ فَكَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً مَعْنَاهُ، وَبِالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ نَظْمُهُ الْمُعْجِزُ. وَقِيلَ: إِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ إِفْكٌ، وَطَائِفَةٌ قَالُوا: إِنَّهُ سِحْرٌ، وَقِيلَ:
381
إِنَّهُمْ جَمِيعًا قَالُوا تَارَةً إِنَّهُ إِفْكٌ، وَتَارَةً إِنَّهُ سِحْرٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أَيْ:
مَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْعَرَبِ كُتُبًا سَمَاوِيَّةً يَدْرُسُونَ فِيهَا وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَيُنْذِرُهُمْ بِالْعَذَابِ، فَلَيْسَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ وَجْهٌ، وَلَا شبه يَتَشَبَّثُونَ بِهَا. قَالَ قَتَادَةُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ كِتَابًا قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَلَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مِنْ أَيْنَ كَذَّبُوكَ، وَلَمْ يَأْتِهِمْ كِتَابٌ وَلَا نَذِيرٌ بِهَذَا الَّذِي فعلوه؟ ثم خوّفهم سُبْحَانَهُ وَأَخْبَرَ عَنْ عَاقِبَتِهِمْ، وَعَاقِبَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فَقَالَ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ أَيْ: مَا بَلَغَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ عُشْرَ مَا آتَيْنَا مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ، وَكَثْرَةِ الْمَالِ، وَطُولِ الْعُمُرِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، كَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَمْثَالِهِمْ. وَالْمِعْشَارُ: هُوَ الْعُشْرُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مِعْشَارُ الشَّيْءِ عُشْرُهُ. وَقِيلَ الْمِعْشَارُ: عُشْرُ الْعُشْرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: مَا بَلَغَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى. وَقِيلَ مَا بَلَغَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِعْشَارَ شُكْرِ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ، وَقِيلَ: مَا أَعْطَى اللَّهُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِعْشَارَ مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: الْمِعْشَارُ عُشْرُ الْعَشِيرِ، وَالْعَشِيرُ عُشْرُ الْعُشْرِ، فَيَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّقْلِيلِ. قُلْتُ: مُرَاعَاةُ الْمُبَالَغَةِ في القليل لَا يُسَوَّغُ لِأَجْلِهَا الْخُرُوجُ عَنِ الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ، وَقَوْلُهُ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي عَطْفٌ عَلَى كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا «١» الْآيَةَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ الْأَوَّلَ لَمَّا حُذِفَ منه الْمُتَعِلِّقِ لِلتَّكْذِيبِ أَفَادَ الْعُمُومَ، فَمَعْنَاهُ: كَذَّبُوا الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ، وَالرُّسُلَ الْمُرْسَلَةَ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةَ، وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ أخص منه، وإن كان مستلزما فَقَدْ رُوعِيَتِ الدَّلَالَةُ اللَّفْظِيَّةُ لَا الدَّلَالَةُ الِالْتِزَامِيَّةُ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَيْ: فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي لَهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ، فَلْيَحْذَرْ هَؤُلَاءِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَهْلَكْنَاهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، وَالنَّكِيرُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً يَنْقَطِعُونَ عِنْدَهَا فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَيْ: أُحَذِّرُكُمْ وَأُنْذِرُكُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ مَا أَنْتُمْ فِيهِ، وَأُوصِيكُمْ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْخَصْلَةِ الْوَاحِدَةِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا، أَيْ: هِيَ قِيَامُكُمْ وَتَشْمِيرُكُمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ بِالْفِكْرَةِ الصَّادِقَةِ مُتَفَرِّقِينَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَوَاحِدًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ يُشَوِّشُ الْفِكْرَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْقِيَامَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، بَلِ الْمُرَادُ الْقِيَامُ بِطَلَبِ الْحَقِّ وَإِصْدَاقِ الْفِكْرِ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ قَامَ فُلَانٌ بِأَمْرِ كَذَا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فِي أَمْرِ النَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ، فَإِنَّكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ:
إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قُلْ لَهُمُ اعْتَبِرُوا أَمْرِي بِوَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ، وَفِي ذَاتِهِ مُجْتَمِعِينَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: هَلُمَّ فَلْنَتَصَادَقْ، هَلْ رَأَيْنَا بِهَذَا الرَّجُلِ مِنْ جِنَّةٍ، أَيْ: جُنُونٍ أَوْ جَرَّبْنَا عَلَيْهِ كَذِبًا، ثُمَّ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَتَفَكَّرُ وَيَنْظُرُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ على أن محمّدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ صَادِقٌ وَأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِكَاذِبٍ وَلَا سَاحِرٍ وَلَا مَجْنُونٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ
(١). القمر: ٩.
382
أَيْ: مَا هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، وَقِيلَ إِنَّ جُمْلَةَ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَسُوقَةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّظَرِ، وَالتَّأَمُّلِ بِأَنَّ هذا الأمر العظيم والدعوى، لَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لَهُ إِلَّا مَجْنُونٌ لَا يُبَالِي بِمَا يُقَالُ فِيهِ، وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْكَذِبِ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا، فَوَجَبَ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي دَعْوَاهُ، لَا سِيَّمَا مَعَ انْضِمَامِ الْمُعْجِزَةِ الْوَاضِحَةِ وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ، وَلَا قَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ كَذِبًا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَعُمُرِهِمْ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا فِي مَا بِصاحِبِكُمْ اسْتِفْهَامِيَّةً، أَيْ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا أَيَّ شَيْءٍ بِهِ مِنْ آثَارِ الْجُنُونِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ هِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَوَاعِظَ كُلَّهَا، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ أَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَقُومُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى لَأَنْ تَقُومُوا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَى مَثْنَى وَفُرَادَى: مُنْفَرِدًا برأيه، ومشاورا لغيره. وقال القتبي مُنَاظِرًا مَعَ عَشِيرَتِهِ، وَمُفَكِّرًا فِي نَفْسِهِ. وَقِيلَ الْمُثَنَّى: عَمَلُ النَّهَارِ، وَالْفُرَادَى: عَمَلُ اللَّيْلِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَمَا أَبْرَدَ هَذَا الْقَوْلَ وَأَقَلَّ جَدْوَاهُ. وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا وَعَلَى هَذَا تَكُونُ جُمْلَةُ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ مُسْتَأْنَفَةً كَمَا قَدَّمْنَا، وَقِيلَ: لَيْسَ بِوَقْفٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا هل جربتم عليه كذبا، أو رأيتم منه جِنَّةٍ، أَوْ فِي أَحْوَالِهِ مِنْ فَسَادٍ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَا رَغْبَةٌ فِيهَا حَتَّى تَنْقَطِعَ عِنْدَهُمُ الشُّكُوكُ، وَيَرْتَفِعَ الرَّيْبُ فَقَالَ: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أَيْ: مَا طَلَبْتُ مِنْكُمْ مِنْ جُعْلٍ تَجْعَلُونَهُ لِي مُقَابِلَ الرِّسَالَةِ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ سَأَلْتُكُمُوهُ، وَالْمُرَادُ نَفِيُ السُّؤَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ:
مَا أَمْلِكُهُ فِي هَذَا فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكَ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ أَصْلًا، ومثل هذه الآية قوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «١» وقوله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «٢».
ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ أَجْرَهُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أَيْ: مَا أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: مطلع لا يغيب عنه منه شيء قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ
القذف: الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ، وَالْحَصَى، وَالْكَلَامِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَرْمِي عَلَى مَعْنَى يَأْتِي بِهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَتَكَلَّمُ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْوَحْيُ، أَيْ: يُلْقِيهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْوَحْيِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْحُجَّةَ، وَيُظْهِرُهَا لِلنَّاسِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ، وَقِيلَ: يَرْمِي الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ فَيَدْمَغُهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ عَلَّامُ عَلَى أَنَّهُ خبر ثان لأنّ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي يَقْذِفُ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ رَفْعٍ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعِيسَى بن عمرو بن أَبِي إِسْحَاقَ بِالنَّصْبِ نَعْتًا لِاسْمِ إِنَّ أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالرَّفْعُ فِي مِثْلِ هَذَا أَكْثَرُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ «٣»، وَقُرِئَ الْغُيُوبِ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْغَيْنِ، وَهُوَ جَمْعُ غَيْبٍ، وَالْغَيْبُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي غَابَ وخفي جدّا قُلْ جاءَ الْحَقُ
(١). الشورى: ٢٣.
(٢). الفرقان: ٥٧.
(٣). ص: ٦٤.
383
﴿ وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ﴾ أي ما أنزلنا على العرب كتباً سماوية يدرسون فيها ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ ﴾ يدعوهم إلى الحقّ، وينذرهم بالعذاب، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه، ولا شبهة يتشبثون بها. قال قتادة : ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال الفرّاء، أي من أين كذبوك، ولم يأتهم كتاب، ولا نذير بهذا الذي فعلوه.
ثم خوّفهم سبحانه، وأخبر عن عاقبتهم، وعاقبة من كان قبلهم، فقال :﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ ﴾ من القرون الخالية ﴿ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم ﴾ أي ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش، وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوّة، وكثرة المال، وطول العمر، فأهلكهم الله، كعاد وثمود وأمثالهم. والمعشار : هو العشر. قال الجوهري : معشار الشيء عشره. وقيل المعشار : عشر العشر، والأوّل أولى. وقيل إن المعنى : ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى. وقيل : ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم. وقيل : ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان، والأوّل أولى. وقيل : المعشار عشر العشير، والعشير عشر العشر، فيكون جزءاً من ألف جزء. قال الماوردي : وهو الأظهر ؛ لأن المراد به المبالغة في التقليل، قلت : مراعاة المبالغة في التقليل، لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي، وقوله :﴿ فَكَذَّبُواْ رُسُلِى ﴾ عطف على ﴿ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ على طريقة التفسير، كقوله :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا ﴾ [ القمر : ٩ ] الآية، والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام، لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم، فمعناه : كذبوا الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، والمعجزات الواضحة، وتكذيب الرسل أخص منه، وإن كان مستلزماً له، فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نكير ﴾ أي فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب والعقوبة، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك. قيل وفي الكلام حذف. والتقدير : فأهلكناهم، فكيف كان نكير، والنكير اسم بمعنى : الإنكار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم ﴾ يقول : من القوّة في الدنيا. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال : يقوم الرجل مع الرجل أو وحده، فيفكر ما بصاحبه من جنة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة ﴿ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ ﴾ يقول : إنه ليس بمجنون. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله :﴿ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ ﴾ أي : من جعل فهو لكم، يقول : لم أسألكم على الإسلام جعلاً، وفي قوله :﴿ قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق ﴾ قال : بالوحي، وفي قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك. وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : ما يخلق إبليس شيئاً، ولا يبعثه. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله :﴿ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى ﴾ قال : إنما أوخذ بجنايتي.
ثم أمر سبحانه رسوله : أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها، فقال :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة ﴾ أي أحذركم، وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة، وهي ﴿ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ﴾ هذا تفسير للخصلة الواحدة، أو بدل منها، أي هي قيامكم وتشميركم في طلب الحقّ بالفكرة الصادقة متفرقين إثنين إثنين، وواحداً واحداً، لأن الاجتماع يشوّش الفكر. وليس المراد القيام على الرجلين، بل المراد القيام بطلب الحقّ، وإصداق الفكر فيه، كما يقال : قام فلان بأمر كذا ﴿ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ ﴾ في أمر النبيّ، وما جاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن ﴿ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ ﴾، وذلك ؛ لأنهم كانوا يقولون : إن محمداً مجنون، فقال الله سبحانه : قل لهم : اعتبروا أمري بواحدة، وهي : أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين، فيقول الرجل لصاحبه : هلمّ فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل من جنة، أي جنون، أو جرّبنا عليه كذباً، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر وينظر، فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه رسول من عند الله، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون، وهو معنى قوله :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ أي ما هو إلاّ نذير لكم بين يدي الساعة. وقيل : إن جملة ﴿ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ ﴾ مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم، والدعوى الكبيرة لا يعّرض نفسه له إلاّ مجنون لا يبالي بما يقال فيه، وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا : أنه أرجح الناس عقلاً، فوجب أن يصدّقوه في دعواه، لاسيما مع انضمام المعجزة الواضحة، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جرّبوا عليه كذباً مدّة عمره وعمرهم. وقيل : يجوز أن تكون «ما » في ﴿ مَا بصاحبكم ﴾ استفهامية، أي ثم تتفكروا أيّ شيء به من آثار الجنون. وقيل : المراد بقوله :﴿ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة ﴾ هي :«لا إله إلاّ الله » كذا قال مجاهد والسدّي. وقيل : القرآن ؛ لأنه يجمع المواعظ كلها، والأولى ما ذكرناه أوّلاً. وقال الزجاج : إن «أن » في قوله :﴿ أَن تَقُومُواْ ﴾ في موضع نصب بمعنى : لأن تقوموا. و قال السدّي : معنى مثنى وفرادى : منفرداً برأيه، ومشاوراً لغيره.
وقال القتيبي : مناظراً مع عشيرته، ومفكراً في نفسه. وقيل : المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي. وما أبرد هذا القول، وأقلّ جدواه. واختار أبو حاتم، وابن الأنباري الوقف على قوله :﴿ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ ﴾، وعلى هذا تكون جملة :﴿ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ ﴾ مستأنفة كما قدّمنا. وقيل ليس بوقف، لأن المعنى : ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذباً، أو رأيتم منه جنة، أو في أحواله من فساد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم ﴾ يقول : من القوّة في الدنيا. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال : يقوم الرجل مع الرجل أو وحده، فيفكر ما بصاحبه من جنة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة ﴿ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ ﴾ يقول : إنه ليس بمجنون. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله :﴿ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ ﴾ أي : من جعل فهو لكم، يقول : لم أسألكم على الإسلام جعلاً، وفي قوله :﴿ قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق ﴾ قال : بالوحي، وفي قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك. وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : ما يخلق إبليس شيئاً، ولا يبعثه. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله :﴿ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى ﴾ قال : إنما أوخذ بجنايتي.
ثم أمر سبحانه أن يخبرهم : أنه لم يكن له غرض في الدنيا، ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك، ويرتفع الريب، فقال :﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ أي ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة، فهو لكم إن سألتكموه، والمراد نفي السؤال بالكلية، كما يقول القائل : ما أملكه في هذا، فقد وهبته لك، يريد أنه لا ملك له فيه أصلاً، ومثل هذه الآية قوله :﴿ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة في القربى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ]، وقوله :﴿ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥٧ ]. ثم بين لهم : أن أجره عند الله سبحانه، فقال :﴿ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله ﴾ أي ما أجري إلاّ على الله لا على غيره ﴿ وَهُوَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٍ ﴾ أي مطلع لا يغيب عنه منه شيء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم ﴾ يقول : من القوّة في الدنيا. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال : يقوم الرجل مع الرجل أو وحده، فيفكر ما بصاحبه من جنة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة ﴿ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ ﴾ يقول : إنه ليس بمجنون. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله :﴿ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ ﴾ أي : من جعل فهو لكم، يقول : لم أسألكم على الإسلام جعلاً، وفي قوله :﴿ قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق ﴾ قال : بالوحي، وفي قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك. وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : ما يخلق إبليس شيئاً، ولا يبعثه. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله :﴿ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى ﴾ قال : إنما أوخذ بجنايتي.
﴿ قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق ﴾ القذف الرمي بالسهم والحصى والكلام. قال الكلبي : يرمي على معنى : يأتي به، وقال مقاتل : يتكلم بالحق، وهو القرآن والوحي، أي يلقيه إلى أنبيائه. وقال قتادة ﴿ بالحق ﴾ أي بالوحي، والمعنى : أنه يبين الحجة، ويظهرها للناس على ألسن رسله، وقيل : يرمي الباطل بالحق فيدمغه ﴿ علام الغيوب ﴾ قرأ الجمهور برفع ﴿ علام ﴾ على أنه خبر ثانٍ لإنّ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من الضمير في يقذف، أو معطوف على محل اسم إن. قال الزجاج : الرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل. وقرأ زيد بن علي، وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب نعتاً لاسم إنّ، أو بدلاً منه، أو على المدح. قال الفراء : والرفع في مثل هذا أكثر كقوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار ﴾ [ ص : ٦٤ ]، وقرىء الغيوب بالحركات الثلاث في الغين، وهو جمع غيب، والغيب هو الأمر الذي غاب وخفي جدًّا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم ﴾ يقول : من القوّة في الدنيا. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال : يقوم الرجل مع الرجل أو وحده، فيفكر ما بصاحبه من جنة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة ﴿ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ ﴾ يقول : إنه ليس بمجنون. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله :﴿ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ ﴾ أي : من جعل فهو لكم، يقول : لم أسألكم على الإسلام جعلاً، وفي قوله :﴿ قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق ﴾ قال : بالوحي، وفي قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك. وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : ما يخلق إبليس شيئاً، ولا يبعثه. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله :﴿ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى ﴾ قال : إنما أوخذ بجنايتي.
﴿ قُلْ جَاء الحق ﴾ أي الإسلام والتوحيد. وقال قتادة : القرآن. وقال النحاس : التقدير صاحب الحقّ، أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج.
وأقول : لا وجه لتقدير المضاف، فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه. ﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ أي ذهب الباطل ذهاباً لم يبق منه إقبال، ولا إدبار، ولا إبداء، ولا إعادة. قال قتادة : الباطل هو الشيطان، أي ما يخلق لشيطان ابتداء ولا يبعث، وبه قال مقاتل والكلبي. وقيل : يجوز أن تكون ما استفهامية، أي أيّ شيء يبديه، وأيّ شيء يعيده ؟ والأوّل أولى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم ﴾ يقول : من القوّة في الدنيا. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال : يقوم الرجل مع الرجل أو وحده، فيفكر ما بصاحبه من جنة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة ﴿ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ ﴾ يقول : إنه ليس بمجنون. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله :﴿ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ ﴾ أي : من جعل فهو لكم، يقول : لم أسألكم على الإسلام جعلاً، وفي قوله :﴿ قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق ﴾ قال : بالوحي، وفي قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك. وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : ما يخلق إبليس شيئاً، ولا يبعثه. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله :﴿ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى ﴾ قال : إنما أوخذ بجنايتي.
﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ ﴾ عن الطريق الحقة الواضحة ﴿ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى ﴾ أي إثم ضلالتي يكون على نفسي، وذلك أن الكفار قالوا له : تركت دين آبائك فضللت، فأمره الله أن يقول لهم هذا القول :﴿ وَإِنِ اهتديت فِيمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى ﴾ من الحكمة والموعظة والبيان بالقرآن ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة. قرأ الجمهور ﴿ ضللت ﴾ بفتح اللام، وقرأ الحسن، ويحيى بن وثاب بكسر اللام، وهي لغة أهل العالية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم ﴾ يقول : من القوّة في الدنيا. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال : يقوم الرجل مع الرجل أو وحده، فيفكر ما بصاحبه من جنة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة ﴿ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ ﴾ يقول : إنه ليس بمجنون. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله :﴿ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ ﴾ أي : من جعل فهو لكم، يقول : لم أسألكم على الإسلام جعلاً، وفي قوله :﴿ قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق ﴾ قال : بالوحي، وفي قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك. وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله :﴿ وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ قال : ما يخلق إبليس شيئاً، ولا يبعثه. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله :﴿ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى ﴾ قال : إنما أوخذ بجنايتي.
أَيِ: الْإِسْلَامُ وَالتَّوْحِيدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْقُرْآنُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ صَاحِبُ الْحَقِّ، أَيِ: الْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ الْبَرَاهِينُ وَالْحُجَجُ.
وَأَقُولُ: لَا وَجْهَ لِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ جَاءَ كَمَا جَاءَ صَاحِبُهُ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أَيْ: ذَهَبَ الْبَاطِلُ ذَهَابًا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِقْبَالٌ وَلَا إِدْبَارٌ وَلَا إِبْدَاءٌ وَلَا إِعَادَةٌ. قَالَ قَتَادَةُ: الْبَاطِلُ هُوَ الشَّيْطَانُ أَيْ: مَا يَخْلُقُ الشَّيْطَانُ ابْتِدَاءً وَلَا يَبْعَثُ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونُ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُبْدِيهِ، وَأَيُّ شَيْءٍ يُعِيدُهُ؟ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عَنِ الطَّرِيقِ الْحَقَّةِ الْوَاضِحَةِ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أَيْ: إِثْمُ ضَلَالَتِي يَكُونُ عَلَى نَفْسِي، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لَهُ تَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ فَضَلَلْتَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْبَيَانِ بِالْقُرْآنِ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مِنِّي وَمِنْكُمْ يَعْلَمُ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «ضَلَلْتُ» بِفَتْحِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْعَالِيَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ يَقُولُ:
مِنَ الْقُوَّةِ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي الْآيَةِ «١» قَالَ: يَقُومُ الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ أَوْ وَحْدَهُ فَيُفَكِّرُ مَا بِصَاحِبِهِ مِنْ جِنَّةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ يَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أَيْ: مِنْ جُعْلٍ فَهُوَ لَكُمْ، يَقُولُ: لَمْ أَسْأَلْكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جُعْلًا، وَفِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ قَالَ: بِالْوَحْيِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ قَالَ: الشَّيْطَانُ لَا يُبْدِئُ وَلَا يُعِيدُ إِذَا هَلَكَ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ قَالَ: مَا يَخْلُقُ إِبْلِيسُ شَيْئًا وَلَا يَبْعَثُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي قال: إنما أؤخذ بجنايتي.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالًا مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، قِيلَ الْمُرَادُ فَزَعُهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ بِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ فَزَعُهُمْ فِي الْقُبُورِ مِنَ الصَّيْحَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ فَزَعُهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ فَزَعُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ بِسُيُوفِ الْمَلَائِكَةِ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا فِرَارًا وَلَا رُجُوعًا إِلَى التَّوْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ مُغَفَّلٍ: هو فزعهم إذا عاينوا
(١). أي: قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى....
384
عِقَابَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الْخَسْفُ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِمْ فِي الْبَيْدَاءِ، فَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا لَقِيَ أَصْحَابُهُ فَيَفْزَعُونَ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا هَائِلًا، وَمَعْنَى فَلا فَوْتَ فَلَا يَفُوتُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا يَنْجُو مِنْهُمْ نَاجٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَا مَهْرَبَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ مِنْ ظَهْرِ الْأَرْضِ أَوْ مِنَ الْقُبُورِ، أَوْ مِنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ. وَقِيلَ: مِنْ حَيْثُ كَانُوا، فَهُمْ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ لَا يَبْعُدُونَ عَنْهُ وَلَا يَفُوتُونَهُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَزَعُ هُوَ الْفَزَعَ الَّذِي بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، يُقَالُ فَزِعَ الرَّجُلُ: إِذَا أَجَابَ الصَّارِخَ الَّذِي يستغيث به كَفَزَعِهِمْ إِلَى الْحَرْبِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أَيْ: بِمُحَمَّدٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ بِالْقُرْآنِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِالْبَعْثِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ التَّنَاوُشُ التَّنَاوُلُ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ التَّنَاوُشِ الَّذِي هُوَ التَّنَاوُلُ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ لَهُمْ أَنْ يَتَنَاوَلُوا الْإِيمَانَ مِنْ بَعْدُ، يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ تَرَكُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَعْنَى مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي طَلَبِ الْخَلَاصِ بَعْدَ مَا فَاتَ عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا تَنَاوَلَ رَجُلًا لِيَأْخُذَ بِرَأْسِهِ أَوْ بِلِحْيَتِهِ نَاشَهُ يَنُوشُهُ نَوْشًا، وَأَنْشَدَ:
فَهِيَ تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عُلَا نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أَجْوَازَ الْفَلَا «١»
أَيْ: تَنَاوَلُ مَاءَ الْحَوْضِ مِنْ فَوْقُ، وَمِنْهُ الْمُنَاوَشَةُ فِي الْقِتَالِ، وَقِيلَ التَّنَاوُشُ: الرَّجْعَةُ، أَيْ: وَأَنَّى لَهُمُ الرَّجْعَةُ إِلَى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا، وَمِنْهُ قول الشاعر:
تمنّى أن تؤوب إِلَيَّ مَيٌّ وَلَيْسَ إِلَى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ
وَجُمْلَةُ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا آمَنُوا بِهِ الْآنَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْوَقْتِ، وَذَلِكَ حَالُ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ «التَّنَاؤُشُ» بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْوَاوِ، وَاسْتَبْعَدَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالنَّحَّاسُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِبْعَادِ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَعَدْتَ زَمَانًا عَنْ طِلَابِكَ لِلْعُلَا وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخيرا «٢»
أَيْ: وَجِئْتَ أَخِيرًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَمْزُ وَتَرْكُ الْهَمْزِ مُتَقَارِبٌ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ: يَرْمُونَ بِالظَّنِّ فَيَقُولُونَ: لَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أَيْ مِنْ جِهَةٍ بَعِيدَةٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْتَنَدٌ لِظَنِّهِمُ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ أَقْوَالًا بَاطِلَةً: إِنَّهُ سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ يَقُولُونَ فِي مُحَمَّدٍ إِنَّهُ سَاحِرٌ شَاعِرٌ كَاهِنٌ مَجْنُونٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو «يُقْذَفُونَ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ: أَيْ يُرْجَمُونَ بِمَا يَسُوؤُهُمْ مِنْ جَرَّاءِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، وَفِيهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ يَرْمِي شَيْئًا لَا يَرَاهُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا مَجَالَ لِلْوَهْمِ فِي لُحُوقِهِ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مَعْطُوفَةٌ على: وقد كفروا به على أنها حِكَايَةٌ لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَاسْتِحْضَارٌ لِصُورَتِهَا، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ من
(١). البيت لغيلان بن حريث.
(٢). في القرطبي (١٤/ ٣١٧) : الخبر.
385
النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، أَوْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أَيْ: بِأَمْثَالِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْأَشْيَاعُ جَمْعُ شِيَعٍ، وَشِيَعٌ جَمْعُ شِيعَةٍ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: فِي شَكٍّ مُوقِعٍ فِي الرِّيبَةِ أَوْ ذِي رِيبَةٍ مِنْ أَمْرِ الرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ فِي التَّوْحِيدِ وَمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلَ مِنَ الدِّينِ، يُقَالُ أَرَابَ الرَّجُلُ: إِذَا صَارَ ذَا رِيبَةٍ فَهُوَ مُرِيبٌ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الرَّيْبِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ: عَجَبٌ عَجِيبٌ وَشِعْرٌ شَاعِرٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا فَوْتَ قَالَ: فَلَا نَجَاةَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قَالَ: هُوَ جَيْشُ السُّفْيَانِيِّ، قِيلَ مِنْ أَيْنَ أُخِذُوا؟ قَالَ: مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يُخْسَفُ بِجَيْشٍ فِي الْبَيْدَاءِ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ، وَخَارِجِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَصَفِيَّةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قِصَّةَ الْخَسْفِ هَذِهِ مَرْفُوعَةً، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ سَبَأٍ وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قَالَ: كَيْفَ لَهُمُ الرَّدُّ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قَالَ: يَسْأَلُونَ الرَّدَّ، وَلَيْسَ بِحِينِ رَدٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ التَّيْمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ: مَا التَّنَاوُشُ؟ قَالَ: تَنَاوُلُ الشيء وليس بحين ذاك.
386
﴿ وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ ﴾ أي بمحمد، قاله قتادة، أو بالقرآن. وقال مجاهد : بالله عزّ وجلّ. وقال الحسن : بالبعث ﴿ وأنى لَهُمُ التناوش ﴾ التناوش التناول، وهو تفاعل من التناوش الذي هو التناول، والمعنى : كيف لهم أن يتناولوا الإيمان من بعد، يعني : في الآخرة، وقد تركوه في الدنيا، وهو معنى ﴿ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ ﴾ وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد ما فات عنهم. قال ابن السكيت : يقال للرجل إذا تناول رجلاً ليأخذ برأسه، أو بلحيته ناشه ينوشه نوشاً، وأنشد :
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا نوشاً به تقطع أحواز الفلا
أي تناول ماء الحوض من فوق، ومنه المناوشة في القتال، وقيل : التناوش الرجعة، أي وأنى لهم الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا، ومنه قول الشاعر :
تمنى أن تئوب إليّ مي وليس إلى تناوشها سبيل
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله :﴿ فَلاَ فَوْتَ ﴾ قال : فلا نجاة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ قال : هو جيش السفياني قيل : من أين أخذوا ؟ قال : من تحت أقدامهم. وقد ثبت في الصحيح : أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة وعائشة، وخارج الصحيح من حديث أمّ سلمة، وصفية، وأبي هريرة، وابن مسعود، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذه الآية، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بن اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة، وقال في آخرها : فذلك قوله عزّ وجلّ في سورة سبأ :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾ الآية. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله :﴿ وأنى لَهُمُ التناوش ﴾ قال : كيف لهم الردّ ؟ ﴿ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ ﴾ قال : يسألون الردّ، وليس بحين ردّ. وأخرج ابن المنذر عن التيمي قال : أتيت ابن عباس قلت : ما التناوش ؟ قال : تناول الشيء، وليس بحين ذاك.
وجملة ﴿ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ في محل نصب على الحال، أي والحال أن قد كفروا بما آمنوا به الآن من قبل هذا الوقت، وذلك حال كونهم في الدنيا. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، والأعمش :( التناؤش ) بالهمز، وقرأ الباقون بالواو، واستبعد أبو عبيد، والنحاس القراءة الأولى، ولا وجه للاستبعاد، فقد ثبت ذلك في لغة العرب وأشعارها، ومنه قول الشاعر :
قعدت زماناً عن طلابك للعلا وجئت نئيشاً بعد ما فاتك الخير
أي : وجئت أخيراً. قال الفراء : الهمز وترك الهمز متقارب ﴿ وَيَقْذِفُونَ بالغيب ﴾ أي يرمون بالظنّ، فيقولون : لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ﴿ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ ﴾ أي من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم الباطل.
وقيل المعنى : يقولون في القرآن أقوال باطلة : إنه سحر وشعر وأساطير الأوّلين. وقيل : يقولون في محمد إنه ساحر شاعر كاهن مجنون. وقرأ أبو حيوة، ومجاهد، ومحبوب عن أبي عمرو :( يقذفون ) مبنياً للمفعول، أي يرجمون بما يسوؤهم من جراء أعمالهم من حيث لا يحتسبون، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه، والجملة إما معطوفة على :﴿ وقد كفروا به ﴾ على أنها حكاية للحال الماضية، واستحضار لصورتها، أو مستأنفة لبيان تمثيل حالهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله :﴿ فَلاَ فَوْتَ ﴾ قال : فلا نجاة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ قال : هو جيش السفياني قيل : من أين أخذوا ؟ قال : من تحت أقدامهم. وقد ثبت في الصحيح : أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة وعائشة، وخارج الصحيح من حديث أمّ سلمة، وصفية، وأبي هريرة، وابن مسعود، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذه الآية، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بن اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة، وقال في آخرها : فذلك قوله عزّ وجلّ في سورة سبأ :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾ الآية. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله :﴿ وأنى لَهُمُ التناوش ﴾ قال : كيف لهم الردّ ؟ ﴿ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ ﴾ قال : يسألون الردّ، وليس بحين ردّ. وأخرج ابن المنذر عن التيمي قال : أتيت ابن عباس قلت : ما التناوش ؟ قال : تناول الشيء، وليس بحين ذاك.
﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ من النجاة من العذاب، ومنعوا من ذلك وقيل : حيل بينهم، وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم، أو حيل بينهم، وبين ما يشتهونه من الرجوع إلى الدنيا ﴿ كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ ﴾ أي بأمثالهم، ونظرائهم من كفار الأمم الماضية، والأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة، وجملة :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ في شَكّ مُّرِيبِ ﴾ تعليل لما قبلها، أي في شك موقع في الريبة، أو ذي ريبة من أمر الرسل، والبعث والجنة والنار، أو في التوحيد، وما جاءتهم به الرسل من الدين، يقال : أراب الرجل إذا صار ذا ريبة فهو مريب، وقيل : هو من الريب الذي هو الشك، فهو كما يقال عجب عجيب، وشعر شاعر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله :﴿ فَلاَ فَوْتَ ﴾ قال : فلا نجاة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ قال : هو جيش السفياني قيل : من أين أخذوا ؟ قال : من تحت أقدامهم. وقد ثبت في الصحيح : أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة وعائشة، وخارج الصحيح من حديث أمّ سلمة، وصفية، وأبي هريرة، وابن مسعود، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذه الآية، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بن اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة، وقال في آخرها : فذلك قوله عزّ وجلّ في سورة سبأ :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾ الآية. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله :﴿ وأنى لَهُمُ التناوش ﴾ قال : كيف لهم الردّ ؟ ﴿ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ ﴾ قال : يسألون الردّ، وليس بحين ردّ. وأخرج ابن المنذر عن التيمي قال : أتيت ابن عباس قلت : ما التناوش ؟ قال : تناول الشيء، وليس بحين ذاك.
Icon