ﰡ
مكية، أربع وخمسون آية، ثمانمائة وثلاث وثمانون كلمة، ألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، أي له تعالى خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد، والإعدام، والإحياء، والإماتة جميع ما وجد فيهما، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ أي له المنّة على أهل الجنة فيحمدونه، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١). فالحكيم هو الفاعل على وفق العلم فإن من يعلم أمرا، ولم يأت بما يناسب علمه لا يقال له: حكيم. ومن يأت بأمر عجيب على سبيل الاتفاق من غير علم لا يقال له: حكيم. والخبير: هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها، فهو حكيم في الابتداء، يخلق كما ينبغي، وخبير بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق، وما لا يصدر، ومصير كل أحد. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من الغيث والكنوز والدفائن والأموات ونحوها. وَما يَخْرُجُ مِنْها كالحيوان والنبات وماء العيون ونحوها. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالملائكة والكتب والمقادير ونحوها. وَما يَعْرُجُ فِيها كالملائكة وأعمال العباد، والأبخرة، والأدخنة. وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)، أي الرحيم بإنزال الرزق وللحامدين عليه، والغفور عند ما تعرج إليه الأرواح والأعمال، وللمفرطين في الحمد. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا- أبو جهل وأصحابه-: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ أي الساعة عالِمِ الْغَيْبِ.
قرأ نافع وابن عامر بالرفع على المدح فالوقف على «لتأتينكم» حينئذ كاف، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بالجر نعت ل «ربي»، أو بدل منه. وقرأ حمزة والكسائي «علام»، بالجر والوقف حينئذ على «بلى»، وهو كاف كالوقف على الغيب. لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ أي لا يغيب عن الله وزن نملة حمراء صغيرة. وقرأ الكسائي بكسر الزاي فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فقوله: فِي السَّماواتِ إشارة إلى علمه تعالى بالأرواح، لأنها في السماء وقوله: وَلا فِي الْأَرْضِ إشارة إلى علمه تعالى بالأجساد، لأن أجزاءها في الأرض، وإذا علم الله الأرواح والأشباح وقدر على جمعها لا يبقى استبعاد في المعاد وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أي من مثقال ذرة وَلا أَكْبَرُ منه إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣)، أي إلّا مكتوب في اللوح المحفوظ، وجملة «ولا أصغر» إلى آخرها
وهذا علة لقوله تعالى: لَتَأْتِيَنَّكُمْ. أُولئِكَ الموصوفون بالصفات الجليلة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما فرط منهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) فإن الرزق يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه ما لم يتسبب فيه لا يأتي، ثم إن المغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور كما
في حديث البخاري: «يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان والرزق الكريم جزاء العمل الصالح»
. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بالإبطال أي كذبوها مُعاجِزِينَ أي متأخرين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «معجزين» بتشديد الجيم، وبغير ألف بعد العين أي مريدين التعجيز، أو ظانين أنهم يفوتون الله، أو مثبطين عن الإيمان من أراده أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ، أي من جنس سوء العذاب أَلِيمٌ (٥) أي شديد.
وقرأ ابن كثير وحفص بالرفع صفة ل «عذاب» والباقون بالجر صفة ل «رجز». وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، أي ويعلم أولو العلم من أصحاب رسول الله ومن علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وكعب وأضرابهما. الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن هُوَ الْحَقَّ بالنصب على أنه مفعول ثان، وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) الذي هو التوحيد. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أبو سفيان وأصحابه للسفلة: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ أي يحدثكم بعجب عجاب إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أي إنكم
تنشأون خلقا جديدا بعد أن تفرقت أجسادكم كل تفريق بحيث تصير ترابا، ويقصدون بذلك الرجل سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي أهو الرجل تعمد على الله كذبا، إن كان يعتقد خلاف أخباره بأنهم يبعثون أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي إما فيه جنون إن كان لا يعتقد خلافه وهذا إما من تمام القائل أو لا أو من كلام السامع المجيب لذلك القائل. قال الله تعالى جوابا بالتردد مناديا عليهم بسوء حالهم: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨)، لأن من يسمي المهتدي ضالا يكون هو الضال، ومن يسمي الهادي ضالا يكون أضل أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أي أفعلوا ما فعلوا من المنكر فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم فذلك يدل على وحدانية الله وكمال قدرته، وذلك دليل على الإعادة إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسفناها بقارون وأصحابه أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً، أي قطعا مِنَ السَّماءِ كما أسقطناها على أصحاب الأيكة لاستحقاقهم ذلك.
وقرأ حفص بفتح السين. والباقون بسكونها. وقرأ حمزة والكسائي «إن يشأ يخسف»، «أو يسقط» بالياء في الثلاثة إِنَّ فِي ذلِكَ أي المحيط بالناظر من جميع الجوانب لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)، أي لكل من يرجع إلى الله ويترك التعصب تدل على قدرة الله على إحياء الموتى،
أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي أمرناه بأن اعمل دروعا واسعات، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي توسط في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقها، أو لا تصرف جميع أوقاتك إلى النسج بل مقدار ما يحصل به القوت، وأما الباقي فاصرفه إلى العبادة، وَاعْمَلُوا صالِحاً أي لستم مخلوقين إلّا للعمل الصالح، فأكثروا منه وقدروا في الكسب إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) فمن يعمل لملك شغلا ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخر له الريح عوضا عن الخيل التي عقرها الله تعالى.
وقرأ شعبة برفع «الريح» على الابتداء والخبر مجرور قبله، لأن الريح كانت لسليمان كالمملوك المختص به يأمرها بما يريد حيث يريد. غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك.
قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر ويروح من إصطخر فيبيت ببابل.
وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس المذاب يعمل به ما يشاء كما يعمل بالطين، وكان ذلك بأرض اليمن.
وقيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بالسخرة من البنيان وغيرها بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بأمره تعالى، وَمَنْ يَزِغْ أي يمل مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) أي عذاب النار الوقود في الآخرة يَعْمَلُونَ لَهُ، أي في أيّ وقت يشاء ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي أبنية مرتفعة يصعد إليها بدرج، وَتَماثِيلَ أي صور من نحاس وزجاج ورخام ونحو ذلك. وقيل: هي صور الملائكة والأنبياء، والعباد، كانت تصور في المساجد ليراها الناس، فيزدادوا عبادة، ويعبدوا ربهم على مثالهم.
وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد على الكرسي بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا جلس أظله النسران بأجنحتهما. وَجِفانٍ كَالْجَوابِ أي قصاع كالحياض الكبار. وقيل: كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل.
وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف. وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا.
والباقون بالحذف وقفا ووصلا. وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها
وروي أن سليمان عليه السلام جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلي. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) أي المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته، فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ أي سليمان الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ أي آله عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ- وهي الأرضة- تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أي عصاه فَلَمَّا خَرَّ أي وقع سليمان على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي علمت الجن علما بيّنا أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)، أي أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كموت سليمان، ما لبثوا في العذاب المهين وحينئذ يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، بل كانوا يسترقون السمع ويموهون على الناس أنهم يعلمون الغيب.
وقال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني. فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة، فدعا الشياطين، فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلي متكئا على عصاه، فقبض الله روحه وهو متكئ عليها، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، وكان للمحراب كوي بين يديه وخلفه، فكانت الجن تعمل الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته، وينظرون إلى سليمان عليه السلام فيرونه قائما متكئا على عصاه، فيحسبونه حيا فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخرّ ميتا، فعلموا بموته حينئذ، فشكروا ذلك للأرضة، فأينما كانت يأتونها بالماء والطين وقالوا لها: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما.
وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بناء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه، وكان عمره سبعا وستين سنة، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان ملكه خمسين سنة، وقرّب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور، ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء، وقال: اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان، وقوّيتني على بناء هذا المسجد، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت وتوفني على ملتك، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني اسألك لمن دخل المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلّا غفرت له وتبت عليه، ولا خائف إلّا أمنته، ولا سقيم إلّا شفيته، ولا فقيرا إلّا أغنيته، والخامسة: أن لا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه إلّا من أراد إلحادا أو ظلما يا رب العالمين. لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ أي علامة دالة على قدرتنا.
وقرأ حمزة وحفص بسكون السين، وفتح الكاف، والكسائي بكسرها. والباقون «مساكنهم» بلفظ الجمع، أي عند مواضع سكناهم- وهي باليمن يقال لها: مأرب، بينها وبين
قال وهب: أرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله تعالى، وذكروهم نعم الله عليهم، وأنذروهم عقابه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله تعالى علينا من نعمة، فقولوا لربكم:
فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي سلّطنا عليهم سيل الوادي- والعرم: واد في اليمن يقال له، وادي الشجر، وكان فيه مسناة يحسبون الماء في الوادي، وكان لها ثلاثة أبواب بعضها أسفل من بعض، فكانوا يسقون من الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث على قدر حاجاتهم، فأخصبوا، وكثرت أموالهم- فلما
كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأرة فنقبت الردم، فهدم الله تلك المسناة وأهلكهم بذلك الماء، وأهلك ما كان لهم من البساتين والبيوت وغير ذلك. وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ أي أذهبنا جنتيهم، وآتيناهم بدلهما جنتين ذواتي ثمر بشع.
وقرأ أبو عمرو «أكل» بغير تنوين، أي ثمر أراك وَأَثْلٍ أي طرفاء، وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) أي قليل ثمره كثير شوكه، له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلا، ولا ينتفع بورقه في غسل اليد، وهو سدر بري، وهذان معطوفان على «أكل» لا على «خمط». وقرئ «وأثلا وشيئا» عطفا على «جنتين». ذلِكَ أي التبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧)، أي وما نجازي هذا الجزاء إلّا المبالغ في الكفران.
وقرأ حفص وحمزة والكسائي بنون العظمة. والباقون بالياء على البناء للمفعول «الكفور». وقرئ على البناء للفاعل- وهو الله تعالى- وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالماء والشجر قُرىً ظاهِرَةً أي وجعلنا بين أهل سبأ- وهم باليمن- وبين أهل الأردن وفلسطين- وهم بالشام- قرى يرى بعضها من بعض لتقاربها، يرى سواد القرية من القرية الأخرى. قيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا السير بين قراهم والشام سيرا مقدرا من قرية إلى قرية، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار، فلا يحتاجون في السفر إلى حمل زاد وماء وقلنا لهم:
سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) وهو أمر بمعنى الخبر، أي تسيرون في تلك القرى إن شئتم
قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين، ولا جائعين، ولا ظامئين كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أماكن لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه، فَقالُوا على وجه الدعاء: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أي باعد بين المنازل التي تنزل فيها بأن يكون بين كل واحد والآخر مسافة بعيدة، أي سألوا أن يجعل الله تعالى بينهم وبين الشام قفارا ليركبوا فيها الرواحل، ويتزودوا الأزواد، ويتطاولوا فيها على الفقراء، فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة، وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعد» بتشديد العين من غير ألف. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث عدوا النعمة نقمة والإحسان إساءة، وتركوا شكر تلك النعم فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ بمن بعدهم، فيتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم، ومعتبرين بعاقبتهم، ويضربون مثلا فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ- والأيدي: بمعنى الأنفس أو الأولاد- وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقناهم كل تفريق، أي فلما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، فغسان لحقوا بالشام والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة، والأوس والخزرج بيثرب. إِنَّ فِي ذلِكَ أي التمزيق والإهلاك لَآياتٍ أي لعبرات لِكُلِّ صَبَّارٍ عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات، شَكُورٍ (١٩) على النعم وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي وجد إبليس ظنه صادقا أنه يغوي بني آدم، أو في أنه خير منهم، فالمتبوع خير من التابع، فإبليس امتنع من عبادة غير الله، والمشركون يعبدون غير الله، فإبليس كفر بأمر أقرب إلى التوحيد، والمشركون كفروا بالإشراك.
وقرأ الكوفيون «صدق» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف أي صدق في ظنه، أو جعل ظنه صادقا. وقرئ بنصب «إبليس»، ورفع «ظن» مع تشديد «صدق» بمعنى: وجد ظنه صادقا، ومع التخفيف بمعنى: قال له الصدق حين خيل له إغوائهم وبرفعها مع التخفيف على الإبدال فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) أي إلا فريقا هم المؤمنون، فإن المؤمنين كلهم لم يتبعون في أصل الدين، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين فإن المخلصين لم يتبعوه في العصيان
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، أي وما كان تسلط إبليس على بني آدم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هم في شك منها فنجازي كلا منهما، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع، قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي قل يا أشرف الخلق لكفار مكة بني مليح، وكانوا يعبدون الجن، ويظنون أنهم الملائكة: ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع. قال الله تعالى: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي
أي لا يملك آلهتهم وزن ذرة من نفع وضر في أمر من الأمور، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي وما لآلهتهم في السموات والأرض من شركة مع الله لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا، وَما لَهُ تعالى مِنْهُمْ أي من آلهتهم مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢)، أي معين في تدبير أمرهما، وفي خلق شيء بل الله تعالى هو المنفرد بالإيجاد، فهو الذي يجب أن يكون معبودا، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي ولا تقع الشفاعة عنده تعالى في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن الله له في الشفاعة من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أذن له» مبنيا للمجهول حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، أي حتى إذا أزيل الفزع الذي عند الوحي أي حين انحدر عليهم جبريل فإن الله عند ما يوحي يفزع من في السموات، ثم يزيل الله عنهم الفزع فرفعوا رؤوسهم، فحتى غاية متعلقة بقوله تعالى قل:
قالُوا أي الملائكة السائلون من جبريل: ماذا قالَ رَبُّكُمْ يا جبريل؟ قالُوا أي جبريل ومن تبعه: الْحَقَّ أي قال ربنا القول الحق وهو الإذن في الشفاعة للمستحقين لها. وقرئ «الحق» بالرفع أي ما قاله الحق، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) أي هو المنفرد بالعلو والكبرياء ليس لأحد من أشراف الخلائق أن يتكلم إلا بإذنه قُلْ يا أشرف الخلق لكفار مكة: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات؟ قُلِ اللَّهُ أي فإن أجابوك وقالوا: الله، فذلك ظاهر، وإن لم يقولوا ذلك فقل: الله يرزق إذ لا جواب سواه. وهذا إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به تعالى، ومنه تعالى فإذا إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعلوه وكبريائه سواء دفع عنكم ضررا أو لم يدفع، وسواء نفعكم بخير، أو لم ينفع فإن لم تكونوا كذلك فاعبدوه لدفع الضر وجر النفع.
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) أي وإن أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق بالعبادة، والذين يشركون به في العبادة الجماد الذي لا يوصف بالقدرة لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبين، واختلاف الجارين للإعلام بأن المهتدي كمن استعلى منارا ينظر الأشياء والضال، كأنه منغمس في ظلام لا يرى شيئا. قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا أي أذنبنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) في كفركم لأنا بريئون منكم. وهذا أبعد من الجدل، وأبلغ في التواضع حيث أسندوا الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ أي يحكم بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بالعدل بأن يدخل المحقّين الجنة والمبطلين النار، وَهُوَ الْفَتَّاحُ أي البليغ الفتح لما انغلق، الْعَلِيمُ (٢٦) بما ينبغي أن يحكم به. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ تعالى شُرَكاءَ، لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله في استحقاق العبادة هل يخلقون أو يرزقون؟ كَلَّا أي حقا لم يخلقوا شيئا، ولم يرزقوا بشيء أو لا تشركوا بالله شيئا، بَلْ هُوَ أي الله الذي ألحقتم به شركاء اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) أي الله الموصوف بالغلبة القاهرة وبالحكمة الباهرة، فأين شركاؤهم التي هي
وقرئ «ميعاد يوم» برفع الاسمين مع التنوين على البدل. وقرئ برفع «ميعاد»، ونصب «يوم» مع التنوين فيهما أي أعني يوما، وذلك يفيد التعظيم والتهويل.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أبو جهل بن هشام وأصحابه: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ الذي يقرؤه علينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ولا بالذي قبل القرآن من التوراة والإنجيل، والزبور، وسائر الكتب الدالة على البعث. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي ولو ترى إذ المنكرون للبعث محبوسون في موقف المحاسبة، راجعا بعضهم القول إلى بعض لرأيت أمرا عجيبا، ثم فسر قوله تعالى: يَرْجِعُ إلخ بقوله تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي قهروا وهم السفلة، لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي تعظموا عن الإيمان وهم القادة: لَوْلا أَنْتُمْ مضلون إيانا وصادون إيانا عن الإيمان لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) باتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لرؤوسائهم لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢). أي بل أنتم الصادون بأنفسكم بسبب كونكم راسخين في الإجرام. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إبطالا لإنكارهم الصد: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي بل صدنا مكركم بنا بالليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ قبل إتيان الرسل، وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أي أعدالا، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفى كل من الفريقين الندامة عن الآخر مخافة التعبير. ويقال: أظهر القادة والسفلة الندامة على ترك الإيمان بالله لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي حين رأوه، وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا الأتباع والمتبوعين جميعا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) ؟ أي لا يجزون إلا بما كانوا يعملونه في الدنيا وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي أغنياؤها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) أي جاحدون.
وَقالُوا للرسل: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً منكم بسبب لزومنا لديننا، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) في الآخرة بديننا هذا، كأنهم قالوا: حالنا عاجلا خير من حالكم، ولا نعذب آجلا.
قالوا ذلك إنكارا منهم للعذاب بالكلية، أو اعتقادا لحسن حالهم أيضا، قياسا على حالهم في الدنيا. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسط له وَيَقْدِرُ أي يقتر على من يشاء، فسعة
وقرأ حمزة «الغرفة» على التوحيد على إرادة الجنس. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي يكذبونها مُعاجِزِينَ أي متأخرين عنها، وفي قراءة «معجزين» أي معتقدين عجزنا، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) أي يخرجون منه، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله، فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعوضه في الدنيا بالمال أو بالقناعة، وفي الآخرة بالحسنات وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) أي الواهبين للرزق، وأفضل المعوضين. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي بني مليح والملائكة جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ إهانة لهؤلاء الكفار- وقرأ حفص «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء-: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) بأمركم؟
قالُوا أي الملائكة متبرئين منهم: سُبْحانَكَ أي ننزهك عن أن يكون غيرك معبودا وأنت معبودنا، ومعبود كل خلق أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت الذي نواليك أي نتقرب منك بالعبادة مِنْ دُونِهِمْ أي لم يكن لنا دخل في عبادتهم لنا.
وقال الرازي: معنى «أنت ولينا من دونهم»، أي كونك ولينا بالمعبودية أحب إلينا من كون هؤلاء الضالين أولياء بالعبادة لنا، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، أي كانوا ينقادون لأمر الشياطين، فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الشياطين، وكنا نحن كالقبلة لهم أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)، أي كل المشركين مصدقون للشياطين. وهذا محض كلام الله تعالى والوقف على الجن تام، وأما إذا قلنا: إن هذا من كلام الملائكة فمعنى أكثرهم على أصله وإنما قالوا ذلك لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب، أو على من في جميع الوجود، فَالْيَوْمَ أي يوم الحشر لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا يقدر المعبودون- وهم الملائكة- على نفع العابدين- وهم الكفار- بالثواب ولا على دفع ضررهم، وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا، وهذا معطوف على قوله تعالى:
يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أي ونقول: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها أي بالنار تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ، أي كفار مكة بلسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم آياتُنا الناطقة بحقيقة التوحيد وبطلان الشرك بَيِّناتٍ، أي واضحات قالُوا ما هذا أي التالي إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الآلهة وَقالُوا ما هذا أي القول بالوحدانية إِلَّا إِفْكٌ أي كلام مصروف عن وجهه،
قال الرازي: وإن أعيد اسم الإشارة الثاني إلى القرآن كان اسم الإشارة هذا عائد إلى المعجزات، فإنكار التوحيد كان مختصا بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمعجزات كان متفقا عليه بين المشركين، وأهل الكتاب. ولذلك قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ على وجه العموم وهو بدل عن قوله تعالى: وقالوا للحق وَما آتَيْناهُمْ أي ما أعطينا كفار مكة مِنْ كُتُبٍ دالة على صحة الإشراك يَدْرُسُونَها أي يقرءونها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) أي رسول يدعوهم إلى الإشراك وينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الأمم المتقدمة وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ، أي وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة وكثرة المال وطول العمر، فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) أي تغييري عليهم بالتدمير، وما نفعتهم قوتهم وما لهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟ ويقال: وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا قوم محمد من البيان والبرهان فإن محمدا أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفى، وبيانه أشفى، وكتابه أكمل من سائر الكتب، وأوضح، ثم إن المتقدمين لما كذبوا الكتب والرسل أنكر عليهم وكيف لا أنكر على هؤلاء الأمة وقد كذبوا بأفصح الرسل وأوضح السبل، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك. قُلْ يا أكرم الرسل لكفار مكة: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي ما أنصح لكم إلا بخصلة واحدة أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فقوله تعالى: أَنْ تَقُومُوا بدل من «واحدة» فإن الازدحام يشوش الأفهام ويخلط الأفكار بالأوهام، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به أما الاثنان فيتفكرون، ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه لينظر فيه، وأما الواحد فيفكر في نفسه بعدل فيقول: هل رأينا من هذا الرجل جنونا أو جربنا عليه كذبا، وقد علمتم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما به من جنون بل علمتموه أرجح قريش عقلا، وأوزنهم حلما، وأحدّهم ذهنا، وأرضاهم رأيا، وأصدقهم قولا، وأزكاهم نفسا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، وإذا علمتهم بذلك كفاكم أن تطالبوه بآية، وإذا جاء بها تبين أنه نبي صادق فيما جاء به، ثم نبه الله تعالى على طريقة النظر بقوله تعالى: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ نفي مستأنف، فالوقف على «تتفكروا» تام عند أبي حاتم أي ما بصاحبكم محمد من جنون، ويجوز أن يكون تتفكروا معلقا عن الجملة المنفية فهي في موضع نصب على إسقاط في، أي ثم تتفكروا في عدم الجنون في صاحبكم، ويجوز أن تكون «ما» استفهامية على معنى «ثم تتفكروا»، أي شيء بمحمد من آثار الجنون، وعلى هذين الاحتمالين لا وقف على «تتفكروا». إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) أي ما محمد إلا رسول مخوف لكم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب قبل عذاب شديد في الآخرة، إن لم تؤمنوا به. قُلْ لهم يا أشرف الخلق: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ
أي أيّ شيء سألتكم من أجر على تبليغ الرسالة فَهُوَ لَكُمْ. والمراد نفي السؤال بالكلية أي لا أسألكم على إنذاركم أجرا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فلا أطلب شيئا إلا عنده تعالى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) يعلم صدقي وخلوص نيتي. قُلْ لمن أنكر التوحيد والرسالة: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي يلقيه في قلوب المحقين فإن الأمر بيده تعالى أو
يقذف بالحق على الباطل فهو إشارة إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨) أي ما غاب في السموات والأرض عن خلقه وقُلْ لهؤلاء: جاءَ الْحَقُّ أي ظهر الإسلام وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)، أي يزهق الشرك بحيث لم يبق له إبداء ولا إعادة ف «ما» نافية، وهذا جعل مثلا في الهلاك بالمرة.
قُلْ للكفار الذين قالوا لك يا محمد، تركت دين آبائك فضللت: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي ضلالي على نفسي كضلالكم، وأما اهتدائي فليس كاهتدائكم بالنظر والاستدلال وإنما هو بالوحي المبين. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) يسمع قول كل من المهتدي والضال، وفعله، وإن بالغ في إخفائهما،
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا أي ولو ترى حالهم وقت فزعهم بخسف البيداء لرأيت أمرا هائلا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ثمانين ألفا يغزون الكعبة في آخر الزمان ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم الأرض وماتوا. فَلا فَوْتَ أي فلا يفوت منهم أحد وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) أي من تحت أقدامهم وخسف بهم الأرض، وَقالُوا عند ما خسف بهم الأرض: آمَنَّا بِهِ بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ، أي ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا؟ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢). أي بعد الموت فلا يكون الإيمان إلا في الدنيا وهم في الآخرة، فالدنيا من الآخرة بعيد وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ أي بمحمد أو بالعذاب الذي أنذرهم إياه مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول العذاب، وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) أي ويقولون ما لا يعلمون من وهمهم الفاسد، وظنهم الخاطئ فإنهم قالوا في حق النبي ساحر شاعر كاهن، وفي حق القرآن سحر شعر كهانة. ويقال: أي يسألون الرجعة إلى الدنيا بعد الموت. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من العود إلى الدنيا أو من لذات الدنيا، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي بأشباههم في الكفر مِنْ قَبْلُ أي من قبلهم من الكفار فكل من جاءه الملك طلب التأخير، ولم يعط وأرادوا أن يؤمنوا عند ظهور اليأس ولم يقبل الإيمان منهم إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤) أي ذي ريبة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار.