ﰡ
سُورَةِ سَبَأٍ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ لَهُ الْحَمْدَ الْمُطْلَقَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْمَالِكُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، الْحَاكِمُ فِي جميع ذلك، كما قال تَعَالَى:
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ولهذا قال تعالى هَاهُنَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وعبيده وتحت تصرفه وقهره، كما قال تعالى: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى [اللَّيْلِ: ١٣]، ثُمَّ قَالَ عز وجل: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْمَعْبُودُ أَبَدًا، المحمود على طول المدى.
وقوله تعالى: هُوَ الْحَكِيمُ أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره الْخَبِيرُ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: خبير بخلقه، حكيم بأمره، ولهذا قال عز وجل: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها أَيْ يَعْلَمُ عَدَدَ الْقَطْرِ النَّازِلِ فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَالْحَبِّ الْمَبْذُورِ، وَالْكَامِنِ فِيهَا، وَيَعْلَمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ عَدَدُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ وَصِفَاتُهُ وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ أَيْ مِنْ قَطْرٍ وَرِزْقٍ، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، أَيْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أَيِ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ، فَلَا يُعَاجِلُ عُصَاتَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، الْغَفُورُ عن ذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣ الى ٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)
هَذِهِ إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي لَا رَابِعَ لَهُنَّ مما أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْسِمَ بربه العظيم على وقع: الْمَعَادِ، لَمَّا أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْلِ الكفر والعناد، فإحداهن في سورة
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ، أَيِ الْجَمِيعُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ علمه، فلا يخفى عليه شَيْءٌ، فَالْعِظَامُ وَإِنْ تَلَاشَتْ وَتَفَرَّقَتْ وَتَمَزَّقَتْ، فَهُوَ عَالِمٌ أَيْنَ ذَهَبَتْ، وَأَيْنَ تَفَرَّقَتْ، ثُمَّ يُعِيدُهَا كَمَا بَدَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ثُمَّ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ فِي إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ وقيام الساعة، بقوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أَيْ سَعَوْا فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ الله تعالى وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أَيْ لِيُنَعِّمَ السُّعَدَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُعَذِّبَ الأشقياء من الكافرين، كما قال عز وجل: لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الْحَشْرِ: ٢٠] وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨].
وَقَوْلُهُ تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ هَذِهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى الرُّسُلِ إِذَا شَاهَدُوا قِيَامَ السَّاعَةِ وَمُجَازَاةَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ بِالَّذِي كَانُوا قَدْ علموه من كتب الله تعالى فِي الدُّنْيَا، رَأَوْهُ حِينَئِذٍ عَيْنَ الْيَقِينِ، وَيَقُولُونَ يَوْمَئِذٍ أَيْضًا لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الأعراف: ٤٣] يقال أَيْضًا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: ٥٢] لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الرُّومِ: ٥٦] وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الْعَزِيزُ هُوَ الْمَنِيعُ الْجَنَابِ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، بَلْ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شيء وغلبه، الْحَمِيدُ، فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، وهو المحمود في ذلك كله جل وعلا.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٧ الى ٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ اسْتِبْعَادِ الْكَفَرَةِ الْمُلْحِدِينَ قِيَامَ السَّاعَةِ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ
وَلِهَذَا قَالُوا: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ قَالَ اللَّهُ عز وجل رَادًّا عَلَيْهِمْ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، وَلَا كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، بَلْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ، الَّذِي جَاءَ بِالْحَقِّ، وَهُمُ الْكِذْبَةُ الجهلة الأغبياء فِي الْعَذابِ أي: الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ مِنَ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قال تعالى منبها لهم على قدرته في خلق السموات والأرض، فقال تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَيْ حَيْثُمَا تَوَجَّهُوا وذهبوا، فالسماء مطلة عليهم، والأرض تحتهم، كما قال عز وجل: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذَّارِيَاتِ: ٤٧- ٤٨].
قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قَالَ: إِنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ، أَوْ عَنْ شِمَالِكَ، أَوْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، أَوْ مَنْ خَلْفِكَ، رَأَيْتَ السماء والأرض. وقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أَيْ لَوْ شِئْنَا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وَقُدْرَتِنَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ نُؤَخِّرُ ذَلِكَ لِحِلْمِنَا وَعَفْوِنَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ:
مُنِيبٍ تَائِبٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ قَتَادَةَ: الْمُنِيبُ الْمُقْبِلُ إلى الله تعالى، أي إن في النظر إلى خلق السموات وَالْأَرْضِ لَدَلَالَةٌ لِكُلِّ عَبْدٍ فَطِنٍ لَبِيبٍ رَجَّاعٍ إلى الله، على قدرة الله تعالى عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ وَوُقُوعِ الْمَعَادِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ السَّمَوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَهَذِهِ الْأَرْضِينَ فِي انْخِفَاضِهَا، وَأَطْوَالِهَا وَأَعْرَاضِهَا، إِنَّهُ لَقَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ وَنَشْرِ الرَّمِيمِ مِنَ الْعِظَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى [يس: ٨١] وقال تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِرٍ: ٥٧].
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مِمَّا آتَاهُ مِنَ الْفَضْلِ الْمُبِينِ، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ الْمُتَمَكِّنِ، وَالْجُنُودِ ذَوِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَمَا أَعْطَاهُ وَمَنَحَهُ
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُ صَوْتَ صَنْجٍ وَلَا بَرْبَطٍ وَلَا وَتَرٍ أَحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، ومعنى قوله تعالى: أَوِّبِي أَيْ سَبِّحِي، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَزَعَمَ أَبُو مَيْسَرَةَ أَنَّهُ بِمَعْنَى سَبِّحِي بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّ التَّأْوِيبَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّرْجِيعُ، فَأُمِرَتِ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ أَنْ تُرَجِّعَ مَعَهُ بِأَصْوَاتِهَا.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِيُّ فِي كِتَابِهِ- الْجُمَلُ- فِي بَابِ النِّدَاءِ مِنْهُ يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أَيْ سَيْرِي مَعَهُ بِالنَّهَارِ كُلِّهِ، وَالتَّأْوِيبُ سَيْرُ النَّهَارِ كُلِّهِ، وَالْإِسْآدُ سَيْرُ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا لم أره لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مُسَاعَدَةٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هَاهُنَا، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تعالى: أَوِّبِي مَعَهُ أي رجعي مُسَبِّحَةً مَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُمْ: كَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُدْخِلَهُ نَارًا وَلَا يَضْرِبَهُ بِمِطْرَقَةٍ، بَلْ كَانَ يَفْتِلُهُ بيده مثل الخيوط، ولهذا قال تعالى:
أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَهِيَ الدُّرُوعُ قَالَ قَتَادَةُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا مِنَ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ صَفَائِحُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا ابْنُ سَمَاعَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ ضَمْرَةَ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْفَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْعًا فَيَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَلْفَيْنِ لَهُ، وَلِأَهْلِهِ، وَأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يُطْعِمُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ خُبْزَ الْحُوَّارَى وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ هذا إرشاد من الله تعالى لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدروع وقال مجاهد في قوله تعالى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ لَا تُدِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَقْلَقَ في الحلقة، ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر، وقال الحكم بن عيينة: لا تغلظه فيقصم، وَلَا تُدِقَّهُ فَيَقْلَقَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّرْدُ حَلَقُ الْحَدِيدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَالُ دِرْعٌ مَسْرُودَةٌ إِذَا كَانَتْ مَسْمُورَةُ الحلق، واستشهد بقول الشاعر [الكامل] :
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا | دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تبّع «٢» |
(٢) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في سر صناعة الإعراب ٢/ ٧٦٠، وشرح أشعار الهذليين ١/ ٣٩، وشرح المفصل ٣/ ٥٩، ولسان العرب (تبع)، (صنع)، (قضى)، والمعاني الكبير ص ١٠٣٩، وتاج العروس (صنع)، (قضى)، وبلا نسبة في شرح المفصل ٣/ ٥٨.
قَالَ: وَكَانَ يَعْمَلُ الدِّرْعَ، فَإِذَا ارْتَفَعَ مِنْ عَمَلِهِ دِرْعٌ بَاعَهَا فَتَصَدَّقَ بِثُلْثِهَا، وَاشْتَرَى بِثُلْثِهَا مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَ يَتَصَدَّقُ بِهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ إِلَى أَنْ يَعْمَلَ غَيْرَهَا، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى دَاوُدَ شَيْئًا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ، إِنَّهُ كان إذا قرأ الزبور تجتمع الوحوش إليه حَتَّى يُؤْخَذَ بِأَعْنَاقِهَا وَمَا تَنْفِرُ، وَمَا صَنَعَتِ الشَّيَاطِينُ الْمَزَامِيرَ وَالْبَرَابِطَ وَالصُّنُوجَ، إِلَّا عَلَى أَصْنَافِ صوته عليه السلام، وَكَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ، وَكَانَ إِذَا افْتَتَحَ الزَّبُورَ بِالْقِرَاءَةِ كَأَنَّمَا يَنْفُخُ فِي الْمَزَامِيرِ، وَكَأَنْ قَدْ أعطي سبعين مزمارا في حلقه. وقوله تعالى: وَاعْمَلُوا صالِحاً أَيْ فِي الَّذِي أَعْطَاكُمُ اللَّهُ تعالى مِنَ النِّعَمِ إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ مُرَاقِبٌ لَكُمْ بَصِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ، لَا يَخْفَى علي من ذلك شيء.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى دَاوُدَ، عَطَفَ بِذِكْرِ ما أعطى ابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ لَهُ، تَحْمِلُ بِسَاطَهُ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:
كَانَ يَغْدُو عَلَى بِسَاطِهِ مِنْ دِمَشْقَ، فَيَنْزِلُ بِإِصْطَخَرَ يَتَغَذَّى بِهَا وَيَذْهَبُ رَائِحًا مِنْ إِصْطَخَرَ فَيَبِيتُ بِكَابُلَ، وَبَيْنَ دِمَشْقَ وَإِصْطَخَرَ شَهْرٌ كَامِلٌ لِلْمُسْرِعِ وَبَيْنَ إِصْطَخَرَ وَكَابُلَ شَهْرٌ كَامِلٌ لِلْمُسْرِعِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: الْقِطْرُ النُّحَاسُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ، فَكُلُّ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ السُّدِّيُّ: وَإِنَّمَا أُسِيلَتْ لَهُ ثَلَاثَةَ أيام. وقوله تعالى: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ الْجِنَّ يَعْمَلُونَ بَيْنَ يديه بإذن ربه. أي بقدره
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعُنُونَ» رَفْعُهُ غَرِيبٌ جِدًّا. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ مضر عن محمد بن بحير عَنِ ابْنِ أَنْعُمَ أَنَّهُ قَالَ: الْجِنُّ ثَلَاثَةٌ أصناف: صِنْفٌ لَهُمُ الثَّوَابُ وَعَلَيْهِمُ الْعِقَابُ، وَصِنْفٌ طَيَّارُونَ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ. قَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ: وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أنه قال: حدثني أن الإنس ثلاثة أصناف: صِنْفٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ بِظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَصِنْفٌ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا، وَصِنْفٌ في صورة النَّاسِ عَلَى قُلُوبِ الشَّيَاطِينِ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ يَعْنِي ابْنَ الْفَضْلِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْجِنُّ وَلَدُ إِبْلِيسَ، وَالْإِنْسُ وَلَدُ آدَمَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ، وَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُؤْمِنًا، فَهُوَ وَلِيُّ الله تعالى، وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَافِرًا فَهُوَ شيطان.
وقوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ أَمَّا الْمَحَارِيبُ فَهِيَ الْبِنَاءُ الْحَسَنُ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَيْءٍ فِي الْمَسْكَنِ وَصَدْرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَحَارِيبُ بُنْيَانٌ دُونَ الْقُصُورِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْمَسَاجِدُ، وقال قتادة: هي القصور والمساجد. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْمَسَاكِنُ. وَأَمَّا التَّمَاثِيلُ، فَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: التَّمَاثِيلُ الصُّوَرُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانَتْ مِنْ نُحَاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: من طين وزجاج. وقوله تعالى: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ الْجَوَابُ جَمْعُ جَابِيَةٍ، وَهِيَ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الْمَاءُ، كَمَا قال الأعشى ميمون بن قيس [الطويل] :
تَرُوحُ عَلَى آلِ الْمَحَلَّقِ جَفْنَةٌ | كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ «١» |
وَالْقُدُورُ الرَّاسِيَاتُ، أَيِ الثَّابِتَاتُ فِي أماكنها لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها، كذا قال
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً | يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا |
وَقَدْ رَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَاجَهْ «٢» مِنْ حَدِيثِ سُنَيْدِ بْنِ دَاوُدَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ المنكدر عن أبيه عن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمَانَ بن داود عليهم السلام، لِسُلَيْمَانَ، يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ تَتْرُكُ الرَّجُلَ فَقِيرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ داود عليه الصلاة والسلام هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا مُطَوَّلًا جِدًّا وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أبو زيد فَيْضُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّقِّيُّ قَالَ: قَالَ فَضِيلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً قال دَاوُدُ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَالشُّكْرُ نِعْمَةٌ منك؟ قال «الآن شكرتني حين قلت إن النعمة مني». وقوله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ١٤]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
يَذْكُرُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَيْفَ عَمَّى اللَّهُ مَوْتَهُ عَلَى الْجَانِّ الْمُسَخَّرِينَ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَإِنَّهُ مَكَثَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَاهُ، وَهِيَ مِنْسَأَتُهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
(٢) كتاب الإقامة باب ١٧٤.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن منصور، حدثنا موسى بن مسعود، حدثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كان نبي الله سليمان عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ كَذَا، فَيَقُولُ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَإِنْ كَانَتْ تغرس غُرِسَتْ، وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟
قَالَتْ: الْخَرُّوبُ، قَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا البيت، فقال سليمان عليه السلام: اللهم عم على الجن موتي حَتَّى يَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَنَحَتَهَا عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا حَوْلًا مَيِّتًا وَالْجِنُّ تَعْمَلُ، فَأَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ فَتَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا حَوْلًا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ» قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عباس يقرؤها كذلك، قال: فشكرت الجن للأرضة، فَكَانَتْ تَأْتِيهَا بِالْمَاءِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ بِهِ. وَفِي رَفْعِهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ لَهُ غَرَابَاتٌ وَفِي بَعْضِ حَدِيثِهِ نَكَارَةٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود رضي الله عنه، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رضي الله عنهم. قال: كان سليمان عليه الصلاة والسلام يتحنث فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، وأقل من ذلك وأكثر، فيدخل فيه ومعه طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَأَدْخَلُهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي تُوَفِّي فيها، فكان بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمٌ يُصْبِحُ فيه إلا ينبت الله فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ، فَيَأْتِيهَا فَيَسْأَلُهَا: فَيَقُولُ ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسْمَيْ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا، وإن كانت تنبت دواء قالت: نبت دواء كذا وَكَذَا، فَيَجْعَلُهَا كَذَلِكَ، حَتَّى نَبَتَتْ شَجَرَةٌ يُقَالُ لها الخروبة، فسألها: ما اسمك؟ قالت: أنا الخروبة، قال ولأي شي نَبَتِّ؟ قَالَتْ: نَبَتُّ لِخَرَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ.
قَالَ سليمان عليه الصلاة والسلام: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخَرِّبُهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ، فَمَاتَ وَلَمْ تَعْلَمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يعملون له يخافون أن يخرج
وَهِيَ فِي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، فمكثوا يدينون له من بعد موته حولا كاملا، فَأَيْقَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يكذبونهم ولو أنهم يطلعون على الْغَيْبَ، لَعَلِمُوا بِمَوْتِ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلْبَثُوا فِي العذاب سنة يعملون له، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ يَقُولُ: تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لِلْأَرَضَةِ: لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ أَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ، وَلَوْ كُنْتِ تَشْرَبِينَ الشَّرَابَ سَقَيْنَاكِ أَطْيَبَ الشَّرَابِ، وَلَكُنَّا سَنَنْقُلُ إِلَيْكِ الْمَاءَ وَالطِّينَ، قَالَ: فَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهَا ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ، قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الطِّينِ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ؟ فَهُوَ مَا تَأْتِيهَا بِهِ الشَّيَاطِينُ شُكْرًا لَهَا «١».
وَهَذَا الْأَثَرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- إِنَّمَا هُوَ مِمَّا تُلُقِّيَ مِنْ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهِيَ وَقْفٌ لَا يصدق منه إِلَّا مَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَلَا يُكَذَّبُ مِنْهَا إِلَّا مَا خَالَفَ الْحَقَّ، وَالْبَاقِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قوله تبارك وتعالى:
مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَلِكِ الْمَوْتِ: إِذَا أُمِرْتَ بِي فَأَعْلِمْنِي فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا سُلَيْمَانُ قَدْ أُمِرْتُ بِكَ قَدْ بَقِيَتْ لَكَ سُوَيْعَةٌ، فَدَعَا الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ وَلَيْسَ لَهُ بَابٌ، فَقَامَ يُصَلِّي فَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ، قَالَ:
فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَبَضَ رُوحَهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَصَاهُ، وَلَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ مَلَكِ الموت، قال: والجن تعمل بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دَابَّةَ الْأَرْضِ، قَالَ: وَالدَّابَّةُ تَأْكُلُ الْعِيدَانَ يُقَالُ لَهَا الْقَادِحُ، فَدَخَلَتْ فِيهَا فَأَكَلَتْهَا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ جَوْفَ الْعَصَا ضَعُفَتْ وَثَقُلَ عَلَيْهَا فَخَرَّ مَيِّتًا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ الْجِنُّ، انْفَضُّوا وَذَهَبُوا، قَالَ: فَذَلِكَ قوله تعالى: مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ قَالَ أَصْبُغُ: بَلَغَنِي عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهَا قَامَتْ سَنَةً تَأْكُلُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يخر، وذكر غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ نَحْوًا مِنْ هَذَا، والله أعلم.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ١٧]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧)كَانَتْ سَبَأٌ مُلُوكَ الْيَمَنِ وَأَهْلَهَا، وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم، وَكَانُوا فِي نِعْمَةٍ وَغِبْطَةٍ فِي بِلَادِهِمْ وَعَيْشِهِمْ واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ تَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَيَشْكُرُوهُ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ مَا شَاءَ الله تعالى، ثُمَّ أَعْرَضُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ، فَعُوقِبُوا بِإِرْسَالِ السَّيْلِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبِلَادِ أَيْدِيَ سَبَأٍ، شَذَرَ مذر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وبيانه قريبا وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَأٍ:
مَا هُوَ أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل هو رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ، فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ ستة، والشام مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ، فَمَذْحِجُ وَكِنْدَةُ وَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارٌ وَحِمْيَرُ، وَأَمَّا الشَّامِيَّةُ: فَلَخْمُ وَجُذَامُ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ» وَرَوَاهُ عَبْدٌ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ حسن، ولم يخرجوه، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ- فِي كِتَابِ الْقَصْدِ وَالْأُمَمِ، بِمَعْرِفَةِ أُصُولِ أَنْسَابِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ- مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَعْلَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» أَيْضًا وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَنَابٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي حَيَّةَ الْكَلْبِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَرْوَةَ بن مسيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ بِمُقْبِلِ قومي مدبرهم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَعَمْ» فَقَاتِلْ بِمُقْبِلِ قَوْمِكَ مُدْبِرَهُمْ» فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: «لَا تُقَاتِلْهُمْ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ سَبَأً، واد هو أو جبل أو ما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا بل هو رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، وُلِدَ لَهُ عَشْرَةٌ فَتَيَامَنَ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ، تَيَامَنَ الْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَحِمْيَرُ وَكِنْدَةُ وَمَذْحِجُ وَأَنْمَارُ، الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ بَجِيلَةُ وَخَثْعَمُ، وَتَشَاءَمَ لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ».
وَهَذَا أيضا إسناد حسن وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَبُو جَنَابَ الْكَلْبِيُّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ الْعَنْقَزِيِّ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئٍ الْمُرَادِيِّ عَنْ عمه أو عن أبيه- شك- أسباط- قال: قدم فروة بن مسيك رضي الله عنه على رسول الله ﷺ فذكره.
(٢) المسند ٣/ ٤٥٢.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أبو أسامة، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا أَبُو سَبْرَةَ النَّخَعِيُّ عن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ سَبَأٍ مَا هُوَ: أَرْضٌ أَمِ امْرَأَةٌ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَتَيَامَنَ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَكِنْدَةُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَالْأَزْدُ وَمُذْحِجُ وَحِمْيَرُ وَأَنْمَارُ» فَقَالَ رَجُلٌ:
مَا أَنْمَارُ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ فَذَكَرَهُ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ كَثِيرٍ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَزِيدَ بن حصين عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَأٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ وَحُسِّنَ. قَالَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ- مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ-: اسْمُ سَبَأٍ عَبْدُ شَمْسِ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ سَبَأً لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَأَ فِي الْعَرَبِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الرَّائِشُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَنِمَ فِي الْغَزْوِ، فَأَعْطَى قَوْمَهُ فَسُمِّي الرَّائِشَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَالَ رِيشًا وَرِيَاشًا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ بُشِّرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا:
سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مُلْكًا عَظِيمًا | نَبِيٌّ لا يرخص في الحرام «٢» |
(٢) الأبيات في البداية والنهاية لابن كثير ٢/ ١٥٨.
ويملك بعده منهم ملوك | يدينوه الْعِبَادَ بغَيْرِ ذَامٍ |
وَيَمْلِكُ بَعْدَهُمْ مِنَّا مُلُوكٌ | يَصِيرُ الْمُلْكُ فِينَا بِاقْتِسَامِ |
وَيَمْلِكُ بَعْدَ قَحْطَانَ نبي | تقي مخبت خير الأنام |
يسمى أَحْمَدًا يَا لَيْتَ أَنِّي | أُعَمَّرُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِعَامٍ |
فَأَعْضُدُهُ وَأَحْبُوهُ بنَصْرِي | بِكُلِّ مُدَجِّجٍ وَبِكُلِّ رَامٍ |
مَتَى يَظْهَرْ فَكُونُوا نَاصِرِيهِ | وَمَنْ يَلْقَاهُ يُبْلِغْهُ سَلَامِي |
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كَانَ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ» يَعْنِي الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام مِنْ سُلَالَةِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ كَانَ مِنْ سُلَالَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وليس هذا المشهور عِنْدَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ؟ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» «١» فَأَسْلَمُ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ- وَالْأَنْصَارُ أَوْسُهَا وَخَزْرَجُهَا مِنْ غَسَّانَ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ مِنْ سَبَأٍ- نَزَلُوا بِيَثْرِبَ لَمَّا تَفَرَّقَتْ سَبَأٌ فِي الْبِلَادِ حِينَ بعث الله عز وجل عليهم سيل العرم، ونزلت طائقة منهم بالشام، وإنما قيل باليمن وقيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قيل إِنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُشَلَّلِ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بن ثابت رضي الله عنه [البسيط] :
إمَّا سَأَلْتَ فَإِنَّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ | الْأَزْدُ نِسْبَتُنَا والماء غسان «٢» |
«فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ» أَيْ بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم، منهم من
(٢) البيت في ديوان حسان بن ثابت ص ٢٧٩، ولسان العرب (غسس)، (غسن)، وجمهرة اللغة ص ٨٤٦، وتاج العروس (أزر) (غسس).
وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الذُّبَابِ وَلَا الْبَعُوضِ وَلَا الْبَرَاغِيثِ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْمِزَاجِ وَعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ لِيُوَحِّدُوهُ ويعبدوه، كما قال تبارك وتعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ثُمَّ فسرها بقوله عز وجل: جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ أَيْ مِنْ نَاحِيَتَيِ الْجَبَلَيْنِ وَالْبَلْدَةُ بَيْنَ ذَلِكَ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ أَيْ غَفُورٌ لَكُمْ إِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ.
وقوله تعالى: فَأَعْرَضُوا أَيْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلُوا إِلَى عبادة الشمس من دون الله، كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ [النَّمْلِ: ٢٢- ٢٤] وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: بعث الله تعالى إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرْسَلَ الله عز وجل إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ نَبِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ الْمُرَادُ بِالْعَرِمِ الْمِيَاهُ، وَقِيلَ الْوَادِي، وَقِيلَ الْجُرَذُ، وَقِيلَ الْمَاءُ الْغَزِيرُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كُرْزٍ، حَكَى ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ:
أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ بِإِرْسَالِ الْعَرِمِ عَلَيْهِمْ، بَعَثَ عَلَى السَّدِّ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ يُقَالُ لَهَا الْجُرَذُ نَقَبَتْهُ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ سَبَبَ خَرَابِ هَذَا السَّدِّ هُوَ الْجُرَذُ فَكَانُوا يَرْصُدُونَ عِنْدَهُ السَّنَانِيرَ بُرْهَةً من الزمن فَلَمَّا جَاءَ الْقَدَرُ غَلَبَتِ الْفَأْرُ السَّنَانِيرَ، وَوَلَجَتْ إِلَى السَّدِّ فَنَقَبَتْهُ فَانْهَارَ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الْجُرَذُ هُوَ الْخَلْدُ، نَقَبَتْ أَسَافِلَهُ حَتَّى إِذَا ضَعُفَ وَوَهَى، وَجَاءَتْ أَيَّامُ السُّيُولِ صَدَمَ الْمَاءُ الْبِنَاءَ فَسَقَطَ، فَانْسَابَ الْمَاءُ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي وَخَرُبَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَضَبَ الْمَاءُ عَنِ الْأَشْجَارِ الَّتِي فِي الْجَبَلَيْنِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، فَيَبِسَتْ وَتَحَطَّمَتْ وَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ الْمُثْمِرَةُ الْأَنِيقَةُ النَّضِرَةُ، كما قال الله تبارك وتعالى:
وَقَوْلُهُ: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ لَمَّا كَانَ أَجْوَدُ هَذِهِ الْأَشْجَارِ الْمُبْدَلِ بِهَا هُوَ السِّدْرُ قَالَ:
وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ فَهَذَا الَّذِي صَارَ أَمْرُ تَيْنِكَ الْجَنَّتَيْنِ إِلَيْهِ بَعْدَ الثِّمَارِ النَّضِيجَةِ، وَالْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ، وَالظِّلَالِ الْعَمِيقَةِ، وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ، تَبَدَّلَتْ إِلَى شَجَرِ الْأَرَاكِ وَالطَّرْفَاءِ وَالسِّدْرِ ذي الشوك الكثير والتمر الْقَلِيلِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمُ الْحَقَّ وَعُدُولِهِمْ عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أَيْ عَاقَبْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَا يُعَاقَبُ إِلَّا الْكُفُورُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ لَا يُعَاقَبُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ إِلَّا الْكُفُورُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَا يُنَاقَشُ إِلَّا الْكُفُورُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ النَّحَّاسِ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْبَيْدَاءِ عَنْ هِشَامِ بْنِ صَالِحٍ التَّغْلِبِيِّ عَنِ ابْنِ خِيرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَزَاءُ الْمَعْصِيَةِ الْوَهْنُ فِي الْعِبَادَةِ، وَالضِّيقُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالتَّعَسُّرُ فِي اللَّذَّةِ، قِيلَ:
وَمَا التَّعَسُّرُ فِي اللَّذَّةِ؟ قَالَ: لَا يُصَادِفُ لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النعمة والغبطة وَالْعَيْشِ الْهَنِيِّ الرَّغِيدِ، وَالْبِلَادِ الرَّخِيَّةِ، وَالْأَمَاكِنِ الْآمِنَةِ، وَالْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ الْمُتَقَارِبَةِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ مَعَ كَثْرَةِ أَشْجَارِهَا وَزُرُوعِهَا وَثِمَارِهَا بِحَيْثُ إِنَّ مُسَافِرَهُمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ زَادٍ وَلَا مَاءٍ، بَلْ حَيْثُ نَزَلَ وَجَدَ مَاءً وَثَمَرًا، وَيَقِيلُ فِي قَرْيَةٍ وَيَبِيتُ فِي أُخْرَى بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي سَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هِيَ قُرًى بِصَنْعَاءَ، وَكَذَا قَالَ أَبُو مَالِكٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ: يَعْنِي قُرَى الشَّامِ، يَعْنُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ من اليمن إلى الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ فِي قُرًى ظَاهِرَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ أَيْضًا:
هِيَ قُرًى عَرَبِيَّةٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ قُرىً ظاهِرَةً أَيْ بَيِّنَةً وَاضِحَةً يَعْرِفُهَا الْمُسَافِرُونَ يَقِيلُونَ فِي وَاحِدَةٍ وَيَبِيتُونَ فِي أُخْرَى، وَلِهَذَا قال تعالى: وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أَيْ جَعَلْنَاهَا بِحَسْبَ مَا يَحْتَاجُ الْمُسَافِرُونَ إِلَيْهِ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أَيِ الْأَمْنُ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ ليلا
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَرَأَ آخَرُونَ بَعِّدْ بَيْنِ أَسْفَارِنَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ بَطِرُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَأَحَبُّوا مَفَاوِزَ وَمَهَامِهَ يَحْتَاجُونَ فِي قَطْعِهَا إِلَى الزَّادِ وَالرَّوَاحِلِ وَالسَّيْرِ فِي الْحَرُورِ وَالْمَخَاوِفِ، كَمَا طَلَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مُوسَى أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ لَهُمْ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ فِي مَنٍّ وَسَلْوَى وَمَا يَشْتَهُونَ مِنْ مَآكِلَ وَمَشَارِبَ وَمَلَابِسَ مُرْتَفِعَةٍ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة: ٦١] وقال عز وجل: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الْقَصَصِ: ٥٨] وَقَالَ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النَّحْلِ: ١١٢]. وَقَالَ تعالى في حق هؤلاء: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْ بِكُفْرِهِمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أَيْ جَعَلْنَاهُمْ حَدِيثًا لِلنَّاسِ وَسَمَرًا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ مِنْ خَبَرِهِمْ، وَكَيْفَ مَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ وَالْعَيْشِ الْهَنِيءِ، تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي الْقَوْمِ إِذَا تَفَرَّقُوا: تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَأٍ وأيادي سبأ، وتفرقوا شَذَرَ مَذَرَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ أَهْلِ سَبَأٍ قَالَ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ- إِلَى قوله تعالى- فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَكَانَتْ فِيهِمْ كَهَنَةٌ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ، فَأَخْبَرُوا الْكَهَنَةَ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، فَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ كَاهِنٌ شريف كثير المال وأنه أخبر أَنَّ زَوَالَ أَمْرِهِمْ قَدْ دَنَا وَأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ أَظَلَّهُمْ، فَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ مِنْ عَقَارٍ، فَقَالَ لرجل من بنيه وهو أعزهم أخوالا: يا بني إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعله، فإذا انتهرتك فانتهرني، فإذا لطمتك فالطمني.
قال: يَا أَبَتِ لَا تَفْعَلْ إِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ وَأَمْرٌ شَدِيدٌ، قَالَ: يَا بُنَيَّ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى وَافَاهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَاجْتَمَعَ النَّاسُ قَالَ: يَا بُنَيَّ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا، فَأَبَى فَانْتَهَرَهُ أَبُوهُ، فَأَجَابَهُ فَلَمْ يَزَلْ ذلك بينهما حتى تناوله أبوه فلطمه، فَوَثَبَ عَلَى أَبِيهِ فَلَطَمَهُ، فَقَالَ: ابْنِي يَلْطِمُنِي؟ علي بالشفرة، قالوا: ما تصنع بالشفرة؟ قال: اذبحه، قالوا تريد أن تَذْبَحُ ابْنَكَ؟ الْطِمْهُ أَوِ اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، قَالَ: فَأَبَى، قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَى أَخْوَالِهِ فَأَعْلَمُوهُمْ ذَلِكَ، فَجَاءَ أَخْوَالُهُ فَقَالُوا: خُذْ مِنَّا مَا بَدَا لَكَ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَذْبَحَهُ، قَالُوا: فَلَتَمُوتَنَّ قَبْلَ أَنْ تَذْبَحَهُ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ هَكَذَا، فَإِنِّي لَا أَرَى أَنْ أقيم ببلد يحال بيني وبين ابني فيه،
فَلَمَّا صَارَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ وَأَحْرَزَهُ قَالَ: أَيْ قَوْمِ إِنَّ الْعَذَابَ قَدْ أَظَلَّكُمْ وَزَوَالُ أَمْرِكُمْ قَدْ دَنَا، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ دارا جديدا وحمى شَدِيدًا وَسَفَرًا بَعِيدًا، فَلْيَلْحَقْ بِعَمَّانَ، وَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الْخَمْرَ وَالْخَمِيرَ وَالْعَصِيرَ. وَكَلِمَةً قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَمْ أَحْفَظْهَا- فَلْيَلْحَقْ بِبُصْرَى، وَمَنْ أَرَادَ الرَّاسِخَاتِ فِي الْوَحْلِ: الْمُطْعِمَاتِ فِي الْمَحْلِ، الْمُقِيمَاتِ فِي الضَّحْلِ، فَلْيَلْحَقْ بِيَثْرِبَ ذَاتِ نَخْلٍ، فَأَطَاعَهُ قَوْمُهُ، فَخَرَجَ أَهْلُ عُمَانَ إِلَى عُمَانَ. وَخَرَجَتْ غَسَّانُ إِلَى بُصْرَى، وَخَرَجَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَبَنُو عُثْمَانَ إِلَى يَثْرِبَ ذَاتِ النَّخْلِ، قَالَ: فَأَتَوْا عَلَى بَطْنِ مُرٍّ، فَقَالَ بَنُو عُثْمَانَ هَذَا مَكَانٌ صَالِحٌ لَا نَبْغِي بِهِ بَدَلًا، فَأَقَامُوا بِهِ فَسُمُّوا لِذَلِكَ خُزَاعَةَ، لِأَنَّهُمُ انْخَزَعُوا مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَاسْتَقَامَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى نَزَلُوا الْمَدِينَةَ، وَتَوَجَّهَ أَهْلُ عُمَانَ إِلَى عُمَانَ وَتَوَجَّهَتْ غَسَّانُ إِلَى بُصْرَى.
هَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وَهَذَا الْكَاهِنُ هُوَ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْيَمَنِ وَكُبَرَاءِ سَبَأٍ وَكُهَّانِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي أَوَّلِ السِّيرَةِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الَّذِي كَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ بسبب استشعاره بإرسال العرم عليهم، فَقَالَ: وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ من اليمن فيما حدثني به أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ رَأَى جُرَذًا يَحْفِرُ فِي سَدِّ مَأْرِبَ الَّذِي كَانَ يَحْبِسُ عَنْهُمُ الماء فيصرفونه حيث شاؤوا مِنْ أَرْضِهِمْ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلسَّدِّ عَلَى ذَلِكَ، فَاعْتَزَمَ عَلَى النُّقْلَةِ عَنِ الْيَمَنِ، وكان قومه، فأمر أصغر ولده إِذَا أَغْلَظَ لَهُ وَلَطَمَهُ أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ فَيَلْطِمُهُ، فَفَعَلَ ابْنُهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَقَالَ عَمْرٌو: لَا أُقِيمُ بِبَلَدٍ لَطَمَ وَجْهِي فِيهَا أَصْغَرُ وَلَدِي وَعَرَضَ أَمْوَالَهُ. فَقَالَ أَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ اغْتَنَمُوا غَضْبَةَ عَمْرٍو، فَاشْتَرَوْا مِنْهُ أَمْوَالَهُ وَانْتَقَلَ هُوَ فِي وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَقَالَتِ الْأَزْدُ: لَا نَتَخَلَّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، فَبَاعُوا أَمْوَالَهُمْ وَخَرَجُوا مَعَهُ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِلَادَ عَكَّ مُجْتَازِينَ يَرْتَادُونَ الْبُلْدَانَ، فَحَارَبَتْهُمْ عَكُّ وَكَانَتْ حَرْبُهُمْ سِجَالًا، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه [الطويل] :
وعك بن عدنان الذين تغلبوا | بِغَسَّانَ حَتَّى طُرِّدُوا كُلَّ مَطْرَدِ «١» |
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ وَهُوَ عَمُّ الْقَوْمِ، كَانَ كَاهِنًا فَرَأَى فِي كَهَانَتِهِ أَنَّ قَوْمَهُ سَيُمَزَّقُونَ وَيُبَاعَدُ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَتُمَزَّقُونَ، فَمَنْ كان منكم ذا هم بعيد وحمل شَدِيدٍ، وَمَزَادٍ جَدِيدٍ، فَلْيَلْحَقْ بِكَاسٍ أَوْ كَرُودَ. قَالَ: فَكَانَتْ وَادَعَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَا هَمٍّ مُدْنٍ، وَأَمْرٍ دَعْنٍ، فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِ شَنْ، فَكَانَتْ عَوْفُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُمُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ بَارِقُ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ عَيْشًا آنِيًا، وَحَرَمًا آمِنًا فَلْيَلْحَقْ بِالْأَرْزِينِ، فَكَانَتْ خُزَاعَةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الرَّاسِيَاتِ فِي الْوَحْلِ، الْمُطْعِمَاتِ فِي الْمَحْلِ، فَلْيَلْحَقْ بِيَثْرِبَ ذَاتِ النَّخْلِ، فَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَهُمَا هَذَانِ الْحَيَّانِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ خَمْرًا وَخَمِيرًا وَذَهَبًا وَحَرِيرًا، وَمُلْكًا وَتَأْمِيرًا، فَلْيَلْحَقْ بِكُوثِي وَبُصْرَى، فَكَانَتْ غَسَّانُ بَنُو جَفْنَةَ مُلُوكُ الشَّامِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ إِنَّمَا قَالَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ طَرِيفَةُ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَكَانَتْ كَاهِنَةً فَرَأَتْ فِي كَهَانَتِهَا ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَمَّا غَسَّانُ فَلَحِقُوا بِالشَّامِ، وَأَمَّا الْأَنْصَارُ فَلَحِقُوا بِيَثْرِبَ، وَأَمَّا خُزَاعَةَ فَلَحِقُوا بِتِهَامَةَ، وَأَمَّا الْأَزْدُ فَلَحِقُوا بِعُمَانَ فَمَزَّقَهُمُ اللَّهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ الْأَعْشَى أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَاسْمُهُ مَيْمُونُ بن قيس [المتقارب] :
وفي ذاك للمؤتسي أسوة | ومأرب قفى عَلَيْهَا الْعَرِمْ «٢» |
رُخَامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرُ | إِذَا جاء ماؤهم لَمْ يَرِمْ |
فَأَرْوَى الزُّرُوعَ وَأَعْنَابَهَا | عَلَى سَعَةِ ماؤهم إذا قسم |
فصاروا أيادي ما يقدرون | مِنْهُ عَلَى شُرْبِ طِفْلٍ فُطِمْ |
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ الْمَعْنِيُّ قَالَا: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْعَيْزَارِ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ هُوَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِبْتُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَشَكَرَ،
(٢) الأبيات في ديوان الأعشى ص ٩٣، وسيرة ابن هشام ١/ ١٤، والبيت الأول في معجم البلدان (مأرب) وبلا نسبة في لسان العرب (قفا)، وتهذيب اللغة ٩/ ٣٢٧، والبيت الرابع في أساس البلاغة (فطم).
(٣) المسند ١/ ١٧٣.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
لما ذكر تَعَالَى قِصَّةَ سَبَأٍ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمُ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ، أَخْبَرَ عَنْهُمْ وَعَنْ أَمْثَالِهِمْ مِمَّنِ اتَّبَعَ إِبْلِيسَ وَالْهَوَى وَخَالَفَ الرَّشَادَ وَالْهُدَى، فَقَالَ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما وَغَيْرُهُ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إبليس حين امتنع من السجود لآدم عليه الصلاة والسلام، ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٦٢] وقال: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافُ: ١٧] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَالَ الحسن البصري: لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ حَوَّاءُ، هَبَطَ إِبْلِيسُ فَرِحًا بِمَا أَصَابَ مِنْهُمَا، وَقَالَ: إِذَا أَصَبْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَا أَصَبْتُ فَالذُّرِّيَّةُ أَضْعَفُ وَأَضْعَفُ، وَكَانَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْ إِبْلِيسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْلِيسُ: لَا أُفَارِقُ ابْنَ آدَمَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ أَعِدُهُ وَأُمَنِّيهِ وَأَخْدَعُهُ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى: «وعزتي وجلالي لَا أَحْجُبُ عَنْهُ التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَدْعُونِي إِلَّا أَجَبْتُهُ، وَلَا يَسْأَلُنِي إلا أعطيته، ولا يستغفر إِلَّا غَفَرْتُ لَهُ»، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وقوله تبارك وتعالى: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: أَيْ مِنْ حُجَّةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ ما ضربهم بعصا ولا أكرهم عَلَى شَيْءٍ، وَمَا كَانَ إِلَّا غُرُورًا وَأَمَانِيَّ، دعاهم إليها فأجابوه، وقوله عز وجل: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ أَيْ إِنَّمَا سَلَّطْنَاهُ عَلَيْهِمْ لِيَظْهَرَ أَمْرُ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ بِالْآخِرَةِ وَقِيَامِهَا وَالْحِسَابِ فِيهَا وَالْجَزَاءِ، فَيُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شك.
وقوله تعالى: وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أَيْ وَمَعَ حِفْظِهِ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنَ اتِّبَاعِ إِبْلِيسَ، وَبِحِفْظِهِ وَكِلَاءَتِهِ سَلِمَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أتباع الرسل.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)بَيَّنَ تبارك وتعالى أَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَرِيكَ لَهُ، بَلْ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْأَمْرِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ وَلَا مُنَازِعٍ وَلَا مُعَارِضٍ، فَقَالَ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ مِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي عُبِدَتْ مِنْ دُونِهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فَاطِرٍ:
١٣] وَقَوْلُهُ تعالى: وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أَيْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا اسْتِقْلَالًا وَلَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أَيْ وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْدَادِ مِنْ ظَهِيرٍ يُسْتَظْهَرُ بِهِ فِي الْأُمُورِ، بَلِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ عُبَيْدٌ لَدَيْهِ، قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ عز وجل: وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ مِنْ عَوْنٍ يعينه بشيء.
ثم قال تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَيْ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ لَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ تَعَالَى فِي شَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، كَمَا قال عز وجل:
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: ٣٥٥] وقال جل وعلا: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم: ٢٦] وقال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٨] وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وأكبر شفيع عند الله تعالى أَنَّهُ حِينَ يَقُومُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ لِيَشْفَعَ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ أَنْ يَأْتِيَ رَبَّهُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ قال: «فأسجد لله تعالى فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، وَيَفْتَحَ عَلَيَّ بِمَحَامِدَ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع، وَسَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهَذَا أَيْضًا مَقَامٌ رَفِيعٌ فِي الْعَظَمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كَلَامَهُ، أُرْعِدُوا مِنَ الْهَيْبَةِ حَتَّى يَلْحَقَهُمْ مِثْلُ الغشي، قاله ابن مسعود رضي الله عنه وَمَسْرُوقٌ وَغَيْرُهُمَا حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَيْ زَالَ الْفَزَعُ عَنْهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وابن عمر رضي الله عنهم وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ والضحاك والحسن وقتادة في قوله عز وجل:
حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ يَقُولُ: جُلِّيَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَقَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ، وجاء مرفوعا إِذَا فُرِّغَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَيَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ فإذا كان كذلك سأل بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ لِلَّذِينِ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ لِمَنْ تَحْتَهُمْ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ السماء الدنيا، ولهذا قال تعالى: قالُوا الْحَقَّ أَيْ أَخْبَرُوا
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا اسْتَيْقَظُوا مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي الدُّنْيَا وَرَجَعَتْ إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَقِيلَ لَهُمْ الْحَقُّ وَأُخْبِرُوا بِهِ مِمَّا كَانُوا عَنْهُ لَاهِينَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ كَشَفَ عَنْهَا الْغِطَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يَعْنِي مَا فِيهَا مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يَعْنِي مَا فِيهَا مِنَ الشَّكِّ قَالَ: فُزِّعَ الشَّيْطَانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَفَارَقَهُمْ وَأَمَانِيهِمْ وَمَا كَانَ يُضِلُّهُمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قَالَ:
وَهَذَا فِي بَنِي آدَمَ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، أَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: إن الضمير عائد على الملائكة، وهذا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ وَالْآثَارِ، وَلْنَذْكُرْ مِنْهَا طَرَفًا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ «١» عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي صَحِيحِهِ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: سمعت عكرمة قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا قضى الله تعالى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانَ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مُسْتَرِقُ السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بعض- ووصف سفيان بيده فحرفها، ونشر بَيْنَ أَصَابِعِهِ- فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ» «٢» انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ به، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وعبد الرزاق قالا: حدثنا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَ عَبْدُ الرزاق: من الأنصار، فرمي بنجم فاستنار، فقال صلى الله عليه وسلم:
«مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ» قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ يُولَدُ عَظِيمٌ أَوْ يَمُوتُ عَظِيمٌ.
قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: نَعَمْ وَلَكِنْ غُلِّظَتْ حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا
(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٤، باب ٢٢، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣.
(٣) المسند ١/ ٢١٨.
هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «١» فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَيُونُسَ وَمَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما، عن رجل من الأنصار به. وقال يونس عن رجال من الأنصار رضي الله عنهم، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «٢» فِيهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ سَيَّارٍ الرَّمَادِيُّ، وَالسِّيَاقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي زكريا عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سمعان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تبارك وتعالى أَنْ يُوحِيَ بِأَمْرِهِ تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ أخذت السموات مِنْهُ رَجْفَةٌ- أَوْ قَالَ رِعْدَةٌ- شَدِيدَةٌ مِنْ خوف الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السموات صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام، فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، فَيَمْضِي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة، كلما مر بسماء سماء يسأله مَلَائِكَتُهَا مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ عليه السلام:
قَالَ الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ إلى حيث أمره الله تعالى مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبَانٍ الْمِصْرِيِّ عن نعيم بْنِ حَمَّادٍ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَيْسَ هذا الحديث بالتام عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمَا فَسَرَّا هَذِهِ الْآيَةَ بِابْتِدَاءِ إيحاء الله تعالى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الفترة التي كانت بينه وبين عيسى عليه الصلاة والسلام، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَوْلَى مَا دَخَلَ في هذه الآية.
(٢) كتاب التفسير، تفسير سورة ٣٤، باب ٣.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّرًا تَفَرُّدَهُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَانْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ أَيْضًا، فَكَمَا كانوا يعترفون بأنهم لَا يَرْزُقُهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ بِمَا يُنْزِلُ مِنَ الْمَطَرِ وَيُنْبِتُ مِنَ الزَّرْعِ إِلَّا اللَّهُ، فَكَذَلِكَ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرَهُ. وقوله تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ هَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ أَيْ وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُبْطِلٌ، وَالْآخَرُ مُحِقٌّ لَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ وَنَحْنُ عَلَى الْهُدَى أَوْ عَلَى الضَّلَالِ، بَلْ وَاحِدٌ مِنَّا مُصِيبٌ، وَنَحْنُ قَدْ أَقَمْنَا الْبُرْهَانَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الشرك بالله تعالى، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم للمشركين والله ما نحن وإياهم عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ إِنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ لَمُهْتَدٍ «١». وقال عكرمة وزياد بن أبي مريم: معناها إِنَّا نَحْنُ لَعَلَى هُدًى وَإِنَّكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مبين «٢».
وقوله تعالى: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ مَعْنَاهُ التَّبَرِّي مِنْهُمْ، أَيْ لَسْتُمْ مِنَّا وَلَا نَحْنُ مِنْكُمْ، بَلْ نَدْعُوكُمْ إِلَى الله تعالى وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لَهُ، فَإِنْ أَجَبْتُمْ فَأَنْتُمْ مِنَّا وَنَحْنُ مِنْكُمْ، وَإِنْ كَذَّبْتُمْ فَنَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ بُرَآءُ مِنَّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:
٤١]. وقال عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: ١- ٦].
وقوله تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، أَيْ يَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَسَتَعْلَمُونَ يَوْمَئِذٍ لِمَنِ الْعِزَّةُ والنصر وَالسَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم: ١٤- ١٦] ولهذا قال عز وجل: وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ أَيِ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ الْعَالِمُ بحقائق الأمور.
وقوله تبارك وتعالى: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أَيْ أَرَوْنِي هَذِهِ الْآلِهَةِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَصَيَّرْتُمُوهَا لَهُ عَدْلًا كَلَّا أَيْ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا نَدِيدٌ وَلَا شَرِيكٌ وَلَا عَدِيلٌ. ولهذا قال تعالى: بَلْ هُوَ اللَّهُ أَيِ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الَّذِي لا شريك له الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(٢) انظر تفسير الطبري ١٠/ ٣٧٦.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
يقول تعالى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليما وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً أي إلا إلى جميع الخلائق من المكلفين كقوله تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الْأَعْرَافِ: ١٥٨] تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: ١]، بَشِيراً وَنَذِيراً أَيْ تُبَشِّرُ مَنْ أَطَاعَكَ بِالْجَنَّةِ وَتُنْذِرُ مَنْ عَصَاكَ بِالنَّارِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كقوله عز وجل: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يُوسُفَ: ١٠٣] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: ١١٦].
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ يَعْنِي إِلَى النَّاسِ عَامَّةً. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أرسل اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَبِ والعجم، فأكرمهم على الله تبارك وتعالى أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ يَعْنِي ابْنَ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عباس رضي الله عنهما يقول: إن الله تعالى فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ. قَالُوا: يَا ابْنَ عباس فيم فضله على الأنبياء؟
قال رضي الله عنه: إن الله تعالى قَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ فأرسله الله تعالى إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عباس رضي الله عنهما قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ رَفْعُهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خاصة وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» «١» وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ» «٢» قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي الْعَرَبَ والعجم، والكل صحيح.
(٢) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٣ والدارمي في السير باب ٢٨ وأحمد في المسند ١/ ٢٥٠، ٣٠١، ٤/ ٤١٦، ٥/ ١٤٥، ١٤٨، ١٦٢.
[هود: ١٠٤- ١٠٥]
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تمادي الكفار في طغيانهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم، وبما أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قال الله عز وجل مُتَهَدِّدًا لَهُمْ وَمُتَوَعِّدًا وَمُخْبِرًا عَنْ مَوَاقِفِهِمُ الذَّلِيلَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَالِ تُخَاصِمِهِمْ وَتَحَاجِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا منهم وَهُمْ قَادَتُهُمْ وَسَادَتُهُمْ لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أي لولا أنتم تصدوننا لَكُنَّا اتَّبَعْنَا الرُّسُلَ وَآمَنَّا بِمَا جَاءُونَا بِهِ فَقَالَ لَهُمُ الْقَادَةُ وَالسَّادَةُ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ أَيْ نَحْنُ مَا فَعَلْنَا بِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّا دَعَوْنَاكُمْ فَاتَّبَعْتُمُونَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَخَالَفْتُمُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ وَالْحُجَجَ الَّتِي جَاءَتْ بها الرسل لِشَهْوَتِكُمْ وَاخْتِيَارِكُمْ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالُوا بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَيْ بَلْ كُنْتُمْ تَمْكُرُونَ بنا ليلا نهارا وتغروننا وتمنوننا وتخبروننا أَنَّا عَلَى هُدًى وَأَنَّا عَلَى شَيْءٍ، فَإِذَا جَمِيعُ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ وَمَيْنٌ.
قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يَقُولُ: بل مكركم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بن أسلم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أَيْ نُظَرَاءَ وَآلِهَةً مَعَهُ وتقيمون لَنَا شُبَهًا وَأَشْيَاءَ مِنْ الْمُحَالِ تُضِلُّونَا بِهَا وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أَيِ الْجَمِيعُ مِنَ السَّادَةِ وَالْأَتْبَاعِ كُلٌّ نَدِمَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهِيَ السَّلَاسِلُ الَّتِي تَجْمَعُ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَعْنَاقِهِمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمِغْرَاءِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ ضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَّا سِيقَ إِلَيْهَا أَهْلُهَا تَلَقَّاهُمْ لَهَبُهَا، ثُمَّ لَفَحَتْهُمْ لَفْحَةً فَلَمْ يَبْقَ لَحْمٌ إِلَّا سَقَطَ عَلَى الْعُرْقُوبِ». وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحُوَارَى، حَدَّثَنَا الطَّيِّبُ أَبُو الْحَسَنِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى الْخُشَنِيِّ قَالَ: مَا فِي جَهَنَّمَ دار ولا مغار ولا غل ولا قيد ولا سلسلة إلا اسم صاحبها عليها مَكْتُوبٌ، قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ أَبَا سُلَيْمَانَ، يَعْنِي الدَّارَانِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ فَكَيْفَ بِهِ لَوْ جُمِعَ هَذَا كُلُّهُ عَلَيْهِ، فجعل القيد وَالْغُلِّ فِي يَدَيْهِ، وَالسِّلْسِلَةُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ أدخل النار وأدخل المغار؟ اللهم سلم.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمرا بِالتَّأَسِّي بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَمُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ مَا بَعَثَ نَبِيًّا فِي قَرْيَةٍ إِلَّا كَذَّبَهُ مُتْرَفُوهَا وَاتَّبَعَهُ ضُعَفَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ قَوْمُ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: ١١١] وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هُودٍ:
٢٧] وَقَالَ الْكُبَرَاءُ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف: ٧٥- ٧٦] وقال عز وجل: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام: ٥٣] وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الأنعام: ١٣٣] وقال جل وعلا: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الإسراء: ١٦] وقال جل وعلا هَاهُنَا:
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ أَيْ نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها وَهُمْ أُولُو النِّعْمَةِ وَالْحِشْمَةِ وَالثَّرْوَةِ وَالرِّيَاسَةِ، قَالَ قتادة: هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم فِي الشَّرِّ إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أَيْ لَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَتَّبِعُهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
وقال تبارك وتعالى إِخْبَارًا عَنِ الْمُتْرَفِينَ الْمُكَذِّبِينَ: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أَيِ افْتَخَرُوا بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ على محبة الله تعالى لَهُمْ وَاعْتِنَائِهِ بِهِمْ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ لِيُعْطِيَهُمْ هَذَا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وهيهات لهم ذلك قال الله تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: ٥٥- ٥٦] وقال تبارك وتعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة: ٥٥] وقال عز وجل ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [الْمُدَّثِّرِ: ١١- ١٧].
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل عَنْ صَاحِبِ تَيْنِكَ الْجَنَّتَيْنِ أَنَّهُ كَانَ ذَا مال وثمر وولد، ثم لم يغن عَنْهُ شَيْئًا بَلْ سُلِبَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الدنيا قبل الآخرة، ولهذا قال عز وجل ها هنا: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَيْ يُعْطِي الْمَالُ لِمَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، فَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ وَيُغْنِي مَنْ يشاء، وله الحكمة التامة البالغة والحجة القاطعة الدامغة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أَيْ لَيْسَتْ هَذِهِ دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّتِنَا لَكُمْ وَلَا اعْتِنَائِنَا بِكُمْ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا كَثِيرٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الله تعالى لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ إِنَّمَا ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» «٢» ورواه مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ بِهِ، وَلِهَذَا قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً
(٢) أخرجه مسلم في البر حديث ٣٣، وابن ماجة في الزهد باب ٩.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمِغْرَاءِ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا» فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: لِمَنْ هِيَ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لِمَنْ طَيَّبَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسِ نِيَامٌ» وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أَيْ يَسْعَوْنَ فِي الصَّدِّ عَنْ سبيل الله واتباع رسله والتصديق بآياته فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أَيْ جَمِيعُهُمْ مَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ فيها بحسبهم.
وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي بحسب ماله فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ يَبْسُطُ عَلَى هَذَا مِنَ الْمَالِ كَثِيرًا. وَيُضَيِّقُ عَلَى هَذَا وَيَقْتُرُ على رِزْقَهُ جِدًّا. وَلَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ مَا لَا يُدْرِكُهَا غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٢١] أَيْ كَمَا هم متفاوتون في الدنيا هذا فقير وَهَذَا غَنِيٌّ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هَذَا فِي الْغُرُفَاتِ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَهَذَا فِي الْغَمَرَاتِ فِي أَسْفَلِ الدَّرَكَاتِ، وَأَطْيَبُ الناس في الدنيا كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» «١» رواه مسلم من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما.
وقوله تَعَالَى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أَيْ مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَأَبَاحَهُ لَكُمْ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْبَدَلِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْفِقْ، أنفق عليك» «٢» وفي الحديث أن ملكين يصبحان كُلَّ يَوْمٍ يَقُولُ.
أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا «٣»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أنفق بلالا، ولا تخشى مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا». وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم: حدثنا أبي عن يزيد بن عبد العزيز الفلاس، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْكَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ مكحول قال: بلغني عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ألا إِنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانٌ عَضُوضٌ، يَعَضُّ الموسر مَا فِي يَدِهِ حَذَارَ الْإِنْفَاقِ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١، باب ٢، والنفقات باب ١، والتوحيد باب ٣٥، ومسلم في الزكاة حديث ٣٦، ٣٧، وابن ماجة في الكفارات باب ١٥، وأحمد في المسند ٢/ ٢٤٢، ٣١٤، ٤٦٤.
(٣) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٢٧، ومسلم في الزكاة حديث ٥٧، وأحمد في المسند ٢/ ٣٠٦، ٣٤٧، ٥/ ١٩٧.
زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانٌ عَضُوضٌ، يَعَضُّ الْمُوسِرُ على ما في يده حَذَارَ الْإِنْفَاقِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وفي الحديث «شرار الناس يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ أَلَا إِنَّ بِيعَ الْمُضْطَرِّينَ حَرَامٌ، أَلَا إِنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّينَ حَرَامٌ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَعْرُوفٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيكَ، وَإِلَّا فَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إِلَى هَلَاكِهِ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي يُونُسَ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَتَأَوَّلَنَّ أَحَدُكُمْ هَذِهِ الْآيَةَ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ إِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِكُمْ مَا يُقِيمُهُ، فَلْيَقْصِدْ فِيهِ، فَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْرَعُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رؤوس الْخَلَائِقِ، فَيَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ أَيْ أَنْتُمْ أَمَرْتُمْ هَؤُلَاءِ بعبادتكم، كما قال تعالى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الْفُرْقَانِ: ١٧] وَكَمَا يَقُولُ لعيسى عليه الصلاة والسلام أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [الْمَائِدَةِ: ١١٦] وَهَكَذَا تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ سُبْحانَكَ أَيْ تَعَالَيْتَ وَتَقَدَّسْتَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ إِلَهٌ.
أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أَيْ نَحْنُ عَبِيدُكَ وَنَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ يَعْنُونَ الشياطين، لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ كما قال تبارك وتعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء: ١١٧] قال الله عز وجل فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أَيْ لَا يَقَعُ لَكُمْ نَفْعٌ مِمَّنْ كُنْتُمْ تَرْجُونَ نَفْعَهُ الْيَوْمَ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ الَّتِي ادَّخَرْتُمْ عِبَادَتَهَا لِشَدَائِدِكُمْ وَكُرَبِكُمْ «الْيَوْمَ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا» وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تقريعا وتوبيخا.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)يخبر الله عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهُ الْعُقُوبَةَ وَالْأَلِيمَ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ بَيِّنَاتٍ يَسْمَعُونَهَا غَضَّةً طَرِيَّةً مِنْ لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ يَعْنُونَ أَنَّ دِينَ آبَائِهِمْ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ، عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ تعالى: وَقالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً يَعْنُونَ الْقُرْآنَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أَيْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ مِنْ كِتَابٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ وَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانُوا يَوَدُّونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: لَوْ جَاءَنَا نَذِيرٌ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيْنَا كِتَابٌ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْ غَيْرِنَا، فَلَمَّا منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه.
ثم قال تعالى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ مِنَ الْأُمَمِ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ قَالَ ابْنُ عباس رضي الله عنهما: أَيْ مِنَ الْقُوَّةِ فِي الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الْأَحْقَافِ: ٢٦] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً [غَافِرٍ: ٨٢] أَيْ وَمَا دَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَلَا رَدَّهُ، بَلْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَيْ فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٦]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦)
يقول تبارك وتعالى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّكَ مَجْنُونٌ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَيْ إِنَّمَا آمُرُكُمْ بِوَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أَيْ تقوموا قياما خالصا لله عز وجل مِنْ غَيْرِ هَوًى وَلَا عَصَبِيَّةٍ، فَيَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا هَلْ.
بِمُحَمَّدٍ مِنْ جُنُونٍ. فَيَنْصَحُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا أَيْ يَنْظُرُ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلُ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ عَنْ شَأْنِهِ إِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، وَيَتَفَكَّرُ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى:
أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ.
وقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ «١» عِنْدَهَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «يَا صَبَاحَاهُ» فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أما كنتم تصدقوني» قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا. فأنزل الله عز وجل تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [الْمَسَدِ: ١] وَقَدْ تقدم عند قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢١٤].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ. حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَنَادَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَتُدْرُونَ مَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ؟» قَالُوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمٍ خَافُوا عَدُوًّا يَأْتِيهِمْ، فَبَعَثُوا رَجُلًا يَتَرَاءَى لَهُمْ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ أَبْصَرَ الْعَدُوَّ، فَأَقْبَلَ لِيُنْذِرَهُمْ وَخَشِيَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ، فَأَهْوَى بِثَوْبِهِ، أَيُّهَا النَّاسُ أُوتِيتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أُوتِيتُمْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ جَمِيعًا إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي» تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أحمد «٢» في مسنده.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أي لا أريد
(٢) المسند ٤/ ٣٠٩، ٥/ ٣٤٨.
وقوله عز وجل: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غَافِرٍ: ١٥] أَيْ يُرْسِلُ الْمَلَكَ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَلَا تَخْفَى عليه خافية في السموات ولا في الأرض.
وقوله تبارك وتعالى: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أَيْ: جَاءَ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرْعِ العظيم، وذهب الباطل وزهق واضمحل، كقوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨] وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَوَجَدَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ مَنْصُوبَةً حَوْلَ الكعبة جعل يطعن الصنم منها بِسِيَةِ قَوْسِهِ وَيَقْرَأُ وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: ٨١] قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ «١» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَحْدَهُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ أَبِي مَعْمَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَةَ، عَنِ ابن مسعود رضي الله عنه بِهِ، أَيْ لَمْ يَبْقَ لِلْبَاطِلِ مَقَالَةً وَلَا رئاسة وَلَا كَلِمَةً وَزَعَمَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بالباطل هاهنا إبليس، أي إِنَّهُ لَا يَخْلُقُ أَحَدًا وَلَا يُعِيدُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَقًا وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أَيِ الخير كله من عند الله، وفيما أنزل اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْوَحْيِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ فِيهِ الْهُدَى وَالْبَيَانُ وَالرَّشَادُ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُفَوَّضَةِ أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ ورسوله بريئان منه. وقوله تعالى: إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ قريب يجيب دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَاهُ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ هنا حديث أبي موسى في الصحيحين «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سميعا قريبا مجيبا» «٢».
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
(٢) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٥٠، ومسلم في الذكر حديث ٤٤، ٤٥.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ «١» عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَيْشٌ يُخْسَفُ بِهِمْ بَيْنَ مكة والمدينة في أيام بني العباس رضي الله عنهم. ثُمَّ أَوْرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَوْضُوعًا بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ لَمْ يُنَبِّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ غَرِيبٌ مِنْهُ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أَيْ يوم القيامة يقولون آمنا بالله وملائكته وكتبه وَرُسُلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السَّجْدَةِ: ١٢] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أَيْ وَكَيْفَ لَهُمْ تَعَاطِي الْإِيمَانِ وَقَدْ بَعُدُوا عَنْ مَحَلِّ قَبُولِهِ مِنْهُمْ، وَصَارُوا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةَ وَهِيَ دَارُ الْجَزَاءِ لَا دَارُ الِابْتِلَاءِ، فَلَوْ كَانُوا آمِنُوا فِي الدُّنْيَا لَكَانَ ذَلِكَ نَافِعَهُمْ وَلَكِنْ بَعْدَ مَصِيرِهِمْ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةَ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى قَبُولِ الْإِيمَانِ، كَمَا لَا سَبِيلَ إِلَى حُصُولِ الشَّيْءِ لِمَنْ يَتَنَاوَلُهُ مِنْ بَعِيدٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قَالَ: التَّنَاوُلُ لِذَلِكَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: التَّنَاوُشُ تَنَاوُلُهُمُ الْإِيمَانَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمُ الدُّنْيَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَمَا إِنَّهُمْ طَلَبُوا الْأَمْرَ مِنْ حَيْثُ لَا يُنَالُ تَعَاطَوُا الْإِيمَانَ مِنْ مكان بعيد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: طَلَبُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا وَالتَّوْبَةَ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَلَيْسَ بِحِينِ رَجْعَةٍ وَلَا تَوْبَةٍ، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وقوله تعالى: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أَيْ كَيْفَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْإِيمَانُ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ كَفَرُوا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ قَالَ: بِالظَّنِّ، قُلْتُ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الْكَهْفِ: ٢٢] فَتَارَةً يَقُولُونَ شَاعِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ كَاهِنٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ مَجْنُونٌ إِلَى غير ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالبعث وَالنُّشُورِ وَالْمَعَادِ وَيَقُولُونَ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢] قال قتادة ومجاهد: يَرْجُمُونَ بِالظَّنِّ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نار.
وقوله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا:
يَعْنِي الْإِيمَانُ وَقَالَ السُّدِّيُّ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ وَهِيَ التَّوْبَةُ، وهذا اختيار ابن جرير
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا جِدًّا فنذكره بِطُولِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ حُجْرٍ السَّامِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَنْصُورٍ الْأَنْبَارِيُّ عَنِ الشَّرَقِيِّ بْنِ قُطَامِيِّ عن سعد بْنِ طَرِيفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاتِحًا أَيْ فتح الله تعالى لَهُ مَالًا، فَمَاتَ فَوَرِثَهُ ابْنٌ لَهُ تَافِهٌ أَيْ فَاسِدٌ، فَكَانَ يَعْمَلُ فِي مَالِ اللَّهِ تعالى بمعاصي الله تعالى عز وجل، فلما رأى ذلك أخوات أَبِيهِ، أَتَوُا الْفَتَى فَعَذَلُوهُ وَلَامُوهُ، فَضَجِرَ الْفَتَى فَبَاعَ عَقَارَهُ بِصَامِتَ «١»، ثُمَّ رَحَلَ فَأَتَى عَيْنًا ثَجَّاجَةً «٢» فَسَرَحَ فِيهَا مَالَهُ وَابْتَنَى قَصْرًا، فَبَيْنَمَا هو ذات يوم جالس إذ حملت عَلَيْهِ رِيحٌ بِامْرَأَةٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبِهِمْ أَرَجًا، أَيْ رِيحًا، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنَا امْرُؤٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَتْ: فَلَكَ هَذَا الْقَصْرُ وَهَذَا المال؟ فقال:
نَعَمْ. قَالَتْ: فَهَلْ لَكَ مِنْ زَوْجَةٍ؟ قَالَ: لَا.
قَالَتْ: فَكَيْفَ يَهْنِيكَ الْعَيْشُ وَلَا زَوْجَةَ لك؟ قال: قد كان ذاك، قال: فَهَلْ لَكِ مِنْ بَعْلٍ؟
قَالَتْ: لَا، قَالَ: فهل لك إلا أَنْ أَتَزَوَّجَكِ؟ قَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ مِنْكَ عَلَى مسيرة ميل، فإذا كان الغد فتزود زاد يوم وائتني، وَإِنْ رَأَيْتَ فِي طَرِيقِكَ هَوْلًا فَلَا يَهُولَنَّكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ تَزَوَّدُ زَادَ يَوْمٍ وَانْطَلَقَ، فَانْتَهَى إِلَى قَصْرٍ فَقَرَعَ رِتَاجَهُ «٣»، فَخَرَجَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبِهِمْ أَرَجًا، أَيْ رِيحًا، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنَا الْإِسْرَائِيلِيُّ، قَالَ: فَمَا حاجتك؟ قال:
دعتني صاحبة الْقَصْرِ إِلَى نَفْسِهَا، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَهَلْ رأيت في الطريق هَوْلًا؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَوْلَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنْ لا بأس علي لهالني الذي رأيت، قال: ما رأيت؟ قال: أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ إِذَا أَنَا بِكَلْبَةٍ فَاتِحَةٍ فَاهَا، فَفَزِعْتُ فَوَثَبْتُ فَإِذَا أَنَا مِنْ وَرَائِهَا، وَإِذَا جِرَاؤُهَا يَنْبَحْنَّ فِي بَطْنِهَا، فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ: لَسْتَ تُدْرِكُ هَذَا، هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُقَاعِدُ الْغُلَامُ المشيخة في مجلسهم ويسرهم حديثه.
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ إِذَا أَنَا بِمِائَةِ عَنْزٍ حُفَّلٍ «٤»، وَإِذَا فِيهَا جَدْيٌ يَمُصُّهَا، فَإِذَا أَتَى عَلَيْهَا وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَتَحَ فَاهُ يَلْتَمِسُ الزِّيَادَةَ، فَقَالَ: لَسْتَ تُدْرِكُ هَذَا، هَذَا يَكُونُ
(٢) عين ثجاجة: أي عين يسيل عنها الماء سيلا.
(٣) الرتاج: الباب العظيم.
(٤) عنز حفّل: أي كثيرة اللبن.
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انفرج بي السبيل، فإذا أَنَا بَرَجُلٍ قَائِمٍ عَلَى عَيْنٍ يَغْرِفُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنَ الْمَاءِ، فَإِذَا تَصَدَّعُوا عَنْهُ صَبَّ فِي جَرَّتِهِ فَلَمْ تَعْلَقْ جَرَّتُهُ مِنَ الْمَاءِ بِشَيْءٍ، قَالَ: لَسْتَ تُدْرِكُ هَذَا، هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الْقَاصُّ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْعِلْمَ ثم يخالفهم إلى معاصي الله تعالى، قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ إِذَا أَنَا بِعَنْزٍ وَإِذَا بِقَوْمٍ قَدْ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهَا، وَإِذَا رَجُلٌ قَدْ أَخَذَ بِقَرْنَيْهَا، وإذا رجل قد أخذ بذنبها، وإذا راكب قد ركبها، وإذا رجل يحتلبها، فَقَالَ: أَمَّا الْعَنْزُ فَهِيَ الدُّنْيَا، وَالَّذِينَ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهَا يَتَسَاقَطُونَ مِنْ عَيْشِهَا، وَأَمَّا الَّذِي قَدْ أَخَذَ بِقَرْنَيْهَا فَهُوَ يُعَالِجُ مِنْ عَيْشِهَا ضِيقًا، وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ بِذَنَبِهَا فَقَدْ أَدْبَرَتْ عَنْهُ، وَأَمَّا الَّذِي رَكِبَهَا فَقَدْ تَرَكَهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَحْلِبُهَا فَبَخٍ بَخٍ ذَهَبَ ذَلِكَ بِهَا.
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ إذا أَنَا بَرْجَلٍ يَمْتَحُ عَلَى قَلِيبٍ كُلَّمَا أَخْرَجَ دَلْوَهُ صَبَّهُ فِي الْحَوْضِ فَانْسَابَ الْمَاءُ رَاجِعًا إِلَى الْقَلِيبِ، قَالَ: هَذَا رَجُلٌ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ صَالِحَ عَمَلِهِ فَلَمْ يَقْبَلْهُ، قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ إِذَا أَنَا بَرْجَلٍ يَبْذُرُ بَذْرًا فَيُسْتَحْصَدُ فَإِذَا حِنْطَةٌ طَيِّبَةٌ، قَالَ: هَذَا رَجُلٌ قَبِلَ اللَّهُ صَالِحَ عَمَلِهِ وَأَزْكَاهُ لَهُ. قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل مُسْتَلْقٍ عَلَى قَفَاهُ، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ادن مني فخذ بيدي وأقعدني، فو الله ما قعدت منذ خلقني الله تعالى، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقَامَ يَسْعَى حَتَّى مَا أَرَاهُ، فَقَالَ لَهُ الْفَتَى هَذَا عُمُرُ الْأَبْعَدِ نَفَدَ، أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ، وَأَنَا الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَتْكَ أمرني الله تعالى بِقَبْضِ رَوْحِ الْأَبْعَدِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، ثُمَّ أُصَيِّرُهُ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ: فَفِيهِ نَزَلَتْ هذه الآية وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ الْآيَةَ «١»، هَذَا أثر غريب وفي صحته نظر، وتنزيل الْآيَةِ عَلَيْهِ وَفِي حَقِّهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ كُلَّهُمْ يُتَوَفَّوْنَ وَأَرْوَاحُهُمْ مُتَعَلَّقَةٌ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا جَرَى لِهَذَا الْمَغْرُورِ الْمَفْتُونِ، ذَهَبَ يَطْلُبُ مُرَادَهُ فجاءه ملك الْمَوْتُ فَجْأَةً بَغْتَةً وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يشتهي.
وقوله تعالى: كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أَيْ كَمَا جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لَمَّا جَاءَهُمْ بِأْسُ اللَّهِ تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ آمَنُوا فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ [غافر: ٨٤- ٨٥]. وقوله تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ
آخَرُ تَفْسِيرِ سورة سبأ والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.