تفسير سورة هود

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة هود من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة هود
مكية، وهي مائة وثلاث وعشرون آية
[سورة هود (١١) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
قال الله تعالى: الر قال ابن عباس يعني: أنا الله أرى، ويقال: الألف الله آلاؤه، واللام لطفه، والراء ربوبيته. كِتابٌ يعني: هذا الكتاب، وهو القرآن أُحْكِمَتْ آياتُهُ من الباطل، فلم يوجد فيه عوج ولا تناقض. ثُمَّ فُصِّلَتْ يعني: بيَّن أمره ونهيه. وقال الحسن: أُحْكِمَتْ آياتُهُ بالأمر والنهي، وفصلت بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب. وقال مجاهد: فُصِّلَتْ أي: فُسِّرت. وقال القتبي: أُحْكِمَتْ، فلم تنسخ، ثم فُصِّلَتْ بالحلال والحرام. ويقال:
فُصِّلَتْ يعني: أنزلت شيئاً بعد شيء، فلم تنزل جملة. مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يعني: أنزل جبريل على محمد صلّى الله عليه وسلّم من عند الله تعالى قال: حَكِيمٍ في أمره، خَبِيرٍ بالعباد وبأعمالهم، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ يعني: نزل جبريل بالقرآن، وقد بيَّنَ فيه، ألا توحدوا ولا تطيعوا غير الله، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ يعني: قل لهم يا محمد إنني لكم من الله تعالى نَذِيرٌ يعني: مخوفا من عذابه للكافرين، وَبَشِيرٌ بالجنة للمؤمنين. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الذنوب ويقال: صلّوا لربكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يعني: وتوبوا إليه من الشرك والذنوب يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً يعني:
يُعَيِّشْكُمْ في الدنيا عيشاً حسناً في خير وعافية، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى منتهى آجالكم. وقال القتبي: أصل الإمتاع الإطالة، يقال: حبل ماتع وقد متع النهار إذا طال. يُمَتِّعْكُمْ يعني:
يُعَمِّركم، ويقال: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً يعني: يجعلكم راضين بما يعطيكم، ويقال: ويجعل حياتكم في الطاعة.
ثم قال: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ- يعني: يعطي في الآخرة كل ذي فضل في العمل في الدنيا فضله، والدرجات. وروى جويبر، عن الضحاك، قال: يؤت كل ذي عمل ثواب عمله «١» - وقال سعيد بن جبير، في قوله: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ قال: من عمل حسنة
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «ب».
كتبت له عشر حسنات، ومن عمل سيئة كتبت عليه سيئة واحدة، فإن لم يعاقب بها في الدنيا، أُخذ من العشرة واحدة، وبقيت له تسع حسنات، وهكذا قال ابن مسعود، ثم قال ابن مسعود:
«هلك من غلب آحاده أعشاره».
وَإِنْ تَوَلَّوْا يعني: أعرضوا عن الإيمان فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يعني: قل لهم يا محمد:
إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يعني: القحط. قال مقاتل: حبس الله تعالى عنهم القطر سبع سنين حتى أكلوا الموتى. ويقال: فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ، يعني: عذاب النار يوم القيامة. ويقال: فَإِنِّي أَخافُ، يعني: أعلم، فيوضع الخوف موضع العلم، لأن فيه طرفاً من العلم.
ثم قال: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ يعني: مصيركم في الآخرة وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني: هو قادر على بعثكم بعد الموت.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥ الى ٦]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال الكلبي: يقول: يكتمون مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ العداوة لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ يعني: ليستروا ذلك منه أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يعني: يلبسون ثيابهم، يعني: حين يُغشي الرجل نفسه بثيابه، يعني: ما تحت ثيابه، ويَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من العداوة، وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم. قال الكلبي: نزلت في شأن أخنس بن شريق. وقال مقاتل:
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يعني: يلوون. وذلك أن كفار مكة كانوا إذا سمعوا القرآن، نكسوا رؤوسهم على صدورهم، كراهية استماع القرآن، لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ يعني: من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: أخفى ما يكون للإنسان إذا أسر في نفسه شيئا، ويغطى بثوبه، فذلك أخفى ما يكون والله تعالى مطلع على ما في نفوسهم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني: ما في قلوب العباد من الخير والشر.
قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها يعني: إلا الله القائم على رزقها. ويقال: الله ضامن لرزقها. ويقال: يرزقها الله حيث ما تَوَجَّهَتْ. وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها يعني: يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها حيث تأوي بالليل، وَمُسْتَوْدَعَها حيث تموت وتدفن.
وروي عن عبد الله بن مسعود، قال: «مستقرها الأرحام، ومستودعها الأرض التي تموت فيها».
وقال عبد الله: «إذا كان الرجل بأرض وقد دنا أجله عرضت له الحاجة، حتى إذا كان عند انقضاء أجله قبض، فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني». وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: المستقر الرحم، والمستودع الأصلاب. كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني: المستقر،
والمستودع، وبيان كل شيء، ورزق كل دابة، مكتوب في اللوح المحفوظ، وهو خلق من درة بيضاء.
[سورة هود (١١) : آية ٧]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قال ابن عباس: «يعني:
من أيام الآخرة»
. وقال الحسن: «من أيام الدنيا» وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قبل خلق السموات والأرض، لأنه لم يكن تحته شيء سوى الماء.
قال الفقيه: حدّثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عوف، قال: حدثنا فارس بن مردويه، قال: حدثنا محمد بن الفضل، قال: حدثنا أبو مطيع، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: «بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، بِعُلِوِّهِ وقدرته يعلم ما أنتم فيه.»
وروى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: «كان عرشه على الماء، فلمَّا خلق الله تعالى السموات والأرض، قسم ذلك الماء قسمين، فجعل نصفه تحت العرش وهو البحر المسجور، وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى، وهو مكتوب في الكتاب الأول، ويسمى اليم».
وعن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس عن قول الله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ على أي شيء كان الماء؟ قال: «على متن الريح». ويقال: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ يعني: فوق الماء كقولك: السماء فوق الأرض، لا أنه ملتزق بالماء.
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا يعني: ليختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أخلص عملاً، وأزهد في الدنيا. والاختبار من الله تعالى، هو إظهار ما يعلم من خلقه.
ثم قال: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ يعني: يوم القيامة لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: أهل مكة إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: ما هذا إِلاَّ كذب بين حتى يخبرنا أنه يكون البعث. قرأ حمزة والكسائي: ساحر مُّبِينٌ بالألف، وقرأ الباقون سِحْرٌ مُبِينٌ بغير ألف.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨ الى ١١]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ يعني: سنين معلومة، يعني:
إلى الوقت الذي جعل أجلهم. وقال القتبي: يعني: إلى حين توفته وفي قوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: ٤٥] إنما هو سبع سنين لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ يعني: العذاب، على وجه الاستهزاء، أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ يعني: العذاب لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ يعني: ليس أحد يصرف العذاب عنهم، إذا نزل بهم في الدنيا وفي الآخرة. وَحاقَ بِهِمْ يعني: نزل بهم مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ إنه غير نازل بهم.
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ يعني: أصبنا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً، يعني: نعمة وخيراً وعافية ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ يعني: آيس من رحمة الله، كفور بنعم الله تعالى.
ثم قال: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ يعني: أعطيناه خيراً وعافية وسعة في الرزق بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ يعني: أصابته لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي يعني: فلا يشكر الله تعالى.
ذكر في الابتداء لَيَقُولَنَّ بنصب اللام بلفظ الواحد، لتقديم الفعل على الاسم، وفي الثاني: بضم اللام لأنه فعل جماعة ولم يذكر الاسم، وفي الثالث: ذكر بنصب اللام لأنه فعل الواحد. ويقول: ذهب السيئات عني إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ يعني: بطراً فرحاً بما أعطاه الله تعالى، وهو الطغيان في النعمة، فَخُورٌ في نعم الله تعالى، ومتكبر على الناس.
ثم استثنى، فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وهم المؤمنون الذين صبروا على الطاعات والشدائد ليسوا كذلك، وليسوا من أهل هذه الصفة، إذا ابتلوا صبروا وإذا أعطوا شكروا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بينهم وبين ربهم أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم في الدنيا وَأَجْرٌ كَبِيرٌ يعني: ثواباً عظيماً في الجنة.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢ الى ١٤]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَّ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وذلك أن كفار مكة. قالوا: كيف لا ينزل الله إليه ملكا، أو يكون له كنز، وطلبوا منه بأن لا يعيب آلهتهم، فهمَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يترك عيبها رجاء أن يتبعوه، فنزل: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِن أمر الآلهة
وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ في البلاغ، أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ يعني: المال، أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يُعِينُهُ ويُصَدِّقُهُ، فأمر بأن لا يترك تبليغ الرسالة بقولهم وقال: قُلْ يا محمد، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ يعني:
إنما عليك تبليغ الرسالة والتخويف. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يعني: شهيد بأنك رسول الله تعالى.
قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ يعني: أتقولون، وأَمْ صلة افتراء، يعني: اختلقه من تلقاء نفسه. قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ يعني: مختلقات. قال الكلبي: يعني: بعشر سور مثله مثل سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والتوبة، ويونس. وهود، لأن العاشرة هي سورة هود. وقال بعضهم: هذا التفسير لا يصح، لأن سورة هود مكية، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة مدنيات، أُنْزِلَتْ بعد سورة هود بمدة طويلة. ولكن معناه: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مثل سور القرآن، أي سورة كانت، مُفْتَرَياتٍ يعني: مختلقات إن كنتم تزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلّم يختلقه من ذات نفسه، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: استعينوا بآلهتكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالتكم. فسكتوا ولم يجيبوا، فنزل قوله تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ يعني: فإن لم يجيبوك، خاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الجماعة، كما قال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ [المؤمنون: ٥١] ويقال: أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ يقال: فاعلموا يا أهل مكة، إنما أُنزل بعلم الله، يعني: أنزل جبريل هذا القرآن بإذن الله تعالى وبأمره. وقال القتبي: بِعِلْمِ اللَّهِ يعني: من علم الله، والباء مكان من.
ثم قال تعالى: وَأَنْ لاَّ إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني: فاعلموا أن لا إله إلا هو، يعني: أن الله تعالى هو منزل الوحي، وليس أحد ينزل الوحي غيره فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يعني: مقرّين بأن الله أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم ويقال: مخلصون بالتوحيد ويقال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هذا على وجه الأمر، يعني: أسلموا.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لاَ يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها يعني: من كان يريد بعمله الدنيا، ولا يريد به وجه الله تعالى. نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها يعني: ثواب أعمالهم في الدنيا وَهُمْ فِيها لاَ يُبْخَسُونَ يعني: لا ينقص من ثواب أعمالهم شيء في الدنيا، أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أهل القبلة. وقال الحسن: نزلت في المنافقين والكافرين.
وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها يعني: ثواب أعمالهم، لأنه لم يكن لوجه الله تعالى. وَباطِلٌ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ وروى أنس بن مالك، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ، صَارَتْ أُمَّتِي
ثَلاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى خَالِصاً، وَفِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى رِيَاءً، وفرقة يعبدون الله تعالى لِيُصِيبُوا بِهَا الدُّنْيَا. فَيَقُولُ الله تَعَالَى لِلّذِي كَانَ يَعْبُدُ الله لِلدُّنْيَا: وَمَاذَا أَرَدْتَ بِعِبَادَتِكَ؟
فَيَقُولَ: الدُّنْيَا. فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: لاَ جَرَمَ، وَلاَ يَنْفَعُكَ مَا جَمَعْتَ، وَلاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَيَقُولَ:
انْطَلِقُوا بِهِ إلى النار، ويقول للذي كَانِ يَعْبُدُ الله رِياءً، ماذا أردت بعبادتك؟ فيقول: الرِّيَاءَ، فَيَقُولُ الله تَعَالَى: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى النَّارِ، ويقول للذي كان يعبد الله تَعَالىَ خَالِصاً: مِاذَا أَرَدْتَ بِعِبَادَتِكَ؟
فِيَقُولُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كُنْتُ أَعْبُدُكَ لِوَجْهِكَ وَذَاتِكَ. قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، انْطَلِقُوا بِهِ إلى الجنّة» «١».
[سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٧)
ثم قال تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعني: على بيان من ربه، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يقول: يقرأ جبريل هذا القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو شاهِدٌ مِنْهُ يعني: من الله تعالى، وهذا قول ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم النخعي. ويقال:
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعني: أن الله بيّن أمره ونبوته بدلائل أعطاها محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وَيَتْلُوهُ يعني: يقرأ القرآنَ جبريلُ على محمد صلّى الله عليه وسلّم شاهِدٌ مِنْهُ، أي: ملك أمين من الله تعالى، وهو جبريل. وقال شهر بن حوشب: «القرآن شاهد من الله تعالى»، ومعناه: يتلو القرآن، وهو شاهد من الله تعالى. وقال الحسن: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يعني: لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقال قتادة: لسانه شاهد منه. وكذلك قال عكرمة.
قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا السراج، قال: حدثنا أبو إسماعيل، قال: حدثنا صفوان بن صالح، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الخليل، عن قتادة، عن عروة، عن محمد بن علي، قال: قلت لعليّ: إنَّ الناس يزعمون في قوله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أنك أنت التالي، قال: «وددت أني أنا هو، ولكنه لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم». ويقال:
الشَّاهد القرآن، وَيَتْلُوهُ يعني: بعده. ويقال: يَتْلُوهُ يعني: يتبعه، كقوله: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشمس: ٢]. قال القتبي: هذا كلام على الاختصار ومعناه: أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ من ربه، ويتلوه شاهد منه، كالذي يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم، كقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزمر: ٩] يعني: كمن هو بخلاف ذلك.
ثم قال تَعَالَيْ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى يعني: جبريل قرأ التوراة على موسى عليه
(١) عزاه السيوطي: ٤/ ٤٠٧- ٤٠٨ إلى البيهقي في الشعب.
السلام من قبل أن يتلو القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول الكلبي، ومقاتل. وقال عبد الله بن سلام: يتلو القرآن، وكان من قبله يتلو التوراة. والتأويل الأول أصح، لأن هذه السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم في بالمدينة. ويقال: هم الذين آمنوا بمكة من أهل الكتاب، حين قدموا من الحبشة.
ثم قال: إِماماً وَرَحْمَةً يعني: إِماماً يُهتدى به ويعمل به، وَرَحْمَةً، يعني: ونعمة من العذاب لمن آمن به، يعني: كتاب موسى عليه السلام أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني: بالقرآن وهذا كقوله: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [العنكبوت: ٤٧] يعني: بالقرآن.
ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ يعني: من يجحد بالقرآن فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يعني:
مصيره. قال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا وجدت مصداقه في كتاب الله تعالى، حتى بلغني عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذه الأمَّةِ، لاَ يَهُودِيٌّ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لاَ يُؤمِنُ بِي إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ» «١». فجعلت أقول وأتفكر: أين هذا في كتاب الله؟ حتى أتيت على هذه الآية، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ قال: هي في أهل الملل كلها.
ثم قال: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ يعني: فلا تك في شك منه أن موعده النار. وإِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: فلا تك في شك أن القرآن من الله تعالى، وإِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: الصدق من ربك، رداً لقولهم: إنه يقول ذلك من شيطان يلقيه إليه يقال له: الري.
- وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من أَحَدٍ إلا وَمَعَهُ شَيْطَانٌ فَاغِرٌ بَيْنَ يَدَيهٍ، ألا أَنَّ الله تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْه وَأَسْلَم» «٢». ثم قال: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ يعني: لا يصدقون بالقرآن يعني أهل مكة بأنه من عند الله تعالى.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٨ الى ٢٣]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣)
(١) عزاه السيوطي ٤/ ٤١١ إلى ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة.
(٢) ساقط من النسخة: «ب». وهو من حديث عائشة أخرجه البيهقي ٢/ ١١٦ وابن خزيمة (٦٥٤).
143
ثم قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني: ومن أشد في كفره مِمَّنِ افْتَرى يقول: ممن اختلق على الله كذبا، بأن معه شريكاً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يعني: يساقون إلى ربهم يوم القيامة، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ يعني الرسل: قد بلغناهم الرسالة- وقال الضحاك:
وَيَقُولُ الْأَشْهادُ، يعني: الأنبياء «١» -. وقال قتادة، ومجاهد، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ، يعني:
الملائكة. وقال الأخفش: الْأَشْهادُ واحدها شاهد، مثل أصحاب وصاحب، ويقال: شهيد وأشهاد، مثل: شريف وأشراف.
قال الله تعالى: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ يعني: افتروا على الله عز وجل بأن معه شريكاً، وقال الله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، يعني: عذابه وغضبه على المشركين.
ثم وصفهم فقال تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: يصرفون الناس عن دين الإسلام وَيَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون بملة الإسلام زيفاً وغِيراً، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي:
ينكرون البعث.
قوله تعالى: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ يعني: لم يفوتوا، ولم يهربوا من عذاب الله تعالى حتى يجزيهم بأعمالهم الخبيثة، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يعني:
ما كان لهم من عذاب الله تعالى مانع يمنعهم من العذاب، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ يعني:
الرؤساء يكون لهم العذاب بكفرهم، وبما أضلوا غيرهم، مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ يعني:
ما كانوا في العذاب يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ يعني: لا يقدرون أن يسمعوا وَما كانُوا يُبْصِرُونَ في النار شيئاً.
ويقال: ذلك التضعيف لهم، لأنهم كانوا لا يستطيعون الاستماع إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، في الدنيا من بغضه، وَما كانُوا يُبْصِرُونَ، أي: عمياً لا ينظرون إليه من بغضه. وقال الكلبي:
يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ بما كانوا يستطيعون السمع والهدى، وبما كانوا لا يبصرون الهدى.
ويقال: مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع، فلم يسمعوا، وكانوا يستطيعون أن يبصروا، فلم يبصروا.
ويقال: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ يعني: لم يكن لهم سمع القلب، وَما كانُوا يُبْصِرُونَ، أي لم يكن لهم بصر القلب. قرأ ابن كثير، وابن عامر يضعّف لَهُمْ بتشديد العين بغير ألف، وقرأ الباقون: يُضاعَفُ بالألف، ومعناهما واحد.
ثم بيَّنَ أنّ ضرر ذلك يرجع إلى أنفسهم، فقال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
يعني: غبنوا حظَّ أنفسهم وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ
يعني: وبطل عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله تعالى، فات عنهم ولا ينفعهم شيئاً.
ثم قال تعالى: لاَ جَرَمَ قال الكلبي: يعني حقا. ويقال: نعم. ويقال: لا جَرَمَ،
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «ب».
144
يعني: لا شك. ويقال: لا كذب. ويقال: لا جَرَمَ، أي: بلى. وذكر عن الفراء أنه قال:
لا جَرَمَ، كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فكثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة حقاً، أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ يعني: الخاسرين. ويقال: الأخسر إذا قلت بالألف واللام، يكون بمعنى الخاسر، وإذا قلت: أخسر بغير الألف واللام، يكون أخسر من غيره.
ثم أخبر عن المؤمنين، وما أعدّ لهم في الآخرة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: صدقوا بوحدانية الله تعالى، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، يعني: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم، وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، قال القتبي: يعني تواضعوا، والإخبات: التواضع.
وقال مقاتل: وَأَخْبَتُوا يقول أخلصوا، ويقال: يخشعون فرقاً من عذاب ربهم، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يعني: أهل الجنة هُمْ فِيها خالِدُونَ يعني: دائمون، لا يموتون ولا يخرجون منها.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)
ثم ضرب مثل المؤمنين والكافرين فقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ يعني: مثل المؤمن والكافر، مثل الذي يبصر الحق، ومثل الذي لا يبصر الحق: كَالْأَعْمى يعني: عن الإيمان، ولا يبصره، وَالْأَصَمِّ عن الإيمان، ولا يسمعه، وهو الكافر، وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ وهو المؤمن. هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا في الشبه؟ ويقال: معناه، مثل الفريقين كالأعمى والأصم، والبصير والسميع، يعني: الذي لا يسمع من الذي لا يسمع ولا يبصر، هل يستوي بالذي يسمع ويبصر؟ ويقال معناه: كالأعمى والبصير، والأصم والسميع. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لكفار مكة: «هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ والأصَمُّ وَالسَّمِيعُ؟» قالوا لا. قال: أَفَلا تَذَكَّرُونَ يعني: أنهما لا يستويان. قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ بالتخفيف، وقرأ الباقون: أَفَلا تَذَكَّرُونَ بالتشديد.
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، إِنِّي لَكُمْ بكسر الألف، ومعناه: قال لهم إنِّي لكم نذير. وقرأ الباقون: بالنصب، ومعناه: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه بالإنذار. وفي الآية تهديد لأهل مكة، ومعناه: واتل عليهم نبأ نوح، يعني: إن لم يتّعظوا بما ذكرت، فاتل عليهم خبر نوح.
وروى أبو صالح، عن ابن عباس: «أن نوحاً أوحي إليه وهو ابن أربعمائة وثمانون سنة، فدعا قومه مائة وعشرين سنة، وركب السفينة وهو ابن ستمائة سنة، ومكث بعد هلاك قومه ثلاثمائة وخمسين سنة، فذلك ألف سنة إلا خمسين عاماً»، وذكر عن وهب بن منبه، قال:
«أوحى الله تعالى إلى نوح وهو ابن خمسين سنة ولبث فيما بينهم تسعمائة وخمسين سنة، فلما هلك قومه عاش بعدهم خمسين سنة، فتمام عمره ألف وخمسون سنة».
وقال عكرمة: «إنما سُمِّي نوحاً لأنه كان ينوح على أهله ونفسه». ويقال: كان اسمه شاكرا، فمن كثرة نواحه على نفسه، سُمِّيَ نوحاً، فدعا قومه إلى الله تعالى وقال لهم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ من العذاب. ويقال: مُبِينٌ يعني: بين بلغة تعرفونها أَنْ لاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ يعني: ألا تطيعوا ولا توحِّدوا إلا الله، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ يعني: الغرق.
قال الله تعالى: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني: الأشراف من قومه مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا يعني: آدمياً مثلنا، وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ يعني: ما آمن بك إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا يعني: سفلتنا وضعفاؤنا بادِيَ الرَّأْيِ. قال الكلبي: ظاهر الرأي، يعني: إنهم يعرفون الظاهر، فلا تمييز لهم. وقال مقاتل: يعني: أراذلنا أي سفلتنا وضعفاؤنا. وقال القتبي: أَراذِلُنا يعني:
شرارنا، وهو جمع أرذل. وقوله: بادِيَ الرَّأْيِ، بغير همز، أي ظاهر الرأي، من بدا يبدو.
وأما بالهمز، فيعني: أول الرأي، من قولك: بدأ يبدأ. قرأ أبو عمرو: بادِيَ الرَّأْيِ بالهمز، وقرأ الباقون: على ضد ذلك.
ثم قال: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي قوم نوح قالوا لنوح: ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ في مُلْكٍ ولا مال، بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ يعني: نحسبك من الكاذبين. وقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة، ويقال: إنما أراد به نوحاً ومن آمن معه.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
قوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ يعني: قال نوح لقومه أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يعني: أخبروني إن كنت على دين ويقين من ربي وبيان، وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ يقول:
أكرمني بالرِّسالة والنُّبُوَّةِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، يعني: عميت عليكم هذه البينة. ويقال: عُميتم عن ذلك. يقال: عمي عليه هذا، إذا لم يفهم. ويقال: التبست عليكم هذه النعمة وهذه البينة التي هي من الله تعالى، فلم تبصروها ولم تعرفوها. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص، فَعُمِّيَتْ بضم العين وتشديد الميم، على معنى فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون:
بنصب العين والتخفيف، ومعناه واحد، يعني: فخفيت عليكم هذه النعمة والرحمة. واتفقوا في سورة القصص فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ [القصص: ٦٦] بالنصب.
ثم قال: أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟ يعني: نعرفكموها وأنتم للنبوة كارهون؟ قال قتادة: أما والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه، ولكن لم يملك ذلك. - ويقال: أفأريكموها يعني: أنفهمكموها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ أي منكرون؟ ويقال: أنحملكموها، أي معرفتها «١» - ويقال: أنعلمكموها وأنتم تكذبونني ولا تناظرونني في ذلك.
ثم أخبرهم عن شفقته، وقلة طمعه في أموالهم، فقال: وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً يعني: لا أطلب منكم على الإيمان أجراً، يعني: رزقاً ولا جعلاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ يعني:
ما ثوابي إِلاَّ على الله، وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا، لأنهم طلبوا منه أن يطرد من عنده من الفقراء والضعفاء، فقال إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيجزيهم بأعمالهم. ويقال إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيشكونني إلى الله تعالى أن لم أقبل منهم الإيمان وأطردهم، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ما أمرتكم به وما جئتكم به.
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
ثم قال تعالى: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ يعني: لو طردتهم فيعذبني الله بذلك، فمن يمنعني من عذاب الله، إن طردتهم عن مجلسي؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي: أفلا تَتَّعِظُون ولا تفهمون أنّ مَنْ آمن بالله لا يُطْرَدُ؟.
ثم قال: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ يعني: مفاتيح الله في الرزق، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أن الله يهديكم أم لا. ويقال: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، يعني: علم ما غاب عني، وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ من الملائكة، وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ يعني: تحتقر أعينكم من السفلة، لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً يعني: لا أقول إن الله تعالى لا يكرمهم بالإيمان، ولا يهدي من هو حقير في أعينكم، ولكن الله يَهْدِى مَن يشاء.
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
ثم قال: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ يعني: بما في قلوبهم من التصديق والمعرفة، إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ يعني: إن طردتهم فلم أقبل منهم الإيمان، بسبب احتقاركم إياهم ما لم أعلم ما في قلوبهم، كنت ظالماً على نفسي.
فعجز قومه عن جوابه، قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا، قال مقاتل: يعني: ماريتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا يعني: مراءنا. وقال الكلبي: دعوتنا فأكثرت دعاءنا. ويقال: وعظتنا فأكثرت موعظتنا.
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا يعنيَ: لا نقبل موعظتك، فأتنا بما تعدنا من العذاب، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ بأن العذاب نازل بنا.
قالَ لهم نوح: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ إن شاء يُعذبكم، وإن شاء يصرفه عنكم، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يعني: إن أراد أن يعذبكم لا تفوتون من عذابه.
ثم قال: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي يعني: دعائي وتحذيري ونصيحتي، إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ يعني: إن أردت أن أدعوكم من الشرك إلى التوحيد والتوبة والإيمان، إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ يعني: لا تنفعكم دعوتي، إن أراد الله أن يضلكم عن الهدى، ويترككم على الضلالة ويهلككم. هُوَ رَبُّكُمْ يعني: هو أولى بكم. ويقال: هو ربكم رب واحد ليس له شريك وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني: بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم.
ثم قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قَال مقاتل: هذا الخطاب لأهل مكة، معناه: أَتقولون إن محمداً تقوله من ذات نفسه قُلْ لهم: إِنِ افْتَرَيْتُهُ من ذات نفسي فَعَلَيَّ إِجْرامِي يعني: خطيئتي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ يعني من خطاياكم. وقال الكلبي: هذا الخطاب أيضاً لقوم نوح، يعني: قوم نوح أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ يعني: اختلقه من ذات نفسه. فقال لهم نوح:
إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي يعني: آثامي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ يعني: مما تأثمون.
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)
قوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قال الحسن: إن نوحاً عليه السلام لم يدع على قومه، حتى نزلت هذه الآية: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فدعا عليهم عند ذلك رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦].
ثم قال تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الكفر وذلك أن نوحاً ندم على دعائه، وجعل يبكي ويتأسف عليهم، فقال الله تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ يعني: لا يحزنك إذا نزل بهم الغرق، بما كانوا يفعلون من الكفر.
ثم قال تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا يقول: اعمل السفينة، ويقال للواحد وللجماعة: الفلك، بِأَعْيُنِنا قال الكلبي: يعني: بمنظر منا، وَوَحْيِنا يعني: بوحينا إليك.
وقال مقاتل: يعني: بتعليمنا وأمرنا. وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: فلا تراجعني في قومك، ولا تدعني بصرف العذاب عنهم، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ بالطوفان. ويقال: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، يعني ابنه كنعان.
وقال عكرمة: كان طول سفينة نوح ثلاثمائة ذراع، وعمقها في الماء ثلاثون ذراعاً، وعرضها خمسون ذراعاً. وقال الحسن: كان طول سفينة نوح ألف ومائتا ذراع، وعمقها في الماء ثلاثون ذراعاً وعرضها ستمائة ذراع. - وقال ابن عباس: «كان طول سفينة نوح ثلاثمائة، وطولها في الماء ثلاثون ذراعاً، وعرضها خمسون ذراعاً» «١».
وقال القتبي: قرأت في التوراة: أن الله تعالى أوحى إلى نوح أن اصنع الفلك، وليكن طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعاً، وارتفاعها ثلاثون ذراعاً، وليكن بابها في عرضها. وادخل أنت في الفلك وامرأتك وبنوك ونساء بنيك ومن كل زوجين من الحيوان ذكراناً وإناثاً، فإني منزل المطر على الأرض، أربعين يوماً وأربعين ليلة، فأتلف كل شيء خلقته على الأرض. فأرسل الله تعالى ماء الطوفان على الأرض، في سنة ستمائة من عمر نوح عليه السلام، ولبث في الماء مائة وخمسين يوماً، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: مكث نوح ينجر السفينة مائة سنة، فلما فرغ من عملها أمره الله تعالى أن يحمل فيها مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين من كل حيوان، فحمل فيها امرأته وبنيه ونساءهم، فركب فيها لسبع عشرة ليلة خلت من صفر، فمكث في الماء سبعة أشهر لم يقر لها قرار، فأرسيت على الجودي خمسة أشهر، فأرسل الغراب لينظر كم بقي من الماء، فمكث على جيفة، فغضب عليه نوح ولعنه، ثم أرسل الحمامة فوقعت في الماء، فبلغ الماء قدر حمرة رجليها، فجاءت فأرته، فبارك عليها نوح.
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
قوله تعالى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ يعني: ينحت السفينة. ويقال: إن الله تعالى أمره بأن يغرس الأشجار، فغرسها حتى أدركت، وقطعها حتى يبست، ثم اتخذ منها السفينة، فاستأجر أجراء ينحتون معه. وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ يعني: الأشراف من قومه سَخِرُوا مِنْهُ يعني:
استهزءوا به، وكانوا يقولون: إن الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً، ومرة كانوا يقولون: أتجعل
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «ب».
149
للماء إكافاً فأين الماء. قالَ لهم نوح إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ يعني: إن تسخروا منا اليوم، فإنا نسخر منكم بعد الهلاك، يعني: يصيبكم جزاء السخرية، كَما تَسْخَرُونَ منا، يعني: بما تسخرون ويقال إن تستجهلوا بنا بهذا الفعل، فإنا نستجهلكم بترك الإيمان، كما تستجهلوننا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني: تعرفون بعد هذا من أحق بالسخرية، وهذا وعيد لهم، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني: تعرفون مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يعني: يهلكه ويذله وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ يعني: ينزل عليه عذاب دائم، لا ينقطع عنه أبدا.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا يعني: قولنا بالعذاب، ويقال: حتما إذا جاء عذابنا، وهو الغرق وَفارَ التَّنُّورُ يعني: نبع الماء من أسفل التنور. وقال مقاتل: التنور الذي يخبز فيه في أقصى ديار بالشام- وقال ابن عباس: وَفارَ التَّنُّورُ يعني: نبع الماء من وجه الأرض «١» - وقال علي بن أبي طالب: وَفارَ التَّنُّورُ «يعني: طلوع الفجر، أي تنوّر الصبح»، يعني: إذا طلع الفجر، كان وقت الهلاك. وروي عن عليّ رضي الله عنه أيضاً أنه قال: فار منه التنور وجرت منه السفينة، إلى مسجد بالكوفة قُلْنَا احْمِلْ فِيها يعني: في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يعني: من كل صنفين وَأَهْلَكَ يعني: واحمل أهلك فيها معك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بالغرق، يعني: سوى من قدرت عليه الشقاوة والكفر، فلا تحمله، يعني: امرأته الكافرة، وابنه كنعان، وَمَنْ آمَنَ يعني: واحمل في السفينة من آمن معك.
قال الفقيه: أخبرني الثقة، بإسناده عن وهب بن منبه، قال: «أمر نوح بأن يحمل مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين، فقال: رب كيف أصنع بالأسد والبقرة؟ وكيف أصنع بالذئب والعناق؟ وكيف أصنع بالحمام والهرة؟ قال: يا نوح من ألقى بينهم العداوة؟ قال: أنت يا رب، قال: فإني أؤلف بينهم حتى يتراضوا».
قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا الماسرخسي، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا قبيصة بن عقبة، قال: حدّثنا سفيان، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: «كثر الفأر في السفينة، حتى خافوا على حبال السفينة، فأوحى الله تعالى إلى نوح، أن امسح عن جبهة الأسد فمسحها، فعطس، فخرج منها سنوران، فأكلا الفئران. وكثرت العذرة في السفينة، فشكوا إلى نوح، فأوحى الله تعالى إلى نوح: أن امسح ذنب الفيل، فمسحه فخرج خنزير، فأكل العذرة». وفي خبر آخر: «فخرج منه خنزيران فأكلا العذرة». قال الفقيه، أبو الليث رحمه الله: وفي خبر وهب بن منبه دليل أن الهرة كانت من قبل. وفي هذا الخبر أن الهرة لم تكن من قبل، والله أعلم بالصواب منهما.
وروي عن ابن عباس أنه قال: «لما فار الماء من التنور، فأرسل الله تعالى من السماء مطرا
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «ب». [.....]
150
شديدا، فأقبلت الوحوش حين أصابتها المطر إلى نوح، وسخرت له، فحمل في السفينة مِن كُلّ طير زوجين، ومن كل دابة زوجين، ومن كل بهيمة زوجين، ومن كل سبع زوجين، يعني:
الذكر والأنثى. فقال نوح: رب هذه الحية والعقرب، كيف أصنع بهما؟ فبعث الله تعالى جبريل، فقطع فقار العقرب، وضرب فم الحية. وكان نوح عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة أبواب، بعضها أسفل من بعض، فجعل في الباب الأسفل: السباع والهوام، وجعل في الباب الأوسط:
البهائم والوحوش، وجعل في الباب الأعلى: بني آدم من ذكر منهم»، فذلك قوله تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قال ابن عباس: «هم ثمانون إنساناً»، وقال الأعمش في قوله: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قال: كان نوح، وثلاثة بنين، ونساؤهم. وقال مقاتل: كانوا أربعين رجلاً، وأربعين امرأة. قرأ عاصم في رواية حفص: مِنْ كُلٍّ بالتنوين، يعني: من كل شيء، ثُمَّ قال زَوْجَيْنِ على وجه التفسير للكل، وقرأ الباقون: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بغير تنوين، على معنى الإضافة.
[سورة هود (١١) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢)
قوله تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها يعني: ادخلوا في السفينة. ويقال: الجؤوا فيها من الغرق بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها يعني: إذا ركبتموها فقولوا: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها. قرأ حمزة والكسائي، وعاصم في رواية حفص: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها بنصب الميم، وهكذا قرأ ابن مسعود، والأعمش. وقرأ الباقون: بضم الميم. واتفقوا في مُرْساها، أنها بضم الميم، إلا أن حمزة، والكسائي قرءا بالإمالة. فأما من قرأها بضم الميم، فيكون بمعنى المصدر، ومعناه: يعني إجراؤها وإرساؤها بأمر الله تعالى، وهذا قول الفراء. ويقال: معناه بسم الله من حيث تجري وتحبس. ومن قرأ بالنصب فمعناه: بسم الله جريها وحبسها يعني: بأمر الله تعالى. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ بالمؤمنين.
قوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ يعني: السفينة تجري بهم في أمواج كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان، وقرأ بعضهم: ونادى ابنها، يعني: ابن امرأته ولم يكن ابنه حقيقة، وقرأ بعضهم: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ بضم الألف، وهي بلغة طيئ. ويقال: إنه لم يكن ابنه، ولكن كان ابن امرأته. وقراءة العامة: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ قالوا: وَكانَ ابن نوح فِي مَعْزِلٍ يعني: في ناحية من السفينة، ويقال: من الجبل، يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا يعني: أسلم، واركب في السفينة معنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ يعني: لا تثبت على الكفر، وتتخلف مع الكافرين. قرأ عاصم: يا بُنَيَّ ارْكَبْ بنصب الياء قرأ الباقون يا بُنَيَّ ارْكَبْ بالكسر. وقال أبو عبيدة:
القراءة عندنا بالكسر، للإضافة إلى نفسه، كما اتفقوا في قوله: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ [يوسف:
٥] وفي لقمان: يا بُنَيَّ إِنَّها [لقمان: ١٦] وإنما فرق عاصم فيهما لمكان يرى الألف الحقيقية التي في قوله: ارْكَبْ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لاَ عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
قالَ سَآوِي يعني: قال ابنه: سأصعد إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ يعني: يمنعني من الغرق، ولا أؤمن، ولا أركب السفينة، قالَ نوح: لاَ عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يقول: لا مانع اليوم من عذاب الله، أي الغرق، لا جبل ولا غيره إِلَّا مَنْ رَحِمَ يعني: إلا من آمن، فعصمه تعالى.
ثم قال: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ يعني: فرَّقَ بين كنعان وبين الجبل الموج، وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: وَحالَ بَيْنَهُمَا، يعني: بين نوح وابنه الموج، فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ يعني: فصار من المغرقين.
وروي عن ابن عباس: «أنه أمطرت السماء أربعين يوماً، وخرج ماء الأرض أربعين يوماً الليل والنهار، فذلك قوله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: ١١- ١٢] وارتفع الماء على كل جبل في الأرض، خمسة عشر ذراعاً. وروي عن الحسن أنه قال: «ارتفع الماء فوق كل جبل وكل شيء، ثلاثين ذراعاً. وسارت بهم السفينة، فطافت بهم الأرض كلها في خمسة أشهر، ما استقرت على شيء، حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعاً، ورفع البيت الذي بناه آدم إلى السماء السادسة، وهو البيت المعمور، وجعل الحجر الأسود على أبي قبيس. ويقال: أودع فيه، ثم ذهبت السفينة في الأرض حتى انتهت بهم إلى الجودي، وهو جبل بأرض الموصل، فاستقرت عليه بعد خمسة أشهر».
قال ابن عباس: «ركب نوح السفينة لعشر مضين من رجب، وخرج منها يوم عاشوراء، فذلك ستة أشهر، فلما استقرت على الجودي، كشف نوح الطبق الذي فيه الطير، فبعث الغراب ليأتيه بالخبر، فأبصر جيفة فوقع عليها، فأبطأ على نوح فلم يأته، ثم أرسل الحدأة على أثره، فأبطأت عليه، ثم أرسل بالحمامة فلم تجد في الأرض موضعا، فجاءت بورق الزيتون، فعرف نوح أن الماء قد نقص، فظهرت الأشجار، ثم أرسلها فوقعت على الأرض، فغابت رجلاها في الطين فجاءت إلى نوح، فعرف أن الأرض قد ظهرت، وذلك قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ معناه: ماءك الذي خرج منك وَيا سَماءُ أَقْلِعِي يعني: احبسي وامسكي وَغِيضَ الْماءُ يعني: نقص الماء، وظهرت الجبال والأرض، وَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني: فرغ من الأمر،
ومعناه: نجا من نجا وهلك من هلك وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ يعني: استقرت السفينة على الجودي.
وروي في الخبر: «أن الله تعالى أوحى إلى الجبال: أني أنزل السفينة على جبل، فتشامخت الجبال، وتواضع الجودي لله تعالى، فأرسيت عليه السفينة». وقال الحكيم: خرج قوس قزح بعد الطوفان أماناً لأهل الأرض من الغرق أن يغرقوا جميعاً وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني: سحقاً ونكساً لّلْقَوْمِ الكافرين، وهو البعد من رحمة الله.
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فإنك قد وعدتني أن تنجيهم من العذاب، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ يعني: أنت الصَّادق في وعدك، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ يعني: أعدل العادلين قالَ الله تعالى: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذي وعدتك أن أنجيهم. وروي عن الحسن أنه قال: «إنه تخلف، لأنه لم يكن ابن نوح».
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: كنت عند الحسن قال: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ فقال: لعمر الله ما هو ابنه، قلت: يا أبا سعيد، يقول الله تعالى: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وأنت تقول: هو ليس بابنه؟ قال: أفرأيت قوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذي وعدتك أن أنجيهم، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه. قال: إنَّ أهل الكتاب يكذبون.
وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة: «أنه ابنه»، غير أنه خالفه في العمل. وقال بعض الحكماء: إن الابن إذا لم يفعل ما يفعل الأب انقطع عنه، والأمة إذا لم يفعلوا ما فعل نبيُّهم، أخاف أن ينقطعوا عنه.
ثمَّ قال: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ قرأ الكسائي: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح، بكسر الميم ونصب الراء وغير صالح بنصب الراء. وروت أُمُّ سَلَمَةَ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقرأ هكذا، ومعناه: إن ابنك عمِلَ عَمَلَ المشركين، ولم يعمل عمل المؤمنين. وقرأ الباقون: عَمَلٌ غَيْرُ، بالتنوين والضم غَيْرُ صالِحٍ، بضمّ الراء، ومعناه: إنَّ سؤالك ودعاءك لابنك الكافر عَمَلٌ غير صالح، فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يعني: بياناً. وقرأ أهل الكوفة: فَلا تَسْئَلْنِ بتخفيف النون بغير ياء، لأن الكسر يقوم مقام الياء. وروي عن أبي عبيدة أنه قال:
رأيت في مصحف عثمان هكذا.
وقرأ أبو عمرو: فَلا تَسْئَلْنِي بإثبات الياء بغير تشديد، وهو الأصل في اللغة. وقرأ ابن كثير: فَلا تَسْئَلْنِ بنصب النون والتشديد بغير ياء، ويكون معناه: التأكيد في النهي. وقرأ ابن عامر، ونافع في رواية قالون: فَلا تَسْئَلْنِ بالكسر بغير ياء مع التشديد. وقرأ نافع في رواية ورش: فَلا تَسْئَلْنِي بالياء مع التشديد.
ثم قال: إِنِّي أَعِظُكَ أي أنهاك أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ يعني: ممّن يترك أمري.
ويقال: من المكذبين بقدرة الله تعالى وقضائه قالَ نوح عليه السلام: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ، يعني: اعتصم وامتنع بك أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ يعني: احفظني بعد اليوم، لكيلا أسألك ما ليس به علم وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي يعني: إن لم تغفر لي، ولم ترحمني، أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي: أكن من المغبونين.
[سورة هود (١١) : آية ٤٨]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨)
قوله تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا يعني: انزل من السّفينة مسلّماً من عذابنا وغرقنا. ويقال: بسلامي عليك، كما قال: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: ٧٩]، وَبَرَكاتٍ يعني: وسعادات عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ يعني: الذين كانوا معه في السفينة، وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ يعني: من كان من أهل الشّقاء سنمتِّعهم في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ يعني: يصيبهم مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة، وقَالَ مقاتل: اهبط من السفينة بسلام منا، فسلمه الله ومن معه من الغرق وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ. يعني بالبركة: إنهم توالدوا وكثروا وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ، وهم قوم هود، وشعيب، ولوط.
وقال محمد بن كعب القرظي في قوله: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قال: دخل في السلام والبركة، كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في المتاع والعذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. ويقال: إنهم لمَّا خرجوا من السفينة، بنوا مدينة وسموها مدينة الثمانين، ويقال: ماتوا كلهم ولم يكن منهم نسل، إلا من أولاد نوح عليه السلام، وكان له ثلاثة بنين: سام، وحام، ويافث، سوى الذي غرق كما قال في موضع آخر: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: ٧٧].
[سورة هود (١١) : آية ٤٩]
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
قوله تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ يعني: ما سبق من ذكر نوح وقومه يعني: من أخبار الغيب، يعني: أحاديث ما غاب عنك، فكان في إخبار النبي، صلّى الله عليه وسلّم عن قصته دلالة نُبُوَّته، لأنه لا
يعرف ذلك إلاَّ بالوحي. نُوحِيها إِلَيْكَ يعني: أخبار الغيب ينزل بها عليك جبريل. مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا يعني: القرآن، فَاصْبِرْ يعني: إن لم يصدِّقوك، فاصبر على تكذيبهم. إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ يعني: آخر الأمر للموحدين الذين يتقون الشرك والفواحش.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)
قوله تعالى: وَإِلى عادٍ يعني: أرسلنا إلى عاد أَخاهُمْ نبيُّهم هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني: وحِّدُوا الله، مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني: ليس لكم رب سواه، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يعني: ما أنتم إلا تكذبون في مقالتكم بأن لله شريكاً.
قوله تعالى: يا قَوْمِ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: لا أسألكم على الإيمان أَجْراً يعني: جعلاً ورشوة. ومعناه: لست بطامع في أموالكم، إِنْ أَجْرِيَ يعني: ما ثوابي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي يعني: خلقني أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الذي خلقكم هو ربكم، وهو أحق بعبادتكم من غيره؟
ثم قال: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ قال الضحاك: يعني: وحِّدوا ربكم. وقال الكلبي:
يعني: صلُّوا لربكم. ويقال: معناه، قولوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يعني: توبوا إليه من شرككم يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً يعني: إن تبتم يغفر لكم ذنوبكم، ويرسل عليكم المطر متتابعا دائما، كلما تحتاجون إليه، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ يعني: شدة مع شدتكم بالماء والولد. ويقال: صحة الجسم، وطول العمر. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ يقول: لا تُعْرِضُوا كافرين. ويقال: لا تعرضوا عما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد، وتثبتوا على الشرك.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
قالُوا يا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)
قال له قومه: قالُوا يا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ يقولون: لم تأتنا: بحجة وبيان وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ يقول: لا نترك عبادة آلهتنا بقولك وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ يعني: لا
نصدقك بأنك رسول الله إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ يعني: ما نقول: إلا أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يعني: - اعتراك من بعض الأوثان الخبل والجنون، فاجتنبها سالما. ويقال: أن نقول لك إلا نصيحة كيلا يصيبك بعض آلهتنا بشدّة «١» -. فردّ عليهم هود عليه السلام ف قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أنتم أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ من الأوثان فَكِيدُونِي جَمِيعاً يعني:
اعملوا بي أنتم وآلهتكم ما استطعتم، واحتالوا في هلاكي ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ أي لا تمهلون.
ثمّ قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ يعني: فَوَّضْتُ أمري إلى الله، رَبِّي وَرَبِّكُمْ يعني:
خالقي وخالقكم، ورازقي ورازقكم، مَّا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها يعني: هو قادر عليها يحييها ويميتها، وهو يرزقها، وهي في ملكه وسلطانه.
ثمّ قال: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: على الحقّ، فإن كان هو قادراً على كل شيء، فإنه لا يشاء إلا العدل. وقال مجاهد: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، يعني: على الحق. ويقال: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، يعني: بيده الهداية، وهو يهدي إلى صراط مستقيم، وهو دين الإسلام. ويقال: يدعوكم إلى طريق الإسلام. ويقال: معناه، أمرني ربي أن أدعوكم إلى صراط مستقيم.
[سورة هود (١١) : آية ٥٧]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)
فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني: إن تتولوا، ومعناه: إن أعرضتم عن الإيمان، فلم تؤمنوا. وهذا كقوله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: ٣٨]. ثمّ قال: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ يعني: إن تتولوا، فأنا معذور لأني قد أبلغتكم الرسالة، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ إن شاء. ويقال: قد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم من التوحيد، ونزول العذاب في الدنيا.
وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي بعد هلاككم قَوْماً غَيْرَكُمْ يعني: خيراً منكم وأطوع لله تعالى. وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً يعني: إن لم تؤمنوا به، فلا تنقصون من ملكه شيئاً. ويقال: إهلاككم لا ينقصه شيئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يعني: حافظا، لا يغيب عنه شيء. ويقال: معناه، حفظ كل شيء عليه.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
ثم قال: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يعني: عذابنا، وهو الريح العقيم نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا يعني: بنعمة منا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ يعني: من العذاب الذي عذب به عاد في الدنيا، ومما يعذبون به في الآخرة.
قال تعالى: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ يعني: كذبوا بعذاب ربهم إنه غير نازل بهم، ومعناه: يا أهل مكة، انظروا إلى حالهم كيف عذبوا في الدنيا وفي الآخرة. وهذا كقوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: ٥٢] فكذلك هاهنا، وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بَيَّنَ جرمهم، ثمّ بَيَّنَ عقوبتهم، فقال: وَعَصَوْا رُسُلَهُ يعني: عادا خاصة، ويقال: معناه كذبوا هوداً بما أخبرهم عن الرسل. وقيل: إنما جمع، لأن من كذّب رسولا واحدا فقد كذّب جميع الرسل، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يعني: عملوا بقول كل جبار.
ويقال: أخذوا بدين كل جبار. والجبار: الذي يضرب ويقتل عند الغضب، عَنِيدٍ يعني:
معرضاً ومجانباً عن الحق.
ثمّ بَيَّنَ عقوبتهم، فقال: وَأُتْبِعُوا يعني: ألحقوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً يعني: العذاب والهلاك، وهو الريح العقيم. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لعنة أُخرى، وهو عذاب النار إلى الأبد أَلا إِنَّ عادا كَفَرُوا رَبَّهُمْ فهذا تنبيه للكفار أن عاداً كفروا ربهم، فأهلكهم الله تعالى، فاحذروا كيلا يصيبكم بكفركم ما أصابهم بكفرهم، ويقال: أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ يعني: ينادي مناد يوم القيامة لإظهار حالهم: أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ وقال الضّحَّاك: ترفع لهم راية الغدر يوم القيامة، فينادي منادٍ يوم القيامة: هذه غدرة قوم عاد، فيلعنهم الملائكة وجميع الخلق، فذلك قوله تعالى: أَلا بُعْداً يعني: خزياً وسحقاً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)
قوله تعالى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً يعني: وأرسلنا إلى ثمود. وإنما لم ينصرف، لأنه اسم القبيلة، وفي الموضع الذي ينصرف جعله اسماً للقوم. قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي:
وحدوا الله، وأطيعوه، مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني: ليس لكم رب غيره هُوَ أَنْشَأَكُمْ يعني:
هُوَ الذى خَلَقَكُمْ، مِنَ الْأَرْضِ يعني: خلق آدم من أديم الأرض، وأنتم ولده، وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها يعني: أسكنكم وأنزلكم فيها، وأصله: أعمركم. يقال: أعمرته الدار إذا جعلتها له أبداً،
وهي العُمْرَى. وقال مجاهد: وَاسْتَعْمَرَكُمْ يعني: أطال عمركم فيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يعني: توبوا من شرككم، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ يعني: قريباً ممن دعاه، مجيباً بالإجابة لمن دعاه من أهل طاعته.
قوله تعالى: قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا يعني: كنا نرجو أن ترجع إلى ديننا قبل أن تدعونا إلى دين غير دين آبائنا، أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ يعني: يريبنا أمرك ودعاؤك إيانا إلى هذا الدين. ومعناه: إنا مريبون في أمرك.
قالَ لهم صالح: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، يقول: أخبروني إن كنت على بيان وحجة ودين أتاني من ربي، وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً يقول: أكرمني الله تعالى بالإسلام والنبوة، أيجوز لي أن أترك أمره، ولا أدعوكم إلى الله، وإلى دينه؟ فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ يقول: فمن يمنعني من عذاب الله إن رجعت إلى دينكم، وتركت دين الله تعالى؟
فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ يقول ما تزيدونني في مقالتكم إلا بصيرة في خسارتكم. ويقال:
معناه، فما تزيدونني غير تكذيب، لأن التكذيب سبب لخسارتهم. ويقال: معناه، فما تزيدونني إن تركت ما أوجب الله عليَّ من الدعوة غير تخسير لأن العذاب إذا نزل بي لا تقدرون على منعه عني.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٤ الى ٦٨]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
ثم قال تعالى: وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنَّ صَالِحاً، لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ إلى الإسلامِ كَذَّبُوهُ، فَضَاقَ صَدْرُهُ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أنْ يَأذَنَ لَهُ بِالخُرُوج مِنْ عِنْدِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ وَانْتَهَى إلى سَاحِلِ البَحْرِ، فَإذا رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى المَاءِ، فقالَ لهُ صَالحٌ:
وَيْحَكَ مَنْ أنْتَ؟ فقالَ: أنا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. قالَ: كُنْتُ في سَفِينَةٍ كَانَ قَوْمُهَا كَفَرَةً غَيْرِي، فَأهْلَكَهُمُ الله تعالى ونجاني منهم، فَخَرَجْتُ إلى جَزِيرَةٍ أتَعَبَّدُ هُناكَ، فَأَخْرُجُ أحْيَاناً وَأطْلُبُ شَيْئاً مِنْ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أرْجِعُ إلى مَكَانِي»
.
فَمَضَى صَالِحٌ، وَانْتَهَى إلى تَلَ عَظِيم، فَرَأَى رجلا يتعبّد هناك، فَانْتَهَى إلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، فقالَ لَهُ صَالِحٌ مَنْ أنْتَ؟ قال: كَانَتْ هاهُنَا قَرْيَةٌ، كانَ أهْلُهَا كُفّاراً غَيْرِي،
158
فأهلكهم الله تعالى ونجاني مِنْهُم، فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أنْ أَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى هاهنا إلى أن أموت، وَقَدْ أَنْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِي شَجَرَةَ رُمَّانٍ، وَأَظْهَرَ لِي عَيْنَ ماءٍ، فآكُلُ مِنَ الرُّمَّانِ، وَأشْرَبُ مِنْ ماءِ العَيْن، وَأَتَوَضّأ مِنْهُ.
فَذَهَبَ صالحٌ، وَانْتَهَى إلى قرية كان أهلها كفارا كُلُّهُمْ، غَيْرَ أَخَوَيْن مُسْلِمَيْنِ يَعْمَلان عَمَلَ الخُوصِ» فَضَرَبَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مثلاً قال: لَوْ أنَّ مُؤْمِناً دَخَلَ قَريَةً فِيها ألفُ رَجُلٍ، كُلُّهُمْ كُفّارٌ وفِيهَا مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ، فلا يَسْكُنُ قَلْبُهُ مَعَ أحَدٍ حَتَّى يَجِد المُؤْمِنَ. وَلَوْ أنَّ مُنَافِقاً دَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا أَلْفُ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٌ وَاحِدٌ، فلا يَسْكُنُ قَلْبُ المُنَافِقِ مَعَ أحَدٍ ما لَمْ يَجِدِ المُنَافِقَ.
فَدَخَلَ صَالِحٌ، فانتهى إلى الأَخَوَيْن وَمَكَثَ عِنْدَهُمَا أياماً. وَسَأَلَهُمَا عَنْ حَالِهِمَا، فَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا يَصْبِرَانِ عَلَى إيذاءِ المُشْركِينَ، وَأَنَّهُمَا يَعْمَلانِ عَمَلَ الخُوصِ، وَيُمْسِكانِ قُوتَهُمَا، وَيَتَصَدَّقَانِ بِالفَضْلِ. فَقالَ صَالِحٌ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أرَانِي في الأرْضِ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى أذَى الكُفَّارِ، فأنا أرْجِعُ إلى قَوْمِي وَأَصْبِرُ عَلَى أذاهُمْ. فَرَجَعَ إليْهِمْ وَقَدْ كانُوا خرجوا إلى عيد لهم، فَدَعَاهُمْ إلى الإيمانِ فَسَألُوا مِنْهُ أنْ يُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةً مِنَ الصَّخْرَةِ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَأخْرَجَ لَهُمْ ناقةً عُشَرَاءَ». فذلك قوله: وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي: علامة وعبرة، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ يعني: في أرض الحجر وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ يعني: لا تعقروها فَيَأْخُذَكُمْ، يعني: يصيبكم عَذابٌ قَرِيبٌ.
فولدت الناقة ولداً وكانت لهم بئر واحدة عذبة، قال ابن عباس: «كان للناقة شرب يوم لا يقربونها، ولهم شرب يوم وهي لا تحضره، وكانوا يستقون الماء في يومهم ما يكفيهم للغد فيقتسمونه فيما بينهم، فإذا كان يوم شربها كانت ترتع في الوادي، ثم تجيء إلى البئر فتبرك، فتدلي رأسها في البئر فتشرب منها، ثم تعود فترعى، ثم تعود إلى البئر فتشرب منها، فتفعل ذلك نهارها كله.
وكان في المدينة تسعة رهط يُفْسِدُونَ فِى الارض وَلاَ يصلحون. منهم: قذار بن سالف، ومصدع بن دهر، وكانت في تلك القرية امرأة جميلة غنية، وكانت تتأذى بالناقة لأجل سائمتها فقالت: مَنْ عقر الناقة أزوج نفسي منه. فخرج قذار بن سالف ومصدع بن دهر، وكمن لها مصدع في مضيق من ممرها، ورماها بسهم فأصاب رجلها. فَمَرَّتْ بقدار وهي تجر رجلها، فضربها بالسيف فعقرها، وقسموا لحمها على جميع أهل القرية. وكان في القرية تسعمائة أهل بيت، ويقال: ألف وخمسمائة»
، فذلك قوله فَعَقَرُوها فَقالَ لهم صالح: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ يعني: عيشوا وانتفعوا في داركم، ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ثمَّ يأتيكم العذاب، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فقالوا له: ما العلامة في ذلك؟ قال: أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني محمرة، وفي اليوم الثالث مسودة، ثم خرج صالح من بينهم.
قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يعني: عذابنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
159
يعني: بنعمة منا، وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ يعني: من عذاب يومئذ. قرأ نافع والكسائي: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ بنصب الميم، لأنها إضافة إلى اسم غير متمكن، فيجوز النصب. وقرأ الباقون:
يَوْمِئِذٍ، بكسر الميم، على معنى الإضافة. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أخبر الله تعالى محمداً صلّى الله عليه وسلّم، أنه قادر في أخذه، المنيع ممن عصاه.
ثم قال تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ يعني: كفروا، صيحة جبريل. صاح صيحة، فماتوا كلهم، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ يعني: صاروا خامدين ميتين، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها يعني: صاروا كأن لم يكونوا في الدنيا. ويقال: كأن لم ينزلوا في ديارهم، ولم يكونوا.
أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ يعني: جحدوا وحدانية ربهم، فهذا تنبيه وتخويف لمن بعدهم أَلا بُعْداً لِثَمُودَ يعني: خزياً وسحقاً لثمود في الهلاك. قرأ الكسائي: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ بكسر الدال مع التنوين، وجعله اسماً للقوم، فلذلك جعله منصرفاً. وقرأ الباقون بنصب الدال، لأنه اسم القبيلة. وإنما يجري في قوله: أَلا إِنَّ ثَمُودَ اتباعاً للكتابة في مصحف الإمام، وأما الكسائي، فأجراه لقربه من قوله: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي جحدوا بوحدانية ربهم.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧٣]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى يعني: ببشارة الولد. وذلك أن مدينة يقال لها: سدوما، ويقال: سدوم، وكانت بلدة فيها من السعة والخير ما لم يكن في سائر البلدان، وكان الغرباء يحضرون من سائر البلدان في أيام الصيف، ويجمعون من فضل ثمارهم مما كان خارجاً من الكروم والحدائق. فجاء إبليس عليه اللعنة، فشبه نفسه بغلام أمرد، وجعل يدخل كرومهم وحدائقهم ويراودهم إلى نفسه، حتى أظهر فيهم الفاحشة. وجاء إلى نسائهم، وقال: إن الرجال قد استغنوا عنكن، فعلَّمَهُنَّ أن يستغنين عن الرجال، حتى استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء. فأوحى الله تعالى إلى لوط ليدعوهم إلى الإيمان ويمتنعوا عن الفواحش، فلم يمتنعوا. فبعث الله جبريل ومعه أحد عشر من الملائكة بإهلاكهم، فجاؤوا إلى إبراهيم كهيئة الغلمان، فدخلوا على إبراهيم، فنظر فرأى اثني عشر غلاماً أمرد، ويقال: كانوا
160
ثلاثة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ويقال: كانوا أربعة، فسلموا عليه قالُوا سَلاماً قالَ إبراهيم سَلامٌ يعني: ردّ عليهم السلام.
قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ كلاهما سلام، إلا أن الأول صار نصباً، لوقوع الفعل عليه، والآخر رفعاً بالحكاية، ومعناه:
قال: قولاً فيه سلام. وقرأ حمزة والكسائي: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ بكسر السين، وسكون اللام، يعني: أمري سلم، ما أريد إلا السلامة. فَما لَبِثَ يعني: فما مكث أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قال السِّدِيّ: الحنيذ السمين، كما قال في آية أخرى: بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: ٢٦] ويقال: حَنِيذٍ يعني: نضيج. ويقال: المشوي الذي يقطر منه الودك. وقال أهل اللغة بأجمعهم: الحنيذ، المشوي بغير تنور، وهو أن يتخذ له في الأرض حنذاً، فيلقى فيه. قال مقاتل: إنما جاءهم بعجل، لأنه كان أكثر ماله البقر، فلما قربه إليهم ووضع بين أيديهم كفوا ولم يأكلوا، ولم يتناولوا منه.
قوله: فَلَمَّا رَأى إبراهيم أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ يعني: إلى الطعام ولم يمدّوا أيديهم إلى الطعام نَكِرَهُمْ يقول: أنكرهم وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً يعني: وأضمر منهم خوفاً، حيث لم يأكلوا من طعامه، وظن أنهم لصوص. وذلك أنه في ذلك الزمان إذا لم يأكل أحد من طعام إنسان، يخاف عليه غائلته، قالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ بهلاكهم. وقال السدي:
لما لم يأكلوا من الطعام، قال لهم إبراهيم عليه السلام: ما لكم لا تأكلون طعامي؟ قالوا: إنا قوم لا نأكل طعاماً إلا بثمن. فقال إبراهيم: إن لطعامي ثمناً، فأصيبوا منه. قالوا: وما ثمنه؟ قال:
تذكرون اسم الله عليه في أوله، وتحمدونه في آخره. فقال جبريل لميكائيل: حق لهذا أن يتخذه الله خليلاً.
قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ وفي الآية تقديم، يعني: بشرناها بإسحاق، فضحكت سروراً. ويقال: ضحكت تعجباً من خوف إبراهيم ورعدته في حشمه وخدمه، ولم يخف ولم يرتعد من نمرود الجبار حين قذفه في النار، وهذا قول القتبي. وقال عكرمه في قوله:
فَضَحِكَتْ يعني: حاضت. يقال: ضحكت الأرنب، إذا حاضت. وغيره من المفسرين جعلها الضحك بعينه، وكذلك هو في التوراة. قرأت فيها أنها حين بشرت بالغلام، ضحكت في نفسها، وقالت: من بعد ما بليت أعود شابة؟ وقال قتادة: ضحكت من أمر القوم وغفلتهم، وجبريل جاءهم بالعذاب، يعني: قوم لوط فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قال الشعبي: «الوراء، ولد الولد». وروى حبيب بن أبي ثابت، أن رجلاً دخل على ابن عباس ومعه ابن ابنه، فقال له: من هذا؟ فقال ابن ابني. فقال: ابنك من وراء، فوجد الرجل في نفسه، فقرأ ابن عباس: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ وقال مقاتل: يعني: ومن بعد إسحاق يعقوب. وقال أبو عبيدة: الوراء ولد الولد.
161
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم في رواية حفص يعقوب، بنصب الباء، وقرأ الباقون بالضم. فمن قرأ بالضم، فهو على معنى الابتداء، يعني: ويكون من وراء إسحاق، يَعْقُوبُ.
ومن قرأ بالنصب، فهو عطف على قوله: بِإِسْحاقَ فيكون في موضع خَفْضٌ، إلاّ أنّه لا ينصرف.
قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ يعني: عقيماً لم ألد قط، وقد كبرت في السن، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً قال الكلبي: كانت سارة ابنة ثمان وتسعين سنة، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة، أكبر منها بسنة. وقال الضحاك: كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة، وسارة بنت تسع وتسعين سنة، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ أي: لأمر عجيب قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يعني:
من قدرة الله رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ يعني: نعمته وسعادته عليكم، أَهْلَ الْبَيْتِ يعني:
يا أهل البيت. ويقال: أَتَعْجَبِينَ أي: ألا تعلمين أن رحمة لله وبركاته عليكم أن يستخرج الأنبياء كلهم من هذا البيت؟ وقال السدي: أخذ جبريل عوداً من الأرض يابساً، فدلكه بين أصبعيه، فإِذا هو شجرة تهتز، فعرفت أنه من الله تعالى. ثم قال إِنَّهُ حَمِيدٌ في فعاله، ويقال:
حميد لأعمالكم، مَجِيدٌ يعني: شريفا.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ يعني: الفزع من الرسل وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بالولد، يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ يعني: يخاصم ويتشفع في قوم لوط. وكان لوط ابن أخيه، وهو لوط بن هازر بن آزر، وإبراهيم بن آزر، ويقال: ابن عمه، وسارة كانت أخت لوط. فلما سمعا بهلاك قوم لوط، اغتما لأجل لوط. وروى معمر، عن قتادة في قوله: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ قال لهم: أرأيتم لو كان فيهم من المسلمين خمسون، أتعذبونهم؟ قالوا: لا نعذبهم. قال:
أربعون؟ قالوا: ولا أربعون. قال: ثلاثون؟ قالوا ولا ثلاثون، حتى بلغوا عشرة. قال مقاتل:
فما زال ينقص خمسة خمسة، حتى انتهى إلى خمسة أبيات، يعني: لو كان فيها خمسة أبيات من المسلمين لم يعذبهم.
ثمّ قال: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ الأواه: الذي إذا ذكر الله تعالى تأوه. مُنِيبٌ:
أي راجع إليه بالتوبة.
وقد ذكرناه في سورة التوبة. ثم قال جبريل يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا يعني: اترك جدالك إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي عذاب رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ يعني: غير مصروف عنهم.
ثم خرجوا من عند إبراهيم، متوجهين إلى قوم لوط، فانتهوا إليهم نصف النهار، فإذا هم
بجواري يستقين من الماء، فأَبصرتهم ابنة لوط وهي تستقي الماء، فقالت لهم: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟ قالوا أقبلنا من مكان كذا، ونريد مكان كذا. فأخبرتهم عن حال أهل المدينة وخبثهم، فأظهروا الغم وقالوا: هل أحد يضيفنا؟ قالت: ليس فيها أحد يضيفكم إلا ذلك الشيخ، فأشارت إلى أبيها لوط وهو على بابه. فأتوا لوطاً فلا رآهم وهيئتهم، ساءه ذلك، فذلك قوله تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ يقول: ساءه مجيئهم، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً يعني: صدره اغتماماً، ومخافة عليهم، لا يدري أيأمرهم بالرجوع أم بالنزول؟ وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ يعني: شديد. ثم قال لامرأته: ويحك، قومي واخبزي ولا تعلمي أحداً. وكانت امرأته كافرة منافقة، فانطلقت تطلب بعض حاجاتها، وجعلت لا تدخل على أحد إلا أعلمته، وتقول: إن عندنا قوماً من هيئتهم كذا وكذا. فلما علموا بذلك، جاءوا إلى باب لوط عليه السلام، فذلك قوله تعالى: وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ يعني: يسرعون إليه، وهو مشيء بين المشيتين، ويقال: يدفعون إليه دفعاً، ويقال يشتدون إليه شداً، وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني: من قبل أن يبعث إليهم لوط، ويقال: من قبل إتيان الرسل، كانوا يعملون الفواحش، وهي اللواطة والكفر، فلما أرادوا الدخول، قالَ لهم لوط: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أي: أحل لكم من ذلك، وكان لوط يناظرهم، ويقول: هن أطهر لكم، وكان جبريل مع أحد عشر من الملائكة، وكسروا الباب، فضرب أعينهم.
قال الضحاك: هؤُلاءِ بَناتِي عرض عليهم بنات قومه. وقال قتادة: أمرهم لوط أن يتزوجوا النساء، وقال: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ولم يعرض عليهم بناته. وروى سفيان عن ليث، عن مجاهد، قال: لم يكنَّ بناته، ولكن كُنَّ من أمته، وكل نبي هو أب أمته. وروي عن ابن مسعود، أنه كان يقرأ: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: ٦] وهو أب لهم، وهي قراءة أبي بن
163
كعب. وهكذا قال سعيد بن جبير: إنه أراد بنات أمته. ويقال: إن رؤساءهم كانوا خطبوا بناته وكان يأبى، فقال لهم: إني أزوجكم بناتي، هنّ أطهر لكم من الحرام، وكان النكاح بين الكافر والمسلم جائزا.
ثم قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي يقول: لا تفضحوني في أضيافي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يعني: مرشداً صالحاً يزجركم عن هذا الأمر. ويقال: رجل عاقل، ويقال: رجل على الحق يستحي مني. قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ يعني: من حاجة، يقولون: ما لنا في النساء من حاجة وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ إنما نريد الأضياف ف قالَ لوط: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً يعني: منعة بالولد أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ، أي: أرجع إلى عشيرة كبيرة، يعني: لو كانت لي عشيرة ومنعة لمنعتكم مما تريدون.
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رَحِمَ اللَّهُ أخي لُوطاً لَقَدْ أَوَى إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ» «١» يعني: أن الله تعالى ناصره. وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: «ما بعث الله نبياً بعد لوط، إلا في منعة من قومه وعزّ». ويقال: لما أرادوا الدخول، وضع جبريل يده على الباب فلم يقدروا على فتحه، فكسروا الباب ودخلوا، فامتلأت داره، فمسح جبريل جناحه على وجوههم فذهبت أعينهم، كما قال في آية أخرى: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [القمر: ٣٧] فرجعوا وقالوا: يا لوط جئت بالسحرة حتى طمسوا أعيننا، والله لنهلكنك غداً. فلما سمع لوط تهديدهم إياه، ساءه صنيع القوم وخاف، فلمَّا رأى جبريل ما دخله قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ يعني: لن يقدروا أن يصنعوا بك شيئاً، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ يعني: سر وادلج بأهلك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. قال الكلبي: القطع من الليل، آخر السحر، وقد بقيت منه قطعة. وقال السدي: سألت أعرابياً عن قوله: بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال: ربع الليل وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يعني: لا يتخلف منكم أحد إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها من العذاب، مَا أَصابَهُمْ.
قرأ ابن كثير، ونافع: فَأَسْرِ بجزم الألف، وقرأ الباقون: فَأَسْرِ بقطع الألف ومعناهما واحد، يقال: سريت وأسريت، إذا سرت بالليل. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو إِلَّا امْرَأَتَكَ بضم التاء، وقرأ الباقون بالنصب. فمن قرأ بالنصب، انصرف إلى الإسراء، يعني: أسر بأهلك إلا امرأتَكَ، على معنى الاستثناء وفي قراءة ابن مسعود: فاسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتَكَ. ومن قرأ بالضم، فهو ظاهر، يعني: أنها تتخلف مع الهالكين.
وقال لوط لجبريل عليه السلام: إن أبواب المدينة قد أُغلقت، فجمع لوط أهله وابنتيه ريثا وزعورا، فحمل جبريل لوطاً وابنتيه وماله على جناحه إلى مدينة زغر، وهي إحدى مدائن لوط،
(١) حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (٣٣٧٥) و (٣٣٨٧) و (٦٩٩٢) ومسلم (١٥١) (٢٣٨) وأحمد: ٢/ ٣٢٢ والترمذي (٣١١٦).
164
وهي خمس مدائن، وهي على أربعة فراسخ من سدوما، ولم يكونوا على مثل عملهم. فقال له جبريل إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ يعني: وقت هلاكهم وقت الصبح. فقال لوط: يا جبريل، الآن عجل هلاكهم. فقال له جبريل: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فلما كان وقت الصبح، أدخل جبريل جناحه تحت أرض المدائن الأربعة، فاقتلعها من الماء الأسود، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديك. ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، فأقبلت تهوي من السماء إلى الارض فذلك قوله: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً.
قال وهب بن منبه: لما رفعت إلى السماء، أمطر الله عليهم حجارة الكبريت والنار، ثم قلبت. وقال مقاتل: أمطر على أهلها من كان خارجاً من المدائن الأربعة، حجارة مِنْ سِجِّيلٍ يعني: من طين مطبوخ، كما يطبخ الآجر، مَنْضُودٍ يعني: متتابعا بعضه على إثر بعض. وقال مجاهد: سِجِّيلٍ بالفارسية: سنج وجك، كقوله: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات: ٣٣] وروي عن ابن عباس، في بعض الروايات، قال: «سنك وكل». وقال أبو عبيدة: السجيل: الشديد، مَنْضُودٍ أي ملتزق بالحجارة. مُسَوَّمَةً قال الفراء: مخططة بالحمرة والسواد. وقال أبو عبيدة: مُسَوَّمَةً، أي: معلمة. ويقال: مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يصيبه. ويقال: مختمة. وقال وكيع: رفع إلي حجر من تلك الحجارة المختمة بطرسوس.
ثم قال: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يعني: من قوم لوط عليه السلام ويقال: هذا تهديد لأهل مكة، وغيرهم من المشركين. فقال: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ لكيلا يعملوا مثل عملهم. ويقال: ما هن من الظالمين ببعيد. قريات لوط ليست ببعيدة من أهل مكة، فأمرهم بأن يعتبروا بها. وقال الزجاج: سِجِّيلٍ، يعني: ما كتب لهم أن يعذبوا به. ويقال:
سِجِّيلٍ من سجلته، يعني: أرسلته، ومعناه: حجارة مرسلة عليهم، ويقال: كثيرة شديدة.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
قوله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ يعني: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني: وحدوا الله وأطيعوه، مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني: ليس لكم رب سواه، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ في البيع والشِّراء، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ يعني: بسعة في المال والنعمة، وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يعني: إن لم ترجعوا عن نقصان المكيال
والميزان، تزول عنكم النعمة والسعة، ويصيبكم القحط والشدة وعذاب الآخرة. وقال مجاهد:
إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ يعني: برخص السعر.
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ، يعني: أتموا الكيل والوزن بِالْقِسْطِ يقول: بالعدل وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يعني: لا تنقصوا الناس حقوقهم وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يعني: لا تسعوا في الأرض بالفساد والمعاصي، ونقصان الكيل والوزن. وقال سعيد بن المسيب: إذا أتيت أرضاً يوفون المكيال والميزان فأطل المقام بها، وإذا أتيت أرضاً ينقصون المكيال والميزان، فأقل المقام بها. وقال عكرمة: أشهد أن كل كيال ووزان في النار، قيل له: فمن وفى الكيل والوزن؟ قال: ليس رجل في المدينة يكيل كما يكتال، ولا يزن كما يوزن، والله تعالى يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: ١].
ثم قال: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ قال ابن عباس: «ما أبقى الله لكم من الحلال، خير لكم من الحرام» إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: مصدقين، فصدقوني فيما أقول لكم ويقال: ثواب الله خير لكم في الآخرة. وقال مجاهد: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ يعني: طاعة الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ خير لكم ويقال: ثواب الله خير لكم في الآخرة. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يعني: رقيباً ووكيلاً، وإنما عليّ البلاغ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَآ أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩)
قوله: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ يعني: قال له قومه. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص: أَصَلاتُكَ بلفظ الوحدان يعني: أقراءتك، ويقال: أدعاؤك يأمرك. وقرأ الباقون: أصلواتك بلفظ الجماعة، يعني: أكثرة صلواتك تأمرك أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وكان شعيب كثير الصلاة، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا من نقصان الكيل والوزن؟ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ يعني: السفيه الضال استهزاء منهم به.
قالَ شعيب يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يعني: على دين وطاعة وبيان وأتاني رحمة من ربي، وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً يعني: بعثني بالرسالة فهداني لدينه، ووسع عليَّ من رزقه. وقال الزجاج: جواب الشرط هاهنا متروك، والمعنى: إن كنت على بينة من ربي، أتبع الضلال، فترك الجواب لعلم المخاطبين بالمعنى.
ثم قال: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ يعني: لا أنهاكم عن شيء، وأعمل ذلك العمل، من نقصان الكيل والوزن. ويقال: ومعناه، أختار لكم ما أختار لنفسي نصيحة لكم وشفقة عليكم، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ يقول: ما أريد إلا العدل مَا اسْتَطَعْتُ يعني: ما قدرت، يعني: لا أترك جهدي في بيان ما فيه مصلحة لكم.
ثم قال: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ يعني: وما تركي هذه الأشياء ودعوتي لكم إِلَّا بِاللَّهِ أي إلا بتوفيق الله وبأمره، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني: وثقت به وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أقبل إليه وأدعو الله بالطاعة.
ثم قال: وَيا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي يعني: لا يحملنكم بغضي وعداوتي، أن لا تتوبوا إلى ربكم، أَنْ يُصِيبَكُمْ يعني: يقع بكم العذاب، مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ يعني: مثل عذاب قوم نوح بالغرق، أَوْ قَوْمَ هُودٍ بالريح، أَوْ قَوْمَ صالِحٍ بالصيحة، فإن طال عهدكم بهم، فاعتبروا بمن أقرب منكم، وهم قوم لوط، فقال: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ يعني: كان هلاكهم قريباً منكم، ولا يخفى عليكم أمرهم.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١)
قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يعني: وتوبوا إلى الله، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بعباده، وَدُودٌ يعني: يتودد إلى أوليائه بالمغفرة، ويقال: محبّ لأهل طاعته.
قوله تعالى: قالُوا يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ يعني: لا نعقل ما تَدْعُونَا إِلَيْهِ من التوحيد، ومن وفاء الكيل والوزن، يعنون: إنك تدعونا إلى شيء، خلاف ما كنا عليه، وخلاف ما كان عليه آباؤنا، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً يعني: ومع ذلك أنت ضعيف العين عنّا. وقال مقاتل: يعني: ذليلاً لا قوة لك، ولا حيلة. وقال الكلبي: يعني: ضرير البصر. ويقال: إنه ذهب بصره من كثرة بكائه من خشية الله تعالى، ويقال: وحيداً لم يوافقك من عظمائنا أحد.
وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ يعني: لولا عشيرتك لقتلناك، لأنهم كانوا يقتلون رجماً. وقال القتبي: أصل الرجم: الرمي، كقوله تعالى: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: ٥] ثم قد يستعار ويوضع موضع الشتم إذ الشتم رمي، كقوله: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم: ٤٦] يعني:
لأشتمنك. ويوضع موضع الظن، كقوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف: ٢٢] أي ظناً.
والرجم أيضاً: الطرد واللعن، وقيل للشيطان رجيم، لأنه طريد يرجم بالكواكب. وقد يوضع الرجم موضع القتل، لأنهم كانوا يقتلون بالرجم. ولأن ابن آدم قتل أخاه بالحجارة، - فلما كان أول القتل رجماً، سمي القتل رجماً وإن لم يكن القتل بالحجارة «١» -.
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
ثم قالوا: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ يعني: بكريم، ويقال: بعظيم، أي لا خطر لك عندنا لولا حرمة عشيرتك. ويقال: ما قتلك علينا بشديد.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
ثمّ قالَ لهم شعيب عليه السلام: يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ يعني: حرمة قرابتي أعظم عندكم من حرمة الله تعالى؟ ويقال: خوفكم من عقوبة قرابتي أكبر عندكم من خوف الله. ويقال: عشيرتي أعظم عليكم من كتاب الله تعالى، ومن أمره وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا يقول: تركتم أمر الله خلف ظهوركم، وتعظمون أمر رهطي، وتتركون تعظيم الله تعالى، ولا تخافونه؟ وهذا قول الفراء. وقال الزجاج: معناه، اتخذتم أمر الله وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا أي:
نبذتموه وراء ظهوركم- والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمره: قد جعل فلان هذا الأمر بظهره.
وقال الأخفش: وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا يقول: لم تلتفتوا إليه «١» -. إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يعني: عالماً بأعمالكم، من نقصان الكيل والوزن وغيره. والإحاطة: إدراك الشيء بكماله.
ثم قال تعالى: وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يعني: اعملوا في هلاكي وفي أمري، إِنِّي عامِلٌ في أمركم ومكانتكم، والمكانة والمكان بمعنى واحد.
ثم قال: سَوْفَ تَعْلَمُونَ، وهذا وعيد لهم، ستعلمون من هو كاذب، ويقال: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يعني: يهلكه ويهينه، وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ يعني: ستعلمون من هو كاذب.
ويقال معناه: مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، ويخزي أمره، من هو كاذب على الله بأن معه شريكاً، وَارْتَقِبُوا يعني: انتظروا بي العذاب إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ يعني: منتظر بكم العذاب في الدنيا.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يعني: عذابنا، وذلك: أنه أصابهم حر شديد، فخرجوا إلى غيضة لهم، فدخلوا فيها، فظهرت لهم سحابة كهيئة الظلة، فأحدقت بالأشجار، وأشعلت فيها النار، وصاح فيهم جبريل صيحة، فماتوا كلهم، كما قال في آية أخرى: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [الشعراء: ١٨٩] وذلك قوله: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يعني: عذابنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ يعني: صيحة جبريل فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ يعني: صاروا في مواضعهم ميتين لا يتحركون.
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها يعني: كأن لم يعمروا ولم يكونوا فيها، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ يعني: بعدوا من رحمة الله، كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ من رحمته. وروى أبو صالح، عن ابن عباس، قال: «لم تعذب أمتان بعذاب واحد، إلا قوم شعيب بن ذويب وصالح بن كاثوا، صاح بهم جبريل فأهلكهم.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا التسع، وَسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني: حجة بيّنة، إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يعني: قومه، فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ يعني: أطاعوا قول فرعون وقومه.
وطاعتهم حين قال: مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرى [غافر: ٢٩] فأطاعوه في ذلك حين قال لهم: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨]، فأطاعوه وتركوا أمر موسى عليه السلام. قال الله تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يعني: ما قول فرعون بصواب.
قوله تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ يقول: يتقدم أمام قومه يوم القيامة وهم خلفه، كما كانوا يتبعونه في الدنيا، ويقودهم إلي النار، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ يقول: أدخلهم النار، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ يقول: بئس المدخل المدخول، يعني: بئس المصير الذي صاروا إليه.
قوله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً يعني: جعل عليهم اللعنة في الدنيا، وهو الغرق، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لعنة أُخرى وهي النار، بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ يعني: اللعنة على أثر اللعنة، ومعناه: بئس الغرق وزفرة النار، ترادفت عليهم اللعنتان: لعنة الدنيا الغرق، ولعنة الآخرة النار.
وقال القتبي: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ يعني: بئس العطاء المعطى، يقال: رفدته أي: أعطيته، وقال الزجاج: كل شيء جعلته عوناً لشيء، وأسندت به شيئاً فقد رفدته. وقال قتادة في قوله:
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يعني يمضي بين أيديهم، حتى يهجم بهم على النار. وفي قوله: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ قال: وزيدوا بها اللعنة في الآخرة، على اللعنة في الدنيا.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)
قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى يعني: هذا الذي وصفت لك وقصصت عليك من أخبار الأمم، والقرون الماضية، نَقُصُّهُ عَلَيْكَ يعني: ينزل جبريل، ليقرأ عليك ليكون فيها دليل نبوتك، مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ يعني: من تلك القرى قائم، ومنها ما هو حصيد. والقائم،
يعني: الظاهر ينظر إليه الناظر، والحصيد: يعني، خرب وهلك أصحابه. ويقال: القائم على بنيانه، والحصيد ما خرب. وقال قتادة: مِنْها قائِمٌ يعني: خاوية على عروشها وَحَصِيدٌ، يعني: مستأصلة. وقال الضحاك: مِنْها قائِمٌ يعني: مدينة عاد هلكوا، وبقيت مساكنهم، وَحَصِيدٌ يعني: مدائن قوم لوط، حصدت: أي قلعت من الأرض السفلى.
ثم قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ يعني: لم نعذبهم بغير ذنب، وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني: أضروا بأنفسهم حيث أكلوا رزق الله، وعبدوا غيره، وكذبوا رسله، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ يعني: ما نفعتهم عبادة آلهتهم، الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنما سماهم آلهة على وجه المجاز، يعني: آلهتهم بزعمهم، ولم يكونوا آلِهَة في الحقيقة. ومعناه: أصنامهم لا تقدر أن تمنعهم من عذاب الله من شيء، لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ يعني: حين جاء عذاب ربك، وقال القتبي: إذا رأيت لِلَمَّا جواباً فهو بمعنى حين، كقوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٥٥] يعني: حين أغضبونا، وكقوله: لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ يعني: حين جاء أمر ربك، يعني: عذاب ربك، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ يعني: غير تخسير، كقوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] أي خسرت.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٧]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦)
خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ يعني: هكذا عقوبة ربك، إِذا أَخَذَ الْقُرى يعني: إِذا عاقب القرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ يعني: أهلها كفار جاحدون بوحدانية الله تعالى. قرأ عاصم الجحدري: إِذا أَخَذَ، بألف واحدة، لأن إذ تستعمل للماضي، وإذا تستعمل للمستقبل، وهذه حكاية عن الماضي، يعني: حين أخذ ربك القرى. وهي قراءة شاذة، وقراءة العامة: إِذا أَخَذَ بألفين، ومعناه: هكذا أخذ ربك، متى أخذ القرى.
ثم قال: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ يعني: عقوبته مؤلمة شديدة. وروى أبو موسى الأشعري، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «إن الله تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» «١».
(١) حديث أبي موسى: أخرجه البخاري (٤٦٨٦) ومسلم (٢٥٨٣) والترمذي (٣١١٠) وابن ماجة (٤٠١٨) والبيهقي: ٦/ ٩٦ والبغوي (٤١٦٢).
170
ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الآية.
ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: في الذي أخبرتك عن الأمم الخالية لعبرة، لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ويقال: في عذابهم موعظة وعبرة بالغة لمن آمن بالله واليوم الآخر.
ويقال: فيه عبرة لمن أيقن بالنار، وأقرّ بالبعث ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ يعني: مجموع فيه الناس، يعني: يجمع فيه الأولون والآخرون وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يشهده أهل السموات، وأهل الأرض.
قوله تعالى: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يعني: إلى حين معلوم. ويقال: لانقضاء أيام الدنيا. ومعناه: أنا قادر على إقامتها الآن، ولكن أؤخرها إلى وقت معدود، يَوْمَ يَأْتِ يعني:
إذا جاء يوم القيامة، ويقال: يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم، لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ يعني: لا تتكلم نفس بالشفاعة، إلا بأمره، ويقال: معناه: لا يجترئ أحد أن يتكلم من هيبته وسلطانه بالاحتجاج وإقامة العذر، إلا بإذنه.
قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، يَوْمَ يَأْتِ بغير ياء في الوصل والقطع، وقرأ الباقون:
بالياء عند الوصل. قال أبو عبيدة: القراءة عندنا على حذف الياء في الوصل والوقف. قال:
ورأيت في مصحف الإمام عثمان: يَوْمَ يَأْتِ بغير ياء، وهي لغة هذيل. قال: وروي عن عثمان، أنه عرض عليه المصحف، فوجد فيه حروفاً من اللحن، فقال: لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل، لم توجد فيه هذه الحروف، فكأنه قدم هذيلاً في الفصاحة.
ثم قال تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ يعني: يوم القيامة من الناس شَقِيٌّ يعني: يعذب في النار، وَسَعِيدٌ، يعني: مكرم في الجنة.
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا يعني: كتب عليهم الشقاوة، فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ قال الربيع بن أنس: الزَّفير في الحلق، والشهيق في الصدر، وروي عن ابن عباس، أنه قال: «زفير كزفير الحمار، وهو أول ما ينهق الحمار، والشهيق وهو أول ما يفرغ من نهيقه في آخره». ويقال: زفير وشهيق، معناه: أنيناً وصراخاً، خالِدِينَ فِيها يعني: مقيمين دائمين في النار ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ يعني: سماء الجنة وأرضها إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ يعني: إلا من أخرجهم منها وهم الموحدون.
وقال الكلبي، ومقاتل: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ يعني: كما تدوم السموات والأرض لأهل الدنيا، فكذلك يدوم الأشقياء في النار إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ أي:
يخرجون من النار. وقال الضحاك: يعني: سماء القيامة وأرضها، وهما باقيتان. ويقال: العرب كانت من عادتهم، أنهم إذا ذكروا الأبد يقولون: ما دامت السموات والأرض، فذكر على عادتهم على ما يتعاهدون ويتفاهمون، ومعناه: إنهم خالدون فيها أبداً. ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ إن شاء أدخل النار خالداً، وإن شاء أخرجه إن كان موحداً، وأدخله الجنة.
171

[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص:
سُعِدُوا بضم السين، وقرأ الباقون بنصب السين. فمن قرأ بالنصب، فمعناه: الذين استوجبوا السعادة في الجنة، ومن قرأ بالضم، فمعناه: وأما الذين سُعِدُوا، أي قدر عليهم السعادة، وخلقوا للسعادة فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ أن يحبس في المحشر، وعلى الصراط. ويقال: الذين شقوا يعني الكفار، والذين سعدوا المؤمنين، ومعناه: الكفار في النار إلا ما شاء الله إن يسلموا، والمؤمنون في الجنة إلا ما شاء الله أن يرجعوا عن الإسلام. ويقال: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ يعني: قد شاء ربك.
ثم قال: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ يعني: رزقاً غير منقطع عنهم، ولا ينقص من ثمارهم، ولا من نعمتهم.
ثم قال تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ يعني: في شك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ إن الله تعالى يعاقبهم بذلك، مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ يعني: لا يرغبون في التوحيد، كما لم يرغب آباؤهم من قبل الذين هلكوا، وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ يعني: نوف لهم ولآبائهم حظهم، من العذاب غير منقوص عنهم، وهو قول مقاتل. وقال سعيد بن جبير: معنى نصيبهم من الكتاب، الذي كتب في اللوح المحفوظ، من السعادة والشقاوة. وقال مجاهد:
وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ يعني: ما قدر لهم من خير أو شر.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٠ الى ١١٢]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: أعطينا موسى التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ يعني: آمن به بعضهم وكفر به بعضهم، وهذا تعزية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى يصبر على تكذيبهم كما صبر موسى على تكذيبهم.
ثم قال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني: وجب قول رَّبّكَ بتأخير العذاب عن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني: لجاءهم العذاب، ولفرغ من هلاكهم، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يعني: من القرآن، مُرِيبٍ يعني: ظاهر الشك.
قوله تعالى: وَإِنَّ كُلًّا قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر: وَإِنَّ كُلًّا بجزم
النون، وقرأ الباقون بالنصب والتشديد. فمن قرأ بالجزم يكون، معناه: وما كل إلا ليوفينهم، كقوله: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ [يس: ٣٢] يعني: ما كلٌ جميع. ومن قرأ بالتشديد، يكون إنَّ لتأكيد الكلام. وقرأ حمزة وابن عامر وعاصم في رواية حفص: لَّمّاً بتشديد الميم، وقرأ الباقون بالتخفيف، فمن قرأ بالتخفيف، يكون لمّا لصلة الكلام، ومعناه: وإنَّ كلاً ليوفينهم، فتكون ما صلة كقولهم: عَمَّا قَلِيلٍ، يعني: عن قليل. ومن قرأ بالتشديد: يكون بمعنى إلاَّ، يعني: وإنَّ كُلاً إلا ليوفينهم، كقوله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: ٤] فمن قرأ بالتشديد كتلك الآية، يكون معناه: إلا عليها حافظ. ومعنى الآية: إن كلا الفريقين لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ ثواب أَعْمالَهُمْ بالخير خيراً، وبالشر شراً. إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من الخير والشر.
قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ يعني: استقم على التوحيد والطاعة كما أمرت وَمَنْ تابَ مَعَكَ أيضاً يستقيموا على التوحيد وَلا تَطْغَوْا أي: لا تعصوا الله، في التوحيد وطاعته.
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الخير والشرّ بَصِيرٌ. قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضل، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا أبو حفص، عن سعيد، عن قتادة في قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي: امضِ على ما أمرت قال: إن الله تعالى أمر بالاستقامة على التوحيد، وأن لا يطغى في نعمته. وقال القتبي: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ يعني:
امضِ على ما أمرت به، إن الله أمر بأن يمضى ما أمر به.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٣ الى ١١٥]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
قوله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ قال قتادة: ولا ترجعوا إلى الشرك فتمسكم النار، يعني: تصيبكم النار، وقال أبو العالية: ولا ترضوا بأعمال أهل البدع.
والركون: هو الرضا. ويقال: ولا تميلوا إلى دين الذين كفروا. ويقال: ولا ترضوا قول الذين ظلموا. وروى أبو هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلِ» «١». وعن عبد الله بن مسعود، أنه قال: «اعتبروا الناس بأخدانهم».
ثم قال تعالى: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يعني: حين تمسكم النار، لم يكن لكم من عذاب الله مِنْ أَوْلِياءَ يعني: من أقرباء ينفعونكم، ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ يعني: لا تمنعون من العذاب.
(١) حديث أبي هريرة: أخرجه الترمذي: (٢٣٧٨) بلفظ) «الرجل» فقال: حديث حسن غريب. وأبو داود (٤٨٣٣) وصححه الحاكم ٤/ ١٧٠ ووافقه الذهبي.
قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ يعني: واستقم كما أمرت، وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي: أتمّ الصلاة، طَرَفَيِ النَّهارِ أي: صلاة الفجر والظهر والعصر، وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يعني: دخولاً من الليل ساعة بعد ساعة، واحدها: زلفة، وهي صلاة المغرب، والعشاء، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يعني: الصلوات الخمس يكفرن السيئات فيما دون الكبائر، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ يعني: الصلوات الخمس توبة للتائبين.
قال الكلبي: نزلت الآية في عمرو بن غزية الأنصاري، ويقال: نزلت في شأن أبي اليسر، كان يبيع التمر، فجاءته امرأة تشتري تمراً، فأدخلها في الحانوت، وفعل بها كل شيء إلا الجماع، ثم ندم فأخبر بذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. ويقال: نزلت في شأن أبي مقبل التمار. وروي عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إني لقيت امرأة في البستان فضممتها إليَّ وقبلتها وفعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، فسكت عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرجل، وقرأها عليه، فقال عمر: «أله خاصة أم للناس كافة؟» قال: «بل للناس كافة» «١».
وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد قال: عن أبي عثمان، قال: كنت مع سلمان، فأخذ غصناً من شجرة يابسة فحته، ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَنْ تَوَضّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتّ هذا الوَرَقُ» «٢» ثم قرأ هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ إلى آخرها.
ثم قال تعالى: وَاصْبِرْ نفسك يا محمد على التوحيد، ولا تركن إلى الظلمة، وَاصْبِرْ على مَا أَصَابَكَ ويقال: وَاصْبِرْ أي أقم على هذه الصلوات الخمس، حتى لا تترك منها شيئاً، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يعني: ثواب الموحِّدين المخلصين. ويقال:
المقيمين على الصّلوات.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
(١) حديث ابن مسعود: أخرجه البخاري (٥٢٦) و (٤٦٨٧) وأخرجه مسلم (٢٧٦٣) (٤٠) (٤١) (٤٢) والترمذي (٣١١٢) وأبو داود (٤٤٦٨) والبيهقي: ٨/ ٨/ ٢٤١ وابن خزيمة (٣١٢) وابن ماجة (٤٢٥٤).
(٢) حديث سلمان. عزاه السيوطي ٤/ ٤٨٤ إلى الطيالسي وأحمد والدارمي وابن جرير والطبراني والبغوي في معجمه وابن مردويه.
قوله تعالى: فَلَوْلا كانَ يعني: فهلا كان مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يعني: ذوو بقية من آمن. وقال مقاتل: يعني: فلم يكن من القرون من قبلكم أُولُوا بَقِيَّةٍ يعني: ذوو بقية من دين، يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وهم الذين ينهون عن الفساد في الأرض. وقال القتبي: فهلا كان أولو بقية من دين يقال: قوم لهم بقية، إذا كان فيهم خير. قال القتبي: إذا رأيت «فلولا» بغير جواب، يريد به هلا، كقوله: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا [الأنعام: ٤٣] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ [يونس: ٩٨] وقال بعض المفسرين: جعل «لولا» هلا هاهنا. وفي سورة يونس: بمعنى لم. وقال الزجاج: أُولُوا بَقِيَّةٍ معناه: أولو تمييز، ويجوز أولو طاعة وفضل. ومعنى بقية: إذا قلت في فلان بقية، معناه: فيه فضل، فيما يمدح به. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ استثناء منقطع، والمعنى: لكن قليلاً ممن أنجينا ممن ينهي عن الفساد. وروى سيف بن سليمان المكي، بإسناده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله لا يُعَذِّبُ العَامَّةَ بِعَمَلِ الخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا المُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهمْ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أنْ يُنْكِرُوهُ، فَلاَ يُنْكِرُونَهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَذَّبَ الخَاصَّةَ وَالعَامَّةَ» «١». ثم قال: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يقول: اشتغل الذين كفروا ما أُتْرِفُوا فِيهِ يقول: ما أنعموا وأعطوا من المال. ويقال: ارتكنوا على ما خولوا في الدنيا، واشتغلوا عما سواها من أمر الآخرة ويقال: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: السفلة مَا أُتْرِفُوا فِيهِ يعني: من أترفوا، وهم القادة والرؤساء. وقال الفراء: اتبعوا في دنياهم ما عودوا من النعيم، وإيثار الدنيا على الآخرة. وَكانُوا مُجْرِمِينَ يعني: مشركين.
قوله: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ، يقول: لم يكن ربك ليعذب أهل قرية، بِظُلْمٍ يعني: بغير جرم، وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ يعني: موحِّدين مطيعين. وروي عن ابن عباس أنه قال: «ما أهلك الله قوماً إلا بعملهم، ولم يهلكهم بالشرك»، يعني: لم يهلكهم بشركهم وهم مصلحون، لا يظلم بعضهم بعضاً، لأن مكافأة الشرك النار، لا دونها. وإنما أهلكهم الله بمعاصيهم زيادة على شركهم، مثل قوم صالح بعقر الناقة، وقوم لوط بالأفعال الخبيثة، وقوم شعيب بنقصان الكيل والوزن، وقوم فرعون بإيذائهم موسى وبني إسرائيل. ويقال: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ يعني: وفيهم من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. وقال: لم يكن ليهلكهم وهم يتعاطون الحق فيما بينهم، وإن كانوا مجرمين.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٨ الى ١٢٠]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)
(١) حديث عدي الكندي: أخرجه أحمد ٤/ ١٩٢.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً يقول: لجمع الناس على ملة واحدة، وأكرمهم بدين الإسلام كلهم، ولكن علم أنهم ليسوا بأهل لذلك، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ يعني: أهل الباطل في الدين إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يعني: عصم ربك من الاختلاف.
وقال عطاء: ولا يزالون مختلفين، يعني: اليهود والنصارى والمجوس، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بالحنيفية وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ يعني: الحنيفية خلقهم للرحمة. وقال الحسن: لِذلِكَ خَلَقَهُمْ يقول: للاختلاف، هؤلاء لجنته، وهؤلاء لناره.
وقال ابن عباس: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ «يعني: فريقين، فريقاً يرحم ولا يختلف»، وفريقاً لا يرحم ويختلف. ويقال: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ يعني: للأمر والنهي، بدليل قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] يعني: للأمر والنهي، وقال الضحاك: وللرحمة خلقهم. وقال مقاتل: وللرحمة خلقهم، وهو الإسلام. وروى حماد بن سلمة، عن الكلبي قال: خلقهم أهل الرحمة، أن لا يختلفوا. وقال قتادة: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ للرحمة والعبادة، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ يقول: لا يزال أهل الأديان مختلفين في دين الإسلام.
ثم استثنى بعضاً. وقال: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وهم المؤمنون أهل الحق، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ يقول: سبق ووجب قول ربك للمختلفين، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فهذا لام القسم، فكأنه أقسم أن يملأ جهنم من كفار الجنة والناس أجمعين.
قوله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ يعني: ننزل عليك من أخبار الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ يقول: ما نشدد به قلبك ونحفظه، ونعلم أن الذي فعل بك قد فعل بالأنبياء قبلك، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ قال قتادة: أي في الدنيا. وقال ابن عباس: «يعني في هذه السورة». وروى سعيد بن عامر، عن عوف، عن أبي رجاء، قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة، فقرأ سورة هود وفسرها، فلما أتى على هذه الآية: وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ «قال: في هذه السورة»، وقال سعيد بن جبير وأبو العالية ومجاهد مثله. وهكذا قال مقاتل: عن الفراء. ثم قال: وَمَوْعِظَةٌ يعني: تأدبة لهذه الأمة، وَذِكْرى يعني: عظة وعبرة، لِلْمُؤْمِنِينَ يعني:
للمصدقين بتوحيد الله تعالى.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢١ الى ١٢٣]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
قال الله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ يعني: لا يصدقون بتوحيد الله تعالى، اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يعني: على منازلكم، على إهلاكي، إِنَّا عامِلُونَ في أمركم. يقال:
وَانْتَظِرُوا بهلاكي، إِنَّا مُنْتَظِرُونَ بكم العذاب والهلاك، فهذا تهديد لهم.
ثم قال تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: غيب نزول العذاب، متى ينزل
176
بكم، ويقال: سر أهل السموات وسر أهل الأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ يعني عواقب الأمور كلها ترجع إليه يوم القيامة فَاعْبُدْهُ يقول: أطعه واستقم على التوحيد، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ يقول: فوض إليه جميع أمورك، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يعني: بما يفعل الكفار. قرأ نافع وعاصم في رواية حفص: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ بضم الياء ونصب الجيم، على معنى فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون: بنصب الياء وكسر الجيم، فيكون الفعل للأمر. وقرأ نافع وعاصم، في رواية حفص: عَمَّا تَعْمَلُونَ بالتاء على وجه المخاطبة، وقرأ الباقون بالياء على وجه المغايبة، وروي عن كعب الأحبار، أنه قال: خاتمة السورة هذه الآية وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السورة، وصلى الله على سيدنا محمد.
177
Icon